الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي

المعافى بن زكريا

مقدمة

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. مُقَدّمَة وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب الْحَمد لله الَّذِي دلّ على مَعْرفَته بإتقان صَنعته، وبديع لطائف حكمته، وَبِمَا أودعهُ نفوس المميزين من أَعْلَام ربوبيته، وَاسْتحق على كل مُكَلّف الخنوع لعظمته، والخشوع لعزته، وَالشُّكْر والإشادة بِمَا أَسْبغ من نعْمَته، وَنشر من رَحمته، وَجعل قُلُوب أوليائه تسرح فِي ميادين محَاسِن مَا ابتدعه، وعقولهم ترتاح لما من عَلَيْهِم من استنباط الْمعرفَة بِمَا اخترعه، فأغناهم بالتنعم بِمَا بسط لَهُم من الْمُبَاحَات، عَمَّا زجرهم عَنهُ من الْمَحْظُورَات، فَصَارَ مَا تُدْرِكهُ الْعُقُول من لطيف مَا أنشأه، وشريف الْغَرَض فِيمَا ابتدأه، وغريب أَفعاله فِي تَدْبِير عباده، وتصريفهم، وَتَقْدِير منافعهم ومصالحهم، أقواتاً لَهَا تربى على أقوات أجسادها الَّتِي هِيَ أوعية تشْتَمل عَلَيْهَا، وَأشْهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وليّ النعم كلهَا دون من سواهُ، وَأَنه لَا فلاح إِلَّا لمن هداه، وَلَا صَلَاح إِلَّا لمن عصمه من إتباع هَوَاهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده الَّذِي ارْتَضَاهُ، وَنبيه الَّذِي اخْتَارَهُ واجتباه، وَرَسُوله الَّذِي ائتمنه واصطفاه، وَرَفعه وَأَعلاهُ، وَخَصه بِخَتْم النُّبُوَّة وحباه، وأبانه بِأَعْلَى منَازِل الْفضل على كل آدَمِيّ عداهُ، ونسأله أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ وعَلى آله وَيسلم أزكى تسلم وَصَلَاة، ويكرمه أتم تكريم وأنباه، ويجعلنا من الآوين إِلَى ظله وذراه، والداعين إِلَى نوره وهداه، ويعصمنا من الْخُرُوج عَن طَاعَته، والولوج فِي مَعْصِيَته، ويوفقنا لإيثار عِبَادَته، ومجانبة عصيانه ومخالفته، وَهُوَ لي الإنعام بذلك، والتيسير لَهُ، والمعونة عَلَيْهِ من رَحمته. أما بعد، فإنني مُنْذُ مُدَّة مَضَت، وسنةَ خلت، فَكرت فِي أَشْيَاء من عجائب خلق الله وَحكمه، وأياديه ونعمه، ومثلاته ونقمه، وَقد اكتنفتني هموم وأحزان، ولوعات وأشجان، وفنون شَتَّى من حوادث الزَّمَان، وَمَا قد فَشَا فِي النَّاس من التظالم التحاسد، والتقاطع والتباعد، وَأَن مَا هُوَ أولى بهم من الْأنس للمجانسة، قد فارقوه إِلَى الاستيحاش للمنافسة، وحصلت على الِاسْتِئْنَاس بالوحدة وَالْخلْوَة، ثمَّ تطلعت إِلَى جليس طَمَعا فِي أنس وسلوة، فأعوزني ذُو لب عَاقل، وَاتفقَ لي كل غبي جَاهِل، فلاح لي أَن أنشئ كتابا أضمنه أنواعاً من الْجد الَّذِي يُسْتَفَاد ويعتمد عَلَيْهِ، وَمن الْهزْل فِي أَثْنَائِهِ مَا يسر استماعه ويستراح إِلَيْهِ، فَإِن اخْتِلَاف الْأَنْوَاع يسهل النّظر فِيهَا، وينشط الْوُقُوف عَلَيْهَا، ويوفر الِاسْتِمْتَاع بهَا، وَأَن أضمنه علوماً غزيرة وآداباً كَثِيرَة، وأجعله مجَالِس موزعة على الْأَيَّام والليالي، وَلم اشْترط فِيهَا مبلغا من الْعدَد محصوراً وَلَا قدرا من الْمجَالِس مَحْظُورًا، ثمَّ إِن طوارق الزَّمَان وموانعه، وأحداثه وفجائعه، وعوائقه وقواطعه، وأهواله وفظائعه، حَالَتْ بَين وَبَين مَا آثَرته، وَنَفْسِي على هَذِه مُتَعَلقَة بِهِ، ومؤثرة لَهُ ومنازعة إِلَيْهِ، إِلَى حَيْثُ انتهينا، ثمَّ إِنَّنِي حملت نَفسِي فِي

هَذَا الْوَقْت على الشُّرُوع فِيهِ، الِاشْتِغَال بِهِ، وَسَهل الْأَمر عَليّ فِيهِ أَن بعض أَصْحَابنَا يَكْتُبهُ عني إملاء فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت. وَقد صنف فِي نَحْو هَذَا الْكتاب جمَاعَة من أهل الْعلم وَالْأَدب كتبا على أنحاء مُخْتَلفَة، فَمنهمْ من جعل جملَة كِتَابه جَامِعَة لكتب مكتتبة، وَمِنْهُم من جعله أبواباً مبوبة، وأفرد أبوابه بفصول مُمَيزَة، وَمَعَان خَاصَّة غير ممتزجة، وسمى بعض هَؤُلَاءِ مَا أَلفه الْجَوَاهِر وَبَعْضهمْ زَاد الْمُسَافِر وَبَعْضهمْ الزهرة وَبَعْضهمْ أنس الْوحدَة، فِي أشباه لهَذِهِ السمات عدَّة، وَعمل أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْوِيّ كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْكَامِل، وَضَمنَهُ أَخْبَارًا وقصصاً لَا إِسْنَاد لكثير مِنْهَا، وأودعه من اشتقاق اللُّغَة وَشَرحهَا وَبَيَان أسرارها وفقهها مَا يَأْتِي مثله بِهِ لسعة علمه وَقُوَّة فهمه، ولطيف فكرته، وصفاء قريحته، وَمن جلي النَّحْو وَالْإِعْرَاب وغامضها مَا يقل وجود من يسد فِيهِ مسده، إِلَّا أَن كِتَابه هَذَا مقصر عَمَّا وسمه بِهِ، وَاخْتَارَهُ من تَرْجَمته، وَغير لَائِق بِهِ مَا آثره من تَسْمِيَته، فحطه بِهَذَا عَن منزلَة - لَوْلَا مَا صنعه - كَانَت حَاصِلَة لَهُ، فسبحان الله مَا أبين انْتِفَاء هَذَا الْكتاب عَن نسبه، وَأَشد منافاته للقبه! وَأَنْشَأَ الصولي كتابا سَمَّاهَا الْأَنْوَاع مبوباً أبواباً شَتَّى غير مستوفاة، وأتى فِيهِ بأَشْيَاء مستحسنة على مَا ضم إِلَيْهِ من أُمُور مستهجنة، وصنف أَيْضا كتابا كَأبي قماش سَمَّاهُ النَّوَادِر، وهجاه بعض الشُّعَرَاء بِمَا كرهت حكايته، وَإِن كَانَ حِين وقف عَلَيْهِ فِيمَا بَلغنِي اسْتغْرب ضحكاً، غير أَن الْجَمِيل أجمل، والتسلم من أَعْرَاض النَّاس أمثل، وصنف قوما كتبا فِي هَذَا الْبَاب تشْتَمل على فقر من الْآدَاب والفوائد منثورة غير مبوبة، ومخلوطة غير مُقَيّدَة، بفصول متميزة وَلَا أَبْوَاب متحيزة. وَقد سميت كتابي الجليس الصَّالح الْكَافِي، والأنيس الناصح الشافي وأودعته كثيرا من فنون الْعُلُوم والآداب، على غير حصر بفصول وأبواب، وضمنته كثيرا من محَاسِن الْكَلَام وجواهره، وملحه ونوادره، وَذكرت فِيهِ أصولاً من الْعلم أتبعتها شرح مَا يتشعب مِنْهَا، ويتصل بهَا بِحَسب مَا يحضر فِي الْحَال، مِمَّا يُؤمن مَعَه الملال، وَمن وقف على مَا أتيت بِهِ من هَذَا، علم أَن كتَابنَا أَحَق بِأَن يُوصف بالكمال والاستيفاء، والتمام وَالِاسْتِقْصَاء، وَصدق وسمه بالجليس والأنيس، فَإِن الْكتاب إِذا حوى مَا وصفناه من الْحِكْمَة وأنواع الْفَائِدَة، كَانَ لمقتنيه والناظر فِيهِ بِمَنْزِلَة جليس كَامِل وأنيس فَاضل، وَصَاحب أَمِين عَاقل، وَقد قيل فِي الْكتاب مَا مَعْنَاهُ أَنه حَاضر نَفعه، مَأْمُون ضره، ينشط بنشاطك فينبسط إِلَيْك، ويمل بملالك فينفض عَنْك، إِن أدنيته دنا، وَإِن أنأيته نأى، لَا يبغيك شرا، وَلَا يفشي عَلَيْك سرا، وَلَا ينم عَلَيْك، وَلَا يسْعَى بنميمة إِلَيْك، وَلذَلِك قَالَ بَعضهم: نعم الصاحب والجليس كتاب ... تهلو بِهِ إِن خانك الْأَصْحَاب لَا مفشياً عِنْد القطيعة سره ... وتنال مِنْهُ حِكْمَة وصواب

وَقَالَ آخر: لنا جلساء مَا نمل حَدِيثهمْ ... ألباء مأمونون غيباً ومشهدا يفيدوننا من علمهمْ طرف حِكْمَة ... وَلَا نتقي مِنْهُم لِسَانا وَلَا يدا فِي أَبْيَات. وَذكر عَن عبد الله بن الْمُبَارك أَنه سُئِلَ: أما تستوحش من مقامك مُنْفَردا بهيت؟ فَقَالَ: كَيفَ يستوحش من يُجَالس النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه رضوَان الله عَلَيْهِم، وَقد كَانَ بعض من كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا صيت ومكانة، عَاتَبَنِي على ملازمتي الْمنزل، وإغبابي زيارته، وإقلالي مَا عودته من الْإِلْمَام بِهِ وغشيان حَضرته، وَقَالَ لي: أما تستوحش الْوحدَة وَنَحْو هَذَا من الْمقَالة، فَقلت لَهُ: أَنا فِي منزلي إِذا خلوت من جليس يقْصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، فِي أحسن أنس وأجمله، وَأَعلاهُ وأنبله، لأنني أنظر فِي آثَار الْمَلَائِكَة والأنبياء، وَالْأَئِمَّة وَالْعُلَمَاء، وخواص الْأَعْلَام الْحُكَمَاء، وَإِلَى غَيرهم من الْخُلَفَاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، وَالْكتاب والبلغاء، والرجاز وَالشعرَاء، وكأنني مجَالِس لَهُم، ومستأنس بهم، وَغير ناء عَن محاضرتهم لوقوفي على أنبائهم، ونظري فِيمَا انْتهى إِلَيّ من حكمهم وآرائهم. وَقد تجشمت إملاء هَذَا الْكتاب على مَا خلفته ورائي من طول السنين، حصلت فِيهِ من عشر التسعين، مَعَ ترادف الهموم وتكاثف الغموم، ومشاهدة مَا أَزَال مرتمضاً بِهِ، وممتعضاً مِنْهُ لفساد الزَّمَان وانتكاسه، وَعَجِيب تقلبه وانعكاسه، واختلاطه وارتكاسه، وَوَضعه الْأَعْلَام الرفعاء، وَرَفعه الطغام الوضعاء، فقد أحل الأراذل مَحل الأفاضل، وَأعْطى السَّفِيه الأخرق حَظّ النبيه الْعَاقِل، وَصرف نصيب الْعَالم إِلَى الْجَاهِل، وصير النَّاقِص مَكَان الوافر الْكَامِل، وَالرَّاجِح الْفَاضِل، وَقدم على الْعلم المبرز الغفل الخامل، وَلَقَد قلت فِي بعض مَا دفعت إِلَيْهِ، وامتحنت بِهِ، حِين منعت النّصْف، وحملت على الْخَسْف، حَتَّى انقدت للعنف، وأصبحت عِنْد الْغَلَبَة والعسف: علام أعوم فِي الشّبَه ... وأمري غير مشتبه أرى الْأَيَّام مُعْتَبرا ... على مَا بِي من الوله بلحظ غير ذِي سنة ... وحظ غير منتبه أروح وأغتدي غبناً ... أَكثر من أقل بِهِ وَقلت فِي نَحْو هَذَا الْمَعْنى: أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشَّرَاب من السراب أُرِيد من الزَّمَان النذل بذلاَ ... وأرياً من جنى سلع وصاب أرجي أَن أُلَاقِي لاشتياقي ... سراة النَّاس فِي زمن الْكلاب فِي كثير من نَحْو هَذَا من النثر والقريض، وذم الزَّمَان السوء بِالصَّرِيحِ والتعريض،

وَأَرْجُو أَن يُغير الله مَا أَصْبَحْنَا مِنْهُ ممتعضين، وأمسينا مَعَه مرتمضين، ويشفي صُدُور قوم مُؤمنين، وَيذْهب غيظ قُلُوب الأماثل من الْعلمَاء المبرزين، فقد بلغ مِنْهُم مَا يرَوْنَ من تَقْدِيم الأراذل الضلال، والأداني الْجُهَّال، حَتَّى صدرُوا فِي مجَالِس علم الدَّين، وَقدمُوا فِي محافل وُلَاة أُمُور الْمُسلمين، وصيروا قُضَاة وحكاماً ورؤساء وأعلاماً، دون ذَوي الأقدار، وأولي الشّرف والأخطار، وَكثير مِمَّن يشار إِلَيْهِم مِنْهُم لَا يفهم من كتاب الله آيَة، وَإِن تعَاطِي تلاوتها لحن فِيهَا، وأتى بِخِلَاف مَا أنزل الله مِنْهَا، وَلَا كتبُوا سنة من سنَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَلَا دورها، وَإِن تكلفوا ذكرهَا أحالوها، وآتو بهَا على غير وَجههَا، وَلَا عرفُوا شَيْئا من أَبْوَاب الْعَرَبيَّة وتصريفها، وَلَا لَهُم حَظّ من الفلسفة وأجزائها، وَمَعَ هَذِه فقد اتّفق لبَعْضهِم من فريق قد شدا من الْعلم طرفا، ونال مِنْهُ حظاً، عدد يعظمونه ويغلون فِي تَعْظِيمه وتقديمه على أنفسهم، وَإِن كَانَ أَسْوَأ حَالا وأخفض عقلا مِنْهُم، كَمَا عبد الْأَصْنَام من هُوَ أَعلَى منزلَة مِنْهَا بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَة، وَالْعلم والمعرفة، والبطش وَالْقُوَّة، وَالتَّصَرُّف وَالْحِيلَة، وأقدم هَؤُلَاءِ الأغمار على الشَّهَادَة بالزور لمن وَصفنَا جَهله وسقوطه، بإضافتهم إِلَيْهِ من الْعلم بِمَا هُوَ أَجْهَل النَّاس بِهِ، وأبعدهم من مَعْرفَته لميلهم إِلَى بعض ضلالاته، وأنسهم بِكَثِير من خساراته، وَإِن كَانَت بِخِلَاف مَا يعذرُونَ فِيهَا من مُوَافَقَته، فقد صَارُوا سخرياً مسخوراً مِنْهُم، وسخريا مسخرين لتقليد من وَصفنَا صفته، وَاسْتمرّ هَذَا الْفَرِيق الْمَغْرُور على إتباع حزب الشَّيْطَان الَّذين اغتروا بهم، وبذلوا المناصرة لَهُم وممالأتهم ومضافرتهم وإعزازهم، ومظاهرتهم وتأييدهم ومؤازرتهم، واستفزهم مَا يزخرفونه لَهُم من كَلَامهم، وَإِن كَانَ مسترذلاً، ومخطأً ملحناً، عِنْد من أَعْلَاهُ الله من أفاضل الْعلمَاء عَلَيْهِم، وأبانهم بِالْعلمِ والتفقه فِي الدَّين مِنْهُم، إِذْ أَكثر مَا يأْتونَ بِهِ من الهجر الَّذِي يُسَمِّيه قوم الهاذور، وبمنزلة من قَالَ فِيهِ بعض الشُّعَرَاء: هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذُو لب نثر واستنزلهم من عبارتهم مَا هُوَ من نوع هجر باعة القميحة السفوفيين، وتنميق هَذِه أَصْحَاب الْفَاكِهَة والرياحين، وهذيان أهل الْحِكَايَة والمخيلين، فَلَمَّا وَصفنَا جنحنا إِلَى الصَّبْر، واستصحبنا، الخمول رَجَاء إنعام الله بالإعانة والنصر، وَذكرت - فِي وقتي هَذَا عِنْد إثباتي مَا أثْبته من حَال ذَوي النَّقْص الَّذِي يَتَقَلَّبُونَ فِي دولة، وَإِن كَانُوا من باطلهم فِي بولة، على أَنَّهَا سَحَابَة صيف عَن قَلِيل تقشع - خَبرا حَدثنَا بِهِ مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مهْدي الأبلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن السايح، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن شُعَيْب بن سَابُور، قَالَ: سَمِعت الْأَوْزَاعِيّ ينشد هَذِه الأبيات:

إِذا كَانَ الخطاء أقل ضراً ... وأنجحَ بالأمور من الصوابِ وَكَانَ النِّوك مَحْموداً مذالاً ... وَكَانَ الدَّهْر يرجع بانقلابِ وعطِّلت المكارمُ والمعالي ... وأُغلقَ دون ذَلِك كلُّ بابِ ويوعد كل ذِي حَسَب ودينٍ ... وقُرِّب كل مهتوك الحجابِ فَمَا أحدٌ أضنَّ بِمَا لَدَيْهِ ... من المتحرج المحْضِ اللُّباب وَأنْشد شَيخنَا أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيّ رَحمَه الله هَذِه الأبيات، وَفِيمَا أنْشدهُ بَيت آخر وَهُوَ: وولّى بَعضهم خَرْجاً وحربا ... وولِّي بَعضهم فصلَ الخطابِ وَحذف من الْجُمْلَة بَيْتا. وَأَنا مِنْهُ هَذِه الرسَالَة إِلَى هَذَا الْموضع، ومبتدئ بِمَا قصدت إيداعه هَذِه الْكتاب وتضمينه إِيَّاه.

المجلس الأول

الْمَجْلِسُ الأَوَّلُ حَدِيثُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِثَلاثِ ليل خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده من الناي. التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله عَلَيْهِ السّلام: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَة " أَمر لأمته بتبليغ مَا أَتَاهُم بِهِ من وَحي رَبهم، وَيسر الْأَمر عَلَيْهِمْ فِيمَا يبلغونه، ويلقونه، إِلَى مَا بعدهمْ ويؤدونه، ليتصل نقل الْقُرْآن عَنْهُ إِلَى آخر أمته، وَيلْزم حجَّته جَمِيع من انْتهى إِلَيْهِ مِمَّن يَأْتِي بعده، فقد أَتَاهُ الْوَحْي بِمَا أَتَاهُ من قَوْله، " أُوحِي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذرنكم بِهِ وَمن بلغ " ونظيرُ مَا أَمر بِهِ من التَّبْلِيغ قَوْله فِي خبر آخر: " نَضّر اللَّه امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها ثُمَّ أدّاها كَمَا سَمعهَا، فربَّ حامِل فقه غَيْر فَقِيه، وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ " وَقَوله: وَلَو آيَة، فَإِنَّهُ أَتَى عَلَى وَجه التقليل ليسارع كلّ امْرِئ فِي تَبْلِيغ مَا وَقع من الْآي إِلَيْهِ، فيتصل بتبليغ الْجَمِيع أَوْ بعضه نَقله، ويتكامل باجتماعه واستكمال أَدَاؤُهُ. الْآيَة وَمَا فِيهَا من اللُّغَة والنحو فَأَما الْآيَة فَفِيهَا من طَرِيق علم اللُّغَة ثَلَاثَة أوجه، وَمن جِهَة صناعَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب ثَلَاثَة أضْرب، فأحدُ الْوُجُوه فِيهَا من قِبَلِ اللُّغَة أَنَّهَا العَلامة الفاصلة، وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهَا لأعجوبة الْحَاصِلَة، وَالْوَجْه الثَّالِث أَنَّهَا الْمثلَة الفاصلة، وَهَذِه الْأَوْجه الثَّلَاثَة إِذَا رُدَّت إِلَى أُصُولهَا مُتَقَارِبَة رَاجِعَة فِي الْمَعْنى إِلَى طَريقَة وَاحِدَة، وَجُمْلَة آحادها متناسبة، فَإِذا قيل: اجْعَل لكذا وَكَذَا آيَة، فَالْمَعْنى عَلامَة فاصلة تدل عَلَى الشَّيء بحضورها، وتفقد دلالتها بغيبتها، أَلا ترى إِلَى قَول اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ: " قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قَالَ آتِيك أَلا تكلم النَّاس " إِلَى آخر الْقِصَّة فَإِنَّمَا سَأَلَ السَّائِل ربه أَن يَجْعَل لَهُ عَلامَة لمّا وعده وبشره بِهِ، فِي مَا جانس هَذِه ممّا تضمنه كتاب اللَّه عزَّ ذكرهُ، قَالَ الشَّاعِر: أَلا بلغ لَدَيْكَ بَنِي تَميمٍ ... بآيةِ مَا يُحِبُّون الطعاما وَقَالَ آخر: ألِكنْي إِلَيْهَا عَمْرُك اللَّه يَا فَتى ... بآيةِ مَا جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا وَمثل هَذَا فِي الشّعْر وَسَائِر الْكَلَام كثير. ولمّا كَانَ ذكر الْآيَة يَعْنِي الأعجوبة فَمِنْهُ مَا ذكره اللَّه عزَّ ذكره فِي مَوَاضِع من كِتَابه

عِنْدَ ذكره مَا أحله من النقمَة بأعدائه: " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ " بِمَعْنى الْعجب ممّا حلّ بهم عِنْدَمَا كَانَ من تكذيبهم رُسُلَ رَبهم. وأمّا الْعبارَة بِالْآيَةِ عَنِ الْعُقُوبَات المنكَّلة فكثيرةُ فِي كَلَام الْخَاصَّة من أَهْلَ اللِّسَان الْعَرَبِيّ كَقَوْلِهِم: قَدْ جُعل فلَان آيَة، إِذا جلّ بِهِ فظيع من الْمَكْرُوه أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ لمن نزل بِهِ شَيْءٍ من هَذَا بِهِ، أَوْ حصل عَلَى صفة مذمومة يُعيَّر بهَا وَيُسَبُّ ويُوصم بهَا: فلانٌ آيةٌ منزلَة، فَأَما الْعِقْد الْجَامِع لهَذِهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة الَّذِي يردُّها إِلَى جملَة وَاحِدَة، فَهُوَ أنَّ العَلامَة إنّما قيل لَهَا لدلالتها وفضلها وإبانتها، وَوَقع الْفَصْل فِي الْقُرْآن بهَا حَتَّى تميزت بَعْض أَلْفَاظه من غَيرهَا، فَصَارَت كلّ قِطْعَة من ذَلِكَ جملَة عل حَالهَا. وأمّا معنى الأعجوبة فَإِنَّمَا يَقع فِي التعجُّبُ من المستغرب الَّذِي يقل وُقُوعه، فينفصل من الْكثير الْوُجُود الَّذِي يخْتَلط فِيهَا بعضه بِبَعْض، وَلَا يكون فِيهِ من الِاخْتِصَاص مَا فِي الْمَوْجُود الَّذِي قدمنَا ذكره. وأمّا النكال الحالّ بِمن حل بِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ آيَة، من حَيْث مَسَارُ أمره أعْجوبة يُعتبر ويتعظ بهَا، وَكَانَ معنى خَاصّا قُوبل بِهِ أمرٌ خاصٌّ بِمَا أَتَاهُ من وَقعت المجازاة بِهِ، فَكل وَاحِد من هَذِهِ الْأَوْجه الثَّلَاثَة مجانس لصَاحبه فِي أَنَّهُ أَمارَة وعلامة وأعجوبة لاختصاصها بِمَا فِيهِ حجَّة باهرة، وَدلَالَة قاهرة، ومثلة ونقمة لما فِيهِ من التميز وَالْعجب وفظيع التنكيل، بِأَهْل الزيغ والتبديل. وأمّا الأضرب الثَّلَاثَة من قبل النَّحْو وتصريف الْإِعْرَاب، فَإِن النَّحْوِيين من الْكُوفِيّين والبصريين اخْتلفُوا فِي الْآيَة مَا وَزنهَا من الْفِعْل، فَقَالَ الْكسَائي: هِيَ فِي الأَصْل فاعلة وَأَصلهَا آيية، وَكَانَ يَنْبَغِي أنَّ تُدْغَم الْيَاء الأولى فِي الثَّانِيَة لاجتماعهما متحركتين فَتَصِير آيَة مثل دابَّة الَّتِي أَصْلهَا دَابِيَة، فاستثقلوا التَّشْدِيد فَقَالُوا: آيَة. وَقَالَ نحويو الْبَصْرَة: وَزنهَا فِي الأَصْل فَعَلَة وَأَصلهَا أَيَيَة، فَصَارَت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. وَقَالَ الْفراء: وَزنهَا من الْفِعْل فعلة وَأَصلهَا أيَّة، فاستثقلوا التَّشْدِيد فأتبعوه مَا قبله فَصَارَت الْيَاء الأولى ألفا كَمَا قَالُوا: ديوَان ودينار وَالْأَصْل فِيهَا دوان ودنار، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنهم يَقُولُونَ فِي جمعهَا دواوين ودنانير، وَلَا يَقُولُونَ دياوين وديانير، وَيجمع الْآيَة آيَات عَلَى جمع السَّلامَة، وآيًا عَلَى أَنَّهَا من الْقَبِيل الَّذِي سبق جمعه واحدَة فَصَارَ بَيْنَ توحيده وَجمعه الْهَاء الَّتِي فِي واحده. وَقد زعم قومٌ أنَّ معنى الْآيَة: الْجَمَاعَة، وَهَذَا قَول رَابِع لِأَنَّهُ خطأ، وَالْبَيَان عَنهُ أصل اشتقاق الْآيَة بِمَا بَيْنَ الْخَلِيل وسيبويه والأخفش فِيهِ من الِاخْتِلَاف فِي تَقْدِير مَدَّته وتصريفه، واستيعاب بَابه يَأْتِي فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز، عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز إِن شَاءَ الله عَزَّ وَجَلَّ. وَقَوله عَلَيْهِ السّلام: " وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا حرج " فإنّ الحَرَج أصلُه فِي كَلَام الْعَرَب:

الضّيق، وَمِنْه قيل للطائفة من الشّجر الملتفّ المتضايق: حَرْجة، وَكَانَ مقَاتل بْن سُلَيْمَان يتَأَوَّل مَا جَاءَ فِي الْقُرْآن من ذَكَرَ الْحَرج أَنه الشَّك، وَهَذِه يرجع إِلَى مَا وصفناه من معنى الضّيق، لِأَن الشاكَّ يضيق صَدره، وَيُخَالف الْعَالم بالشَّيْء الْمُثْلج صدرُه بِمَا عَلمِه فِي رَاحَة الْيَقِين، واتساع الصَّدْر وانفساحه وتعرَّيه من ازدحام الظنون وَاعْتِرَاض الشكوك الَّتِي تضيِّقه، وَقد زعم بَعْض أَهْلَ الِاشْتِقَاق أنَّ الَّذِي يَتَّخِذهُ الرَّكْبُ من العيدان والخَشَب لرحالهم يُقَالُ لَهَا حُرْجُوج، لتضايقه واشتباكه وَيجمع حِراج، كَمَا قَالَ ذُو الرمة: فَسِيرَا فقد طَال الوقوفُ ومَلّه ... قلائصُ أمثالِ الحَرَاجِيج ضمر وَمِنْه قَلِيل للشَّيْء الْمَحْظُور المضّيق بِالتَّحْرِيمِ وَالْمَنْع: حَرَج وَقَرَأَ بَعْض الْمُتَقَدِّمين: " هَذِهِ أنعام وحرث حرج " مَكَان الْقِرَاءَة الْجُمْهُور حِجْر وحَجْر وَهِي كلهَا لُغَات مَعْرُوفَة فِي الْحجر بِمَعْنى الْحَرَام لُغَتَانِ الضَّم وَالْكَسْر، وَقد قرئَ بهما جَمِيعًا، وَقَوله: حرث حجر أَي حرَام، وَقَوله: " وَيَقُولُونَ حجرا مَحْجُورا " قَالَ أَهْلَ التَّأْوِيل: مَعْنَاهُ حَرَامًا محرما، قَالَ الشَّاعِر: حَنّتْ إِلَى النَّخْلَةِ القصوى فَقلت لَهَا ... حِجْرٌ حرَام أَلا تِلْكَ الدَّهَارِيس وَقَالَ آخر: قَالَت وفيهَا حِمْقةٌ وذُعْرُ ... عوذ بربي مِنْكُمْ وَحجر أَي استعاذة تُحَرِّم عَلَيْكُمْ مَا أخافه من مكروهكم، وَالْحجر أَيْضا: الْعقل، والحجى، وَمِنْه قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لذِي حجر " أَي عقل يمنعهُ من السَّفه والخرق، وَمِنْه حَجَر الْحَاكِم عَلَى السَّفِيه، هُوَ من التَّضْيِيق وَالْمَنْع وَالتَّحْرِيم، والمصدر مِنْهُ مَفْتُوح، وروى أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للأعرابي الَّذِي بَال فِي المَسْجِد ثُمَّ سَمعه يَقُولُ: " اللَّهُمّ ارْحَمْنِي ومحمدًا وَلَا ترحم مَعَنَا أحدا - " لَقَدْ تحجّرت وَاسِعًا " أَي ضَيّقْتَ مَا وسّعَهُ اللَّه عزَّ ذكره وحَظَرْتَ مَا فَسّح فِيهِ. والْحِجْر ديار ثَمُود، وحِجْر الْكَعْبَة مكسوران، وحُجْر اسْم الرَّجُل مضموم الْحَاء سَاكن الْجِيم، كَمَا قَالَ عُبَيْد بْن الأبرص: هلا عَلَى حُجْرِ بْن أمّ ... قَطَام تبْكي لَا علينا وهرٌّ تصيدُ قلوبَ الرِّجَال ... وأفلت مِنْهَا ابنُ عَمْرو حُجر كَمَا قَالَ طرفَة: أيُّها الْفِتْيَانُ فِي مَجْلِسنَا ... جرِّدوا مِنْهَا وَارِدًا وشقرْ وَالْكَلَام شُقْر بالإسكان مثل حُمْر وصُفْر، وَحجر الْيَمَامَة مَفْتُوح قَالَ الشَّاعِر: فلولا الرِّيحُ أسمع من بحجرٍ ... صليلُ البيضِ تقرعُ بالذِّكورِ وحِجْر الإِنْسَان فِيهِ لُغَتَانِ: الْفَتْح وَالْكَسْر. وَمثل حرجٌ وحجْر، صَاعِقة وصاقعة، وجذَبْته جذبًا وجبذتهُ جبْذًا، فِي نَظَائِر لما

وَصفنَا كَثِيرَة، وَأما حاجز فموضع مَعْرُوف، قَالَ الْأَعْشَى: شاقك من قَتْلَة أطْلالُها ... فالشطُّ فالقفُّ إِلَى حاجِرِ وَخص بني إِسْرَائِيل بِهَذَا لمّا مَضَت فيهم من الْأَعَاجِيب، كَمَا خص الْبَحْر بِمَا فِيهِ من الْعَجَائِب، وأرخص فِي التحدث عَنْهُم مَعَ اتقاء الْحَرج بِالْكَذِبِ فِيهِ، وَقَوله: وَلَا حَرَج، يتّجه فِيهِ تَأْوِيلَانِ، إِحْدَاهمَا: أَن يكون خَبَرًا مَحْضا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه، كَأَنَّهُ لمّا ذَكَرَ بني إِسْرَائِيل وَكَانَت فيهم أعاجيبُ وَكَانَ كثيرٌ من النّاس ينبُو سمعُه عَنْهَا، فَيكون هَذَا مقطعَة لمن عِنْدَهُ علم مِنْهَا أَن يحدث النّاس بهَا، فَرُبمَا أدّى هَذَا إِلَى دروس الْحِكْمَة، وَانْقِطَاع مواد الْفَائِدَة، وانسداد طَرِيق إِعْمَال الفكرة، وإغلاق أَبْوَاب الاتعاظ وَالْعبْرَة، وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي تحدثكم بِمَا علمتموه من ذَلِكَ حرج. والتأويل الثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى فِي هَذَا: النَّهْي فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تحرَّجوا بِأَن تتحدثوا بِمَا قَدْ تبين لَكُم الْكَذِب فِيهِ محققين لَهُ أَوْ غَارِّين أحدا بِهِ، فَهَذَا اللفظُ عَلَى هَذَا الْوَجْه لفظُه لفظُ الخبَر وفائدتُه النهيُ من جِهَة الْمَعْنى، وَلَفظ النَّهْي لَا يَأْتِي إِلَّا مُتَعَلقا بفعلٍ مُستقبل، فَإِذا قيل: وَلَا تَحَرَّجُوا فَهُوَ صَرِيح اللَّفْظ بِالنَّهْي، فَإِذا قيل: وَلَا حرج جَازَ أَن يكون خَبرا مَحْضا معنى ولفظًا، وَجَاز أَن يكون لَفظه لفظ الْخَبَر فِي بنيته، وَمَعْنَاهُ النهيُ لقصد الْمُخَاطب وإرادته، دون صُورَة اللَّفْظ وصيغته، وَنصب الحَرَج فِي هَذَا الْموضع هُوَ الْوَجْه عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَعْنى الَّذِي يُسَمِّيه البصريون النَّفْي ويسميه الْكُوفِيُّونَ التبرئة، وَهُوَ عَلَى قَول الْخَلِيل مبنيٌّ يضارع المعرب، وعَلى قَول سِيبَوَيْهٍ معربٌ يضارع الْمَبْنِيّ، وَلَو رُفع ونُوِّن لَكَانَ وَجها قَدْ عرف واستُعمل كَمَا قَالَ الشَّاعِر: من صَدّ عَنْ نِيرانها ... فَأَنا ابْن قيسٍ لَا براحْ وَقَوْلهمْ: لَا حول وَلَا قُوة إِلَّا بِاللَّه، للْعَرَب فِيهِ خَمْسَة مَذَاهِب: لَا حول وَلَا قوةَ إِلَّا بِاللَّه، وَلَا حولَ وَلَا قُوةً، وَلَا حولَ وَلَا قوةٌ، وَلَا حولٌ وَلَا قوةٌ، وَلَا حولٌ وَلَا قُوَّةُ. وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَال فِي الْحَج " هَذِه قِرَاءَة شَبيه وَنَافِع وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ فِي آخَرين، وَقُرِئَ: فَلا رفثَ وَلا فسوقَ وَلَا جدالَ، وَهِي قِرَاءَة أَبِي جَعْفَر يزِيد بْن الْقَعْقَاع المَخْزُومِي، وَقُرِئَ: فَلا رفثٌ وَلا فسوقٌ وَلا جِدَالَ " وَهِي قِرَاءَة مُجَاهِد وَابْن كثير وَأبي عَمْرو وَعدد غَيرهم، وَقد قَرَأَ بَعضهم وَلَا جِدَال مثل دَرَاكِ ومَنَاعِ، رويتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن أبي إِسْحَاق، وَاخْتلف فِي علل إِعْرَاب هَذِه الْقرَاءَات، وَفِي عِلّة فرق فِي الْإِعْرَاب بَين بعضهما وَبَعض اخْتِلَاف يطول شَرحه، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، وَنحن مستقصو القَوْل فِيهِ عِنْدَ انتهائنا إِلَيْهِ من كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز فِي عَلَمِ الْقُرْآن المعجز وَفِي كتَابنَا فِي الْقرَاءَات، وَكِتَابنَا فِي عللها وتفصيل وجوهها. وَقَوله: " من كذب عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " قَدْ أَتَت الرِّوَايَة بِهَذَا اللَّفْظ وَمَا

يُقَارِبه من جِهَات كَثِيرَة، وَقيل: إِنَّهُ عَلَى عُمُومه، وَجَاء فِي بَعْض هَذِهِ الْأَخْبَار: من كذب عليّ مُتَعَمدا ليضلّ بِهِ النّاس، وروى أَنَّهُ ورد عِنْدَ قصَّة خَاصَّة فِي رَجُل ادّعى عِنْدَ قَوْمٍ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أرسلهم إِلَيْهِ ليزوجوه، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ: قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَمَاقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُنِيرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ فِي جَانِبِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَحْكُمَ فِيكُمْ بِرَأْيِي فِي كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَبَعَثَ الْقَوْمُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ " ثُمَّ أَرْسَلَ رَجُلا فَقَالَ: " إِنْ أَنْتَ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاقْتُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ مَيِّتًا فَحَرِّقْهُ "، فَانْطَلَقَ فَوَجَدَهُ قَدْ لُدِغَ فَمَاتَ فَحَرَّقَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَيَّانَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " كَانَ حَيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَأَتَاهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَسَانِي هَذِهِ الْحُلَّةَ وَأَمرَنِي أَن أحكم نِسَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ بِمَا أَرَى، وَكَانَ قد خطب امْرَأَة مِنْهُم فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، قَالَ: فَأَرْسَلُوا رَسُولا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِنَّك أمرت هَذِه أَنْ يَحْكُمَ فِي نِسَائِنَا وَأَمْوَالِنَا بِمَا يَرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ " ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ: اذْهَبْ فَإِنْ وَجَدْتَهُ حَيًّا فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَإِن وجدته قد مَاتَ فَأحرق بِالنَّارِ، وَمَا أَرَاكَ تَجِدُهُ حَيًّا، قَالَ: فجَاء فَوَجَدته قَدْ لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ أَوْ أَفْعَى فَمَاتَ، فَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ " حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو حَامِدٍ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا تَأْوِيلُ هَذَا الحَدِيث: " من كذب عَلَيَّ مُتعمدًا فَليَتَبَوَّأ معقده مِنَ النَّارِ "؟ قَالَ: رَجُلٌ عَشِقَ امْرَأَةً فَأَتَى أَهْلَهَا مَسَاءً، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ أَنْ أَتَضَيَّفَ فِي أَيِّ بُيُوتِكُمْ شِئْتُ، قَالَ: فَكَانَ يَنْتَظِرُ بَيْتُوتَةً إِلَى الْمَسَاءِ، قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ فُلانًا أَتَانَا يَزْعُمُ أَنَّكَ أَخْبَرْتَهُ أَنْ يَبِيتَ فِي أَيِّ بُيُوتِنَا شَاءَ، فَقَالَ: كَذَبَ، يَا فُلانُ انْطَلِقْ مَعَهُ فَإِنْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَحْرِقْهُ بِالنَّارِ، وَلا أُرَاكَ إِلا قَدْ نَعَيْتَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُوهُ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكَ أَنْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ وَأَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَإِنْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَلا تُحَرِّقْهُ بالنَّار، فَإِن لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلا رَبُّ النَّارِ وَلا أُرَاكَ إِلا قَدْ كُفِيتَهُ، فَجَاءَتِ السَّمَاءُ

ذكر بعض نوادر الأخبار

فَصَبَّتْ فَخَرَجَ لِيَتَوَضَّأَ فَلَسَعَتْهُ أَفْعَى، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ، وَقَوْلُهُ فَلْيَتَبَوَّأْ أَيْ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ وَيَعْلَمْ أَنَّهُ تَبَوَّأَ معقده من النَّار أَي تكون لنار مُبَوَّأً لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: " بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ " أَيْ جَعَلْنَاهَا مَنْزِلا لَهُمْ، قَالَ ابْنُ هِرْمَةَ: وَبُوِّئْتُ فِي صَمِيمِ معشرها ... فتمَّ فِي قَومهَا مُبوَّؤُهَا وَقَالَ بَعْضُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُخَاطِبُ الْفَرَزْدَقَ: لَقَدْ بوَّأتك الدَّارَ بكرُ بْنُ وائلٍ ... وَقَرَّتْ لَكَ الأحشاءُ إِذْ أَنْتَ مُحْرِمُ وَقَول اللَّه تَعَالَى: " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لنبَوِّئّنَهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا " من هَذَا الْبَاب، وَكَذَلِكَ قَرَأَ جُمْهُور أَهْلَ الْحجاز وَالشَّام وَالْبَصْرَة والكوفة، وَقَرَأَ عدد من الْكُوفِيّين مِنْهُم حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: لنثوينهم من الثواء، كَمَا قَالَ الْحَارِث بْن حلزة: آذنَنْتَنا بِبَيْنِهَا أسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يملُّ مِنْهُ الثُّواءُ وَفِي تصريف الْفِعْل من هَذَا لُغَتَانِ يُقَالُ: ثوى يثوي وأثوى يثوي، ويروى بَيت الْأَعْشَى عَلَى وَجْهَيْن: أثْوَى وقَصّر ليلةٌ ليُزَوَّدَا ... فَحَنى وأخلفَ من قُتَيْلةَ موعِدا ويروى أثوى عَلَى الْوَجْه الرباعي، ويروى أَثَوى بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام عَلَى أَنَّهُ ثلاثي، وَلَو قيل ثوى من غَيْر تَقْدِيم عَلَى أَن يكون الْجُزْء الأوّل من الْبَيْت مخروما لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابا. ذكر بعض نَوَادِر الْأَخْبَار مَجْنُون بني سَعْد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ إملاءً من حَدِيثه سنة سِتّ وَعشْرين وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيد بْن صَالح الْيَشْكُرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن محبّ الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: لمّا قَدِمَ سُلَيْمَان بْن عليّ الْبَصْرَة واليًا عَلَيْهَا قيل لَهُ: إنَّ بالْمِرْبد رَجلا من بني سَعْد، مَجْنُونا سريع الْجَواب لَا يتَكَلَّم إِلَّا بالشعر، فَأرْسل إِلَيْهِ سُلَيْمَان بْن عليّ قَهْرمانه، فَقَالَ لَهُ: أجب الْأَمِير، فَامْتنعَ فجرّه وَزبَره، وخرَّق ثَوْبه، وَكَانَ الْمَجْنُون يَسْتَقِي عَلَى نَاقَة لَهُ فاستاق القهرمان النَّاقة وأتى بهَا سُلَيْمَان بْن عليّ، فَلَمّا وقف بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ سُلَيْمَان، حيّاك اللَّه يَا أَخا بني سَعْد، فَقَالَ: حيّاك ربُّ النّاس من أَمِير ... يَا فاضلَ الأَصْل عَظِيم الخيرِ إِنِّي أَتَانِي الفاسِقُ الجلْوازُ ... والقلبُ قَدْ طَار بِهِ اهتزازُ فَقَالَ سُلَيْمَان: إنّما بعثنَا إِلَيْكَ لنشتري نَاقَتك، فَقَالَ: مَا قَالَ شَيْئا فِي شِرَاء الناقهْ ... وَقد أَتَى بِالْجَهْلِ والحماقةْ فَقَالَ: مَا أَتَى؟ فَقَالَ: خَرّق سِرْبالي وشَقّ بُرْدتي ... وَكَانَ وَجْهي فِي الملا وزيني

التعليق على الخبر

فَقَالَ: أفتعزم على النَّاقة؟ فَقَالَ: أبيعُها بَعْدَ مَا أُوكَسُ ... والبيعُ فِي بَعْض الأوان أَكيس قَالَ: كم شراؤها عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: شراءها عشرٌ بِبَطن مكهْ ... من الدَّنَانِير الْقيام السُّكهْ وَلَا أبيعُ الدهرَ أَو أزادُ ... إنّي لريحٍ فِي الورى مُعْتَاد قَالَ: فبكم تبيعها؟ فَقَالَ: خُذْها بعشرٍ وبخمسٍ وازنهْ ... فَإِنَّهُ نَاقَة صدق مَازنه قَالَ: فحطّنا، فَقَالَ: تبَارك اللَّه العليُّ العالي ... تَسْألُني الحطّ وَأَنت الْوَالِي قَالَ: فنأخذها مِنْك وَلَا نعطيك شَيْئا، فَقَالَ: فَأَيْنَ ربِّي ذُو الْجلَال الْأَفْضَل ... إنَّ أنتَ لَمْ تَخْشَ الْإِلَه فافعلِ قَالَ: فكم أزنُ لَك فِيهَا؟ فَقَالَ: وَالله مَا يُنعِشُني مَا تُعطي ... وَلَا يُدَاني الْفقر مني حطّي خُذْهُ بِمَا أحببتَ يَا بْن عباسِ ... يَا بْن الْكِرَام من قريشِ الرّاسِ فَأمر لَهُ سُلَيْمَان بِأَلف دِرْهَم وَعشرَة أَثوَاب، فَقَالَ: إِن رَمَتْنِي نَحْوك الْفِجَاجُ ... أَبُو عيالٍ مُعْدَمٌ محتاجُ طَاوي الْمِعَى ضَيّق المعيشِ ... فأنبتَ اللَّه لديك ريشي شَرّفتني مِنْك بألفٍ فاخره ... شَرَّفَك اللَّهُ بهَا فِي الآخِرَة وكسوةٍ طاهرةٍ حسانِ ... كساك رَبِّي حلل الجنانِ التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر فَقَالَ سُلَيْمَان: من يَقُولُ إنَّ هَذَا مَجْنُون؟ مَا كلمتُ قَطّ أَعْرَابِيًا أَعقل مِنْهُ. قَول الأَعْرَابِي: ضيق المعيش، المعيش جمع معيشة، كَمَا قَالَ رؤبة: أَشْكُو إِلَيْكَ شدَّة المعيش ... ومرِّ أعوامٍ نَتَفْنَ رِيشِي وَيكون المعيش الْموضع والمعاش الْمصدر، مثل المَضربِ والْمِضرَب وَالْمقر وَالْمقر. قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَدْ أنهينا هَذَا الْمجْلس إِلَى هُنَا لِئَلَّا يستطال، إِذْ قَدْ تقدمته خطبةٌ ورسالة، وَالله الْمُسْتَعَان. الْمجْلس الثَّانِي حَدِيث جريج حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن سُلَيْمَان أَبِي دَاوُدَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ، فِي يَوْمِ الثُّلاثَاءِ لأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بن

يزِيد، قَالَ: أَخْبرنِي أَي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَطَرٌ، قَالَ: وَلا أَعْلَمُ سَنَدَهُ إِلا عَنِ الْحسن بن أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ، وَكَانَ صَاحِبَ صَوْمَعَةٍ قَالَ: فَاشْتَاقَتْ أُمُّهُ إِلَيْهِ فَأَتَتْهُ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ صَوْمَعَتِهِ، فَنَادَتْهُ: أَيْ جُرَيْجُ! أَيْ جُرَيْجُ! وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، ف فَلَمَّا سَمِعَ النِّدَاءَ فَعَرَفَ الصَّوْتَ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! صَلاتِي أَوْ أُمِّي، ثُمَّ قَالَ: رَبِّي أَعْظَمُ عَلَيَّ حَقًّا مِنْ أُمِّي، قَالَ: فَمَضَى فِي صَلاتِهِ، ثُمَّ نَادَتْهُ الثَّانِيَةَ فَفَعَلَ أيضاَ مِثْلَهَا، وَقَالَتِ الثَّالِثَةَ، فَفَعَلَ أَيْضا مثلهَا وَلَمْ يُشْرِفْ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ كَمَا لَمْ يُرِنِي وَجْهَهُ فَابْتَلِهِ بِنَظَرِ الْمُومِسَاتِ فِي وَجْهِهِ، فَحَمَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مِنْ فَاحِشَةٍ فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا؟ قَالَتْ: صَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: هَذَا صَاحِبُ صَوْمَعَةٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا؟ فَأَمَرَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَأَخَذُوا الْفُئُوسَ وَالْمَسَاحِيَ، حَتَّى أَتَوْهُ فَنَادَوْهُ وَهُوَ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، قَالَ: فَقَالُوا: ضَعُوا الْفُئُوسَ فِي الصَّوْمَعَةِ فَضَرَبُوا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَمِيلَ، قَالَ: فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ مَالِي وَلَكُمْ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ فِي الصَّوْمَعَةِ وَأَنْتَ تُحْبِلُ النِّسَاءَ؟ فَقَالَ: أَنَا؟ فَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّبِيِّ وَلَمَّا يَتَكَلَّمْ فَضَرَبَ قَفَاهُ وَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: صُهَيْبٌ صَاحِبُ الضَّأْنِ، وَكَانَ صُهَيْبٌ رَجُلا يَرْعَى الْغَنَمَ يَأْوِي إِلَى الصَّوْمَعَةِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ لأَفْتَنَهُ عَنْ دِينِهِ ". وَقَدْ رُوِيَ خَبَرُ جُرَيْجٍ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الصَّوْمَعَةَ هُدِّمَتْ وَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نَبْنِيهَا لَكَ لَبِنَةً مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: بَلْ رُدُّوهَا كَمَا كَانَتْ. التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر قَوْله فِي الْخَبَر: الْمُومِسات هُوَ جمع مُومسة وَهِي الْبَغي الْفَاجِرَة، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيْفَ دعت أمه عَلَيْهِ واستجيب لَهَا فِيهِ؟ وَهُوَ لَمْ يقْصد عقوقها، وَلم يتْرك إجابتها تهاونًا بهَا، وَلَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا، وَإِنَّمَا آثر مرضاة اللَّه عَلَى أمرهَا، وإتمام صلَاته الَّتِي ابتدأها، إِمَّا مُؤديا الْفَرْض فِيهَا، وَإِمَّا مُتَطَوعا بِفِعْلِهَا، قيل لَهُ: جَائِز أَن يكون الْكَلَام فِي شريعتهم كَانَ جَائِزا فِي صلَاته كَمَا كَانَ فِي أول الإِسْلام ثمَّ نسخ مَا أُبِيح مِنْهُ بحظره، وَالنَّهْي عَنْهُ، عَلَى مَا وَردت الْأَخْبَار بِهِ، وَجَاء أنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود أخبر أَنَّهُ كَانَ يسلّم بَعضهم عَلَى بَعْض فِي الصَّلاة فَيرد عَلَيْهِ، وَأَنه ذَكَرَ أَنه حِين قَدِمَ من أَرض الْحَبَشَة سلم عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الصَّلاة فَلم يرد عَلَيْهِ، وَأَنه قَالَ: فأخذني مَا قرب وَمَا بَعْدَ، وَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين فرغ من صلَاته: أعوذ بِاللَّه من غضب اللَّه وَغَضب رَسُوله، سلمت عَلَيْك فَلم ترد، فَقَالَ: إِن اللَّه يحدث من أمره مَا شَاءَ، وَأَنه مِم أحدث " أَلا تَكلّموا فِي الصَّلاة " وَأَن يكون جريج رَأَى وَإِن كَانَت إجَابَته فِي أمه جَائِزَة فِي صلَاته أَوْ غَيْر قَاطِعَة لَهَا - بِأَن الْمُضِيّ عَلَى الصَّلاة أولى من إجابتها، وجائزة أَن يكون الْقَوْم قَدْ فرض عَلَيْهِمْ إِجَابَة أمهاتهم فِي الصَّلاة إِذَا

حروف المقاربة

دعونهم وَإِن كَانُوا فِي صلَاتهم، فَترك ذَلِكَ جريج لتفريط مِنْهُ وَفِي فعله أَو الْعلم بِهِ، وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَو نادني أحدُ أبويَّ وَأَنا فِي الصَّلاة فَقَالَ يَا مُحَمَّد لأجبته "، وَهَذَا مُحْتَمل أَن يكون عَلَى بَعْض الْوُجُوه الْمَخْصُوصَة أَو المنسوخة، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ لأجبته بالتسبيح ليعلم أَنِّي قَدْ سمعته أَوْ فِي هَذِهِ الْحَال بالتصفيق، وَقَالَ: التَّسْبِيح للرِّجَال والتصفيق للنِّسَاء، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لبَعض من ناداه وَهُوَ يُصَلِّي فَلم يجبهُ فَقَالَ: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: إِنِّي كنت أُصَلِّي فَقَالَ: ألم تسمع قَول اللَّه عَزَّ وَجل: " اسْتجِيبُوا لله وَلِرَسُولِهِ إِذا دعَاكُمْ " وروى أنَّ إِبْرَاهِيم النّخَعي سُئِلَ عَمَّن شَمّت رَجُلا فِي الصَّلاة، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يقل إِلَّا مَعْرُوفا، وَالْقَوْل فِي هَذَا النَّحْو مستقصى فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْفِقْه. حُرُوف المقاربة وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر: حَتَّى كَادَت أَن تميل.. الظَّاهِر فِي كَلَام الْعَرَب أَن يَقُولُوا كَادَت تميل من غَيْر أَن يَأْتُوا بِأَن، وَكَاد هَذِهِ من حُرُوف المقاربة، فَقَالَ: كَاد فلَان يهْلك وَكَاد يفعل كَذَا، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ " وَقَالَ: " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ "، وَقَالَ: " كَانُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا " فِي نَظَائِر لهَذَا كَثِيرَة، وَقد تَقول الْعَرَب: كَاد أَن يفعل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: كَادَت النّفْسُ أَن تفيضَ عَلَيْهِ ... إِذْ ثَوَى حَشْوَ رَيْطةٍ وبُرُودِ وَقَالَ الراجز: قَدْ كادَ من طُولِ الْبِلَى أَن يَمْصَحَا فَكَأَنَّهُ أدخلها فِي بَاب عَسى كَمَا أَدخل عَسى عَلَيْهَا الْقَائِل من الشّعراء: عَسَى الكربُ الَّذِي أمسيتُ فِيهِ ... يكونُ وَرَاءه فرجٌ قريبُ وَقَالَ آخر: عَسى اللَّهُ يُغْنِي عَنْ بلادِ ابْن قادرٍ ... بمنهمرٍ جَوْنِ الرَّبَابِ سكوبِ وَقَالَ آخر: عَسَى فرجٌ يأتِي بِهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كلّ يومٍ فِي خليقته أمْرُ وَمثل هَذَا لَعَلَّ، الْبَاب فِيهَا لعلى الْقَوْم، قَالَ الله: " لَعَلَّكُمْ تفلحون "، وَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى "، وَقد تدخلُ عَلَى بَاب عَسى لاشتراكها فِي بَاب الترجِّي والمقاربة والتوقع، وَذَلِكَ قَول الشَّاعِر: تَتَبعْ خبايا الأَرْضِ وَادْعُ مَليكَها ... لَعَلَّكَ يَوْمَا أَنْ تُجَابَ وَتُرْزَقا وَقَالَ آخر: ترفق أَيهَا القمرُ الْمُنِير ... لعلّك أَن تَرَى حُجْرًا يسيرُ

وَقَالَ آخر: لعلِّيَ إنْ مالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَة ... عَلَى ابنِ أبي ذُبَّان أَن يَتَندّما وَقد تَأتي كَاد بِمَعْنى الْإِرَادَة لاشْتِرَاكهمَا فِي معنى المقاربة، كَقَوْلِك: كَاد الْحَائِط أَن يمِيل، وضربه حَتَّى كَاد أَنْ يَمُوت، أَي أَرَادَ أَن يمِيل وَأَن يَمُوت، وَقَالَ الشَّاعِر فِي هَذَا الْمَعْنى: كَادَت وَكِدْتُ وَتلك خيرُ إِرَادَة ... لَوْ عَاد من وَصْلِ الحبيبةِ مَا مضى وَقد قيل فِي قَول اللَّه: " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أخفيها " أنَّ مَعْنَاهُ أكاد أقيمها، فَحذف. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أخفيها وَأَن الْكَلَام انْتهى إِلَى أكاد، وَأَنه وقف تَامّ، وأخفيها ابْتَدَأَ كَأَنَّهُ قَالَ: أخفيها لِتُجْزَى، لتجزي إِخْبَار بصلَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْإخْفَاء. وَقَرَأَ بَعْض الْقُرَّاء: أكاد أخفيها بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أُظْهرها، يُقَال: خفيت الشَّيْء إِذا أظهرته وأخفيته إِذا سترته، وروى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ: " لعن المختفي والمختفية " يَعْنِي النباش والنباشة، سميا بذلك لإظهارهما مَا ستر بالمواراة والإخفاء والدفن، وَرويت هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيره، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَول الشَّاعِر: دَابَ شَهْرَيْن ثُمَّ شَهْرًا دَبِيكَا ... بَاركين يَخفيان غَمِيرًا وَقَالَ آخر: فَإِن تَكْتُمُوا الداءَ لَا نَخْفهِ ... وإنْ تبعثُوا الْحَرْبَ لَا نَقْعُدِ وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: خَفَاهُنَّ من أنفاقهن كأنّمَا ... خفَاهُنَّ ودقٌ من عشيٍّ مجلبُ وخفيت وأخفيت جَمِيعًا يرجعان إِلَى أصل وَاحِد، خفيت أَي أزلت الْإخْفَاء وأخفيت أَي فعلت الْإخْفَاء، وَنحن نبين مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من الْقُرْآن والمعاني ووجوه التَّفْسِير وَطَرِيق الْإِعْرَاب والتأويل فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْقُرْآن إِن شَاءَ اللَّه. وأمّا قَول جريج للصَّبِيّ: من أَبُوك؟ فقد يسْأَل السَّائِل فَيَقُول: كَيفَ من قَالَ من أَبوك والعاهر لَيْسَ بأب لمن أَتَت بِهِ البغيُّ من مَائه فِي حكم الشَّرِيعَة؟ قيل: فِي هَذَا وَجْهَان من التَّأْوِيل أَحدهمَا: أَنَّهُ جائزٌ أَن يكون فِي شَرِيعَة هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلْحَاق ولد العاهر بِهِ إِذَا حملت أمه بِهِ مِنْهُ. وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون جريج قَالَ هَذِه عَلَى وَجه التَّمْثِيل أَوْ كنى بِهِ تَنْزِيها لألفاظه عَلَى جِهَة التَّشْبِيه، فقد تُضَاف الْأُبُوَّة لفظا من طَرِيق التجاوز والاستعارة إِلَى من لَيست لَهُ ولادَة وَلَا نسب بَينه وَبَين من ينْسب إِلَيْهِ وَلَا قرَابَة، فَيُقَال: فلَان أَبُو الأرامل واليتامى إِذَا كفلهم وبرّهم ووصَلَهم، وَقَامَ بتدبير أُمُورهم وكَنَفَهُم كَفعل الْآبَاء الْوَالِدين لمن ولدُوا من الْبَنِينَ. وَقد روى فِي بَعْض قراءات من رويت عَنْهُ الْقِرَاءَة من الْمُتَقَدِّمين " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم وَهُوَ أَب لَهُم وأزواجه أمهاتهم " وَعبر عَنِ الْأزْوَاج بأنهن للْمُؤْمِنين أُمَّهَات

الجمع بين اللغتين

توكيداً لحرمتهن وَدلَالَة على تأبيد تَحْرِيم نِكَاحهنَّ عَلَى غَيْر النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِك استقصاء هَذِه الْبَاب وَمَا يُنَاسِبه ويتصل بِهِ طول. وَقَوله: " وَلما يتَكَلَّم " هَذِهِ لَم الجازمة دخلت عَلَيْهَا مَا وَقيل: إِنَّهَا تَأتي لنفي حُضُور شَيْءٍ منتظر متوقع وَقيل: بل هِيَ عَلَى طَرِيق لَمْ وَإِن ضمت إِلَيْهَا مَا كَمَا هِيَ فِي: إنَّ تقم أقِم، وَإِمَّا تقم أقِم، وَلِهَذَا النَّحْو مَوضِع هُوَ أولى بِهِ. وأمّا قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ دَعَتِ اللَّهَ أَنْ يَفْتِنَهُ عَنْ دِينِهِ لأَفْتَنَهُ عَنْ دِينِهِ " فَالَّذِي أحفظ عَنِ ابْن أبي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث هَكَذَا أَن يَفتنه، وَقَالَ لأفتنه، وَفِي تصريف الْفِعْل من الْفِتْنَة عَلَى تشعب مَعَانِيهَا وَاخْتِلَاف وجوهها لُغَتَانِ: يُقَالُ: فتنه يفتنه عَلَى وزن فعل يفعل وَهَذِه أَعلَى اللغتين وأفصحهما، وَبهَا جَاءَ كتاب اللَّه تَعَالَى فِي جَمِيع الْقُرْآن، من ذَلِكَ: " لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَان "، وَقَوله " عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وملأهم أَن يفتنهم " وَقَوله: " وَظن دَاوُود أَنما فتناه " بِمَعْنى امتحناه، وأضاف هَذِه إِلَيْهِ جلّ ذكره، وَقد قرئَ أَنما فَتَنَاه بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَوْجِيه الْفِعْل إِلَى الْملكَيْنِ، وَقَالَ تَعَالَى: " وَلَكِنَّكُمْ فتنتم أَنفسكُم " وَقَالَ: " إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ". واللغة الثَّانِيَة فِي هَذِهِ الْكَلِمَة هِيَ أقلُّهما فِي كَلَام الْعَرَب وَهِي: أفتنه يفتنه عَلَى أفعل يفعل. فَإِن كَانَ مَا روى لَنَا فِي هَذَا الحَدِيث عَلَى اللَّفْظ الَّذِي وَصفنَا مَحْفُوظًا عِنْدَ رُوَاته وَمن أَدَّاهُ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ ممّا جمع فِيهِ بَيْنَ اللغتين. الْجمع بَيْنَ اللغتين وَالْجمع بَيْنَ اللغتين كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَقد جَاءَ مِنْهُ فِي كتاب اللَّه عزَّ ذكره على تجَاوز واتصال، وتراح وانفصال، فَمن الْمُتَّصِل قَوْله: " فَمَهِّلِ الْكَافرين أمهلهم "، وَمن الْمُنْفَصِل قَوْله فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْأَنْفَال: " وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " على إِظْهَار التَّضْعِيف، وَفِي سُورَة الْحَشْر " وَمن يشاق إِلَى الله " بِالْإِدْغَامِ، وَمثله " فليملل وليه " عَلَى لُغَة من يَقُولُ: أمللت الْكتاب فَأَنا أملهُ، وَقَوله: " فَهِيَ تملي عَلَيْهِ "، من أمليته أمليه، وَقَالَ الشَّاعِر فِي الْجمع بَيْنَ اللغتين: لَئِنْ فتنتني لهي بالْأَمْس أفتنت ... سعيدًا فَأَضْحَى قَدْ قَلَى كلّ مُسْلِم وَمن الْجمع بَيْنَ اللغتين قَول لبيد: سَقَى قَوْمِي بني مَجْدٍ وَأسْقَى ... عُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلالِ وَقَالَ آخر: يَا بن رُفَيع هَلْ لَهَا من مَغْبَقِ ... هَل أَن سَاقيهَا سقاك المسُقّي وَقرن بَعضهم بَيْنَ الْمَعْنيين فِي اللغتين فَقَالَ: سقيته أَي ناولته مَاء لشفته، وأسقيته إِذَا

معنى الفتنة

جعلت لَهُ شربًا دَائِما، وَيُقَال أسقيته إِذَا دَعَوْت لَهُ بالسُّقيا. كَمَا قَالَ ذُو الرومة: وَقَفَتْ عَلَى ريعٍ لميَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زلتُ أبْكِي عِنْدَهُ وأخاطبه وأسقيه حَتَّى كَاد ممّا أبثُّه ... تكلمني أحجاره وملاعبه وَيُقَال: سقيته فَشرب، وأسقيته جعلت لَهُ مَاء وسقيا. قَالَ الْخَلِيل: سقيته مثل كسوته وأسقيته مثل ألبسته، ولاستقصاء الْكَلَام فِي هَذَا وَفِي هَاتين اللغتين وَهل هما بِمَعْنى وَاحِد أَوْ بمعنيين، وَفِي مَا اخْتلف نسخ كتاب سِيبَوَيْهٍ فِيهِ من التَّفْسِير والتمييز لَهُ، وَفِي اخْتِلَاف الْقِرَاءَة بِمَا أَتَى مِنْهُ فِي مواضيع من الْقُرْآن مُتَّفق اللَّفْظ أَوْ مختلفُه فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة كَقَوْلِه: " نسقيكم مِمَّا فِي بطونها " بِالْفَتْح فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى أَنَّهُ من سَقَى يُسْقِي بِالضَّمِّ من لُغَة من قَالَ: أسْقَى يُسْقِي، وَفِي تَفْرِيق من فَرّق بَيْنَ الْقِرَاءَة فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ وَبَينهَا فِي قَوْله: " وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أنعاماً " وَجمع من جمع فِي الْفَتْح وَالضَّم طولٌ يتَجَاوَز حدّ مَا قصدناه بكتابنا هَذَا وَبَيَانه فِي مَوَاضِع من كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن. معنى الْفِتْنَة وللفتنة وُجُوه مِنْهَا الصّرْف عَنِ الشَّيء وَمِنْه هَذَه الْكَلِمَة، وأفتنته مثل حزنته، وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أنَّ من قَالَ: فتنته أَرَادَ جعلت فِيهِ فتْنَة، وَمن قَالَ: أفتنته أَي جعلته فاتنًا، يُقَالُ وَفتن الرَّجُل فَهُوَ فاتن، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَزعم الْخَلِيل أنَّكَ حَيْث قلت فتنته وحزَنته لَمْ تُرِدْ أنَّ تَقول جعلتُه دَاخِلا، وَلَكِنَّك أردْت أنَّ تَقول جعلتُ فِيهِ حُزْنًا وفتنة، فَقلت فتْنَة كَمَا قلت كحلته جعلت فِيهِ كُحلا، ودهنته جعلت فِيهِ دُهْنًا، وَقَالَ الْجرمي: سَمِعت أَبَا زَيْدُ يَقُولُ: حَزَنَني الْأَمر حُزْنًا وحَزْنا وَأَنا حَزِين ومَحْزون، وَهَذَا مثل: جريح ومجروح وقتيل ومقتول، وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: كلهم يَقُولُ: أحزنني الْأَمر فَإِذا صَار إليَّ يفعل فَفِيهَا لُغَتَانِ، يَقُولُ قَوْمٍ: يحزنني عَلَى غَيْر قِيَاس، وَيَقُول قَوْمٍ: يحزنني عَلَى قِيَاس، وأمّا الْقُرَّاء فَلم يزدْ فِي هَذَا عَلَى أَن ذَكَرَ فِي حزن يحزن وأحزن يحزن لغتين. وَقد اخْتلفت الْقِرَاءَة فِي اللَّفْظ بِهَذِهِ الْكَلِمَة فِي الْقُرْآن، فَكَانَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي يقْرَأ لَا يحزنك الدَّين، وَإنَّهُ ليحزنك، وأيها الرَّسُول لَا يحزنك الدَّين، وَإِنِّي ليحزنني أَن تذْهبُوا بِهِ، ويستمرّ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآن كُله إِلَّا فِي قَوْله: وَلَا يحزنهم الْفَزع الْأَكْبَر، فَإِنَّهُ يضم الْيَاء فِيهِ، وأمّا نَافِع فعلى عكس هَذَا الْمَذْهَب لأنَّه ضم مَا فَتحه أَبُو جَعْفَر فِي هَذَا الْبَاب وَفتح مَا ضمه، وَكَانَ ابْن مُحَيْصِن يضم ذَلِكَ كُله، وَكَانَ الْجُمْهُور من الْقُرَّاء بعده يفتحون الْجَمِيع وَفِي استقصاء هَذِه الْمَعْنى وَذكر مَا يتَّصل لَهُ لتفريق من فرق بَيْنَ بعضه وَبَين بَعْض، والاحتجاج فِيمَا اخْتلف المقرئون فِيهِ مَوَاضِع جمة من كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن، نأتي عَلَى الْبَيَان عَنْهُ إِن شَاءَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.

من نزلت فيه هذه الآية

من نزلت فِيهِ هَذِهِ الْآيَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بن عينة، عَن أبي سعد، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا " قَالَ: هُوَ رَجُلٌ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُعْطِيَ ثَلاثَ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُ فِيهِنَّ مَا يَدْعُو بِهِ، وَكَانَ لَهُ امْرَأَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَكَانَ سَمِجَةً دَمِيمَةً، قَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي أَجْمَلَ امْرَأَةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَدَعَا اللَّهَ لَهَا، فَلَمَّا عَلِمَتْ أنْ لَيْسَ فِي بني إِسْرَائِيل أجمل مِنْهَا رَغِبَتْ عَنْ زَوْجِهَا وَأَرَادَتْ غَيْرَهُ، فَلَمَّا رَغِبَتْ عَنْهُ دَعَا اللَّهَ أَن يَجْعَلهَا كلبة نباحة، وَذَهَبت عَنهُ دَعْوَتَانِ، فَجَاءَ بَنُوهَا وَقَالُوا: لَيْسَ بِنَا عَلَى هَذَا صَبْرٌ أَنْ صَارَتْ أُمُّنَا كَلْبَةً نَبَّاحَةً يُعَيِّرُنَا النَّاسُ بِهَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يردهَا إِلَى الْحَال الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلا، فَدَعَا اللَّهَ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَذَهَبَ فِيهَا الدَّعَوَاتُ الثَّلاثُ فَسُمِّيَتِ الْبَسُوسَ وَقِيلَ: أَشْأَمُ مِنَ الْبَسُوسِ. قَالَ أَبُو الفَرَج: الْمَشْهُور عِنْدَ أَهْلَ السّير وَالْأَخْبَار أنَّ البسوس الَّتِي يُقَالُ من أجلهَا أشأم من البسوس، النَّاقة الَّتِي جرى فِيمَا جرى من أمرهَا حَرْب داحس والغبراء، وَالْمَعْرُوف من قَول جُمْهُور أَهْلَ التَّأْوِيل أنَّ قَوْله: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا " عَنَى بِهِ بلْعَم بْن بَاعُورَاء الَّذِي دَعَا للجبارين عَلَى مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل، وَقَالَ بَعضهم: نزلت فِي أُميَّة بْن أبي الصَّلْت، وَلكُل وَاحِد من هذَيْن الَّذِي سميناهما حَدِيث طَوِيل وَقد جَاءَ الْخَبَر الَّذِي وَصفنَا مَا حكينا وَالله أعلم. وَفِي هَذَا الْخَبَر، قَالَ: وَكَانَت سمجة بِكَسْر الْمِيم مثل بطرة، وَحكى سِيبَوَيْهٍ عَنِ الْعَرَب: رَجُل سَمْج بتسكين الْمِيم مثل سَمْح، وَقَالَ: فَقَالُوا: سميح كقبيح، قَالَ: وَلم يَقُولُوا سمح وَإِن كَانَت الْعَامَّة قَدْ أولعت بِهِ. وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: يعيّرنا النّاس بهَا، الفصيح من كَلَام الْعَرَب: عيرت فلَانا كَذَا، وأمّا عيرته بِكَذَا فلغة مقصِّرة عَنِ الأولى فِي الاشتهار والفصاحة، وَإِن كَانَتْ هِيَ الْجَارِيَة عَلَى أَلْسِنَة الْعَامَّة، وَمن اللُّغَة الأولى قَول النَّابِغَة: وعَيّرتْنِي بَنو ذُبْيان رهبتهُ ... وهَلْ عليَّ بِأَن أخشاك من عَارِ وَقَالَ المتلمس: يُعيِّرني أميِّ رجالٌ وَلَا أرى ... أخَا كرمٍ إِلا بِأَن يَتَكرَّمَا وَقَالَ المقنّع الْكِنْديّ فِي اللُّغَة الْأُخْرَى: يعرني بِالدّينِ قومِي وَإِنَّمَا ... تدانيت فِي أشياءَ تكسبهمْ مَجدا أَقْوَال حكيمة عَنْ بَعْض الْعلمَاء والأعراب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه، قَالَ: سَمِعت

المجلس الثالث

أَعْرَابِيًا يَقُولُ: فَوْتُ الْحَاجة خيرٌ من طلبَهَا من غَيْر أَهلهَا، قَالَ الْأَصْمَعِي: وَسمعت آخر يَقُولُ: حمْلُ الْمِنَن أثقلُ من الصَّبْر عَلَى العَدَم. قَالَ: وَسمعت آخر يَقُولُ: النزاهة أشرف من سرُور الْفَائِدَة، قَالَ: وَبَلغنِي أنَّ ابْن عَبَّاس يَقُولُ: كَمَا يتُوخى بالوديعة أَهْلَ الثِّقَة وَالْأَمَانَة فَكَذَلِك يَنْبَغِي أَن يتوخى بِالْمَعْرُوفِ أَهْلَ الْوَفَاء وَالشُّكْر. قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا يضاهيه وَمَا يُخَالِفهُ أَخْبَار وَكَلَام لَعَلَّنَا نأتي بِهِ فِيمَا يسْتَقْبل من كتَابنَا هَذِه إِن شَاءَ اللَّه. وأنشدنا ابْن دُرَيْد، قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم رَأَيْتُ الدهرَ بالأحرارِ يَكْبُو ... وَيرفعُ رَايَةَ القَوْمِ اللِّئامِ كأنَّ الدهرَ موتورٌ حقودٌ ... فيطلبُ وِتْرَه عِنْدَ الْكِرَامِ قَالَ: وأنشدنا أَبُو حَاتِم أَيْضا: أَظنُّ الدَّهْر أَقْسَمَ ثُمَّ برَّا ... بِأَن لَا يكْسِبَ الأمْوَالَ حرَّا لَقَدْ قَعَد الزَّمانُ بكلِّ حرٍّ ... وَنَقّض من قواه مَا استمرا الْمجْلس الثَّالِث هَذَا فِي سَبِيل اللَّه حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ إِمْلاءً فِي يَوْمِ الأَحَدِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ الرَّبِيعِ الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، فَقَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا يَمِينًا وَشِمَالا ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ " ثُمَّ قَرَأَ " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عَن سَبيله ". قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَهذا القَوْل من النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتمثيل من أبين الْأَقْوَال البليغة وأفصحها، وأرصن الْأَمْثَال البليغة المضروبة الصَّحِيحَة وأوضحها، وَذَلِكَ أَنه خطّ خَطًّا جعله مثل الصِّرَاط فِي استقامته إِذْ لَا زيغ فِيه وَلَا ميل، ثُمَّ خطّ خُطُوطًا يمنة وشأمة آخذة فِي غَيْر سَمْته وجهته، تفرَّق بِمن سلكها واتبعها عَنِ السَّبِيل الَّتِي هِيَ سَبِيل الْهدى، والنجاة من مُرْديات الْهوى، وَبِهَذَا جَاءَ وحيُ الله وتنزيله فِي كِتَابه الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه، قَالَ: جَلَّ ذكره: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ " فدلّ هَذَا عَلَى مثل مَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَة الَّتِي تَلَاهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء " وَقَالَ: " فتقطعوا

عزل الحجاج بن يوسف عن الحرمين

أَمرهم بَينهم زمراً كُلُّ حِزْبٍ، بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ " فِي كثير ممّا يضاهي هَذَا الْمَعْنى، والسبيل الطَّرِيق. وَقَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَر حِين خطّ الْخط " هَذَا سَبِيل اللَّه " يحْتَمل أَن يكون إِشَارَة إِلَى الْخط فَذَكَرَ، إِذْ الخطُّ مُذَكّر، وَجَائِز أَن تكون الإِشارة فِيهِ إِلَى السَّبِيل فَذكره إِذْ الْعَرَب تذكِّر السَّبِيل وتؤنثه، وَقد جَاءَ التَّنْزِيل باللغتين، على أَن مِنْهُ من يذكر الطَّرِيق وَمِنْهُم من يؤنثه وَكَذَلِكَ الصِّرَاط، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّذْكِير: " وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يتخذوه سَبِيلا " وَذكر أَنَّهَا فِي قِرَاءَة أُبَيِّ بْن كَعْب لَا يتخذها ويتخذها بالتأنيث وَقَالَ فِي التَّأْنِيث: " وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ "، وَقَالَ: " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة " والتذكير والتأنيث كثيرٌ مَوْجُود فِي الْكتاب وَالسّنة كَقَوْل النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَوْلَا أَنَّهُ سَبيلٌ آتٍ وَحَتْمٌ مَقْضِيّ " وَفِي أشعار الْعَرَب وَسَائِر كَلَامهَا، والتأنيث أَكثر، وَأنْشد أَبُو عُبَيْدة: فَلا تَجْزَعْ فكلُّ فَتَى أناسٍ ... سَيُصْبِحُ سَالِكًا تِلْكَ السّبِيلا وأمّا قَول الله " ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين " فقد أَتَت القراءةُ فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ مَعًا، أَعنِي التَّذْكِير والتأنيث، فَكَانَ من قَرَأَ بالتأنيث الحسنُ وَمُجاهد وَعبد اللَّه بْن كثير وَعبد اللَّه بْن عَامر وَأَبُو عَمْرو بْن الْعَلَاء وَأَبُو الْمُنْذر سَلام بْن الْمُنْذر، وَيَعْقُوب الحَضْرمي وَقَرَأَ ذَلِكَ بالتذكير الأَعْمَشُ وَعَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَر الْمَدَنِيّ وَعبد الرَّحْمَن بْن هُرْمز الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع " وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرمين " أَي لتتبينها يَا أَيهَا النَّبِي وتستوضحها، وَالتَّاء فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة للمخاطبة وَلَا دلَالَة فِيهَا عَلَى تذكير وَلَا تَأْنِيث، والسبيل مَنْصُوبَة بِالْفِعْلِ، وَقد اخْتلفت الْقِرَاءَة أَيْضا فِي كسر " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا " وَفتحهَا وتخفيفها وتشديدها وَفتح الْيَاء من صِرَاطِي وإسكانها، فَقَرَأَ بِكُل وَجه من هَذِهِ الْوُجُوه أئمةٌ من قراء الْأَئِمَّة، فَمن قَرَأَ وَأَن هَذَا بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد فِي أنَّ وصراطي بِإِسْكَان الْيَاء أَبُو جَعْفَر وَابْن هُرْمُز الْأَعْرَج وَشَيْبَة وَنَافِع وَعَاصِم وَأَبُو عَمْرو، وَمِمَّنْ قَرَأَ بِكَسْر إِن وتشديدها وتسكين يَاء صِرَاطِي عَبْد اللَّه الأَعْمَشُ، وَطَلْحَة بْن مصرف وَالْكسَائِيّ عَلَى الِابْتِدَاء، وَمِمَّنْ قَرَأَ بِفَتْح الْهمزَة وتخفيفها وَفتح يَاء صِرَاطِي عَبْد اللَّه بْن أبي إِسْحَاق الحضرميّ وَعبد اللَّه بْن عَامر وَقَرَأَ أَبُو الْمُنْذر سَلام: وأنّ بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد وصراطيَ بِفَتْح الْيَاء، وَقَرَأَ وَأَن بِالْفَتْح والإسكان لياء الصراطي يَعْقُوب الحضْرميّ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج وبهذه الْقِرَاءَة أَقرَأ، وهين وَسَائِر مَا قدمنَا ذكره من الْقرَاءَات فِي هَذِهِ الْآيَة صَوَاب عندنَا صَحِيح مَعْنَاهُ لدينا، وَقد تقْرَأ بِهِ وتراه مُسْتَقِيمًا حَسَنًا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه، وَترى مختاري الْقِرَاءَة بِهِ مصيبين، ولسبيل الْحق متبعين، وَبِاللَّهِ ذِي الطول وَالْقُوَّة والحول نستعين. عزل الحَجَّاج بْن يُوسُف عَنِ الْحَرَمَيْنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بْن يحيى،

قَالَ: حَدثنِي عمرَان بن عد الْعَزِيز بْن عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف الزُّهْرِيّ قَالَ: لمّا وَلِي الحَجَّاج بن يُوسُف الْحَرَمَيْنِ، بعد قتل عبد الله بن الزبير استحضر إِبْرَاهِيم بن طَلْحَة بن عبيد الله وقربه فِي الْمنزلَة فَلم يزل على حَاله عِنْده، حَتَّى خرج إِلَى عبد الْملك زَائِرًا لَهُ فَخرج مَعَه فعادله لَا يتركُ فِي بره وإجلاله وتعظيمه شَيْئا، فَلَمّا حضر بَاب عَبْد الْملك حضر بِهِ مَعَه، فَدخل عَلَى عَبْد الْملك فَلم يبْدَأ بِشَيْء بَعْدَ السّلام إِلَّا أنَّ قَالَ: قدمت عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِرَجُل الْحجاز، لَمْ أدع لَهُ وَالله فِيهَا نظيرًا فِي كَمَال الْمُرُوءَة وَالْأَدب والديانة، وَمن السّتْر وَحسن الْمَذْهَب وَالطَّاعَة والنصيحة، مَعَ الْقَرَابَة وَوُجُوب الْحق: إِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَقد أحضرتُه بابك لتسهّل عَلَيْهِ إذنك وتلقاه ببشرك وَتفعل مَا تفعل بِمِثْلِهِ مِمَّن كَانَتْ مذاهبه مثل مذاهبه، فَقَالَ عَبْد الْملك: ذَكّرَتْنا حَقًّا وَاجِبا ورحما قَرِيبا، يَا غُلَام ائْذَنْ لإِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قرّبه حَتَّى أجلسه عَلَى فرشه، ثمَّ قَالَ لَهُ: يَا ابْن طَلْحَة! إنَّ أَبَا مُحَمَّد أذْكرنا مَا لَمْ نَزَلْ نعرفك بِهِ من الْفضل وَالْأَدب وَحسن الْمَذْهَب، مَعَ قرَابَة الرَّحِم وَوُجُوب الْحق، فَلا تَدَعَنَّ حَاجَة فِي خاصِّ أَمرك وَلَا عامّته إِلَّا ذكرتها، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إنَّ أولى الْأُمُور أنَّ تفتتح بهَا حوائج وترجى بهَا الزُّلف مَا كَانَ لله عَزَّ وَجَلَّ رضَا، ولحقّ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَدَاء، وَلَك فِيهِ ولجماعة الْمُسلمين نصيحة، وَإِن عِنْدِي نصيحة لَا أجد بدًّا من ذكرهَا وَلَا يكون البوح بهَا إِلَّا وَأَنا خَال، فأخْلنِي تَردُ عَلَيْكَ نصيحتي، قَالَ: دون أبي مُحَمَّد؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُم يَا حجّاج، فَلَمّا جَاوز السّتْر قَالَ: قل يَا بن طَلْحَة نصيحتك، قَالَ: الله أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: اللَّه، قَالَ: إِنَّك عَمَدت إِلَى الحَجَّاج مَعَ تغطرسه وتعترسه، وتعجرفه وَبعده عَنِ الْحق وركونه إِلَى الْبَاطِل، فوليته الْحَرَمَيْنِ، وَفِيهِمَا من فيهمَا، وَبِهِمَا من بهما من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، والموالي المنتسبة الأخيار، أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبْنَاء الصَّحَابَة، يسومهم الْخَسْف، ويقودهم بالعسف، وَيحكم فيهم بِغَيْر السّنة، ويطؤهم بطغام أَهْلَ الشَّام، ورعاع لَا روية لَهُمْ فِي إِقَامَة حق، وَلَا إزاحة بَاطِل، ثُمَّ ظننتَ أنَّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنك وَبَين اللَّه يُنجيك، وَفِيمَا بَيْنك وَبَين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخلصك إِذَا جاثاك للخصومة فِي أمته، أما وَالله لَا تنجو إِلَّا بِحجَّة تقيمن لَك النجَاة، فابق عَلَى نَفسك أَوْ دع، فقد قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلّكُمْ راعٍ وَكُلكم مَسْئولٌ عَنْ رَعيته " فَاسْتَوَى عَبْد الْملك جَالِسا وَكَانَ مُتكئا، فَقَالَ: كذبت - لعَمْرو اللَّه - ومنْتَ وَلُؤُمت فِيمَا جئتَ بِهِ، قَدْ ظنَّ بك الحَجَّاج مَا لَمْ يجد فِيك، وَرُبمَا ظُنَّ الْخَيْر بِغَيْر أَهله، قُم فَأَنت الْكَاذِب المائن الْحَاسِد، قَالَ: فَقُمْت وَالله مَا أبْصر طَرِيقا، فَلَمّا خلّفت السّتْر لَحِقَنِي لاحقٌ من قبله، فَقَالَ للحاجب: احْبِسْ هَذَا، أَدخل أَبَا مُحَمَّد للحجاج، فَلَبثت مَلِيًّا لَا أَشك أَنَّهُمَا فِي أَمْرِي، ثُمَّ خرج الْآذِن فَقَالَ: قُم يَا ابْن طَلْحَة فَادْخُلْ، فَلَمّا كُشِفَ لِيَ السِّتر لَقِيَنِي الحَجَّاج وَأَنا دَاخل وَهُوَ خَارج فاعتنقني وَقبل مَا بَيْنَ عَيْني، ثُمَّ قَالَ: إِذَا جزى

عمر رضي الله عنه يتمثل بشعر

الله المتحابين بِفضل تواصلهم فجازاك الله أفضل مَا جزى بِهِ أَخا، فوَاللَّه لَئِن سلمتُ لَك لأرفعنَّ ناظرك، ولأعْلِيَنّ كعبك، ولأتبعَنّ الرِّجَال غُبار قدمك، قَالَ: فَقلت: يَهْزأ بِي، فَلَمّا وصلتُ إِلَى عَبْد الْملك أدناني حَتَّى أجلسني مجلسي الأوّل، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْن طَلْحَة لَعَلَّ أحد من النّاس شاركك فِي نصيحتك؛ قَالَ: قلت: لَا وَالله، وَلَا أعلم أحدا كَانَ أظهر عِنْدِي مَعْرُوفا وَلَا أوضح يدا من الحَجَّاج، وَلَو كنت محابيًا أحدا بديني لَكَانَ هُوَ، وَلَكِن آثرت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالْمُسْلِمين، فَقَالَ: قَدْ علمت أنَّكَ آثرت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَلَو أردْت الدُّنْيَا لَكَانَ لَك بالحجاج أمل، وَقد أزلتُ الحَجَّاج عَنِ الْحَرَمَيْنِ لمّا كرهتُ من ولَايَته عَلَيْهِمَا، وأعلمته أنَّكَ استنزلتني لَهُ عَنْهُمَا استصغارًا لَهما، ووليته العراقين لما هُنَا من الْأُمُور الَّتِي لَا يَرْحَضُها إِلَّا مثله، وأعلمته أنَّكَ استدعيتني إِلَى التَّوْلِيَة لَهُ عَلَيْهِمَا استزادة لَهُ ليلزمه من ذِمَامك مَا يُؤدي بِهِ عني إِلَيْكَ أجر نصيحتك، فَاخْرُج مَعَه فَإنَّك غَيْر ذامٍّ صحبته مَعَ تقريظه إياك ويدك عِنْدَهُ، قَالَ: فخرجتُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَة. قَالَ أَبُو بَكْر بْن أبي الْأَزْهَر: يَرْحَضُها يَعْنِي يغسلهَا، قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: الرحض: الْغسْل، وَمِنْه سميت الأخلية المراحيض، وَجَاء فِي خبر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ذكرت فِيهِ الْخُرُوج إِلَى الْأَقْضِيَة للْحَاجة وَذَلِكَ قَبْلَ أَن يتَّخذ النّاس المراحيض، وَمن ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ وَقد سُئِلَ عَنِ الطَّبْخ فِي قدور الْمُشْركين " أرْحِضُوها بِالْمَاءِ: وَمن ذَلِكَ الرُّحَضَاء فِي الْحمى وَذَلِكَ حِين يعرق صَاحبهَا، كَمَا قيل فِيهَا الثُّؤَبَاء من التثاؤب، والْمُطَواء من التمطي، والْعُرُواء إِذَا أعرت، من قَوْلهم عر يعرو، وَقيل لَهَا رُحَضَاء إِمَّا لِأَن العَرَق مؤذِنٌ بانصرافها فَكَأَنَّهُ أماطها وغسلها، وَإِمَّا لِأَن المحموم إِذا عرق شبه بالمغتسل بِالْمَاءِ، وَقَول عَبْد الْملك لإِبْرَاهِيم بْن طَلْحَة فِي هَذَا الْخَبَر: أعلمتَ الحَجَّاج فِي موضِعين، كَلَام غير خَارج على طَرِيق الصِّحَّة وَالتَّحْقِيق، وَذَلِكَ لِأَن الْإِعْلَام هُوَ إِلْقَاء الشَّيء الصَّحِيح الَّذِي يَقع بِمِثْلِهِ الْعِلْم للملقَى إِلَيْهِ، فَأَما مَا لَا حَقِيقَة لَهُ فَلا يُقَالُ أعلمت أحدا بِهِ، وَلَو كَانَ أخبرتُه مَكَان أعلمته لَكَانَ الْكَلَام مُسْتَقِيمًا، لِأَن الْمعلم لَا يكون إِلَّا محقًا، والْمُخْبر قَدْ يكون محقًّا ومبطلا، أَلا ترى أنَّ رَجُلا لَوْ قَالَ لعبيده: من أعلمني مِنْكُمْ بقدوم زَيْدُ فَهُوَ حُرّ، فَقَالَ لَهُ قَائِل مِنْهُم: قَدْ قَدِمَ زَيْدُ وَهُوَ كَاذِب، لَمْ يعْتق، وَلَو كَانَ قَالَ: من أَخْبرنِي مَكَان من أعلمني لعتق هَذَا الْمخبر، وَكَذَلِكَ لَوْ أخبرهُ مخبر بِهَذَا مِنْهُم بَعْدَ أَن يقوم الْعلم لَهُ لَمْ يعْتق، لِاسْتِحَالَة إِعْلَام من قَدْ عَلَمُ، وَلَو أخبرهُ لعتق لصِحَّة إِخْبَار الْمخبر بِمَا كَانَ قد أخبر بِهِ. عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يتَمَثَّل بِشعر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، عَنْ يُونُس، قَالَ: جَاءَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إِلَى بَاب عُمَر بْن الخَطَّاب فَسَمعهُ وَهُوَ يتَمَثَّل فِي بَيته: وَكَيف مُقَامِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ... قضى وطراً مِنْهَا جَمِيلُ بْن مَعْمَرِ

كلمات مأثورة

قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: ويروي كَيْفَ ثُوائي بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا يرفأ! من بِالْبَابِ؟ قَالَ: عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف، قَالَ: ادْخِله، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: أسمعت؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: إنّا إِذَا خلونا فِي مَنَازلنَا قُلْنَا مَا يَقُولُ النّاس. قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: هَذَا جميل بن مُعَمَّر الْجُمَحي من مَسْلَمَة الْفَتْح، قُتل عَلَى عهد عُمَر، وَلَيْسَ بجميلِ بْن عَبْد اللَّه بْن مُعَمَّر الْعُذري الشَّاعِر. كَلِمَات مأثورة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا حريز بن أَحْمد بن داؤد، قَالَ سَمِعت الْعَبَّاس بْن الْمَأْمُون قَالَ: سَمِعت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون يَقُولُ: قَالَ لي عليّ بْن مُوسَى الرِّضَا: ثلاثةٌ توكّل بهَا ثَلَاثَة، تحاملُ الْأَيَّام عَلَى ذَوي الأدوات الْكَامِلَة، واستيلاء الحرمان على الْمُقدم فِي صَنعته، ومعادة الْعَوَامِّ لأهل الْمعرفَة. من زَهْد رجال الحَدِيث حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن قَاسم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مَسْروق الْكِنْدي الْكُوفِي، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن الْمُنْذر الْكِنْديّ - قَالَ: وَكَانَ جارًا لعبد اللَّه بْن إِدْرِيس قَالَ: حج الرشيد وَمَعَهُ الْأمين والمأمون فَدخل الْكُوفَة فَقَالَ لأبي يُوسُف: قل للمحدثين يَأْتُونَا يحدثونا، فَلم يتَخَلَّف عَنْهُ من شُيُوخ الْكُوفَة إِلَّا اثْنَان عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس وَعِيسَى بْن يُونُس، فَركب الْأمين والمأمون على عبد الله بن إِدْرِيس فحدثهما بِمِائَة حَدِيث، فَقَالَ الْمَأْمُون لعبد اللَّه: يَا عَمِّ! أتأذنُ لي أَن أعيدها عَلَيْك وَمن حِفْظِي؟ قَالَ: افْعَل، فَأَعَادَهَا كَمَا سَمعهَا فَكَانَ ابنُ إِدْرِيس من أهل الْحِفْظ يَقُول: لَولَا أنّني أخْشَى أَن ينفلتَ مني الْقُرْآن مَا رويتُ الْعلم، يعجب عَبْد اللَّه من حفظ الْمَأْمُون، وَقَالَ الْمَأْمُون: يَا عَمِّ! إِلَى جنب مسجدك دارٌ إِن أَذِنت لَنَا اشتريناها ووسعنا بهَا المَسْجِد، فَقَالَ: مَا بِي إِلَى هَذَا حَاجَة قَدْ أَجْزَأَ من كَانَ قبلي وَهُوَ يُجْزِئُنِي، فَنظر إِلَى قرح فِي ذِرَاع الشَّيْخ فَقَالَ: إِن مَعَنَا متطبين وأدوية، أتأذن لي أَن يجيئك من يعالجك؟ قَالَ: لَا، قَدْ ظهر بِي مثل هَذَا وبَرَأ، فَأمر لَهُ بِمَال وجائزة فَأبى أَن يقبلهَا وَصَارَ إِلَى عِيسَى بْن يُونُس فحدثهما، فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَأبى أَن يقبلهَا فَظن أَنه استقلها، فَأمر لَهُ بِعشْرين ألفا، فَقَالَ عِيسَى: لَا وَلَا إهليلجة وَلَا شربة مَاء عَلَى حَدِيث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَو مَلَأت لي هَذَا المَسْجِد ذَهَبًا إِلَى السّقف، فانصرفا من عِنْدِهِ. من الشّعْر الْحَكِيم حَدَّثَنَا القَاسِم بْن دَاوُد بْن سُلَيْمَان أَبُو ذرّ القراطيسي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن: إِذَا لَمْ تتسامحْ بالأمور تعقدتْ ... عَلَيْكَ فسامحْ وامزج الْعُسْر بالْيُسْرِ فَلم أرَ أوقى للبلاءِ من التُّقَى ... وَلم أر للمكروه أشفى من الصَّبْرِ

المجلس الرابع

الْمجْلس الرَّابِع إِن من الشّعْر حكما حَدثنَا أَحْمد بن إِسْحَق بْنِ بُهْلُولٍ إِمْلاءً فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا، وَإِنَّ أَصْدَقَ بَيْتٍ تَكَلَّمَتْ بِهِ الْعَرَبُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ " مَذْهَب للمؤلف فِي الصَّغِير قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: هَذَا الْبَيْت الَّذِي حَكَاهُ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَائِله من الشُّعَرَاء هُوَ للبيد بْن ربيعَة، افْتتح بِهِ كلمة فَقَالَ فِي أَولهَا: أَلا كُلُّ شيءٍ مَا خَلا اللَّهُ بَاطلُ ... وكلُّ نُعَيْم لَا محالةَ زائلُ وَبعده: وكلُّ أناسٍ سَوف تدخلُ بَينهم ... دويْهيةٌ تصفرُّ مِنْهَا الأنامل وَقد روى أنَّ عُثْمَان رضوَان اللَّه عَلَيْهِ، لمّا سمع قَوْله: وكل نُعَيْم لَا محَالة زائل، قَالَ كذب، نُعَيْم أَهْلَ الْجنَّة لَا يَزُول، وَهَذَا القَوْل من عُثْمَان يدل عَلَى أنَّ مَذْهَب الْقَوْم فِي الْعُمُوم هُوَ جارٍ فِي لغتهم عَلَى الشُّمُول عِنْدَ تجرده واستغراق الْجِنْس بِإِطْلَاق لَفظه. وأمّا قَول لبيد فِي الْبَيْت الآخر: دُويهية عَلَى التصغير، فَمن النّاس من يَقُولُ هُوَ تصغيرٌ مَعْنَاهُ التَّكْبِير، وجعلهُ مثبتو الأضداد فِي اللُّغَة من الأضداد، وَقَالَ بَعضهم: بل هُوَ عَلَى تصغيره، وَإِنَّمَا أُرِيد بِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الصَّغِير مِنْهُ يبلغ هَذِه الْمبلغ، ويؤثر هَذِه الْأَثر فكبيره أعظم وأبلغ، وَلِي فِي هَذَا مَذْهَب استخرجته بنظري، وَمَا علمت أحدا سبقني إِلَيْهِ وَلَا تقدَّمني فِيهِ، وَلَكِن اللَّه الَّذِي يُؤْتي الْحِكْمَة من يَشَاء نبهني عَلَيْهِ، وَهُوَ أنَّ الِاسْم المصغر فِي ذَاته وَقلة أَجْزَائِهِ فالْحُجَيرة الصَّغِيرَة الَّتِي لَيْسَ حجرَة كَبِيرَة، وأمّا الْمُتَعَلّق بِشَيْء يسير فكقولك: أَتَيْتُك قُبيل الْعَصْر أَوْ بُعيد الْفجْر، فَتبين أنَّ الْمُتَقَدّم من الزَّمَان فِي قَوْلك قبيل يسير قَلِيل، والمتأخر مِنْهُ فِي قَوْلك بعيد قصير لَيْسَ بطويل، وَنَحْو هَذَا قديديمة وريئة فِي قُدَّام ووراء يجْرِي الْأَمر فِيهِ من جِهَة الْأَمْكِنَة مجْرَاه فِيمَا قدمْنَاهُ من بَاب الْأَزْمِنَة كَمَا قَالَ الشَّاعِر: قديديمةُ التّجريبِ والحْلمِ أنّني ... أرى غفلاتِ العيشِ قَبلَ التّجارِبِ فَظن من قَالَ إنَّ التصغير فِي هَذَا الْبَاب تَكْبِير لمّا رَأَى أنَّ الْقَصْد من قَائِله الْإِشْعَار بِأَمْر عَظِيم وخَطْب كَبِير جسيم، وَلَو تَأمل هَذَا الظانُّ الأمرَ فِي هَذَا لبان لَهُ أنَّ الصّغير عَلَى صغره، فَإِنَّهُ نتج كَبِيرا وَأدّى إِلَيْهِ عَظِيما فِي نَفعه أَوْ ضَرَره، وكل وَاحِد من الْأَمريْنِ عَلَى حَقِيقَته فِي نَفسه، وخصوصيته فِي جنسه، فالدُّوَيْهِية هُنَا صَغِيرَة جَرَّت أمرا كَبِيرا، كَمَا قَالَ: ربَّ كبيرٍ هَاجهُ صغيرٌ ... وَفِي البُحُور تغرقُ النُّحورُ

وَقَول الْقَائِل من الْمُحدثين: لَا تحقرنَّ سُبَيْبًا ... كم جَرَّ أمرا سُبَيْبُ وَكَانَ بَعْض من يتعاطى الْأَدَب، ويدأب فِي طلب الْمعَانِي واستنباط لطيفها سمع مني معنى مَا ذكرته فِي هَذَا الْفَصْل، بَعْدَ أنَّ طعن على من قدمت لَهُ الْحِكَايَة عَنْهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ: كَيْفَ يكون الصّغير كَبِيرا؟ وَإِذا جَازَ هَذِه جَازَ مِنْهُ أَن يَصح قَول من قَالَ: الدَّاء هُوَ الدَّوَاء السقم هُوَ الشِّفَاء، وَهَذَا ممّا عبرت عَنْ مَعْنَاهُ بلفظي دون لفظ الْمُتَكَلّم بِهِ، لأنني لَمْ أصمد لحفظه، وَلِأَنَّهُ كَانَ غَيْر بليغ فِي نَفسه وَلَا مُسْتَقِيم فِي ترتيبه، فجليت مَعْنَاهُ بِلَفْظ لَمْ آل فِي إيضاحه وتهذيبه. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: إِن الَّذِي اجتبيتُه فِي هَذَا غَيْر مُخَالف لِلْقَوْلِ الثَّانِي الَّذِي قَدَّمْتَ حكايته عَنْ قَائِله، فَكَانَ من جوابي لهَذَا الْقَائِل أَن قلت لَهُ: إِن الْفرق بَيْنَ قولي وَقَول من رغبت عَنْ قَوْله وتسبقني إِلَى مُوَافَقَته، أنَّ هَذَا الَّذِي حكيت قَوْله، يزْعم أنَّ الصّغير الْمَذْكُور إِذَا جر إِلَى ضَرَر فكبيره أبلغ فِي الضَّرَر مِنْهُ، وَأَنا ذهبت إِلَى أنَّ هَذَا التصغير يُؤثر تَأْثِيرا كَبِيرا من حَيْث كَانَ جنسه يُؤثر نفعا أَوْ ضُرًّا بكيفيته دون كميته، وَضربت لهَذَا الْمُخَاطب مثلا قربت هَذا الْفَصْل عينه حِين بَعْدَ عَنهُ إِدْرَاكه، إِذَ كَانَ الْفرق بَيْنَ هذَيْن الْقَوْلَيْنِ لطيفًا جدا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا من بَعْض الْوُجُوه تناسب وَشبه تقَارب. فَقلت لَهُ: لمّا كَانَ من الْأَشْيَاء مَا يكون عِنْدَ قَلِيل أَجْزَائِهِ مَنْفَعَة جسيمة أَوْ مضرَّة عَظِيمَة، كالدرياق والسم بولغ فِي الْعبارَة عَنِ الْمَنَافِع بهَا لاشتهار هَذَا الْمَعْنى، كَقَوْل الْحُبَابِ بْن الْمُنْذر: " أَنَا جُذَيْلُها الْمُحَكّك وعُذَيْقها الْمُرَجّب "، وَفِي الْإِخْبَار عَنِ الْجِنْس الضار قَول لبيد: دويهية تصفر مِنْهَا الأنامل، وَجُمْلَة الْفَصْل بَيْنَ قولي وَقَول من خالفته وتوهمت أَنِّي وافقته أَنَّهُ عني بالكمية وعنيت بالكيفية، وَقد يكون من الْأَشْيَاء مَا يُؤثر قَلِيله، وينتفي تَأْثِيره عَنْ كبيره، كالجروراء من الْحَيَّات والصرد والقرقس والبعوض من الْجِنْس الْوَاحِد، وكنوع من الْحَيَّات ذَوَات الْأَجْسَام اللطيفة وعظيم ضررها، وقُصور الْحَيَّة الْكَبِيرَة الْمُسَمَّاة الحَفّاث فِي ذَلِكَ عَنْهَا وَإِن كَانَتْ أعظم خلقا وأشنع منْظرًا، وَقد قَالَ أَهْلَ الْعلم بصناعة الطِّبّ: إِن السقمونيا ينْتَفع بتناول مِقْدَار فِيهِ يسيرٌ ذَكرُوهُ، ويقاربه فِي النَّفْع والضر مَا قاربه من الْأَجْزَاء فِي الْمبلغ وَالْقدر، وَأَنه إِذَا بلغ من الْكَثْرَة مِقْدَارًا متفاوتًا لَمْ يَضْرُر كَبِير ضَرَر، وَلم يظْهر فِي أَخذه مَا يظْهر بتناول قَلِيله من الْأَثر فِي نفع وَلَا ضَرَر، وَلَقَد حَدَّثَنِي بَعْض متفقهي الْقُضَاة أنَّ قوما دسوا كثيرا من السقمونيا فِي بَعْض المطاعم الحلوة لرجل كَانُوا يعاشرونه، وَكَانَ مَعْرُوفا بِكَثْرَة الْأكل، وَأَنه أكل جَمِيعه وَانْصَرف عَنْهُمْ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم، وَأَشْفَقُوا على هَذِه الرجل، وَعَلمُوا عَلَى الفحص عَنْ أمره واستعلام خَبره، فَجَاءَهُمْ يتأوه وَيَقُول لَهُمْ: أَي شَيْءٍ أطعمتموني فقد عرض لي قَوْلُنَج بَرّح بِي. وأمّا قَول هَذَا الْمُخَاطب لي:

كَيْفَ يكون الدَّاء دَوَاء والسقم شِفَاء؟ فَإِن هَذَا قَدْ يُوجد معنى وَيسْتَعْمل لفظا، وَقد ظهر لعامة النّاس وخاصتهم أنَّ الدَّاء الْمُسَمّى خمار الْعَارِض عَن الشَّرَاب الْمُسكر يشفى مِنْهُ شرب شَيْءٍ ممّا تولد الْخمار عَنْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وصَرْعَةِ مخمورٍ رفعت بقرقفٍ ... وَقد صرعتَني قَبْلَ ذَلِكَ قرقفُ فَقَامَ يداوي صرعتي متعطفًا ... وَكنت عَلَيْهِ قبلهَا أتعطف يموتُ ويحيا تَارَة بَعْدَ تَارَة ... وتُتلفنا هَذِي المدام وتخلف إِذَا مَا تسلقنا من الكأس سلوة ... تقاضى الْكرَى مِنْهَا الَّذِي نتسلف وَقَالَ آخر: تداويتُ من لَيْلَى بليلي من الْهوى ... كَمَا يَتَدَاوى شاربُ الخمرِ بالخَمْرِ وَقَالَ أَبُو نواس: دع عَنْكَ لومي فَإِن اللومِ إغراءُ ... ودَاوِني بِالَّتِي كانتْ هِيَ الدَّاء أَخذه من قَول الْأَعْشَى: وكأسٍ شربتُ عَلَى لَذّةٍ ... وَأُخْرَى تداويتُ مِنْهَا بهَا لكَي يعلمَ الناسُ أَنِّي امرؤٌ ... أتيتُ الْمَعيشَة من بَابهَا وَقَالَ جرير: يَرْمِين من خلَلِ السُّتور بأعينٍ ... فِيهَا السِّقام وبُرْءُ كلِّ سقيمِ وَكنت فِي الحداثة أنشأت كلمة مسمطة عَلَى نَحْو قصيدة مدرك الشَّيْبَانيّ فِي عَمْرو النَّصْرَانِي فَكَانَ ممّا ذكرتُه فِي كلمتي هَذِهِ عِنْدَ صفة عين إِنْسَان نَعته ونسبتُ الْكَلِمَة بِهِ: سُقم أَوَى أحسن عين تطرفُ ... تَقْوى بِهِ والقلوبُ تُضْعِفُ كالسم فِي الأفعى تَقِي وتحتفُ ... تَحْيا بِهِ وبالنفوس تتْلف ثُمَّ قلت: دواءُ من أقصده بسُقمه ... تكراره نَحْو مَرَامي سهمهِ كالأفعوان يُشْتفى من سُمِّهِ ... بشُرب درياقِ كربهِ لَحْمِهِ وَقلت أَيْضا من كَلمته: وشفائي بسقم مُقْلة ظبيٍ ... قَدَّ قلبِي مِنْهُ بِأَحْسَن قَدِّ سُقمها لي شفاءُ دائِي إِذا ... جَادَتْ وداءٌ إِذَا تصدَّتْ لصدِّ وَأَنا أسْتَغْفر اللَّه من مساكنة مَا يشغل عَنْ عِبَادَته، وَمِمَّا يضارع مَا وَصفنَا فِي هَذَا الْفَصْل من وَجه، قَول ابْن الرُّومِي: عَيْني لعينك تُبْصِرُ مقتلُ ... لكنّ عينكَ سَهْمُ حتفٍ مُرْسَلُ وَمن العجائِبِ أنَّ مَعْنىً وَاحِدًا ... هُوَ مِنْك سهمٌ وَهُوَ مِنِّي مقتل

وَلَيْسَ بمنكر أَن يكون الشَّيء يُدْوِي شَيْئا وَيُدَاوِي غَيره، وَينْتَفع بِهِ فِي بَعْض ويستضر فِي بَعْض. وَهَذَا أفشى وَأكْثر وَأبين وَأظْهر من أَنْ نحتاج إِلَى الإطناب فِي شَرحه وَضرب الْأَمْثَال لَهُ، وَقد حُكيَ ممّا يدْخل فِي هَذَا الْبَاب أنَّ بَعْض المترفين أسَفّ إِلَى طَريقَة المتصوفة، واستشرف لصحبتهم والاختلاط بهم وملابستهم، فَشَاور فِي هَذَا بَعْض مشيختهم فردّه عَمَّا تشوف إِلَيْهِ من هَذَا وحذّره من التَّعَرُّض لَهُ. فَأَبت نَفسه إِلَّا إِجَابَة مَا جذبته الدَّوَاعِي إِلَيْهِ وعطفته الخواطر عَلَيْهِ، فَمَال إِلَى فريق من هَذِهِ الطَّائِفَة فعلق بهم واتصل بجلتهم، ثُمَّ صحب جمَاعَة مِنْهُم مُتَوَجها إِلَى الْحَج فعِجز فِي بَعْض الطَّرِيق عَنْ مسايرتهم وَقصر عَنِ اللحاق بهم فَمَضَوْا وتخلّف عَنْهُمْ، واستند إِلَى بَعْض الأميال إِرَادَة الاسْتِرَاحَة من الإعياء من الكلال، فَمر بِهِ الشَّيْخ الَّذِي شاوره فِيما حصل فِيهِ قَبْلَ أَن يتسنّمه فَنَهَاهُ عَنْهُ، وحذره مِنْهُ، فَقَالَ هَذَا الشَّيْخ مُخَاطبا لَهُ يَقُولُ: إنَّ الَّذِينَ بخيرٍ كنتَ تذكرُهُمْ ... قَضَوا عَلَيْكَ وعنهم كنتُ أنهاكا فَقَالَ لَهُ: فَمَا أصنع الْآن؟ فَقَالَ لَهُ: لَا تَطْلُبَنَّ حَيَاة عِنْدَ غيرهمُ ... فَلَيْسَ يُحييك إِلَّا مَنْ توفاكا واستقصاء هَذَا الْبَاب وَمَا يضاهيه ويتشعب مِنْهُ يطول، وَلَا يَلِيق بِهَذَا الْمجْلس الزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَقد يتَّجه فِي التصغير أَن يكون أَتَى بِهِ تَنْبِيها عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي صَغِيرا ثُمَّ ينمى فَيصير كبيراًن أَوْ أَن يضامّه غَيره فَيصير قَلِيله كثيرا، كَمَا قيل: ربّ كَبِير هاجه صغيرُ وكما قيل: وَلَا تَحْقِرَنَّ سُبَيْبًا ... كم جَرَّ أمرا سُبيب وَقيل: رُبَّ محنةٍ حدثت عَنْ لَحْظَة، وَرب حَرْب جنُيت من لَفْظَة. وَقد قَالُوا: الْقَلِيل إِلَى الْقَلِيل كثير، والذود غل الذود إبل وَقد يمْلَأ القطرُ الإنَاء فيُفْعَمُ وَالشَّر تَحْقِره وَقد يَنْمى، وَقد يُفْني الجزءُ بَعْدَ الْجُزْء الْجُملةَ، وَالشَّيْء يتبع بعضه بَعْضًا، وَقد يُؤَدِّي انْقِطَاع الحبَّة من السلك إِلَى انْقِطَاع سَائِر مَا فِيهِ، وَنزع الْحجر من سور أَوْ جِدَار يُؤَدِّي إِلَى تهافت بَاقِيه، وَقد قَالُوا: الْعَصَا من الْعُصَيَّة، وَفَسرهُ بَعضهم أنَّ الْفَرد ينْبت وينشأ لينًا صَغِيرا، ثُمَّ ينمى فيستطيل ويغلظ ويشتد ويصلب. وَقيل: بل الْمَعْنى إِن الْعَصَا نتجت من أمهَا العصية، والعصا هِيَ الدَّابَّة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَصيرٌ عَلَى جَذِيمة بركوبها عِنْدَ ظُهُور عَلامَة ذكرهَا، إِذ كَانَتْ عَلَى حد من الْإِحْضَار والسرعة والإهذاب، والجودة تفضل بِهِ مَا هُوَ من جِنْسهَا، وَقد يكون الْكثير من الْقَلِيل، والْجُمَّارُ من الفَسيل والفَنِيق من الفصيل.

المحارب الشجاع

الْمُحَارب الشجاع حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاذِ خَلَف بْن أَحْمَد الْمُؤَدب، عَن أبي إِسْحَق الزيَادي، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُل من الْعَرَب قَالَ: كَانَ بَيْننَا وَبَين قَوْمٍ حَرْب فلقونا فهزمناهم فَإِذا فَتى مِنْهُم قد صَبر فَجعل لَا يحمل عَلَى نَاحيَة من معسكرنا إِلَّا كشفها وهزمها، ثُمَّ احتويناه بأرماحنا فأشفقنا عَلَيْهِ فعرضنا عَلَيْهِ الْأمان. فَقَالَ: أذلَّ الحياةِ وذلَّ الْمَمَات ... وكُلا أرَاهُ طَعَاما وبيلاً فَإِن كَانَ لَا بُد من وَاحِد ... فسِيري إِلَى الْمَوْت سيرا جميلا ثُمَّ حملنَا عَلَيْهِ فقتلناه فَإِذا هِيَ امْرَأَة. حُسْن الظنّ بِاللَّه حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِم بْن دَاوُد أَبُو ذَر القراطيسي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن: أنَّ وَزِير الْملك نَفَاهُ الْملك لموجده وجدهَا عَلَيْهِ فَاغْتَمَّ لذَلِك غمًا شَدِيدا فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَة فِي بَيت لَهُ إِذْ أنْشدهُ رَجُل كَانَ مَعَه: أَحْسِنِ الظَّنَّ بربٍّ عَوَّدّكْ ... حَسَنًا بالْأَمْس وسَوّى أَوَدَكْ إِنَّ ربّا كَانَ يَكْفِيك الَّذِي ... كَانَ بالْأَمْس سيكفيك غَدَك تَعْلِيق على خبر هَكَذَا فِي الْخَبَر إِذ أنْشدهُ فَبينا هُوَ، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يُنكر الْإِتْيَان باذ فِي هَذَا الْبَاب ويستخطئ الْقَائِل: بَينا أَنَا جَالس إِذْ أقبل فلَان وَيرى أَن الْكَلَام صَحِيح: بَينا أَنَا جَالس أقبل فلَان، وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ وَغَيره من أَهْلَ الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ يرَوْنَ ذَلِكَ جَائِزا، وَقد جَاءَ فِي الْكَلَام وَالْأَخْبَار كثيرا، وَإِذ من حُرُوف المفاجأة الدَّالَّة عَلَيْهَا. الجليس الصَّالح حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المَنْصُورِيّ، عَنِ القثمي، عَنْ مبارك الطَّبَريّ، قَالَ: سَمِعت أَبَا عُبَيْد اللَّه، يَقُولُ سَمِعت الْمَنْصُور يَقُولُ للمهدي: يَا أَبَا عَبْد اللَّه لَا تجْلِس مَجْلِسا إِلَّا ومعك فِيهِ رَجُل من أَهْلَ الْعلم يحدثك، فَإِن مُحَمَّد بن مُسلم بْن شهَاب قَالَ: إِن الحَدِيث ذَكَرَ يُحِبهُ الذُّكُور من الرِّجَال ويكرهه مؤنثوهم، قَالَ الْمَنْصُور: صدق أَخُو بني زهرَة. وَقَالَ آخر: إِن المشيبَ وَمَا بدا فِي عَارِضِي ... صَرَفَ الغواني فانصرفتُ كَرِيمًا وسخوتُ إِلَّا عَنْ جليسٍ صالحِ ... حسنِ الحديثِ يزيدُني تَعْلِيما قَالَ القَاضِي: وَلَقَد سئمتُ مآربِي ... فَكَأَن طيِّبُها خبيثُ إِلَّا الحديثُ فإنّه ... مثل اسْمه أبدا حَدِيث

من أين لك هذه الجبة

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد الْخُزَاعِيّ الْأَزْهَرِي: قَالَ: دخلت إِلَى سُرّ من رَأَى فَقيل إنَّ بهَا رَجُلا يكنى أَبَا الفَضْل وَيعرف بِالْعَبَّاسِ بْن أبي العبيس بْن حمدون النديم، لَهُ أدب وَمَعَهُ ظرْف وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى مثلك يعاشره، فَاكْتُبْ إِلَيْهِ أبياتًا فَكتبت إِلَيْهِ: أَبَا الفَضْل يَا من لَيْسَ تُحْصَى فضائلهُ ... وَمن مَاله فِي الْخلق خَلْقٌ يعادله أتقبل خِلا جَاءَ يتبعُ شَوْقَه ... إِلَيْكَ عَلَى عَلَمُ بأنك قَابله يرحّل عَنْكَ الْهم عِنْدَ حُلُوله ... ويُلهيك بالآداب حِين تساجله يكسِّر طمح الْعين من لحظاته ... ويغمض مِنْهُ الجفن حِين تخاتله ويشربُ مَا تَسْقيه غَيْر مماكس ... إِلَى أَن يُرى وَالرَّأْس تهتز مائله فَحِينَئِذٍ تُثْنَى إِلَى الْبَاب رجلُه ... وَإِن لَمْ يكن بِالْبَابِ مَا هُوَ حامله فَكتب إليَّ فِي جوابها من سَاعَته: أَتَانَا مقَال أوجب الشُّكْر حامله ... وَدلّ عَلَى فضلِ الَّذِي هُوَ قَائِله ومكّن ودَّاً قَبْلَ تمكينِ رؤيةٍ ... وَمن قبلُ مَا لاحت بِذَاكَ مخايِله سنقبلُ مَا أهداه من صفو بره ... ونبذل مِنْهُ فَوق مَا هُوَ باذله ونقصد أسبابَ التهاجر بَيْننَا ... فنقطعها مذمومة ونواصله فَإِن دَامَ دُمنا لَمْ نرد بَدَلا بِهِ ... وَإِن زَالَ عَنْ عهد فلسنا نزايله وَتَحْت هَذِهِ الأبيات: تفضل - جُعِلْتُ فدَاك - بالمصير إِلَيْنَا من ساعتك، فصرت إِلَيْهِ فَوَجَدته فَوق الْوَصْف، فَلم نزل نتعاشر طول مُقامي هُنَاكَ إِلَى أَن انحدرت. من أَيْنَ لَك هَذِهِ الْجُبَّة؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْن الخليع، قَالَ: كُنَّا فِي حَلقَة فجاءنا أَبُو نواس وَعَلِيهِ جُبَّة خَز، فَقُلْنَا لَهُ: من أَيْنَ لَك هَذِهِ الْجُبَّة؟ فكتمنا، فترجمنا خَبَرهَا حَتَّى وَقع لَنَا أَنَّهَا من جِهَة مؤنس بْن عِمْرَانَ بْن جَمِيع، فانسللتُ من الْحلقَة وصرت إِلَى مؤنس فَوجدت عَلَيْهِ جُبَّة خَز جَدِيد، فَقلت لَهُ: كَيْفَ أَصبَحت يَا أَبَا عِمْرَانَ؟ فَقَالَ: بِخَير، صبحك اللَّه بِخَير، فَقلت: إِن لي حَاجَة فرأيك فِيهَا ... أَنَا فِيهَا وَأَنت لي سيان فَقَالَ: اذْكُرْهَا عَلَى بركَة اللَّه، فَقلت: جُبَّة من جبابك الْخَزّ كَيْمَا ... لَا يراني الشتَاء حَيْث يراني فَقَالَ: بِسم اللَّه خُذْهَا، وخلعها فلبستها وَرجعت إِلَى الْحلقَة، فَقَالَ لي أَبُو نواس من أَيْنَ لَك هَذِهِ الْجُبَّة؟ قلت: من حَيْث جبتك. يستعيذ بِاللَّه من السّبْع حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل الخصيب، قَالَ: كَانَ

المجلس الخامس

جميل بْن مُحَمَّد بْن جميل إِذَا أَرَادَ الرّكُوب فِي كلّ غَدَاة يَقُولُ: اللَّهُمّ إِنِّي أعوذ بك من السّبْع، فَقيل لَهُ: أَنْت تركب إِلَى الكَرْخ، فَأَي سبْعٍ فِي الكرخ، فَقَالَ: لَوْ أردتُ ذَلِكَ لَقلت: السّبُع، وَلَكِنِّي أستعيذ من سبْعٍ خِصَال، فَأَقُول: اللَّهُمّ إِنِّي أعوذ بك من السّبْع وأضمرها، وَهِي اللَّهُمّ إِنِّي أعوذ بك من السَّعْي الخائب، والبربخ العائب، والحائط المائل، والميزاب السَّائِل، ومشحمات الروايا، والمطايا الَّتِي تحمل البلايا، والتهور فِي البلاليع والركايا. قَالَ القَاضِي: قَدْ تخفف الْعَرَب السّبُع فَتَقول السّبْع كَمَا يَقُولُ عجز وَعجز وَقد قرئَ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ، بتسكين الْبَاء وَجَاءَت هَذِهِ الْقِرَاءَة فِي بَعْض الرِّوَايَات عَنْ عَاصِم بْن أبي النجُود، وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر الْمِيزَاب هُوَ الَّذِي تخطئ فِي اللَّفْظ العامةُ فَتَقول مُزْراب، والميزاب مَأْخُوذ من قَوْلهم وزب المَاء يَزِبُ إِذَا سَالَ أَوْ جرى، وأمّا المزراب فَهُوَ السَّفِينَة. الْمجْلس الْخَامِس صنائع الْمَعْرُوف تقيُّ مصَارِع السوء حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِفِيُّ سَنَةَ أَربع عشرَة وثلثمائة قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ التِّنِّيسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا: " صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِ " التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر من التَّنْبِيه عَلَى فضل اصطناع الْمَعْرُوف، وَصدقَة السِّرِّ الَّتِي يُراد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بهَا، ويطمئن الْمُتصدِّق بهَا إِلَى الإِيمَان باطّلاع عَلَيْهَا وإخلاصها من الرِّيَاء الْمُبْطل لثوابها مَا يبْعَث كلّ ذِي لب نَصَحَ لنَفسِهِ وَأَرَادَ السّعادة لَهَا، والنجاة من هول عَظِيم الْمَكْرُوه بهَا، عَلَى الرَّغْبَة فِيهِ والمسابقة إِلَيْهِ، فأعظم بِالنعْمَةِ عَلَى من دَفَعه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لطاعته، ووقاه شُحَّ نَفسه " وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون " وَقد ورد فِي هَذَا الْمَعْنى من التَّرْغِيب فِي الْبر والحض عَلَى مَا فعل مَا عَاد بجزيل الْأجر وَجَمِيل الذّكر، مَا يطول شَرحه ويُتِعب جَمْعُه، مُسْنَدًا وَمَقْطُوعًا، وَمُرْسَلا وَمَوْصُولا، وَنحن نأتي بِطرف مِنْهُ كَاف لمن تشوف إِلَيْهِ، وشاف لمن أَرَادَ لنَفسِهِ الصّلاح بِهِ فمما جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنى مَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِمَامُ وَكَانَ يَجْلِسُ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَده فِي كل يَوْم خَمِيسٍ فَيَعِظُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ، فَقَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ بُكْرَةً وَاسْتَعْجَلَنِي الرَّسُولُ، فَظَنَنْتُ ذَلِكَ لأَمْرٍ حَدَثَ فَرَكِبْتُ إِذْ سَمِعْتُ وَقْعَ الْحَافِرِ، فَقُلْتُ لِلْغُلامِ: انْظُرْ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أَخُوكَ عَبْدُ الْوَهَّابِ، فَرَفَقْتُ فِي السَّيْرِ فَلَحِقَنِي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ فَقَالَ: أَتَاكَ رَسُولُ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَهَلْ أَتَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: فَفِيمَ ذَاكَ تُرَى؟ قَالَ: تَجِدُهُ اشْتَهَى خَلا

وَزَيْتًا سَوْدًا الْغَدَاةَ فَأَحَبَّ أَنْ نَأْكُلَ مَعَهُ، فَقُلْتُ: مَا أَرَى ذَاكَ، وَمَا أَظُنُّ هَذَا إِلا لأَمْرٍ قَالَ: فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ فَدَخَلْنَا فَإِذَا الرَّبِيعُ وَاقِفٌ عِنْدَ السِّتْرِ، وَإِذَا الْمَهْدِيُّ وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي الدِّهْلِيزِ جَالِسٌ، وَإِذَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَقَالَ الرَّبِيعُ: اجْلِسُوا مَعَ بَنِي عَمِّكُمْ، قَالَ: فَجَلَسْنَا ثُمَّ دَخَلَ الرَّبِيعُ وَخَرَجَ، فَقَالَ الْمهْدي: ادْخُلْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: ادْخُلُوا جَمِيعًا، فَدَخَلْنَا فَسَلَّمْنَا وَأَخَذْنَا مَجَالِسَنَا، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ: هَاتِ دوياً يَكْتُبُونَ فِيهِ، فَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ كل منا داوة وورقاً، ثمَّ الْتفت إِلَى عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: يَا عَمِّ حَدِّثْ وَلَدَكَ وَإِخْوَتَكَ وَبَنِي أَخِيكَ بِحَدِيثِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ لَيُطَوِّلانِ الأَعْمَارَ وَيُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ وَيُثْرِيَانِ الأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ فُجَّارًا " ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ الْحَدِيثَ الآخَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ لَيُخَفِّفَانِ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سوء الْحساب " فَقَالَ الْمَنْصُورُ: يَا عَمِّ الْحَدِيثَ الآخَرَ، فَقَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلِكَانِ أَخَوَانِ عَلَى مَدِينَتَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا بَارًّا بِرَحِمِهِ عَادِلا مَعَ رَعِيَّتِهِ، وَكَانَ الآخَرُ عَاقًّا بِرَحِمِهِ جَائِرًا عَلَى رَعِيَّتِهِ، وَكَانَ فِي عَصْرَيْهِمَا بنيٌ فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى ذَلِك النَّبِي أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِ هَذَا الْبَارِّ ثَلاثُ سِنِينَ، وَبَقِيَ مِنْ عُمُرِ الْعَاقِّ ثَلاثُونَ سَنَةً، فَأَخْبَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ رَعِيَّةَ هَذَا وَرَعِيَّةَ ذَلِكَ فَأَحْزَنَ ذَلِكَ رَعِيَّةَ الْعَادِلِ، وَأَحْزَنَ ذَلِكَ رَعِيَّةَ الْجَائِرِ، فَقَالَ: فَفَرَّقُوا بَيْنَ الأَطْفَالِ مِنَ الأُمَّهَاتِ وَتَرَكُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَخَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُمَتِّعَهُمْ بِالْعَادِلِ وَيُزِيلَ عَنْهُم الْجَائِرِ فَأَقَامُوا ثَلاثًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْبِرْ عِبَادِي أَنِّي قَدْ رَحِمْتُهُمْ وَأَجَبْتُ دُعَاءَهُمْ، فَجَعَلْتُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ هَذَا الْبَارِّ لِذَلِكَ الْجَائِرِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِ الْجَائِرِ لِهَذَا الْبَارِّ، قَالَ: فَرَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ وَمَاتَ الْعَاقُّ لِتَمَامِ ثَلاثِ سِنِينَ وَبَقِيَ الْعَادِلُ فِيهِمْ ثَلاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ "، ثُمَّ الْتَفَتَ الْمَنْصُورُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، حَدِّثْ إِخْوَتَكَ وَبَنِي عَمِّكَ بِحَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِرِّ، فَقَالَ جَعْفَرُ بن مُحَمَّد: حَدثنِي أبين عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَليّ ابْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْ مَلِكٍ يَصِلُ ذَا قَرَابَتِهِ وَيَعْدِلُ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِلا شَدَّ اللَّهُ مُلْكَهُ، وَأَجْزَلَ لَهُ ثَوَابَهُ وَأَكْرَمَ مَآبَهُ وَخَفَّفَ حِسَابَهُ ".

حديث الحية

حَدِيث الْحَيَّة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم بْن جَعْفَر الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن حَرْب الطَّائِي، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَر الطَّائِي قرَابَة القحاطبة من أَهْلَ جَزِيرَة مهروبان، قَالَ: حَدَّثَنَا أبان بْن عَبْد الجَبَّار، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة وَهُوَ يحدثنا إِذْ الْتفت إِلَى شيخ جنبه فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! حَدَّثَنَا حَدِيث الْحَيَّة. فَقَالَ الشَّيْخ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عتبَة، قَالَ: خَرَجَ حِمْيَريُّ بْن عَبْد اللَّه إِلَى مقصد لَهُ، فَلَمّا أقفرت بِهِ الأَرْض انسابت حَيَّةٌ بَين قَوَائِم دَابَّته فَقَامَتْ عَلَى ذَنَبها، وَقَالَت: آوني آواك الله فِي ظلّ عَرْشه، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِله، فَقَالَ لَهَا: ومم آويك؟ قَالَتْ: من عدوٍّ لي قَدْ غشيني يريدُ أَن يُقَطِّعَني إربًا إربًا، قَالَ لَهَا: وَأَيْنَ آويك؟ قَالَتْ: فِي جوفك إنَّ أردتَ الْمَعْرُوف، قَالَ لَهَا: من أَنْت؟ قَالَتْ: من أَهْلَ قَول لَا اله إِلَّا اللَّه، قَالَ لَهَا: فهاك جوفي، فصيرها فِي جَوْفه، قَالَ: فَإِذا هُوَ بفتى قَدْ أقبل وَمَعَهُ صمصامة لَهُ وَقد وَضعهَا على عَاتِقه، فَقَالَ لَهُ: أَيهَا الشَّيْخ أَيْنَ الْحَيَّة الَّتِي استظلت بكنفك وأناخت بفنائك؟ قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئا، قَالَ: عظُمت كلمة خرجت من فِيك، قَالَ: مَا جَاءَ مِنْك أعظم، تراني أَقُول مَا رَأَيْت شَيئًا، وَتقول لي مثل هَذَا؟ فولى الْفَتى مُدبرا فَلَمّا توارى قَالَت الْحَيَّة: يَا عَبْد اللَّه انْظُر هَلْ يرَاهُ بَصرك أَوْ يَأْخُذهُ طرفك؟ قَالَ: مَا أرى شَيئًا، قَالَتْ: اختر مني إِحْدَى منزلتين إِمَّا أنكث قَلْبك نكثة فأجعله رميمًا أَوْ أرث كبدك رثًا فَأخْرجهُ من أسفلك قطعا، قَالَ لَهَا: وَالله مَا كافأتني يَرْحَمُك اللَّه، قَالَتْ لَهُ: فَمَا اصطناعك بِالْمَعْرُوفِ إِلَى من لَا يعرف مَا هُوَ، لَولَا جهلك، وَقد عرفتَ الْعَدَاوَة الَّتِي كَانَتْ بيني وَبَين أَبِيك قَبْل، وَقد علمت أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَال أعطيكه وَلَا دَابَّة أحملك عَلَيْهَا، قَالَ: أردْت الْمَعْرُوف، قَالَ: فَالْتَفت فَإِذا بفيء جبل قَالَ: فَإِن كَانَ لَا بُد فَفِي هَذَا الْجَبَل، ثُمَّ نزل يمشي فَإِذا هُوَ فِي الْجَبَل بفتى قَاعد كَأَن وَجهه الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر، فَقَالَ لَهُ الْفَتى: يَا شيخ مَالِي أَرَاك مستبسلا للْمَوْت آيسًا من الْحَيَاة؟ فَقَالَ: من عدوٍّ فِي جوفي آويته من عدوه فَلَمّا صَار فِي جوفي وقص عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ لَهُ الْفَتى أَتَاك الْغَوْث، ثمَّ ضرب بِيَدِهِ إِلَى رُدْنه فَأخْرج مِنْهُ شَيئًا أطْعمهُ إِيَّاه فاختلجت وجنتاه، ثُمَّ أطْعمهُ ثَانِيَة فَوَجَدته تمخضًا فِي بَطْنه، ثُمَّ أطْعمهُ الثَّالِثَة فَرمى بالحية من أَسْفَله قَطعًا، فَقَالَ لَهُ حميري: من أَنْت رَحِمك اللَّه، فَمَا أحد عَلَى أعظم مِنَّة مِنْك؟ قَالَ لَهُ: أَو مَا تعرفنِي أَنَا الْمَعْرُوف وَأَنه اضْطَرَبَتْ مَلَائِكَة سماءٍ سماءٍ من خذلان الْحَيَّة إياك فَأوحى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إليَّ أَن يَا مَعْرُوف أغِثْ عَبدِي، وَقل لَهُ: أردتَ شَيئًا لوجهي فآتيتك ثوابَ الصَّالِحين، وأعقبتك عُقبى الْمُحْسِنِينَ ونجيتك من عَدوك. الْجَار إِذَا أَرَادَ شين جَاره حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد: قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَمِير أَخْبَرَنَا عمَارَة بْن

نادرة بين الحجاج وخارجي

عقيل، قَالَ: " كَانَ الرَّجُل فِيمَا مضى إِذَا أَرَادَ شَيْن جَاره أَوْ صَاحبه طلب حَاجته إِلَى غَيره " نادرة بَيْنَ الحَجَّاج وخارجي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عِيسَى الأَنْصَارِيّ، عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّيْميّ، قَالَ: أُتِي الحَجَّاجُ بِرَجُل مُتَّهم بِرَأْي الْخَوَارِج، فَقَالَ لَهُ الحَجَّاج: أخارجي أَنْت؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي أَنْت بَيْنَ يَدَيْهِ غَدا أذلّ مني بَيْنَ يَديك الْيَوْم مَا أَنَا بخارجي، فَقَالَ الحَجَّاج: إِنِّي يَوْمئِذٍ لذليل. وَأطْلقهُ. مَال من يَأْخُذ؟ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري: قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن صبيح، قَالَ: ولى الحَجَّاج رَجُلا من الْأَعْرَاب بَعْض الْمِيَاه، فكُسر عَلَيْهِ بَعْض خراجه فَأحْضرهُ ثُمّ قَالَ لَهُ: يَا عَدو اللَّه! أخذتَ مالَ اللَّه، قَالَ: فمالُ من آخذ؟ أَنَا وَالله مَعَ الشَّيْطَان مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة أَن يعطيني حَبَّةً مَا أَعْطَانِي. لَوْ كَانَت الْجنَّة بِيَدِهِ حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ: قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُنْذر بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَليّ، قَالَ: حَدثنَا سليم ابْن جَعْفَر الهاشميّ، عَنِ الرِّضَا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ عَليّ بن الْحُسَيْن: إِن لأستحيي من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنَّ أرى الْأَخ من إخْوَانِي فأسأل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِالْجنَّةِ وأبخل عَلَيْهِ بالدنيا، فَإِذا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَة قيل لي: لَو كَانَت الْجنَّة بِيَدِك لَكُنْت بهَا أبخل وأبخل وأبخل. جَزَاء الْإِحْسَان حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا بْن دِينَار الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الضَّحَّاك، قَالَ: حَدَّثَنِي الهَيْثَم بْن عَدِيّ، عَنْ عوَانَة، قَالَ: أَتَى الحَجَّاج بِأسَارَى من أَصْحَاب قطريّ من الْخَوَارِج فَقَتلهُمْ إِلَّا وَاحِدًا، كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَد وَكَانَ قَرِيبا لقطري، فَأحْسن إِلَيْهِ وخلَّى سَبيله، فَصَارَ إِلَى قطريّ فَقَالَ لَهُ قطريّ: عاود قتال عَدو اللَّه الحَجَّاج، فَقَالَ هَيْهَات، غَلَّ يدا مُطْلِقُها واسترقَ رَقَبَة معتقُها، ثُمّ قَالَ: أأقاتلُ الحَجَّاجَ عَنْ سُلْطانه ... بيدِ تُقرُّ بِأَنَّهَا مولاتُه إِنِّي إِذًا لأخو الدناءة وَالَّذِي ... طمَّتْ عَلَى إحسانه جهلاته مَاذَا أقولُ إِذَا وقفتُ إزاءَه ... فِي الصَّفّ واحتجّت لَهُ فَعَلاته أأقول جَار عليّ لَا، إِنِّي إِذًا ... لأحقّ من جارت عَلَيْهِ وُلاتَه وتحدث الأقوام أنَّ صنائعًا ... غرست لديّ فحنظلتْ نخلاته هَذَا وَمَا ظَنِّي بحينٍ أنني ... فكيم لمطرقُ مشهدٍ وعلاته

كرم أبي أيوب المورياني

كرم أَبِي أيّوب المورياني حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن إِسْمَاعِيل بْن هَيْثَم، قَالَ: قَالَ ابْن شُبرمة: زوجت ابْني عَلَى ألفي دِرْهَم فَلم أقدر عَلَيْهَا ففكرت فِيمَن أقصده فَوَقع فِي قلبِي أَبُو أَيُّوب المورياني فَدخلت عَلَيْهِ فشرحتُ لَهُ خَبَري فَقَالَ: فلك أَلفَانِ، فَلَمَّا نهضت لأَقوم، قَالَ: فالمهر أَلفَانِ فَأَيْنَ الجهاز؟ فلك أَلفَانِ للجهاز، فَذَهَبت لأَقوم فَقَالَ: الْمهْر والجهاز فَأَيْنَ الْخَادِم؟ فلك أَلفَانِ للخادم، فَذَهَبت لأَقوم، قَالَ: فالشيخ لَا يُصِيب شَيئًا قَالَ: فلك أَلفَانِ فَلم أزل أقوم ويقعدني حَتَّى انصرفت من عِنْدَهُ بِخَمْسِينَ ألفا. مثل يضْربهُ الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبْد الصَّمد الهاشميّ، ويزداد بْن عَبْد اللَّه بْن يزْدَاد المَرْوَزِيّ وَاللَّفْظ لَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس، قَالَ: سُئِلَ الأَعْمَشُ عَنْ حَدِيث فَامْتنعَ مِنْهُ، فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى استخرجوه مِنْهُ، فَلَمّا حدُّث لَهُ ضرب مثلا، فَقَالَ: جَاءَ قفّاف، إِلَى صيرفي بدارهم يزينه إِيَّاهَا، فَلَمّا ذهب يزنها وجدهَا تنقص سبعين، فَقَالَ: عجبتُ عَجِيبَة من ذِئْب سُوء ... أصابَ فريسةً من لَيْث غابِ فقفَّ بكفّه سبعين مِنْهَا ... تنَقّاها من السُّود الصلاب فَإِن أخدع فقد نخدع وتُؤخذْ ... عتيقُ الطير من جوِّ السحابِ تَعْلِيق نحوي قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: أسكن فِي هَذَا الْبَيْت فقد تخدع وَالْعرب إنّما تسكن هَذَا وَنَحْوه فِي كَلَامهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ جازم، وَمَتى لَمْ يدْخل عَلَيْهِ جازم يجزمه وَلَا ناصب ينصبه فتسكينه إِذَا وُصل بِكَلَام بعده خَارج عَنِ الفصيح الْمَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب، وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا مَرْفُوعا عَلَى أَصله، ولمّا لَمْ يُمكن هَذَا الشَّاعِر تحريكه لِئَلَّا ينكسر وزن الْبَيْت الَّذِي قَالَه أسْكنهُ، وَأقرب مَا يعْتَذر لَهُ بِهِ أَنه عمل عَلَى السُّكُوت عَلَيْهِ وَنِيَّته الرّفْع فِيهِ، وَقد روى مثل هَذَا الْوَجْه المستقبح فِي أَبْيَات روتها الْعلمَاء، من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر: أَقُول شُيَيْهَاتٌ بِمَا قَالَ عالمٌ ... بهنّ وَمن أَشْبَهْ أَبَاهُ فَمَا ظَلَم فَهَذَا ممّا يسْتَحق تحريكه بِالْفَتْح بِنَاء لَا إِعْرَاب، فَيُقَال: وَمن أشبهَ أَبَاهُ، وَمَا بِهَذَا الشَّاعِر ضَرُورَة إِلَى مَا أَتَاهُ لنه لَو قَالَ: وَمن يشبه أَبَاهُ فَجزم بِحرف الشَّرْط إِذ هُوَ من بَاب الْجَزَاء لَكَانَ مصيبًا مُحسنًا، وَقَالَ آخر: شَكَوْنَا إِلَيْهِ خَرَابَ السّوَادِ ... فَحَرَّمْ عَلَيْنَا لُحُومَ البَقَر فَهَذَا حمل نَفسه عَلَى هَذَا الْوَجْه للضَّرُورَة، وَلَو كَانَ قَالَ: فَحرم فِينَا لَكَانَ مصيبًا. وَقد ذَكَرَ سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه من هَذَا الْبَاب طرفا، وروُي بَيت امْرِئ الْقَيْس:

المجلس السادس

فاليَوْمَ أشربْ غَيْر مُسْتَحْقبٍ ... إِثْمًا من اللَّه وَلَا وَاغل فَأنْكر هَذَا بَعْض أَصْحَابه وَقيل: إنَّ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِيهِ فاليوم فَاشْرَبْ، أَوْ فاليوم أسْقى، وروى قَول الفرزدق: وَقد بَدَا هَنْكِ من المئرز قَالَ من أنكر هَذَا: إنّما هُوَ: وَقد بدا ذَاك، وَقد روى عَنْ أبي عَمْرو أَنَّهُ قَرَأَ بِهَذِهِ اللُّغَة فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن مِنْهَا " فَتُوبُوا إِلَى بارئكم " ويأمُرْكم، وأنلزمُكُموها، فَمن الروَاة عَنْهُ من رَوَاهُ بِالسُّكُونِ خَالِصا وَأَجَازَ فِيهِ وَفِي نَظَائِره مثل هَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: سَوف أُزَحْلِقَكِ غَدا أَوْ بَعْدَ غَدِ وروى أنَّ هَذَا أَتَى مخففًا لِكَثْرَة الحركات فِيهِ، فاحتج بَعْض أَصْحَابه بِأَن الْحُرُوف الَّتِي أسكنها مَخْصُوصَة بِجَوَاز حذف الْحَرَكَة بِمَعْنى يخصُّها دون غَيرهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الِاشْتِغَال بِهِ، وَأنكر بَعْض رُوَاة أبي عَمْرو هَذَا، وَذكر أَنَّهُ كَانَ مختلس الْحَرَكَة فيظن من لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أسكن، وَهَذَا مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ فِي تَأْوِيل هَذِهِ الْقِرَاءَة وأمّا قَول الشَّاعِر فِي الْخَبَر الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنِ الأَعْمَشُ: فقد تخدع وتُؤخذ، فَإِن قَائِله لَوْ ضم تخدع وَجزم وَتُؤْخَذ لَكَانَ قَدْ أَتَى بِوَجْه مَعْرُوف من كَلَام الْعَرَب، وَقد قَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء فِي الْقُرْآن مَا مَنْزِلَته فِي الْإِعْرَاب مَنْزِلَته، وَذَلِكَ أَن يرد الْفِعْل الثَّانِي عَلَى مَوضِع الْفَاء الدَّاخِلَة عَلَى الْفِعْل الأوّل، وَذَلِكَ قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " فَأَصدق وأكن من الصَّالِحين " فكره من قَرَأَ ذَلِكَ مُخَالفَة رسم الْمُصحف إِذْ لَا وَاو فِيهِ، وَله فِي الْعَرَبيَّة وَجه مَفْهُوم، وَمن ذَلِكَ قَول أَبُو داؤد الأيادي: فأبْلُونِي بَلِيّتكُم لَعَلِّي ... أُصَالِحَكُم فأسْتدرجْ نَوَيّا وَكَانَ أَبُو عَمْرو يخْتَار أَن يَقْرَأ وأكون بِإِثْبَات الْوَاو، وَكَانَ الْأَوْجه عِنْدَهُ فِي الْعَرَبيَّة، وَزعم أنَّ الْوَاو حذفت مِنْهُ فِي الْخط كَمَا حذفت من كلمن، وَلَيْسَ الْأَمر عندنَا عَلَى مَا ذكر فِي هَذَا فَفِي الْكَلِمَتَيْنِ فرق ظَاهر، يَقْتَضِي الْإِثْبَات حَيْث أَثْبَتَت، والحذف حَيْث حذفت، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعه من كتُبنا الْمُؤَلّفَة فِي عُلُوم تَنْزِيل الْقُرْآن وتأويله إنْ شَاءَ اللَّه. الْمجْلس السَّادِس خبأت هَذَا لَك حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُفَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبِيَةٌ، فَقَالَ لِي أَبِي مَخْرَمَةُ: اذْهَبْ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّهُ أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ فَسَمِعَ كَلامَ أَبِي عَلَى الْبَابِ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَفِي يَدِهِ قِبَاءٌ وَهُوَ يُرِي أَبِي مَحَاسِنَهُ وَيَقُولُ: خَبَّأْتُ هَذَا لَكَ.

التعليق على الحديث

التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر لَعَلَّه أَن يُعْطِينَا وَهِي لُغَة لبَعض الْعَرَب، والأسير كَلَامهَا، لَعَلَّه يُعْطِينَا بِغَيْر أَن، وَقد ذكرنَا هَذَا الْبَاب فِيمَا مضى من مجالسنا هَذِهِ وشرحنا وجْهَه وأحضرنا صورًا من شَوَاهِد الشّعْر فِيهِ، والْقِبَاء مَمْدُود، وَجمعه أقبية وَهُوَ من ملابس الْأَعَاجِم فِي الْأَغْلَب، واشتقاقه من الْجمع وَالضَّم فَقيل لَهُ قبَاء لمّا فِيهِ من الِاجْتِمَاع، وَإِمَّا بجمعه جسم لابسه وضمه إِيَّاه عِنْدَ لبسه وَمِنْه قَول سحيم عَبْد نَبِي الحسحاس: فَإِن تَهْزَئِي مِنِّي فَيا رُبَّ ليلةٍ ... تَرَكتُكِ فِيهَا كالْقِباء المفرّج وقراءُ أَهْلَ المَدِينَةِ ونُحاتُهم يُعبِّرون عَنِ المعرب والمبني الَّذِي يُسَمِّيه قراء الْعرَاق ون - اتهمَ مَرْفُوعا ومضمومًا بِأَنَّهُ مقبوء، فيشيرون بعبارتهم إِلَى الضَّم الَّذِي من بَاب الْجمع، وَقد شرحنا هَذِهِ الْجُمْلَة شرحًا وَاسِعًا فِي كتَابنَا الَّذِي شرحنا فِيهِ مُخْتَصر أبي عمر الجرِمْي فِي النَّحْو. وَقد تُسَمى الْعَرَب القباء اليملق وتجمعه يَلامق، كَمَا قَالَتْ هِنْد بن عتبَة: نَحْنُ بناتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقِ وَنَلْبَسُ اليَلامقْ وَقَالَ ذُو الرمة: تَجْلُو البَوَارِقَ عَنْ مجرمزٍ لهقٍ ... كَأَنَّهُ مُتَقَبِّي يَلْمَقٍ عَزَبِ وَذكر الْأَصْمَعِي أَنَّهُ فارسيٌّ مُعرِّب، وَأَنه فِي الأَصْل عَلَى كَلَام الْأَعَاجِم يَلْمَه، كَمَا قَالَت الْعَرَب شَبْرُق وفَالُوذَق، وَقَالَت الْعَجم: شبره وفالوذه، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مثل هَذَا ف قَول الْعَرَب اسْتَبْرق، فَإِنَّهُ فِي كَلَام الْعَجم استبره، وَقَالَ عدد من أَهْلَ الْعلم مِنْهُم أَبُو عُبَيْدة: إِن من زعم فِي الْقُرْآن شَيئًا بِغَيْر الْعَرَبيَّة فقد أَخطَأ وَأعظم عَلَى اللَّه الْفِرْية، لِأَن اللَّه تَعَالَى قَالَ: " بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبين "، وَفِي الْقُرْآن عدد من الْكَلم نسبه بَعْض أَهْلَ التَّأْوِيل إِلَى لُغَة بَعْض أُمَم الْعَجم، وَأنكر هَذَا بَعضهم، وَذهب إِلَى اتِّفَاق لغتين فِيهِ أَوْ لُغَات كثيرٌ مِنْهُم، وَهَذَا ممّا بياننا مُستَقصى فِيهِ فِي كتَابنَا الْمُسَمّى كتاب الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز، وَفِي كتاب شَيخنَا أبي جَعْفَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، الَّذِي سَمَّاهُ جَامع الْبَيَان عَنْ تَأْوِيل آي الْقُرْآن. وَفِي خبر الْمسور هَذَا، البيانُ البّيِّنُ عَنْ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يتفقد أَصْحَابه بألطافه وَصلَاته، ويشاركهم فِيمَا يسديه اللَّه إِلَيْهِ من رزق ويفيئه عَلَيْهِ من فَضله، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يسألونه عَن حَاجتهم، ويرغبون إِلَيْهِ فِي بذل الرّفد لَهُم، وَإِضَافَة الْأَمْوَال عَلَيْهِمْ، لبسطه إيَّاهُم وخفض جنَاحه لَهُم، ولظهور جوده وسعة خلقه عِنْدهم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم. الشُّعَرَاء عَلَى بَاب عُمَر بْن عبد الْعَزِيز حَدثنَا مُحَمَّد بن قَاسم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد

الرَّحْمَن الجوهريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الضَّحَّاك، قَالَ: أَخْبَرَنَا الهَيْثَم بْن عَدِيّ، عَنْ عوَانَة بن الحك، قَالَ: لمّا استُخلف عُمَر بْن عبد الْعَزِيز وَفد الشُّعَرَاء إِلَيْهِ فأقاموا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ، الرحيل، إِذْ مرّ بهم رَجَاء بْن حَيْوَة. وَكَانَ من خطباء أَهْلَ الشَّام فَلَمّا رَآهُ جرير دَاخِلا عَلَى عُمَر أنشأ يَقُولُ: يَا أيُّها الرجلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ ... هَذَا زمانُك فَاسْتَأْذن لَنَا عُمَرا قَالَ: فَدخل وَلم يذكرْ من أَمرهم شَيئًا، ثُمَّ مر بهم عَدِيّ بْن أَرْطَأَة، فَقَالَ لَهُ جرير: يَا أيُّهَا الراكبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَه ... هَذَا زَمانُك إِنِّي قَدْ مضى زَمَني أَبْلغْ خَليفَتَنَا إِنْ كنتَ لاقيهِ ... أَنِّي لَدَى الْبَاب كالمَصْفُودِ فِي قَرَنِ لَا تَنْسَ حاجتنا لُقِّيت مَغْفرةً ... قَدْ طَال مُكثِيَ عَنْ أَهلِي وَعَن وَطَنِي قَال: فَدخل عَدِيّ عَلَى عُمَر، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! الشُّعَرَاء ببابك وسهامهم مَسْمُومَة وأقوالهم نَافِذَة، قَالَ: وَيحك يَا عدي! مَا لي وللشعر، قَالَ: أعزَّ اللَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَد امتُدِح فَأعْطى، وَلَك فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسوت حَسَنَة، فَقَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: امتدحه الْعَبَّاس بْن مرداس السُّلَميّ فَأعْطَاهُ حُلةً قطع بهَا لِسَانه، قَالَ: أَوْ تروي من قَوْله شَيئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأنْشد: رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ البريَّةِ كُلِّها ... نشرتَ كتابا جَاءَ بالحقِّ مَعْلَما شَرعت لَنَا دينَ الْهُدي بَعْدَ جَوْرِنا ... عَنِ الحَقِّ لمّا أصبح الحقُّ مُظْلما ونورتَ بالْبُرهان أمرا مُدَنَّسا ... وَأَطْفَأت بالبرهان نَارا تَضَرّما فَمن مبلغ عني النبيَّ مُحَمَّدا ... وكلُّ أمرئ يُجزي بِمَا كَانَ قدما أَقمت سَبِيل الْحق بَعْدَ اعوجاجه ... وَكَانَ قَدِيما رُكْنه قَدْ تهدَّما تَعَالَى عُلوًّا فَوق عرش إلهنا ... وَكَانَ مَكَان اللَّه أَعلَى وأعظما قَالَ وَيحك يَا عَدِيّ! من بِالْبَابِ مِنْهُم؟ قَالَ: عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن أبي ربيعَة، قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: ثُمَّ نبهتُها فهبّتْ كِعابًا ... طفلةً مَا تبينُ رَجْعَ الكلامِ سَاعَة ثُمَّ إنّها بَعْدُ قَالَتْ ... وَيْلَتا قَدْ عجلتَ يَا ابنَ الكرامِ أَعلَى غير موعدٍ جئتَ تَسْري ... تَتَخَطى إليّ رُوسَ النيامِ مَا تجشمتَ مَا يزين من الأمْ ... رِ وَلَا جِئْت طَارِقًا لخصامِ فَلَو كَانَ عَدُوَّ اللَّه إِذْ فجر كتم نَفسه، لَا يدخلُ عليّ وَالله أبدا، فَمن بِالْبَابِ سواهُ؟ قَالَ: هَمّام بْن غَالب، يَعْنِي الفرزدق، قَالَ: أوليس هُوَ الَّذِي يَقُول: هما دلتاني من ثَمَانِينَ قامةً ... كَمَا انقضَّ بازٍ أقْتَم الريشِ كاسرُهُ فَلَمّا اسْتَوَت رجلاي بِالْأَرْضِ قَالَتَا ... أَحَي يُرَجّى أم قتيلٌ نُحاذِرُه

لَا يطَأ وَالله بساطي، فمنْ سواهُ بِالْبَابِ مِنْهُم؟ قَالَ: الأخطل، قَالَ: أُدي! هُوَ الَّذِي يَقُولُ: ولستُ بصائمٍ رَمَضَان طَوْعًا ... ولسب بآكلٍ لَحْم الأضَاحِي ولستُ بزاجرٍ عَنْسًا بكُور ... إِلَى بطحاء مكَّة للنجاح ولستُ بقائم كالعيرِ يَدْعُو ... قُبَيْلَ الصُّبْح حَيَّ عَلَى الْفَلاح وَلَكِنِّي سأشربها شمولا ... وأسجدُ عِنْدَ منبلج الصَّباح وَالله لَا يدْخل عَليّ وه وَكَافِر أبدا، فَهَل بِالْبَابِ سوى من كرت؟ قَالَ: نَعَم الْأَحْوَص، قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: اللَّه بيني وَبَين سَيِّدِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بهَا وأتّبِعُه غرِّبْ عَنْهُ، فَمَا هُوَ بِدُونِ من ذكرت، فَمن هَاهُنَا أَيْضا؟ قَالَ: جميل بْن مُعَمَّر قَالَ: يَا عَدِيّ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: أَلا لَيْتنَا نَحْيا جَمِيعًا وَإِن تَمُتْ ... يُوَافق فِي موتِي ضَرِيحي ضَرِيحُها فَمَا أَنَا فِي طولِ الْحَيَاة براغبٍ ... إِذَا قيل قَدْ سُوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُها فَلَو كَانَ عَدو اللَّه تمنى لقائها فِي الدُّنْيَا ليعْمَل بَعْدَ ذَلِكَ صَالحا، وَالله لَا يدْخل عليّ أبدا، هَلْ سوى من ذكرت أحد؟ قَالَ: جرير بْن عَطِيَّة، قَالَ: أما إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ: طَرَقتْكَ صائدةُ القلوبِ وَلَيْسَ ذَا ... حينَ الزيارةِ فارْجِعي بسلامِ فَإِن كَانَ لَا بُد فَهُوَ، قَالَ فَأذن لجرير، فَدخل وَهُوَ يَقُولُ: إِن الَّذِي بعث النَّبِي مُحَمَّدا ... جعل الْخلَافَة فِي الإِمَام العادلِ وسع الْخَلَائق عدلُه ووفاؤه ... حَتَّى ارعوى وَأقَام ميل المائلِ إِنِّي لأرجو مِنْك خيرا عَاجلا ... وَالنَّفس مولعةٌ بحب العاجلِ فَلَمّا مثل بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: وَيحك يَا جرير، اتَّقِ اللَّه وَلَا تقولن إِلَّا حَقًا، فَأَنْشَأَ جرير يَقُولُ: أأذكُر الْجُهْدَ والبَلْوى الَّتِي نَزَلَتْ ... أم قَدْ كَفَانِي مَا بُلِّغْتَ من خَبَري كَمْ باليمامةِ من شَعْثَاءَ أرملةٍ ... وَمن يتيمٍ ضعيفِ الصَّوتِ والنظرِ مِمن يعدُّك تَكْفِي فقدَ والدهِ ... كالفرخ فِي الْعُشِّ لَمْ يَنْهَض وَلم يَطرِ يَدْعُوك دعة ملهوفٍ كَأَن بِهِ ... خَبَلا من الْجِنِّ أَوْ مَسًّا من النشرِ خليفةَ اللَّهِ مَاذَا تأمُرُون بِنَا ... لَسْنا إِلَيْكُم وَلَا فِي دَار منتظر مَا زلتُ بعدَك فِي هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي ... قَدْ طَال فِي الحَيِّ إصْعَادي وَمُنْحَدِرِي لَا ينفع الحاضِرُ المجهودُ بادِيَنَا ... وَلا يعودُ لَنَا بادٍ عَلَى حَضِرِ إِنَّا لنرجُو إِذَا مَا الغيثُ أَخْلَفَنَا ... من الْخَلِيفَة مَا نرجو من المَطَرِ

المؤنث المعنوي

نَالَ الْخلَافَة إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر هذي الأرامل قَدْ قَضَّيْت حاجَتَها ... فمَنْ لحاجةٍ هَذَا الأرمل الذَّكَرِ الخيْر مَا دمتَ حَيًّا لَا يفارقنَا ... بُوركْتَ يَا عُمَر الخَيْرَاتِ من عمرِ فَقَالَ: يَا جرير! مَا أرى لَك هَاهُنَا حَقًا، فَقَالَ: بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَنَا ابْن سَبِيل ومنقطع بِي، فَأعْطَاهُ من صلب مَاله مائَة دِرْهَم، وَقد ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وَيحك يَا جرير! لَقَدْ ولينا هَذَا الْأَمر وَمَا نملك إِلَّا ثلثمِائة دِرْهَم، فمائة أَخذهَا عَبْد اللَّه وَمِائَة أَخَذتهَا أم عَبْد اللَّه، يَا غُلَام أعْطه الْمِائَة الْبَاقِيَة، قَالَ: فَأَخذهَا وَقَالَ: وَالله لهي أحب مِمَّا اكتسبته إليَّ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاء: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: مَا يسوءكم، خرجت من عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ يُعْطي الْفُقَرَاء، وَيمْنَع الشُّعَرَاء، وَإِنِّي لراض، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: رَأَيْت رُقَى الشَّيْطَان لَا تستفزّه ... وَقد كَانَ شيطاني من الْجِنِّ رَاقيا وَقد كتبنَا هَذَا الْخَبَر من طُرق أُخْرَى، والقصص فِيهَا مُخْتَلفَة فِي مَوَاضِع، عَلَى تَقَارُب جُمْلَتهَا ولعلنا نأتي بهَا فِيمَا يسْتَقْبل من مجَالِس كتَابنَا هَذَا إِن شَاءَ اللَّه. الْمُؤَنَّث الْمَعْنَوِيّ وَفِي هَذَا الْخَبَر مَوضِع ذَكَرَ فِيهِ الْمُؤَنَّث، وَهُوَ قَوْله: وأطفأتَ بالْبُرهان نَارا تضرما، وَيُرِيد تضرمت وَفِيه قبح فِي الْعَرَبيَّة، وَالْوَجْه الَّذِي يعتل بِهِ فِيهِ عَلَى ضعفه أَنَّهُ ممّا تأنيثه لَفْظِي غَيْر معنوي حَقِيقِيّ، وَقد أَتَى مثله فِي الشّعْر فَمِنْهُ قَول الشَّاعِر: فَلا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدَقَهَا ... وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ أَبْقَالَها فَذَكَرَ فعل الأَرْض وَهِي أُنْثَى، وَلَو قَالَ: أبقلت ابقالها لأنث وَلم يذكّر، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ تَارِكًا للهمزة، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: عُدِّي لِغَيْبَتِي أشْهُرًا ... إِنِّي لَدَى خَيْرِ المَقَاوِل وَقَالَ الْأَعْشَى: وَإِن تعهديني وَلِيَ لمةٌ ... فإنَّ الحَوَادِثَ أَوْدَى بِها قَالَ بَعضهم: أَرَادَ الْحِدْثان، وَقَالَ بَعضهم: ذكّر إِذْ لَمْ يكن التَّأْنِيث فِيهِ حَقِيقِيًّا، وَلَو قَالَ: أودت بهَا لصحّ الْإِعْرَاب واستقام الْوَزْن، إِلَّا أَنَّهُ يكون قَدْ أَتَى بِبَيْت غَيْر مردف فِي كلمة جَمِيع أبياتها مردفة، وَهَذَا عيب عِنْدَ أَهْلَ الْعلم بصناعة القوافي، وَقد تَأَول قَوْمٍ من أَهْلَ الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ قِرَاءَة من قَرَأَ " كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا " بِفَتْح الطَّاء عَلَى الْجمع، أَنَّهُ بِمَنْزِلَة قَول أبي ذُؤَيب: لَوْ أنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرِ أَحدَا ... أحْيَا أَبَاكَ لَنَا طُولُ التماديحِ وَمثله: إِذْ هِيَ أحْوَى من الرِّبِعيِّ، حاجبهُ ... والعينُ بالإِثْمِدِ الحَارِي مَكْحُول

اقطع عني لسانه

وَالصَّوَاب عندنَا من القَوْل فِي وَجه قُراءة من قَرَأَ قطعا بِالتَّحْرِيكِ أنَّ نَصبه مظلمًا عَلَى الْحَال وَالْمعْنَى من اللَّيْل فِي حَال إظلامه أَي شدَّة ظلمته، والكوفيون من النَّحْوِيين يَقُولُونَ: هُوَ مَنْصُوب على قطع النكرَة من الْمعرفَة، وَالْمعْنَى من اللَّيْل المظلم، وَفِيه موضعان شَذَّ لَفْظهمَا عَنِ الْوَجْه الْأَصَح الأعرف فِي مقاييس الْعَرَبيَّة فِي الْإِعْرَاب وَالْبناء، أَحدهمَا قَول جميل: وَأَن أمت يوافقُ فِي الْمَوْتَى بِرَفْع يُوَافق وَكَانَ سَبيله بجزمه عَلَى مَا تَقْتَضِيه الْعَرَبيَّة فِي بَاب الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَقد أَتَى مثله ممّا رُدَّ إِلَى أَصله فِي الرّفْع وَلم ينْقل بالجزاء إِلَى الْجَزْم فِي أَبْيَات من الشّعْر مِنْهَا: يَا أقرعُ بْن حابسٍ يَا أقرعُ إِنَّك إِن يُصْرَعْ أَخُوك تُصرعُ وَقد حمل قَوْمٍ هَذَا عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّك تصرع إِن يصرع أَخُوك، وَمثل هَذَا فِي بَيت جميل أَن يجْرِي عَلَى أنَّ مَعْنَاهُ: ويوافق فِي الْمَوْتَى وضريحي ضريحها إِن أمت، وَذهب آخَرُونَ فِي هَذَا إِلَى إِرَادَة الْفَاء كَأَنَّهُ أَرَادَ فتصرع ويوافق. اقْطَعْ عنِّي لسانَه حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى شَاعِرٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلالٍ: " يَا بِلالُ اقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ "، قَالَ: فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَحُلَّةً، فَذَهَبَ وَهُوَ يَقُولُ: قَطَعْتَ وَاللَّهِ لساني. أُعْطِيك بِمَا مدحتَ اللَّه حَدَّثَنَا يزْدَاد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: وحَدثني الْحزَامِي، عَنْ عَبْد اللَّه بْن وهْب الْمَصْرِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا هِشَام بْن سَعْد، عَنْ زَيْدِ بْن أسلم، قَالَ: بلغنَا أنَّ أَبَا بَكْر الصَّدِّيق رضوَان اللَّه عَلَيْهِ أَتَى بشاعر إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم فِي المَسْجِد، فَقَالَ: يُنشد يَا رَسُول اللَّه؟ قَالَ: لَا خَير فِي الشّعْر، فَقَالَ: بلَى يَا رَسُول اللَّه، فَقَالَ: فاخرجوا بِنَا إِلَى المقاعد، فأنشده مِدْحَة لله وَلِرَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعْطِيه يَا بلالُ النَّاقةَ السَّوْدَاء "، ثُمَّ قَالَ: " أُعطِيكَها لما مدحتَ اللَّهَ فأمّا مِدْحَتِي فَلا أُعْطِيك شَيئًا ". إِلَى أَي شَيْء أفْضى بهم الزُّهْد حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أبي، عَنْ أبي أَحْمَد بْن أبي الْجوَار، قَالَ: سَمِعت مضاء العابد يَقُولُ لسباع العابد: يَا أَبَا مُحَمَّد! إِلَى أَي شَيْء أفْضى بهم الزُّهْد؟ قَالَ: إِلَى الأنْس بِهِ. من الشّعْر الْحَكِيم أنشدنا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَنشدنا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أنشدنا أَبُو عُبَيْدة، قَالَ:

المجلس السابع

كَانَ الشَّعْبِيّ ينشد: أرى أُنَاسًا بأدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنعُوا ... وَلَا أَرَاهُم رَضوا فِي الْعَيْش بالدونِ فاستغْنِ بالدِّينِ عَنْ دُنيا الْمُلُوك كَمَا ... اسْتغنى الْمُلوكُ بدنياهم عَنِ الدينِ الْمجْلس السَّابِع الرّوح والفرج فِي الرِّضَا وَالْيَقِين حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّدِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي: مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ سَعْدٍ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنْ ضَعْفِ الْيَقِينِ أَنْ تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَأَنْ تَحْمَدَهُمْ عَلَى رِزْقِ اللَّهِ، وَأَنْ تَذُمَّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ الله، إِن رزق اللَّهِ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَلا يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ، إِنَّ اللَّهَ بِحِكْمَتِهِ وَجَلالَتِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَجَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ ". التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْخَبَر تنبيهٌ لِذَوي التَّمْيِيز وَحسن التفكر، والتحذير من إرضاء الْمَخْلُوق الموسوم بِالنَّقْصِ والفقر، عَلَى الْخَالِق الْمَالِك للنفع والضر، فقد قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا، وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ". وَقَالَ تَعَالَى جَدّه: " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لنا، هون مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ "، وَهَذَا ظاهرٌ فِي عقول ذَوي الفطن السليمة، كثير فِي الْكتاب وَالسّنة، يطول إحصاؤه ويتعب استقصاؤه، وَقد أَكثر الشُّعَرَاء والْبُلغاء فِي ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنى وأسهبوا، وَجمعه شاق جدا عَلَى متعاطيه، والقَدْر الَّذِي أَتَيْنَا بِهِ كافٍ فِيهِ. وَقد حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن سهل الْخُتّلي، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَاسِم بْن الْحَسَن، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: أَخْبرنِي رَجُل، قَالَ: أَنْشدني صديق لي: لَعَمْرُك مَا كلُّ التّعَطُّلِ ضَائِرًا ... وَلَا كلُّ شُغُلٍ فِيهِ للمَرْء مَنْفَعَهُ إِذَا كَانَت الأرزاق فِي الْقرب والنّوى ... عَلَيْكَ سَوَاء فاغتنم لَذَّة الدَّعَه إِذَا ضقت فاصبر يُفْرِج اللَّه مَا ترى ... أَلا كلُّ ضيقٍ فِي عواقبه سَعَهْ وُلّي فِي هَذَا الْمَعْنى أَبْيَات قُلتها قَدِيما، هِيَ: مَالك الْعَالمين ضَامِنُ رِزْقِي ... فلماذا أُملِّكُ الخَلْق رِقِّي قَدْ قَضَى لي بِمَا عليّ وماليخالقي جلّ ذكره قَبْلَ خلقي صَاحب الْبَذْل والندى فِي يساري ... ورفيقي فِي عُسْرتَي حُسْنُ رِفْقي

ما حجازية وتميمية

وكما لَا يردُّ رِزْقِي عَجْزِي ... فَكَذَا لَا يَجُر رزقِيَ حِذْقِي مَا حجازية وتميمية قَوْله فِي الأبيات الَّتِي قدمنَا إنشادها: مَا كَانَ التعطل ضائرًا، أنشدناه نصبا عَلَى لُغَة أَهْلَ الْحجاز، وهم يشبهونها بليس مَا كَانَتْ عَلَى أصل ترتيبها، وَأكْثر مَا تَأتي بِإِدْخَال الْبَاء عَلَيْهَا، كَقَوْلِك: مَا زيدٌ بقائم، وبهذه اللُّغَة جَاءَ الْقُرْآن، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " مَا هَذَا بشرا " وجَلِيٌّ أنّ من لَمْ يَنْظُر فِي الْمُصحف من بني تَمِيم يقرأونها بشرٌ عَلَى لغتهم، ذَكَرَ هَذَا سِيبَوَيْهٍ وَغَيره، ورُوي عَنْ بَعْض الْقُرَّاء " مَا هَذَا بِشَري " أَي مَا هُوَ بمُشْتَرى، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " مَا هُنَّ أمهاتهم " فنصب جُمْهُور الْقُرَّاء عَلَى اللُّغَة الحجازية إِلَّا أَن التَّاء كسرت إِذْ لَيست أصليَّة، وروى الْمفضل عَنْ عَاصِم " مَا هن أمهاتهم " على اللُّغَة التميمية، وَمِنْهَا قَول الشَّاعِر: وَيْزُعُم حسلٌ أه فرع قومه ... وَمَا أنتفرع يَا حُسَيلُ وَلا أصْل وَأنْشد الْفراء: لَشَتّانَ مَا يَنْوِي وَيَنْوِي بَنو أبي ... جَمِيعًا فَمَا هَذَانِ مُسْتَوِيَانِ تَمَنّوْا لِيَ الموتَ الّذِي يَشْعَبُ الفَتَى ... وكلُّ امرئٍ والموتُ يَلْتقيان وَقَالَ ذُو الرمة: أما نَحن رؤو دَارِهَا بَعْدَ هَذِهِ ... بَدَا الدَّهْر إِلَّا أنْ نَمُرَّ بهَا سَفْرا ابْن أبي عُيَيْنَة يعْزل وَالِي الْبَصْرَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِكْرمة عَامر بن عِمْرَانَ بْن زِيَاد، قَالَ: كَانَ إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان وَالِي الْبَصْرَة، فأساء مجاورة مُحَمَّد بْن أبي عُيَيْنَة فتباعد مَا بَينهمَا وقبح، وَكَانَ إِسْمَاعِيل ينتقصه، فَخرج مُحَمَّد بْن أبي عُيَيْنَة إِلَى طَاهِر ابْن الْحُسَيْن يشكو إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر وَيطْلب عَزله عَنِ الْبَصْرَة، فصحب طَاهِر بْن الْحُسَيْن فِي بَعْض أَسْفَاره فَأدْخل عَلَيْهِ وَرفع حَوَائِجه إِلَيْهِ وَقَالَ: من أوحشته البلادُ لَمْ يَقُم ... فِيهَا، وَمن آنسته لَمْ يَرِمِ وَمن يَبِتْ والهمومُ قادحةٌ ... فِي صَدره بالسُّهَاد لَمْ ينمِ وَمن يرى النّقْصَ فِي مواطِنه ... يَزل عَنِ النَّقْص مَوْطِئَ القَدَمِ والقربُ مِمَّن ينأى بحاجته ... صَدْعٌ عَلَى الشّعب غيرُ مُلتَئِمِ وربَ أمرٍ يعيا اللبيبُ بِهِ ... يَحَارُ مِنْهُ فِي حيرة الظُّلُم صبرٌ عَلَيْهِ كَظْمٌ عَلَى مضضٍ ... وتَرْكُه من مراتع الندمِ يَا ذَا اليمينين لَمْ أَزُرْكَ ولَمْ ... آتِك من خلةٍ وَلَا عدمِ إِنِّي من اللَّه فِي مَرَاح غِنى ... ومُغْتَدى واسعٌ وَفِي نعمِ زَارَتْكَ مِنِّي همَّةُ منازعةٌ ... إِلَى الْعُلا من مَرَاتِب الهممِ

وإنني للكبير محتملٌ ... فِي الْقدر من منصبي وَمن شيمي وَقد تعلّقت مِنْك بالذمم ال ... كبرى الَّتِي لَا تخيبُ فِي الذِّمم فإنْ أنل هِمّتي فَأَنت لَهَا ... فِي الحَقِّ حقِّ الإخاء والرَّحمِ وَإِن يَعُق عائقٌ فلستُ عَلَى ... جميلِ رأيٍ عِنْدِي بمتهمِ فِي قدر اللَّه مَا أُحَمِّله ... تعويق أَمْرِي واللوح والقلمِ لَمْ تَضَقِ السُّبْل والفجاج على ... حر كريم بالصب مُعْتَصِمِ ماضٍ كحَدِّ السنان فِي طرف ال ... عَامل أوحد مُصْلَتٍ خذمِ إِذَا ابتلاه الزَّمَان كَشَّفَهُ ... عَنْ ثَوْب حريَّة وَعَن كَرَمِ مَا سَاءَ ظَنِّي إِلَّا لوَاحِدَة ... فِي الصَّدر مَحْصورة عَنِ الكلمِ لِيَهْنَ قَوْمٌ جُزْت المَدَى بهم ... وَلم تُقَصِّر بهم وَلم تلمِ مَا تنبتُ الأَرْض كلَّ زهرتها ... وَلَا تَعُمُّ السَّمَاء بالدِّيَم وَلَيْسَت كلّ الدلاء رَاجِعَة ... بِالنِّصْفِ أَو ملئها إِلَى الوذم ترجع بالحمأة القليلة أَحْيَانًا ... ورَنْق الصُّبابة الأمَمِ مَا بِي نقصٌ عَنْ كلِّ منزلةٍ ... شريفةٍ والأمور بالقسمِ فَأَجَابَهُ طَاهِر بْن الْحُسَيْن: من تستضفه الهموم لم ينم ... غلا كنوم الْمَرِيض ذِي السقم وَلَا يزل قلبه يكابد مَا ... يُولد الْهم فِيهِ من ألم فدع أَبَا جَعْفَر بعتب مَا ... لَيْسَ التجني عَنْهُ بمنصرم وَقد سَمِعت الَّذِي هَتَفت بِهِ ... وَمَا بأذني عَنْكَ من صمم وَقد علمنَا إِن لَيْسَ تصحبنا ... لخلةٍ فِيك لَا وَلَا عدم إِلَّا لحق وَحُرْمَة وعَلى ... مثلك رعى الْحُقُوق والذمم أَنْت امْرُؤ مَا تُزال عَنْ كرم ... إِلَّا إِلَى مثله من الْكَرم وَأَنت من أسرة جحاجحة ... سادوا بِحسن الفَعال والشيم فَمَا تَرُمْ من جسيم منزلَة ... فَالْحكم فِيهَا إِلَيْكَ فاحتكم إِن كنت مستسقيًا سماحتنا ... منا تجدك السَّمَاء بالديم أَوْ ترمِ فِي بحرنا بلدوك لَا ... نعدمك ملأها إِلَى الوذم إِنَّا أنَاس لَنَا صنائعنا ... فِي الْعَرَب مَعْرُوفَة وَفِي الْعَجم

تعليق لغوي

مغتنمو كسب كلّ محمدة ... وَالْكَسْب للحمد خَيْر مغتنم فاحتكم عَلَيْهِ عزل إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر عَنِ الْبَصْرَة، فَعَزله عَنْهَا، وَأمر لِابْنِ أبي عُيَيْنَة بِمِائَة ألف دِرْهَم عونًا لَهُ عَلَى سَفَره، وَقَالَ ابْن أبي عُيَيْنَة فِي عزل إِسْمَاعِيل: لَا تعدم الْعَزْل يَا أَبَا حَسَن ... وَلَا هزالًا فِي دولة السّمن وَلَا انتقالا من دَار عَافِيَة ... إِلَّا إِلَى ديار الْبلَاء والفتن أَنَا الَّذِي إِذَا كفرت نعْمَته ... أذبتُ مَا فِي جنبيك من عُكن تَعْلِيق لغَوِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ: أَخْبرنِي الطُّوسيّ، عَنْ أبي عبيد، قَالَ: السيوز الَّتِي بَين آذان الدَّلْو والعراقي هِيَ الوذم، يُقَالُ فِيهَا: أوذمت الدَّلْو إِذَا شددتها، والخشبتان اللَّتَان تعترضان عَلَى الدَّلْو كالصليب هما العرقوتان يُقَال: عرقيت الدَّلْو عرقاة إِذَا شددتهما عَلَيْهِ. نجابة الْفَتْح بْن خاقَان حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم، قَالَ: دَخَلَ المعتصم يَوْمَا إِلَى خاقَان غرطوج يَعُوده، فَرَأى ابْنه الْفَتْح وَهُوَ صبي لم يثغر، فمازحه فَقَالَ: أَيهمَا أحسن دَاري أَوْ داركم؟ فَقَالَ لَهُ الْفَتْح: يَا سَيِّدي دَارنَا إِذَا كنت فِيهَا أحسن، فَقَالَ المعتصم: لَا أبرحُ وَالله أَوْ يُنْثَر عَلَيْهِ مائَة ألف دِرْهَم، فَفُعِل ذَلِكَ. رضَا المتجني سَمِعت عَبْد الرَّحْمَن بْن عُثْمَان الشهوري، يَقُولُ: سَمِعت ابْن اتيكين صَاحب الشرطة بِبَغْدَاد، يَقُولُ: سَمِعت ابْن الْمثنى يَقُولُ: سَمِعت بِشْر بْن الْحَارِث يَقُولُ: سَمِعت الْمُعافى بْن عِمْرَانَ يَقُولُ: سَمِعت سُفْيَان الثّوريّ يَقُولُ: رضَا المتجنِّي غايةٌ لَا تُدْرك. حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن كَامِل قَالَ: سَمِعت ناشب المتوكليَّة تغني لإِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي: أ أَنْت امرؤٌ متجنٍّ ... وَلَيْسَ بالغَضْبَانِ هَبْنِي أسأتُ فَألا ... مَنَنْتَ بالغفرانِ وَنَحْو هَذَا تما أنشدناه عَن إِسْحَاق الْموصِلِي: فَهَبْنِي أغفلت الْجَمِيل من الْأُم ... ر وساعدتُ أهلَ الغَدْرِ فِيك عَلَى الغدرِ وَلم يَك لي عذرٌ فتعذرَنِي بِهِ ... أما لِي نصيبٌ فِي التّجَاوُزِ والْغُفْرِ؟ وَنَحْوه بَعْض الْمُحدثين يَقُولُ: هبيني يَا معذبتي أسأتُ ... وبالهجران قَبْلَكُمُ بدأتُ

شعر الشاعر بمنزلة ولده

فَأَيْنَ الفضلُ مِنْكِ فدتكِ نَفسِي ... عليَّ إِذَا أسأتُ كَمَا أسأتُ شعر الشَّاعِر بِمَنْزِلَة وَلَده حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُوسَى الْبَرْمَكِي جحظة، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِد الْكَاتِب، قَالَ: قَالَ لي عليّ بن الجهم: هَبْ لي بيتَك: ليتَ مَا أصْبَحَ مِنْ ... رَقَّة خَدّيكَ بقَلْبِك قَالَ: فَقلت لَهُ: هَلْ رَأَيْت أحدا يهبُ وَلَدَهُ؟ عَدو همة ابْن أبي داؤد حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مَالك حريز بن أَحْمد بن أبي داؤد، قَالَ: قَالَ الواثق يَوْمَا لأبي تَضَجُّرًا بِكَثْرَة حَوَائِجه: يَا أَحْمَد! قَد اختلّتْ بيوتُ الْأَمْوَال بطلباتك للائذين بك والمتوسلين إِلَيْكَ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! نتائجُ شُكرها مُتَّصِلَة بك، وذخائر أجلهَا مكتوبةٌ لَك، وَمَالِي من ذَلِكَ إِلَّا عشقُ اتِّصَال الألسن بُحلْوِ المَدْح فِيك، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! وَالله لَا منعناك مَا يزِيد فِي عشقك، ويُقَوّي من همتك فِينَا وَلنَا. الْخَلِيفَة الْمَنْصُور يخلعُ ثِيَابه عَلَى شَاعِر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن خضر، عَنْ أَبِيه، قَالَ: دَخَلَ رَجُل عَلَى الْمَنْصُور فَقَالَ: أقولُ لَهُ حِين واجهتهُ: ... عَلَيْكَ السّلام أَبَا جعفرِ قَالَ الْمَنْصُور: وَعَلَيْك السّلام. فَقَالَ: فأنتَ المهذَبُ من هاشمٍ ... وَفِي الْفَرْع مِنْهَا الَّذِي يذكرُ فَقَالَ الْمَنْصُور: ذَاك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: فَهَذِهِ ثِيَابِي وَقد أُخلقت ... وَقد عَضّنِي زَمَنٌ منكرُ فَألْقى إِلَيْهِ الْمَنْصُور ثِيَابه، وَقَالَ: هَذِهِ بدلهَا. الْمجْلس الثَّامِن حَدِيث خرافة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُقَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نِسَاءَهُ حَدِيثًا، فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا حَدِيثُ خُرَافَةَ، قَالَ: " أَتَدْرِينَ مَا خُرَافَةُ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلا مِنْ عُذرة، أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فَمَكَثَ فِيهِمْ دَهْرًا ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الإِنْسِ، فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الأَعَاجِيبِ، فَقَالَ النَّاسُ: حَدِيثُ خُرَافَةَ ".

رواية أخرى للحديث

رِوَايَةٌ أُخْرَى لِلْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ سَلامَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَزْهَرَ الْحَضْرَمِيُّ الْحِمْصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الدَّرْبَنْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ صَاحِبِ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: اجْتمع عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ يَوْمًا فَجَعَلَ يَقُولُ الْكَلِمَةَ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَقَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: كَأَنَّ هَذَا حَدِيثُ خُرَافَةَ، فَقَالَ: تَدْرِينَ مَا حَدِيثُ خراف؟ وَذكر الحَدِيث. التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر قَالَ القَاضِي: عوامُّ النّاس يَرَون أنَّ قَول الْقَائِل: هَذِهِ خرافة، إنّما مَعْنَاهُ أَنَّهَا حَدِيث لَا حَقِيقَة لَهُ، وَأَنه ممّا يجْرِي فِي السّمر للتأنُّس بِهِ، وينتظم من الْأَعَاجِيب وطرف الْأَخْبَار مَا يرتاح إِلَيْهِ ويتمتع أهل الأندية بِالْإِضَافَة فِيهِ، ويقطعون أَوْقَات ندامهم بتداوله، وَأَنه أَوْ معظمه لَا أصل لَهُ، ورسولُ اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أصدق فِي كلّ مَا يخبر عَنهُ وَأعلم بِحَقِيقَة الْأَمر فِيهِ، وَأولى من رَجَعَ إِلَى قَوْله وَأخذ بِهِ، والغَيُّ مَا خَالفه، فَأَما مَا وَصفنَا من مَذْهَب الْعَامَّة فِيهِ، فَإِن الحَدِيث مُضَاف إِلَى الْجِنْس الَّذِي هُوَ جُزْء مِنْهُ، وَبَعض من جملَته ومميز لَهُ من كلّ حَدِيث لَيْسَ بِحَدِيث خرافة، كَقَوْلِهِم هَذَا ثوب خَزٍّ وخاتَم فضَّة وَبَاب حَدِيد، واشتقاقه عَلَى هَذَا القَوْل من قَوْلهم: اخترف فلَان من بستانه هَذِهِ الثَّمَرَة، وَقَوْلهمْ: هَذِهِ خَرْفة فلَان، يشار بِهِ إِلَى شَيْءٍ من الْفَاكِهَة، وَمِنْه سُمي الرّبيع الأوّل من السَّنَة خَريفًا لِأَن جُلّ الْفَوَاكِه تُخْترف فِيهِ، وَجَاء فِي الْخَبَر: أنَّ عَائِدَ الْمَرِيض فِي مَخْرفة الْجنَّة إِشَارَة إِلَى مَا يُرجى لَهُ من النَّعيم وثواب الْملك الْكَرِيم. فَقَالَ أَصْحَاب هَذا الْمَذْهَب: إِن المجتمعين عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُعْجبة الْمُلِذَّة الْمُطرفة بِمَنْزِلَة المجتمعين عَلَى مَا يُخْترف من الْفَاكِهَة الَّتِي ينالون من قِبَلها الْمُتْعَة السارة لَهُم الفائضة عَلَيْهِمْ، ويتوهم هَؤُلَاءِ أَن مُخْتَلف الْبَاطِل ومفتعل الْكَذِب بِمَنْزِلَة من أَتَى شَيئًا أَو اخترفه فِي أَنَّهُ قَدْ ظفر بِمَا يلهيه ويمتعه، وَإِن كَانَ عَلَى مَا وَصفا فِي أَصله، وَيَقُولُونَ لما لَا يحققون صِحَّته من الْأَخْبَار: هَذِهِ خرافة، وَهَذَا حَدِيث خرافة، وَقَالَ بَعْض مجان الشُّعَرَاء عجز بَيت لَهُ حكايته: حَدِيثُ خُرَافة يَا أمَّ عَمْرو وَقَالَ رَضِي الله عَنهُ مِنْهُم فِي آخر بَيت قَالَه: قَالَتْ ودَعْنِي من أَحَادِيث خرفةٍ وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة: إِذا أخلوا فأنتِ حَدِيثي ... وَذَلِكَ كالحديثِ من الْخُرَافَةْ وَأرى أنَّ قَوْلهم للْإنْسَان إِذَا أفند وَتغَير وأهتر وهجر: قَدْ خَرَّف، من هَذَا الْبَاب وَأَنه

قيل لَهُ ذَلِكَ: إِمَّا لأنَّه يتَعَلَّق بِمَا تُخَيِّلُه لَهُ وساوسُه فَيظْهر من لَفظه مَا يُنبئ عَنِ اختلاله ويعجب سامعوه مِنْهُ بضحك من خُرُوجه عَنِ الِاعْتِدَال وَالصِّحَّة، وَيَأْتِي بِأَلْفَاظ خَارِجَة عَنْ سَنَن الْحِكْمَة، وَإِمَّا لِأَن سامعيه يَطْربون تَعَجُّبًا بِمَا يُبديه ويستخرجون مِنْهُ مَا ينشطون ويرتاحون عِنْدَهُ، فكأنهم يجتنون ثَمَرَة أَوْ يخترفون فَاكِهَة، وَمن هَا هُنَا قيل: فكهت من كَذَا أَي عجبت، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَلَقَد فَكِهْتُ من الَّذين تقاتلوا ... ويم الخميسِ بِلَا سلاحٍ ظاهرِ وَمن هَذَا الأَصْل قيل للمُزَاح: فكاهة، لما فِيهِ من مسَّرةِ أَهله والاستمتاع بِهِ، قَالَ الشَّاعِر: حُزُقٌّ إِذَا مَا القَوْمُ أبْدَوْا فُكَاهَةً ... تفكراً آإياه يَعْنُونَ أمْ قِرْدًا وَقَالَ بَعْض أَهْلَ الْعلم: الْغَيْبَة فَاكِهَة الْقُرَّاء. وَقَالَ الْفُضَيْل بْن عِيَاض أَنَّهُ قَالَ: لكل شَيْءٍ ديباج، وديباج الْقُرَّاء ترك الْغَيْبَة. وَمن كَلَام الْعَرَب السائر: لَا تمازح صَبيا وَلَا تفاكهن أمة، يُرِيد: وَلَا تمازحن، وَخَالف بَين اللَّفْظَيْنِ مَعَ اتِّفَاق الْمَعْنى لأنَّه أحسن كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وقَدَّمَت الْأَدِيم لراهشيه ... وألفى قَوْلهَا كَذَّاب ومِينًا والمين: الْكَذِب، وَقَالَ آخر: أَلا حَبّذَا هِنْد وأرْضٌ بهَا هندُ ... وهندُ الَّتِي من دُونها النّأيُ والبعدُ وَمن الخريف والاختراف عَلَى مَا قدمنَا ذكره: لفُلَان مَوضِع كَذَا خرفة، أَي مقَام فِي الخريف، وَيُقَال: زمَان صَائِف وشات ورابع وقائظ، من الصَّيف والشتاء وَالربيع والقيظ، وَلم يَقُولُوا مثل هَذَا فِي الخريف، وَيُقَال فِي النّسَب: خرْفيُّ وربْعِي، كَمَا قَالَ: إِن بَنِيَّ صبيةٌ صيْفِيُّون ... أَفْلح من كَانَ لَهُ رِبْعيُّون وَمِنْه الرّبع فِي الْمَاشِيَة، قَالَ الشَّاعِر: وَلَها بالمَاطِرُونَ إِذَا ... أكل النّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خِرفة حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ من جِلّقٍ بِيَعَا فِي قبابٍ وَسْطَ دسكرةٍ ... حَوْلَها الزَّيْتُون قَدْ يَنَعَا ويروى: خرفة عَلَى مَا فسرنا، ويروى: خلفة من الِاخْتِلَاف إِلَى الْمَكَان، وَقَول اللَّه جلّ ذكره: " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا "، وَقد اخْتلف أَهْلَ التَّأْوِيل فِي تَأْوِيله، فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أنَّ مَا فَاتَ فِي أَحدهمَا قضى فِي الآخر، كَالصَّلَاةِ تفوت لَيْلًا فتُقْضى نَهَارا وتفوت نَهَارا فتقضى لَيْلًا، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَعْنى أَنَّهُ جَعلهمَا مُخْتَلفين فِي ألوانهما هَذَا أسود وَهَذَا أَبيض، وَقَالَ آخَرُونَ: إِن كلّ وَاحِد مِنْهُمَا

يخلف صَاحبه، إِذَا ذهب هَذَا جَاءَ هَذَا، وَقيل: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعل كَذَلِك لالتبس عَلَى النّاس أَمر دينهم فِي أَوْقَات صومهم وصتهم، وَقيل: إِن الخلفة مصدر وَلذَلِك وجدت، وَهِي خبر عَنِ اللَّيْل وَالنَّهَار، وَقَول زُهَيْر: بهَا العينُ والآرامَ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وأطلاؤُها يَنْهَضْنَ من كُلِّ مجثمِ يَعْنِي تذْهب مِنْهَا طَائِفَة وتحدث مَكَانهَا أُخْرَى، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ الألوان والهيئات، وَجَائِز أَن يكون أَرَادَ أَنَّهَا تذْهب كَذَا وتجيء كَذَا. وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ من أَفْكه النّاس، بِمَعْنى أَنَّهُ كَانَ يمزح، وَقد روى عَنْهُ عَلَيْهِ السّلام، أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لأمْزَح وَلَا أَقُول إِلَّا حقًّا ". وروى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤاخذ المَزَّاح الصَّادِق فِي مُزاحه ". حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّازُ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنِ أبي لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ بَغْدَادَ الصَّيْدَنَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ ابْن الضَّحَّاكِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَزَّاحًا، وَكَانَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُؤاخذ المَزَّاح الصَّادِقَ فِي مُزَاحِهِ ". قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: إنّما ذكرنَا مَا ذَكرْنَاهُ من بَاب المزاح هَا هُنَا بِحَسب مَا اقْتَضَاهُ مَا تَقَدَّمَ من كلامنا لاتصاله ومناسبته إِيَّاه، وَلذكر مَا جَاءَ فِي المزاح من الِاسْتِحْسَان والرخصة وَالنَّهْي والكراهية مَوضِع غير هَذَا. حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن نصر بْن بجير القَاضِي، قَالَ: أَخْبرنِي أَبِي عَبْد اللَّه بْن نصر بْن بجير، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عبّاد بْن مُوسَى قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو بَكْر الْهُذَلي، قَالَ: قَالَ لي الشَّعْبِيّ: أَلا أُحَدِّثُك حَدِيثا تحفظه فِي مجْلِس وَاحِد إِن كنت حَافِظًا كَمَا حفظته أَنَا، لمّا أُتي بِي الْحجَّاج وَأَنا مُقَيّد وَخرج إليَّ يزِيد بْن أبي مُسْلِم، فَقَالَ: إِنَّا لله وَمَا بَيْنَ دِفّتيك من الْعلم يَا شَعْبيُّ، وَلَيْسَ بِيَوْم شَفَاعَة، إِذَا دخلت عَلَى الْأَمِير فَبُؤْ لَهُ بالشِّرْك والنفاق عَلَى نَفسك فبالحَرَى أَن تنجو. فَلَمّا كنتُ قَرِيبا من الإيوان خَرَجَ مُحَمَّد بْن الحَجَّاج، فَقَالَ: إنّا لله وَمَا بَيْنَ دِفّتيك من الْعلم يَا شَعْبيُّ، وَلَيْسَ بِيَوْم شَفَاعَة، إِذَا دخلت عَلَى الْأَمِير فَبُؤْ لَهُ بالشِّرْك والنفاق فبالحرى أَن تنجو، فملا قُمْت بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: هِي يَا شُعبي، أكرمتُك وأدنيتُك وقَرّبتُ مجلسك ثُمَّ خرجتَ عَلَيْنَا؟ قلت: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَحْزَن بِنَا الْمنزل وأجدب الجنابُ وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الْخَوْف، ووقعنا فِي خِزْية لَمْ نَكُنْ بَرَرة أتقياء وَلَا فَجَرة أقوياء، قَالَ: صدق وَالله، مَا بَرُّوا حِين خَرَجوا وَلَا قَووا حِين فجروا، أطْلقُوا عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: تَعَهّدْني وكُنْ مني قَرِيبا، فَأرْسل إليَّ يَوْمَا نصف النَّهَار وَلَيْسَ عِنْدَهُ أحد، فَقَالَ: مَا تقولُ فِي أمٍّ وجَدٍّ وَأُخْت؟ قلت: اخْتلف فِيهَا خَمْسَة من أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَنْ؟ قلت: عليٌّ

وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعُثْمَان وَزيد بن ثَابت، قَالَ: فَمَا بَال عَليّ؟ قلت: جعلهَا سِتَّة فَأعْطى الْأُخْت النّصْف ثَلَاثَة، وَأعْطى الْأُم الثُّلُث سَهْمَيْنِ، وَأعْطى الْجد السُّدس سَهْما، قَالَ: فَمَا قَالَ ابْن مَسْعُود؟ قلت: جعلهَا أَيْضا ستَّة، وَكَانَ لَا يفضِّل أمًّا عَلَى جَد، فَأعْطى الْأُخْت النّصْف ثَلَاثَة، وَأعْطى الْأُم ثُلْثَ مَا بَقِي، وَأعْطى الْأُم الثُّلُث وَأعْطى الْأُخْت الثُّلُث وَأعْطى الْجد الثُّلُث وَأعْطى الْجد الثُّلثَيْنِ، قَالَ: فَمَا قَالَ: قَالَ عُثْمَان؟ قلت: جعلهَا أَثلَاثًا فَأعْطى الْأُم الثُّلُث وَأعْطى الْأُخْت الثُّلُث وَأعْطى الْجد الثُّلُث، قَالَ: فَمَا قَالَ زَيْدُ؟ قلت: جعلهَا من تِسْعَة فَأعْطى الْأُم الثَّلَاثَة وَأعْطى الْأُخْت سَهْمَيْنِ وَأعْطى الْجد أَرْبَعَة، جعلهَا مِنْهَا بِمَنْزِلَة الْأَخ، قَالَ: يَا غُلَام امضها عَلَى مَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان، قَالَ: إِذْ دَخَلَ الْحَاجِب فَقَالَ: إِن بِالْبَابِ رُسُلا، قَالَ: أدخلهم، فَدَخَلُوا وسُيُوفهم عَلَى عَواتقهم وعَمَائمهم فِي أوساطهم وكتبهم بأيمانهم، قَالَ: ائْذَنْ، فَدخل رَجُل من بني سُلَيم يُقَالُ لَهُ سَيّابة بْن عَاصِم، قَالَ: من أَيْنَ؟ قَالَ: من الشَّام، قَالَ: كَيْفَ أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ كَيْفَ هُوَ فِي بدنه. كَيْفَ هُوَ فِي حَاشِيَته، كَيْفَ كَيْفَ؟ قَالَ: خَير، قَالَ: كَانَ وَرَاءَك من غيث؟ قَالَ: نَعَمْ أصابتني فِيمَا بيني وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ ثَلَاث سحائب، قَالَ: فانعت كَيفَ لي كَيْفَ كَانَ وَقع الْمَطَر وَكَيف كَانَ أَثَره وتباشيره؟ قَالَ: أصابتني سَحَابَة بحوران فَوَقع قطر صِغَار وقَطْرٌ كبار، فَكَانَ الصغار لُحْمة الْكِبَار، وَوَقع سِبْطًا مُتِداركًا وَهُوَ السَحُّ الَّذِي سمعتَ بِهِ، فواد سَائل وواد نازح، وَأَرْض مقبلة وَأَرْض مُدبرَة، وأصابتني سَحَابَة بسُوان فأندت الدياث وأسالت الغَرَّار وأدحضت التلاع وصدعت عَنِ الكمأة أماكنها، وأصابتني سَحَابَة بالقريتين، فأفاءت الأَرْض بعد الرّيّ،، وامتلأت الإخاذ وأفعمت الأودية، وجئتك فِي مثل مجرِّ الضَّبع، قَالَ: ائْذَنْ، فَدخل رَجُل من بني أَسد، قَالَ: هَل كَانَ وَرَاءَك غيث؟ قَالَ: لَا، كثرت الْأَعْصَار واغبرت الْبِلَاد وَأكل مَا أشرف من الجنبة، واستيقنا أَنَّهُ عَامَ سنة، قَالَ: بئس الْمخبر أَنْت، قَالَ: أَخْبَرتك بِمَا كَانَ، قَالَ: ائْذَنْ، قَالَ: فَدخل رجلٌ من بني حنيفَة من أَهْلَ الْيَمَامَة، قَالَ: هَلْ كَانَ وَرَاءَك من غيث؟ قَالَ: سَمِعت الرواد يدعونَ إِلَى ريادتها، وَسمعت قَائِلا يَقُولُ: هَلْ أظعنكم إِلَى محطة تطفأ فِيهَا النيرَان وتَشَكّى فِيهَا النِّسَاء، وتتنافس فِيهَا المعزى، قَالَ: فوَاللَّه مَا درى الحَجَّاج مَا أَرَادَ. قَالَ: وَيحك إِنَّمَا تحدث أَهْلَ الشَّام فأفهمهم، قَالَ: أما تطفأ النيرَان فأخصب النّاس فَلا تُوقد نَار يختبز بهَا، فَكَانَ السّمن والزبد وَاللَّبن، وأمّا تشكِّي النِّسَاء فَإِن الْمَرْأَة تظل تُريق بُهمها وتَمْحض لَبنهَا فتبيت وَلها أَنِين من عَضُدَيْها كَأَنَّهُمَا ليسَا مِنْهَا، وأمّا تنافس المعزى فَإِنَّهَا ترى من أَنْوَاع الشّجر وألوان الثِّمَار ونَوْر النَّبَات مَا يُشبع بُطُونها وَلَا يُشبع عيونها، فتبيتُ وَقد امْتَلَأت كروشها، لَهَا من الكَظَّة جَرَّة، وَتبقى الجَرة حَتَّى يسْتَنْزل بهَا الدَّرَّة، قَالَ: ائْذَنْ فَدخل رَجُل من الْحَمْرَاء من الموَالِي، وَكَانَ من أَشد أَهْلَ

عود إلى خبر الشعبي مع الحجاج

زَمَانه، قَالَ: من أَيْنَ؟ قَالَ: من خُرَاسَان، قَالَ: هَلْ كَانَ وَرَاءَك من غيث؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِن لَا أحسن أَن أَقُول كَمَا قَالَ هَؤُلاءِ، قَالَ: فَمَا تحسن أَنْت؟ قَالَ: أصابتني سَحَابَة بحلوان فَلم أزل أَطَأ فِي أَثَرهَا حَتَّى دخلتُ عَلَى الْأَمِير، قَالَ: إِن كنت أقصرهم فِي الْمَطَر قصَّة، إِنَّك لأطولهم بِالسَّيْفِ خطْوَة عود إِلَى خبر الشَّعْبِيّ مَعَ الحَجَّاج وحَدثني أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الصُّوفيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن عُمَر الأقطع الرقي، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْن يُونُس، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبّاد بْن مُوسَى رَجُل من أَهْلَ وَاسِط عَنْ أبي بَكْر الْهُذلِيّ، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: أَتَى بِي الحَجَّاج موثقًا فَلَمّا انتهينا إِلَى بَاب الْقصر لَقِيَنِي يزِيد بْن أبي مُسْلِم، فَقَالَ: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون يَا شعبي لمّا بَيْنَ دفتيك من الْعلم، وذَكَرَ الحَدِيث. وروى لَنَا خبر الحَجَّاج مَعَ الشَّعْبِيّ عَلَى نَحْو مَا أَتَيْنَا بِهِ فِي هَذَا الْجُزْء من غَيْر طَرِيق، وَبَعض رواياته يخْتَلف ألفاظها وَيزِيد بَعْضهَا عَلَى بَعْض، وَأَنا أذكر هَا هُنَا طَرِيقا حضرني وَقرب مني. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان النهرواني، وَحَمْزَة بْن الْحُسَيْن بْن عُمَر أَبُو عِيسَى السِّمْسار، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور الرَّمَادِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن بهْلُول التّميميّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِر بْن نُوح الْحماني، قَالَ: حَدَّثَنِي مجَالد، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: لمّا قَدِمَ الحَجَّاج الْكُوفَة قَالَ لِابْنِ أبي مُسْلِم: اعْرِض على الْعُرَفَاء، فعرضهم عَلَيْهِ فَرَأى فيهم وحشًا من وَحش النّاس، قَالَ: وَيحك: هَؤُلاءِ خلفاء الْغُزَاة فِي عِيَالهمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اطرحْهُم واغدُ عليّ بالقبائل، فغدا عَلَيْهِ بالقبائل عَلَى رَايَاتها، فَجعلُوا يُعْرضون عَلَيْهِ فَإِذا وَقعت عينه عَلَى رَجُل دَعَاهُ، فَدَعَا بالشّعْبيِّين فمرت بِهِ السن الأولى فَلم يدع مِنْهُم أحدا، وَمَرَّتْ بِهِ السن الثَّانِيَة فدعاني، فَقَالَ: من أَنْت؟ فَأَخْبَرته؟ فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَست، فَقَالَ: قَرَأت؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ: رويت الشّعْر؟ قلت: قَدْ نظرت فِي مَعَانِيه، قَالَ: نظرت فِي الْحساب؟ قلت: نَعَمْ، فَقَالَ: لِابْنِ أبي مُسْلِم: إِنَّا لنحتاج إِلَيْهِ فِي بَعْض الدَّوَاوِين، قَالَ: رويت مغازي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: نَعَمْ قَالَ: حَدَّثَنِي بِحَدِيث بدر، قَالَ: فابتدأت لَهُ من رُؤيا عَاتِكَة حَتَّى أذِّن المؤذنّ لِلظهْرِ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَالَ: لَا تبرحْ، فَخرج فصلّى الظّهْر وأتممتُها لَهُ، فجعلني عَرِيفًا عَلَى الشّعْبييِّن ومِنْكبًا عَلَى جَمِيع هَمدان وفَرَضَ لي فِي الشّرَف، فَلم أزل عِنْدَهُ بِأَحْسَن منزلَة حَتَّى كَانَ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْأَشْعَث، فَأَتَانِي قراء أَهْلَ الْكُوفَة فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرو! إِنَّك زعيم الْقُرَّاء، فَلم يزَالُوا لي حَتَّى خرجتُ مَعَهم فَقُمْت بَيْنَ الصفين أَذْكُر الحَجَّاج وأعيبه بأَشْيَاء قَدْ علمتُها، قَالَ: فبلغني أَنَّهُ قَالَ: أَلا تعْجبُونَ من هَذَا الشَّعْبِيّ الَّذِي جَاءَنِي وَلَيْسَ فِي الشّرف من قومه، فألحقتُه بالشرف، وَجَعَلته عَرِيفًا عَلَى الشّعْبييِّن ومِنْكبًا عَلَى هَمْدان، ثُمَّ

خَرَجَ مَعَ عَبْد الرَّحْمَن يُحَرَض عليّ، أما إِنَّه لَئِن أمكن الله مِنْهُ لأجعلن الدُّنْيَا أضيف عَلَيْهِ من مِسْك جمل، قَالَ: فَمَا لبثنا أَن هُزِمْنا فَجئْت إِلَى بَيْتِي فدخلتُه وأغلقت عليّ بَابي، فَمَكثت تسْعَى أشهر الدُّنْيَا عليّ أضيقُ من مسك جَمل، فندب النّاس لخراسان، فَقَامَ قُتَيْبَة بن مُسلم، فَقَالَ: أَنا لَهَا، فعقد لَهُ خُرَاسَان وعَلى مَا غلب عَلَيْهِ مِنْهَا وَأمن لَهُ كل خَائِف، فَنَادَى مناديه: إِنَّه من لحق بعسكر قُتَيْبَةَ فَهُوَ آمن، فَجَاءَنِي شيءٌ لم يجيئني شيءُ هُوَ أسَرٌّ مِنْهُ، فَبعث بمولى لي إِلَى الْكُنَاسة، فَاشْترى لي حمارا وزودني، ثمَّ خرجت فَكنت فِي الْعَسْكَر، فَلم أزل مَعَه حَتَّى أَتَيْنَا فرغانة، فَجَلَسَ ذَاتَ يَوْمَ وَقد برّق، فنظرتُ إِلَيْهِ فعرفتُ مَا يُرِيد، فَقلت: أَيهَا الْأَمِير! عِنْدِي عَلَمُ مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: وَمن أَنْت؟ قَالَ: قلت: أعيذُك أَلا تَسَلْ عَنْ ذَاكَ، قَالَ: أَجْلِ، فَعرف أَنِّي مِمَّن يُخفي نَفسه، فَدَعَا بِكِتَاب فَقَالَ: أكتب نُسْخَة، قلت: لستُ مُحْتَاجا إِلَى ذَلِكَ، فَجعلت أمل عَلَيْهِ وَهُوَ ينظر إليَّ حَتَّى فرغتُ من كتاب الْفَتْح، قَالَ: فَحَمَلَنِي عَلَى بغلة وَأرْسل إليَّ بِسَرَقٍ من حَرِير، وكنتُ عِنْدَهُ فِي أحسن منزلَة، فَإِنِّي لَيْلَة أتعشى مَعَه إِذْ أَنَا برَسُول من الْحجَّاج بِكِتَاب فِيهِ: إِذْ نظرتَ فِي كتابي هَذَا فَإِن صَاحب كتابك عَامر الشَّعْبِيّ، فَإِن فاتك قطعت يَديك على رجلك وعَزَلْتُك، قَالَ: فَالْتَفت إليَّ فَقَالَ: مَا عرفتُك قبل السَّاعَة فَامْضِ حَيْث شِئْت من الأَرْض، فوَاللَّه لأحلفنَّ لَهُ بكلِّ يَمِين، قَالَ: قلت: أَيهَا الْأَمِير إِن مثلي لَا يَخْفى، قَالَ: فَقَالَ: أَنْت أعلم، قَالَ: فَبَعَثَنِي إِلَيْهِ مَعَ قَوْمٍ وأوصاهم بِي، وَقَالَ: إِذا نظرتم إِلَى خضراء وَاسِط فاجعلوا فِي رجلَيْهِ قيدا ثُمَّ ادخُلُوا بِهِ عَلَى الحَجَّاج، قَالَ: فَلَمّا دنوتُ من وَاسِط استقبلني ابْن أبي مُسْلِم فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرو! إِنِّي لأضنُّ بك عَلَى الْقَتْل، إِذَا دخلت عَلَى الحَجَّاج فَلَمّا رَآنِي قَالَ: لَا مرْحَبًا بك وَلَا أَهلا يَا شعبي الْخَبيث، جئتني وَلست فِي الشّرَف من قَوْمك وَلَا عَرِيفًا وَلَا مِنْكبًا، فألحقتك بالشرف وجعلتك عريفًا عَلَى الشّعْبييِّن ومِنْكبًا عَلَى جَمِيع هَمدان، ثُمَّ خرجتَ مَعَ عَبْد الرَّحْمَن تُحَرِّض عليّ؟ قَالَ: وَأَنا سَاكِت لَا أُجِيبهُ، قَالَ: فَقَالَ لي: تكلم، قَالَ: قلت: أصلح اللَّه الْأَمِير، كلّ مَا ذكرت من فضلك فَهُوَ عَلَى مَا ذكرت، وكل مَا ذكرت من خروجي مَعَ عَبْد الرَّحْمَن فَهُوَ كَمَا ذَكَرت، وَلَكنَّا قَد اكتحلنا بَعْدَك بالسهر وتَحَلّسنا الْخَوْف، وَلم نَكُنْ مَعَ ذَلِكَ بررة أتقياء وَلَا فجرة أقوياء، وَإِن حقنت لي دمي واستقبلت بِي التَّوْبَة؟ قَالَ: قَدْ حقنتُ دمك واستقبلتُ بك التَّوْبَة، قَالَ: فَقَالَ ابْن أبي مُسْلِم: الشَّعْبِيّ كَانَ أعلم مني حَيْث لَمْ يقبل مني الَّذِي قلت لَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر، وَحَمْزَة بْن الْحُسَيْن، قَالَا: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور قَالَ: سَمِعت الْأَصْمَعِي، يَقُولُ: حَدَّثَنِي عُثْمَان الشحام، قَالَ: لمّا أَتَى الحَجَّاج بالشعبي عاتبه، فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيّ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أجدب بِنَا الجَنَاب، وأحزن بِنَا الْمنزل، واستحلسنا الْخَوْف، واكتحلنا السهر، وأصابتنا خِزْية لَمْ نَكُنْ فِيهَا بررة أتقياء، وَلَا فجرة أقوياء، قَالَ: لله دَرُّك

لو حدثت أحدا لحدثتك

يَا شعَبي. قَالَ القَاضِي: وَالَّذِي ذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَر عَلَى مَا فِي الرِّوَايَة الَّتِي بدأنا بهَا ذَكَرَ الْفَرِيضَة الَّتِي سَأَلَ الْحجَّاج الشّعبِيّ عَنْهَا فأجابهن وَذكر أنَّ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتلفُوا فِيهَا عَلَى خَمْسَة أَقْوَال فَهَذَا عَلَى مَا ذكره، وَهَذِه فَرِيضَة من فَرَائض الْجد مَعْرُوفَة يسميها الفرضيون الخَرْقاء، وأصول الصَّحَابَة فِيهَا مُخْتَلفَة، فَمنهمْ من يُنْزل الجَدَّ بِمَنْزِلَة الْأَب الْأَدْنَى فَلا يُورث الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات مَعَه، وَمِنْهُم من يُعْطي الْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم أَو الْأَب فرائضهن وَيُورث الْجد بَعْدَ مَا يسْتَحقّهُ، وَهَذَا مَذْهَب عليّ وَعبد اللَّه، إِلَّا أنَّ عَبْد اللَّه لَا يفضِّل أُمًّا عَلَى جَدّ، وَقد روى عَنْهُ أنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَة من مُرَبّعاته، وَمِنْهُم من يُنزل الْجد مَعَ الْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم أَوْ من الْأَب بِمَنْزِلَة الْأَخ فِي الْمُقَاسَمَة، وَبينهمْ فِي الْقدر الَّذِي تَنْتَهِي إِلَيْهِ الْمُقَاسَمَة ويفرض للْجدّ فَرِيضَة، خلاف لَيْسَ هَذِه مَوْضِعه، وروى منع الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات الْمِيرَاث مَعَ الْجد عَنْ أبي بَكْر وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير فيعدد كثير من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من عُلَمَاء الْأَمْصَار وَالْمُسْلِمين، والى هَذَا نَذْهَب، وَبَيَانه مشروح فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي فَرَائض الْمَوَارِيث. لَوْ حدثت أحدا لحدثتك وحَدثني أَحْمَد بْن كَامِل، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن القَاسِم الْمَعْرُوف بِأبي العيناء، قَالَ: أتيت عَبْد اللَّه بْن دَاوُد الْخُرَيْبِي فَقَالَ لي: قَدْ حفظتُ الْقُرْآن، قَالَ: فاقرأ: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ "، قَالَ: فَقَرَأت الْعشْر حَتَّى أنفدتْه، قَالَ: اذْهَبْ فتعلم الْفَرَائِض، قَالَ: فَلت: قَدْ حفظت الصلب وَالْجد والْكُبْر، قَالَ: فأيما أقرب إِلَيْكَ، ابْن أَخِيك أَوْ عمك؟ قَالَ: قلت: ابْن أخي، قَالَ: وَلم؟ قَالَ: قلت: لِأَن ابْن أخي من أَبِي، وَعمي من جدي، قَالَ: اذْهَبْ الْآن فتعلم الْعَرَبيَّة، قَالَ: قلت: قَدْ علمتها قَبْلَ ذين، قَالَ: فَلم قَالَ عُمَر بْن الْخطاب حِين طعن: يَا لله للْمُسلمين، لم فتح تِلْكَ اللَّام وَكسر هَذِهِ؟ قَالَ: قلت: فتح تِلك للدُّعاء ومسر هَذِهِ للاستنصار قَالَ: لَوْ حَدّثْت أحدا لحدثتك. قَالَ القَاضِي: قلت لِابْنِ كَامِل أملّ هَذَا الحَدِيث: مَا أنصفه لِمَا أوقع بِهِ هَذِهِ المحنة، وأسرع بِمَا لَمْ يُنكره من الْإِجَابَة، بمنعهما التمس من الْفَائِدَة، فَضَحِك. قَالَ القَاضِي: هَذَا الْعشْر الَّذِي استقرأه الْخُريبي أَبَا العيناء يعرف بالصهيبي ويمتحن بِهِ من يتعاطى الْحِفْظ من الْقُرَّاء، وَله حَدِيث نذكرهُ فِيمَا يَأْتِي من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه، وأمّا اللَّام فِي الْمَوْضِعَيْنِ من هذَيْن فَإِن أَئِمَّة النَّحْوِيين من الْكُوفِيّين والبصريين رَوَوْها مَفْتُوحَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِذا قيل: يَا لَلْقوم، فَهُوَ استغاثة تُفتح فِيهِ لَام المَدْعو، وَإِذا قيل: لِلْماء فالكسر لَازم لَام المَدْعُوِّ لَهُ أَوْ إِلَيْهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أدعوكم للْمَاء، وَقَالَ الشَّاعِر: يالَ بكرٍ انشروا لي كُلَيْبًا ... يالَ بكرٍ أَيْنَ أَيْنَ الفِرَارُ؟

وصية الحجاج بأهل البصرة

وَقَالَ الْأَعْشَى: يالَ قَيْسِ لِمَا لَقِينَا العَامَا أَي أدعوكم لهَذَا، وَشرح واستقصاء فروعه وَعلله يطول، وَله مَوضِع غَيْر هَذَا. وَصِيَّة الحَجَّاج بِأَهْل الْبَصْرَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ: قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الله بن مُحَمَّد بن عَائِشَة: قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: قَالَ: أَرَادَ الحَجَّاج الْخُرُوج من الْبَصْرَة إِلَى مكَّة فَخَطب النّاس، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَة إِنِّي أُرِيد الْخُرُوج إِلَى مكَّة وَقد استخلفتُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدًا ابْني وأوصيته فِيكُم بِخِلَاف مَا أوصى بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَنْصَار، فَإِنَّهُ أوصى فِي الأَنْصَار أَن يُقْبل من محسنهم وَلَا يتَجَاوَز عَنْ مسيئهم، أَلا وَإِنِّي قَدْ أوصيته فِيكُم أَلا يقبل من مُحْسنكم وَلَا يتَجَاوَز عَنْ مسيئكم، أَلا وَإِنَّكُمْ قَائِلُونَ بعدِي كلمة لَيْسَ يَمْنعكم من إظهارها إِلَّا الْخَوْف، أَلا وَإِنَّكُمْ قَائِلُونَ: لَا أحسن الله لَهُ الصَّحَابَة، إِنِّي معجلٌ لَكُم الْجَواب: لَا أحسن اللَّه عَلَيْكُم الْخلَافَة. الْمجْلس التَّاسِع مؤرق وفضيلة كتمان السِّرّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بِمَ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدثنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مِهْرَانَ الدَّارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرِبِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن كَانَ فِيمَنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُؤَرَّقٌ وَكَانَ مُتَعَبِّدًا، فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي صَلاتِهِ إِذْ ذَكَرَ النِّسَاءَ فَاشْتَهَاهُنَّ وَانْتَشَرَ حَتَّى قَطَعَ صَلاتَهُ، فَغَضِبَ فَأَخَذَ قَوْسَهُ فَقَطَعَ وَتَرَهَا فَعَقَدَهُ بِمَذَاكِيرِهِ وَشَدَّهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، ثُمَّ مَدَّ رِجْلَهُ فَانْتَزَعَهَا، ثُمَّ أَخَذَ طِمْرَيْهِ وَنَعْلَيْهِ حَتَّى أَتَى أَرْضًا لَا أَنِيسَ بِهَا وَلا وَحْشَ، فَاتخذ عَرِيشًا ثمَّ قَالَ يُصَلِّي، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَصْبَحَ انْصَدَعَتْ لَهُ الأَرْض، فَخرج خَارِجَة مِنْهَا وَمَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ طَعَامٌ فَيَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ، ثُمَّ يَدْخُلُ وَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ الأَرْضُ، فَإِذَا أَمْسَى فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّ ناسٌ مِنْهُ فَأَتَاهُ رَجُلانِ مِنَ الْقَوْمِ فَمَرَّا تَحْتَ اللَّيْلِ فَسَأَلاهُ عَنْ قَصْدِهِمَا فَسَمَتَ لَهُمَا بِيَدَيْهِ، فَقَالَ: هَذِه قصد كَمَا حَيْثُ تُرِيدَانِ، فَسَارَا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا يُسْكِنُ هَذَا الرجل هَا هُنَا؟ أَرْضٌ لَا أَنِيسَ بِهَا وَلا وَحْشَ، وَلَوْ رَجَعْنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ، فَرَجَعَا فَقَالُوا لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا يُقِيمُكَ بِهَذَا الْمَكَانِ، بِأَرْضٍ لَا أَنِيسَ فِيهَا وَلا وَحْشَ؟ فَقَالَ: امْضِيَا لِشَأْنِكُمَا وَدَعَانِي، فَأَلَحَّا عَلَيْهِ قَالَ: فَإِنِّي مُخْبِرُكُمَا عَلَى أَنَّ مَنْ كَتَمَ عَلَيَّ مِنْكُمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمَا أَهَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، قَالا: نَعَمْ قَالَ: انْزِلا فَلَمَّا أَصْبَحَا خَرَجَ مِنَ الأَرْضِ الَّذِي كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الطَّعَامِ وَمِثْلاهُ مَعَهُ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا

بدء أمر الخضر عليه السلام

ثمَّ دخل فَخرج عَلَيْهِم شَرَابٌ فِيهِ إِنَاءٌ مِثْلُ الَّذِي كَانَ يخرج فِي كلي يَوْمٍ وَمِثْلاهُ مَعَهُ، فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا ثُمَّ دَخَلَ فَالْتَأَمَتِ الأَرْضُ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ: مَا يُعْجِلُنَا؟ هَذَا طَعَامٌ وشرابٌ وَقَدْ عَلِمْنَا سَمْتَنَا مِنَ الأَرْضِ، امْكُثْ إِلَى الْعَشَاءِ فَمَكَثَا فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فِي الْعَشَاءِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلُ الَّذِي خَرَجَ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: امْكُثْ حَتَّى نُصْبِحَ، فَمَكَثَا فَلَمَّا أَصْبَحَا خَرَجَ إِلَيْهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ، ثُمَّ رَكِبَا فَانْطَلَقَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَلَزِمَ بَابَ الْمَلِكِ حَتَّى كَانَ مِنْ خَاصَّتِهِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَقْبَلَ عَلَى تِجَارَتِهِ وَعَمَلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ لَا يَكْذِبُ أحدٌ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ كَذْبَةً تُعْرَفُ إِلا صَلَبَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً فِي السَّمَرِ فَحَدَّثُوا مَا رَأَوْا مِنَ الْعَجَائِبَ أَنْشَأَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يحدث، فَقَالَ: لأحدثنك أَيهَا لملك بِحَدِيثٍ مَا سَمِعْتَ بِأَعْجَبَ مِنْهُ قَطُّ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ الرَّجُلِ الَّذِي رَأَى مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ الْمَلِكُ: مَا سَمِعْتُ بِكَذِبٍ قَطُّ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَاللَّهِ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ وَإِلا صَلَبْتُكَ، فَقَالَ: بَيِّنَتِي فُلانٌ، فَقَالَ: رِضًا ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ الْمَلِكُ: إِنَّ هَذَا حَدَّثَنِي أَنَّكُمَا مَرَرْتُمَا بِرَجُلٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: أَوَ لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ، وَلَوْ أَنِّي حَدَّثْتُكَ بِهَذَا لَكَانَ عَلَيْكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَصْلُبَنِي، قَالَ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، فَأَدْخَلَ الَّذِي كَتَمَ فِي خَاصَّتِهِ وَسَمَرِهِ وَأَمَرَ بِالآخَرِ فَصُلِبَ، فَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَأَمَّا الَّذِي كَتَمَ عَلَيْهِ فَقَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مكرمه فِي الآخِرَةِ " ثُمَّ نَظَرَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ إِلَى ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْمُثَنَّى: أَسَمِعْتَ جَدَّكَ أَنَسًا يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. بدءُ أَمر الْخضر عَلَيْهِ السّلام حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ فُرَاتٍ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: كَانَ مَلِكٌ وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ الْخَضِرُ، وَإِلْيَاسُ أَخُوهُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَقَالَ إِلْيَاسُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَابْنُكَ الْخَضِرُ لَيْسَ يَدْخُلُ فِي مُلْكِكَ، فَلَوْ زَوَّجْتَهُ لِيَكُونَ وَلَدُهُ مَلِكًا بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ تَزَوَّجْ، فَقَالَ: لَا أُرِيد، قَالَ: لَا بُد لَكَ، قَالَ: فَزَوِّجْنِي، فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً بِكْرًا، فَقَالَ لَهَا الْخَضِرُ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ فَإِنْ شِئْتِ عَبَدْتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَعِي فَأَنْتِ فِي طَعَامِ الْمَلِكِ وَنَفَقَتِهِ، وَإِنْ شِئْتِ طَلَّقْتُكِ، قَالَتْ: بَلْ أَعْبُدُ اللَّهَ مَعَكَ، قَالَ: فَلا تُظْهِرِي سِرِّي فَإِنَّكِ إِنْ حَفِظْتِ سِرِّي حَفِظَكِ اللَّهُ، وَإِنْ أَظْهَرْتِ عَلَيْهِ أَهْلَكِ أَهْلَكَكِ اللَّهُ، فَكَانَتْ مَعَهُ سَنَةً لَمْ تَلِدْ، فَدَعَاهَا الْمَلِكُ فَقَالَ: أَنْتِ شَابَّةٌ وَابْنِي شَابٌّ فَأَيْنَ الْوَلَدُ وَأَنْتِ مِنْ نِسَاءٍ وُلَّدٍ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا الْوَلَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَدَعَا الْخَضِرَ فَقَالَ: أَيْنَ الْوَلَدُ يَا بُنَيَّ، فَقَالَ: الْوَلَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: لَعَلَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ، فَزَوِّجْهُ امْرَأَةً قَدْ وَلَدَتْ، فَقَالَ لِلْخَضِرِ: طَلِّقْ هَذِهِ، قَالَ: لَا تُفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهَا فَقَدِ اغْتَبَطْتُ بهَا، فَقَالَ: لَا بُد، فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ زَوَّجَهُ ثَيِّبًا، قَدْ وَلَدَتْ، فَقَالَ لَهَا

التعليق على الخبر

الْخَضِرُ كَمَا قَالَ لِلأُولَى، فَقَالَتْ: بَلْ أَكُونُ مَعَكَ، فَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ دَعَاهَا فَقَالَ: إِنَّكَ ثَيِّبٌ قَدْ وَلَدْتِ قَبْلَ ابْنِي فَأَيْنَ وَلَدُكِ، فَقَالَتْ: هَلْ يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا من بعل؟ وبعلي منشغل بِالْعِبَادَةِ وَلا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ فَغَضِبَ الْمَلِكُ وَقَالَ: اطْلُبُوهُ، فهرب فَطَلَبه ثَلَاثَة فأصابته اثْنَانِ مِنْهُمْ فَطَلَبَ إِلَيْهِمَا أَنْ يُطْلِقَاهُ فَأَبَيَا، وَجَاءَ الثَّالِثُ فَقَالَ: لَا تَذْهَبَا بِهِ فَلَعَلَّهُ يَضْرِبُهُ وَهُوَ وَلَدُهُ فَأَطْلَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَا إِلَى الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ الاثْنَانِ أَنَّهُمَا أَخَذَاهُ وَأَنَّ الثَّالِثَ أَخَذَهُ مِنْهُمَا، فَحَبَسَ الثَّالِثَ، ثُمَّ فَكَّرَ الْمَلِكُ فَدَعَا الاثْنَيْنِ فَقَالَ: أَنْتُمَا خَوَّفْتُمَا ابْنِي حَتَّى هَرَبَ، فَذَهَبَ فَأَمَرَ بِهِمَا فَقُتِلا، وَدَعَا بِالْمَرْأَةِ فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ هَرَّبْتِ ابْنِي وَأَفْشَيْتِ سِرَّهُ، وَلَوْ كَتَمْتِ عَلَيْهِ لأَقَامَ عِنْدِي، فَقَتَلَهَا وَأَطْلَقَ الْمَرْأَةَ الأُولَى وَالرَّجُلَ، فَذَهَبَتْ فَاتَّخَذَتْ عَرِيشًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ تَحْتَطِبُ وَتَبِيعُهُ وَتَتَقَوَّتُ بِثَمَنِهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَة فَقير الْحَال فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَأَنْتَ تَعْرِفُ اللَّهَ؟ قَالَ: أَنَا صَاحِبُ الْخَضِرِ، قَالَتْ: وَأَنَا امْرَأَةُ الْخَضِرِ، فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ لَهُ، وَكَانَتْ مَاشِطَةَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهَا بَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ رَبِّي، فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ، قَالَتْ: أُخْبِرُ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ، فَدَعَا بِهَا، وَقَالَ: ارْجِعِي، فَأَبَتْ فَدَعَا بِنُقْرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأَخَذَ بَعْضَ من وَلَدِهَا فَرَمَى بِهِ فِي النُّقْرَةِ وَهِيَ تَغْلِي، ثُمَّ قَالَ: تَرْجِعِينَ؟ قَالَتْ: لَا، فَأَخَذَ الْوَلَدَ الآخَرَ حَتَّى ألْقى الْأَوْلَاد أَجْمَعِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: تَرْجِعِينَ؟ قَالَتْ: لَا، فَأَمَرَ بِهَا، قَالَتْ: إِنَّ لِي حَاجَةً، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَتْ: إِذَا أَلْقَيْتَنِي فِي النُّقْرَةِ تَأْمُرُ بِالنُّقْرَةِ أَنْ تُحْمَلَ ثمَّ تطفأ فِي بَيْتِي بِبَابِ الْمَدِينَةِ وَتُنَحِّيَ النُّقْرَةَ وَتَهْدِمَ الْبَيْتَ عَلَيْنَا حَتَّى تَكُونَ قُبُورَنَا، فَقَالَ: نَعَمْ إِنَّ لَكِ عَلَيْنَا حَقًّا، قَالَ: فَفَعَلَ بِهَا ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَشَمَمْتُ رَائِحَةً طَيِّبَةً، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا رِيحُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَوَلَدِهَا " التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر قَالَ القَاضِي: فِي هذَيْن الْخَبَرَيْنِ عظة ومعتبر، وتنبيه لمن عقل ومُزْدَجر، وَفِيمَا اقْتضى فِيهَا مَا دَعَا ذَوي النَّهْي إِلَى الصدْق وَحفظ الْأَمَانَة، وحَذَّر من ركُوب الْغدر والخيانة، وَفِي خزن السِّر وحياطته، وصونه وحراسته مَا لَا يحِيل عَلَى الألباء وفور فضيلته، كَمَا لَا يذهب عَلَيْهِمْ مَا فِي إفشائه وإضاعته، من سُقُوط الْقدر، وقبيح الذّكر، وَمَا يُكسب صَاحبه من حَطَّه عَنْ منزلَة من يشرف ويعتمد عَلَيْهِ، ويؤتمن ويركن فِي جلائل الخطوب إِلَيْهِ، وَالنَّاس فِي هذَيْن الخلقين المتناقضين مُعافًى مُكْرم، ومبتلى مذمّم، وَقد قَالَ بَعْض من افتخر بالخلق الْكَرِيم مِنْهَا: وأطعن الطعنة النجلاء عَنْ عِرْضٍ ... وأكتمُ السِّرَّ فِيهِ ضَرْبَةُ العنقِ وَقَالَ بعض من خَالف هَذِه صفته، وسلك خلاف محجته:

عقبى الحسنى

وَلا أكتمُ الأسرارَ لكنْ أُذِيعُها ... وَلَا أدعُ الأسرارَ تغلِي عَلَى قَلْبِي وَمَا أَتَى من هَاتين الخليقتين المتضادتين من مَنثور الْأَخْبَار ومنظوم الْأَشْعَار مَا يتعب إحصاؤه، ويمل استقصاؤه، ولعلنا نضمن فِي مجَالِس كتَابنَا هَذَا مِنْهُ مَا يستفيده النَّاظر فِيهِ، إِذَا أَتَى مَا يجرّه ويقتضيه، إِن شَاءَ اللَّه. وَذكرت من النَّوْع الَّذِي تضَاد فِيهِ فريقان فِيمَا وصف بِهِ كلّ وَاحِد مِنْهُمَا نَفسه، شَيئًا أَحْبَبْت أَن أثْبته فِيمَا هَا هُنَا، وَإِن كَانَ بَابه أوسع من أَن يُستوعى، وَأكْثر من أَن يسْتَغْرق ويستوفى، وَهُوَ مَا روى لَنَا أَن منفوسة بِنْت زَيْدُ الفوارس لمّا أهديت إِلَى قيس بْن عَاصِم قَرِّبت إِلَيْهِ إهداء، فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ أكيلي؟ فَلم تدرِ مَا يَقُولُ لَهَا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: أيا ابنةَ عَبْد الله وَابْنَة مالكٍ ... وَيَا بنة ذِي الْبُرْدَيْن والفَرَس الوردْ إِذَا مَا صنعتِ الزَّاد فالتمسي لَهُ ... أكيلا فَإِنِّي لستُ أكلهُ وحدِي أَخا طارِقًا أَوْ جَارَ بَيْتِ فإنني ... أخافُ مَلامات الأحاديثِ من بعدِي وَإِنِّي لعبد الضَّيْف مَا غَيْر ذلة ... وَمَا فِي إِلَّا ذَاك من شِيَمِ العبدِ فَسَمعهُ جَار لَهُ وَكَانَ مبخلا، فَقَالَ: لبيني وَبَين الْمَرْء قيس بْن عَاصِم ... بِمَا قَالَ بون فِي الفعال بعيد وَإِنَّا لنجفو الضَّيْف من غَيْر عسرة ... مَخَافَة أَن يغرى بِنَا فَيَعُود عُقبى الْحسنى حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْحُسَيْن بْن قتبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أحكم الْأَعْمَى، عَنْ أبي خَالِد بْن مُحَمَّد، عَنْ مُحَمَّد بْن مُسْلِم، عَنْ أبي عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، أنَّ رَجُلا من بني إِسْرَائِيل خَرَجَ فِي بَعْض حَوَائِجه، وَكَانَت لَهُ امْرَأَة فأوصى بهَا أَخَاهُ، وَسَأَلَهُ يتعهدها وَيقوم بحوائجها وَمَا تُرِيدُ، فَكَانَ يَأْتِيهَا فيسألها عَنْ بَعْض حوائجها وَمَا تُرِيدُ، إِلَى أَن رَآهَا فَوَقَعت فِي نَفسه، فَرَاوَدَهَا فَأَبت عَلَيْهِ، فَقَالَ لَها: وَالله لَئِن لَمْ تفعلي لأهلكنك، قَالَت: لَا وَالله مَا أَنَا بفاعلة وَلَا أَنَا متابعتك عَلَى مَا تُرِيدُ فعله فافعل مَا أَنْت فَاعل، فَسكت عَنْهَا إِلَى أَن قَدِمَ أَخُوهُ فَتَلقاهُ وَسَأَلَهُ وحادثه إِلَى أَن جرى ذكرهَا، فَقَالَ: يَا أخي علمت أَنَّهَا راودتني عَنْ نَفسِي وَفعلت وَفعلت؟ فَقَالَ: أَخُوهُ أَي شَيْءٍ تَقول؟ قَالَ: هُوَ وَالله مَا قتل لَك، فَلَمّا قَدِمَ الرَّجُل لَمْ تكن لَهُ همة إِلَّا أَن حملهَا وَلم يسْأَلهَا عَنْ شَيْءٍ تَصْدِيقًا لِأَخِيهِ، فأنزلها لَيْلًا وضربها بِسَيْفِهِ حَتَّى ظن أَنَّهُ قَتلهَا ثمَّ مضى، وَإِن المرأى بَقِي بهَا رَمق، فَقَامَتْ تَدُبُّ إِلَى أَن انْتَهَت إِلَى أصل دير رَاهِب فَسمع أنينها فَأَشْرَف عَلَيْهَا من

ديره، فَلَمّا رَآهَا نزل ودعا غُلَاما لَهُ أسود فاحتملاها فأدخلاها الدَّيْر، فَلم يزل الراهب يعالجها حَتَّى برأت، وَكَانَ لَهُ ابنٌ صغيرٌ قَدْ مَاتَت أمه، فَقَالَ الراهب: إِن شِئْت أَن تذهبي فاذهبي، وَإِن شِئْت أَن تقيمي فأقيمي، فَقَالَت: بل أقيم فأخدمك أبدا، فَدفع إِلَيْهَا ابْنه وَكَانَت تربيه إِلَى أَن وَقعت فِي نفس العَبْد الْأسود فَرَاوَدَهَا، وَقَالَ: وَالله لَئِن لَمْ تتابعيني لأهلكنك، قَالَت: مَا أَنَا بمتابعتك فافعل مَا أَنْت فَاعل، فَلَمّا كَانَ اللّيل جَاءَ إِلَى الصَّبِي وَهُوَ نَائِم بَيْنَ يَديهَا فذبحه، فَلَمّا فعل لَك مضى إِلَى الراهب فَقَالَ لَهُ: أما علمت مَا كَانَ من أَمر هَذِه الخبيثة وَمَا فعلت بابنك؟ وَترى هَذِهِ فعل بهَا مَا فعل إِلَّا من أَمر عَظِيم قَدْ أتتْه، قَالَ الراهب: وَيحك وَمَا فعلت بِابْني؟ قَالَ: ذَبَحَتْهُ. فجَاء الراهب فَوجدَ ابْنه متشحطًا فِي دَمه، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لَا عَلَمُ لي غَيْر أَن غلامك كَانَ من أمره وَكَانَ، فقصت عَلَيْهِ الْقِصَّة، فَقَالَ الراهب: قَدْ شَكّكْتني فِي أَمرك، وَلست أُحِبَّ مقامك معي، فَهَذِهِ خَمْسُونَ دِينَارا فخذيها وامضي حَيْث شِئْت تكون لَك قُوَّة، فأخذتها وَمَضَت حَيْث انْتَهَت إِلَى قَرْيَة، فَإِذا رجل قَدِمَ ليُصْلَب وَالنَّاس مجتمعون والوالي، فَقَالَت للوالي - وَقد يرفع الرَّجُل عَلَى الْخَشَبَة - هَلْ لَك أَن تَأْخُذ مني خمسين دِينَارا وتخلي سَبِيل هَذا الرَّجُل؟ قَالَ: هَات. فحلّت كمها فَدفعت إِلَيْهِ الْخمسين دِينَارا فخلى سَبِيل الرَّجُل، فَقَالَ لَهَا الرَّجُل: مَا صنع أحدٌ بِأحد مَا صنعت لي أَنْت، وَلست بمفارقك، أخدُمك حَتَّى يفرق الْمَوْت بَيْننَا. فَمضى مَعهَا حَتَّى انتهيا إِلَى سَاحل الْبَحْر وَالنَّاس يعبرون فِي السفن فَدخل وأدخلها وَكَانَ لَهَا هَيْئَة وجمال، فَلَمّا رَآهَا أَهْلَ السَّفِينَة قَالُوا: من هَذِهِ الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: مَمْلُوكَة لي، وَقد وَقعت فِي نفس رَجُل مِنْهُم لما رَآهَا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُل: أتبيعها؟ قَالَ: إِنِّي لأكْره بيعهَا، وَلَو أردتُ ذَلِكَ ثُمَّ علمتْ للقيتُ مِنْهَا أَذَى لِأَنَّهَا تحبني، وَقد أخذت عَلَى أَلا أبيعها أبدا، قَالَ الرَّجُل: بعْها وخذْ مالَكَ واخْرُج وَلَا تُعْلِمها، فَبَاعَهُ إِيَّاهَا بِمَال كثير فَدفعهُ إِلَيْهِ وَأشْهد عَلَيْهِ أَهْلَ السَّفِينَة وَهِي مَعَ النسا، وَقرب إِلَيْهِ قاربا فَرجع فِيهِ وَهِي لَا تعلم ومضوا فِي الْبَحْر، فَلَمّا عَلَمُ الَّذِي اشْتَرَاهَا أَنَّهُ قَدْ تبَاعد وَلَا تقدر عَلَيْهِ قَامَ يكلمها وَيعلمهَا أَنَّهُ قد اشترها، قَالَتْ: اتِّق اللَّه فَإِنِّي امْرَأَة حرَّة، قَالَ: دعِي هَذَا عَنْكَ فقد مضى صَاحبك فَلا تقدرين عَلَيْهِ، فَلا تَزَوَّجي بِمَا لَا تنتفعين بِهِ، وَأَقْبل أَهْلُ السَّفِينَة عَلَيْهَا وَقَالُوا: يَا عدوة اللَّه! قَد اشْتِرَاك الرَّجُل وَنحن نشْهد، قَالَتْ: وَيحكم! خَافُوا اللَّه فَإِنِّي وَالله امرأةٌ حُرَّة وَمَا ملكني أحدٌ قد، قَالُوا: قُم إِلَيْهَا حَتَّى تفعل بهَا كَذَا وَكَذَا، فَإنَّك إِذَا فعلت ذَلِكَ سكنت، فَقَامَ إِلَيْهَا فَلَمّا خَافت عَلَى نَفسهَا دعت اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فَإِذا السَّفِينَة قَد انقلبت بهم، فَلم ينج مِنْهُم غَيرهَا عَلَى ظهر السَّفِينَة، وَكَانَ للْملك ذَلِكَ الْيَوْم عيد عَلَى سَاحل الْبَحْر من الْجَانِب الآخر، وَهُوَ وَاقِف وَأهل مَمْلَكَته فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بعث من دخل عَلَيْهِم فِي السفن فَلم يقدر عَلَى غَيرهَا، فأخرجت إِلَيْهِ، فساءلها عَنْ أمرهَا ودعاها إِلَى التَّزْوِيج فَأَبت،

التعليق على الخبر

وَقَالَ: إِن لي قصَّة وَلَيْسَ يجوز لي التَّزْوِيج، فصيّرها فِي دَار فَكَانَ إِذَا ورد عَلَيْهِ الْأَمر الَّذِي يَهُولُه أَتَاهَا فشاورها، فتشير عَلَيْهِ فَيرى فِي مشورتها الْبركَة، إِلَى أَن حضر الْملك فَجمع أهل مَمْلَكَته، فَقَالَ: كَيفَ كنت لَكُمْ؟ قَالُوا: كَالْأَبِ الرَّحِيم فجزاك اللَّه خيرا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَول أَمْرِي من آخِره قَالُوا: كنت فِي آخر أَمرك أحزم، قَالَ: فَإِن جَمِيع مَا رَأَيْتُمْ من ذَلِكَ كَانَ بمشورة هَذِهِ الْمَرْأَة، وَقد رَأَيْت لَكُمْ رَأيا، قَالُوا: وَمَا هُوَ أَيهَا الْملك؟ قَالَ: أُمِلِّكُها عَلَيْكُمْ من بعدِي، قَالُوا: فرأيك، فملكها عَلَيْهِمْ وَمَات الْملك، وَإِنَّهَا أمرت بحشر النَّاس إِلَيْهَا ليبايعوها، فحشر النّاس وَجَلَست تنظر، فَمر بهَا زَوجهَا وَأَخُوهُ، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن ثُمَّ مر بهَا المصلوب الَّذِي بَاعهَا، فَقَالَت: اعزلوا هَذَا، ثمَّ مر بهَا الراهب وَغُلَامه، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن، ثُمَّ صرفت النّاس ودعت بهم فَقَالَت لزَوجهَا: تعرفنِي؟ قَالَ: لَا وَالله، إِلَّا أَنِّي أعلم أنَّكَ الملكة، قَالَتْ: أَنَا فُلَانَة امْرَأَتك، وَإِن أَخَاك فعل بِي وَفعل وخبرته الْخَبَر، وَإِن اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يصل إليَّ رَجُل مُنْذُ فارقتك، ثُمَّ دعت بأَخيه فَقتل، ثُمَّ دعت بِالرَّاهِبِ فأجازته، وَقَالَت: ارْفَعْ غلي مَا كَانَتْ لَك من حَاجَة، وحدثته بِقصَّة الْغُلَام وَمَا صنع بِابْنِهِ، ثُمَّ أمرت بالغلام فقُتل، ثمَّ دعت بالمصلوب وَأمرت بِهِ أَن يقتل ويصلب، فَفعل ذَلِك بِهن وَمَكَثت فِي ملكهَا مَا أَرَادَ اللَّه أَن تمكث ثُمَّ مَاتَت.، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ أَول أَمْرِي من آخِره قَالُوا: كنت فِي آخر أَمرك أحزم، قَالَ: فَإِن جَمِيع مَا رَأَيْتُمْ من ذَلِكَ كَانَ بمشورة هَذِهِ الْمَرْأَة، وَقد رَأَيْت لَكُمْ رَأيا، قَالُوا: وَمَا هُوَ أَيهَا الْملك؟ قَالَ: أُمِلِّكُها عَلَيْكُمْ من بعدِي، قَالُوا: فرأيك، فملكها عَلَيْهِمْ وَمَات الْملك، وَإِنَّهَا أمرت بحشر النَّاس إِلَيْهَا ليبايعوها، فحشر النّاس وَجَلَست تنظر، فَمر بهَا زَوجهَا وَأَخُوهُ، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن ثُمَّ مر بهَا المصلوب الَّذِي بَاعهَا، فَقَالَت: اعزلوا هَذَا، ثمَّ مر بهَا الراهب وَغُلَامه، فَقَالَت: اعزلوا هذَيْن، ثُمَّ صرفت النّاس ودعت بهم فَقَالَت لزَوجهَا: تعرفنِي؟ قَالَ: لَا وَالله، إِلَّا أَنِّي أعلم أنَّكَ الملكة، قَالَتْ: أَنَا فُلَانَة امْرَأَتك، وَإِن أَخَاك فعل بِي وَفعل وخبرته الْخَبَر، وَإِن اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يصل إليَّ رَجُل مُنْذُ فارقتك، ثُمَّ دعت بأَخيه فَقتل، ثُمَّ دعت بِالرَّاهِبِ فأجازته، وَقَالَت: ارْفَعْ غلي مَا كَانَتْ لَك من حَاجَة، وحدثته بِقصَّة الْغُلَام وَمَا صنع بِابْنِهِ، ثُمَّ أمرت بالغلام فقُتل، ثمَّ دعت بالمصلوب وَأمرت بِهِ أَن يقتل ويصلب، فَفعل ذَلِك بِهن وَمَكَثت فِي ملكهَا مَا أَرَادَ اللَّه أَن تمكث ثُمَّ مَاتَت. التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر قَالَ القَاضِي: وَإِن ممّا تقدّمت روايتنا إِيَّاه فِي هَذَا الْمجْلس من التَّنْبِيه مَا يبْعَث الألباء عَلَى تَأمل عَاقِبَة أَعْمَالهم، وَمَا تؤثره نياتهم ومقاصدهم فِي أفعالهم، وَحسن عُقْبى الْحسنى وَسُوء مغبة السوءى. نسْأَل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَن يهب لَنَا بَصِيرَة مؤدية لَنَا إِلَى السَّلامَة وَالْغنيمَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَلم ينلْ أحد خيرا إِلَّا بتوفيقه وإحسانه، وَلم يحلل بِهِ سوء فِي دُنْيَاهُ إِلَّا بامتحانه، وَلَا فِي دينه إِلَّا بخُذْلانه. الوشاية منزلَة بَيْنَ الْخِيَانَة وَالْإِثْم حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي، قَالَ: وَشَى واشٍ بِعَبْد اللَّه بْن هَمّام السّلُولي إِلَى زِيَاد أَنَّهُ هجاك فَقَالَ زِيَاد: أجمع بَيْنك وَبَينه؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبعث زِيَاد إِلَى ابْن همام فجيء بِهِ فَأدْخل الرَّجُل بَيْتا، ثُمَّ قَالَ زِيَاد: يَا ابْن همام! بَلغنِي أنَّكَ هجوتني، قَالَ: كَلا أصلحك اللَّه مَا فعلت، وَلَا أَنْت لذَلِك بِأَهْل، قَالَ: فَإِن هَذَا أَخْبرنِي - وَأخرج الرَّجُل - فَأَطْرَقَ ابْن همام هنيهة، ثمَّ أقبل على الرجل فَقَالَ: وَأَنت امْرُؤ إِمَّا ائتمنتك خَالِيا ... فخنت، وإمّا قلت قولا بِلَا علم فَأَنت من الْأَمر الَّذِي كَانَ بَيْننَا ... بمنزلةٍ بَيْنَ الْخِيَانَة وَالْإِثْم فأعجب زيادا جَوَابه، وأقصى السَّاعِي وَلم يقبل مِنْهُ.

هذا سوار ساقه الله إليك

هَذَا سوار سَاقه اللَّه إِلَيْكَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن أبي العنبس، عَنْ إِسْحَاق بْن يحيى بْن مُعَاذِ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَوَّارٌ صَاحب رحبة سوار، قَالَ: انصرفتُ يَوْمَا من دَار الْمهْدي، فَلَمَّا دخلت منزلي عوت بالغَدَاء فجاشَتْ نَفسِي وَأمرت بِهِ فَرُدّ، ثُمَّ دعوتُ بالنرد ودعوت جَارِيَة لي ألاعبها فَلم تطب نَفسِي لذَلِك، فَدخلت للقائلة فَلم يأخذني النّوم، فَنَهَضت وَأمرت ببغلة لي شهباء فأُسرجت فركبتها، فَلَمّا خرجتُ استقبلني وَكيل لي وَمَعَهُ مَال فَقتل: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: ألفا دِرْهَم جَبَيْتُها من مستغلِّك الْجَدِيد، قلت: أمْسكهَا مَعَك واتبعني، قَالَ: وخليتُ رَأس البغلة حَتَّى عَبَرَت الجسر ثُمَّ مضيتُ فِي شَارِع دَار الرَّقِيق حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى الصَّحرَاء، ثُمَّ رجعتُ إِلَى بَاب الأنبار فطَوفت، فَلَمَّا صرت فِي شَارِع بَاب الأنبار انتهيتُ إِلَى بَاب دَار نظيف عَلَيْهِ شَجَرَة وعَلى الْبَاب خَادِم، فوقفت وَقد عطشنا، فَقَالَ للخادم، أعندك مَا تسقيني؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَامَ فَاخْرُج قُلَّة نظيفة حيرية طيبَة الرَّائِحَة عَلَيْهَا منديل، فناولني فَشَرِبت، وَحضر وقتُ الْعَصْر فَدخلت مَسْجِدا عَلَى الْبَاب فَصليت فِيهِ، فَلَمّا قضيت صَلَاتي إِذْ أَنَا بأعمى يتلمس، فَقلت: مَا تُرِيدُ يَا هَذَا؟ قَالَ: إياك أُرِيد، قلت: وَمَا حَاجَتك؟ فجَاء حَتَّى قعد إِلَى فَقَالَ: شممتُ مِنْك رائحةَ الطِّيب فظننتُ أنَّكَ من أَهْلَ النَّعيم، فأردتُ أَن ألقِي عَلَيْكَ شَيئًا، فَقلت: قل، قَالَ: أَتَرَى بَاب هَذَا الْقصر؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ: هَذَا قصر كَانَ لأبي فَبَاعَهُ وَخرج إِلَى خُرَاسَان وخرجتُ مَعَه، فَزَالَتْ عَنَّا النعم الَّتِي كُنَّا فِيهَا، فَقدمت فَأتيت صَاحب الدَّار لأسأله شَيئًا يَصِلُني بِهِ وأصير إِلَى سَوّار، فَإِنَّهُ كَانَ صديقا لأبي، قلت: وَمن أَبوك؟ قَالَ: فلَان بْن فلَان، قَالَ: فَإِذا أصدقُ النّاس كَانَ لي فَقلت لَهُ: يَا هَذَا فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَتَاك بسَوّار وَمنعه النومَ والطعامَ حَتَّى جَاءَ بِهِ فأقعده بَيْنَ يَديك، ثُمَّ دعوتُ الْوَكِيل وأخذتُ الدَّرَاهِم مِنْهُ ودفعتها إِلَيْهِ، وَقتل لَهُ: إِذَا كَانَ غدٌ فصر إِلَى الْمنزل، ثمَّ مضيت فَقتل: مَا أحدث أَمِير المهديِّ بِشَيْء هُوَ أطرف من هَذَا، فَأَتَيْته فاستأذنت عَلَيْهِ فَأذن لي، فَدخلت إِلَيْهِ فَحَدَّثته فأعجبه فَأمر لي بألفي دِينَار، فأحضرت، فَقَالَ: ادفعها إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَهَضت، فَقَالَ لي: أعليك دين؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ كم؟ قلت: خَمْسُونَ ألف دِينَار. فَأمْسك وَجعل يحدثني سَاعَة، ثمَّ قَالَ: امْضِ إِلَى مَنْزِلك، فصرت إِلَى منزل فَإِذا خَادِم مَعَه خَمْسُونَ ألف دِينَار فَقَالَ: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ اقْضِ بهما دينك. قَالَ: فقبضتها، فَلَمّا كَانَ من الْغَد أَبْطَأَ عليّ المكفوفُ وَجَاء رَسُول المهديِّ يدعوني فَجِئْته، فَقَالَ: فَكرت فِي أَمرك وَقتل: يقْضِي دينه ثُمَّ يحْتَاج إِلَى الْحِيلَة وَالْقَرْض، وَقد أمرتُ لَك بِخَمْسِينَ ألف دِينَار أُخْرَى، قَالَ: فقبضتها وانصرفت فَأَتَانِي المكفوفُ فَدفعت إِلَيْهِ الألفي دِينَار، وَقتل قَدْ رزق اللَّه تَعَالَى بكرمه بك خيرا كثيرا، وأعطيته من مَالِي ألفي دِينَار.

أبيات في التوديع

أَبْيَات فِي التوديع حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كُنَّا عِنْدَهُ عَشِيَّة - يَعْنِي أَبَا الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى - وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ فِي شوّال، فَجَاءَهُ أَبُو الْحَسَن الأسَدِيُ يودعه فِي خُرُوجه إِلَى مكَّة، فَقَالَ لَهُ: لَوْ كُنَّا نحسن صَنَعْنا عِنْدَ وداعك مَا صنع غَيرنَا، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قَالَ أَبُو سعيد عبد الله ابْن شَبِيب: أتيت هِشَام بْن إِبْرَاهِيم الأَنْصَارِيّ لأودعه فِي خرجَة خرجها إِلَى المَدِينَةِ، فَقَالَ: لَا أودعك حَتَّى أغنيك، فغنى: وَأَنا بَكَيْت على الفرا ... ق فَهَل بكيتَ كَمَا بكيتُ ولطمتُ خدِّي خَالِيا ... ومَرَستْهُ حَتَّى اشتفيتُ وعواذلي ينهينني ... عَمَّن هويتُ فَمَا انتهيتُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بعقب هَذَا شَيئًا لَمْ أفهمهُ إِلَّا أَنَّهُ تكلم فِي أَنَا بَكَيْت أَرَادَ أَنَا بَكَيْت بِغَيْر وقُوف عَلَى الْألف. قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيد: فجئتُ إِلَى الزُّبَيْر لأودعه فَحَدَّثته بِحَدِيث هِشَام، فَقَالَ: وَأَنا لَا أودعك حَتَّى أُغني: أزِف البَيْنُ الْمُبين ... وَجَلا الشكُّ اليَقِينْ لَمْ أكنْ لَا كنتُ أَدْرِي ... أنَّ ذَا البينِ يكونْ علموني كَيفَ أشتا ... ق إِذَا خَفَ القطينْ حَنّتِ الْعِيسُ فأبكي ... من العيسٍ الحَنِينْ حذف ألف أَنَا فِي الْوَصْل قَالَ القَاضِي: الْكَلَام الْمَشْهُور: أَنَا فعلت بِغَيْر ألف فِي الْوَصْل، فَإِذا وقف الْمُتَكَلّم قَالَ: أَنَا، فَأثْبت الْألف، وإثباتها فِي الْوَصْل لُغَة قَدْ قرئَ بهَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن، وَمِمَّنْ قَرَأَ كَذَلِك نافعٌ فِيمَن وَافقه من أَهْلَ المَدِينَةِ، وَمن هَذِهِ اللُّغَة، قَول الشَّاعِر: أنَا شَيْخ العَشِيرةِ فاعْرِفُونِي ... حَمِيدا قَدْ تَذرَّيْتُ السّنَاما نَصَّب حميدا عَلَى الْمَدْح والافتخار، وَقد قَرَأَ بعض الْمُتَقَدِّمين " وَنحن عصبَة " نصبا عَلَى هَذَا النَّحْو من الِاخْتِصَاص والافتخار. أَبْيَات لسوار يُغني بهَا حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن قصر، قَالَ: حَدَّثَنَا الْجرْمِي، قَالَ: دخلتُ حَماما فِي درب الثَّلج، فَإِذا فِيهِ سَوَّارُ بْن عَبْد اللَّه القَاضِي فِي الْبَيْت الدَّاخِل قَد اسْتلْقى وَعَلِيهِ المئزر، فَجَلَست بِقُرْبِهِ فساكتني سَاعَة ثُمَّ قَالَ: قَدْ أحْشَمْتَني يَا رَجُل، فإمَّا أَن تَخْرُجَ أَوْ أخرج فَقلت: جِئْت أَسأَلك عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مَوضِع الْمسَائِل، فَقلت: إِنَّهَا من مسَائِل الْحمام، فَضَحِك وَقَالَ: هَاتِهَا، فَقلت: مَنِ الْفَتى الَّذِي يَقُولُ: سلبتِ عِظَامِي لَحْمَها فَتَرَكْتِهَا ... عَواريَ ممّا نَالَها تتكسرُ وأخليتِها من مُخِّها فتركتِها ... قواريرَ فِي أجوافها الرّيح تصفرُ إِذَا سمعتْ ذكرَ الْفِرَاق تراعدت ... مفاصلُها خَوفا لمَا تتنظرُ خذي يَدي ثُمَّ اكشفي الثَّوْب فانظُري ... بِلَى جَسَدي لكنني أتستّرُ فَقَالَ سوار: أَنَا وَالله قُلْتُها. قلت: فَإِنَّهُ يُغَنّي بهَا ويجود، فَقَالَ: لَوْ شهد عِنْدِي الَّذِي

ومن مأثور الحكم

يُغني بهَا لجزت شَهَادَته. قَوْله: أحشمتني لُغَة، وحَشَمْتني أَكثر فِي الْعَرَبيَّة، قَالَ الشَّاعِر: لَعَمْرُك إنّ قُرْص أبي خُبيبٍ ... بَطِيءُ النُّضْجِ مَحْشُوم الأكيلِ وَمن مأثور الحكم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ ملك من مُلُوك الْأَعَاجِم لحكيم من حكمائهم: أَي الْمُلُوك أَحزم؟ قَالَ: من ملك جَدُّه هَزْلَه، وقهر رأيهُ هَوَاه، وعَبّر فعلُه عَنْ ضَمِيره، وَلم يَخْدَعْهُ رضاهُ عَنْ خَطَئِهِ، وَلَا غَضَبُهُ عَنْ كَيْدِه. قَالَ القَاضِي: هَذَا من أفْصح لفظ وَأحسنه، وأوضح معنى وأبينه، وأنشدنا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: أَنْشدني أَبِي لبَعض الْأَعْرَاب: أَلا يَا حَمَام الشِّعْبِ شِعْبَ مؤنسٍ ... سُقِيتَ الغَوادِي من حَمَام وَمن شِعبِ سُقيت الغَوادِي رُبَّ خودٍ خَرِيدَةٍ ... أصاختْ لخفضٍ من غِنَائك أَوْ نصبِ فَإِن يرتحلْ صَحْبِي بجُثْمانِ أعظُمي ... يُقِمْ قَلْبِيَ المحزونُ فِي منزل الركبِ الْمجْلس الْعَاشِر رجل أحب قومه حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بكر بن أبي شيبَة الْبَزَّاز، فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وثلثمائة قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ حَسَّانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! رَجُلٌ أحب قوما وَلما يعْمل مثل عَمَلَهُمْ، قَالَ: " هُوَ مِنْهُمْ " قَالَ: فَمَا فَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ. التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي أَبُو الْفَج: أبان رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا جَاءَ عَنْهُ فِي هَذَا الحَدِيث أنَّ من تَولّى قوما وأحبهم، وَكَانَ رَاضِيا بِمَا أَتَوْه من أفعالهم فَهُوَ مِنْهُم، فِي اسْتِحْقَاقه الثَّنَاء والمدح، والتولي لمشاركته إيَّاهُم فِي اعْتِقَاد مَا يعتقدونه وَفِي اسْتِحْسَان مَا يستحسنونه، وَكَذَلِكَ الْأَمر فِي من تولى قوما على اعْتِقَاد فَاسد وَفعل قَبِيح فِي أَنَّهُ مُلْحق فِي الذَّم بهم، وجار فِي سُقُوط الْمنزلَة مجراهم. وَجَاء فِي الْخَبَر أَن من حضر الْفِتْنَة فأنكرها فَهُوَ بِمَنْزِلَة ن غَابَ عَنْهَا، وَمن غَابَ عَنْهَا وَرَضي بهَا كَانَ بِمَنْزِلَة من شَهِدَهَا، وَقد قَالَ اللَّه جلّ جَلَاله " يَا أَيهَا الَّذين آمنا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بعضٍ، وَمَنْ يتولّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين "، وَقَالَ جلّ اسْمه: " الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعضهم من

بعض "، وَقَالَ: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " وَمَا أَتَى بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنى من الْكتاب وَالسّنة كثير جدا، وَقد نعى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُم عَلَى عهد نَبينَا صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم من كَفَرة أهلِ الْكتاب مَا كَانَ من قَبْلَ أسلافهم ومَنْ تقادم عَهده من آبَائِهِم أنبياءهم، لرضاهم بذلك ودينونتهم بِهِ، وتوليهم من تولى دونهم فعله، وَإِن لَمْ يدركوه وَلم يباشروا مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ، وَلم تَزل الْعَرَب تفتخر بِمَا أَتَاهُ الماضون من آبَائِهِم، وتتمادح وتتعاير بِهِ، وينسبونه فِي ألفاظهم إِلَى أنفسهم فِي أشعارهم وخطبهم لهَذَا الْمَعْنى، وَهَذَا مَذْكُور عَلَى استقصاء بشواهده فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز، وَإِذا كَانَ الْأَمر فِي هَذَا الْفَصْل عَلَى مَا وَصفنَا، فَتبين أنَّ الراضي بِالْفِعْلِ والمؤتى لَهُ والدالّ عَلَيْهِ مشارك لفَاعِله فِيمَا بِكَسْبِهِ من حمد أَوْ ذمّ، أَوْ أجرٍ أَوْ إِثْم، وَلذَلِك أشرك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ من تولّى الْحَج من غَيره وَبَين من أوصى بِهِ، وَبَين من نفذه فِي الْأجر، وَبَين آكل الرِّبَا ومؤكله وكاتبه وَشَاهده فِي الْوزر، وَبَين العاصر والمعتصر، وَالْبَائِع وَالْمُشْتَرِي، وَالْحَامِل والمحمول إِلَيْهِ والساقي والشارب فِي اللَّعْنَة الَّتِي أوقعهَا فِي الْخمر، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ كَتَمَ عَلَى غَالٍّ فَهُوَ مثله " وَجَاء فِي الكاتم عَلَى السَّارِق سَرقته أَنَّهُ يشركهُ فِي عارها وإثمها، وَهَذَا الْبَاب أَكثر من أَن يُحصى، وَلم يزل ذَوُو النَّهْي وأولو البصائر والحجى يبعثون عَلَى إتْيَان المحاسن وَفعل المكارم ويحضون عَلَيْهَا، فَيحسن الذّكر لَهُمْ وَالثنَاء عَلَيْهِمْ، ويتوفر من جميل الأحدوثة عَنْهُمْ مَا يرى كثيرا عَلَى من بَاشر الْفِعْل بِنَفسِهِ، وبذل فِي الْعرف خَاصَّة مَاله، وَللَّه در الْقَائِل: وَإِذا امرؤٌ أَهدى إِلَيْكَ صَنِيعة ... من جاهه فكأنّها من مَالِه وَقد حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن إِسْحَاق بْن سَعِيد بْن الْحَارِث الْعقيلِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن مُحَمَّد بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: كتب إليَّ سهل بْن صَالح الْحلْوانِي أنَّ الْحَسَن بِن سهل كتب لرجل شَفَاعَة، فَقَالَ الرَّجُل يَدْعُو لَهُ ويشكره فَقَالَ لَهُ الْحَسَن، عَلَى مَا تشكرنا وَنحن نرى كتب الشفاعات زكاةُ مروءاتنا، وَأنْشد: فَرَضَتْ عليَّ زكاةُ مَا مَلَكَتْ يَدِي ... وزكاةُ جاهي أَن أُعينَ وأشْفَعَا فَإِذا ملكَت فَجُدْ وَإِن لَمْ تستطعْ ... فاجهدْ بوُسْعِك كلِّهِ أَن تنفعا هَكَذَا أمل عَلَيْنَا أَبو النَّضْر هَذَا الْخَبَر من حفظه، فَقَالَ فِيهِ: فَقَامَ إِلَيْهِ يَدْعُو لَهُ ويشكره، وَقَالَ: عَلَى مَا تشكرنا؟ والفصيح من كَلَام الْعَرَب فَشكر لَهُ، تَقول الْعَرَب: شكرت النِّعْمَة وشكرت للمنعم، قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَاشْكُرُوا نعْمَة اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ "، وَقَالَ: " قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ " وَقَالَ تَعَالَى ذكره: " وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تكفرون "، وَقَالَ: " أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ " وَقد جَاءَ:

امرأتك أكرمكم

شكرتُ فلَانا فِي لغةٍ قَليلَة، من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر: هُمُ جَمَعُوا نُعْمَى وبُؤْسي عليكمُ ... فَهَلا شكرتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقَاتِلِ وَقَالَ أَبُو نُخَيْلة السّعدي: شكرتُك إنَّ الشُّكْر حبلٌ من التُّقَى ... وَمَا كلُّ من أوليته نعْمَة يَقْضِي قَالَ القَاضِي: وَلنَا فِي هَذَا الْمَعْنى، وَالْكَلَام عَلَى فقهه، وَبَيَان أصل مَا يتَفَرَّع مِنْهُ رِسَالَة مُفْردَة مستقصاة، يَعِزُّ المتصورون لَهَا، ويَقلُّ القائمون بهَا، وَنَحْمَد اللَّه عَلَى ظَاهر نعمه وباطنها. وأمّا قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: عَلَى مَا تشكرنا، فقد بيّنا فِي مجلسٍ من مجالسنا هَذِهِ أنَّ الفصيح من كَلَام الْعَرَب حذف الْألف فِيمَا يَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب عَلَى لفظ الِاسْتِفْهَام، كَقَوْلِك: فيمَ أَنْت، وَلم فعلت؟ وعلام تذْهب؟ وَعم تسْأَل؟ وَذكرنَا مَا تستشهد بِهِ عَلَى هَذَا، وَبَعض مَا أَتَى عَلَى اللُّغَة الْأُخْرَى الْآتِيَة بِإِثْبَات الْألف بشواهده بِمَا كرهنا إِعَادَته، وَمن هَذَا الْبَاب أَيْضا: حتام كَذَا، كَمَا قَالَ الْكُمَيْت: فَتلك ولاةُ السُّوءِ قَد طَال عَهْدُهُم ... فَحَتّامَ حَتّامَ العَنَاءُ المطولُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحرز الْكَاتِب، قَالَ: قَالَ الْحَسَن بْن سهل: كُتب الشفاعاتِ زَكَاةُ الجاه. امْرَأَتك أكْرمكُم حَدثنَا بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أبي شيخ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْوَاقِدِيّ القَاضِي، قَالَ: جَاءَتْنِي جارتي يَوْمَ عَرَفَة، فَقَالَت لي: مَا عندنَا من آلَة الْعِيد شيءٌ، فمضيت إِلَى صديق لي من التُّجَّار فعرفته حَاجَتي إِلَى الْقَرْض، فَأخْرج إليَّ كيسا مَخْتُومًا فِيهِ ألف وَمِائَتَا دِرْهَم، فَانْصَرَفت بِهِ إِلَى الْمنزل، فَمَا استقررت جَالِسا حَتَّى اسْتَأْذن عَليّ رج من بني هَاشم، فَذَكَرَ تَخَلُّفَ غلّته واختلال حَاله وَحَاجته إِلَى الْقَرْض، فَدخلت إِلَى امْرَأَتي فعجّبْتُها من ذَلِكَ، فَقَالَت: فَمَا عَزْمُك؟ قلت: أشاطره الْكيس، فَقَالَت: وَالله مَا أنصفت، لقِيت رجلا سُوقة فأعطاك شَيئًا، وجاءك رَجُل لَهُ من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِمٌ فتعطيه نصف مَا أَعْطَاك السُّوقة، فأخرجت الْكيس بخاتَمه فَدَفَعته إِلَيْهِ، وَمضى صديقي التَّاجِر يلْتَمس مِنْه الْقَرْض فَأخْرج إِلَيْهِ الْكيس بِخَاتمِهِ، فَلَمّا رَآهُ عرفه فَجَاءَنِي بِهِ، ثُمَّ وافاني رَسُول يحيى بْن خَالِد يَقُولُ: إِن الْوَزير شُغل عَنْكَ بحاجاتِ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهُوَ يطلبك، فركبتُ إِلَيْهِ وحدثته حَدِيث الْكيس وانتقاله، فَقَالَ: يَا غُلَام! هَات الدَّنَانِير، فجَاء بِعشْرَة آلَاف دِينَار، فَقَالَ: خُذ أَنْت أَلفَيْنِ، وَأعْطِ الهاشميّ أَلفَيْنِ، وصديقك التَّاجِر أَلفَيْنِ، وامرأتك أَرْبَعَة آلَاف دِينَار، فَإِنَّهَا أكْرمكُم.

خبر الواقدي مع يحيى بن خالد

قَالَ القَاضِي: أمْلَى عَلَيْنَا أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ هَذَا الْخَبَر فِي إِثْر خبر الْوَاقِدِيّ مَعَ يحيى بْن خَالِد، وَهُوَ يضارع هَذَا الْخَبَر فِي الْجُمْلَة ويناسبه، وَأَنا ذاكره، إِن شَاءَ اللَّه. خبر الْوَاقِدِيّ مَعَ يحيى بْن خَالِد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدثنَا عَامر ابْن عِمْرَانَ بْن زِيَاد، أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الْعَنْبَري، عَنْ أبي عَبْد اللَّه الْوَاقِدِيّ، قَالَ: كنتُ حَنّاطًا بِالْمَدِينَةِ أضارب بِمِائَة ألف دِرْهَم من مَال النّاس قِبَلي، فلزمني وضائع فشخصتُ إِلَى بَغْدَاد وقصدتُ يحيى بْن خَالِد الْبَرْمَكِي، فَجَلَست فِي دهليزٍ وآنست الخَدَم والحاشية، وعَرَّفْتُهم حَاجَتي إِلَى الْوُصُول إِلَيْهِ، فَقَالَ لي بَعضهم: إِذَا وُضع الطَّعَام لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُ أحد، فَحِينَئِذٍ أَدخل فأجلسك مَعَه عَلَى الْمَائِدَة، فَفعل بِي ذَلِكَ، وسألني يحيى عَنْ خبري فشرحته لَهُ، فَلَمّا غسلنا أَيْدِينَا دَنَوْت مِنْهُ أقبل رَأسه فاشمأزّ منّي، فَلَمّا صرت إِلَى الْموضع الَّذِي يركب مِنْهُ إِذْ قَدْ لَحِقَنِي خَادِم بكيس فِيهِ ألف دِينَار، فَقَالَ: الْوَزير يَقْرَأ عَلَيْكَ السّلام وَيَقُول لَك: اسْتَعِنْ بِهَذَا على أَمرك، فَأخذت وعدت فِي الْيَوْم التَّالِي فأجْلِسْتُ مَعَه عَلَى الْمَائِدَة، فَسَأَلَنِي عَمَّا سَأَلَني فِي الْيَوْم الْمَاضِي، كَأَنَّهُ لَمْ يرني، فَلَمّا غسلنا أَيْدِينَا دَنَوْت لأقبل رَأسه فاشمأزَّ من ذَلِكَ، فَلَمّا صرتُ إِلَى مَوضِع الرّكُوب لَحِقَنِي الخادمُ بِمثل ذَلِكَ الْكيس وَمثل تِلْكَ الرسَالَة، فَأَخَذته وانصرفت، وَفعل بِي فِي الْيَوْم الثَّالِث مثل ذَلِكَ، فَلَمّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع وغسلنا أَيْدِينَا دنوتُ لأقبل رَأسه فَلم يشمأز من ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّمَا امْتنعت من هَذَا فِيمَا مضى لأنَّه لَمْ يكن وصل إِلَيْكَ من معروفنا مَا يَحْتمل هَذَا، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَام! سلم إِلَيْهِ الدَّار الْفُلَانِيَّة، يَا غُلَام! أفرشه الْفرش الْفُلَانِيّ، ثُمَّ قَالَ: ادفعوا إِلَيْهِ مائَة ألف دِرْهَم توجّه فِي قَضَاء دينك واحمل عِيَالك إِلَى حضرتنا، فَقتل: إِن رَأْي الْوَزير أَن يَأْذَن لي فِي الشخوص لأسلِّم إِلَى غُرمائي حُقُوقَهم فَأَنا بهم أعرف، وأدم بعيالي فَأَنا بهم أَرْفَق. فَقَالَ: فَلا تتأخر عَنا، وَأمر لي بجائزة أُخْرَى للشخوص، فَقدمت المَدِينَةِ فقضيتُ دَيْني وقدمت بعيالي، وَلم أزل فِي ناحيته ومنقطعًا إِلَيْهِ. قَالَ القَاضِي: وَقد رُوينا فِي هَذَا الْمَعْنى من أَبْوَاب المكارم مَا يعودُ من مَحْمُود مغبتها وَحسن عَاقبَتهَا، وَجَمِيل الأحْدُوثة عَنْ أَهلهَا وَيَأْتِي بالثناء عَلَيْهِمْ، وَإِن تصرمت أزمانهم ففقدت أعيانهم، وَقد جَاءَ فِي تَأْوِيل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: " وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدقٍ فِي الآخرين " أَنَّهُ الثَّنَاء الْحَسَن، وَقد قَالَ حَاتِم: أماويَّ إِن المَال غادٍ ورائحٌ ... ويَبقي من المَال، الأحاديثُ والذكرُ وَقَالَ آخر: ثَمَنُ الْإِحْسَان شكرُ ... ويدُ المعروفُ ذخرُ

تعليق لغوي

وثناء الْحَيّ بعد المو ... ت للميِّتِ عمرُ ولَعَمْري إِن الزَّمَان الَّذِي يُثْنَي فِيهِ عَلَى الْمَيِّت بَعْدَ مَوته أحسن عمريه وأطولهما وأشرفهما وأفضلهما، وَمِمَّا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى: رَدَّتْ صنائعُهُ إِلَيْهِ حَيَاتَهُ ... فكأنّه من نشْرِها منشورُ تَعْلِيق لغَوِيّ قَوْله: فَكَأَنَّهُ من نشرها منشور، فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا فَكَأَنَّهُ من حَيَاة ذكره وَالثنَاء عَلَيْهِ حَيّ غي ميت، يُقَالُ: لفُلَان ذكرٌ حيُّ إِذَا كَانَ باديًا غَيْر خامل، وَقد مَاتَ ذَكَرَ فلَان إِذَا انْقَطع، قَالَ أَبُو نُخَيْلة: فأحييتَ لِي ذكري وَمَا كنتُ خَامِلا ... ولكنَّ بَعْض الذِّكْرِ أَنْبَهَ مِنْ بَعْضِ وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون عني بنشرها رائحتها الطّيبَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: سُقيِتُ دَمًا إنْ لَمْ أَرُعْكِ بضرةٍ ... بَعِيدَةِ مَهْوَى الْقُرْطِ طَيِّبَةِ النّشْرِ وَقَالَ المرقِّش الْأَكْبَر: النّشْرِ مسكٌ والْوُجُوهُ دنانيرٌ ... وأطْرَافُ الأكُفِّ عَنَمْ وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: كأنَّ الْمُدَامَ وصَوْبَ الغمامِ ... ونَشْرَ الْخُزامَى ورِيحَ القطرْ ويروى القَطَر، الْقطر: الْعُود الَّذِي يتبخر بِهِ، وَقيل للمجموعة الَّتِي تُوضَع فِيهَا لتتبخر بِهِ: مقطرة، اشتقاقًا مِنْهُ، قَالَ المرقِّشُ الْأَصْغَر: فِي كلِّ مَمْشى لَهَا مِقْطَرَةٌ ... فِيهَا كبَاءٌ مُعَدٌّ وحَمِيم الْكِبَاء مَمْدُود: الْعود وَقيل: مَا يُتبخر بِهِ، والكبا مَقْصُور المزبلة، وَقَوله: منشور فِيهِ وَجْهَان، أَحدهمَا: أَن يكون مَعْنَاهُ النشر الْمُقَابل للطيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: طوى الموتُ مَا بيني وَبَين محمدٍ ... وَلَيْسَ لما تَطْوي المنيةُ ناشرُ فَجعل مَوته بِمَنْزِلَة ثوب أَوْ غَيره طُوِي مَا كَانَ مِنْهُ ظَاهرا وخفي، وَقد قَالَ الشَّاعِر: فَإِن أظهرُوا خيرا فجَاء بِمِثْلِهِ ... وَإِن هُمُ طَوَوْا عَنْكَ الحديثَ فَلا تَسَلْ وَقَالَ بَعْض الْمُحدثين: فَإِن يَكُ هَذَا مِنْك جِدّا فإنني ... مُدَاوِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ بالهجرِ ومنصرفٌ عَنْكَ انْصِرَافَ ابنِ حرةٍ ... طَوَى وُدَّهُ والطَيُّ أَبْقَى عَلَى النشرِ قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة - وَقد روى لَنَا عَمَّن تَقَدَّمَ بِزَمَان طَوِيل: طَوَتْكَ خُطُوبُ دهرك بَعْدَ نشرٍ ... كَذَاك خُطُوبُهُ نَشْرًا وَطَيًّا وَيُقَال للْحَدِيث إِذَا اشْتهر واستفاض وتفرق: انْتَشَر.

وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يكون معنى منشور: مُحْيًا، وَفِي هَذَا الْوَجْه لُغَتَانِ يُقَالُ: أنشر اللَّه الْمَيِّت إنشارًا فنشر هُوَ نُشُورًا، وَهَذِه أعْلى اللغتين، وأكثرهما وأفصحهما وأظهرهما وَبهَا جَاءَ التَّنْزِيل، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " ثُمَّ إِذَا شَاءَ أنشر "، يُقَالُ من هَذِهِ اللُّغَة: أنشره اللَّه وَهُوَ منشره، وَنشر الْمَيِّت فَهُوَ ناشر، قَالَ الْأَعْشَى: لَوْ أَسْنَدَت مَيْتًا إِلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ وَلم يُنْقَلْ إِلَى قابرِ حَتَّى يَقُولَ النّاس ممّا رَأَوْا ... يَا عَجَبًا للمَيِّتِ الناشرِ وَقَالَ اللَّه أصدق الْقَائِلين: " أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من الأَرْض هم ينشرون " واللغة الثَّانِيَة: نَشَر الْمَيِّت فَهُوَ منشور، وَهُوَ أقل اللغتين، وَكثير من أَهْلَ الْعلم لَا يعرفهَا وَقد حُكيَت لَنَا، وَمِمَّنْ حَكَاهَا أَبُو بَكْر بْن دُريد، وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَام كَيفَ ننشرها "، فَأَتَت فِيهَا ثَلَاث قراءات، نُنْشِرُها بِضَم النُّون وَالرَّاء بِمَعْنى نحييها، كَمَا قَالَ عزَّ ذكره: " قَالَ من يحي الْعِظَام وَهِي رَمِيم " ونَنْشُرُها بالراء أَيْضا بِفَتْح النُّون، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَة وَجْهَان من التَّأْوِيل، أَحدهمَا النشر الَّذِي هُوَ خلاف الطي، وَالْآخر حمله عَلَى لُغَة من يَقُول: نر الله الْمَيِّت فنشر، مثل جبر اللَّه فجبر، كَمَا قَالَ العجاج: قَدْ جَبَر الدِّينَ الإِلَهُ فَجَبَرَ وَمثله: فغرتُ فَاه ففغر إِذَا فَتحته فانفتح، وَمثله: شحا فَاه وشَحَا فُوه. وَالْقِرَاءَة الثَّالِثَة: نُنْشِزها بالزاي بِضَم النُّون أَي نرفع بَعْضهَا إِلَى بَعْض واستقصاء الْكَلَام فِي مَعَاني هَذِهِ الْقرَاءَات وَتَسْمِيَة الْقُرَّاء بهَا وَبَيَان مَا يخْتَار مِنْهَا يطول، وَهُوَ مرسوم فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْقرَاءَات وعلوم الْقُرْآن عَلَى الشَّرْح وَالْبَيَان. وَمِمَّا جَاءَ فِي حَسَن الثَّنَاء مَا أنشدناه عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: أنشدنا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: أَنْشدني أَبُو جَعْفَر الْقُرَشِيّ: كُلُّ الْأُمُور تَزُولُ عَنْكَ وتَنْقَضِي ... إِلَّا الثّنَاءَ فَإِنَّهُ لَك باقِ وَلَو أنني خُيرت كلُّ فَضِيلَة ... مَا اخترتُ غير محَاسِن الأخلاقِ وَقد روينَا فِي بذل الْعَطاء وَمَا ينْتج من حَسَن الثَّنَاء مَا لَمْ نر إطالة هَذِهِ الْمجْلس بِهِ، لأَنا بنينَا كتَابنَا هَذَا عَلَى تَضْمِينه أنواعًا منثورة، وَغير جَارِيَة عَلَى أَبْوَاب مَجْمُوعَة محصورة، لِئَلَّا تَتَفَاوَت مجَالِس الْكتاب فِي الطول وَالْقصر، وَنحن نأتي من هَذَا الْبَاب فِيمَا نستقبله من هَذِهِ الْمجَالِس مَا يتَّفق ويحضر أَولا أَولا، إِن شَاءَ اللَّه. حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْمبرد، قَالَ: أَخْبَرَنَا التوزي، عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ: لمّا بلغ حَاتِم طييء قَول المتلمس: قَليِلُ المالِ تُصْلِحُهُ فيبْقَى ... وَلَا يبقَى الكثيرُ عَلَى الفسادِ وحفظُ المَال خيرٌ من فناهُ ... وعسفٌ فِي الْبِلَاد بغَيْرِ زَاد

العباس بن الأحنف يؤتى به ليلا لإجازة بيت

قَالَ: مَا لَهُ قطع اللَّه لِسَانه حمل النّاس عَلَى الْبُخْل، فَهَلا قَالَ: فَلا الْجُودُ يُفْنى المالَ قَبْلَ فنائه ... وَلَا الْبُخْل فِي مَال الشّحيح يزيدُ فَلا تلتمسْ مَالا بعيشِ مُقَتِّر ... لَك غدٍ رزقٌ يعودُ جديدُ ألم تَرَ أَن المَال غادٍ ورائحُ ... وَأَن الَّذِي يعطيكَ غَيْر بعيدُ وَلَقَد أحسن حَاتِم فِي قَوْله: وَأَن الَّذِي يعطيكَ غَيْر بعيدِ وَلَو كَانَ مُسلما لرجي لَهُ بِمَا أَتَى من هَذَا مَا يغتبطه فِي معاده، وَقد أَتَى كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذَا الْمَعْنى بِمَا يعجز المخلوقون عَنْ مساواته، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ "، وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة الدَّاعِي إِذا دعان ". الْعَبَّاس بْن الْأَحْنَف يُؤْتى بِهِ لَيْلًا لإجازة بَيت حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد بْن أبي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الرّبيع، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْض أَصْحَابنَا، قَالَ: صنع الرشيد ذَاتَ لَيْلَة بَيْتا واضطرب عَلَيْهِ الثَّانِي، فَقَالَ: عليّ بِالْعَبَّاسِ بْن الْأَحْنَف، فأُتي بِهِ فِي جَوف عَلَى حَال من الذُّعْر عَظِيمَة، فَقَالَ لَهُ الرشيد: لَا تُرَعْ، قَالَ: وَكَيف لَا يكون ذَلِكَ؟ وَقد طرقتُ فِي منزلي فِي مثل هَذَا الْوَقْت فَلم أخرج من منزلي إِلَّا والراعبة فِيهِ، وَأَهلي لَا يشكُّون فِي قَتْلِي، فَقَالَ: إنّما أحضرتُك لبيت قلته صَعُب عليّ أَن أُشْفِعَهُ بِمِثْلِهِ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: جنانٌ قَدْ رأيناها ... فَلَمْ نَرَ مَثْلَهَا بَشَرًا فَقَالَ الْعَبَّاس: يَزِيدُك وَجْهُها حُسْنا ... إِذَا مَا زِدْته نَظَرَا إِذَا مَا اللَّيْلُ جَنَّ عَلَيْ ... كَ بالإِظْلام واعْتَكَرَا ودَجَّ فَلم تَرَ قَمَرا ... فَأبْرِزْها ترى قمرا فَقَالَ الرشيد: أقل مَا يجب عَلَيْنَا أَن ندفع إِلَيْكَ دينك إِذْ نزل بك هَذَا الروع بعيالك منا. فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَصَرفه. فِي صلَة هَذَا الْخَبَر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ: سُئِلَ ابْن عَائِشَة عَنْ أشعر الْمُحدثين، قَالَ: الَّذِي يَقُولُ: كَأَن ثِيَابه أطلع ... ن من أَزْرَارِه قَمَرا قَالَ أَبُو بَكْر الصُّولي: فَأخذ هَذَا الْمَعْنى أَحْمَد بْن يحيى بْن الْعرَاق الْكُوفِي فَقَالَ: بَدَا وكَأنّمَا قمرٌ ... عَلَى أزْرَارهِ طَلَعَا

في وجهه شافع

بِحَتِّ الْمِسْك مِنْ ... عِرْقِ الجَبِينِ بنَانُه وَلَعَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد، قَالَ: صرت إِلَى مجْلِس ابْن عَائِشَة وَفِيه الجاحظ والجماز، فَسَأَلَهُ عِيسَى بْن إِسْمَاعِيل تينة: من أشعر المولدين؟ فَقَالَ: الَّذِي يَقُولُ: كأنَّ ثَيَابَهُ أطلع ... ن من أزراره قمراً يزيدك وَجهه حُسْنا ... إِذَا مَا زِدْته نَظَرَا بِعَين خالط التفتي ... ر مِن أجْفَانِها الحَوَرَا وَوَجْهٍ سَامِريٍّ إِذْ تَصَوَّب مَاؤُهُ قَطَرَا يعْنى الْعَبَّاس بن الْأَحْنَف. فِي وَجهه شَافِع حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن يحيى، قَالَ: كنتُ وَاقِفًا بَيْنَ يَدي المعتضد وَهُوَ مقطب، فَأقبل بدرٌ فَلَمّا رَآهُ من بعيد تَبَسم وَأنْشد: فِي وَجْهِهِ شافعٌ يمحُو إساءتَه ... من الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْث مَا شَفَعا ثمَّ قَالَ لي: لِمَنْ هَذَا؟ قلت: يَقُوله الحكم بْن قَنْبَر الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيّ، قَالَ: أَنْشدني بَاقِي شِعره، فَأَنْشَدته: لَهَفي عَلَى مَن أطار النَوْمَ فامْتنعَا ... وزَادَ قَلْبِي عَلَى أوجَاعِهِ وَجَعَا كَأَنَّمَا الشمسُ من أعْطَافه لمعتْ ... حُسْنًا إِلَى البَدْرِ من أزراره طلعا مستقبلُ بِالَّذِي يَهوَى وَإِن عَظُمَتْ ... مِنْهُ الْإِسَاءَة مَعْذُورٌ بِمَا صَنَعَا فِي وَجهه شافعٌ يمحُو إساءتَه ... من الْقُلُوبِ وجيهٌ حَيْث مَا شَفَعا قَالَ الصُّولي: وَأخذ هَذَا الْمَعْنى أَحْمَد بْن يحيى الْعرَاق الْكُوفِي فَقَالَ: بَدَا فكأنّما قمرٌ وَأنْشد الْبَيْتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ الصولي: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه حرمي الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن يحيى الْعرَاق، قَالَ: خرجتُ من بَغْدَاد أُرِيد الْكُوفَة واكتريت حِمَارا فتألمتُ من ركُوبه، وَكَانَ مَعَ المكاري عدةٌ من الْحمير للكراء غَيْرَه، ففكرتُ فِي أَن أسأله إِبْدَاله لي بِغَيْرِهِ فابتدأ يُغَني: بدا وكأنما قمر ... عَلَى أزراره طَلَعا فقلتُ: أُعْلِمْه أنَّ الشّعْر لي حَتَّى يهل عَلَيْهِ إِبْدَاله حماري، فَقلت: لمن هُوَ؟ فَقَالَ: لمن أمه ألف مؤاجرة، جروالك جر، فَخفت وَالله أَن أزداد فيزيدني، وَمر بِي من الْحمار شدَّة.

القول في معنى في وجهه شافع

القَوْل فِي معنى فِي وَجهه شَافِع قَالَ القَاضِي: يتَّجه فِي قَوْله: فِي وَجهه شَافِع يمحو إساءته من الْقُلُوب، أَن يكون الْمَعْنى: يمحو من الْقُلُوب الْإِسَاءَة فيزيلها مِنْهَا، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: فِي وَجهه شَافِع من الْقُلُوب وجيه، وَيكون فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَيكون من الْقُلُوب من صلَة شَافِع، وَيشْهد لهَذَا أَنَّهُ قَدْ روى هَذَا الْبَيْت من طَرِيق آخر: فِي وَجهه شافعٌ يمحُو إساءتَهُ ... مُشَفّعٌ ووجيهٌ حَيْث مَا شفعا فعلى هَذَا: من الْقُلُوب صفة لشافع كمشفع، والتقديم وَالتَّأْخِير إِذَا دلّت جملَة الْكَلَام عَلَى مَعْنَاهُ وعَلى مَوضِع كلّ شَيْءٍ مِنْهُ، كثير فِي اللُّغَة مَشْهُور فِي الْعَرَبيَّة. قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا ". وَقَالَ الشَّاعِر: إِذَا شَاب الْغُرَابُ لقيتُ أَهلِي ... وَصَارَ القَارُ كاللَّبنِ الحَلِيبِ الْأَصْمَعِي يعادي ابْن الْأَحْنَف حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد الثُّمالي: كَانَ الْأَصْمَعِي يعادي عَبَّاس بن الْأَحْنَف، فَقَالَ عَبَّاس يَوْمَا وَهُوَ بَيْنَ يَدي الرشيد والأصمعي بالحضرة: إِذَا أَحْبَبْت أَن تع ... مل شَيئًا يعجبُ النّاسَا فَصَوِّرْ هَا هُنا فَوْزا ... وصَوِّرْ ثَمَّ عَبّاسَا وَدَعْ بَيْنَهُمَا فِتْرًا ... فَإِن زِدْتَ فَلا بَاسَا فَإِن لَمْ يَدْنُوَا حَتَّى ... ترى رأسَيْهما رَاسَا فكذِّبْها بِمَا قاسَتْ ... وَكذبه بِمَا قاسا فَقَالَ الرشيد: مَا رَأَيْتُ معنى أحسن من هَذَا. فَقَالَ الْأَصْمَعِي: قَدْ سبقه إِلَى هَذَا الْمَعْنى رجلٌ من الْعَرَب وَرجل من النّبط، فَقَالَ: مَا قَالَ الْعَرَبِيّ؟ قَالَ: كَانَ رَجُل يُقَالُ لَهُ عُمر يحبُّ جَارِيَة يُقَالُ لَهَا قمر، فَقَالَ: إِذَا أحببتَ أَن تُبْ ... صر شَيئًا يُعْجِب البَشَرَا فَصَوِّرْ هَا هُنَا قَمَرا ... وصَورْ هَا هُنَا عُمرا فَإِن لَمْ يَدْنُوا حَتَّى ... تَرَى بَشَرَيْهِما بَشَرا فكذِّبها بِمَا ذَكَرَتْ ... وَكذبه بِمَا ذَكَرَا قَالَ الرشيد: فَمَا قَالَ النَبَطيُّ؟ قَالَ: كَانَ رَجُل يُقَالُ لَهُ زَوْرا يحب جَارِيَة يُقَالُ لَهَا

تعليق نحوي

فَلْقا، فَقَالَ: إِذَا أَحْبَبْت أَن تع ... مل شَيئًا يعجب الخَلْقَا وَتسمع صَوت معشو ... قين لاقي فِي الْهوى رَبَقَا فصوّر هَا هُنا زَوْرَا ... وصَوِّر هَا هُنَا فَلْقَا فَإِن لَمْ يَدْنُوَا حَتَّى ... ترى خَلْقَيهما خَلْقَا فكذِّبها بِمَا لاقتْ ... وَكذبه بِمَا يَلْقى تَعْلِيق نحوي قَالَ القَاضِي: هَكَذَا رَوَاهُ لَنَا الكوكبي. فصور هَا هُنَا فوزًا بِالصرْفِ، وَترك الصّرْف أَعلَى، وَكَانَ الزَّجّاج لَا يُجِيز صرف شَيْءٍ من الْأَسْمَاء المؤنثة إِلَّا فِي ضَرُورَة الشّعْر، وَكَانَ جَمِيع من تَقَدَّمَ من النُّحَاة يُجِيز فِي مثل هِنْد ودعد، وَمَا كَانَ وَسطه من أَسمَاء الْمُؤَنَّث سَاكِنا ويختارون ترك الصّرْف فِي غَيْر الشّعْر. وَقَوله: حَتَّى ترى رأسيهما رَأْسا، ثنى الرَّأْس فِي اللَّفْظ، والفصيح فِيهِ وَفِيمَا كَانَ فِي الْجَسَد مِنْهُ وَاحِد أَن يُؤْتِي بِهِ عَلَى لفظ الْجَمِيع فِي تثنيته وَجمع، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبكُمَا " واللغة الْأُخْرَى مَعْرُوفَة وَيبين ذَلِكَ قَول أَبِي ذُؤَيْب: فَتَخَالَسَا نَفْسَيْهِمَا بنوافذٍ ... كَنَوافِذِ الْعُبطِ الَّتِي لَا ترقعِ ويروى الْعُبُط وَهُوَ جمع عبيط، يُقَالُ: اعتبط الرَّجُل إِذَا هلك شَابًّا، واعتبط الْبَعِير إِذَا نُحر فَتيا، قَالَ أُميَّة بْن أبي الصَّلْت: من لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يمت هَرَمَا ... للموتُ كأسٌ والمرءُ ذَائِقُها وَالدَّم العبيط: الطريّ، ويروى كنوافذ العطب وَهُوَ جمع عطبة، وَهِي الْقطعَة من الْقطن، مثل غرفَة وغُرف وحُجرة وحُجَر. أنشدنا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَنْشدني أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة: لي صاحبٌ لَيْسَ يَخْلُو ... لِسَانه عَنْ جِرَاحِي يُجِيدُ تمزيق عِرضي ... عَلَى طَرِيق المزاحِ الْمجْلس الْحَادِي عَشْر نَعَم الْإِبِل الثَّلَاثُونَ حَدَّثَنَا بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ شَرِيكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَ الإِبِلُ الثَّلاثُونَ، يُنْحَرُ سَمِينُهَا وَيُحْمَلُ عَلَى نَجِيبِهَا ".

التعليق على الحديث

التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي: قَدْ نَبّه النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَر عَلَى أنَّ هَذَا الْعدَد من الْإِبِل قصدٌ من المَال، وَأَشَارَ بمدحه فِيهِ إِلَى من نحر السمين مِنْهَا وَحمل عَلَى النجيب، فدلّ عَلَى فضل من نحر المَال لسبل الْمَعْرُوف ووجوه الْبر، وَأَوْمَأَ إِلَى التَّرْغِيب فِي قرى الضَّيْف وإنفاق أَعلَى الظّهْر وَبث المكارم العائدة بِالْأَجْرِ وَجَمِيل الذّكر، وَلم يزل الألباءُ يؤثرون بذل النوال وإفاضة الإفضال، تَزَوُّدًا ليَوْم الْعرض، وصيانة للعرض، ورغبة فِي إِحْرَاز الذّكر، وحُسن القالة وَجَمِيل الذّكر، عَلَى تشعب الْأُمُور الباعثة لَهُمْ عَلَى كريم السخاء وشريف العطايا. فَمن جُود مَعْن بْن زَائِدَة حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عَليّ بن مَالك اليباني، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَعْنَب، قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن سلم: لمّا وَلّي الْمَنْصُور معن بْن زَائِدَة أَذَرْبَيْجان قَصده قَوْمٍ من أَهْلَ الْكُوفَة، فَلَمَّا صَارُوا بِبَابِهِ اسْتَأْذنُوا عَلَيْهِ فَدخل الْآذِن فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير بِالْبَابِ وَفد من أَهْلَ الْعرَاق، قَالَ: من أيِّ الْعرَاق؟ قَالَ: من الْكُوفَة، قَالَ: ائْذَنْ لَهُمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَنظر إِلَيْهِم معنٌ فِي هَيْئَة زَرِيَّة، فَوَثَبَ عَلَى أريكته وَأَنْشَأَ يَقُولُ: إِذَا نَوْبَةٌ نابتْ صديقك فاغْتَنِمْ ... مَرَمّتَها فالدهرُ بِالنَّاسِ قُلّبُ فأحسنُ ثوبيكَ الَّذِي هُوَ لابسٌ ... وأفْره مُهريك الَّذِي هُوَ يركب وبادر بمعروفٍ إِذَا كنت قَادِرًا ... زَوَال اقتدارٍ أَوْ غنى عَنْكَ يُعقِبُ قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُل من الْقَوْم، وَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَلا أنْشدك أحسن من هَذَا؟ قَالَ: لمن؟ قَالَ: لِابْنِ عمك ابْن هرمة، قَالَ: هَات، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: وللنفس تاراتٌ تَحَلُّ بهَا العرى ... وَتَسْخُو عَنِ المَال النُّفُوس الشحائح إِذا المرءُ لمن ينفعْك حَيًّا فنفعُه ... أقلُّ إِذَا ضُمّت عَلَيْهِ الصفائحُ لأية حالٍ يمنعُ الْمَرْء مالَهُ ... غَدا فغدا والموتُ غاد ورائحُ قَالَ معن: أحسن وَالله وَإِن كَانَ الشّعْر لغيرك، يَا غُلَام! أعطهم أَرْبَعَة آلَاف يستعينوا بهَا عَلَى أُمُورهم إِلَى أَن يتهيأ لَنَا فيهم مَا نُرِيد، فَقَالَ الْغُلَام: يَا سَيِّدي! أجعلها دَنَانِير أم دَرَاهِم، فَقَالَ معن: وَالله لَا تكون همتك أرفع من همتي، صفّرها لَهُمْ. وَمن سخاء يزِيد بْن الْمُهلب حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِي، قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب فامتدحه، فَأَحْمَد عقله وفصاحته فَجعله أحد ندمائه، وَكَانَ ينْصَرف فِي كلّ يَوْمَ من عطيته بِمِائَة دِينَار، فَلَمّا أَرَادَ الرحيل والانصراف إِلَى أَهله أَمر لَهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار، ثمَّ قَالَ: إِن - وَالله - مَا أستقلُّها تَكَبُرا وَلَا أستكثرها

ليلى الأخيلية ووفودها على الحجاج

امتنانًا، وَلَا أستزيدك بهَا ثَنَاء وَلَا أقطع لَك بهَا رجاءَ. ليلى الأخْيلِيَّةُ ووفودها عَلَى الحَجَّاج حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنْ أبي الْحَسَن الْمَدَائِنِي، عَمَّن حَدثهُ، عَنْ مولى لعنبسة ابْن سَعِيد بْن الْعَاصِ، قَالَ: كنت أَدخل مَعَ عَنْبَسَة إِذَا دَخَلَ عَلَى الحَجَّاج، فَدخل يَوْمَا وَدخلت إِلَيْهِمَا وَلَيْسَ عِنْدَ الحَجَّاج أحد غَيْر عَنْبَسَة، فَقَعَدت فجيء الحَجَّاج بطبق فِيهِ رُطَب، فَأخذ الْخَادِم مِنْهُ شَيئًا فَجَاءَنِي، ثُمَّ جَاءَ بطبق آخر فَأَتَانِي الْخَادِم مِنْهُ بِشَيْء، ثُمَّ جِيءَ بطبق آخر حَتَّى كثرت الأطباق، وَجعل لَا يُؤْتونَ بِشَيْء إِلَّا جَاءَنِي مِنْهُ بِشَيْء حَتَّى ظَنَنْت أنَّ مَا بَيْنَ يَدي أَكثر ممّا عِنْدهم، ثُمَّ جَاءَ الْحَاجِب فَقَالَ: امْرَأَة بِالْبَابِ، فَقَالَ الْحجَّاج: أدخلها. فَدخلت، فَلَمّا رَآهَا الحَجَّاج طأطأ رَأسه حَتَّى ظَنَنْت أنَّ ذقنه قَدْ أصَاب الأَرْض، فَجَاءَت حَتَّى قعدت بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَظَرت إِلَيْهَا فَإِذا امْرَأَة قَدْ أَسِنَت، حَسَنَة الخَلْق، وَمَعَهَا جاريتان لَهَا، وَإِذا هِيَ ليلى الأخيلية، فَسَأَلَهَا الحَجَّاج عَنْ نَسَبهَا فانتسبت لَهُ، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى! مَا أَتَانِي بك؟ قَالَتْ: إخلاف النُّجُوم وَقلة الغيوم وكلب الْبرد وَشدَّة الْجهد، وَكنت لنا بعد الله الرفد، فَقَالَ لَهَا: صفي لنا الفجاج، فقاتل: مغبرة وَالْأَرْض مقشعرة، والمبرك معتل، وَذُو الْعِيَال مختل، وَالْمَال القُلّ، وَالنَّاس مُسنتون، رَحْمَة الله يرجون، وأصابتنا سنُون مجحفة مبلطة، لم تدع لَنَا هُبَعًا وَلَا ربَعًا، وَلَا عافطة وَلَا نافطة، أذهبت الْأَمْوَال ومزقت الرِّجَال وأهلكت الْعِيَال، ثمَّ قَالَتْ: قَدْ قلت فِي الْأَمِير قولا، قَالَ: هَاتِي، فأنشأت تَقول: أحجّاجُ لَا يُفْلَلُ سلاحُك إِنَّمَا ال ... منايا بِكفِّ اللَّه حَيْثُ يَرَاها أحجاجُ لَا تُعْطِي العداة مناهمُ ... وَلَا اللَّهُ يُعْطي للعُداة مناها ذَا هَبَط الحَجَّاجُ أَرضًا مَرِيضَة ... تتبع أقْصَى دائها فشفاها شفاها من الدَّاء الْعُضال الَّذِي بهَا ... غُلَام إِذَا هَزَّ القناةَ سَقَاها سَقَاهَا فرواها بشِرْبٍ سِجَالُهُ ... دِماءَ رِجال حَيْثُ قَالَ حشاها إِذَا سمع الحَجَّاج رِزَّ كَتِيبَة ... أعدَّ لَهَا قَبْلَ النُّزُول قِراها أعدَّ لَهَا مَسْمومة فارسيَّة ... بأيدي رجال يَحْلِبُون صَرَاها فَمَا ولدَ الأبكارُ والْعُونُ مثلَه ... ببحرٍ وَلَا أرضٍ يَجِفُّ ثَرَاها قَالَ: فَلَمّا قَالَتْ هَذَا الْبَيْت، قَالَ الحَجَّاج: قاتلها اللَّه! مَا أصَاب صِفَتي شَاعِر مُنْذُ دخلت الْعرَاق غَيرهَا، ثُمَّ الْتفت إِلَى عَنْبَسَة بْن سَعِيد، فَقَالَ: وَالله إِنِّي لأعد لِلْأَمْرِ عَسى أَلا يكون أبدا، ثُمَّ الْتفت غليها، فَقَالَ: حَسبك، فَقَالَت: قَدْ قلت أَكثر من هَذَا، قَالَ: حَسبك

وَيحك حَسبك، ثمَّ اقل: يَا غُلَام! اذْهَبْ بهَا إِلَى فلَان فَقل لَهُ: اقْطَعْ لسانها، فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَك الْأَمِير: اقْطَعْ لسانها، قَالَ: فَأمر بإحضار الْحجام، والتفتت إِلَيْهِ وَقَالَت: ثكلتك أمك، أما سمعة مَا قَالَ، إِنَّمَا أَمرك أنَّ تقطع لساني بِالْبرِّ والصلة فَبعث إِلَيْهِ يستثبته، فاستشاطَ الحجّاج غَضبا وهم بِقطع لِسَانه، وَقَالَ: اردُدها، فَلَمّا دخلت عَلَيْهِ، قَالَت: كَاد - وَأَمَانَة اللَّه - أَيهَا الْأَمِير يقطع مقولي، ثمَّ أنشأت تَقول: حجاج أَنْت الَّذِي مَا فَوْقه أحد ... إِلَّا الْخَلِيفَة والمستغفر الصمدُ حجاج أَنْت شهَاب الْحَرْب إِن لقحت ... وَأَنت للنَّاس نور فِي الدجى يقدُ ثمَّ أقبل الْحجَّاج على جُلَسَائِهِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ من هَذِه؟ قَالُوا: لَا وَالله أَيهَا الْأَمِير، إِلَّا أننا لَمْ نر امْرَأَة قَط أفْصح لِسَانا وَلَا أحسن محاضرة، وَلَا أصبح وَجها وَلَا أرصن شعرًا مِنْهَا، فَقَالَ: هَذِهِ ليلى الأخْيِلِية الَّتِي مَاتَ تَوْبَة الخفاجي من حبها، ثُمَّ الْتفت إِلَيْهَا، فَقَالَ: أنشدينا يَا ليلى بَعْض مَا قَال فِيك تَوْبَة، فَقَالَت: نَعَمْ أَيهَا الْأَمِير، هُوَ الَّذِي يَقُولُ: وَهل تبكين ليلى إِذَا متُّ قبلهَا ... وقامتْ عَلَى قَبْرِي النِّسَاءُ النوائحُ كَمَا لَوْ أصَاب الموتُ ليلى بكيتُها ... وجَادَ لَهَا دمعُ من الْعين سافحُ وأُغْبَطُ من ليلى، بمالاً أنالهُ ... بَلَى كُلُّ مَا قَرَّتْ بِهِ العَيْن صَالِحُ وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي تُرْبة وصفائحُ لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صائحُ فَقَالَ لَهَا: زيدينا يَا ليلى من شعره، فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ الَّذِي يَقُولُ: حمامةَ بطن الواديَيْنِ تَرَنّمِي ... سقاك من الْغُرِّ الغَوَادِي مطيرُها أبيني لَنَا لَا زَالَ ريشُك نَاعِمًا ... وَلَا زلتِ فِي خَضْراء دَانٍ نَضِيرُها وأشرفُ بالقَوْزِ اليَفَاع لعلّني ... أرى نَار ليلى أَوْ يراني بَصِيرُها وَكنت إِذَا مَا جئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الغَدَاةَ سُفُورُها يَقُولُ رَجالٌ لَا يُضيرُك نأيُها ... بلَى كلُّ مَا شفَّ النفوسَ يضِيرُها بلَى قَدْ يضير الْعين أَن تكْثر البك ... ى يمْنَع مِنْهَا نومُها وسرورُها وَقد زعمتْ ليلى بأنِّيَ فاجرٌ ... لنَفْسي تقاها أَوْ عَلَيْهَا فجورُها فَقَالَ الحَجَّاج: يَا ليلى! مَا الَّذِي رابه من سفورك؟ قَالَتْ: أَيهَا الْأَمِير! كَانَ يُلِمّ بِي كثيرا فَأرْسل إليَّ يَوْمَا: أَنِّي آتِيك، فَفطن الحيُّ فأرصدُوا لَهُ، فَلَمّا أَتَانِي سَفِرتُ فَعلم أنَّ ذَلِكَ لشرّ، فَلم يزدْ عَلَى التَّسْلِيم وَالرُّجُوع، فَقَالَ: لله درُّك! فَهَل رَأَيْت مِنْهُ شَيْئا تكرهينه؟

ذكر السبب في وفاتها

قَالَ: لَا، وَالله الَّذِي أسأله أَن يُصلحك، غَيْر أَنَّهُ قَالَ لي مرّة قولا ظننتُ أَنَّهُ قَدْ خضع لبَعض الْأَمر فأنشأت أَقُول: وَذي حَاجَة قُلْنَا لَا تَبُحْ بهَا ... فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حييتَ سبيلُ لَنَا صاحبٌ لَا نبتغي أَن نخونه ... وأنتَ لأخرى صاحبٌ وخليلُ فَلا وَالله الَّذِي أسأله أَن يصلحك مَا رأيتُ مِنْهُ شَيْئا قد فرّق الموتُ بيني وَبَينه، قَالَ: ثُمَّ مَه، قَالَتْ: ثُمَّ إِنَّه لَمْ يلبث أَن خَرَجَ فِي غزاةٍ لَهُ فأوصى ابْن عَمه: إِذَا أتيت الْحَاضِر من بني عبَادَة فَنَادِ بِأَعْلَى صَوْتك: عَفا اللَّه عَنْهَا هَلْ أبيتَن لَيْلَة ... من الدَّهْر لَا يسري إليَّ خَيَالُها فَخرج وَأَنا أَقُول: وَعنهُ عَفا رَبِّي وَأحسن حالهُ ... فغز عَلَيْنَا حَاجَة لَا ينالُها قَالَ: ثُمَّ مَه، قَالَتْ: ثُمَّ لَمْ يلبث أَن مَاتَ فَأتى نعيه، قَالَ: فأنشدينا بَعْض مراثيك فِيهِ، فَأَنْشَدته: كَأَن فَتى الفتيان توبةَ لَمْ يُنِخ ... قَلَائِص يفحصن الْحَصَى بالكَرَاكرِ لِيَبْك العذارى من خفاجة نسوةٌ ... بماءِ شئونِ العَبْرة الْمُتَحادِرِ فَلَمّا فرغتْ من القصيدة، قَالَ مُحصن الفقعسي، وَكَانَ من جُلساء الحَجَّاج: من الَّذِي يَقُولُ هَذِهِ هَذَا فِيهِ، فواللَّه إِنِّي لأظنها كَاذِبَة، فَنَظَرت إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: وَالله أَيهَا الْأَمِير إِن هَذَا الْقَائِل لي لَوْ رَأَى تَوْبَة لسَرَّه أَلا يكونَ فِي دَاره عذراء وَهِي حَامِل مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الحَجَّاج: هَذَا وَأَبِيك الْجَواب، وَقد كنت عَنْهُ غَنِيا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: سَلِي يَا ليلى تُعْطَيْ، قَالَتْ: أعْط فمثلك أعْطى فَأحْسن، قَالَ: لَك عشرُون قَالَتْ زِدْ فمثلك زَاده فأجمل، قَالَ: لَك أَرْبَعُونَ، قَالَتْ: زد فمثلك زَاد فأفضل، قَالَ: لَك سِتُّونَ قَالَتْ: زد فمثلك زَاد فأكمل، قَالَ: لَك ثَمَانُون، قَالَتْ: زد فمثلك زَاد فتممّ، قَالَ: لَك مائَة، واعلمي يَا ليلى أَنَّهَا غنم، قَالَتْ: مُعَاذِ اللَّه أَيهَا الْأَمِير، أَنْت أجودُ جُودًا وأمجد مجدًا وأورى زِنْدًا من أَن تجعلها غنما، قَالَ: فَمَا هِيَ وَيحك يَا ليلى؟ قَالَتْ: مائَة نَاقَة برعاتها، فَأمر لَهَا بهَا، ثُمَّ قَالَ: لَك حَاجَة بعْدهَا، قَالَتْ: تدفع إليَّ النابغةَ الجَعْدي فِي قَيْد، قَالَ: قَدْ فعلتُ، وَقد كَانَتْ تهجوه ويهجوها، فَبلغ النَّابِغَة ذَلِكَ فَخرج هَارِبا عائذًا بِعَبْد الْملك بْن مَرْوَان فاتبعته فهرب إِلَى قُتَيْبَةَ بْن مُسْلِم بخراسان فاتّبَعَتْه عَلَى الْبَرِيد بِكِتَاب الحَجَّاج إِلَى قُتَيْبَةَ، فَمَاتَتْ بقُومِس وَيُقَال بحلوان. ذَكَرَ السَّبَب فِي وفاتها وَقد ذَكَرَ فِي وفاتها أمرٌ عَجِيب يُخَالف مَا فِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَة، وَأَنا بعون اللَّه ذَاكر مَا حضرني مِنْهُ ومتبعه الْبَيَان عَمَّا يشكل من غَرِيب هَذَا الْخَبَر إِن شَاءَ اللَّه.

خبر ثان في ذلك

فمما روينَاهُ من وَفَاة ليلى الأخيلية مَا حدّثنَاهُ مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أبي الثَّلج، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن فهم، قَالَ: حَدثنِي حُسَيْن بْن فهم، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يحيى الأَزْدِيّ، عَنِ الْقُتَبي قَالَ: قَالَ تَوْبَة بْن الْحمير: وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي جَنْدَلٌ وصفائحُ لسلمتُ تَسْلِيم البشاشة أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صَائِحُ وأُغْبَطُ من ليلَى بِمَا لَا أَنَالَهُ ... بَلَى كُلُّ مَا قَرَّتْ بِهِ العَيْن صَالِحُ قَالَ: فَلَمّا قُتل تَوْبَة وأتى بَعْدَ مَقْتَله دهر، اجتاز زَوْجَ ليلى الأخيلية وَهِي مَعَه عَلَى قبر تَوْبَة، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى! هَذَا قبرُ تَوْبَة الَّذِي يَقُولُ: لسلمتُ تَسْلِيم البشاشة أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صائحُ نَادِيه حَتَّى يجيبك كَمَا زعم، قَالَتْ: اذهبْ عَنْكَ، فَأبى وألحّ وَحلف عَلَيْهَا أَن تنادِيَه، قَالَ: فاستعبرتْ ثُمَّ نادت: يَا تَوْبَة، قَالَ: ويزقُو ثَعْلَب كَانَ إِلَى جَانب الْقَبْر فَخرج يَصِيح ويفوت نَاقَة ليلى، فَسَقَطت عَنْهَا فارتاعت لذَلِك واحتملها زَوجهَا فَذهب بهَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَب مَوتهَا، عاشت أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَت. خبر ثَان فِي ذَلِكَ وَمن ذَلِكَ مَا حدّثنَاهُ مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس الأَزْدِيّ قَالَ: خَرَجَ زَوْجَ ليلى الأخيلية بليلى، فمرَّا عَلَى قُبر تَوْبَة بْن الْحُمَيِّر، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى هَذَا الَّذِي يَقُولُ فِيك: وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سَلَّمَتْ ... عَلَيَّ وَفَوْقِي تُرْبة وصفائحُ لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أَو زَقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صَائِحُ فَقَالَ: أَنْت طالقٌ إنّ لَمْ تُسلَّمي عَلَيْهِ حَتَّى أنظر مَا يرد عَلَيْكَ، فَقَالَت: وَمَا دعَاك إِلَى عِظَام قَدْ رُمّت، قَالَ: هُوَ مَا سَمِعت، فدنت مِنْهُ، فَقَالَت: السّلامُ عَلَيْكَ يَا تَوْبَة فَتى الفتيان وَسيد الشّبان، قَالَ: وَكَانَت قَطَاة قَدْ عَشّشَتْ فِي جَانب الْقَبْر، فَلَمّا سَمِعت الصَّوْت نَفَرتْ وَخرجت تَقول: قطا قطا، فَلَمَّا سَمِعت ناقةُ ليلى الصوتَ نَفَرَتْ بليلى فَسَقَطت فاندقت عُنقها، فدفنت إِلَى جَانِبه. خبر آخر عَجِيب فِي ذَلِكَ وَمن أعجب مَا روى لَنَا فِي هَذِهِ الْقِصَّة، مَا حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَر بْن مُحَمَّد بْن الحكم النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن زَيْدُ النَّيْسَابُوريّ: أنَّ ليلى الأخيلية بَعْدَ موت تَوْبَة تزوجت، ثُمَّ إِن زَوجهَا بَعْدَ ذَلِكَ مرّ بِقَبْر تَوْبَة وليلى مَعَه، فَقَالَ لَهَا: يَا ليلى تعرفين هَذَا الْقَبْر؟ فَقَالَت لَا، قَالَ: هَذَا قبر تَوْبَة فسلِّمي

التعليق على الخبر بأكمله

عَلَيْهِ، فَقَالَت: امْضِ لشأنك فَمَا تُرِيدُ من تَوْبَة وَقد بليتُ عِظَامَه، قَالَ: أُرِيد تَكْذِيبه، أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُول: وَلَو أنَّ ليلى الأخيلية سلمت ... عَلَى ودوني تُرْبة وصَفَائِحُ لسلّمتُ تَسْلِيم البَشَاشَةِ أوزقا ... إِلَيْهَا صَدى من جَانب الْقَبْر صَائِحُ فوَاللَّه لَا برحتُ أَوْ تسلِّمي عَلَيْهِ، فَقَالَت: السّلام عَلَيْكَ يَا تَوْبَة ورحمك اللَّه وَبَارك لَك فِيمَا صرت إِلَيْهِ، فَإِذا طَائِر قَدْ خَرَجَ من الْقَبْر حَتَّى ضرب صَدْرها فشهقت شهقة فَمَاتَتْ فدفنت إِلَى جَانب قَبره فَنَبَتَتْ عَلَى قَبره شَجَرَة وعَلى قبرها شَجَرَة فطالتا فالتفتا. التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر بأكمله قَالَ القَاضِي: قَول ليلى الأخيلية فِي هَذَا الْخَبَر الَّذِي قدمنَا رِوَايَته: أصابتنا سنُون مجحفة مبلطة، فمجحفة الَّتِي قد جهدتم وأصارتهم إِلَى اختلال أَحْوَالهم، وَالنَّقْص الْبَين فِي وفرهم وَأَمْوَالهمْ، قَالَ الشَّاعِر: لَوْ قَدْ نزلتَ بهم تَريدُ قراهمُ ... مَنَعُوكَ من جُهْدٍ وَمن إجحافِ والمبلطة عَلَى نَحْو هَذَا الْمَعْنى، وَهِي الَّتِي فرقت جَمَاعَتهمْ، وشتتت شملهم، وفرقتهم للقحط الَّذِي لَا مقَام مَعَه، والجدب الَّذِي لَا صَبر عَلَيْهِ، وَقد حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بِشْر المرثدي، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله الطلحي قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبرنِي القرمطي الْوَالِبِي: الإبلاط غَايَة الْجهد وَالْحَاجة، قَدْ أبلط الرَّجُل، وَالسّنة المبلطة الَّتِي قَدْ أكلت كلّ شَيْءٍ فَلم تدع شَيئًا. وَقَوْلها: لَمْ تدع لَنَا هُبَعًا وَلَا ربَعًا: الرّبع من الْإِبِل الَّتِي تَأتي فِي أول النِّتَاج والهبع الَّتِي تَأتي فِي آخِره، قَالَ الشَّاعِر: وَلَا وجد ثَكْلَى كَمَا وَجِدَتْ ... وَلَا أمُّ أضلها ربعُ وَقَالَ الْأَعْشَى: تلوي بِعَذِقِ خضاب كُلما خَطَرَتْ ... عَنْ فَرْجِ مَعْقُومة لَمْ تَتبع رُبَعا وَيُقَال لَهُ ربيع، قَالَ الشَّاعِر: إِن بَنِيَّ صِبْيَةٌ صيْفِيُّون ... أَفْلح من كَانَ لَهُ رِبْعيُّون وَقَالَ آخر: إذْ هِيَ أحْوَى من الرِّبِعيِّ، حاجبهُ ... والعينُ بالإثمد الحاريِّ مكحولُ وروى أنَّ دَرَاهِم أَصْحَاب الْكَهْف كَانَتْ كأخفاف الرِّبْع ويروى أنَّ يُونُس عَلَيْهِ السّلام لمّا جعل النُّبُوَّة تفسّخ تحتهَا كَمَا يتفسخ الرِّبْعُ تَحت الْحِمْل الثقيل. وَقَوْلها: وَلَا عافطة، تُرِيدُ الْوَاحِدَة من الضَّأْن، وَلَا نافطة، الْوَاحِدَة من المَعز، يُقَالُ:

نفطت العَنْز وعفطت الضائنة، وهما مِنْهُمَا كالامتخاط والاستنثار من النّاس، فَكَأَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ تدع لَنَا عَنْزًا وَلَا ضأنًا، وَمثل هَذَا قَوْلهم: مَالَه سَبَدٌ وَلَا لُبَد، يُرِيدُونَ شَاة وَلَا نَاقَة، وَقد يُقَالُ للصوف: لَبَد، والسّبد: الشّعْر، وَنَظِير هَذَا قَوْله: لَمْ تبْق لَهُ ثاغية وَلَا راغية أَي شَاة وَلَا بعير، فالثغاء صَوت الْغنم والرغاء صَوت الْإِبِل، وَمن الرُّغاء قَول الشَّاعِر: رَغَا فَوْقهم سَقْبُ السَّمَاءِ فداحصٌ ... بِشَكّتهِ لَمْ يُسْتَلَبْ فَسَلِيبُ يَعْنِي سقب نَاقَة صَالح، وَمثله قَول الشَّاعِر: فَلَمّا رَأَى الرَّحْمَن أَن لَيْسَ فيهم ... رشيد وَلَا ناهٍ أَخَاهُ عَن الغدرِ وصب عَلَيْهِ تَغْلِبَ ابنةَ وائلٍ ... فَكَانَ عَلَيْهِمْ مثلُ راغيةِ البكرِ وَمن السّبَد قَول الشَّاعِر: أما الْفَقِير الَّذِي كَانَتْ حلوبته ... وَفْقَ الْعِيَال فَلم يُتْركْ لَهُ سبدُ وَفِي الطير طَائِر يُقَالُ لَهُ السبد لوفور ريشه. وَقَوْلها: فَمَا وُلِدَ الْأَبْكَار والْعُون مثله، العون: جمع عوان وَهِي الَّتِي بَيْنَ الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره فِي صفة بقرة بني إِسْرَائِيل " إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فارضٌ وَلا بكرٌ عوانٌ بَين ذَلِك "، وَيُقَال: حَرْبٌ عَوَان إِذَا لَمْ تكن مُبتَدأَة، وحاجة عوان إِذَا لَمْ تكن بَكْر الْحَاج، قَالَ الشعار: قُعُودًا لَدَى الأبوابِ طالبُ حاجةٍ ... عوانٍ من الْحَاجَات أَوْ حَاجةٍ بكرِ وَمِمَّا نستحسنه لبَعض الْمُحدثين فِي معاتبة بعض ذَوي الْخِيَانَة من الإخوان: وكنتَ أخي بإخاء الزَّمَان ... فَلَمّا انْقَضى صرت حَرْبًا عَوَانًا وكنتُ أعدُّك للنّائباتِ ... فها أَنَا أطلب مِنْك الأمانا وَنَظِير هَذَا قَول الشَّاعِر الآخر: أيا مولَايَ صرت قذى لعَيْنِي ... وسترًا بَيْنَ جفني والمَنَام وكنتَ من الحوادثِ لي مَلاذا ... فصَرتَ مَعَ الحوادِث فِي نِظام وكنتَ من المصائب لي عَزَاءً ... فصرت من الْمُصِيبَات الْعِظَام وَقَالَ آخر: هَبِ الزَّمَان زماني ... الشَّأْن فِي الخُلان يَا مَنْ رَمَانِي لمّا ... رَأَى الزَّمانَ رَمَاني وَمن ذخرتُ لنَفْسي ... فَعَاد ذُخْرَ الزمانِ لَوْ قيل لي خُذْ أَمَانًا ... من أعظم الحدثانِ

أعطنا حقنا الذي في هذا المصحف

لما أخذتُ أَمَانًا ... إِلَّا من الإخوانِ وَقَالَ ابْن الرُّومِي: تَخِذْتكمُ ظهرا وعونًا لتدفعوا ... نبال الْعِدَا عَنِّي فصرتُم نِصَالُها وَقد كنت أرجُو مِنْكُم خَيرَ صاحبٍ ... عَلَى حينِ خِذْلانَ اليمينِ شِمَالُها فَإِن أَنْتُمُ لَمْ تحفظُوا لمودَّتي ... فكونوا كَفَافًا لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا قفوا موقف المَعْذور عنِّي بمعزلٍ ... وخَلُّوا نِبَالي والْعِدَا ونبالَها وَمِمَّا يضارع هَذَا النَّوْع بعض المضارعة قَول ابْن الرُّومِي: عَدُوَّكَ من صديقك مستفادٌ ... فَلا تستكثرنَّ من الصحابِ فَإِن الداءَ أكثرَ مَا تَرَاهُ ... يكون من الطَّعَام أَو الشَّرَاب وَأَعْجَبهُ هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ: عَدُوَّكَ من صديقك مستفادٌ ... فَلا تكثرن من الصَّديقِ فَإِن الداءَ أكثرَ مَا تَرَاهُ ... يكون من الْمُسَوَّغ فِي الحلوقِ وَهَذَا بَاب إِن استقصيناه طَال جدا وتجاوزنا بِهِ حدّ الْمجْلس الْوَاحِد من مجَالِس كتَابنَا هَذَا، وَلم يبن هَذَا الْكتاب عَلَى اسْتِيفَاء أَبْوَاب أَنْوَاعه، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ موشحا ممتزجًا، بِمَنْزِلَة الحدائق الْمُشْتَملَة عَلَى أَنْوَاع مُخْتَلفَة، يَقع الْأنس بمشاهدتها، والالتذاذ بجناها، وَالِانْتِفَاع بثمرها. وَقَول تَوْبَة: وأشرف بالقوزِ اليَفَاع، القَوْز: الْوَاحِد من أقواز الرمل وَهُوَ مَا علا وأشرف مِنْهُ، وَكَذَلِكَ اليفاع مَا ارْتَفع، وَقَالَ: أَيفع الْغُلَام فَهُوَ يافع إِذَا ارْتَفع، وَهُوَ من نَوَادِر أَبْوَاب الْعَرَبيَّة، لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى أفعل فَهُوَ فَاعل، وَله أَخَوَات مَعْدُودَة مِنْهَا: أورف الظل فَهُوَ وارف، وأورس الرمث فَهُوَ وارس، وَقد قَالَ النَّابِغَة: كليني لِهَمٍّ يَا أميمةَ ناصبٍ ... وليلٍ أقاسيه بطيءِ الْكَوَاكِب بِمَعْنى مُنْصب، كَمَا قَالَ فِي كلمة أُخْرَى: تعنّاك همٌّ من أُمَيْمَة منصبُ وَقَوله: أرى نَار ليلى أَوْ يراني بصيرها، أَي يراني المبصر بهَا، وَالْعرب تَقول: ليل نَائِم وسر كاتم أَي منوم ومكتوم، قَالَ جرير: لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أمَّ غَيْلان فِي السُّرى ... ونِمتِ، وَمَا ليلُ المَطِيِّ بنائمِ وَمثل هَذَا كثير. أعطنا حَقنا الَّذِي فِي هَذَا الْمُصحف حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن

حكمة علي محبرة

سَعِيد بْن مُسْلِم الْبَاهِلِيّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي من حضر مجْلِس السفاح وَهُوَ أحشد مَا كَانَ ببني هَاشم والشيعة ووجوه النّاس، فَدخل عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَن وَمَعَهُ مصحف، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أعطنا حَقنا الَّذِي جعله اللَّه لَنَا فِي هَذَا الْمُصحف، فأشفق النّاس أَن يعجل السفاحُ بِشَيْء إِلَيْهِ فَلا يُرِيدُونَ ذَلِكَ فِي شيخ بني هَاشم فِي وقته، أَوْ يعيا بجوابه فَيكون ذَلِكَ نقصا وعارًا عَلَيْهِ، قَالَ: فَأقبل عَلَيْهِ غَيْر مغضب وَلَا منزعج، فَقَالَ: إِن جدَّكَ عليًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَكَانَ خيرا منّي وَأَعْدل، وَلِي هَذَا الْأَمر فَأعْطى جَدَّك الْحَسَن وَالْحُسَيْن رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَكَانَا خيرا مِنْك شَيئًا، وَكَانَ الْوَاجِب أَن أُعْطِيك مثله، فَإِن كنت فعلت فقد أنصفتُك، وَإِن كنت زدتُك فَمَا هَذَا جزائي مِنْك، قَالَ: فَمَا ردّ عبدُ اللَّه جَوَابا، وَانْصَرف النّاس يتعجبون من جَوَابه لَهُ. حِكْمَة عَلَى مِحْبرة حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس بْن مَسْرُوق قَالَ: رَأَيْت عَلَى محبرة مَكْتُوبًا: تَمَكَّنَ فِي الفؤادِ فَمَا أُبَالِي ... أَطَالَ الهجرَ أم مَنَح الْوِصَالا الْمجْلس الثَّانِي عَشْر امْرُؤ الْقَيْس يحمل لِوَاء الشّعْر إِلَى النَّار حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْد اللَّه بْن نصر بْن بُجَيْرٍ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ ابْن سَيْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَارُ أَبِي عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقَدْ أَحْيَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْس، قَالَ: وَكَيف ذال؟ قَالُوا: أَقْبَلْنَا نُرِيدُكَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ فَمَكَثْنَا ثَلاثًا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَتَفَرَّقْنَا إِلَى أُصُولِ طَلْحٍ وَسَمُرٍ لِيَمُوتَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا فِي ظلّ شجر، فينما نَحن بآخر رَمق غذ رَاكِبٌ يُوضَعُ عَلَى بَعِيرٍ مُعْتَمٌّ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُنَا قَالَ وَالرَّاكِبُ يسمع: لما رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّهَا ... وَأَنَّ الْبَيَاضَ مِنْ فَرَائِصِهَا دَامِي تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضارجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي قَالَ الرَّاكِبُ مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ؟ وَقَدْ رَأَى مَا بِنَا مِنَ الْجَهْدِ، قَالَ: قُلْنَا: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: مَا كَذَبَ وَإِنَّ هَذَا لضارجٌ أَوْ ضَارِجٌ عِنْدَكُمْ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ المَاء نحون مِنْ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَحَبَوْنَا إِلَيْهِ عَلَى الرُّكَبِ، فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَيْهِ الْعَرْمَضُ يَفِيءُ عَلَيْهِ الظِّلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ رَجُلٌ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيَا مَنْسِيٌّ فِي الآخِرَةِ، شَرِيفٌ فِي الدُّنْيَا خَامِلٌ فِي الآخِرَةِ، بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ ".

رواية أخرى للخبر

رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ السُّكَيْنِ الْبَلَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ هِلالٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ جَارُ أَبِي عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ عَفِيفٍ أَوْ قَالَ: عَفِيفِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ قَوْمٌ مِنَ الأَعْرَابِ حُفَاةً عُرَاةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَنْجَانَا اللَّهُ بِبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقْبَلْنَا نُرِيدُكَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَضْلَلْنَاهُ ثَلاثًا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ عَمَدَ كلُّ رَجُلٍ مِنَّا إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ أَوْ سَمُرَةٍ لِيَمُوتَ تَحْتَهَا، فَإِذَا رَاكِبٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُوضَعُ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُنَا قَالَ وَالرَّاكِبُ يسمع: لما رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّهَا ... وَأَنَّ الْبَيَاضَ مِنْ فَرَائِصِهَا دَامِي تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي قَالَ: فَقَالَ الرَّاكِبُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ؟ قَالَ: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَ وَإِنَّ عِنْدَهُ الآنَ لَضَارِجًا عَلَيْهِ الْعَرْمَضُ يَفِيءُ عَلَيْهِ الظِّلُّ، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذَا لَيْسَ بَينا وَبَيْنَهُ إِلا قَدْرُ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ رَجُلٌ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيَا، مَنْسِيٌّ فِي الآخِرَةِ، بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ ". قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر وَالشعر: وَأَن الْبيَاض من فرائصها دامي (الفرائص) جمع فريصة وَهِي الْموضع الَّذِي يترعد من الدَّابَّة، قَالَ النَّابِغَة الذبياني: شَكَّ الفريصَةَ بالْمِدْري فأنفذَها ... شَكَّ الْمُبَيْطِرِ إِذ يَشْفِي من العضدِ وَمن هَا هُنَا أَخذ قَوْلهم: فلَان تَرْعَد فرائصه إِذَا وصف بِشدَّة الْخَوْف، وَمن ذَاك الْخَبَر المرويُّ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلّى بِأَصْحَابِهِ وَرَأى رجلَيْنِ تَرْعَدُ فرائصهما. وأمّا قَوْله: تيممت الْعين، فَمَعْنَاه قصدت وتعمدت، يُقَالُ: يممت كَذَا وَكَذَا إِذَا قصدته، وَمن ذَلِكَ قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا " يَعْنِي اقصدوا، وَذكر أَنَّهَا فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود. فَأَقُول: وَالْمعْنَى وَاحِد، أممت وتيممت مثل عَمَدت وتعمدت، وَيُقَال: أممت، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلا آمّين الْبَيْت الْحَرَام " يَعْنِي قَاصِدين وعامدين، وَقَالَ عزَّ ذكره: " وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تنفقون "، وَقَرَأَ مُسْلِم بْن جُنْدُب: وَلا تيمموا أَي توجهوا، وَمن هَذَا الْبَاب قَول الشَّاعِر: إِنِّي كَذَاك إِذَا مَا ساءَنِي بلدٌ ... يَمّمْت صَدْرَ بَعِيري غَيْرَهُ بَلَدا ويروى: أممت، قَالَ الْأَعْشَى: تيممتُ قيسا وَكم دُونَه ... من الأَرْض من مَهْمَهٍ ذِي شَزَن

من مصارع العشاق

وَقَالَ آخر: تيممتُ هَمَدان الَّذين همُ همُ ... إِذَا نَاب خطبٌ جُنتي وسهامي وَقَالَ خفاف بْن ندبة: فَإِن تكُ خَيْلي قَدْ أُصِيبَ صَميمها ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْني تيممتُ مَالِكا وَمن هَذَا قَوْلهم: أمرٌ أمَمْ أَي قَصْد، قَالَ الْأَعْشَى: أَتَانَا عَن بني الأحرا ... ر عَنهُ قولٌ لَمْ يكن أمَمَا وَقَالَ ابْن قيس الرّقَيَّات: كوفيةٌ نازحٌ مَحَلّتُها ... لَا أممٌ دَارُهَا وَلَا صقبُ الْأُمَم: الْقَصْد، والصقب: الْقرب، وَمِنْه: الْجَار أحقٌّ بصقبه، وَقَالَ الشَّاعِر: وَلَو نارُ لَيْلى بالعَذِيبِ بَدَتْ لَنَا ... لَحَبَّتْ إِلَيْنَا دَارَ من لَا يصاقبُ وَقَالَ الْأَعْشَى: فَمَا أنْسَ ملْ الأشياءِ لَا أنسَ قَوْلَها ... لَعَلَّ النَّوى بَعْدَ التَّفَرُّقِ تصقبُ وَهَذَا بَاب يكثر ويتسع جدا، وَفِيمَا ذكرنَا مِنْهُ هَا هُنَا بل فِي بعضه كِفَايَة. وَمعنى قَوْله: يفِيء عَلَيْهَا الظل، معنى يفِيء: يرجعن يُقَال فَاء الظل أَي رَجَعَ قَبْلَ الزَّوَال، وَلَا يُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ فيءٌ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ فَيْء بَعْدَ الزَّوَال لرجوعه، وكلا الْوَجْهَيْنِ ظلُّ، قَالَ حُمَيْد بْن ثَوْر الهلاليّ: فَلا الظِّلُّ من بَرْدِ الضُّحَى نستطيعهُ ... وَلَا الفَيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ نذوقُ وَمن هَذَا سُمِّيَ مَا رَدَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمنِينَ من مَال الْمُشْركين فَيْئًا، وَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُم "، وَقَالَ: " وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ من أهل الْقرى "، وَقَالَ تقدَّس اسْمه: " فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ "، وَقَالَ: " فَإِن فاءوا " أَي رجعُوا إِلَى غشيان من آلوا من نِسَائِهِم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا وَاسع بيِّن. وَقَول امْرِئ الْقَيْس: عرمضها طامي، العَرْمَض: الطُّحْلب الَّذِي يكون فِي المَاء وَيُقَال لَهُ عرمض وعَلْفق ونَوْر، وَقَوله: طامي، يَعْنِي أنَّه عَال يُقَالُ: طما الْوَادي إِذَا امْتَلَأَ وَعلا مَاؤُهُ، قَالَ الْأَعْشَى: مَا جُعل الْجُدُّ الظَّنُون الَّذِي ... جُنِّب صَوْبَ اللّجْبِ الماطِرِ مثلُ النَّواتِيِّ إِذَا مَا طما ... يَقْذِفُ بالْبُوصيِّ والماهر من مصَارِع الْعُشّاق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مرزبان، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الطَّائِف، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُحَمَّد الصَّيْمَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن

مسْعدَة الْأَخْفَش، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو محظورة الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالك الراوية قَالَ: سَمِعت الفرزدق يَقُولُ: أبق غلامان لرجل من بني نهشل يُقَالُ لَهُ الْخضر. فَحَدثني الْخضر قَالَ: خرجت أبغيهما وقصدت نَاحيَة الْيَمَامَة على نَاقَة لي عَيْساء كوماء، قَالَ: ابْن الأنبَاريّ: العَيْساء: الْبَيْضَاء، والكوماء: الْعَظِيمَة السنام - فَنَشَأَتْ سَحَابَة فَرعدَت وَبَرقَتْ وحلت عَزَالِيهَا، فملت إِلَى بعض ديار بني حنيفَة وقصدت دَارا وَطلبت الْقرى، فَقيل لي: ادخل فأنخت نَاقَتي ودخلتُ وَجَلَست تَحت ظلة من جريد - قَالَ ابْن الأنبَاريّ: الجريد مَا جُرد من النّخل - وَفِي الدَّار جُوَيْرية سُويداء فدخَلَتْ جاريةٌ كَأَنَّهَا سبيكة فضَّة، وَكَأن عينيها كوكبان، فَقَالَ: لمن هَذِهِ النَّاقة؟ قَالَت السويداء: لضيفكم هَذَا، فَسلمت عليّ وَقَالَت: مِمَّن الرَّجُل؟ قلت: من بني حَنْظَلَة، قَالَت: من أَيهمْ؟ قَالَت: من بني دارم، قَالَ: من أَيهمْ؟ قلت من بني نهشل، قَالَ: وَأَنت من الَّذِي يَقُولُ فيهم الفرزدق: إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لَنَا ... بَيْتا دعائمه أعزُّ وأطولُ بَيْتا بناه لنا المليكُ وَمَا بنى ... ملك السَّمَاء فَإِنَّهُ لَا يُنقلُ بَيْتا زُرَارةُ محتبٍ بِفِنَائهِ ... ومُجَاشِعٌ وَأَبُو الفوارس نهشلُ فَأَعْجَبَنِي ذَلِكَ من قَوْلهَا: فَقَالَت: إِلَّا أنَّ ابْن الخَطَفي نقض عَلَيْهِ، فَقَالَ: أخزى الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ مُجَاشعًا ... وَبنى بناءَك بالحضيضِ الْأَسْفَل بَيْتا يُحَمِّم قَيْنُكُم بِغِنَائِهِ ... دَنِسًا مقاعدُه خَبِيث الْمدْخل فخجلت وَاسْتَحْيَيْت، ثُمَّ قلت لَهَا: أيم أَنْت أم ذاتُ بَعْل؟ فَقَالَت: إِذَا رَقد النِّيامُ فَإِن عَمْرًا ... تُؤَرِّقُهُ الهمومُ إِلَى الصباحِ تقطِّع قلبه الذكرى وقلبي ... فَما هُوَ بالخَلِيِّ وَلَا بصاحِ سقى اللَّه اليمامةَ دارَ قومٍ ... بهَا عَمْرو تَحِنُّ إِلَى الرواحِ فَقلت لَهَا: من عَمْرو هَذَا؟ فَقَالَت: سألتَ وَلَو علمتَ كففتَ عنهُ ... وَمن لَك بِالْجَوَابِ سوى الخبيرِ فَإِن تَكُ سَائِلًا عَنْهُ فعمرو ... مَعَ الْقَمَر المضيء المستنيرِ ثُمَّ قَالَتْ: أَيْنَ تَؤُمّ؟ قلتُ: الْيَمَامَة، فتنفّست الصُّعداء، ثُمّ قَالَتْ: تُذَكِّرُني بلادًا حَلّ أَهلِي ... بهَا أَهْلُ المودَّة والكرامة أَلا فسقي الْإِلَه أجشَّ صوبٍ ... يسح بدرهِ بلد اليمامه وحيّ بالسّلام أَبَا نُجيدٍ ... وأهلٍ للتحية والسّلامة

أعطه لكل بيت ألف دينار

ثمَّ قَالَت: يخيل لي أيا عَمْرُو بْنَ كعبٍ ... بأنك قَدْ حُملت عَلَى سريرِ فَإِن يكُ هَكَذَا يَا عَمْرو إِنِّي ... مبكرةٌ عَلَيْكَ إِلَى القبورِ ثُمَّ شهقت شهقة فَمَاتَتْ فألف عَنْهَا فصل لي: هِيَ من وُلِدَ محرِّق ابْن النُّعْمَان بْن الْمُنْذر وَعَمْرو بْن كَعْب هوى لَهَا بِالْيَمَامَةِ فركبتُ نَاقَتي فصرت إِلَى الْيَمَامَة. فَسَأَلت عَنْ عَمْرو بْن كَعْب، فخُبِّرْتُ أَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت الَّذِي قَالَت فِيهِ الْجَارِيَة مَا قَالَتْ. أعطِه لكلِّ بيتٍ ألف دِينَار حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد، أَبُو عليّ الْكَلْبِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الدجاجي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بْن سَعِيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ، قَالَ: كنتُ فِي حَرَسِ الْمَأْمُون بحُلْوَان حِين قفل من خُرَاسان أَوْ حِين قفل من الْعرَاق، - أَبُو عَليّ يشك - قَالَ القَاضِي: وَالصَّوَاب قفل من خُرَاسَان أَو قفل إِلَى الْعرَاق، والقفول الرُّجُوع لَا ابْتِدَاء السَّفَر، والمأمون رَجَعَ من خُرَاسَان إِلَى الْعرَاق، بَعْدَ قتل الْأمين واستتباب الْخلَافَة لَهُ، قَالَ: فَخرج لينْظر إِلَى الْعَسْكَر فِي بَعْض اللَّيْل، فعرفتهُ وَلم يعرِفْني فأغفلتهُ، فجَاء من ورائي حَتَّى وضع يَده عَلَى كَتِفي، فَقَالَ لي: من أَنْت: قَالَ: عَمْرو عَمَرك اللَّه، ابْن سَعِيد أسْعَدَك اللَّه، ابْن سَلْم سَلّمكَ اللَّه، فَقَالَ: أَنْت الَّذِي كنتَ تكلَؤُنا فِي هَذِهِ اللَّيْلَة؟ فَقلت: اللَّه يكلَؤُك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَأَنْشَأَ الْمَأْمُون يَقُولُ: إِن أَخَاك الحقَّ من يَسْعَى مَعَكَ وَمن يضرُّ نَفسه لينفعك وَمن إِذَا رَيْبُ زمَان صَدَعَك فرّق من جَمِيعه ليَجْمَعَك ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَام! أعْطه لكل بَيت ألف دِينَار، فوددت أَن تكون الأبيات طَالَتْ عليّ فأجد الْغنى، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وأزيدُك بَيْتا من عِنْدِي، فَقَالَ: هَات، فَقلت: وَإِن غدوتَ ظَالِما غَدا مَعَك فَقَالَ: أعْطه لهَذَا ألف دِينَار، فَمَا برحتُ من موقفي حَتَّى أخذتُ خَمْسَة آلَاف دِينَار. التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر قَالَ القَاضِي: فَإِن قَالَ قَائِل: كَيْفَ أعْطى الْمَأْمُون عَنْ قَوْله: فَإِن غدوتَ ظَالِما غَدا مَعَك وَلم وَافقه عَلَى تصويب مساعدة وممالأته، قيل: إِنَّه لَمْ يظْهر فِي قَول هَذَا الْقَائِل مَا يُوجب مظافرة الظَّالِم فِي عمله، وَقَوله: غَدا مَعَك، يتَّجه فِيهِ أَن يكون مَعْنَاهُ غَدا مَعَك ليكفك عَن الظُّلم، بالوعظ لَك وَالرّق بك والاستعطاف عَلَى مَا تُسَوِّلُ لَك نَفسك ظلمه، فيصرفك عَنِ الظُّلم، ويَثنِيك عَنْ معرة الْإِثْم.

الأمر لا حيلة له

وَقد جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " انْصُر أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا " فَقيل لَهُ: يَا رَسُول اللَّه! أنصره مَظْلُوما فَكيف أنصره ظَالِما؟، قَالَ: " تحجبه عَنِ الظُّلم فَذَلِك نُصْرُك إِيَّاه ". الْأَمر لَا حِيلَة لَهُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عجلَان، قَالَ: سَمِعت الفَضْل بْن مَرْوَان يَقُولُ: كَانَ ابْن المقفع يَقُولُ: إِذَا نزل بك أَمر مُهِمٌّ فَانْظُر فَإِن كَانَ ممّا لَهُ حِيلَة فَلا تَجْزَع. ضَعُفَ قلبِي عَنِ الرَّد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أبي الثَّلج، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْن بْن فهم، قَالَ: قَالَ ابْن المَوْصِليّ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أتيت يحيى بن خَالِد بن برمك فشكون إِلَيْهِ ضِيقَة، فَقَالَ: وَيحك! مَا أصنع بك، لَيْسَ عندنَا فِي هَذَا الْوَقْت شَيْءٍ، وَلَكِن هَا هُنَا أَمر أدلُّك عَلَيْهِ فَكُن فِيهِ رَجُلا، فقد جَاءَنِي خَليفَة صَاحب مصر يسألني أَن أستهدي صَاحبه شَيئًا، وَقد أبيتُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فألحَّ عليّ، وَقد بَلغنِي أنَّكَ أُعْطِيتَ فِي جاريتك فُلَانَة ألف دِينَار، فَهُوَ ذَا أستهديه إِيَّاهَا وَأخْبرهُ أَنَّهَا قَدْ أعجبتني، فإياك أَن تُنْقِصها عَنْ ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، وَانْظُر كَيْفَ تكون؟ قَالَ: فوَاللَّه مَا شَعرت إِلَّا بِالرجلِ قَدْ وافاني فساومني الْجَارِيَة، فَقلت: لَا أنقصها من ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَلم يزل يساومني حَتَّى بذل لي عشْرين ألف دِينَار، فَلَمّا سَمعتهَا ضَعُفَ قلبِي عَنْ رَدِّها، فبعتُها وقبضتُ المَال الْعشْرين ألفا، ثُمَّ صرت إِلَى يحيى بْن خَالِد، فَقَالَ لي: كَيْفَ صنعتَ فِي بيعك الْجَارِيَة، فَأَخْبَرته وَقلت: وَالله مَا ملكتُ نَفسِي أَن أجبتُ إِلَى الْعشْرين حِين سمعتُها، فَقَالَ: إِنَّك لخسيس، وَهَذَا خليفةُ صَاحب فَارس قَدْ جَاءَنِي فِي مثل هَذَا، فَخذ جاريتك فَإِذا ساومك فها فَلا تنقصها عَنْ خمسين ألف دِينَار، فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يَشْتَرِيهَا مِنْك بِذَاكَ، قَالَ: فَجَاءَنِي الرَّجُل فاسْتَمْتُ عَلَيْهِ خمسين ألف دِينَار، فَلم يزل يساومني حَتَّى أَعْطَانِي ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فضعف قلبِي عَنْ رَدِّها وَلم أصدق بهَا وأوجبتها لَهُ، ثُمَّ صرت إِلَى يحيى بْن خَالِد فَقَالَ: بكم بِعْت الْجَارِيَة؟ فَقتل: بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَقَالَ: وَيحك! ألم تؤدِّبُك الأولى عَنِ الثَّانِيَة؟ قَالَ: قلت: ضَعُفْتُ وَالله عَنْ رَدِّ شَيْءٍ لَمْ أطمع فِيهِ، قَالَ: فَقَالَ: هَذِهِ جاريتك فخذْها إِلَيْكَ، قَالَ: فَقلت: جاريةٌ أفدتُ بهَا خمسين ألف دِينَار ثُمَّ أملكهَا! أشهدك أَنَّهَا حُرَّةٌ وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجتُها. نصيحة أَعْرَابِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه الْأَصْمَعِي، قَالَ: رَأَيْت أَعْرَابِيًا يعظ آخر ويحذِّره، وَقَالَ: إِن فلَانا وَإِن ضحك لَك فَإِنَّهُ يضْحك مِنْك، وَإِن أظهر الشَّفَقَة عَلَيْكَ إِن عقاربه تسري إِلَيْكَ، فَإِن لَمْ تَجْعَلهُ عدوا لَك فِي علانيتك، فَلا تَجْعَلهُ صديقا لَك فِي سريرتك.

قريش أسخى أم أمية

قُرَيْش أسخى أم أُميَّة حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ: حَدَّثَنَا سليم بْن حَرْب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِلَال الرباضي، عَنْ حُمَيْد بْن هِلَال، قَالَ: تفاخر رجلَانِ رجل من قُرَيْش وَرجل من بني أُميَّة، فَقَالَ هَذَا: قومِي أسخى من قَوْمك، وَقَالَ هَذَا: لَا، قومِي أسخى من قَوْمك، فَقَالَ: سَل فِي قَوْمك حَتَّى أسل فِي قومِي، فَافْتَرقَا عَلَى ذَلِكَ، فَسَأَلَ الْأمَوِي عشرَة من قومه فَأَعْطوهُ مائَة ألف عشرَة آلَاف عشرَة آلَاف، قَالَ: وَجَاء الهاشميُّ إِلَى عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس فَسَأَلَهُ فَأعْطَاهُ مائَة ألف، ثُمَّ أَتَى الْحَسَن بْن عليّ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ أتيت أحدا قبلي؟ قَالَ: نَعَمْ، عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس فَأَعْطَانِي مائَة ألف، فَأعْطَاهُ الْحَسَن مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا، ثُمَّ أَتَى الْحُسَيْن بْن عليّ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هَلْ سَأَلت أحدا قَبْلَ أَن تَأتِينِي، قَالَ: نَعَمْ، أَخَاك الْحَسَن فَأَعْطَانِي مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا. فَقَالَ: لَوْ أتيتني قَبْلَ أَن تَأتيه أَعطيتك أَكثر من ذَلِكَ، وَلَكِن لَمْ أكن لأزيد عَلَى سَيِّدي، فَأعْطَاهُ مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا، قَالَ: فجَاء الْأمَوِي بِمِائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا، قَالَ: فجَاء الْأمَوِي بِمِائَة ألف من عشرَة، وَجَاء الْهَاشِمِي بثلثمائة وستِّين ألفا من ثَلَاثَة، فَقَالَ الْأمَوِي: سَأَلت عشرَة من قومِي فأعطوني مائَة ألف، وَقَالَ الهاشميّ سَأَلت ثَلَاثَة من قومِي فأعطوني ثلثمِائة ألف وستِّين ألفا، قَالَ: ففخر الهاشميّ الأمويَّ فَرجع الأمويُّ إِلَى قومه فَأخْبرهُم الْخَبَر، فردّ عَلَيْهِم المَال فقبلوه، وَرجع الْهَاشِمِي إِلَى قومه فَأخْبرهُم الْخَبَر فردّ عَلَيْهِم المَال فَأَبَوا أَن يقبلونه، وَقَالُوا: لَمْ نَكُنْ لنرتجع شَيئًا قَدْ أعطيناه. سمى اللَّه المستهزئ جَاهِلا حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن مُحَمَّد بْن صَالح الكريري، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الْجَلِيل ابْن الْحُسَيْن، قَالَ: كَانَ مَما عُرف عَنْ أَحْمَد بْن المعَذِّل وَهُوَ صبيٌّ لَهُ ذُؤابة فِي مجْلِس أبي عَاصِم، وَمر لأبي عَاصِم حديثٌ فِيهِ فقه، فَقَالَ أَحْمد: إِنَّه مِمَّا ألقح إِلَيْنَا عَنْ مَالك بْن أنس فِي هَذَا الْخَبَر، فَسمع أَبُو عَاصِم، فَقَالَ: لَا زرعك اللَّه، فَخَجِلَ أَحْمَد، فَلَمّا كَانَ الْمجْلس الثَّانِي مَرَّ لأبي عَاصِم حَدِيث فِيهِ فقه، فَقَالَ: أَيْنَ أَنْت يَا مَنْقُوص؟ أنس ألقح إِلَيْكُم عَنْ مَالك، قَالَ: فَخَجِلَ أَحْمَد ثُمَّ وثب، فَقَالَ: يَا أَبَا عَاصِم! إِن اله خلقك جَدًّا فَلا تهزلنَّ، فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ سمى المستهزئ فِي كِتَابه جَاهِلا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " قَالَ: فَخَجِلَ أَبُو عَاصِم وَكَانَ لَا يحدَّثُ حَتَّى يحضر أَحْمَد فيقعده إِلَى جنبه. أَخْبَار أَصْحَاب الغلمان النوبختي وزرزر الْمُغنِي حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْكَاتِب، قَالَ: كَانَ عليّ بْن الْعَبَّاس النّوْبَخْتِيُّ مَعَ جمَاعَة من أَهله عَلَى سطح دَار أبي سهل النوبختي فِي لَيْلَة من ليَالِي الصَّيف يشربون وَمَعَهُمْ

المعتز ويونس بن بغا

إِبْرَاهِيم بْن القَاسِم بْن زُرْزُر الْمُغنِي، وَكَانَ إِذْ ذَاك أَمْرَد حَسَن الْوَجْه، وَكَانَ فِي السَّمَاء غيم ينجاب مرّة ويتصل أُخْرَى، فانجاب الغيمُ عَنِ الْقَمَر فانبسط فَقَالَ عليّ بْن الْعَبَّاس، وَأَقْبل عَلَى إِبْرَاهِيم: لَمْ يَطْلُعِ البَدْرُ إِلَّا من تَشوُّقِهِ ... إِلَيْك حَتَّى يُوَفِّي وَجْهَكَ النّظَرَا وَلم يتمم الْبَيْت حَتَّى استتر الْقَمَر، فَقَالَ: وَلَا تغيَّبَ إِلَّا عِنْدَ خَجْلَتِهِ ... لمّا رآك تولّى عَنْكَ فاسْتَتَرَا المعتز وَيُونُس بْن بغا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى بْن أَبِي عَبّاد، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك، قَالَ: شرب المعتز وَيُونُس بْن بغا بن يَدَيْهِ يسْقِيه والجلساء والمغنون حُضور قَدْ أعدَّ الْخِلَع والجوائز، إِذْ دَخَلَ بُغا فَقَالَ: يَا سَيِّدي! وَالِدَة عَبدك يُونُس فِي الْمَوْت وَهِي تحب أَن ترَاهُ، فَأذن لَهُ فَخرج، وفَتَر المعتز لبُعْده ونَعِس، فَقَامَ الْجُلساءُ وتفرَّق المغنون إِلَى أَن صليت الْمغرب وَعَاد المعتز إِلَى مَجْلِسه، وَدخل يُونُس وَبَين يَدَيْهِ الشموع فَلَمَّا رَآهُ المعتز دَعَا برطل فشربه وَسَقَى يُونُس رطلا، وغنى المغنون وَعَاد الْمجْلس أحسن مَا كَانَ، فَقَالَ المعتز: تغيب فَلَا أفرح ... فليتك لَا تبرحْ فَإِن جِئْت عَذَّبْتَنِي ... فَإنَّك لَا تسمحْ فأصْبحتُ مَا بَين دَيْ ... ن ولي كبد تُجْرح عَلَى ذَاك يَا سيِّدي ... دُنُوُّكَ لِي أَصْلَحْ ثُمَّ قَالَ: غنوا فِيهِ فَجعلُوا يفكرون، وَقَالَ المعتز لِابْنِ القصّار الطُّنبوري: وَيلك ألحان الطنبور أَمْلَح وأخف فغنِّ لَنَا، فغنى فِيهِ لحنًا، فَقَالَ: دَنَانِير الخريطة، وَهِي مائَة دِينَار فِيهَا مِائَتَان مَكْتُوب عَلَى كلّ دِينَار مِنْهَا ضرب هَذَا الدِّينَار الحَسَنِيُّ لخريطة أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ دَعَا بِالْخلْعِ والجوائز لسَائِر النّاس، فَكَانَ ذَلِكَ الْمجْلس من أحسن الْمجَالِس. وناسكٌ يقتلُه الوَجْد حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن النصير بْن القَاسِم الخَوّاص، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس بْن مَسْرُوق، قَالَ: حَدَّثَنِي فضل اليزيدي، عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي عَنْ عُمَر الْهِلَالِي، قَالَ: شهدتُ أَبَا يحيى التَّيْميّ، يَقُولُ: كَانَ يخْتَلف مَعَنَا رَجُل من النُّسَّاكِ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْحَسَن إِلَى مِسْعر بْن كِدَام، وَكَانَ يخْتَلف مَعَه فَتًى حَسَن الْوَجْه يفتن النّاس إِذَا رَأَوْهُ، فَأكْثر الناسُ القَوْل فِيهِ وَفِي صحبته إِيَّاه، فَمَنعه أَهله أَن يَصْحَبهُ وَأَن يكلمهُ، فذُهِل عقله حَتَّى خُشِيَ عَلَيْهِ التّلف، فَبلغ ذَلِكَ مسعرًا، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: أَلا يقربَني وَلَا يَأْتِي مجلسي،

لو أمر الله العباد بالجزع

فَإِنِّي لَهُ كَارِه، فلقيتُه فأخبرتهُ ذَلِك، فتنفس الصُّعَداء وَأَنْشَأَ يَقُولُ: يَا من بَدَائِع حَسَن صورته ... تَثْني إِلَيْهِ أعِنّهُ الحدقِ لي مِنْك مَا للنَّاس كلهم ... نَظَرٌ وَتَسْلِيم عَلَى الطرقِ لكِنهمْ سعدوا بأمنهمُ ... وشقيتُ حِين أَرَاك بالفَرَقِ قَالَ: ثمَّ صرخَ صرخة وشخص بَصَره نَحْو السَّمَاء، وَسقط فحرّكته فَإِذا هُوَ ميت. لَوْ أَمر اللَّه الْعباد بالجزع حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنِي مهديُّ بْن سَابق، قَالَ: قَالَ يحيى بْن خَالِد: لَوْ أَمر اللَّه تَعَالَى الْعباد بالجزع دون الصَّبْر لَكَانَ قَدْ كلّفهم أَشد الْمَعْنيين عَلَى الْقُلُوب، وَقَالَ الشَّاعِر: بَكَى جزعًا لفُقْدَانِ الحَبيب ... وأسْبَل دَمْع مَلْهُوفٍ كَئيبِ وَكَانَ الصبرُ أجملَ لَوْ تَعَزَّى ... وأشْفَى للصُّدُور من النحيبِ فَلَو جعل الْإِلَه الْحُزْن فرضا ... لَكَانَ الصَّبْرُ من جِلِّ الخطوبِ لَكَانَ الحزنُ فِيهِ غَيْر شَكِّ ... أشدَّ الْمَعْنيين عَلَى الْقُلوبِ الْأمين يتوجع لإصابة خادمه كوثر حَدَّثَنَا الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عُمَر، قَامَ كوثر خَادِم الْأمين ليرى الْحَرْب، فأصابتْه رجمةٌ فِي وَجهه فَجَلَسَ يبكي فوجّهُ مُحَمَّدٌ من جَاءَ بِهِ، وَجعل يمسح الدمع عَنْ وَجهه، ثُمّ قَالَ: ضَرَبُوا قُرَّةَ عَيْني ... ولأجلي ضَرَبُوه أَخَذَ اللَّه لِقَلْبي ... من أناسٍ أَحْرَقُوه فَأَرَادَ زِيَادَة فِي الأبيات، فَقَالَ للفضل بْن الرّبيع: من هَاهُنَا من الشُّعَرَاء؟ فَقَالَ: السَّاعَة رَأَيْت عَبْد اللَّه بْن أيّوب التَّيْميّ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ، فَلَمّا دَخَلَ أنْشدهُ الْبَيْتَيْنِ وَقَالَ: قل عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: مَا لِمَن أهْوَى شَبيه ... فِيهِ الدُّنْيَا تَتيه وَصْلُهُ حُلْو وَلَكِن ... هَجْرُهُ مُرٌّ كريه من رأى النَّاس لَهُ الفض ... ل عَلَيْهِمْ حَسَدُوه مثل مَا قَدْ حسد القا ... ئم بالملكِ أَخُوه فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنت، هَذَا وَالله خيرٌ ممّا أردْت، بحياتي عَلَيْكَ يَا عباسيّ إِلَّا نظرت فَإِن كَانَ جَاءَ عَلَى الظّهْر مَلَأت أحمال ظَهره دَرَاهِم، وَإِن كَانَ جَاءَ فِي زورق ملأته لَهُ، فأوقر

المأمون يعاتبه بسبب هذا البيت فيلجأ إلى الفضل بن سهل

لَهُ ثَلَاثَة أبغل دَرَاهِم. الْمَأْمُون يعاتبه بِسَبَب هَذَا الْبَيْت فيلجأ إِلَى الفَضْل بْن سهل قَالَ الصولي: فحدثنا الْحَسَن بْن عليّ العنزيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِدْرِيس، قَالَ: لمّا قتل الْأمين خرج أَبُو مُحَمَّد التَّيْميّ إِلَى الْمَأْمُون فامتدحه، فَلم يَأْذَن لَهُ فَصَارَ إِلَى الفَضْل بْن سهل ولجأ إِلَيْهِ وامتدحه، فأوصله إِلَى الْمَأْمُون، فَلَمّا سلم عَلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا تَيْمِي: مثل مَا قَدْ حسد القا ... ئم بِالْملكِ أَخُوهُ؟ فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد التَّيْميّ: نُصِرَ المأمونُ عَبْد اللَّه لمّا ظَلَمُوه نُقِضَ العهدُ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا أكّدُوه لَمْ يعاملْه أخُوه الَّذِي أوصى أَبُوهُ ثُمَّ أنْشدهُ قصيدة امتدحه بهَا أَولهَا: جَزِعَت ابنَ تَيْم أنَ عَلاك مشيبُ ... وَبان الشبابُ والشّبَابُ حبيبُ فَلَمّا فرغ مِنْهَا قَالَ الْمَأْمُون: قَدْ وَهبتك لله ولأخي أبي الْعَبَّاس، يَعْنِي الفَضْل بْن سهل، وَأمرت لَك بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. خَمْسَة آلَاف فِي تَفْسِير كلمة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْأَصْمَعِي، قَالَ: دخلتُ على الرشيد هرون ومجلسه حافل، قَالَ: يَا أصمعي! مَا أغفلك عَنَّا وأجفاك لحضرتنا! قلت: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ألاقَتْنِي بلادٌ بعدَك حَتَّى أَتَيْتُك، قَالَ: فَأمرنِي بِالْجُلُوسِ فجلستُ حَتَّى خَلا الْمجْلس فجلستُ وَسكت عني حَتَّى تفرق النّاس إِلَّا أقلهم، فنهضتُ للْقِيَام فَأَشَارَ إِلَى أَن أَجْلِس، فَجَلَست وَلم يبقَ غَيْرِي وَغَيره وَمن بَيْنَ يَدَيْهِ من الغلمان، فَقَالَ لي: يَا أَبَا سَعِيد: مَا ألاقَتْني؟ قلت: أمسكتني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: كَفّاك كف مَا تلِيق درهما ... جواداً وأُخْرَى تُعْطِ بالسّيفِ الدَّمَا أَي مَا تمسك درهما، فَقَالَ: أحسنتَ وَهَكَذَا فَكُن وفْرنا فِي المَلاءِ وعِلمْنا فِي الْخَلَاء، وَأمر لي بِخَمْسَة آلَاف دِينَار. أَبْيَات غزلية أنشدنا الصولي، قَالَ أنشدنا الْمبرد: أَنْت إلفُ العُيُو ... ن فاكتحلي أَوْ تَمَرَّهِي لستُ عنكمُ وَلَو قتل ... ت بَدَا الدَّهْر أنتَهي قَادَنِي نَحْوَكِ الشقا ... ء كَذَا كُنْتُ أشْتَهي

المجلس الثالث عشر

الْمجْلس الثَّالِث عَشْر حَدِيث الْغَار حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحِ بْنِ عبد الله الْمَعْرُوف بالجنديسابوري، إِمْلاءً فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ عِشْرِينَ وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن حَرْب الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي مِقْسَمٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ: " أَنَّ ثَلاثَةَ نَفَرٍ انْطَلَقُوا يَتَمَاشَوْنَ فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ أَنْ يُفَرِّجَ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ وَكَانَ لِيَ امْرَأَةٌ وَصِبْوَةٌ، وَكُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمَا فَإِذَا مَشَيْتُ حَلَبْتُ لَهُمَا فِي إِنَائِهِمَا ثُمَّ سَقَيْتُهُمَا، وَإِنِّي جِئْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ دَنَا السَّحَرُ وَقَدْ نَامَا، وَكُنْتُ قَدْ حَلَبْتُ لَهُمَا فِي إنائهما فَقُمْت على رؤوسهما وَالصِّبْوَانُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْوَانَ قَبْلَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ مَخَافَتِكَ فَافْرِجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، قَالَ: فَأُفْرِجَتْ مِنْهَا فُرْجَةٌ رَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ. قَالَ: وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ وَإِنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تَكْسِرِ الْخَاتَمَ إِلا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا وَتَرَكْتُهُ لَهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ مَخَافَتَكَ، فَافْرِجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاء، فأفرجت فُرْجَة أُخْرَى فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ. قَالَ: وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا يَعْمَلُ لِي فِي فَرَقٍ مِنْ زَيْتٍ، فَلَمَّا عَمِلَ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ: اعْمِدْ إِلَى هَذَا الْفَرَقِ الزَّيْتِ فَخُذْهُ، فَرَغِبَتْ عَنْهُ نَفْسُهُ، فَعُدْتُ إِلَيْهِ، فَجَمَعْتُهُ فَبِعْتُ مِنْهُ حَتَّى كَانَ بَقَرًا وَرُعَاتَهَا، فَأَتَانِي فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ وَأَعْطِنِي أُجْرَتِي، فَقُلْتُ: امْلِكْ هَذِهِ الْبَقَرَاتِ وَرُعَاتَهَا. فَاسْتَاقَهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ مَخَافَتَكَ فَافْرِجْ عَنَّا الْحَجَرَ، فَأُفْرِجَ عَنْهُمُ الْحَجَرُ، فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ إِلَى أَهَالِيهمْ ". التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي: حديثُ الْغَار هَذَا معروفٌ عِنْدَ أَهْلَ الْعلم، وَقد ورد الْخَبَر بِهِ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وُجُوه، وكتبناه من طرق شَتَّى عَنِ الشُّيُوخ، وأتينا بِهَذَا لأنَّه حَضَرنا فِي هَذَا الْوَقْت دون غَيره. وَفِيه مَا يَدْعُو إِلَى فعل الْخَيْر واصطناع الْمَعْرُوف والإشفاق من الظُّلم، والحذر من وخيم مَغَبّته وسُوءِ عاقبته، وَفِيه بَيَان أنَّ أَكثر فعل البرِّ عُدة لصَاحبه، وَذخر يورثه النجَاة من المَخُوفات، وَيُعْطِيه الإغاثة عِنْدَ اللزبات. وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِقِيُّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن الْعَبَّاسِ بْنِ

كثير من أصحاب الحديث لا يضبط اللغة

النَّصِيرِ التِّنِّيسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الأَصْبَغِ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا حول وَلَا قُوة إِلَّا بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ ". كثير من أَصْحَاب الحَدِيث لَا يضْبط اللُّغَة وروى لَنَا الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ هَذَا الْخَبَر، فَقَالَ فِيهِ: الصَّبْوَة والصِّبْوَان كَأَن اللافظ اعْتبر فِيهِ لفظ الصَّبوة. وَقَوْلهمْ: صبا يصبو، والسائر فِي كَلَام الْعَرَب الصِّبية فِي جمع صبيٍّ وَالصبيان، وأصحابُ الحَدِيث لَا يضبطُ كثيرٌ مِنْهُم مثل ذَلِك فيحيله وَلَا يضبطه، ورسولُ اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أفْصح الْعَرَب، وَكَلَامه جارٍ عَلَى أوضح الْإِعْرَاب، وَأَعْلَى مَرَاتِب الصَّوَاب. إِعْرَاب الْمَفْعُول لَهُ وَقَول من حكى عَنْهُ فِي هَذَا الْخَبَر: إِنَّمَا فعلتُ ذَلِكَ مخافتك، الْمَعْنى بِهِ لمخافتك وَمن مخافتك وَلأَجل مخافتك، وَهَذَا الَّذِي ينْتَصب عِنْدَ النُّحاة لأنَّه مفعول لَهُ، يُقَالُ: دَنَوْت ابتغاءَ الْخَيْر، ونأيتُ حذار الشَّرّ، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت " أَي لحذر الْمَوْت، أَوْ من حذره، وَقد قيل إِن الْمَعْنى، أَنهم جعلُوا أَصَابِعهم فِي آذانهم حذر الْمَوْت، وَأَن حذر الْمَوْت مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان، فقولك: جعلت مَالك فِي بَيْتك عدَّة لزمانك، وسلاحك فِي رَحْلك جُنَّةً من عَدوك، وَمن هَذَا النَّحْو، قَول الشَّاعِر: وأغفرُ عَوْرَاءَ الكَرِيم ادَّخَارَهُ ... وَأعْرض عَنْ ذَنْبِ اللئِيم تَكَرُّمَا غَار أخر ينطبق عَلَى تِسْعَة إخْوَة حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد مُحَمَّد بْن جَعْفَر الْخُتلِي: قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه - يَعْنِي ابْن عَمْرو البلْخيّ - قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّه الْخُتّلي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرو الْعمريّ، قَالَ: أَخْبرنِي حُسَيْن بْن حَسَن بْن سَلَمَة بْن مُزينة العاري، عَنْ أَبِيه: أنَّ امْرَأَة من بني عَامر كَانَ لَهَا بنُون عشرَة، فَخرج تِسْعَة مِنْهُم فِي بَعْض حَاجتهم، فَأَصَابَتْهُمْ السَّمَاء فابتدروا كهفا فتحدرت صخرةٌ فردمت عَلَيْهِمْ بَاب الْكَهْف، فَمَكَثُوا فِيهِ لَا يقدرُونَ عَلَى الْخُرُوج مِنْهُ حَتَّى مَاتُوا عَنْ آخِرهم، فَلَمّا طَال ذَلِكَ عَلَى أمّهم، قَالَتْ لابنها الْعَاشِر: انْطلق فاقْفُ آثَار إخْوَتك فَمَا أَرَانِي إِلَّا وَقد رزئتهم، قَالَ: يَقُول ابْنهَا: كَيفَ ذَاك يَا أمه؟ قَالَتْ: يَا بنيَّ إِنِّي وَالله أجد كَبِدي تحترقُ احتراقًا، كلما قلت قَدْ سكن عَاد تَلَهُّبًا، فانطِلِقْ هَلْ تُحِسُّ لَهُمْ أثرا، أَوْ تعلم لَهُم خَبرا، قَالَ: فَخرج الْفَتى يقفو آثَار إخْوَته حَتَّى انْتهى إِلَى ذَلِكَ الْكَهْف فَاطلع فِيهِ فَإِذا إخْوَته موتى مُجَدَّلِين، فَرجع يُرِيد أمه باكيًا، فَلَمّا أَتَاهَا قَالَتْ: مَا وَرَاءَك يَا قيس؟ قَالَ: خَيْرٌ يَا

الأعضب وما قيل فيه من اللغة والفقه

أمَّه، قَالَتْ: عليّ ذَلِكَ يَا بني، قَالَ: لَا تأسَفِنَّ عَلَى شَيْءٍ فُجِعْتِ بِهِ ... إِنَّ المنايا خِلال الوَعْثِ والجَدَدِ رَبّيْتِهمْ تِسْعَة حَتَّى إِذَا اتّسقُوا ... أصبحْتِ مِنْهُم كقَرْنِ الأغْضَبِ الفَرَدِ وكل أمٍّ وَإِن سُرَّتْ بِمَا ولدتْ ... يَوْمَا سَتَثْكِلُ مَا ربّتْ من الولدِ قَالَت: فنحبت العجوزُ نحيبًا شَدِيدا، ثُمَّ قَالَتْ: بُنَيَّ لَا صبرَ لي فِيمَا فُجِعْتُ بِهِ ... عَنْ تسعةٍ مثلهم غَرَّاءُ لَمْ تلدِ زُهرٌ جحاجحةٌ بيضٌ خضارمةٌ ... وَفِي الهَزَاهِزِ والرَّوْعَاتِ كالأسْدِ الأعضب وَمَا قيل فِيهِ من اللُّغَة وَالْفِقْه قَالَ القَاضِي: الأعضبُ الْقرن: المكسور، وَقيل إِنَّهُ المكسور نصفه، وَقيل: ثلثه، وَبَين الْفُقَهَاء خلاف فِي جَوَاز الأضْحية بالمعضوب الْقرن، وَفِي الْقدر الْمَانِع من تَجْوِيز الضحية بِهِ كاختلاف أَهْلَ اللُّغَة، وَيُقَال لذِي الزَّمانة وَالْكَسْر من النّاس: المعضوب، وَمن هَذَا الْبَاب قَول لبيد بْن ربيعَة يرثي أرْبَدَ أَخَاهُ: يَا أرْبَدَ الخَيْرِ الْكِرَامُ جُدُودُه ... خليتني أمشير كقرنٍ أعضُبِ شعر لَا يستنكر إنشاده فِي المَسْجِد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ: قَدم أَعْرَابِي من الْيمن فَدخل مَسْجِد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي حَلقَة فِيهَا الْحَسَن بْن عليّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُم من يُنشد، فَقيل لَهُ: إِنَّك لجَاهِل، أتستنشد ابْن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: وَالله لأنشدنَّ مَا لَا يُنْكِره، ثُمَّ إِن أُحِبَّ قَالَ، وَإِن أحبَّ سكت، ثُمَّ أنشأ يَقُولُ: رُبَّ أمورٍ قَدْ بَريْتُ لحَاهَا ... وقَوَّمْتُ من أصلابها ثُمَّ رِشْتُها أقيمُ بدار الصدْق مَا لَمْ أُهن بهَا ... وَإِن خِفْت من دارٍ هَوَانا تَرَكْتُها وأصْبِحُ خَالِي المَال حَتَّى تَخَالُني ... بَخِيلًا وَإِن حَقٌّ عراني أَهَنْتُها وَلست بولاجِ البيوتِ لِفَاقَةٍ ... ولكنْ إِذَا استغنيتُ عَنْهَا وَلِجْتُها إِذَا قصرت أَيدي الرِّجَال عَنِ الْعُلا ... مددتُ يَدي باعًا إِلَيْهَا فَنِلْتُها ومكرمةٍ كَانَتْ سجية وَالِدي ... فعلميها وَالِدي فعلمتها وَقد علمت أعلامُ قومِيَ أنّني ... إِذَا نَالَ أظفاري صديقا قَلَمْتُها رجاءَ غدٍ أَن يعطِفَ الْوُدُّ بَيْننَا ... ومظلمة مِنْهُم بجنبي عَرَكْتها وَإِنِّي سألقي اللَّه لَمْ أرْمِ حُرَّةً ... وَلم تأتمني سِرَّ قَوْمٍ فخُنْتُها

أبشر بطول سلامة يا مربع

وَلَا بَاغِيا خَمْرًا وأسماع قَيْنَة ... وَلَا قائِلا فِي الشّعْر أَنِّي شَرِبْتُها وَلَا غائرًا مَا لَمْ تُغِرْني حليلتي ... مَتَى مَا أغْرِ إِن لَمْ تُغْرِني ظَلَمتُها فَقَالَ الْحَسَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: مَا رأيتُ كَالْيَوْمِ شعرًا أرصن، وَأمر لَهُ بصلَة لَمْ يقبلهَا، وَانْصَرف. أكله كُلّه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن عَرَفَة المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عتبَة الْبَصْرِيّ، قَالَ: قَدِمَ عمَارَة بْن عقيل الْبَصْرَة، فَأَتَاهُ النّاس يَكْتُبُونَ عَنْهُ، فَقَالَ لرجل حَضَره: أَنْشدني بَعْض مَا قَالَه الفرزدق لجدي، وَبَعض مَا قَالَ جدي للفرزدق، فأنشده قَول الفرزدق: حلقتُ بربِّ مكَّة والْمُصَلّى ... وأعناقِ الهَدِيِّ مقلداتِ لَقَدْ قَلّدْتُ جِلْفَ بَنِي كليبٍ ... قَلائِدَ فِي السَّوَالِفِ باقياتِ قلائدَ لَيْسَ من ذهبٍ وَلَكِن ... قَلائِدَ من جَهَنَّمَ منضجاتِ حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا فَجعل يتلظّى، ثُمَّ قَالَ: هَات مَا قَالَه لَهُ أَبِي فأنشده: تُعَلِّلُنا أُمامةُ بالْعِدَاتِ ... وَمَا يَشْفِي القلوبَ الصادياتِ وَلَوْلَا حُبُّها وإله مُوسَى ... لَوَدَّعْتُ الصِّبَا والغانيات إِذَا رَضِيَتْ رَضِيتُ وَتَعْتَرِيني ... إِذَا غَضبت كَهَيْضَاتِ السُّبَاتِ وَمَا صبْري عَنِ الذَّلْفَاءِ إِلَّا ... كصبر الْحُوتِ عَنْ مَاء الْفُراتِ ثُمَّ قَالَ: مَاذَا؟ قَدْ قطّع الفرزدقُ عِرْضه وَهُوَ فِي أُمَامَة؟ حَتَّى إِذَا بلغ إِلَى قَوْله: رَجَوْتُم يَا بني وَقَبان مَوْتِي ... وأرجُو أَن تطولَ لَكُمْ حَيَاتي إِذَا اجتمعُوا عَلَيَّ فخلِّ عَنْهُمْ ... وَعَن بازٍ يَصُكُّ حبارياتِ إِذَا طَرِب الحمامُ حمامُ نجدٍ ... نَعَى جارَ الأقارع والْحُتاتِ فَقَامَ يحجلُ طَرَبًا، وَقَالَ: أَكَلَهُ كُلَّهُ. أبشر بطول سَلامَة يَا مِرْبَع قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه بْن عَرَفَة: وَقد تمثل بِهَذَا الْبَيْت الْحَسَن بْن قَحْطبة حِين هَمّ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور بالبيعة للمهدي أبي عَبْد اللَّه، فَدخل عَلَيْهِ الْحَسَن بْن قَحْطبة فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! مَا تنْتَظر بالفتى الْمُقْبل الْمُبَارك، جَدِّدْ لَهُ الْبيعَة فَمَا أحد ممتنعٌ وَرَاء هَذَا السِّتْر، ومَن أبَى فَهَذَا سَيفي، وَبلغ الْخَبَر عِيسَى بْن مُوسَى، فَقَالَ: وَالله لَئِن ظَفِرْت بِهِ لأشَرِب الْبَارِد، وَبلغ الْحَسَن بْن قَحْطَبَةَ الْخَبَر والمنصور فَدخل الْحَسَن ابْن قَحْطَبَةَ عَلَى الْمَنْصُور وَعِنْده عِيسَى بْن مُوسَى، فتمثل الْمَنْصُور بقول جرير:

دع لله إحداهما تنل الأخرى

زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا ... أبشر بطول سَلامَة يَا مِرْبَع مربع رَجُل من بني جَعْفَر بْن كلاب، كَانَ يرْوى شعر جرير فَنَذر الفرزدق دَمَه، فَقَالَ جرير: زَعَمَ الفَرَزْدَقُ أَنْ سيقتلُ مِرْبَعًا ... أبشر بطول سَلامَة يَا مربعُ إِن الفرزدق قَدْ تبيّن لُؤمُه ... حَيْث الْتقَى حُشَشَاؤه والأخدعُ فَلَمّا خلع الْمَنْصُور عِيسَى بْن مُوسَى مَرَّ فِي موكب، فَقَالَ إِنْسَان: من هَذَا؟ فَسَمعهُ مُخَنّث، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَن يكون غَدا فَصَارَ بَعْدَ غَد، وَقد رُوينا فِي خبر آخر: أنَّ عِيسَى بْن مُوسَى قَالَ لمخنّثٍ يتهدَّدُه: أما تَعْرِفُني؟ فَقَالَ: بلَى، أَنْت الَّذِي كنت غَدا فصرت بَعْدَ غَد. وَقَول جرير: حَيْث التقى حششاءه، الْحُشاشاوان: هما العظمان الناشزان وَرَاء الْأُذُنَيْنِ، وَالْوَاحد حُشَشَاء وهما لُغَتَانِ إِحْدَاهمَا هَذِهِ مثل فُعلاء، وَالْأُخْرَى حشاء عَليّ فعلاء مثل قسطاس وفسطاط من الصَّحِيح، وَكَذَلِكَ قُوياء وَلَيْسَ فِي الْأَسْمَاء عَلَى هَذَا الْوَزْن غَيرهمَا. وأمّا فُعلى فقد حكى الْفراء وَيَعْقُوب وَغَيرهمَا فِيهِ ثَلَاثَة أحرف، وَحكى غَيرهمَا فِيهِ رَابِعا وخامسًا وسادسًا، فَأَما الأحرف الثَّلَاثَة فأدَمَى اسْم مَكَان، وأُربَى من أَسمَاء الداهية، كَمَا قَالَ الشَّارِع: هِيَ الأرْبَى جَاءَتْ بأمِّ حَبَوْ كَرَى وشُعَبَى اسْم بَلْدَة، قَالَ جرير: أعبدًا حَلَّ فِي شُعَبَى غَريبًا ... أَلُؤْمًا لَا أَبَا لَكَ واغْتِرَابَا وأمّا الْحُرُوف الْأُخَر فحكاهنَّ فِيمَا روى لنا أَبُو عُمَر الشَّيْبَانيّ وَابْن الأَعْرَابِي. حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر مُحَمَّد بْن عَبْد الْوَاحِد، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَعْلَب، قَالَ: جَاءَت حُرُوف لَمْ يأتِ بهَا يَعْقُوب وَلَا الْفراء، أَتَى بهَا أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانيّ وَابْن الأَعْرَابِي، وَهِي: جُمَدى اسْم مَوضِع وجُسَقى اسْم بلد، وجُبنَى اسْم جبل. دَعْ لله إِحْدَاهمَا تنَلْ الْأُخْرَى حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم، أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعي، قَالَ: وحَدثني عليُّ بْن مُحَمَّد بْن خَلَف العَطَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن الْحُسَيْن الْأَشْقَر، قَالَ: كنت أَطُوف مَعَ عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَن فَإِذا نَحْنُ بِامْرَأَة حسناء تَطوف، قَالَ: فَقَالَ لَهَا عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَن: أهْوَى هَوَى الدِّينِ واللّذَّاتُ تُعْجِبُني ... فَكيف لي بهوى اللّذَّاتِ والدينِ فَقَالَت: يَا ابْن رَسُول اله دَعْ لله إِحْدَاهمَا تنَلْ الْأُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ من زَوْجَ؟ قَالَتْ:

عبد الله بن طاهر يجيز العتابي ثلاث مرات

كَانَ فدُعي، قَالَ: مُنْذُ كم؟ قَالَتْ: مُنْذُ سنة، فَقَالَ: الْحَمد لله عَلَى تَمام النِّعْمَة، قَالَ: هَلْ لَك فِي التَّزْوِيج؟ قَالَتْ: وَالله مَا كَانَ ذَاك رَأْيِي، وَلَكِن لَك فَنعم، فتزوجَّها. عَبْد اللَّه بْن طَاهِر يُجِيز العَتّابي ثَلَاث مَرَّات حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي طَاهِر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هفان، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: دَخَلَ العَتّابي عَلَى عَبْد اللَّه بْن طَاهِر فأنشده: حَسَن ظَنِّي وَحسن مَا عوّد ال ... لَهُ سوائي بك الْغَدَاة أَتَى بِي أَي شيءٍ يكون أحسن من حس ... نِ يَقِين حدا إِلَيْكَ ركابي فَأمر لَهُ بجائزة، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مرّة أُخْرَى فأنشده: جُودُك يَكْفِينيكِ فِي حَاجَتِي ... ورُؤْيَتِي تَكْفِيكَ مِنِّي السؤالِ كَيْفَ أَخْشَى الفَقْر مَا عِشْتَ لِي ... وإنّما كَفّاكَ لِي بيتُ مالِ فَأَجَازَهُ أَيْضا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ الْيَوْم الثَّالِث فأنشده: أكسني مَا يبيد أصلحك الل ... هـ فإِنِّي أكسوك مَا لَا يبيدُ فَأَجَازَهُ وكساه وَحمله. قصَّة أبياتٍ من الشّعْر لعبد اللَّه بْن طَاهِر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بن إِبْرَاهِيم الحكيمي، أَبُو عَبْد اللَّه الْكَاتِب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن الْحَسَن بْن هِشَام، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر يَوْمَا، وَدخل مُحَمَّد بْن عِيسَى الْكَاتِب، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أَعْطوهُ قدحاً، فَأبى وَاعْتذر، فَقيل عذره وَجلسَ وغنينا وشربنا، ثُمَّ تغنى كُنيز دبة صَوتا فَالْتَفت أَبُو الْعَبَّاس وَنظر إِلَى قدحٍ فِيهِ أربعةُ أرطالٍ فِي يَد مُحَمَّد بْن عِيسَى فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَبَا جَعْفَر؟ فَقَالَ: أعز اللَّه الْأَمِير، لي وَلِهَذَا الشّعْر حَدِيث، كنتُ مَعَ أبي الْعَبَّاس عَبْد اللَّه بْن طَاهِر جَالِسا فَشَكا إليَّ وجدَه وعِشْقه لإِنْسَان فَقَالَ: أعْيانِيَ الشّادِنُ الربيبُ فَقلت: دَارِه، فَقَالَ: أكتبُ أشْكو فَلا يجيبُ فَقلت: دَاوه، فَقَالَ: فكيفَ أرجُو دواءَ دائِي ... وإنّما دَائِيَ الطبيبُ ثُمَّ افْتَرقَا فَلم أسمع أحدا يذكرهُ حَتَّى سمعتُ هَذَا يُغني بِهِ السَّاعَة. أَبْيَات ثَلَاثَة لأبي نواس تُساوي شعر أَبِي الْعَتَاهِيَة كُله حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن

ريبة الرشيد في النمري

الرَّبَعيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مطهر الْكُوفِي، قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة، قَالَ: قلت عشْرين ألف بَيت فِي الزّهْد وودت أنَّ لي مَكَانهَا الأبيات الثَّلَاثَة الَّتِي لأبي نواس: يَا نواسيّ تَوَقّرْ ... وتَعَزَّى وَتَصَبّر إِن يكنْ ساءكَ دهرٌ ... فَلَمَّا سَرَّكَ أكْثر يَا كثير الذَّنب عَفْو ال ... لَهُ من ذَنْبك أكبر قَالَ الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ أَبُو مُسْلِم الْكَاتِب: هَذِهِ الأبيات مَكْتُوبَة عَلَى قبر أبي نواس، فزادني أَبِي فِيهَا بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد: أعظم الْأَشْيَاء فِي أص ... غر عَفْو اللَّه يصغُر لَيْسَ للْإنْسَان إِلَّا ... مَا قَضَى اللَّه وقَدَّرْ لَيْسَ للمخلوق تَدْبي ... رٌ بَلِ اللَّه المدَبِّرْ ريبةُ الرَّشيد فِي النمري حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عونُ بْن مُحَمَّد، أَن سعيد ابْن سلم قَالَ: حضرتُ النمريَّ يُنشدُ الرشيدَ شِعْرًا فَمر فِيهِ وصفٌ لسيوفه: لَيْسَتْ كأسيافِ الحسينِ وَلَا ... بَنِي حسنٍ وَلَا آل الزُّبَيْر الكلل هرونُ فِي الْخُلفاء مثلُ مُحَمَّد ... فِي الْأَنْبِيَاء مفضَّلٍ لمفضَّلِ فَقَالَ لَهُ الرشيد: مَا يولُعك بِذكر قَوْمٍ لَا ينالهم ذمٌّ إِلَّا شاطرتهم إِيَّاه، قَدْ رَابَنِي مِنْك هَذَا وفيك، لَا تَعُدْ لَهُ، وَإِنَّمَا نفارقهم فِي الْمُلْك ثُمَّ لَا افتراقَ فِي شَيْءٍ بعده. شعر يَعْزِلُ قَاضِيا عَنِ الْقَضَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مسبح بْن حَاتِم، قَالَ: أَخْبَرَني يَعْقُوب بْن إِسْرَائِيل، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن عليّ بْن أُميَّة، قَالَ: كُنَّا بِحَضْرَة الْمَأْمُون بِدِمَشْق فغنى عَلُّويه: بَرِئْتُ من الإِسْلام إِن كَانَ ذَا الَّذِي ... أتاكِ بِهِ الواشُون حَقًّا كَمَا قَالُوا وَلَكنهُمْ لمّا رَأَوْكِ سريعةً ... إليَّ تواصَوْا بالنميمة واحْتَالُوا فقد صِرْتِ أُذْنًا للوشاةِ سميعةً ... ينالون من عِرْضي وَلَو شئتِ مَا نالوا فَقَالَ الْمَأْمُون لعلُّويه: لمن هَذَا الشّعْر؟ قَالَ: للْقَاضِي، قَالَ: أَي قَاض؟ قَالَ: قَاضِي دمشق، فَأقبل عَلَى أَخِيه المعتصم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاق اعزله، قَالَ: قَدْ عزلته، قَالَ: فليحضُر السَّاعَة، فأحضِرَ شيخٌ خضيبٌ رَبْعة من الرِّجَال، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون من تكون؟

تعليق نحوي مد المقصور وقصر الممدود

فنسب نَفسه، فَقَالَ: تَقول الشّعْر؟ قَالَ: قَدْ كنتُ أقوله، قَالَ: يَا عَلُّويه أنْشدهُ الشّعْر فأنشده، فَقَالَ: هَذَا شعرك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ونساؤه طوالقٌ وعبيدهُ أَحْرَار ومَالُه فِي سَبِيل اللَّه إِن كَانَ قَالَ شِعرًا غلا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة وَإِلَّا فِي زُهد أَوْ معاتبة صديق، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق اعزله، فَمَا كنت لأُوَلِّي الْحُكْم بَيْنَ الْمُسلمين من يبْدَأ فِي هَزله وجدِّه بِالْبَرَاءَةِ من الإِسْلام، ثُمَّ قَالَ: اسقوه، فَأتي بقدح فِيهِ شراب فَأَخذه بِيَدِهِ وَهِي ترْعد، ثُمّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! اللَّه اللَّه مَا ذَقَته قَطّ، قَالَ: أفحرام هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أوْلَى لَك بهَا، أَي نجوت. ثُمَّ قَالَ لعلويه: لَا تقلْ برئتُ من الإِسْلام، وَلَكِن قُل: حرمتُ منائِي مِنْك إِن كَانَ ذَا الَّذِي أتاكِ بِهِ الواشُون حَقًّا كَمَا قَالُوا قَالَ مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري: هَذَا القَاضِي هُوَ عُمَر بْن أبي بَكْر المَوْصِليّ، روى عَنْه الزبير بن بكار وَإِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذر. تَعْلِيق نحوي مد الْمَقْصُور وَقصر الْمَمْدُود قَالَ القَاضِي: مَدَّ الْمَأْمُون الْمُنى فِي هَذَا وَهُوَ مَقْصُور، وَكَانَ نحاة الْبَصْرَة من متقدميهم ومتأخريهم لَا يُجيزون ذَاك فِي شعر وَلَا نثر، إِلَّا الْأَخْفَش فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيزهُ فِي الشّعْر، وَهُوَ مَذْهَب مُتَقَدِّمي نُحاة الْكُوفِيّين، وَكَانَ الفَرَّاء يُجِيزهُ فِي بَعْض الْوُجُوه ويأباهُ فِي بَعْضهَا، فَأَما قصر الْمَمْدُود فِي الشّعْر فَجَائِز عِنْدَ جَمِيع النَّحْوِيين، وَلَو جعل مَكَان هَذَا: حُرمت رجائي أَوْ شفائي أَوْ مَا أشبههَا لَكَانَ وَجها صَحِيحا لَا يُنكر وَلَا يخْتَلف فِي جَوَازه. عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يعْزل واليًا بِسَبَب شِعره ونظيرُ عزل هَذَا القَاضِي عَنْ عمله لمّا أنكرهُ إمامهُ من القَوْل السَّيئ فِي شِعره، الْخَبَر الْوَارِد عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ من عَزله النُّعْمَان ابْن عَدِيّ بْن نَضْلة، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاه عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن مَنْصُور الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وهْب بْن جرير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: أُنبئت أنَّ عَدِيَّ بْن نَضْلة بْن عَبْد الْعُزَّى بْن حرثان بْن عَوْف بْن عُبَيْد بْن عويج بْن عَدِيّ بْن كَعْب مِمَّن هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَمَات بهَا، وَكَانَ مَعَه ابْنه النُّعْمَان بْن عَدِيّ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعْملهُ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَلَى مَيْسان، فَقَالَ أبياتًا من الشّعْر فَعَزله، فَقَالَ: أَلا هَلْ أَتَى الحسناءَ أنَّ حَليلَها ... بمَيْسان يُسْقَى فِي زجاجٍ وحِنْتَم إِذَا شئتُ عادتَنِي دَهَاقِينُ قريةٍ ... ورقّاصة تجدو عَلَى كلِّ منسمِ فَإِن كنت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تسقين بالأصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أميرَ الْمُؤمنِينَ يسوءهُ ... تنادُمُنا بالجَوْسقِ الْمُتَهَدِّم

تعليق لغوي وبلاغي

فَلَمّا بلغت عُمَر الأبيات، قَالَ: أَجْلِ وَالله إِن ذَلِكَ ليسُوءُني، فَمن لقِيه مِنْكُم فليخبُره أنِّي قَدْ عزلتُه، فَقدم عَليّ عمر فَاعْتَذر، حلف مَا صنع مَما قَالَ شَيئًا، وَلَكِنِّي كنت امْرأ شَاعِرًا وجدت فضلا من قَول كَمَا يَقُولُ النّاس، فَقَالَ عُمَر: وَالله لَا تَعْمَل لي عملا مَا بقيتُ وَقد قلتَ مَا قلت. تَعْلِيق لغَوِيّ وبلاغي قَالَ القَاضِي: قَوْله تجذو عَلَى أَطْرَاف أَصَابِع رِجْلَيْهَا: أَي تقوم، يُقَالُ مِنْهُ: جذا يجذو عَلَى أَصَابِع رجلَيْهِ، وَجَثَا يجثو عَلَى رُكْبَتَيْهِ. وسمّى الرِّجْل مِنْسمًا اسْتِعَارَة وَهُوَ فِي الأَصْل للبعير، كَمَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَة لتستثفر، وَهُوَ فِي الأَصْل للدواب ذَات الْحَافِر، وكما قَالَ: " من حفظ مَا بَيْنَ فُقْمَيْهِ وَمَا بَيْنَ رجلَيْهِ دَخَلَ الْجنَّة " يُرِيد الْفَم والفرج، وأصل الفقم للحية، وَمن المنسم قَول زُهَيْر: وَمن لَمْ يصانع فِي أُمُور كَثِيرَة ... يُضَرَّس بأنيابٍ ويُوطَأ بمنسمِ وَالَّذِي يُسمى من الإِنْسَان الظفر يُقَالُ لَهُ من ذَوَات الخفّ المنسم. من الشّعْر الْعَفِيف حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن مُحَمَّد بْن صَالح الكريري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل القَيْسيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيب الْمَدَنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: أنشدنا عَبْد اللَّه بْن مُصْعَب لخيرة بِنْت أبي ضيغم البَلَويَّة: وبِتْنا خِلافَ الحَيِّ لَا نَحْنُ منهمُ ... وَلَا نَحْنُ والأعداءُ مختلطانِ وبتنا يَقِينا بَارِدَ الطلِّ والندى ... من اللَّيْل بُرْدَا يَمْنةٍ عطران نذوذ بِذكر الله عنّا من الخَنا ... إِذا كَانَ قَلْبانا بِنَا يردانِ ونصدر عَن ري العفاف وربّما ... نقعنا غليل الصَّدْر بالرَّشَفَان أَبْيَات تمثّل بهَا ابْن الزبير مُنْصَرفه يَوْم الْجمل حَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن صَالح بْن شيخ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرياشي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الحكم الْجبلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حلحلة الْقُرَشِيّ، عَنْ أبي رَيْحَانَة، قَالَ: لما انْصَرف الزُّبَيْر يَوْمَ الْجمل تمثل: أمرتُهُمُ أَمْرِي بمنْعَرج اللِّوى ... وَلَا أمْر للمَعْصِيَّ إِلَّا مُضيّعا فَقلت لكأسٍ ألْجميها فَإِنَّمَا ... حَلَلْت الْكَثِيب من زرود لأفزعا كَأَن بليتها وبَلْدَةٍ نَحْرها ... من النَّبْلِ كُراثُ الصَّرِيم الْمُنَزّعا إِذَا الْمَرْء لَمْ يَغْش الكريهةَ أوشَكَتْ ... حِبَالَ الْهُويَنا بالفتى أَن تُقطعا

المجلس الرابع عشر

قَالَ الرياشي: الليتان صفحتا الْعُنُق من النَّاقة، وهما تَحت الْقُرط من الْمَرْأَة، قَالَ القَاضِي: من الليت قَول الشَّاعِر: وفرعٍ يَصِيرُ الجيدَ وحفٍ كَأَنَّهُ ... على اللّيْتِ قِنوانِ الْكُروم الدوالحُ وَقَالَ آخر: إِذَا هِيَ قامتْ تَقْشعرُّ شُواتُها ... ويَبْرقُ بَيْنَ اللّيْتِ مِنْهَا إِلَى الصُّقْلِ قَالَ الرياشي فِي قَوْله وبلدة نحرها: الْبَلدة من الإِنْسَان اللّبة، وَمن الْبَعِير الْكَركرة، وكُرّاث الصريم: نبت لَهُ ثَلَاثَة عروق ينْبت فِي الرمل فَإِذا أَخْرَجَهُ كَانَ أَسْفَله كَأَنَّهُ قذذ السهْم، فَشبه النبل بِذَاكَ، والصريم: الرمل، وَأنْشد الرياشي: أنيخت فَأَلْقَت بَلْدَة فَوق بلدةٍ ... قليلٌ بهَا الأصواتُ إِلَّا بُغامُها يُقَالُ لصوت الْبَعِير بُغام، قَالَ الشَّاعِر: حَسِبْتَ بُغام رَاحلتي عَنَاقًا ... وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرك بالعناقِ الْمجْلس الرَّابِع عَشْر الصّاحب مسئول عَنْ صَاحبه حَدثنَا مُحَمَّد بن هرون، أَبُو حَامِدٍ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: صَحِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبًا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْضَةً فَقَطَعَ غُصْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَعْوَجُ وَالآخَرُ مُسْتَقِيمٌ، فَدَفَعَ إِلَى صَاحِبِهِ الْمُسْتَقِيمَ وَأَمْسَكَ الأَعْوَجَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْت أَحَق بِهَذَا، فَقَالَ: " كَلا، مَا مِنْ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبًا إِلا وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ". حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ السُّكَيْنِ الْبَلَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ بْنِ الْقَاسِمِ الْيَمَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عَن حموة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحَدِّثُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ غَيْضَةً وَمَعَهُ صَاحب لَهُ، فَأخذ مِنْهَا مِسْوَاكَيْنِ أَرَاكًا، أَحَدُهُمَا مُسْتَقِيمٌ وَالآخَرُ مُعْوَجٌّ، فَأَعْطَى صَاحِبَهُ الْمُسْتَقِيمَ وَحَبَسَ الْمُعْوَجَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْتَ أَحَقُّ بِالْمُسْتَقِيمِ مِنِّي، قَالَ: " كَلا، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صاحبٍ يُصَاحِبُ صَاحِبًا وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ إِلا سَأَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ مُصَاحَبَتِهِ إِيَّاهُ، فَأَحْبَبْتُ أَلا أَسْتَأْثِرَ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ ". الْعبْرَة من الحَدِيث قَالَ القَاضِي: تأملوا - رحمكم اللَّه - مَا فِي هَذَا الْخَبَر من ذَكَرَ مَا أَتَى بِهِ من أَخْلَاق رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَة الْعلية، وعشرته لمن صَاحبه الْكَرِيمَة الرضية، والإفضال والإيثار، وعزوفه عَنِ الاستبداد والاستئثار، وَمن أولى بذلك مِمّن الْقُرْآن الْعَظِيم أدبُه، ومُنزل

جد أعشى همدان وصاحبه

الْوَحْي الْحَكِيم مُؤدبه، وَقد رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلت عَنْ خُلُقِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: كَانَ خُلُقُه الْقُرْآن. قَالَ القَاضِي: وَأعظم بقول الله عَزَّ وَجَلَّ " وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم " نُبْلا وَمَجْدًا وَفَضْلا وجدًّا، وَقد جَاءَ فِي الْأَثر أَنَّهُ كَانَ أَحْيَا من عَذْراء فِي خدرها، وَأَنه كَانَ أَشد النّاس فِيمَا كَانَ من أَمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فيرضى أحسن الرِّضَا حِين التَّوَاضُع، وَيُعْطِي أجزل الْعَطاء عِنْدَ السّمَاحةِ والاسترفاد، ويغضب لله عَزَّ وَجَلَّ أَشد الْغَضَب عِنْدَ ظُهُور الغّيِّ والْعِناد، والعَبَث والفَسَاد، وَكَانَ فِي أَمر ربه ونصرة دينه كالحسام الباتر، والضِّرغام الخَادِر، فَأكْرم بِنَفسِهِ السمحة الزكية الشَّرِيفَة الأبية، وسجاياه السهلة الرضية، وعطاياه الفاضلةُ السّنيَّة، اللَّهُمَّ لفك الحمدُ عَلَى توفيقك إيانا لتصديقه، وهدايتك لَنَا بِهِ، اللَّهم فأسْعِدنا باتّباع أوامره، وَالْوُقُوف عِنْدَ زواجره، والاستمرار عَلَى سُنّته، والسعادة بِشَفَاعَتِهِ. جدُّ أعشى هَمدَان وَصَاحبه حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنِ الْعَبَّاس بْن هِشَام، عَنْ أَبِيه، عَنْ عوانةَ بن الحكم، قَالَ: حَدثنَا شَيْخَانِ من هَمْدَان قَالَا: كَانَ نظام بْن جشم بْن عُمَر بْن مَالك بْن عَبْد الْجِنّ الْهَمدَانِي، وَهُوَ جدُّ أعشى هَمدَان، وَاسم الْأَعْشَى عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن نظام، مؤاخيًا لأشْوع بْن أبي مَرْثد الهَمْداني وَكَانَا مغوارين فاتكين قرضوبين جوداين - قَالَ ابْن دُرَيْد: القرضوب: الَّذِي يَأْخُذ كلّ مَا لَاحَ لَهُ - لَا يَلِيقَان شَيئًا، قَالَ القَاضِي: يُقَالُ للصوص: قراضبة، وَيُقَال للْفَقِير قرضوب، قَالَ الشَّاعِر: قَوْمٌ إِذَا صَرَّحَتْ كَحْلٌ فَدَارُهُمُ ... كَهْفُ الضَّعيفِ ومأوى كُلِّ قرضوبِ رَجَعَ الحَدِيث: لَا يَليقان شَيئًا، فَخَرَجَا يُريدَان الْغَارة عَلَى مَهْرة ابْن حيدان، وَكَانَ يختلسان الصِّرمة ثُمَّ يشلانها مجاهرة، فَإِن أدْركا رَمَيا فَلم يَسْقُط لَهَما سهم، قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: قَالَ أبي، قَالَ عوَانَة: سمعتُ من أثقب بِهِ من رجال هَمدَان يخبر أنّ السرب من القطا كَانَ يمرُّ بهما طائرا فَيَقُولَانِ: أَيهَا تُرِيدُونَ؟ فيوَمأ إِلَى الْوَاحِدَة مِنْهَا فيرميانها فَلا يخطئان، وَكَذَلِكَ الظّباء، وَبَين بِلَاد هَمدَان وبلاد مَهْرة مَفَازة مُنكَرة، لَا تسلكها الخيلُ وتسوخُ فِيهَا أَخْفَاف الْإِبِل فتصب فِيهَا أَوديَة مَهْرة وأودية الْحُوف، وَهِي سبخَة ملحة نشاشة، لَا تُنبت عودا لَيْسَ العكرش، قَالَ: ففوزا أيّامًا وشَوّل ماؤهما وخافا الْهَلَاك، فأبصرا يَوْمَا مَعَ ذرور الشَّمْسُ طيرًا تَحُوم عَلَى غمضٍ من الأَرْض، فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: أَلا ترى مَا أرَاهُ، فَقَالَ: بلَى وَالله إِنَّهَا لتحوم عَلَى لحم أَوْ مَاء، وأيها كَانَ فَهُوَ ملكٌ أَوْ وَشَل فقصدا الْجِهَة حَتَّى هبطا غَائطًا ذَا خَبْراوات ونُقْعَان، فأناخا وشربا وسقيا وعَضَّدَا لراحلتيهما، واستظلا بِبَعْض تِلْكَ الشَّهْر، فَبينا كَذَلِك إِذْ مرَّ بهما أُمعوز، وَهُوَ جمَاعَة من الظباء، فرمياه فصرعا ظبيين وأورقا وأوْريا واشْتَوَيَا وقعدا يرقُبان اللَّيْل ليستدلا بالنجوم،

فَإِذا سوادٌ مقبل فأخْمرا راحلتيهما، قَالَ ابْن دُرَيْد: أَي وارياها تَحت الشّجر، قَالَ القَاضِي: وَهُوَ الخَمْر، قَالَ الشَّاعِر: أَلا يَا زَيْدُ والضَّحّاكُ سِيرا ... فقد جَاوَزْتُما خَمْر الطريقِ وطلعا دوحة فتغيبا فِي شعابها فَإِذا صِرْمةٌ زُهْرٌ كالصوار يَحْدُوها عبدٌ اسود وَهُوَ يَقُولُ: رُوحِي إِلَى خَيرِ أَبِي المعارك ... لمبركٍ من أرحب الْمُبَارك فَإِن بَيت أضيافه هُنَالك ... فأبشري بِوَقع عضبٍ بَاتِك يبترُ مِنْك أسْوُقَ البَوَائِك فَمَا غَابَ الأوّل عَنْ أَعيننَا حَتَّى بَدَتْ صِرمةٌ أُخْرَى يحدُوها عَبْد أسود، وَهُوَ يَقُولُ: رُوحِي إِلَى مبركك الدَّمَاثِر ... إِلَى فَتَى كُهبان والمهاجرِ وعصمةٍ المعترِّ والْمُهاجر ... واللَّيثِ فِي الْيَوْم الْعُماسِ الخادِر قَالَ ابْن دُرَيْد: العماس الشَّديد - فَإِن منيتِ بمُضاف زائر ... فأيْقِني بِوَقع عضبٍ باتِر ثُمَّ اعتراقٍ بشفارٍ جَازِر ... مخطرفٍ للجِلَّةِ البَهَازِر فَلَمّا غَابَ الراعيان عَنْ أَعيننَا خرجنَا نقتفي آثَار الْإِبِل، حَتَّى قربنا من الْحلَّة فأنخنا فَلَمّا هدأت الرَّجل خرجنَا مصلتين حَتَّى انتهينا إِلَى المبرك فاستُثَرْنا من إطراره صِرْمه فشَلَلْناها ليلتنا، حَتَّى إِذَا انحسر خدرُ اللَّيْل وذرَّ الشُّروقُ إِذَا شبحٌ يهوى إِلَيْنَا هَوِيَّ الْعُقاب، فَمَا ارتدَّ الطَّرفُ حَتَّى أَثْبَتْنَاهُ نَظَرًا، فَإِذا رَجُل عَلَى نَاقَة كَأَنَّهَا ظَبْي صَرَع، قَالَ القَاضِي: الصَّرَع الَّذِي بَيْنَ الْكَبِير وَالصَّغِير، قَالَ الْأَعْشَى يصفُ وَعْلا: قَدْ يتْرك الدَّهْرُ فِي خَلْقَاءَ راسيةٍ ... وَهْيًا ويُنزِلُ مِنْهَا الأعْصَمَ الصّرَعا فأيَّةَ بالصِّرمة فانكفأتْ رَاجِعَة، فأقبلنا نَصُورها أَي نَعْطفها ونُمليها كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وفرعٍ يُصِيرُ الْجِيدَ وحفٍ كَأَنَّهُ ... على اللّيْتِ قِنوانُ الْكُرُوم الدوالحُ وَقَالَ الشَّاعِر: وجَاءَتْ خلعةٌ دهسٌ صَفَايا ... يَصُور عُنوقها أحْوَى زَنِيمُ وَيُقَال أَيْضا: صَار يصير كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَفرع يصير ... الْبَيْت وَقد قرئَ: فَصُرْهُنَّ إِلَيْك وقصرهن.. وَالْمعْنَى الْميل، وَقيل: الْقطع، وَبَيَان هَذَا فِي كتبنَا فِي عُلُوم الْقُرْآن مستقصاة. رَجَعَ الحَدِيث، وَهِي سُرَع إِلَى تأييهه، فَلَمّا دنا منا قَالَ: خَلِّيا عَنْهَا لَا أم لَكمَا، فَقُلْنَا: وَلَا نُعْمَى عين، وبوأنا لَهُ سَهْمَيْنِ فأقحم من رَاحِلَته كالوعل المذعور، وانتضى سيفَه وثَنّى رَأسه فِي دَرَقته، فوَاللَّه مَا أرسلنَا سهمينا حَتَّى خالطَنَا، فَضرب عُرقوبي نَاقَة صَاحِبي

فغادرها نُكُوس، وأهوى لِلْأُخْرَى فبتر عرقوبها وَهُوَ يَقُولُ: عَلام أسْقي رَسْلها وأمنحُ ... وأُشبع الضيفَ بهَا وأجرحُ إِن لَمْ أقاتلْ دُونها وأضرحُ ... عَنْهَا إِذَا خام الكَميُّ الشحشحُ ثُمَّ قَالَ: استأسرا، فتذامرنا وَإِن أَنْفُسنَا لتنازعا إِلَى مَا قَالَ، فكررنا عَلَيْهِ بأسيافنا فَوَثَبَ وثبات الفهد، فَوقف حُجْرة وفَوَّت النّبل ثُمَّ كرّ رَاجعا، فَضرب درقة صَاحِبي فاقتدَّها، فَلَمّا رَأينَا ذَلِكَ استسلمنا وَقُلْنَا عياذاً بك يَا بن الْكِرَام، فَقَالَ: بمعاذ عُذْتما، وَسَأَلنَا عَنْ أنسابنا فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: ارتدفا عَلَى رَاحِلَتي واصرفا وجهتها شطر مطلع الشَّمْسُ تبلغكما الحيّ، فخبّت بِنَا الناقةُ تهوي لَا تُمَلّكنا من أمرنَا شَيئًا حَتَّى وردتْ بْنا الحَيّ، فكلا وَلَا إِذ أقبل ضَاحِكا كَأَنَّهُ لَمْ تَمْسَسْهُ مشقة، وَقد مَشى مسيرَة لَيْلَة للراكب الْمُجِدّ، فَقَالَ: دونكما الصرمة الَّتِي اطردْتُماها وناقتين من سُرِّ إبلي برحليهما وحملنا وسَرّحنا، فَقَالَ: اسمعا مَا أَقُول لَكمَا، فَقَالَ: أَقُول لِخَارِبَيْ هَمْدَان لَمّا ... أثارَا صِرمة حُمْرا وعِيسَا ألم تعلما أَنْ لن تَفُوتا ... وَأَن لن تُعْجِزا اللَّيْث الهَمُوسا فظنٌ عَاجز أَن تَسْلُباني ... وَمن ذَا يسلب اللَّيْثَ الفَريسا وَمن دون الَّذِي أملتُماه ... ضِرابٌ يقطُر البطلَ البَليسا إِذَا أَنَا لَمْ أذدْ عَنْ مدفآتٍ ... فيحدُو بيدَها الحَزْن الشريسا فَمِمَّ أُجَنِّبُ الأضيافَ ذَمِّي ... إِذَا النكباءُ أوجفت البَئِيسَا وَمِمَّا أحَسَبُ الْجُمَم اللّواتي ... يظل لَهَا الرِّجَال إِلَى شُوسَا وَمِمَّا أُنْعِشُ الْعُفّى إِذَا مَا ... ترَاءى وَجهُ دهرهم عُبُوسا أهيبا خاربي هَمْدان مِنْهَا ... بزُهْر تَطرد الْفقر الضُّرُوسا وأوبا سَالِمَيْنِ بهَا ولَمّا ... أُثِر لَكمَا النآدَ المَرْمَرِيسا قَالَ ابْن دُرَيْد: يُرِيد الداهية، قَالَ القَاضِي: أَحسب الجمم مَعْنَاهُ أنيلهم مَا يَكفهمْ يُقَالُ: أحسبني الطَّعَام وَغَيره يحسبني أَن كفاني، وَقَوْلهمْ حَسبك مَعْنَاهُ كافيك، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " عَطَاءً حسابا " مَعْنَاهُ عَطاء كَافِيا يَحْسبهُم أَي يكفيهم وَقَوله: الْجُمم جمعُ جُمة وهم الْقَوْم يسْأَلُون فِي الدِّيَة، وَقَوله: شوسًا جمع أشوس وَهُوَ الَّذِي ينظر نظرا شَدِيدا، قَالَ الشَّاعِر: خَلا أنّ الْعِتَاقَ من المَطَايَا ... أَحْسَن بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ وَقَوله: وَمِمَّا أنعش الْعُفّى، معنى أنعش أرفع، وَقَوْلهمْ: نَعشك اللَّه أَي رفعك إِمَّا بسد

خبر مقتل أبي مسلم صاحب الدولة

خلتك أَوْ بإقالة عَثْرتك وَمَا أشبههما، وَمِنْه قيل لسرير الْمَيِّت نعش لأنَّه يُرفع عَلَيْهِ، وَقَوله: العفّى جمع عاف وَهُوَ السَّائِل للْحَاجة وطالبها، يُقَالُ: عَفا فلَان فلَانا يعفوه إِذَا سَأَلَهُ وَرغب إِلَيْهِ فِي حَاجته، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ أُحُد " لَوْلَا أنْ يُحْزِن ذَلِكَ نساءُنا لَتَركْنا حَمْزةَ بالعراء تأكلُه عافِيةُ الطّيْر " يُقَالُ: عافٍ وجَماعة عَافِية مثل كَاف وَجَمَاعَة كَافِيَة، وَيُقَال للعافي: معتف، وَهُوَ مفعل مِنْهُ قَالَ الشَّاعِر: تَرَى حَوْلَهُنَّ الْمُعْتَفين كأنّهُم ... عَلَى صنمٍ فِي الجَاهلية عكّفُ جمع الْعَافِي أَيْضا عفاة، مثل كَاف وكفاة وسَاق وسقاة وقاض وقضاة فِي أشباه لهَذَا كَثِيرَة جدا، وَمن هَذَا قَول الْأَعْشَى: تَطُوفُ العفاة بأبوابه ... كَطَوْفِ النّصَارى ببيتِ الوَثَنْ وَجمع الْعَافِي فِي الشّعْر الَّذِي بلغ فِي هَذَا الْخَبَر عُفى عَلَى وزن فُعّل مثل غاز وغزىً هاد وهُدَّى، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " أَو كَانُوا غزىً " وَمثله فِي الصَّحِيح رَاكِع ورُكّع وساجِد وسُجّد، قَالَ الراجز يُخَاطب النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن قُرَيْشًا أخْلَفُوكَ المَوْعِدَا ... وَنَقضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكّدَا وَقَتَّلُونا رُكّعًا وَسُجْدا وَقَالَ الله تَعَالَى: " الركع السُّجُود ". خبر مقتل أبي مُسْلِم صَاحب الدّولة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المَنْصُورِيّ، قَالَ: لمّا قتل أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور أَبَا مُسْلِم، قَالَ: رَحِمك اللَّه أَبَا مُسْلِم، بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيتَ لنا ووفينا لَك، وَإِنَّا بايعناك عَلَى أَلا يَخْرُج عَلَيْنَا أحدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّام إِلَّا قَتَلْنَاهُ فخرجتَ عَلَيْنَا فقتلْناك. ولمّا أَمر الْمَنْصُور بقتْله وَقد دَسّ لَهُ رجَالًا من خاصته، وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا سَمِعْتُمْ تصفيقي فاضربُوه، فَضَربهُ شَبِيب بْن داج ثُمَّ ضربه القواد، فَدخل عِيسَى بْن مُوسَى وَقد كَانَ كلّم الْمَنْصُور فِي أمره، فَلَمّا رَآهُ قَتِيلا اسْترْجع، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: احْمَد اللَّه تَعَالَى أَنَّك هجمت عَلَى نِعمة وَلم تهجم على مُصِيبَة، فَقَالَ أَبُو دلامة: أَبَا مُسْلِم مَا غَيّرَ اللَّه نِعْمَةً ... عَلَى عَبده حَتَّى يُغَيِّرُها العبدُ أَبَا مسلمٍ خَوَّفَتْني القتْل فانتَحى ... عليكَ بِمَا خَوَّفْتِني الأسَدُ الوردُ خبر للمؤلف مَعَ بَعْض الرؤساء فِي شَأْن أَبْيَات لأبي تَمام حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمَد بْن الْحُسَيْن بْن هِشَام قَالَ: أَنْشدني أَبُو تَمام:

الحسين يرفض تزويج زينب من يزيد

يَقُولُونَ هَلْ يَبْكي الفَتَى لخريدةٍ ... مَتَى مَا أَرَادَ اعْتاضَ عَشْرًا مَكَانَها وَهل يستعيضُ المرءُ من خمسِ كَفِّه ... وَلَو بُدّلت حُرَّ اللُّجَيْنِ بَنَانُها وَكَيف عَلَى نارِ اللَّيَالِي مُعَرَّسي ... إِذَا كَانَ شيبُ العارِضيْن دُخَانَها قَالَ القَاضِي: كَانَ بَعْض رُؤَسَاء الزَّمَان أنْشد بَعْض هَذِهِ الأبيات، فاستحسنها جدا، وَقَالَ - وَنحن بِحَضْرَتِهِ جمَاعَة -: أتعرفون لهَذِهِ الأبيات أَولا؟ فَقلت لَهُ: هَذِهِ كلمة لأبي تَمام مَشْهُورَة أَولهَا: ألم تَرَني خَلّيتُ نَفْسي وشَأْنها ... فَلم أحَفِلِ الدُّنْيَا وَلَا حَدْثَانَها لَقَدْ خوفتني الحَادِثاتُ صُرُوفَها ... وَلَو آمنتني مَا قبلتُ أمانُها وأنشدتهُ مِنْهَا: يَقُولُونَ هَلْ يَبْكي الفَتَى لخريدة ... إِذا مَا أَرَادَ اعْتاضَ عَشْرًا مَكَانَها وَهل يستعيضُ المرءُ من خَمْسِ كَفه ... وَلَو صاغ من حُرّ اللُّجَيْنِ بَنَانَها فطرب عِنْدَ الِانْتِهَاء إِلَى هَذَا وَجعل يردده ويتعايا فه إِلَى أَن حفظه، وَقَالَ: هَذَا ألذُّ من كلِّ شراب وغناء. الْحُسَيْن يرفض تَزْوِيج زَيْنَب من يزِيد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمقري الشاذ كوني، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ السُّلَمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أُمِّ بَكْرِ بِنْتِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ زَيْنَبَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عَلِيٍّ وَأُمُّ أُمِّ كُلْثُومٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْضِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ دَيْنَهُ، وَكَانَ دَيْنُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَيُعْطِيَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَيُصْدِقَهَا أَرْبَعَ مِائَةَ دِينَارٍ وَيُكْرِمَهَا بِعَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ. فَبَعَثَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَأَجَابَهُ، وَاسْتَثْنَى عَلَيْهِ رضى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: لَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا دُونَهُ مَعَ أَنِّي لَسْتُ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ وَهُوَ خالٌ، وَالْخَالُ وَالِدٌ، قَالَ: وَكَانَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَنْبُعَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: مَا انْتِظَارُكَ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ، فَلَوْ حَزَمْتَ؟ فَأَبَى وَتَرَكَهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلا خَمْسَ لَيَالٍ حَتَّى قَدِمَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مَا تَسْمَعُ وَأَنْتَ خَالُهَا وَوَالِدُهَا، وَلَيْسَ لِي مَعَكَ أَمْرٌ فَأَمْرُهَا بِيَدِكَ، فَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ جَمَاعَةً بِذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ، فَقَالَ: يَا بِنْتَ أُخْتِي إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيكِ أَمْرٌ، وَقَدْ وَلانِي أَمْرَكِ وَإِنِّي لَا آلُوكِ حُسْنَ النَّظَرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يَخْرُجُ مِنَّا غَرِيبَة فأمرك بيَدي، قَالَ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَقَالَ الْحُسَيْنُ

عمرو بن حريث يتزوج ابنة عدي بن حاتم على حكمه

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعْمل أَنِّي لَمْ أُرِدْ إِلا الْخَيْرَ، فَقَيِّضْ لِهَذِهِ الْجَارِيَةِ رِضَاكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَقِيَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَتَى الْمَسْجِدَ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ وَأَشْرَافُ قُرَيْشٍ وهيأوا مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يُصْلِحُهُمْ، فَتَكَلَّمَ مَرْوَانُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ الْقَرَابَةَ لُطْفًا وَالْحَقَّ عَطْفًا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَلافَى مَا كَانَ صَلاحُ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ مَعَ مَا يُحِبُّ مِنْ أَثَرِهِ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ الْمَعَادِ الَّذِي لَا غِنَاءَ بِهِ عَنْهُ مَعَ رِضَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فِي ابْنَته مَا قد حَسُنَ فِيهِ رَأْيُهُ، وَوَلَّى أَمْرَهَا خالها الْحُسَيْن ابْن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحُسَيْنِ خِلافٌ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَتَكَلَّمَ الْحُسَيْنُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الإِسْلامَ يَرْفَعُ الْخَسِيسَةَ وَيُتِمُّ النَّقِيصَةَ وَيُذْهِبُ الْمَلامَةَ، فَلا لَوْمَ عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا فِي مَأْثَمٍ، وَإِنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي عَظَّمَ اللَّهُ حَقَّهَا وَأَمَرَ بِرِعَايَتِهَا، وَسَأَلَ الأَجْرَ فِي الْمَوَدَّةِ عَلَيْهَا وَالْمُحَافَظَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَرَابَتُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أُزَوِّجَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهَا نَسَبًا وَأَلْطَفُ سَبَبًا، وَهُوَ هَذَا الْغُلامُ، يَعْنِي الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَلَمْ أُرِدْ صَرْفَهَا عَنْ كَثْرَةِ مَالٍ نَازَعَتْهَا نَفْسُهَا وَلا أَبُوهَا إِلَيْهِ، وَلا أَجْعَلُ لامْرِئٍ فِي أَمْرِهَا مُتَكَلَّمًا، وَقَدْ جعلت مهرهَا كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا فِي ذَلِكَ سَعَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَغَضِبَ مَرْوَانُ، وَقَالَ: أَغَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ: مَا هَذِه بأبادي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَكَ، وَمَا غِبْتَ عَمَّا تَسْمَعُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ الْخَبَرَ حَيْثُ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ وَأَعْلَمْتُكَ أَنِّي لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: عَلَى رِسْلِكَ أَقْبِلْ عَلَيَّ، فَأَوَّلُ الْغَدْرِ مِنْكُمْ وَفِيكُمْ، انْتَظِرْ رُوَيْدًا حَتَّى أَقُولَ، نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَيُّهَا النَّفَرُ ثُمَّ أَنْتَ يَا مِسْوَرُ بْنَ مَخْرَمَةَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ خَطَبَ عَائِشَةَ بِنْتَ عُثْمَانَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ مِنَ الإِشْفَاءِ عَلَى الْفَرَاغِ، وَقَدْ وَلَّتْكَ يَا مَرْوَانُ أَمْرَهَا، قُلْتَ: إِنَّهُ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُزَوِّجَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ يَعْنِي الْمِسْوَرَ، قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ مَرْوَانُ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ وَأَنَا أُجِيبُكَ وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَسْأَلْنِي، قَالَ الْحُسَيْن: فَأَنت مَوْضِعُ الْغَدْرِ. عَمْرو بْن حُريث يتَزَوَّج ابْنَة عَدِيّ بْن حَاتِم عَلَى حُكمه حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد: قَالَ: حَدَّثَنِي عمي، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْن الْكَلْبِيّ، عَنْ مُحَمَّد بْن سليم أبي هِلَال الرَّاسِبِي، عَنْ حُمَيْد بْن هِلَال الْخُدْري، قَالَ: خطب عَمْرو بْن حُرَيْثٍ إِلَى عَدِيّ بْن حَاتِم فَقَالَ: لَا أزَوجك إِلَّا عَلَى حكمي، فَرجع عَمْرو وَقَالَ: امْرَأَة من قُرَيْش عَلَى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم أعجب إليَّ من امْرَأَة من طييء على حكم أَبِيهَا، فَرجع ثمَّ أَبَت نَفسه فَرجع إِلَيْهِ، فَقَالَ: على حكمي؟ قَالَ: نعم، فَرجع عَمْرو بْن حُرَيْثٍ فَلم ينم ليلته مَخَافَة أَن يَحْكم عَلَيْهِ بِمَا لَا يُطيق، فَلَمّا أصبح بعث إِلَيْهِ أنْ عَرّفْني مَا حكمتَ بِهِ عليّ، فَأرْسل إِلَيْهِ: إِنِّي حكمتُ بِأَرْبَع مائَة دِرْهَم وَثَمَانِينَ درهما سنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبعث إِلَيْهِ بِعشْرَة آلَاف

بين حفص بن غياث القاضي وأبي الديك المعتوه

دِرْهَم وَكِسْوَة فردّها وفرّق الثِّيَاب فِي جُلَسَائِهِ، وَقَالَ: يرى ابنُ حُرَيْثٍ أنَّ هَمِّيَ مَالُهُ ... وَمَا كُنْتُ موصُوفًا بحبِّ الدَّراهمِ وَقَالَت قُريش لَا تحكِّمه إِنَّه ... عَلَى كلِّ مَا حَال عَدِيُّ بْنُ حَاتِم فَيذْهب مِنْك المالُ أولَ وهْلة ... وحَمَامَها والنَّخْل ذَاتَ الكمائم فقلتُ معَاذَ اللَّه من ترك سنةٍ ... جَرَت من رَسُول الله واللهُ عاصمي وَقلت مَعَاذَ الله من سُوءِ سُنة ... يحدِّثها الركْبَان أَهْلَ المواسمِ بَيْنَ حَفْص بْن غياث القَاضِي وَأبي الديك الْمَعْتُوه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَتَّات بِالْكُوفَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْم، قَالَ: كنتُ جَالِسا عِنْدَ حَفْص بْن غياث بَعْدَ أَن وُلّي الْقَضَاء، فَدخل عَلَيْهِ أَبُو الديك الْمَعْتُوه وَكَانَ ذَاهِب الْعقل مُحتالا للمعاش، وَكَانَ دُخُوله فِي يَوْمَ من أيّام الشتَاء شَدِيد الْبرد فَرَآهُ حافيًا حاسرًا فرحمه، فَدَعَا الْجَارِيَة فسارّها فَجَاءَتْهُ بعمامة وخفين، فَقَالَ: ارفعيه إِلَى أَبِي الديك، قَالَ: فلفّ الْعِمَامَة عَلَى رَأسه وَلبس الْخُفَّ ثُمَّ قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأخذ قَمِيصه وَكَانَ خَلِقًا رثاًُ فَجَال بإصبعه ثُمَّ قَالَ: أَيهَا القَاضِي! جَزَاك اللَّه عَنِ الْأَطْرَاف خيرا، وحَرّك قَمِيصه بإصبعه أَي انْظُر إِلَى قَمِيصِي ورقّته ورثاثته، فَضَحِك حَفْص بن غياث ثُمَّ قَامَ فَدخل ثُمَّ خرج وَقد خلع الْجُبة الَّتِي عَلَيْهِ وقميصها، وَلبس غَيرهمَا وَأمر بدفعهما إِلَى أبي الديك فلبسهما أَبُو الديك ثُمَّ قَالَ: أَيهَا القَاضِي! يحْكى أنَّ عَبْد الْملك ابْن مَرْوَان قَالَ لبَعض وَلَده: أَي الثِّيَاب أعجب إِلَيْكَ؟ قَالَ: مَا رأيتهُ عَلَى غَيْرِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَأَي الرِّجَال اخترتَ لنَفسك؟ قَالَ: أحْسنهم اخْتِيَارا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. وَقد اخْتَرْت لنَفسك أَيهَا القَاضِي الثَّوَاب وَحسن الثَّنَاء وسررت أَبَا الديك كلّ السرُور إِلَّا قُطيرة، فَقَالَ لَهُ حَفْص: يَا أَبَا الديك! وَمَا الْقُطيرة؟ قَالَ: شَيْءٍ أنصرف بِهِ إِلَى عيالي، قَالَ: حَفْص: حُبًّا وكرامة، وَالله مَا فِي منزلي ذَهَبٌ وَلَا فضَّة وَلَكِن أستقرض لَك، يَا غُلَام! قل لفُلَان أقرضنا دِينَارا أدفعه إِلَى أَبِي الديك، قَالَ: يَقُولُ لَهُ أَبُو الديك: أَيهَا القَاضِي! وَالله مَا أجد لَك مَثَلا إِلَّا قَول الشَّاعِر: يُعيِّرني بالدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا تَقَرّضت فِي أشياءَ تُكْسِبْهُمْ مَجْدَا وَقَول صَاحبه: وَمَا كنتَ إِلَّا كالأصَمِّ بْن جعفرٍ ... رَأَى المالَ لَا يَبْقى فأبْقَى بِهِ حمْدا الْمجْلس الْخَامِس عَشْر قَول الرَّسُول فِي مُخَاطبَة قَتْلَى بدر حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا

جارية ظريفة ترد على أبي الشعثاء حين أخبرها بحبه

نَصْرُ بْنُ حَمَّادٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى بَدْرٍ فَقَالَ: " جَزَاكُمُ اللَّهُ عَنِّي مِنْ عِصَابَةٍ شَرًّا، فَقَدْ خَوَّنْتُمُونِي أَمِينًا وَكَذَّبْتُمُونِي صَادِقًا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ: هَذَا أَعْتَى عَلَى اللَّهِ مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ وَحَّدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمَّا أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ دَعَا بِاللاتِ وَالْعُزَّى ". قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا ينبّه أولي الْأَلْبَاب من الْمُؤمنِينَ عَلَى نعْمَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ فِي هدايته إيَّاهُم إِلَى الْإِيمَان بِهِ، وتوفيقهم لتصديق نبيه، وَالْإِقْرَار بِصِحَّة نبوته، الِاعْتِرَاف بوفور أَمَانَته، والإذعان لاتّباعه وَالْجد فِي طَاعَته، وأنْ بَصّرهم من دينه مَا عَمِي عَنْهُ أعداؤُه، وعَصمهم من الضَّلَالَة الَّتِي هلك فِيهَا عُصاة عباده، وعتاة خلقه، فَالْحَمْد لله عَلَى نعْمَته عَلَيْنَا فِي ديننَا ودنيانا، وَله الشُّكْر عَلَى إحسانه إِلَيْنَا فِي جَمِيع شئوننا، وَنَظره لَنَا فِيمَا يُصْلِحنَا، وَيعود عَلَيْنَا بالفوز فِي معادنا، والنجاة من العطب يَوْمَ حشرنا. جَارِيَة ظريفة ترد عَلَى أَبِي الشعْثَاء حِين أخْبرهَا بحبه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرياشي، عَنِ ابْن سَلام، قَالَ: أَخْبرنِي عليّ بْن هِشَام أَوْ من أَخْبرنِي عَنْ عليّ بْن هِشَام، قَالَ: كَانَ بِالْكُوفَةِ رَجُل يكنى أَبَا الشعْثَاء، عفيفا مَزَّاحًا، وَكَانَ يدْخل عَلَى سُراة أَهْلَ الْكُوفَة، فمزح مَعَ جَارِيَة لبَعْضهِم وأخبرها أَنَّهُ يهواها، وَكَانَ شاعرة ظريفة، فَقَالَت: لأبي الشّعْثَاء حب باطنٌ ... لَيْسَ فه تُهْمةٌ للمتهمْ يَا فُؤَادِي فازدْجِرْ عَنْهُ وإنْ ... عَبَثَ الحبُّ بِهِ فاقْعُدْ وقمْ جَاءَنِي مِنْهُ كَلَام صائبٌ ... ورسالاتُ المحبِيِّن الكَلِم صائدٌ تأمنه غزلانه ... مثل مَا تأمن غزلانُ الحَرَمْ صَلِّ إِن أحببتَ أَن تُعْطى المنى ... يَا أَبَا الشعْثَاء لله وصمْ ثمَّ ميعادك بعد الْمَوْت فِي ... جَنَّة الْخُلْد إِن اللَّهُ رحمْ حَيْثُ نلقاك غُلَاما ناشئاً ... كلَاما قَدْ كَمُلت فِيك النِّعَم ابْن الزُّبَيْر يغضبُ من ابْني الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامر بْن عِمْرَانَ أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، قَالَ: دَخَلَ عَبْد اللَّه بْن صَفْوَان عَلَى عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر، فَقَالَ: أَنْت وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر: إِن تُصبك من الْأَيَّام جائحةٌ ... لَمْ نَبْكِ مِنْك عَلَى دُنْيَا وَلَا دينِ قَالَ: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: هَذَان ابْنا الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، أَحدهمَا يُفتي النّاس فِي دينهم

زواج شرحبيل بن الحارث الغساني

وَالْآخر يطعم فَمَا بَقَّيَا لَك، فَأرْسل إِلَيْهِمَا: إنَّكُمَا تريدان أَن ترفعا رايةً قَدْ وَضعهَا اللَّه، ففرقا مَنْ قِبَلكما من مُرَّاقِ الْعرَاق، فَقَالَ عَبْد اللَّه: أَي الرجلَيْن نطردُ عَنَّا؟ أقابس عَلَمُ أم طَالِب نَيْلُ، وَبلغ الْخَبَر أَبَا الطُّفَيْل، فَقَالَ: لَا درَّ دَرُّ اللَّيَالِي كَيْفَ يُضحِكُنا ... مِنْهَا عجائبُ أنباءٍ وتُبكينا مثل مَا تَحِدثُ الْأَيَّام من عجبٍ ... وَابْن الزُّبَيْر عَنِ الدُّنْيَا يُلَهِّينا كُنَّا نَجيء ابْن عباسٍ فيُقْبِسنا ... علما ويُكسْبنا أجرا ويَهدينا وَلَا يزالُ عُبَيْد اللَّه مُتَرْعةً ... جِفَانُه مُطْعِمًا ضَيفًا وَمِسْكينًا فالدِّينُ وَالْعلم وَالدُّنْيَا ببابهما ... ننالُ مِنْهَا الَّذِي شِئْنَا إِذَا شينا فَفِيمَ تَمْنَعنا مِنْهُم وتَمْنَعُهم ... منا وتؤذيهم فِينَا وتُؤْذينا إِن الرَّسُول هُوَ النُّور الَّذِي كشفت ... بِهِ عَمَايَةُ ماضينا وبَاقِينا وأهلُه عصمةٌ فِي ديننَا وَلَهُم ... حقٌّ عَلَيْنَا وحقٌّ وَاجِب فِينَا ولستَ فاعلمْ بالأوْلَى بِهِ نَسَبَا ... يَا بن الزُّبَيْر وَلَا الأوْلَى بِهِ دِينا لن يَجْزِيَ اللَّه من أجْزى لبُغضهم ... فِي الدِّين عِزًّا وَلَا فِي الأَرْض تَمْكِينا زواج شُرَحْبِيل بْن الْحَارِث الغساني من مية بنت عَمْرو ثمَّ تطليقه لَهَا بِأَمْر أَبِيهِ حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبّاد، عَنِ ابْن الْكَلْبِيّ، قَالَ: قدم شُرَحْبِيل بْن الْحَارِث الغسّاني - وَكَانَ من أهل بَيت الْملك - موسمًا من مواسم الْعَرَب، وَحَضَرت ذَلِكَ الْعَام بَكْر بْن وَائِل، فَخَطب شرحبيلُ مَيَّة بْنت عَمْرو بْن مَسْعُود بْن عَامر بْن عَمْرو ابْن أبي ربيعَة بْن ذُهل بن شَيبَان وَهُوَ أَصمّ بني ربيعَة، فَقَالَ لَهُ أَبوهَا: هِيَ لَك وقومها بِيَدِك، فوَاللَّه مَا فِي غَسَّان ملك أحبّ إليَّ صهرًا مِنْك، فأنكحه إِيَّاهَا، فاحتملها شُرَحْبِيل إِلَى أَبِيه الْحَارِث بْن مرّة، فَكَانَت مَعَهم وانقطعت إِلَيْهِم بَكْر بْن وَائِل وَذَلِكَ فِي أيّام الطوائف قبل ملك بني نصر بِالْحيرَةِ، فَبينا هُوَ نَائِم ذَات لَيْلَة هِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ، إِذْ أقبل أسودُ سالخ يهوى إِلَى الْفَتى فاتحًا فَاه والسِّراج تُزهر، حَتَّى إِذَا أَهْوى إِلَيْهِ أخذت بحلقه فخنقته حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ جعلتْه بَيْنَ أثْنَاء الْفراش، وَكَانَ أَبُوهُ إِذَا أصبح غَدا عَلَيْهِ هُوَ وَأمه تَعْظِيمًا لَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِ النّاس فيسلمون عَلَيْهِ فَلَمّا اجْتمع النّاس أهوت إِلَى الْأسود فأخرجتْه مَيتا، فذعر الشَّيْخ فَقَالَ: من قتل هَذَا؟ فَقَالَت: أَنَا قتلتُه وَلَو كَانَ أشدّ مِنْهُ لقتلته، فَقَالَ: يَا شُرَحْبِيل خلِّ عَنْهَا، فَهِيَ - وأبيها - للرِّجَال أقتل، فكره شُرَحْبِيل أَن يَعْصِي أَبَاهُ فَسَار بهَا وبمالها حَتَّى إِذَا دنا من أَرض بَكْر بْن وَائِل بعث مَعهَا من يُلحقها

من مخارج أبي يوسف الفقيهة

بقومها، فَقَالَت: لَو مضيت بَين إِلَى أَبِي كَانَ أحبّ إليَّ، فَقَالَ: واسوءَتاه! أنظر إِلَى أَبِيك وَقد طلقتُك فِي غَيْر ذَنْب، فَقدمت إِلَى أَبِيهَا، فَدَعَا قبيصَة ابْن هَانِئ بْن مَسْعُود فَأَنْكحهَا إِيَّاه، فَقَالَ شُرَحْبِيل: أوزجتني غَرّاءَ من خَيْر نسوةٍ ... نَماها إِلَى العلياء عَمْروٌ وعامرُ فَلَمّا مَلَأت صَدْرِي سُرورا وبهجة ... عزمتَ بحقٍّ لَيْسَ لي فِيهِ عاذرُ فطلقتها من غَيْر ذَنْب أَتَتْ بِهِ ... إليَّ سوى أنِّي بميَّة غادرُ سَرَى فِي سَواد اللَّيْل أسودُ سالخٌ ... إليَّ وَقد نَامَتْ عيونٌ سَوامِرُ فأهوت لَهُ دون الْفراش بكفها ... فَأصْبح مقتولاً فَهَل أَن شاكرُ فَقَالَ أَبوهُ: لَعَمْري لَئِن طَلقتهَا إِن مثلهَا ... إِذَا طلب الْقَوْم من النِّسَاء قَلِيل ولكنني حاذرتُها أَن تُعِيدَها ... فتصبحَ محجوبًا وَأَنت قَتِيل وَأصْبح فِي غَسَّان أبْكِي بعبرةٍ ... عَلَيْكَ ورُزئي عِنْدَ ذَاك جليل من مخارج أَبِي يُوسُف الفقيهة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أبي الْأَزْهَر، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق المَوْصِليّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدثنِي بِشْر بْن الْوَلِيد وَسَأَلته من أَيْن جَاءَ؟ قَالَ: كنت عِنْدَ أبي يُوسُف يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيم القَاضِي، وَكُنَّا فِي حَدِيث طريف، قَالَ: فَقلت لَهُ: حَدَّثَنِي بِهِ قَالَ: قَالَ لي يَعْقُوب: بَينا أَنَا البارحة قَدْ أويتُ إِلَى فِرَاشِي، فَإِذا داقٌّ يدق الْبَاب دقًّا شَدِيدا، فأخذتَ عليّ إزَارِي وخرجتُ، فَإِذا هرثمةُ بْن أعْينُ فسلّمتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: أجِبْ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قلت: يَا أَبَا حَاتِم! لي حُرمة وَهَذَا وقتٌ كَمَا ترى، ولمت آمن أَن يكون أَمِير الْمُؤمنِينَ دَعَاني لأمر من الْأُمُور، فَإنَّك أمكنك أَن تدفع بذلك إِلَى غدٍ فلعلّه أَن يَحْدُثَ لَهُ رَأْي، فَقَالَ: مَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيل، قلت: فَمَا كَيْفَ كَانَ السَّبَب؟ قَالَ: خَرَجَ إليَّ مسرور الْخَادِم فَأمرنِي أَن آتِي أَمِير الْمُؤمنِينَ بك، قلت: تَأذن لي أَن أصبَّ عليَّ مَاء وأتحنَط، فَإِن كَانَ أمرٌ من الْأُمُور كنت قَدْ أَجدت وأحكمت أَمْرِي، وَإِن رَزَقَ اللَّه تَعَالَى الْعَافِيَة فَلَنْ يضرّ، فَأذن لي فَدخلت فَلبِست ثيابًا جدداً وتطيبتُ بِمَا أمكن من الطِّيب، ثُمَّ خرجنَا حَتَّى أَتَيْنَا دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ الرشيد، فَإِذا مسرور وَاقِف فَقَالَ لَهُ هَرْثمة: قَدْ جئتُ بِهِ، فَقلت لمسرور: يَا أَبَا هَاشم! خدمتي وحُرمتي وميلي، وَهَذَا وقتٌ ضيق، لِمَ طلبني أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لَا، قلت: فَمن عِنْدَهُ؟ قَالَ: عِيسَى بْن جَعْفَر، قلت: وَمن؟ قَالَ: مَا عِنْدَهُ ثَالِث، قَالَ: مُرّ، فَإِذا صرت فِي الصحن فأتْه فِي الرواق وَهُوَ ذَاك جالسٌ، فحرِّك رجلَك بِالْأَرْضِ فَإِنَّهُ سيسألُك، فَقل لَهُ: أَنَا، فجئتُ فَفعلت، قَالَ: من هَذَا؟ قلت: يَعْقُوب، قَالَ: ادخل، فدخلتُ فَإِذا هُوَ جالسٌ وَعَن

إسقاط اسبتبراء الأمة وتولية عقد نكاحها

يَمِينه عِيسَى بْن جَعْفَر، فَسلمت فَرد عليّ السّلام، وَقَالَ: أظننا رَوَّعناك؟ قلت: إِي وَالله وكذاك من خَلْفي، قَالَ: اجْلِسْ فجلستُ حَتَّى سكن رُوعي، ثُمَّ الْتفت إليَّ فَقَالَ: يَا يَعْقُوب تَدْرِي لَمْ دَعوتُك؟ قلت: لَا. قَالَ: دعوتُك لأشهدك عَلَى هَذَا، إِن عِنْدَهُ جَارِيَة سَأَلْتُهُ أَن يَهَبَها لي فَامْتنعَ، وسألتُه أَن يَبِيعهَا فَأبى، وَوَاللَّه لَئِن لَمْ يفعل لأقتلنّه، قَالَ: فالتفتُّ إِلَى عِيسَى، فَقلت: وَمَا بلغ اللَّه بِجَارِيَة تمنعُها أَمِير الْمُؤمنِينَ وتُنزل نَفسك هَذِهِ الْمنزلَة؟ قَالَ: فَقَالَ: عَجِلتَ عليّ فِي القَوْل قَبْلَ أَن تعرف مَا عِنْدِي؟ قلت: وَمَا فِي هَذَا الْجَواب؟ قَالَ: إِن عليّ يَمِينا بِالطَّلَاق والْعِتاق وصَدَقَة مَا أملك أَلا أبيع هَذِهِ الْجَارِيَة وَلَا أهبها، فَالْتَفت الرشيدُ فَقَالَ: هَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ مَخْرَج؟ قلت: نَعَمْ، يَهَبُ لَك نِصْفها ويَبِيعُك نِصْفَها، فَيكون لَمْ يهب وَلم يَبع، قَالَ عِيسَى: ويجوزُ ذَلِكَ؟ قلت: نَعَمْ، قَالَ: فأُشْهِدك أَنِّي قَدْ وهبت لَهُ نِصْفَها وبعتُه النّصْف الْبَاقِي بِمِائَة ألف دِينَار، فَقَالَ: الْجَارِيَة، فأتيَ بالجارية وبالمال، فَقَالَ: خُذْها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بَارك اللَّه لَك فِيهَا، قَالَ: يَا يَعْقُوب؟ بقيتْ وَاحِدَة، قلت: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ مَمْلُوكَة وَلَا بدّ أَن تُستبرأ، وَوَاللَّه لَئِن لَمْ أبِت مَعهَا لَيْلَتي إِنِّي لأظُنُّ نَفْسي ستخرج، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تعتقها وتتزوجها فَإِن الْحرَّة لَا تُستبرأ، قَالَ: فإنيّ قَدْ عتقْتُها فَمن يُزَوِّجنيها؟ قلت: أَنَا، قَالَ: فافعل، فَدَعَا بمسرور الْخَادِم وحسين فخطبتُ فحمدت اللَّه وزوجَّته عَلَى عشْرين ألف دِينَار، ودعا بِالْمَالِ وَدفعه إِلَيْهَا، ثُمّ قَالَ: يَا يَعْقُوب؟ انْصَرف، وَرفع رَأسه إِلَى مسرور فَقَالَ: يَا مسرور؟ قَالَ لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: احْمِلْ إِلَى يَعْقُوب مِائَتي ألف دِرْهَم وَعشْرين تختًا ثيابًا، فحُمِل ذَلِكَ معي. قَالَ: فَقَالَ بِشْر بْن الْوَلِيد: فالتفتَ إليَّ يَعْقُوب فَقَالَ: هَلْ رَأَيْت بَأْسا فِيمَا فعلتُ؟ قلت: لَا، قَالَ: فَخذ مِنْهَا حَقك، قَالَ: وَمَا حَقِّي؟ قَال: الْعُشْر. فشكرتُه ودعوت لَهُ، ذهبت لأَقوم فَإِذا بِعَجُوزٍ قَدْ دخلتْ فَقَالَت: يَا أَبَا يُوسُف؟ ابْنَتك تُقرِئُك السّلام وَتقول لَك وَالله مَا وصل إليَّ فِي لَيْلَتي هَذِهِ من أَمِير الْمُؤمنِينَ سوى الْمهْر الَّذِي قَدْ عرفتَه، وَقد حملتُ إِلَيْكَ النّصْف مِنْهُ وخلّفت الْبَاقِي لمّا أحتاج إِلَيْهِ فَقَالَ: رديه فوَاللَّه لَا قبلتها، أخرجتُها من الرِّق وزوجتها أَمِير الْمُؤمنِينَ وترضى لي بِهَذَا، فَلم نَزَلْ نَطلب إِلَيْهِ أَنَا وعَمّتي حَتَّى قِبِلَها وَأمر لي بِأَلف دِينَار. إِسْقَاط اسبتبراء الْأمة وتولية عقد نِكَاحهَا قَالَ القَاضِي: إِسْقَاط أبي يُوسُف الِاسْتِبْرَاء فِي هَذَه الْمَسْأَلَة هُوَ مذْهبه وَمذهب من تقدمه وَمن اتبّعه من أَصْحَابه، فَأَما مذهبُ الْجُمْهُور من الْحِجَازِيِّينَ وَغَيرهم فعلى أَن الِاسْتِبْرَاء هَا هُنَا باقٍ بِحَالهِ، وأمّا تَوَلِّيه عَقْدَ نِكَاح هَذِهِ الْمُعتقَة فَإِن مَذْهَب أبي يُوسُف ومتقدمي أَصْحَابه من أَهْلَ الْعرَاق ومتأخريهم أَن مَوْلَى الْأمة الْمُعْتِق لَهَا أولى بِعقد النِّكَاح لَهُ وَلغيره عَلَيْهَا، وَمذهب عَامَّة أَهْلَ الْعلم من الْحِجَازِيِّينَ وَغَيرهم من الشاميين والعراقيين - وَكَانَ الشّافعيّ يرى أَنَّهُ يعْقد عَلَيْهَا النِّكَاح لغيره وَلَا يعقده لنَفسِهِ - وَأَنه إِذَا أَرَادَ أَن

عمة محمد بن أحمد بن عيسى تستشفع له لدى المعتضد

يَتزوجها تولّى العقدَ لَهُ عَلَيْهَا الْحَاكِم، وَرَأَيْت أَبَا جَعْفَر شَيخنَا رَحمَه اللَّه قَدْ أفتى بِهَذَا فِي مسَائِله، وَالْقَوْل الأوّل أولى بِالْحَقِّ عِنْدِي وأشبه بقوله، وَبَيَان هَذَا الْبَاب وَشَرحه مستقصًى فِيمَا رسمناه من كتبنَا فِي الْفِقْه، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق. عمَّة مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عِيسَى تستشفع لَهُ لَدَى المعتضد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كَانَ مَعَ المعتضد أعرابيٌّ فصيح يُقَالُ لَهُ شعلة بْن شهَاب الْيَشْكُرِي، وَكَانَ يأنس بِهِ فَأرْسلهُ إِلَى مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن شيخ وَكَانَ عَارِفًا بِهِ ليرغّبه فِي الطَّاعَة ويُحَذره الْعِصْيَان ويرفق بِهِ، فَقَالَ شعلة بْن شهَاب فصرت إِلَيْهِ فخاطبته أقرب خطاب فَلم يجبني، فوجهت إِلَى عمته أم الشريف فصرت إِلَيْهَا فَقَالَت: يَا أَبَا شهَاب! كَيْفَ خلفت أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقلت: خلفتهُ وَالله أمارًا بِالْمَعْرُوفِ فَعّالا للخير، متعزّزًا عَلَى الْبَاطِل متذلِّلا للحقّ، لَا تَأْخُذهُ فِي اللَّه لومة لائم، فَقَالَت لي: أهل ذَلِك هُوَ مُسْتَحقّه ومستوجبهُ، وَكَيف لَا يكون كَذَلِك وَهُوَ ظلُّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْمَمْدُود على بِلَاده، وخليفته عَلَى عباده، وأعزّ بِهِ دينه، وَأَحْيَا بِهِ سنُته، وَثبتت بِهِ شرائعه، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا شهَاب فَكيف رَأَيْت صاحبنا؟ قلت: رَأَيْت حَدَثًا معجبًا قَد استحوذ عَلَيْهِ السُّفَهَاء واستبدّ بآرائهم وأنصت لأفواههم، يزخْرفون لَهُ الْكَذِب ويُوردونه النَّدَم، فَقَالَت: هَلْ لَك أَن ترجع إِلَيْهِ بكتابي قَبْلَ لِقَاء أَمِير الْمُؤمنِينَ، فلعلك تَحُلُّ عقدةَ السُّفَهَاء؟ قَالَ: قلت: أَجلْ، فَكتبت إِلَيْهِ كتابا حسنا لطيفاً معجبًا أجزلتْ فِيهِ الموعظة وأخلصت فِيهِ النَّصِيحَة بِهذه الأبيات: اقبل نصيحةَ أُمٍّ قلبُها وَجِلٌ ... عَلَيْكَ خوفًا وإشفاقاً وَقل سدداً وَاسْتعْمل الْفِكر فِي قولي فَإنَّك إنْ ... فكّرتَ ألفيتَ فِي قولي لَك الرَّشَدا وَلَا تثق بِرِجَال فِي قلوبهمُ ... ضغائن تبعثُ الشنآن والحَسَدا مثل النعاج خمولا فِي بُيُوتهم ... حَتَّى إِذَا أمنُوا ألفيتَهم أسْدا وداوِ داءك والأدواء مُمكنَة ... وَإِذ طبيبك قَدْ ألْقى إِلَيْكَ يَدَا أعْط الْخَلِيفَة مَا يَرْضِيه مِنْك وَلَا ... تمْنعه مَالا وَلَا أَهلا وَلَا ولدا وارددْ أَخا يشْكر ردًّا يكونُ لَهُ ... رِدْءا من السوءِ لَا تُشْمِتْ بِهِ أحدَا قَالَ: فَأخذت الكتابَ وصرت بِهِ إِلَى مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عِيسَى، فَلَمّا نظر فِيهِ رمى بِهِ إليَّ ثُمَّ قَالَ: يَا أَخا يشْكر مَا بآراء النِّسَاء تتمُّ الْأُمُور، وَلَا بعقولهنّ يُسَاسُ الْملك، ارْجع إِلَى صَاحبك. فَرَجَعت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَخْبَرته الْخَبَر عَلَى حقِّه وَصدقه، فَقَالَ: وَأَيْنَ كتابُ أم الشريف؟ فدفعتُه إِلَيْهِ فقرأه وَأَعْجَبهُ شعرهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالله إِنِّي لأرج أَن أشفّعها فِي كثير من الْقَوْم، فَلَمّا كَانَ من فتح آمد مَا كَانَ، أرسل المعتضد فَقَالَ: يَا شُعلة! هَلْ عِنْدَك عَلَمُ من أم الشريف؟ قَالَ: قلت لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَامْضِ مَعَ هَذَا الْخَادِم فَإنَّك

حكم ما بعد لولا من الضمير المتصل

ستجدها فِي جملَة نسائها، قَالَ: فمضيت فَلَمّا بصرت بِي من بعيد سَفَرتْ عَنْ وَجههَا، وأنشأت تَقول: رَيْبُ الزَّمَان وصَرْفُهُ ... مُعْتَادةٌ كشف القناعا أذلّ بعد الْعِزّ منا ال ... صَعب والبَطَل الشُّجَاعا وَلكم نصحتُ فَمَا أطع ... ت وَكم حَرَصْتُ بِأَن أطاعا فَأبى بِنَا الْمِقْدَار إِلَّا ... أَن نقتسم أَوْ نُباعا يَا لَيْت شعري هَلْ ترى ... يَوْمَا لفُرْقتنا اجتماعا قَالَ: ثُمَّ بَكت حَتَّى علا صَوتهَا وضرت بِيَدِهَا عَلَى الْأُخْرَى، وَقَالَت: يَا أَبَا شهَاب إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، كَأَنِّي وَالله كنت أرى مَا أرى، فَقلت لَهَا: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ وَجه بِي إِلَيْكَ وَمَا ذَاك إِلَّا لجيل رَأْيه فِيك، فَقَالَ: هَلْ لَك أَن توصل لي رقْعَة إِلَيْهِ، قلت: فدفعَتْ إليَّ رقْعَة فِيهَا: قل للخليفة وَالْإِمَام الْمُرْتَضَى ... ابْن الخلائف من قُرَيْش الأبطحِ عَلَم الْهُدى وسِرَاجه ومَنَاره ... مِفتاحُ كُلِّ عظيمةٍ لَمْ تفتحِ بك أصلح اللَّه الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... بَعْدَ الْفساد وَطَالَ مَا لَمْ تصلح فتزحزحت بك هَضْبَةُ العَرَب الَّتِي ... لولاك بَعْدَ اللَّه لَمْ تَتَزَحْزَحِ أَعْطَاك رَبك مَا تحبُّ فأعطه ... مَا قَدْ يُحِبُّ وجدُ بعفوك وَاصْفَحْ يَا بهجة الدُّنْيَا وَبدر مُلُوكها ... هَب ظَالِميَّ ومُفْسِدِيّ لُمْصِلحي قَالَ: فَأخذت الرقعة وصرت بهَا إِلَى المعتضد، فَلَمّا قَرَأَهَا ضحك، وَقَالَ: لَقَدْ نصحت لَوْ قُبل مِنْهَا فَأمر أَن تحمل إِلَيْهَا خَمْسُونَ ألف دِرْهَم وَخَمْسُونَ تَخْتًا من الثِّيَاب، وَأمر بِأَن يحمل مثل ذَلِكَ إِلَى مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عِيسَى. حكم مَا بَعْدَ لَوْلَا من الضَّمِير الْمُتَّصِل قَالَ القَاضِي: قَول أم الشريف لَهُ فِي هَذَا الشّعْر: لولاك بَعْدَ اللَّهِ لَمْ تَتَزَحْزَحِ جَائِز عِنْدَ جَمِيع مُتَقَدِّمي النُّحاة ومتأخريهم، كُوفِيِّهم وبصريهم غلا أَبَا الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُجِيزهُ ويطعن فِيمَا ورد فِي الشِّعر مِنْهُ، وينسُب قَائِله إِلَى الشذوذ ومفارقة السماع وَالْقِيَاس، وَمِمَّا جَاءَ فِي الشّعْر من هَذَا قَول ابْن أم الحكم: وَأَنت امرؤٌ لولايَ طِحْتَ كَمَا هَوَى ... بأجرامه مِن قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي وَقَالَ آخر:

عظة واعتبار

تَقول لي من داخلِ الهَوْدجِ ... لولاك هَذَا الْعَام لَمْ أَحججِ وَقَول الآخر: أتُطمع فِينَا من أراقَ دِمَاءَنا ... ولولاك لَمْ يَطْمعْ بأحسَابِنَا حَسَن وَقد اخْتلف النحويون فِي مَوضِع مَا يَلِي لَوْلَا من الْمُضمر الْمُتَّصِل من الْإِعْرَاب، وَكَانَ سِيبَوَيْهٍ والكسائيُّ يَقُولَانِ: هُوَ مجرور وَإِن كَانَ الظَّاهِر إِذَا حلَّ محلهُ رفع، وَكَانَ الْفراء والأخفش يحكمان عَلَى مَوْضِعه بِالرَّفْع، وَإِن كَانَ آتِيَا عَلَى الصُّورَة الَّتِي صِيغت فِي الأَصْل إِلَى ضمير الْمَجْرُور لغَلَبَة الِاشْتِرَاك فِي صِيغَة الْمُضمر بَينه وَبَين الْمُنْفَصِل وَهُوَ كثير فِي هَذَا الْبَاب، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: فأحْسِنْ وأجْمِلْ فِي أسيرك إِنَّهُ ... ضَعِيفٌ وَلم يَأْسِرْ كإيّاك آسرُ وَقَالُوا: أَنْت كأنا وَأَنا كَأَنْت، ولاستقصاء هَذَا الْبَاب والاحتجاج فِيهِ مَوضِع هُوَ أولى بِهِ من هَذَا الْموضع، والأفصح والأوضح فِي الْعَرَبيَّة سَمَاعا وَقِيَاسًا: لَوْلَا أَنا وَلَوْلَا أَنْت، وَالْقَضَاء على مَوضِع هَذَا الْمُضمر الْمُنْفَصِل فَإِنَّهُ فِي مَوضِع رفع كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِر كَذَلِك، كَقَوْلِك: لَوْلَا زيدٌ وَلَوْلَا عَبْد اللَّه، غَيْر أَن الْوَجْه الآخر جَائِز، كَمَا قَالَ جُمْهُور النَّحْوِيين لروايتهم إِيَّاه عَنِ الْعَرَب وَمَا اسْتشْهدُوا بِهِ من أشعارها، وَلَيْسَ بمطرحٍ لَاحق باللحن المرغوب عَنْهُ كَمَا زعم أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد. عظة وَاعْتِبَار حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُوسَى الْبَرْمَكِي الْمَعْرُوف بجحظة، قَالَ: قَالَ لي صافي الحرمي: لمّا مَاتَ المعتضد بِاللَّه كَفّنتُه وَالله فِي ثَوْبين قوهي قيمتُهما سِتَّة عَشْر قيراطًا. خبر مَقْدم وَكِيع وَابْن إِدْرِيس وَحَفْص عَلَى الرشيد حَدَّثَنَا ابْن مخلد، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن المؤمل، أَبُو جَعْفَر الضَّرِير الْكَلْبِيّ، حَدَّثَنِي شيح عليّ بَاب بَعْض الْمُحدثين، قَالَ: سَأَلت وكيعا عَنْ مَقْدَمِه وَهُوَ وَابْن إِدْرِيس وَحَفْص عَلَى هَارُون الرشيد، فَقَالَ لي: مَا سَأَلَني عَنْ هَذَا أحدٌ قبلك، قدمنَا عَلَى هَارُون أَنَا وَعبد اللَّه بْن إِدْرِيس وَحَفْص بْن غياث، فأقعدنا بَيْنَ السّريرين فَكَانَ أول من دَعَا بِهِ أَنَا، فَقَالَ لي هَارُون: يَا وَكِيع! فَقلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: إِن أَهْلَ بلدك طلبُوا مني قَاضِيا وسَمّوْك لي فِيمَن سَمّوْا، وَقد رَأَيْت أَن أشركك فِي أمانتي وَصَالح مَا أَدخل فِيهِ من أَمر هَذِهِ الْأمة، فَخذ عَهْدَكَ وامض. فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! وَإِحْدَى عَيْني ذَاهِبَة وَالْأُخْرَى ضَعِيفَة؟ فَقَالَ هَارُون: اللَّهُمّ غُفْرًا، خُذْ عَهْدك أَيهَا الرَّجُل وامض، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالله لَئِن كنت صَادِقا إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن تقبل مني وَإِن كنت كَاذِبًا فَلا يَنْبَغِي أَن تُوَلِّيَ الْقَضَاء كذابا، فَقَالَ: اخْرُج، فَخرجت، فَدخل ابْن إِدْرِيس فَكَانَ هَارُون قَدْ وُسم لَهُ من ابْن إِدْرِيس وَاسم، يَعْنِي خُشُونة جَانِبه، فَدخل فسمعنا صَوت رُكبتيه عَلَى الأَرْض حِين بَرَك، وَمَا سمعناه يُسلِّم إِلَّا سَلاما

المأمون يترك جاريته الحبيبة إلى بلاد الروم

خفِيا، فَقَالَ لَهُ هَارُون: أَتَدْرِي لَمْ دعوتُك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: إِن أَهْلَ بلدك طلبُوا مني قَاضِيا وَأَنَّهُمْ سَمّوْك لي فِيمَن سَمّوْا، وَقد رَأَيْت أَن أشركك فِي أمانتي وأدخلك فِي صَالح مَا أَدخل فِيهِ من أَمر هَذِهِ الْأمة، فَخذ عَهْدَكَ وامض، فَقَالَ لَهُ ابْن إِدْرِيس: لستُ أصلح للْقَضَاء، فنكث هَارُون بإصبعه وَقَالَ لَهُ: وددت أَنِّي لَمْ أكن مَثَلْتُك، قَالَ لَهُ ابْن إِدْرِيس: وَأَنا وددتُ أَنِّي لَمْ أكن رأيتُك، فَخرج ثُمَّ دَخَلَ حَفْص بْن غياث، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَنَا، فَقبل عَهده وَخرج، فَأَتَانَا خَادِم مَعَه ثَلَاثَة أكياس فِي كلّ كيس خَمْسَة آلَاف دِينَار، فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقرئكم السّلام وَيَقُول لَكُمْ: قَدْ لزمتكم مؤونة فِي شخوصكم فاستعينوا بِهَذِهِ فِي سفرتكم، قَالَ وَكِيع: أَقْرئ أَمِير الْمُؤمنِينَ السّلام وقُل: قَد وَقَعَتْ مني بِحَيْثُ يحبُّ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنا عَنْهَا مُسْتَغْنٍ، وَفِي رعية أَمِير الْمُؤمنِينَ من هُوَ أحْوج إِلَيْهَا مني، فَإِن رَأَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يصرفهَا إِلَى من أحبّ، وأمّا ابْن إِدْرِيس فصاح بِهِ: مُرَّ من هَا هُنَا وَقبلهَا حَفْص، وَخرجت الرّقعة إِلَى ابْن إِدْرِيس من بَيْننَا، عَافَانَا الله وَإِيَّاك سألناك أَن تدخل فِي أَعمالنَا فَلم تفعل، ووصلناك من أَمْوَالنَا فَلم تقبل، فَإِذا جَاءَك ابْني الْمَأْمُون فحَدثّه إِن شَاءَ اللَّه، فَقَالَ للرسول: إِذَا جَاءَ مَعَ الْجَمَاعَة حَدَّثْنَا إِن شَاءَ اللَّه، ثُمَّ مَضَيْنا، فَلَمّا صرنا إِلَى الياسرية حضرت الصَّلاة فنزلنا نَتَوَضَّأ للصَّلَاة، قَالَ وَكِيع: فنظرتُ إِلَى شُرَطيِّ مَحْمُوم نَائِم فِي الشَّمْس عَلَيْهِ سوَاده فطرحت كسائي عَلَيْهِ، وَقلت: تدفأ إِلَى أَن نَتَوَضَّأ، فجَاء ابْن إِدْرِيس فاستلبه ثُمّ قَالَ: رَحمته لَا رَحِمك اللَّه، فِي الدُّنْيَا أحد رحم مثل ذَا؟ ثُمَّ الْتفت إِلَى حَفْص وَقَالَ: قَدْ علمتُ حِين دخلت إِلَى سُوق أَسد فخضبتَ لِحْيتك وَدخلت الحَمّام أنَّكَ سَتَلي الْقَضَاء، وَلَا وَالله لَا كلَمتُك حَتَّى تَمُوت، فَمَا كلَمه حَتَّى مَاتَ. الْمَأْمُون يتركُ جَارِيَته الحبيبة إِلَى بِلَاد الرّوم حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن مَالك النَّحْويّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن أبي حَمَّاد الموكبي، عَنْ أَبِيه، قَالَ: لمّا وصفت لِلْمَأْمُونِ جَارِيَة بِكُل مَا تُوصَف بِهِ امْرَأَة من الْكَمَال وَالْجمال، فَبعث فِي شِرَائهَا فَأتى بهَا وَقت خُرُوجه إِلَى بِلَاد الرّوم، فَلَمّا هَمّ بِلبْس درعه خطرت بِبَالِهِ فَأمر فأخرجت إِلَيْهِ، فَلَمّا نظر إِلَيْهَا أعجب بهَا وأعجبت بِهِ، فَقَالَت: مَا هَذَا: قَالَ: أُرِيد الْخُرُوج إِلَى بِلَاد الرّوم. قَالَتْ: قَتَلتنِي وَالله يَا سَيِّدي، وجَرَتْ دموعها عَلَى خدها كنظَم اللُّؤْلُؤ، وأنشأت تَقول: سأدْعُو دَعْوَة الْمُضْطَر رَبًّا ... يُثيبُ عَلَى الدُّعَاء ويستجيب لَعَلَّ الله أَن يَكْفِيك حَربًا ... ويجمعنا كَمَا تهوى الْقُلُوب فضم الْمَأْمُون إِلَى صَدره وَأَنْشَأَ متمثلاُ يَقُول: فيا حسنها إِ يَغْسِل الدمع كُحْلَها ... وَإِذ هِيَ تَذْري الدمْعَ مِنْهَا الأنامل صَبِيحَة قَالَتْ فِي العتاب قَتَلْتني ... وقَتْلِي بِمَا قَالَتْ هُناك تحاولُ ثُمَّ قَالَ لِخَادِمِهِ: يَا مسرور احتفظ بهَا وَأكْرم محلهَا وَأصْلح لَهَا كلّ مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من

المجلس السادس عشر

المقاصير والخدم والجواري إِلَى وَقت رجوعي، فلولا مَا قَالَ الأخطل حِين يَقُولُ: قومٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مآزرهم ... دُون النِّسَاء وَلَو بَاتَتْ بأطهارِ ثُمَّ خَرَجَ فَلم يزل يتعهدها ويُصْلح مَا أُمِرَ بِهِ، فاعتلّت الْجَارِيَة عِلَّة شَدِيدَة أشْفق عَلَيْهَا مِنْهَا وَورد نعي الْمَأْمُون، فَلَمّا بلغَهَا ذَلِكَ تنفّستِ الصُّعداء وتُوفيت، وَكَانَ ممّا قَالَتْ وَهِي تُجودُ بِنَفسِهَا: إِن الزَّمَان سقانا من مرارته ... بَعْدَ الْحَلَاوَة أنفاسًا فأروانا أبدى لَنَا تَارَة فأضحكنا ... ثُمَّ انثنى تَارَة أُخْرَى فأبكانا إِنَّا إِلَى اللَّه فِيمَا لَا يزَال لَنَا ... من الْقَضَاء وَمن تلوين دُنيانا دُنيا نَراها تُرينا من تَصَرُّفها ... مَا لَا يدومُ مصافاةً وأحْزَانا ونحنُ فِيهَا كأنّا لَا نُزَايلها ... للعيش أحياؤُنا يَبْكُونَ مَوْتانا الْمجْلس السَّادِس عَشْر حَدِيث مَا ذئبان جائعان فِي حَظِيرَة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي خَيْثَمَة، قَالَ: حَدَّثَنَا قَحْطَبَةَ بْنُ الْعَلاءِ، قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ فِي حَظِيرَةٍ وَثِيقَةٍ يَأْكُلانِ وَيَفْتَرِسَانِ، بِأَضَرَّ فِيهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ". تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: هَذَا خبر صَحِيح مَشْهُور، قَدْ روينَاهُ من غَيْر وَجه، وَفِي جملَة أَلْفَاظه اخْتِلَاف فِي اللَّفْظ دون الْمَعْنى، فِي بَعْضهَا: مَا ذئبان ضاريان، وَفِيه تنبيهٌ عَلَى أَن أَوْلى الْأُمُور بِالْمَرْءِ حِفْظُه دِينَه، وإشفاقُه من دخُول الْخلَل فِيهِ، فَإِن حب المَال والشرف وَالسَّعْي فِي اكتسابهما، والحرص عَلَى حيازتهما والانهماك فِي مسابقة أهلهما إِلَيْهِمَا، ومغالبته عَلَيْهِمَا، ممّا يُؤَدِّي إِلَى هدم الدِّين وتوهين أَرْكَانه، وطمس معالمه وَحط بُنْيَانه، مَعَ مَا فِيهِ من حمل الْمَرْء مِنْهُ على أَسبَاب الهلكة، وجده فِيمَا يورطه فِي حبائل الرذائل، وبُعده عَنْ شرِيف الْفَضَائِل، فقلّ من سلم مِمَّن وَصفنَا حَاله من الْبَغي والعدوان والحسد والطغيان، وَقد يحرم مَعَ هَذَا ممّا أمّل إِدْرَاكه، وطمع فِي بُلُوغه، فَحصل من الكد وَالْجد، والعناء والشقاء ولاستيلاء النحوس عَلَيْهِ وانحطاط الْجد، فنسأل الله تعلى توفير حَظِّنا من رَحمته وعصمته، وَأَن يتمم مَا ابتدأنا بِهِ من نعْمَته، فَلَقَد هلك من هلك من النّاس فِي ركوبهم مَا حذَّر مِنْهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوضح الْبَيَان عَنْهُ. وَقد ذَكَرَ عَنِ الْحجَّاج بْن أَرْطَاة وَكَانَ من المَشْهورين بالفقه وَالْقَضَاء وَالرِّوَايَة

أمر الحجاج بن علاط السلمي وحيلته في جمع ماله من مكة

وَالتَّصَرُّف فِي الآراء، أَنَّهُ قَالَ: أهلكني حب الشّرَف. وروى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يشْهد جُمُعة وَلَا جمَاعَة وَيَقُول: أكره مزاحمَة الأنذال. أَمر الحَجَّاج بْن علاط السُّلَميّ وحيلته فِي جمع مَاله من مكَّة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ الْكَاتِبُ النَّهْرَوَانِيُّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ حَدَّثَنَا هرون بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَيْدِيُّ وَيَعْقُوبُ، قَالا: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ صَفَرٍ، وَكَانَ افْتِتَاحُ خَيْبَرَ فِي عَقِبِ الْمُحَرَّمِ، قَالَ: وَلَمَّا أَسْلَمَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الْبَهْزِيُّ شَهِدَ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَأَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَزْيَدٍ النَّحْوِيُّ بِإِسْنَادٍ لَهُ، قَالَ: وَلَمَّا أَسْلَمَ حَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ السُّلَمِيُّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ تَعْلَمْ قُرَيْشٌ بِإِسْلامِهِ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فِي أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَيَأْخُذَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ، وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ الْحَجَّاجُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَالا بِمَكَّةَ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَلَى التُّجَّارِ، وَعِنْدَ صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ أُخْت بني عبد الدَّار، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلامِي أَنْ يَذْهَبَ، فَأْذَنْ لِي بِاللُّحُوقِ بِهِ لَعَلِّي أُخَلِّصُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ بِأَنْ يَصِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَيَأْخُذَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ مَالٍ بِهَا، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَهُوَ رَجُلٌ غَرِيب فهم، إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ بَنِي سُلَيْمٍ بن مَنْصُورٍ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي بَهْزٍ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَحْتَاجُ إِلَى أَنْ أَقُولَ، قَالَ: فَقُلْ. وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: لَا بُدَّ لي مِنْ أَنْ أَقُولَ: قَالَ: قُلْ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَهَذَا كَلامٌ حَسَنٌ يُقَالُ عَلَى جِهَةِ الاحْتِيَالِ غَيْرِ الْحَقِّ، فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِيلَةِ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْفَسَادِ وَالشَّرِّ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، يَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " أَمْ يَقُولُونَ تَقوله ". وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ، قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى ثَنِيَّةِ الْبَيْضَاءِ وَجَدْتُ بِهَا رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمَّعُونَ الأَخْبَارَ وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَكَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَنَّهَا أَرْضُ الْحِجَازِ وَبِهَا مَنْعَةٌ وَرِجَالٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمَّا أَبْصَرُونِي قَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ عِنْدَهُ الْخَبَرُ، أَخْبِرْنَا يَا حَجَّاجُ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ وَهِيَ بَلَدُ يَهُودَ وَرِيفُ الْحِجَازِ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ سَارَ إِلَيْهَا وَعِنْدِي مِنَ الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ، قَالَ: فَالْتَبَطُوا بجنبتي نَاقَتِي يَقُولُونَ: هِيَ يَا حَجَّاجُ، قَالَ: قُلْتُ: هُزم هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقُتِلَ أَصْحَابُه قَتْلا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأَخَذُوا مُحَمَّدًا أَسِيرًا، وَقَالُوا: لَنْ نَقْتُلَهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ

فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَهُمْ مِنْ رِجَالِهِمْ، فَقَامُوا فَصَاحُوا بِمَكَّةَ وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمُ الْخَبَرُ، هَذَا مُحَمَّدٌ إِنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَهَذَا الْكَلامُ كُلُّهُ مِنْ حَدِيثِ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ عَلَى غُرَمَائِي فَإِنِّي أُبَادِرُ خَيْبَرَ فَأُصِيبُ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إِلَى مَا هُنَاكَ، قَالَ: فَجَمَعُوا مَالِي كُلَّهُ كَأَحَثِّ جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ، وَجئْت صاحبتني، فَقُلْتُ: مَالِي قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمُطَّلِبِ ذَلِكَ، حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التُّجَّارِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَأَتَانِي الْعَبَّاسُ وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ الْوَالِهَةِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَكَاتِمٌ أَنْتَ عَلَيَّ خَبَرِي؟ وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ! مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَهَلْ عِنْدَكَ حِفْظٌ لِمَا يُوضَعُ عِنْدَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اسْتَأْخِرْ حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلاءٍ فَإِنِّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: وَقُلْتُ: فَالْبَثْ عَنِّي شَيْئًا يَخْفَ مَوْضِعِي، فَانْصَرَفَ عَنِّي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَجْمَعْتُ أَمْرِي عَلَى الْخُرُوجِ لَقِيتُهُ فَقُلْتُ: احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي فَإِنِّي أَخْشَى الطَّلَبَ، قَالَ: أفْعَلُ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ تَرَكْتُ ابْنَ أَخِيكَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: خَلَّفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَخَلَّفْتُهُ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ وَمَا جِئْتُكُمْ إِلا مُسْلِمًا. وَقَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: وَلَقَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَنَقَلَ مَا كَانَ فِيهَا وَسَاقَ وَصَارَتْ لَهُ وَلأَصْحَابِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِهِ: فَاكْتُمِ الْخَبَرَ ثَلَاث حَتَّى أُعْجِزَ الْقَوْمَ ثُمَّ أَشِعْهُ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ الْحَقُّ. قَالَ الْهَاشِمِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ ثَلاثًا، وَمَا جِئْتُ إِلا لأَخْذِ مَالِي فَرَقًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَضَتْ ثَالِثَةٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَكَ، وَالأَمْرُ وَاللَّهِ عَلَى مَا تُحِبُّ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ لَبِسَ الْعَبَّاسُ الْحُلَّةَ وَتَخَلَّقَ ثُمَّ أَخَذَ عَصَاهُ وَخَرَجَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَتْ: يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ، قَالَ: كَلا وَمَنْ حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدِ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فَنَزَلَ عَرُوسًا عَلَى ابْنَةِ مَلِكِهِمْ، قَالُوا: وَمَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْخَبَرِ؟ قَالَ: قُلْتُ: الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا وَأَخَذَ مَا لَهُ وَانْطَلَقَ فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْحَبُهُ وَيَكُونُ مَعَهُ، قَالُوا: أَفْلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْنٌ، قَالَ: وَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ. وَقَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ صَالِحٌ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ شَيْخٍ، قَالَ: لَمَّا أُخْبِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ خَيْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ أَعْتَقَ غُلامَهُ الَّذِي خَبَّرَهُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَلَمَّا سَمِعَ بذلك أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَدَعَا بِابْنٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ، وَكَانَ شَبِيهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيُنْشِدُ، وَلأَعْدَاءِ اللَّهِ يَقُولُ: ابْنِي قثمْ ... ذُو الأَنْفِ الأشمْ

الحجاج وفراشة التي كانت تجهز الخوارج

شَبِيهُ ذِي الْكَرَمْ ... بِرَغْمِ مَنْ رغمْ نَبِيِّ ذِي النِّعَمْ وَقَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ جَعْدَةَ، قَالَ: وَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ خَرَجَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ السُّلَمِيُّ إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ لِيَأْخُذَ مَالا لَهُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ، وَكَانَ مُكْثِرًا لَهُ مِنْ مَالِهِ مَعَادِنَ الذَّهَبِ بِأَرْضِ سُلَيْمٍ، وَذَكَرَ كَلامَ الْحَجَّاجِ بِطُولِهِ، وَبَلَغَ الْعَبَّاسَ فَأَرَادَ النُّهُوضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَأَمَرَ بِبَابِ الدَّارِ فَفُتِحَ ثُمَّ دَعَا غُلامَهُ أَبَا رَافِعٍ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُبَلِّغُ حَقًّا، فَأَبْلَغَهُ وَأَشَارَ إِلَيْهِ، قَالَ لأَبِي الْفَضْلِ عِنْدِي مَا تُسَرُّ بِهِ، فَرَجَعَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَكْتُمَ الْخَبَرَ فَرَحًا، فَقَامَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَقَالَ هَارُون فِي حَدِيثه: أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ سَبْعَةٌ ثَامِنُهُمْ مَوْلًى لَهُمْ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَثَامِنُهُمْ أَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَةِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذًا بِثَفْرِهَا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا عَمُّ؟ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَخُوكَ وَابْنُ عَمِّكَ أَبُو سُفْيَانَ بن الحراث. قَالَ: نَعَمْ أَخِي وَخَيْرُ أَهْلِي. وَقَالَ الْعَبَّاسُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ سَبْعَةٌ ... وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا وَثَامِنُنَا لاقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ ... لِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ وَقَوْلِي إِذَا مَا الْفَضْلُ شَدَّ بِسَيْفِهِ ... عَلَى الْقَوْمِ أُخْرَى يَا بُنَيَّ فَيَرْجِعُوا قَالَ القَاضِي: هَكَذَا هُوَ فِي كتابي فَإِن يكن فِي أصل الشَّيْخ عَلَى هَذَا، فتقدير الْكَلَام أشدد أُخْرَى فيرجعوا فَدخلت الْفَاء جَوَابا، وَإِن كنت الرِّوَايَة فِي الأَصْل فَيرجع عَلَى الْخَبَر عَنِ الْوَاحِد بِالْمَعْنَى فَهُوَ يرجع. الحَجَّاج وفراشة الَّتِي كَانَتْ تجهز الْخَوَارِج حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، وَذكره أَبُو حَاتِم عَنِ الْعُتْبِي أَيْضا، قَالَ: كَانَت امْرَأَة من الْخَوَارِج من الأزد يُقَالُ لَهَا فراشة، وَكَانَت ذَاتَ نبهٍ فِي رَأْي الْخَوَارِج تُجَهِّزُ أَصْحَاب البصائر مِنْهُم، وَكَانَ الحَجَّاج يطْلبهَا طَلَبًا شَدِيدا، فأعوزته فَلم يظفر بهَا، وَكَانَ يَدْعُو اللَّه أَن يُمكنهُ من فراشة أَوْ من بَعْض من جهزته، فَمَكثَ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ جِيءَ بِرَجُل فَقَالَ: هَذَا مِمَّن جهّزته فراشة، فخرّ سَاجِدا ثُمَّ رفع رَأسه، فَقَالَ لَهُ: يَا عدوُّ الله، قَال: أَنْت أولى بهَا يَا حجاج، قَالَ: أَيْنَ فراشة؟ قَالَ: مرت تطير مُنْذُ ثَلَاث. قَالَ: أَيْنَ تطير؟ قَالَ: تطير

حمدان البرتي يهيم بامرأة طقطق الكوفي

مَا بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض، قَالَ: أعن تِلْكَ سَأَلتك عَلَيْكَ لعنة اللَّه؟ قَالَ: عَنْ تِلْكَ أَخْبَرتك عَلَيْك غضب الله، قَالَ: سَأَلتك عَنِ الْمَرْأَة الَّتِي جَهّزتْك وَأَصْحَابك، قَالَ: وَمَا تصنع بهَا؟ قَالَ: دلنا عَلَيْهَا، قَالَ: تصنع بهَا مَاذَا؟ قَالَ: أَضْرِبُ عُنُقهَا. قَالَ: وَيلك يَا حجاج، مَا أجهلك! تُرِيدُ أَن أدلك وَأَنت عَدو اللَّه عَلَى من هُوَ وَلِيُّ الله؟ قَدْ ضللتُ إِذَا وَمَا أَنَا من المهتدين. قَالَ: فَمَا رَأْيك فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْملك؟ قَالَ: على ذَاك الْفَاسِق لعنة اللَّه ولعنة اللاعنين، قَالَ: وَلم لَا أم لَك؟ قَالَ: انه أَخطَأ خَطِيئَة طبقت بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْض، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: اسْتِعْمَاله إياك عَلَى رِقَاب الْمُسلمين، فَقَالَ الْحجَّاج لجلسائه: مَا رَأْيكُمْ فه؟ قَالُوا: نرى أَن تقتله قتلةً لَمْ يقتل مثلهَا أحد، قَالَ: وَيلك يَا حجاج، جلساء أَخِيك كَانُوا أحسن مجالسة من جلسائك، قَالَ: وَأي أخويَّ تُرِيدُ؟ قَالَ: فِرْعَوْن حِين شاور مُوسَى فَقَالُوا: أرجه وأخاه، وَأَشَارَ عَلَيْك هَؤُلاءِ بقتلي، قَالَ: وَهل حفظتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: وَهل خَشيت فراره فأحفظه؟ قَالَ: هَلْ جمعتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: مَا كَانَ مُتَفَرقًا فأجمعه، قَالَ: أَقرَأته ظَاهرا؟ قَالَ: مُعَاذِ الله بل قرأته وَأَنا أنظر إِلَيْهِ، فَقَالَ: فَكيف تراك تلقى اللَّه إِن قتلتُك؟ قَالَ: أَلْقَاهُ بعملي وتلقاه بدمي، قَالَ: إِذا أُعَجِّلُك إِلَى النَّار، قَالَ: لَوْ علمت أنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ أَحْسَنت عبادتك واتقيتُ عذابك وَلم أبغ خِلافك ومناقضتك، قَالَ: إِنِّي قَاتلك، قَالَ: إِذا أخاصمك لِأَن الحكم يَوْمئِذٍ إِلَى غَيْرك، قَالَ: نُقْمِعُك عَنِ الْكَلَام السَّيئ، يَا حِرسي! اضْرِب عُنُقه، وأومى إِلَى السياف أَلا يقْتله، فَجعل يَأْتِيهِ من بَيْنَ يَدَيْهِ وَمن خَلفه ويروعه بِالسَّيْفِ، فَلَمّا طَال ذَلِكَ عَلَيْهِ رَشَح جَبينه، قَالَ: جَزعت من الْمَوْت يَا عدوَّ اللَّه؟ قَالَ: لَا يَا فَاسق، وَلَكِن أَبْطَأت عليّ بِمَا لي فِيهِ رَاحَة، قَالَ: يَا حرسيّ أعظم جرحه، فَلَمَّا أحس بِالسَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، وَوَاللَّه مَا أتمهَا وَرَأسه فِي الأَرْض. حمدَان البرتي يهيم بِامْرَأَة طقطق الْكُوفِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الصَّلْت، قَالَ: كَانَ حمدَان البرتي عَلَى قَضَاء الشرقية، فَقدمت امْرَأَة طقطق الْكُوفِي طقطقًا إِلَيْهِ فادعت عَلَيْهِ مهْرا أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، فَسَأَلَهُ القَاضِي عَمَّا ذَكَرَتْ، فَقَالَ: أعز اللَّه القَاضِي، مهرهَا عشرَة دَرَاهِم، فَقَالَ لَهَا البرتي: أسْفري، فَسَفَرتْ حَتَّى انْكَشَفَ صَدْرها، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ لطقطق: وَيلك! مثل هَذَا الْوَجْه يستأهل أَرْبَعَة آلَاف دِينَار لَيْسَ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، ثُمَّ الْتفت إِلَى كَاتبه فَقَالَ لَهُ: فِي الدُّنْيَا أحسن من هَذَا الشذر على هَذَا النَّحْر؟ فَقَالَ لَهُ طقطق، فديتك، إِن كَانَتْ قَدْ وَقعت فِي قَلْبك طَلقتهَا، قَالَ لَهُ البرتي: تهددها بِالطَّلَاق وَقد قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وطراً زَوَّجْنَاكهَا " إِن طَلقتهَا كَانَ هَا هُنَا ألف مِمَّن يَتَزَوَّجهَا، فَقَالَ طقطق: إِنِّي وَالله مَا قضيتُ وَطَري مها، وَأَنا طقطق لَيْسَ أَنَا زَيْدُ، فَأقبل البرتي عَلَى الْمَرْأَة: فَقَالَ لَهَا: يَا حبيبتي مَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ صبرك عَلَى مباضعة هَذَا البغيض؟ ثُمَّ أنشأ يَقُولُ:

لط وألط وأيهما أصح

تَرَبّصْ بهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلّهَا ... تُطَلّقُ يَوْمَا أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُها فَقَامَ طقطق فَتعلق بِهِ وصيف غُلَام البرتي فصاح بِهِ: دَعه يذهب عَنا فِي سقر، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِن لَمْ يَصِرْ لَك إِلَى مَا تريدين فصيري إِلَى امْرَأَة وصيف حَتَّى تُعْلمني فأضعه فِي الْحَبْس، فَكتب صَاحب الْخَبَر بِمَا كَانَ فعلق بِهِ البرتي وصانعه عَلَى خمس مائَة دِينَار عَلَى أَلا يرفع الْخَبَر بِعَيْنِه، وَلَكِن يكْتب أنَّ عجوزًا خَاصَمت زَوجهَا فألط فاستغاثت بِالْقَاضِي فَقَالَ لَهَا: مَا اصْنَع يَا حبيبتي هُوَ حُكْم وَلَا بدّ أَن أَقْْضِي بِالْحَقِّ، وَانْصَرف البرتي متيمًا، فَمَا زَالَ مُدَنفًا يبكي ويهيم فَوق السطوح، وَيَقُول الشّعْر فَكَانَ ممّا قَالَه: وَا حسرتي عَلَى مَا مضى ... لَيْتَني لَمْ أكُن أعْرِف الْقَضَا أحببتُ امْرَأَة وَخفت الل ... هـ حَقًا فَمَا تَمَّ حَتَّى انْقَضى وَغير ذَلِك من شعر لَا وزن لَهُ وَلَا روى، إِلَى أَن ارعوى وَرجع. لطّ وألطّ وَأيهمَا أصح قَالَ القَاضِي: هَكَذَا فِي الْخَبَر ألطّ، وَالْمَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة لط، وَقَالُوا فِي اسْم الْفِعْل ملط عَلَى غَيْر الْقيَاس لِأَن قِيَاس ألط ملط وَقِيَاس لط لَاطَ، غير أنّ السماع لَا اعْتِرَاض لأحد فِيهِ، وَلَا يتْرك للْقِيَاس بل يتْرك الْقيَاس لَهُ. بَيْنَمَا يَبُول من فزعه إِذْ يَبُول عَلَى قَبره حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جَعْفَر بن مُوسَى بالبرمكي الْمَعْرُوف بجحظة، قَالَ: قَالَ لي مَيْمُون بْن هرون الْكَاتِب: جرد شُعَيْب بْن عُجَيف رَجُلا ليضربه بالسياط فِي مَال اختانه مِنْهُ، فَبَال الرَّجُل لمّا رَأَى السِّيَاط فَجرى بَوْله من بائكة سراويله فأطله، وشخص مَعَ المعتصم يُرِيدُونَ بِلَاد الرّوم، فَمَاتَ شُعَيْب بْن عجيف فِي الطَّرِيق، وَخرج الرَّجُل خَلَف الْعَسْكَر يطْلب الرزق، فغمزه الْبَوْل فِي السحر وَهُوَ بِبَعْض الْقرى، فَرَأى ركامًا فَبَال عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَجُل من الْقرْيَة: بئْسَمَا فعلت، بلت عَلَى قبر شُعَيب بْن عجيف، فَقَالَ الرَّجُل: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه، بَينا أَنَا أبول من فزعه إِذْ بلت عَلَى قَبره. إِلَّا يكن أَخا بِالنّسَبِ فَإِنَّهُ أَخ بالأدب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن حَمَّاد، قَالَ: سَمِعت عليّ بْن الجهم، وَقد ذَكَرَ دعبلا وكفره ولعنه، وَقَالَ: كَانَ قَدْ أغرى بالطعن عَلَى أبي تَمام وَهُوَ خَير مِنْهُ دينا وشعرًا، فَقَالَ لَهُ رَجُل: لَوْ كَانَ أَبُو تَمام أَخَاك مَا زَاد عَلَى كَثْرَة وصفك لَهُ، فَقَالَ: إِلَّا يكن أَخا بِالنّسَبِ فَإِنَّهُ أخٌ بالأدب وَالدّين والمروءة، أما سَمِعت فِي قَوْله فِيّ: إِن يكد مُطّرِفُ الإخاءَ فَإِنّنا ... نَغْدُو ونَسري فِي إخاء تالدِ

أبيات متفاضلة في المدح لبعض الشعراء

أَوْ يخْتَلف مَاء الْوِصَال فماؤُنا ... عَذْبٌ تحدَّر من زُلال باردِ أَوْ يفْتَرق نسبٌ يؤلِّف بَيْننَا ... أدبٌ أقمناه مقَام الْوَالِد أَبْيَات متفاضلة فِي الْمَدْح لبَعض الشُّعَرَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الحكيمي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرو الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن بِشْر، قَالَ: أنْشد أَبُو السمط بْن أبي الْجنُوب بْن أبي حَفْصَة لرؤبة: إِن جِئْت أَعْطَانِي وَإِن كنت لم أجي ... تنفذ أَمْرِي فَوق مَا كنت أرتجي فَقَالَ: لي وَالله أَجود من هَذَا فِي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى نصر بْن شِيث فَوجه إليَّ بِعشْرين ألفا، فَقلت: لَعَمْرِي لنعم الْغَيْث غيثٌ أَصَابَنَا ... بِبَغْدَاد من أَرض الجزيرة وَابِلُه وَنعم الْفَتى والبيدُ بَيْني وَبَينه ... بِعشْرين ألفا صَبّحْتنا رسائلُه وَكُنَّا كحي صبّح الغيثُ أهلَه ... وَلم يحْتَمل أظعانُه وحمائلُه وأنشدنا هَذَا الشّعْر عمَارَة بْن عقيل، فَقَالَ: لي - وَالله - فِي خَالِد بْن يزِيد أحسن من هَذَا، ثُمَّ أنْشد: لَمْ أستطع سيرًا لمدحة خَالِد ... فجعلتُ مَدْحِيِه إِلَيْهِ رَسُولا فليرحلَنَّ إليَّ نائلُ خالدٍ ... وليكفيَنَّ رواحِلي التّرْحِيلا وَأنْشد هَذِهِ الشّعْر المسمعي، فَقَالَ: أَنْشدني الْأَصْمَعِي أَجود من هَذَا: جزى اللَّه خيرا والجزاءُ بكفِّه بنى السِّمْط أخدانَ السّماحة والحمدِ أَتَانِي وَأَهلي بالعراقِ جَدَاهُم ... كَمَا انقضَّ غيثٌ فِي تِهَامَةَ أَوْ نَجْدِ زِيَارَة حرقة بِنْت النُّعْمَان لسعد بْن أبي وَقاص حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن يَعْقُوب الدينَوَرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسّان بْن أبان البَعْلَبَكيّ، قَالَ: لمّا قَدِمَ سَعْد بْن أبي وَقاص الْقَادِسِيَّة أَمِيرا أتتْه حرقة بِنْت النُّعْمَان بْن الْمُنْذر فِي جَوَارٍ فِي مثل زِيَّها، تطلب صِلَته، فَلَمّا وقفن بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: أيتكن حرقة؟ قُلْنَ: هَذِهِ، قَالَ: أَنْت حرقة؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَا تكرارك استفهامي؟ إِن الدُّنْيَا دَار زَوَال وَإِنَّهَا لَا تدوم على حَال، تنْتَقل بِأَهْلِهَا انتقالا، وتُعقبهم بَعْدَ حَال حَالا، إِنَّا كنتا ملوكَ هَذَا الْمِصْرِ قبلك، يُجْبى إِلَيْنَا خَرْجه، ويُطيعنا أَهله، مدَّة الْمدَّة وزمان الدّولة، فَلَمّا أدبر الْأَمر وانقضى، صَاح بِنَا صائحُ الدَّهْر، فصدع عصانا وشتّتَ ملأنا، وكذاك الدَّهْر يَا سَعْد، إِنَّهُ لَيْسَ من قَوْمٍ بحبرة إِلَّا والدهر مُعقبهم عَبْرة، ثُمَّ أنشأت تَقول: فَبينا نَسُوسُ الناسَ وَالْأَمر أمرنَا ... إِذَا نَحْنُ فيهم سوُقةٌ نَتَنَصَّفُ

المغيرة بن شعبة يعرض عليها الزواج فترفض

فأف لدُنْيَا لَا يَدُوم سرورها ... تقبل تاراتٍ بِنَا وتصرفُ فَقَالَ سَعْد: قَاتل اللَّه عَدِيّ بْن زَيْدُ كَأَنَّهُ كَانَ ينظر إِلَيْهَا حَيْث تَقول: إِن للدهر صَوْلةً فاحْذَرَنْها ... لَا تبين قَدْ أمنت الشُّرُورا قَدْ يبيت الْفَتى مُعَافًى فيُرْزَا ... وَلَقَد كَانَ آمنا مَسْرُورًا وَأَكْرمهَا سَعْد وَأحسن جائزتها فَلَمَّا أَرَادَت فِرَاقه، قَالَتْ: حَتَّى أُحَيِّيك تحيةَ أمْلاكِنَا بَعضهم بَعْضًا: لَا جعل الله لَك إِلَّا لئيمٍ حَاجَة، وَلَا زَالَ لكريم عنْدك حَاجَة، وَلَا نزع من عَبْد صَالح نعْمَة إِلَّا جعلك سَببا لردّها عَلَيْهِ. فَلَمّا خرجت من عِنْدَهُ تلقاها نساءُ الْمِصْر فَقُلْنَ لَهَا: مَا صنع بك الْأَمِير؟ قَالَتْ: حَاطَ لي ذِمّتي وَأكْرم وَجْهي ... إِنَّمَا يُكْرم الكريمُ الكَريما الْمُغيرَة بْن شُعْبَة يعرض عَلَيْهَا الزواج فترفُض وَقد روينَا بِإِسْنَاد لَمْ يحضر الْآن وَلَعَلَّه يَأْتِي فِيمَا بَعْدَ، أنَّ الْمُغيرَة بْن شُعْبَة خطب حُرَقة هَذِهِ، فَقَالَت: لَهُ: إِنَّمَا أردتَ أَن يُقَالُ: تزوج ابنةَ النعمانَ بْن الْمُنْذر وَإِلَّا فأيُّ حَظّ لأعورَ فِي عَمْياء. أمُّ جَعْفَر البرمكيِّ وَمَا وصلتْ إِلَيْهَا حالَتُها من عظة وعبرة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر الضَّرِير وَجه الْهِرَّة، قَالَ: حَدَّثَنِي غَسَّان بْن مُحَمَّد بْن القَاضِي، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الهاشميّ صَاحب صَلاة الْكُوفَة قَالَ: دخلتُ عَلَى أمِّي فِي يَوْمَ أضحى وَعِنْدهَا امْرَأَة بَرزَة فِي أَثوَاب دنسة رثَّة، فَقَالَت لي: أتعرفُ هَذِهِ؟ قلت: لَا، قَالَتْ: هَذِهِ عبَادَة أم جَعْفَر بْن يحيى بْن خَالِد، فسلّمت عَلَيْهَا ورحبت بهَا وَقتل لَهَا: يَا فُلَانَة! حدثيني بِبَعْض أَمركُم، قَالَتْ: أذكُر لَك جملَة كَافِيَة فِيهَا اعْتِبَار لمن اعْتبر، وموعظة لمن فكر، لَقَدْ هجم عليّ مثل هَذَا الْعِيد وعَلى رَأْسِي أَربع مائَة جَارِيَة ووصيفة وَأَنا أزعم أنَّ جَعْفَر ابْني عاقٌّ بِي، وَقد أتيتكم فِي هَذَا الْيَوْم وَالَّذِي يُقْنعني جلدُ شَاتين أجعَل أَحدهمَا شعاراً وَالْآخر دثارًا. زُبَيْري يقُتُّ بهاشم حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عُمَر بْن شبة، قَالَ: لمّا قَالَ الزبيرِي للرشيد فِيمَا أغراه بِيَحْيَى بْن عَبْد اللَّه بْن حَسَن وَعند الرشيد يحيى، فَقَالَ: إِن هَذَا يُخْبِرنِي عَنْكَ بِأُمُور إِن صحّت وَجب عليّ تأديبك وَإِن أَتَى التأديبُ عَلَى نَفسك. قَالَ يحيى: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِنَّمَا النّاس نَحْنُ وَأَنْتُم، فَإِن خرجنَا عَلَيْكُمْ فِيمَا أكلْتُم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرحلتمونا، فَوَجَدنَا بذلك مقَالا فِيكُم ووجدتُم بخروجنا عَلَيْكُمْ مقَالا فِينَا يتكافأ فِيهِ القَوْل، وَيعود أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهِ

زبيري يقت بهاشم

عَلَى أَهله بِالْفَضْلِ، يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! فَلم تجرِّئ هَذَا وضرباؤه على أهل بَيْتك؟ يسْعَى بهم عنْدك، وَالله مَا يسْعَى بِنَا إِلَيْك نصيحة مِنْهُ لَك، وَإنَّهُ ليَأْتِينَا فيسعى بك عندنَا من غَيْر نصيحة مِنْهُ لَنَا، يُرِيد أَن يباعد بَيْننَا ويشتفي من بَعْض بِبَعْض، وَوَاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه للخائن بْن الخائن، يسْقط بَيْنَ اللحاء والقضيب، يُرِيد أَن يُوهنهما جَمِيعًا حَسَدًا وبَغْيًا وَغِلا، ثُمَّ الْتفت إِلَى الزبيرِي متمثلا بقول الشَّاعِر: وَقد يُسَوِّدُ عصرُ السُّوء مثلَكُم ... وَقد يعودُ رءوسُ النّاس أذنابا وَقد قَالَ بَعْض أهلك: أَلَيْسَ من إِلْقَاء الزَّمَان عَلَى استه ... وقوفُ زبيريٍّ يقتُّ بهاشم إِذَا مَا رَآهُمْ كَانَ هَمْزًا ولامزًا ... لأعراضهم مَيْنا وبغيًا لحازمِ قَوْله: يقتّ معناهُ ينمُّ، وَقَالَ: لَا يدخلُ الجنةَ قتّات، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لعن القَتّات يَعْنِي النمام. رَجَاء يُرْجئُ مَا أُمِر بِهِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفضل أَحْمَد بْن أبي طَاهِر، قَالَ: مدحتُ الْحَسَن بْن مخلد فَأرْسل إليَّ أَنِّي قَدْ أمرت لَك بِمِائَة دِينَار، فَالْحق رَجَاء، فلقيتُ رَجَاء فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرنِي بِشَيْء، فَكتبت إِلَيْهِ: أما رجاءُ فأرْجَى مَا أمرتَ بِهِ ... وَكَيف إِن كنتَ لَمْ تَأمُره يأتمر بَادر بجودك إمّا كنتَ مقتدرًا ... فَلَيْسَ فِي كلّ حالٍ أَنْت مُقْتَدِرُ الْمجْلس السَّابِع عَشْر حَدِيث فَلْيقل خيرا أَوْ لينصت حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَهْشَلُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيُنْصِتْ ". قَالَ الْقَاضِي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَالأَخْبَارُ مُتَظَاهِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ". وَفِي بَعْض الرِّوَايَات: أَوْ لِيَسْكُت. ولمّا أملّ عَلَيْنَا أَبو عُمَر هَذَا الْخَبَر عَلَى من يَلِيهِ كالمبتسم وَإِلَى جنبه أَبُو بَكْر النَّيْسَابُوريّ كالمتعجب المستغرب لهَذِهِ اللَّفْظَة، وَمعنى هَذِهِ الْأَلْفَاظ تتفق. ونحوٌ مِنْهُ مَا ورد الْخَبَر بِهِ من قَوْله: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَكَلَّمَ فَغَنِمَ أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ. وَفِي الْكَلَام ممّا هُوَ خَيّر وَصدق وَعدل، وَحقّ الْأجر والفائدة، وَالْغنيمَة الْبَارِدَة، وَفِي

خالد بن الوليد وعبد المسيح بن عمرو الغساني في فتح الحيرة

الصمت فِي مَوَاطِن الصمت الرَّاحَة والسلامة، والتنزه عَمَّا عاقبته الْمَكْرُوه والندامة، وَقد ذُكر فِي فضل النُّطْق ومدح الصمت نثرًا ونظمًا مَا يطول إِتْيَانه وَيكثر تعداده، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع الْإِتْيَان بِهِ، وَجُمْلَة القَوْل أنَّ لكلِّ وَاحِد من الْأَمريْنِ موضعا هُوَ فِيهِ أولى من صَاحبه، وَقد يعتدلان فِي بَعْض الْأَحْوَال ويتقاربان، وَإِن كَانَا فِي بعضهما يتفاوتان ويتفاضلان. وَقد حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه الدقيقي قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عُمَر السّبيعي، قَالَ: سَمِعت بِشْر بْن الْحَارِث يَقُول: الصَّبْر هُوَ الصمت، والصمت هُوَ الصَّبْر، وَلَا يكون الْمُتَكَلّم أورع من الصَّامِت إِلَّا رَجُل عالمٌ يتَكَلَّم فِي مَوْضِعه ويسكت فِي مَوْضِعه. خَالِد بْن الْوَلِيد وَعبد الْمَسِيح بْن عَمْرو الغساني فِي فتح الْحيرَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا العكلي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عوَانَة بْن الحكم، وشرقي بْن قطامي وَأبي مخنف قَالُوا: لمّا انْصَرف خَالِد بْن الْوَلِيد من الْيَمَامَة، وَضرب عسكره عَلَى الجَرْعة الَّتِي بَيْنَ الْحيرَة وَالنّهر وتحصَّن مِنْهُ أَهْلُ الْحيرَة فِي الْقصر الْأَبْيَض وَقصر ابْن بُقَيلة وَجعلُوا يرمونه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى نَفِدَت، ثُمَّ رَمَوْهُ بالخزف من آنيتهم، فَقَالَ لَهُ ضرار بْن الأزْور: مَا لَهُمْ مكيدةٌ أعظمَ ممّا ترى، فَبعث إِلَيْهم: ابْعَثُوا إليَّ رَجُلا من عُقلائكم أسائله ويُخبرني عَنْكُم، فبعثوا لَهُ عَبْد الْمَسِيح بْن عَمْرو بْن قيس بْن حَيَّان بْن بُقيلة الغساني، وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن خمسين وثلثمائة سنة، فَأقبل يمشي إِلَى خَالِد فَلَمّا رَآهُ قَالَ: مَا لَهُمْ أخزاهم اللَّه بعثوا إليَّ رَجُلا لَا يفقه، فَلَمّا دنا قَالَ: أنعم صباحًا أَيهَا الْملك، فَقَالَ خَالِد: قَدْ أكرمنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْر هَذِهِ التَّحِيَّة، بِالسَّلَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ خَالِد: من أَيْنَ أقْصَى أثرك؟ قَالَ: من ظهر أَبِي. قَالَ: من أَيْنَ خرجت؟ قَالَ: من بطن أُمِّي. قَالَ: عَلَى مَا أَنْت: قَالَ: عَلَى الأَرْض. قَالَ: فيمَ أَنْت وَيحك؟ قَالَ: فِي ثِيَابِي. قَالَ: أتعقل؟ قَالَ: نعم وأقيد، قَالَ: ابْن كم أَنْت: قَالَ: ابْن رَجُل وَاحِد. قَالَ خَالِد: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ، أسائلهُ عَنْ شَيْءٍ وينحو فِي غَيره، قَالَ: مَا أَجَبْتُك إِلَّا عَمَّا سَأَلت عَنْهُ فاسأل عَمَّا بدا لَك، قَالَ: كم أَتَى عَلَيْك؟ قَالَ: خَمْسُونَ وثلثمائة سنة، قَالَ: أَخْبرنِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: عربٌ استنبطنا ونبطٌ استعربنا، قَالَ: فحربٌ أَنْتُم أم سِلْم؟ قَالَ: بل سِلْم. قَالَ: فَمَا بَال هَذِهِ الْحُصُون؟ قَالَ: بنيناها لنحبس السَّفِيه حَتَّى ينهاه الْحَلِيم، قَالَ: وَمَعَهُ سمٌّ سَاعَة يقلِّبه فِي يَده، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا مَعَك؟ قَالَ: هَذَا السم، قَالَ: وَمَا تصنعٌ بِهِ؟ قَالَ: أتيتُك فَإِن رَأَيْت عنْدك مَا يسرني وَأهل بلدي حمدت اللَّه تَعَالَى، وَإِن كَانَت الْأُخْرَى لَمْ أكن أول من سَاق إِلَيْهِم ضيمًا وبَلاءً فآكلُه وأستريح، وَإِنَّمَا بَقِيَ من عُمريَ الْيَسِير، فَقَالَ: هاته فَوَضعه فِي يَد خَالِد، فَقَالَ: بِسم اللَّه وَبِاللَّهِ ربِّ الأَرْض وَرب السَّمَاء، الَّذِي لَا يضر مَعَ اسْمه دَاء، ثُمَّ أكله فتجلته غَشْية فضربَ بذقنه عَلَى صَدره ثُمَّ عرق وأفاق، فَرجع ابْن بقيلة إِلَى قومه، فَقَالَ: جئتُ من عِنْدَ شَيْطَان أكل سمَ سَاعَة

خبر الغضبان بن القبعثري مع الحجاج

فَلم يَضُرَّه، أخرجوهم عَنْكُم، فصالحوهم عَلَى مائَة ألف، فَقَالَ لَهُ خَالِد: مَا أدْركْت؟ قَالَ: أدْركْت سفن الْبَحْر ترفأ غلينا فِي هَذَا الجرف، وَرَأَيْت الْمَرْأَة من أَهْلَ الْحيرَة تخرج إِلَى الشَّام فِي قرى متواترة مَا تُزَوَّدُ رغيفا، وَقد أَصبَحت خرابًا يبابا، كَذَلِك دأب اللَّه فِي الْعباد والبلاد، وَقَالَ عَبْد الْمَسِيح حِين رَجَعَ: أبعد الْمُنْذِرِين أرى سوَامَا ... تَرَوَّحُ بالخورنق والسّدير تحاماها فوارسُ كلّ حَيٍّ ... مَخافة ضَيْغم عالي الزئير وَبعد فوارس النُّعْمَان أرعى ... رياضًا بَيْنَ ذرْوَة والحفير فصرنا بَعْدَ هُلك أبي قبيس ... كَمثل الشَّاء فِي الْيَوْم المطير تَقَسّمها الْقَبَائِل من مَعَدٍّ ... عَلَانيَة كأيسار الْجَزُور وَكُنَّا لَا يُبَاح لَنَا حَرِيمٌ ... فَنحْن كضرة الناب الفَخُور كَذَاك الدَّهْر دولته سجالٌ ... تَصَرَّفُ بالمَسَاءةِ والسُّرورِ قَالَ القَاضِي: قَول عَبْد الْمَسِيح لخَالِد لما سَأَلَهُ مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: عربٌ استنبطنا ونبطٌ استعربنا، مَعْنَاهُ أَنَا عرب ونبط خالط بَعْضنَا بَعْضًا وجاوره، فَأخذ كلّ فريق منا من خلائق صَاحبه وَسيرَته. حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن أبي الرّحال الصّالحيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الدوري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بِشْر، قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْل الْخياط، عَنْ جَعْفَر بْن أبي جَعْفَر: أَنَّهُ كَانَ يتَعَوَّذ من النبطي إِذَا استعرب والعربي إِذَا استنبط، فَقيل لَهُ: كَيْفَ يستنبط الْعَرَبِيّ؟ قَالَ: يَأْخُذ بأخلاقهم ويتأدب بآدابهم. خبر الغضبان بْن القَبَعْثَري مَعَ الحَجَّاج حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد بْن نَاصح، قَالَ: حُدِّثْت أنَّ الحَجَّاج بْن يُوسُف بعث الغضبان بْن القبعثري ليَأْتِيه بِخَبَر عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن الْأَشْعَث وَهُوَ بكِرْمَان، وَبعث عَلَيْهِ عينا وَكَانَ كَذَلِك يفعل، فَلَمّا انْتهى الغضبان إِلَى عَبْد الرَّحْمَن قَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: شَرّ، تَغَدَّ بالحجاج قَبْلَ أَن يتعشى بك، وَانْصَرف الغضبان فَنزل رَملَة كرمان وَهِي أرضٌ شَدِيدَة الرمضاء، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ ورد عَلَيْهِ أَعْرَابِي من بني بَكْر بْن وَائِل عَلَى فرس لَهُ يَقُود نَاقَة، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك، قَالَ الغضبان: السَّلَام كثير وَهِي كلمة مقولة، قَالَ الأَعْرَابِي: مَا اسْمك؟ قَالَ: آخذ. قَالَ: أفتعطي؟ قَالَ: لَا أُحِبَّ أَن يكون لي اسمان، قَالَ: من أَيْنَ أَقبلت؟ قَالَ: من الذَّلُول، قَالَ: وَأَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْمَشْي فِي مناكبها، قَالَ: من عُرِض الْيَوْم؟ قَالَ: عرض المتقون. قَالَ: فَمن سَبَق؟ قَالَ الفائزون، قَالَ: فَمن غلب؟ قَالَ: حِزْبُ اللَّه، قَالَ: فَمن حِزْبُ اللَّه؟ قَالَ:

هُم الغالبون، قَالَ: فَعجب الأَعْرَابِي من مَنْطِقه، قَالَ: أما تَقْرض؟ قَالَ: إِنَّمَا تَقْرض الْفَأْرَة، قَالَ: أتسمع؟ قَالَ: إِنَّمَا تسمع الْقَيْنَة، قَالَ: أفتنشد؟ قَالَ: إِنَّمَا تنشد الضَّالة، قَالَ: أفتقول؟ قَالَ: إِنَّمَا يَقُولُ الْأَمِير، قَالَ: أفتتكلم؟ قَالَ: كلٌّ مُتَكَلم، قَالَ: أفتنطق؟ قَالَ: إِنَّمَا ينْطق كتاب اللَّه، قَالَ: أتسمع؟ قَالَ: حَدِّثنِي أسمع، قَالَ: أفتسجع؟ قَالَ: قَالَ إِنَّمَا تسجع الْحَمَامَة، قَالَ الأَعْرَابِي: تالله مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ، قَالَ: بلَى وَلَكِنَّك نسيت، قَالَ الأَعْرَابِي: فَكيف أَقُول؟ قَالَ: لَا أَدْرِي وَالله، قَالَ الأَعْرَابِي: كَيْفَ ترى فرسي هَذِهِ؟ قَالَ الغضبان: هُوَ خَيّر من آخر شَرّ مِنْهُ وَآخر خَير مِنْهُ أفره مِنْهُ، قَالَ الأَعْرَابِي: إِنِّي قَدْ علمتُ ذَلِكَ، قَالَ: لَوْ علمت لَمْ تَسْأَلنِي، قَالَ، قَالَ الأَعْرَابِي: إِنَّكَ لمنكر، قَالَ الغضبان: إِنَّكَ لمعروف. قَالَ: لَيْسَ ذَاك أُرِيد، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أردْت إِنَّك لعاقل قَالَ: أفتعقل بعيرك هَذَا؟ قَالَ الأَعْرَابِي: أفتأذن لي فَأدْخل عَلَيْكَ؟ قَالَ الغضبان: وراؤك أوسع لَك، قَالَ الأَعْرَابِي: قد أحرقتني الشَّمْس، قَالَ: السَّاعَة يفِيء عَلَيْك الْفَيْء، قَالَ الْأَعرَابِي: إِن الرمضاء قَدْ آذتني، قَالَ: بُلْ عَلَى قَدَمَيْك، قَالَ قَدْ أوجعني الْحر، قَالَ الغضبان: مَا لي عَلَيْهِ سُلْطَان، قَالَ الأَعْرَابِي: إِنِّي لَا أُرِيد طَعَامك وَلَا شرابك، قَالَ: لَا تعرِّض بهما فوَاللَّه لَا تذوقهما، قَالَ الأَعْرَابِي: سُبْحَانَ اللَّه، قَالَ: من قَبْلَ أَن تطلع رَأسك، قَالَ الأَعْرَابِي: أما عنْدك إِلَّا مَا أرى؟ قَالَ: بلَى، هِرَّاوتان أضْرب بهما رَأسك، فَقَالَ الأَعْرَابِي: اللَّه، قَالَ: ظَلَمك أحد؟ فَلَمَّا رأى الْأَعرَابِي ذك قَالَ: إِنِّي لأظنك مَجْنُونا، قَالَ الغضبان: اللَّهُمّ اجْعَلنِي مِمَّن يَرْغب إِلَيْكَ، قَالَ: إِنِّي لأظنك حروريا، قَالَ: اللَّهُمّ اجْعَلنِي مِمَّن يتَخَيَّر الْخَيْر، ثُمَّ قَالَ: لَهُ الغضبان: أَهَذا بعيرك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: نَعَمْ: فَمَا شَأْنه؟ أرى فِيهِ دَاء فَلهُ أَنْت بَائِعه ومشتر مَا هُوَ شَرّ مِنْهُ، فولى الأَعْرَابِي وَهُوَ يَقُولُ: وَالله إِنَّكَ لمرح أَحمَق. فَلَمّا قَدِمَ الغضبان عَلَى الحَجَّاج قَالَ: كَيْفَ تركت أَرض كرمان؟ قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَرض مَاؤُهَا وشل، وَثَمَرهَا دقل ولصها بَطل، فالجيش فِيهَا ضِعَاف، إِن كَثُرُوا فِيهَا جَاعُوا، وَإِن قلوا بهَا ضَاعُوا، فَقَالَ الحَجَّاج لَهُ: أما إِنَّكَ صَاحب الْكَلِمَة الَّتِي بلغتني عَنْكَ حِين قلت تغد بالحجاج قَبْلَ أَن يتعشى بك؟ قَالَ الغضبان: أما إِنَّهَا - جعلني اللَّه فداءك - لَمْ تَنْفَع من قيلت لَهُ، وَلَا تضر من قيلت فِيهِ، فَأمر الحَجَّاج بِهِ إِلَى السجْن، فَلَمّا ذهب مكث فِيهِ حَتَّى إِذَا بنى الحَجَّاج خضراء وَاسِط أَعْجَبته كَمَا لَمْ يُعجبهُ بِنَاء قَطّ فَقَالَ لمن حوله: كَيْفَ ترَوْنَ قبتي هَذِه؟ قَالُوا: أصلح اللَّه الْأَمِير، مَا بنى ملك قَطّ مثلهَا، وَمَا نعلم للْعَرَب مأثرة أفضل مِنْهَا، قَالَ الْحجَّاج: أما إِن لَهَا عَيْبا، سأبعث إِلَى من يُخْبِرنِي بِهِ فَبعث إِلَى الغضبان فَأقبل يرسف فِي قَيده، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ سلم، فَقَالَ الْحجَّاج: كَيفَ ترى قبتي هَذِه؟ قَالَ: أصلح الله الْأَمِير هَذِه قبَّة بنيت فِي غَيْر بلدك لغير ولدك، لَا يسكنهَا وارثك وَلَا يَدُوم لَك بَقَاؤُهَا كَمَا لم يئيم هَالك وَلم يبْق فان، وأمّا هِيَ فَكَأَن لَمْ تكن، قَالَ: صدقت، ردُّوه إِلَى السجْن فَإِنَّهُ صَاحب الْكَلِمَة الَّتِي

معنى الوشل في اللغة

بلغتني عَنْهُ، قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، مَا ضرت من قيلت فِيهِ وَلَا نَفَعت من قيلت لَهُ، قَالَ: أتراك تنجو مني لأقطعن يَديك ورجليك ولأكوين عَيْنَيْك، قَالَ: مَا يخَاف وعيدك البريء وَلَا يَنْقَطِع مِنْك رَجَاء الْمُسِيء، قَالَ: لأَقْتُلَنك إِن شَاءَ اللَّه، قَالَ: بِغَيْر نفس، وَالْعَفو أقرب للتقوى، قَالَ لَه الحَجَّاج: إِنَّكَ لسمين، قَالَ: لمَكَان الْقَيْد والرتعة وَمن يكن جَار الْأَمِير يسمن. قَالَ الحَجَّاج رُدُّوه إِلَى السجْن، قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير قَدْ أثقلني الْحَدِيد فَمَا أُطِيق الْمَشْي، قَالَ: احملوه لعنهُ اللَّه، فَلَمّا حَملته الرِّجَال عَلَى عواتقها قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي يخر لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين "، قَالَ: أنزلوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ " اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ المنزلين "، قَالَ: جَرُّوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ: " بِسم الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "، قَالَ: وَيحكم، اتركوه فقد غلبني بخبثه. أثقلني الْحَدِيد فَمَا أُطِيق الْمَشْي، قَالَ: احملوه لعنهُ اللَّه، فَلَمّا حَملته الرِّجَال عَلَى عواتقها قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي يخر لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين "، قَالَ: أنزلوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ " اللَّهُمَّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ المنزلين "، قَالَ: جَرُّوه أَخْزَاهُ اللَّه، قَالَ: " بِسم الله مجريها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ "، قَالَ: وَيحكم، اتركوه فقد غلبني بخُبثه. معنى الوشل فِي اللُّغَة قَالَ القَاضِي: قَول الغضبان فِي وَصله للحجاج كرمان: مَاؤُهَا وشل، يَعْنِي بِهِ المَاء الْقَلِيل كَمَاء الِأنهار الصغار والجداول الَّتِي لَيست كالبحور والأودية الْعَظِيمَة يُرِيد الْخَبَر عَنْ قلته كَمَا قَالَ الشَّاعِر: اقْرَأ عَلَى الوَشَل السّلام وقُلْ لَهُ ... كُلُّ المشارب مُذْ فُقِدت ذميمُ وَقَالَ جرير: إِن الَّذين غدو بلبُّك غادروا ... وَشَلا بِعَيْنِك لَا يزَال مَعِينا وَجمع الوشل أوشال، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: عَيْناك دمعهما سجالُ ... كَانَ شأنيهما أوشالٌ وَفسّر قَوْمٍ أَوشال بِأَنَّهُ مَا قطر من الْجَبَل. جَعْفَر بْن مُحَمَّد يُزَوّج حُسَيْن بْن زَيْد ويوصله إِلَى الثراء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سَعِيد الْكُوفِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن يُوسُف ابْن يَعْقُوب بْن حَمْزَة بْن زِيَاد الْجعْفِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن مقبل أَبُو أَيُّوب الهاشميّ الْمَدَنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سليم بْن جَعْفَر الْجَعْفَرِي، عَنْ حُسَيْن بْن زَيْد، أَنَّهُ كَانَ نَشأ فِي حجر أبي عَبْد اللَّه يَعْنِي جَعْفَر بْن مُحَمَّد، فَلَمّا بلغ مبالغ الرِّجَال قَالَ لَهُ أَبُو عَبْد اللَّه: مَا يمنعُك أَن تتَزَوَّج فتاة من فتيات قَوْمك؟ قَالَ: فَأَعْرَضت عَنْ ذَلِكَ فَأَعَادَ عَلَى غَيْر مرّة، فَقلت لَهُ: من ترى أَن أَتزوّج؟ قَالَ: كُلْثم بن عَبْد اللَّه الأرقط، فَإِنَّهَا ذَاتَ جمال مَال، قَالَ: فَأرْسلت إِلَيْهَا فثارت عَلَى رَسُولي وضحكتْ مِنْهُ وتعجّبَتْ كلِّ الْعجب لإقدامي وجُرأتي عَلَى خِطْبتها، فَأتيت أَبَا عَبْد اللَّه فَأَخْبَرته، فَقَالَ لمعتب: آتني بثوبين يَمَنِيَّيْن مُعْلَمين فَأتى بهما فلبستهما، ثُمَّ قَالَ: تعرّض أَن تمرَّ قرب منزلهَا وتستسقي مَاء واحرص عَلَى أَن تعلم بمكانك، قَالَ: فوقفتُ بِالْبَابِ فَعلمت مَكَاني ففتحت منْظرًا لَهَا فَأَشْرَفت عليّ وَأَنا لَا أعرفهَا فَنَظَرت إليَّ وَقَالَت:

تسمع بالْمُعَيْديّ خيرٌ من أَن ترَاهُ - قَالَ القَاضِي: أَكثر الْكَلَام: تسمع بالمعيديِّ لَا أَن ترَاهُ، ثُمَّ انصرفتُ فَأتيت أَبَا عَبْد اللَّه فَأَخْبَرته، وَكنت رُبمَا غِبْتُ عَنِ المَدِينَةِ أتصيّد، فَقَالَ لي: إِذَا شِئْت، فغبت عَنِ المَدِينَةِ أَيَّامًا ثُمَّ نزلت المَدِينَةِ فَإِذا مولاةٌ لَهَا قَدْ أَتَتْنِي، فَقَالَت: نَحْنُ نُرِيد أَن نُعَمِّرَك للعُرْس وَأَنت تطلب الصَّيْد وتضحى للشمس، قَدْ جئتُ طلبتُك غَيْر مرّة، وبعثتْ معي ألفَ دِينَار وَعشرَة أَثوَاب وَتقول لَك: تقدمْ إِذَا شِئْت فاخطبني وأمهرنيها، فَإِن لَك عِنْدي عشرَة جميلَة ومواتاة، قَالَ: فغدوتُ فملكتها وَبعثت إِلَيْهَا بِالْألف الدِّينَار وأمرتها بالتهيؤ، ثُمَّ أتيتُ أَبَا عَبْد اللَّه فَأَخْبَرته فَقَالَ: تهيّأ للسَّفر وَانْظُر من يَخْرُج مَعَك من مواليك عَلَى جَمَلٍ عَليّ زَادُك، فسميتُ لَهُ الموَالِي، فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَيْلَة الْخَمِيس فادخُل إِلَى مَسْجِد النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلِّم عَلَى جَدِّك وودِّعْه ينتظرك بعيرُ زِيَاد بْن عَبْد اللَّه، فَفعلت مَا أَمرنِي بِهِ، فأتيتُه فأجده وَالقَاسِم بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم بْن حَسَن، فَلَمّا وقفتُ عَلَيْهِ أَمر لي بِثِيَاب السَّفَر وخلا بِي فَقَالَ: استشْعر تقوى اللَّه تَعَالَى، وأحْدِث لكلِّ ذَنْب تَوْبَة، لذنب السِّرِّ تَوْبَة ولذنب الْعَلَانِيَة تَوْبَة، وامض لوجهك، فقد كتبت لَك إِلَى معن بْن زَائِدَة كتابا، وغَيْبَتُك فِي سفرك ثَلَاثَة أشهر إنْشَاء اللَّه، فَإِذا قدمت صنعاء فَانْزِل منزلا وَلَا تحمل عَلَى معنٍ بِأحد، وتأتَّ لَهُ أَن تَدْخُل عَلَيْهِ بِإِذن عَامَ مَعَ النّاس، فَإِذا دخلتَ عَلَيْهِ فعرَّفْه من أَنْت، فَإِن رَأَيْت مِنْهُ جَفْوةً أَوْ نبوة فاغتفرْها وَأعْرض عَنْهَا، فَإنَّك ستصيبُ مِنْهُ عشْرين ألف دِينَار سوى مَا تصيب من غَيره، فخرجتُ حَتَّى قدمت صنعاء، فَفعلت جَمِيع مَا أَمرنِي بِهِ ودخلتُ عَلَيْهِ بِإِذن عَامَ، فَإِذا أَنَا بِهِ قَاعِدا وَحده وَإِذا بِرَجُل جهم الْوَجْه مختضب بِالسَّوَادِ وَالنَّاس سِماطان قيام، فَأَقْبَلت حَتَّى سلّمت عَلَيْهِ فردّ السّلام، فَقَالَ: من أَنْت؟ فَأَخْبَرته بنسبي، فصاح: لَا وَالله، مَا أُرِيد أَن تَأْتُونِي، ولَبَابُ أميرِ الْمُؤمنِينَ أَعُود عَلَيْكُمْ من بَابي، فَقلت لَهُ: عَلَى رسلك، أَنَا أسْتَغْفر اللَّه من حَسَن الظَّن بك، وانصرفت من عِنْدَهُ، فأدركني رَجُل من أَهْلَ الْبَلَد فأخبرتُه خبري، فَقَالَ: قَدْ عَوَّضَك اللَّه خَيْرًا ممّا فاتك، ثُمَّ بعث غُلَاما فَأَتَاهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار فَدَفعهَا إِلَيّ، وسألني عَمَّا أحتاج إِلَيْهِ من الْكسْوَة فكتبتها لَهُ، فَلَمّا كَانَ بَعْدَ الْعشَاء دَخَلَ إِلَى صَاحب الْمنزل فَقَالَ: هَذَا الْأَمِير معن بْن زَائِدَة يدْخل إِلَيْكَ، فَلَمّا دَخَلَ أكبِّ عَلَى رَأْسِي ويدي، ثمَّ قَالَ: سَيِّدي وَابْن سادتي اعذرني فَإِنِّي أعرف مَا أداري، فَلَمَّا قر قراره أعلمتُه بِالْكتاب الَّذِي معي من أبي عَبْد اللَّه فَقبله وقرأه، ثُمَّ أَمر لي بِعشْرَة آلَاف دِينَار، ثمَّ قَالَ: أَي شَيْء أقدمك؟ فَأَخْبَرته خبري، فَأمر لي بِعشْرَة آلَاف دِينَار أُخْرَى وبعشرة من الْإِبِل وَثَلَاث نَجَائِب برجالها وكساني ثَلَاثِينَ وَشْيًا وَغَيرهَا وَقَالَ لي: جُعلت فدَاك، إِنِّي أَظن أَبَا عَبْد اللَّه متطلِّعًا إِلَى قُدومك، فَإِن رَأَيْت أَن تُخِفَّ الوقْفة وتمضي فعلتَ، وودَّعَني، فتلومت بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا، وقضيتُ حوائجي ثُمَّ خرجت حَتَّى قدمت مكَّة موافيًا لعُمْرة شهر رَمَضَان، فَإِنِّي لفي

مصعب بن الزبير يتمثل عن هزيمته ببيتي شعر

الطّواف حَتَّى لقيتُ مَعْتبًا مَوْلَى أَبِي عَبْد اللَّه، فسلّمت عَلَيْهِ وَسَأَلته، فَقَالَ: هُوَ ذَا أَبُو عَبْد اللَّه قَدْ وافى وَإِن أحْدَث مَا ذَكَرك البارحة، فمضيتُ حَتَّى أَتَيْته فَسلمت عَلَيْهِ وساءلته وَقبلت رَأسه، فَقَالَ: تركت مَعْنًا؟ فَأَخْبَرته بسلامته، فَقَالَ: أصبتَ مِنْهُ بَعْدَ مَا جَبَهك وَصَاح عَلَيْكَ عشْرين ألفا سوى مَا لقِيت من غَيره؟ قلت: نَعَمْ، جعلت فدَاك. قَالَ: فانَّ مَعَنا جمَاعَة من أَصْحَابك ومواليك وَقد كَانُوا يدعونَ لَك ويذكرونك فَمر لَهُم بِشَيْء، قلت: ذَاك إِلَيْكَ جعلني فدَاك، قَالَ: فأعطهم مَا رَأَيْت، كم فِي نَفسك أَن تُعْطِيَهم؟ فَقلت: ألف دِينَار، قَالَ: إِذَا تُجْحِف نَفسك، وَلَكِن فَرِّق عَلَيْهِمْ خمس مائَة دِينَار، وَخمْس مائَة دِينَار لمن يعتريك بِالْمَدِينَةِ، فَفعلت ذَلِك، فَقدمت الْمَدِينَة واستخرجت عَيْني بِذِي الْمَرْوَة وبالمضيق بالسُّقْيا، وبنيتُ منازلي بِالبَقِيعِ، فتَرَوْني أُؤدِّي شُكْرَ أَبِي عَبْد اللَّه وَولده أبدا، وضممتُ إليَّ أَهلِي ورزقتُ مِنْهَا عَليًّا والحَسَن أبْنَيَّ وَالْبَنَات.، كم فِي نَفسك أَن تُعْطِيَهم؟ فَقلت: ألف دِينَار، قَالَ: إِذَا تُجْحِف نَفسك، وَلَكِن فَرِّق عَلَيْهِمْ خمس مائَة دِينَار، وَخمْس مائَة دِينَار لمن يعتريك بِالْمَدِينَةِ، فَفعلت ذَلِك، فَقدمت الْمَدِينَة واستخرجت عَيْني بِذِي الْمَرْوَة وبالمضيق بالسُّقْيا، وبنيتُ منازلي بِالبَقِيعِ، فتَرَوْني أُؤدِّي شُكْرَ أَبِي عَبْد اللَّه وَولده أبدا، وضممتُ إليَّ أَهلِي ورزقتُ مِنْهَا عَليًّا والحَسَن أبْنَيَّ وَالْبَنَات. مُصْعَب بْن الزُّبَيْر يتَمَثَّل عَن هزيمته ببيتي شعر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع، أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَا زبير بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن حَمْزَة، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ عَنْ أَبِيه، قَالَ: لمّا تَفَرَّق عَنْ مُصْعَب جُنده، قَالَ: لَهُ أوِدَّاؤُه: لَو اعتصمتَ بِبَعْض القلاع وكاتبتَ من قَدْ بَعدُ عَنْكَ من أوليائك كَمثل الْمُهلب وَابْنه الأشتر وَفُلَان وَفُلَان فَإِذا اجْتمع لَك من تَرْضاه لقيتَ الْقَوْم بأكفائهم، فقد ضَعُفت جدا واختلَّ أَصْحَابك. فَلبس سلاحه وَخرج فِيمَن بَقِي مَعَه من أَصْحَابه وَهُوَ يتَمَثَّل بِشعر قيل إِنَّه لِطَريف العَنْبري، وَكَانَ طريفُ الْعَنْبَري يُعَدُّ بِأَلف فَارس من فرسَان خُرَاسَان: علام تقولُ السّيف يُثْقِلُ عَاتِقي ... إِذَا أَنَا لَمْ أركبْ بِهِ الْمركب الصَّعْبا سأحْمِيكُمُ حَتَّى أموتَ وَمن يَمُتْ ... كَرِيمًا فَلا لَوْمٌ عَلَيْهِ وَلَا عَتْبا جمع القلعة قلاع خلافًا لِابْنِ الأَعْرَابِي قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر، أَنَّهُ قيل لمصعب: لَو اعتصمت بِبَعْض القلاع وَهِي جمع قلعة، وَهَذَا صَحِيح فِي الْقيَاس وَمثله فِي قِيَاس الْعَرَبيَّة رَقَبَة ورقاب وَعقبَة وعقاب فِي أحرف كَثِيرَة، وَقد جَاءَ فِي الْأَخْبَار عَنِ السّلف الَّذين كَلَامهم حُجة فِي اللُّغَة لسبقهم اللّحن، وَزعم ابْن الأَعْرَابِي أنّ القلعة لَا تجمع قلاعًا، وَالَّذِي قَالَه خطأ من جِهَة السماع وَالْقِيَاس مَعًا، وَقد حكى القلاع فِي جمع القلعة عددٌ من عُلَمَاء اللغويين مِنْهُم أَبُو زَيْد وَغَيره. نديم ينْتَقم من صَاحب بَيت المَال حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن مُحَمَّد الرُّومِي، قَالَ: كَانَ عَلَى بَيت مَال المعتصم رجلٌ من أَهْلَ خُرَاسَان يكنى أَبَا حَاتِم، فَخرجت لي جائزةٌ فمطلني بهَا، وَكَانَ ابْنه قَد اشْترى جَارِيَة مغنية تسمّى قَاسم بستين ألف دِرْهَم، قَالَ: فَعمِلت فِيهِ شعرًا

حكم من كلام الخليل بن أحمد

وجلستُ ألاعب المعتصم بالشِّطْرِنج فِي يَوْمَ الْخمار، وَكَانَ يشرب يَوْمَا ويستريح يَوْمَا فيلعب فِيهِ وَنَلْعَب بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجعلت أنْشد: لتنصفنِّي يَا أَبَا حَاتِم ... أَوْ لتصيرنَّ إِلَى حاكِمِ فتعطِيَ الحقَّ عَلَى ذلةٍ ... بالرغم من أَنْفك ذَا الراغم يَا سَارِقا مَال إِمَام الْهدى ... سَيظْهر الظُّلم عَلَى الظَّالِم سِتِّينَ ألفا فِي شِرَا قَاسِمٍ ... من علٍ هَذَا الْملك الفَّئِمِ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الشّعْر؟ فتفازعت كَأَنِّي أنشدته سَاهِيا ولجلجت، فَقَالَ: أعده فَقتل: إِن رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُعفيني، وَإِنَّمَا أريدُ أَن يحرص عَلَى أَن يسمعهُ، فَقَالَ: أعده وَيلك، فأعده، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقتل: أَظن صَاحب بَيت المَال مطل بَعْض هَؤُلاءِ الشُّعَرَاء بِشَيْء لَهُ فَعمل فِيهِ هَذَا الشّعْر، قَالَ: فَمَا معنى قَاسم؟ قلت: جَارِيَة اشْتَرَاهَا ابْنه بستين ألف دِرْهَم، قَالَ: وَأرَانِي أَنَا الْملك النَّائِم صدق وَالله قَائِل هَذَا الشّعْر، وَالله لَو عَرفته لوصلته لصدقته، رَجُل مُمْلِق ولّيته بَيت المَال ليعيش برزقه مُنْذُ سنتَيْن، من أَيْنَ لِابْنِهِ هَذَا المَال؟ ثُمَّ قَالَ لإيتاخ: قيد صَاحب بَيت المَال وَابْنه حَتَّى تَأْخُذ مِنْهُمَا مِائَتي ألف دِرْهَم وولّ بَيت المَال غَيره. حِكَم من كَلَام الْخَلِيل بْن أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن المَرْوَزِيّ بمرو، قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن أَكْثَم، قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْر بْن شُمَيْل، قَالَ: سمعتُ الْخَلِيل بْن أَحْمَد يَقُولُ: التواني إِضَاعَة، والحزم بضَاعَة، والإنصاف رَاحَة، واللّجاج وَقَاحة. وَمن كَلَام عليّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن زَكَرِيّا الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الهَيْثَم بْن عَبْد اللَّه الرمّاني، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَأْمُون، قَالَ: حَدَّثَنِي الرشيد، قَالَ: حَدَّثَنِي المهديُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَنْصُور عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدّه، عَنِ ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام: من الدَّهَاء حسنُ اللِّقَاء. صُحْبَة لَطِيفَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنِ الْمُغيرَة بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي مَرْوَان بْن مُوسَى بْن عَبْد اللَّه الْمَدَنِيّ مَوْلَى عُثْمَان بْن عَفَّان، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْن جَعْفَر بْن أبي نمير مَوْلَى زُرَيْق، قَالَ: بَعَثَنِي عليّ بْن الْمهْدي من مصر إِلَى الرشيد هرون أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَى الْبَرِيد فلحقتُ شَيخا فِي طريقي عَلَى دَابَّة دميم، فَقَالَ لي: يَا هَذَا، إِن دَابَّتي هَذِهِ قَدْ أتعبتني فَهَل لَك أَن أسايرك وتحبس عليّ، فَإِن عِنْدِي وَالله ظَاهرا وَبَاطنا، قَالَ: قلت لَهُ: أفعل، قَالَ: فَقلت لَهُ يَوْمَا: أما ظاهرك فحُسْنُ محادثتكَ وظرفك،

المجلس الثامن عشر

فَمَا باطنك؟ قَالَ أغَنيِّ وَالله أحسنَ غناء فِي الأَرْض، قَالَ: فغناني: بِزَيْنَب ألمم قَبْلَ أَن يرحل الرَّكْب ... وقُلْ إنْ تَمَلّينَا فَمَا مَلّكِ القَلْبُ قَالَ القَاضِي: الشّعْر لنصيب. الْمجْلس الثَّامِن عَشْر حَدِيث جَالس الكبراء حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن يحيى الجنبسي، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَالِسِ الْكُبَرَاءَ، وَسَائِلِ الْعُلَمَاءَ، وَخَاطِبِ الْحُكَمَاءَ ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عبد الرَّحْمَن الجرجرائي، قَالَ: أَخْبَرَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جَالِسُوا الْكُبَرَاءَ، وَخَالِطُوا الْحُكَمَاءَ، وَسَائِلُوا الْعُلَمَاءَ ". تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر إرشاد من النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته إِلَى مُخَالطَة ذَوي الفَضْل فِي مخالطتهم ومجالستهم ومعاشرتهم، فحقيق عَلَى كلّ ذِي لب تقبل ذَلِكَ وَالرُّجُوع إِلَيْهِ، وَالْعَمَل عَلَيْهِ، فَفِيهِ امْتِثَال أَمر النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَخْذ بسنته والتأدب بأدبه، وَفِيه السَّلامَة من مَعَرَّة الْجُهال، ومضرة الضلال، واكتساب الْآدَاب والفوائد، وحيازة الْمصَالح والمراشد، وحُسن الثَّنَاء والمحامد، والأمن فِي العواقب، والتنزه عَنِ المعايب، ونسأل اللَّه تَوْفِيقًا لمّا نغتبط بِهِ فِي ديننَا ودنيانا وَآخِرَتِنَا. عَبْد الْملك يُوَجه نظر الحَجَّاج إِلَى إسرافه وردّ الحَجَّاج عَلَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عبِّيَّة، قَالَ: لمّا قتل الحَجَّاجُ ابنَ الْأَشْعَث وصَفَتْ لَهُ العراقُ قدَّم قيسا واتسع لَهُ فِي إِنْفَاق الْأَمْوَال، فَكتب إِلَيْهِ عَبْد الْملك: أما بَعْدَ، فقد بلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ أنَّكَ تنفقُ فِي الْيَوْم مَا لَا ينفقُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْأُسْبُوع، وتنفقُ فِي الْأُسْبُوع مَا لَا يُنْفِقهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الشَّهْر، عَلَيْكَ بتقوى اللَّه فِي الْأَمر كُله وَكن لوعيده تخشى وتضرع، ووفر خراج الْمُسلمين وفيأهم، وَكن لَهُمْ حصنًا يجير وَيمْنَع، فكب إِلَيْهِ الحَجَّاج: لعمري لَقَدْ جَاءَ الرَّسُول بكتبكم ... قَرَاطِيس تملي ثُمَّ تطوى فتطبع كتاب أَتَانِي فِيهِ لين وغلظة ... وذكّرت والذكرى لذِي اللب تَنْفَع

الحجاج يؤمن الناس إلا أربعة

وَكَانَت أُمُور تعتريني كَثِيرَة ... فأرضخ أَوْ أعتل حينا فأمنع إِذَا كنت سَوْطًا من عَذَاب عَلَيْهِمْ ... وَلم يَك عِنْدِي فِي الْمَنَافِع مطمع أيرضى بِذَاكَ النّاس أم يسخطونه ... أم أَحْمد فيهم أم ألام فأقدع وَكَانَت بلادًا جِئْتهَا حَيْث جِئْتهَا ... بهَا كلّ نيران الْعَدَاوَة تلمع فقاسيت فِيهَا مَا علمت وَلم أزل ... أصارع حَتَّى كدت بِالْمَوْتِ أصرع فكم أرجفوا من رَجْفَة قَدْ سَمعتهَا ... وَلَو كَانَ غَيْرِي طَار ممّا يروع وَكنت إِذَا هموا بِإِحْدَى هَنَاتِهم ... حَسَرت لَهُمْ رَأْسِي وَلَا أتقنع فَلَو لَمْ يذد عني صَنَادِيد مِنْهُم ... تقسّم أعضائي ذئاب وأضبع فَكتب إِلَيْهِ عَبْد الْملك: اعْمَلْ بِرَأْيِك. الحَجَّاج يُؤمن النّاس إِلَّا أَرْبَعَة حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن الْحَسَن بْن مُوسَى، عَنْ عَبْد اللَّه بْن حمد التَّيْميّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حَفْص، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن فضَالة الزهْرَانِي، قَالَ: نَادَى مُنَادِي الحَجَّاج بْن يُوسُف يَوْمَ رستقا باذ: آمن النّاس كلهم إِلَّا أَرْبَعَة: عبد الله بن الْجَارُود وع بن فضَالة وَعِكْرِمَة بن ربعي وَعبد اللَّه بْن زِيَاد بْن ظبْيَان، قَالَ: فَأتى بِرَأْس عَبْد اللَّه بْن الْجَارُود فَلم يصدق فَرحا بِهِ، وَقَالَ: عمموه لي أعرفهُ فَإِنِّي لَمْ أره قَطّ إِلَّا معممًا فعمم لَهُ فَعرفهُ، فَأمر الْمُنَادِي فَنَادَى: أَمن النّاس إِلَّا ثَلَاثَة: عَبْد اللَّه بْن فضَالة وَعبيد اللَّه بْن زِيَاد بْن ظبْيَان وَعِكْرِمَة بْن ربعي، فَأَما عبيد الله بن زِيَاد فَإِنَّهُ انْطلق إِلَى عمان فَأَصَابَهُ الفالج بهَا فَمَاتَ، وأمّا عِكْرمة ابْن ربعي فَإِنَّهُ لحقته خيل الحَجَّاج فِي بَعْض سِكَك المربد فعطف عَلَيْهِمْ فَقتل مِنْهُم نيفًا وَعشْرين رَجُلا ثُمَّ قَتَلُوهُ، وأمّا عَبْد اللَّه بْن فضَالة فَإِنَّهُ أَتَى خُرَاسَان فَلم يزل بهَا حَتَّى وُلّي الْمُهلب خُرَاسَان فَأمر بِأَخْذِهِ حَيْث أَصَابَهُ، وَقيل لَهُ: أكِنّ ذَلِكَ وَلَا تبده فيحذر ويحرز فاحرص عَلَى أسره دون قَتله، قَالَ: فَبعث الْمُهلب ابْنه حبيبا أَمَامه فساق من سوق الأهواز إِلَى مَرْو عَلَى بغلة شهباء فِي سبْعٍ عشرَة لَيْلَة فَأَخذه غارا بمرور وَهُوَ لَا يشْعر، ثُمَّ كتب إِلَى الحَجَّاج يُعلمهُ ذَلِكَ، فجَاء الْمُغيرَة بْن الْمُهلب إِلَى منزل حَبَّة ابْنَة الفَضْل، امْرَأَة عَبْد اللَّه بْن فضَالة وَهِي ابْنَة عَم عَبْد اللَّه، فَأرْسل إِلَيْهَا أنَّ حبيبا قَدْ أَخذ عَبْد اللَّه، وَقد كتب إِلَى الحَجَّاج يُعلمهُ بذلك، فَإِن كَانَ عنْدك خَير فشأنك وعولي عليّ من المَال مَا بدا لَك، فَأرْسلت إِلَيْهِ: لَا وَلَا كَرَامَة، تَقْتُلُونَهُ وآخذ مِنْكُم المَال، هَذَا مَا لَا يكون، فتحولت إِلَى منزل أَخِيهَا لأمها خولي بْن مَالك الرَّاسِبِي وَأرْسلت إِلَى بني سَعْد فاشتُرى لَهَا بَاب

عَظِيم وألقته عَلَى الخَنْدَق لَيْلًا ثُمَّ جَازَت عَلَيْهِ فَغشيَ عَلَيْهَا، فَلَمّا أفاقت قَالَتْ: إِنِّي لَمْ أكن أتعب، فَمَتَى أصابني هَذَا فشدوني وثاقًا ثُمَّ سِيرُوا بِي، فَخرجت مَعَ خَادِمهَا وغلامها ودليلها، لَا يَعْلَمُ بهَا أحد، فسارت حَتَّى دخلت دمشق عَلَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان، فَأَتَت أم أيّوب بِنْت عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عَفَّان، وَكَانَت أمهَا بِنْت ذُؤَيْب بْن حلحلة الْخُزَاعِيّ، قَالَتْ: يَا أم أَيُّوب قصدتك لمر بهظني وغم كظمني وأعلمتها الْخَبَر وقصت عَلَيْهَا الْقِصَّة، فَقَالَت أم أَيُّوب: قَدْ: كنت أسمع أَمِير الْمُؤمنِينَ يكثر ذَكَرَ صَاحبك وَيظْهر التلظي عَلَيْهِ، قَالَتْ: وَأَيْنَ رحلتي إِلَيْكَ؟ قَالت: سأدخلك مدخلًا وأجلسك مَجْلِسا إِن شفّعت فَفِيهِ، وَإِن رددت فَلا تنصبي، فَلا شَفَاعَة لَك بعده فأجلستها فِي مجلسها الَّذِي كَانَتْ تجْلِس فِيهِ لدُخُول عَبْد الْملك لَيْلًا، وَجَلَست أم أيّوب قَرِيبا مِنْهَا فَقَالَت لَهَا: إِذَا دَخَلَ فشأنك، فَدخل عَبْد الْملك لَيْلًا مغترًا، فَلَمّا دنا أخذت بِجَانِب ثَوْبه ثُمّ قَالَت: هَذَا مَكَان العائذ بك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَفَزعَ عَبْد الْملك وَأنكر الْكَلَام، فَقَالَت أم أيّوب: مَا يفزعك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من كَرَامَة سَاقهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ! فَقَالَ: عذت معَاذًا، فَمن أَنْت؟ قَالَتْ: تُؤَمن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من جئْتُك فِيهِ من كَانَ من خَلْق اللَّه تَعَالَى مِمَّن تعرف أَوْ لَا تعرف، مِمَّن عظم ذَنبه لديك أَوْ صغر شاميًا أَوْ عراقيًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ من الْآفَاق؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ آمن، قَالَتْ: بِأَمَان اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أمانك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمن هُوَ أيتها الْمَرْأَة؟ قَالَتْ: عَبْد اللَّه بْن فضَالة، قَالَ: أرسلي ثوبي أنبئك عَنْهُ، قَالَتْ: أغدرًا يَا بني مَرْوَان؟ قَالَ: لَا، أرسلي ثوبي أحَدثك ببلائك عِنْدَهُ، وَهُوَ آمن لَك ولمعاذك قَالَتْ: فَحَدثني يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ببلائك عَنده، قَالَ: ألم تعلمي أَنِّي وليته السوس وجندي سَابُور وأقطعته كَذَا وَكَذَا وفرضت لَهُ كَذَا ونوهت بِذكرِهِ وَرفعت من قدره؟ قَالَتْ: بلَى وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَفلا أحَدثك ببلائه عنْدك؟ قَالَ: بلَى، قَالَتْ: أتعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن دَاره هدمت ثَلَاث مَرَّات بسببك لَا يسْتَتر من السَّمَاء بِشَيْء، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: أفتعلم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أنَّكَ كتبت إِلَى وُجُوه أَهْلَ الْبَصْرَة وأشرافها وكتبت إِلَيْهِ فَلم يكن مِنْهُم أحد أجابك وَلَا أطاعك غَيره، قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: أفتعلم أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ زلته سَيْفا لَك عَلَى أعدائك وسلمًا وبساطًا لأوليائك قَالَ: نَعَمْ، حَسبك قَدْ أجبْت وأبلغت، قَالَتْ: أفيذهب يَوْمَ من إساءته بِصَالح أَيَّامه وطاعته وَحسن بلائه، قَالَ: لَا، هُوَ آمن، قَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه الدما وَإنَّهُ الحَجَّاج وَإنَّهُ إِن رَآهُ قَتله، قَالَ: كَلا، قَالَتْ: فالكتاب مَعَ الْبَرِيد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَكتب لَهَا كتابا مؤكدا: إياك وإياه أحسن جائزته ورفده وخل سَبيله، ثُمَّ وَجه بِهِ مَعَ الْبَرِيد، ثمَّ أقبل عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا أَنْت مِنْهُ؟ قَالَتْ: امْرَأَته وَابْنَة عَمه، قَالَ: فَضَحِك وَقَالَ: أَيْنَ نشأت، قَالَتْ: فِي حجر أَبِيهِ، قَالَ: فوَاللَّه لأَنْت أعرب مِنْهُ وأفصح لِسَانا، فَهَل مَعَه غَيْرك؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، قَالَ: النميري قَالَتْ: نَعَمْ، وَكَذَا وَكَذَا جَارِيَة، قَالَ: فَأَنا أوليك طَلاقهَا وَعتق جواريه، قَالَتْ: بل تهنيه نِسَاءَهُ كَمَا هنأته دَمه، فَأقبل عَلَى أم أَيُّوب فَقَالَ لَهَا: يَا أم أيّوب لَا نسَاء إِلَّا بَنَات الْعم. ثُمَّ قَالَ: أقيمي عِنْدَ أم أَيُّوب حَتَّى يَأْتِيك الْكتاب بمحبتك إِن شَاءَ اللَّه، وقدِم الْكتاب وَقد قَدِمَ بِهِ على الْحجَّاج من خُرَاسَان، فأقامه للنَّاس فِي سَرَاوِيل وَقد كَانَ نزع ثِيَابه قَبْلَ ذَلِكَ وَعرضه عَلَى النّاس فِي الْحَدِيد ليعرفوه، فَلَمّا أَمْسَى دَعَا بِهِ الحَجَّاج فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: أتأذن لي فِي الْكَلَام؟ قَالَ: لَا كَلَام سَائِر الْيَوْم، قَالَ: فَكَسَاهُ وَحمله وَأَجَازَهُ وخلى سَبيله، وَانْصَرف إِلَى أَهله فَسَأَلَهُمْ عَن حبه، فَأخْبر بأمرها وَقيل لَهُ: مَا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهت، ثُمَّ بلغه مَا صنعت، فَكتب إِلَيْهَا: إِنَّك قد صنعت مَا لم تصنع أُنْثَى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك النّاس معي، فَلم تعلمه حَتَّى قدمت لَيْلًا وَهُوَ عِنْدَ ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، فَقَالَت: لَا وَالله لَا يُؤذن بِي اللَّيْلَة، فَلَمّا أصبح، أخبر بمكانها فَأَتَاهَا. رفده وخل سَبيله، ثُمَّ وَجه بِهِ مَعَ الْبَرِيد، ثمَّ أقبل عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا أَنْت مِنْهُ؟ قَالَتْ: امْرَأَته وَابْنَة عَمه، قَالَ: فَضَحِك وَقَالَ: أَيْنَ نشأت، قَالَتْ: فِي حجر أَبِيهِ، قَالَ: فوَاللَّه لأَنْت أعرب مِنْهُ وأفصح لِسَانا، فَهَل مَعَه غَيْرك؟ قَالَتْ: نَعَمْ، ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، قَالَ: النميري قَالَتْ: نَعَمْ، وَكَذَا وَكَذَا جَارِيَة، قَالَ: فَأَنا

خبر الحجاج بن عبد الله الثعلبي مع عبد الملك

أوليك طَلاقهَا وَعتق جواريه، قَالَتْ: بل تهنيه نِسَاءَهُ كَمَا هنأته دَمه، فَأقبل عَلَى أم أَيُّوب فَقَالَ لَهَا: يَا أم أيّوب لَا نسَاء إِلَّا بَنَات الْعم. ثُمَّ قَالَ: أقيمي عِنْدَ أم أَيُّوب حَتَّى يَأْتِيك الْكتاب بمحبتك إِن شَاءَ اللَّه، وقدِم الْكتاب وَقد قدم بِهِ على الْحجَّاج من خُرَاسَان، فأقامه للنَّاس فِي سَرَاوِيل وَقد كَانَ نزع ثِيَابه قَبْلَ ذَلِكَ وَعرضه عَلَى النّاس فِي الْحَدِيد ليعرفوه، فَلَمّا أَمْسَى دَعَا بِهِ الحَجَّاج فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: أتأذن لي فِي الْكَلَام؟ قَالَ: لَا كَلَام سَائِر الْيَوْم، قَالَ: فَكَسَاهُ وَحمله وَأَجَازَهُ وخلى سَبيله، وَانْصَرف إِلَى أَهله فَسَأَلَهُمْ عَن حبه، فَأخْبر بأمرها وَقيل لَهُ: مَا نَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهت، ثُمَّ بلغه مَا صنعت، فَكتب إِلَيْهَا: إِنَّك قد صنعت مَا لم تصنع أُنْثَى فأعلميني بمقدمك أتلقاك ويتلقاك النّاس معي، فَلم تعلمه حَتَّى قدمت لَيْلًا وَهُوَ عِنْدَ ابْنَة عُبَيْد بْن كلاب، فَقَالَت: لَا وَالله لَا يُؤذن بِي اللَّيْلَة، فَلَمّا أصبح، أخبر بمكانها فَأَتَاهَا. خبر الحَجَّاج بْن عَبْد اللَّه الثَّعْلَبِيّ مَعَ عَبْد الْملك حَدَّثَنَا عدد من الشُّيُوخ مِنْهُم عَبْد الْوَاحِد أَبُو عُمَر هَذَا الْخَبَر عَلَى لَفظه، قَالَ: أَخْبَرَنَا ثَعْلَب، عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَبِيب، قَالَ: أَخْبرنِي زبير، قَالَ أَخْبرنِي عمي، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن الحَجَّاج الثَّعْلَبِيّ من أَشد النّاس عَلَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان فِي طَاعَة ابْن الزُّبَيْر مَعَ القيسية، فَلَمّا قتل ابْن الزُّبَيْر أرسل عَبْد الْملك يطْلب عَبْد اللَّه بْن الحَجَّاج فَلم يظفر بِهِ، فَلَمّا خَافَ عَبْد اللَّه بْن الحَجَّاج أَن يظفر بِهِ أقبل فَدخل عَلَى عَبْد الْملك فِي الْيَوْم الَّذِي يطعم فِيهِ أَصْحَابه فَمثل بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ، قَالَ: منع الْفِرَار فَجئْت نَحْوك هَارِبا ... جَيش يجر ومقنب يتلمع فَقَالَ: أَي الأخابث أَنْت؟ فَقَالَ: ارْحَمْ أصيبيتي هُديت فَإِنَّهُم ... حَجَل تدرج بالشّرِبَّة جوعُ فَقَالَ: أجاع اللَّه بطونهم، فَقَالَ: مَال لَهُمْ فِيمَن يظنّ جمعته ... يَوْمَ القليب فحيز عَنْهُمْ أجمع فَقَالَ: أَحْسبهُ كسب سوء، فَقَالَ: أدنوا لترحمني وَتقبل تَوْبَتِي ... وأراك تدفعني فَأَيْنَ المدفع قَالَ: إِلَى النَّار، فَقَالَ: ضَاقَتْ ثِيَاب الملبسين ونفعهم ... عني فألبسني فثوبك أوسع قَالَ: فَنزع مطرفا كَانَ عَلَيْهِ فطرحه عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: آكل؟ قَالَ: كلّ. فَلَمّا وضع يَده عَلَى الطَّعَام قَالَ: أمنت وَرب الْكَعْبَة، قَالَ: كنت من كنت إِلَّا عَبْد اللَّه بْن حجاج، قَالَ: فَأَنا عَبْد اللَّه بْن حجاج، قَالَ: أولى لَك. وَقد روى لَنَا هَذَا الْخَبَر عَنْ طَرِيق آخر، وَفِيه: أنَّ عَبْد اللَّه قَالَ لَهُ: لَا سَبِيل لَك إِلَى

من جود خالد بن عبد الله القسري

قَتْلِي، قَدْ جَلَست فِي مجلسك وأكلت طَعَامك ولبست من ثِيَابك. من جود خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص يَعْنِي النَّسَائيّ، قَالَ: وقرأت فِي كتاب عَنْ عَبْد الْملك بن قريب الْأَصْمَعِي، قَالَ: دَخَلَ أَعْرَابِي عَلَى خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي، فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، إِنِّي قَد امتدحتك ببيتين وَلست أنشدكهما إِلَّا بِعشْرَة آلَاف وخادم، فَقَالَ لَهُ خَالِد: قل. فَأَنْشَأَ يَقُولُ: لَزِمت نعم حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تكن ... سَمِعت من الْأَشْيَاء شَيئًا سوى نَعَمْ وَأنْكرت لَا حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تكن ... سَمِعت بهَا فِي سالف الدَّهْر والأمم فَقَالَ خَالِد بْن عَبْد اللَّه: يَا غُلَام! عشرَة آلَاف وخادمًا يحملهَا. وَدخل عَلَيْهِ أَعْرَابِي: فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قلت فِيك شعرًا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: أخالد إِنِّي لَمْ أزرك لحَاجَة ... سوى أنني عافٍ وَأَنت جواد أخالد إِن الْأجر وَالْحَمْد حَاجَتي ... فَأَيّهمَا أَتَانِي فَأَنت عماد فَقَالَ لَهُ خَالِد بْن عَبْد اللَّه: سل يَا أَعْرَابِي، قَالَ: وَقد جعلت الْمَسْأَلَة إليَّ أصلح اللَّه الْأَمِير؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مائَة ألف دِرْهَم، قَالَ: أكثرت يَا أَعْرَابِي قَالَ: فأحطك أصلح اللَّه الْأَمِير قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قَدْ حططتك تسعين ألفا، قَالَ لَه خَالِد: يَا أَعْرَابِي مَا أَدْرِي من أَي أمريك أعجب؟ فَقَالَ: لَهُ: أصلح اللَّه الْأَمِير: إِنَّك لمّا جعلت الْمَسْأَلَة إِلَى سَأَلتك عَلَى قدرك وَمَا تستحقه فِي نَفسك، فَلَمّا سَأَلتنِي أَن أحط حططت عَلَى قدري وَمَا أستأهله فِي نَفسِي، فَقَالَ لَه خَالِد: وَالله يَا أَعْرَابِي لَا تغلبني، يَا غُلَام، مائَة ألف، فَدَفعهَا إِلَيْهِ. شعر لبشار بْن برد فِي قينة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم المَوْصِليّ، قَالَ: كَانَتْ بِالْبَصْرَةِ لرجل من آل سُلَيْمَان بْن عليّ جَارِيَة، وَكَانَت محسنة بارعة الظّرْف وَالْجمال، وَكَانَ بشار بْن برد صديقا لمولاها ومداحا لَهُ، فَحَضَرَ مَجْلِسه وَالْجَارِيَة نغنيهم، فَشرب مَوْلَاهَا وسكر ونام ونهض للانصراف من كَانَ بالحضرة، فَقَالَت الْجَارِيَة لبشار: أُحِبَّ أَن نذْكر مَجْلِسنَا هَذَا فِي قصيدة مليحة وَترسل بهَا إليَّ عَلَى أَلا تذكر فِيهَا اسْمِي وَاسم سَيِّدي، فَقَالَ بشار وَبعث بهَا مَعَ رَسُوله إِلَيْهَا: وَذَات دلّ كَأَن الشَّمْس صورتهَا ... باتت تغني عميد الْقلب سكرانا إِن الْعُيُون الَّتِي فِي طرفها حور ... قتلننا ثُمَّ لَمْ يحيين قَتْلَانَا فَقلت: أَحْسَنت يَا سؤلي وَيَا أملي ... فأسمعيني جَزَاك اللَّه إحسانا

يَا حبذا جبل الريان من جبل ... وحبذا سَاكن الريان من كَانَا قَالَتْ: فَهَلا فدتك النَّفس أحسن من ... هَذَا لمن كَانَ صب الْقلب حيرانا يَا قوم أُذُنِي لبَعض الْحَيّ عاشقة ... وَالْأُذن تعشق قبل الْعين أَحْيَانًا فَقلت: أَحْسَنت أَنْت الشَّمْسُ طالعة ... أضرمت فِي الْقلب والأحشاء نيرانا فأسمعينا غناء مطربًا هزجًا ... يزِيد حبا محبا فِيك أشجانا يَا لَيْتَني كنت تفاحًا تمخضه ... وَكنت من قضب الريحان ريحانا حَتَّى إِذَا وجدت ريحي فأعجبها ... وَكنت فِي خلْوَة مثلت إنْسَانا فحركت عودهَا ثُمَّ انْثَنَتْ طَربا ... تبدي الترنم لَا تخفيه كتمانا أَصبَحت أطوع خَلْق اللَّه كلهم ... نفسا لأكْثر خَلْقٌ اللَّه عصيانا فَقلت: أطربينا يَا زين مَجْلِسنَا ... فغننا، أَنْت بِالْإِحْسَانِ أولانا فغنت الشّرْب صَوتا مؤنقًا رصفا ... يُذكي السرُور ويبكي الْعين أَحْيَانًا لَا يقتل اللَّه من دَامَت مودته ... وَالله يقتل أَهْلَ الْغدر من كَانَا قَالَ القَاضِي: قَول بشار فِي هَذَا الشّعْر: حَتَّى إِذا وددت ريحي فأعجبها، عَلَى لفظ التَّذْكِير وَالرِّيح مُؤَنّثَة، وَقد يكن فعل هَذَا فِي ضَرُورَة الشّعْر وَجعل الضَّمِير الَّذِي فِي - فأعجبها - عَائِدًا عَلَى الرّيح وَهِي مُؤَنّثَة، إِمَّا لِأَن تأنيثها لَيْسَ بحقيقي، وَإِمَّا لأنَّه أَرَادَ بقوله: ريحي نسيمي وَنَحْوه، وَقد جَاءَ فِي الشّعْر مثله كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَلا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدَقَهَا ... وَلا أَرض أبقل أبقالها وَقد اختف النحويون فِي الْفرق بَيْنَ التَّأْنِيث الْحَقِيقِيّ والتأنيث الَّذِي هُوَ غَيْر حَقِيقِيّ فَقَالَ بَعضهم: التَّأْنِيث الَّذِي هُوَ حَقِيقِيّ مَا لَا يُطلق لَفظه عَلَى مذكّره لاخْتِصَاص مؤنثه بِلَفْظِهِ كامرأة وناقة، وأمّا التَّأْنِيث الَّذِي لَيْسَ بحقيقي، فكقولهم شَاة للذّكر من هَذَا النَّوْع وَالْأُنْثَى، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: فَلَمّا أَضَاء الصبحُ قَامَ مبادرًا ... وَكَانَ انطلاق الشَّاة من حَيْث خيما قيل إِن الشَّاة هَا هُنَا الثور، وَقَوله دابَّة وحية لذكرهما وأنثاهما، وَهَذَا مَذْهَب الْكُوفِيّين، فَأَما البصريُّون فيَروْن الْفَصْل بَيْنَ هذَيْن التأنيثين ومقابلهما من التذكيرين من قَبْلَ اخْتِلَافهمَا من جِهَة الْفروج الْمُخْتَلفَة فيهمَا، كَرجل وَامْرَأَة وجمل وناقة وفتى وفتاة، وَفِي تذكير بشار الْمُضمر فِي قَوْله فأعجبها وجهٌ آخر حَسَن لَيْسَ فِيهِ مَا فِي الْوَجْه الَّذِي قدمنَا ذكره من الضَّرُورَة، وَهُوَ جَائِز مطّرد فِي النثر وَالشعر، وَلم أر أحدا مِمَّن يتعاطى هَذَا الشَّأْن من أَهْلَ الْعلم وَالْأَدب أَتَى بِهِ وَهُوَ أَن يكون لمّا قَالَ: وجدت ريحي فَلم يستو لَهُ التَّأْنِيث

عبيد الله بن يحيى بن خاقان يتنبأ بالأحداث

مَتَى رد الضَّمِير إِلَى الرّيح لِئَلَّا ينكسر الشّعْر وَيفْسد الْوَزْن رده إِلَى الْوُجُود، كَأَنَّهُ قَالَ: وجدت ريحي فأعجبها وجود ريحي، وَاعْتمد عَلَى دلَالَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ وجدت وعَلى الْمصدر الَّذِي هُوَ وجود، وَهَذَا صَحِيح مستفيض فِي كَلَام الْعَرَب، وَقَوْلهمْ: من كذب كَانَ شَرّا لَهُ، فَدلَّ قَوْلهم كذب عَلَى الْكَذِب، وَقد قَالَ اللَّه تَعَالَى جده: " وَلَا تحسبن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بل هُوَ شَرّ لَهُم " الْمَعْنى: لَا تحسبن الْبُخل، فدلّ يَبْخلُونَ عَلَى الْبُخْل، وَمن هَذَا الْبَاب: قَول الشَّاعِر: إِذَا نهِي السّفيِهُ جَرى إِلَيْهِ ... وخَالَف والسّفِيهُ إِلَّا خِلافِ أَرَادَ جرى إِلَى السّفَه، فَدلَّ قَوْله السفية عَلَى السَّفه، وَهَذَا بَاب وَاسع جدا. عُبَيْد اللَّه بْن يحيى بْن خاقَان يتنبأ بالأحداث حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم، أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عَنْ أَحْمَد بْن إِسْرَائِيل، قَالَ: صِرْتُ يَوْمَا إِلَى عُبَيْد اللَّه بْن يحيى بْن خاقَان فَلَمّا صرت فِي صحن الدَّار رَأَيْته مُضْطَجِعًا عَلَى مُصَلاه مُوليًا ظَهره بَاب مَجْلِسه، فهممتُ بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ لي الْحَاجِب: أُدْخُلْ فَإِنَّهُ منتبه، فَلَمّا سمع حِسِّي جلس، فَقلت: حَسِبْتُك نَائِما، قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي كُنت مفكراً، قلت: فيماذا أعزَّك اللَّه؟ قَالَ: فكرتُ فِي أَمر الدُّنْيَا وصلاحها فِي هَذَا الْوَقْت واستهوائها ودُرُورِ الْأَمْوَال وأمنِ السّبيل وعِزِّ الْخلَافَة فعلمتُ أَنَّهَا أمكر وَأنكر وأغدر من أَن يَدُوم صَفَاؤها لأحد، قَالَ: فدعوتُ لَهُ وانصرفت، فَمَا مَضَت أَرْبَعُونَ لَيْلَة مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم حَتَّى قتل المتَوَكل وَنزل بِهِ من النَّفْي مَا نزل. وتنبؤ آخر للْإِمَام أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ حَدثنِي بعض شُيُوخنَا: أنَّ بعضَهم حَدثهُ: أَنَّهُ لمّا كَانَ من خلع الْمُقْتَدِر فِي الْمرة الأولى مَا كَانَ، وبُويع عَبْد اللَّه بْن الْمُعتزِّ بالخلافة، دَخَلَ عَلَى شَيخنَا أبي جَعْفَر الطَّبَريّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: مَا الخَبر، وَكَيف تركتَ النّاس؟ أَوْ نَحْو هَذَا من القَوْل، فَقَالَ لَهُ: بُويع عَبْد اللَّه بْن المعتز، قَالَ: فَمَنْ رُشِّح للوزارة؟ قَالَ: مُحَمَّد بْن دَاوُد بْن الجَرَّاح، قَالَ: فَمن ذُكِر للْقَضَاء؟ قَالَ الْحَسَن بْن الْمُثَنى، فَأَطْرَقَ ملِيًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا أمرُ لَا يتمُّ وَلَا يَنْتَظِم، قَالَ: قلت لَهُ: فَكيف؟ فَقَالَ: كلّ واحدٍ من هَؤُلَاءِ الَّذين سَمّيت مُتَقَدِّمٌ فِي مَعْنَاهُ عَلَى الرّتْبة من أَبنَاء جنسه، وَالزَّمَان مُدبر والدُّنْيا مُوَليَّة، وَمَا أرى هَذَا إِلَّا إِلَى اضمحلال وانتقاص وَلَا يكون لمدته طول، فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ، وَرَأَيْت صِحَة قَوْله فِي أسْرع وَقت. صَدَّقه حِين كذب وكَذَّبه حِين صدق حَدَّثَنِي شيخ من أَهْلَ بَغْدَاد بجسر النّهَروان يُعرف بالْقُدَّامي ذهب عني اسْمه، وَكَانَ ذَا أدب وَمَعْرِفَة، بإسنادٍ ذهب عني حفظه:

أنَّ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الطاهري، قَالَ لمُحَمد بْن شُجَاع الثّلجي: أُرِيد أَن تُوَجِّه إليَّ رَجُلا من أفاضل أَصْحَابك أستكفيه شَيئًا من أموري، قَالَ: فأرسلتُ إِلَيْهِ بعضَ من كَانَ يَلزم مجلسي وَيَأْخُذ الْفِقْه عني، وَله دينٌ وعِلمٌ فَمضى إِلَيْهِ ثُمَّ عَاد إليَّ فَأَخْبرنِي أَنَّهُ كَلّفه تَفْرِقَة مَال دَفعه إِلَيْهِ فَصَرفهُ فِي وُجُوه الْبر، فَلَمّا كَانَ فِي الْعَام الْقَابِل سَأَلَ إِسْحَاق أَيْضا أَبَا عَبْد اللَّه بْن شُجَاع إِنْفَاذ الرَّجُل إِلَيْهِ فَفعل، فَلَمّا كَانَ من الْغَد أرسل الرَّجُل إِلَى ابْن شُجَاع يذكر أنَّ إِسْحَاق حَبسه، فارتاع لذَلِك وأتى إِسْحَاق فَقَالَ لَهُ: لَمْ حبست صاحبنا؟ قَالَ: هَذَا رجلٌ خائن، وَكَانَ ابْن شُجَاع قَبْلَ أَن يَلْقى إِسْحَاق قَدْ دَخَلَ عَلَى صَاحبه فِي محبسه فَسَأَلَهُ عَنْ قصَّته فَقَالَ لَهُ: أَعْطَانِي فِي الْعَام الْمَاضِي عشرَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ: اصرفها فِي ذَوي الْحَاجة بهَا، وفكّرتُ فِي الَّذِي آتيه فِيهَا، فحدَّثَتْني نَفسِي أَن آخذها لنَفْسي وَأسد بهَا خلتي وأنفقها على عيالي وأَرُمُّ بهَا حَالي، إِذْ كنتُ فِي عُسرة وضيق من الْمَعيشَة وعَلى حدٍّ من الْفَاقَة، وَقلت تَارَة: إِن كنت أصرفها فِيمَا يخصني موافقاَ لجملة مَا رسمه لي عَلَى طَريقَة من الْخِيَانَة إِذْ لَمْ يَأْمر لي بِهَذَا المَال، فَكَانَ مَا قَالَه يَقْتَضِي دَفعه إِلَى غَيْرِي، ثُمَّ قلت: إِن غَيْرِي إِنَّمَا أُرَجِّحُ أَنَّهُ مُحْتَاج أَوْ مُسْتَحقّ إِلَى ظَاهر وظَنِّ غَالب، وَأَنا من صُورَة أَمْرِي عَلَى يَقِين وَعلم بالباطن، وغَلّبت هَذَا عَلَى عزيمتي، فصرفتُ المَال فِي صَلَاح شئوني وَقَضَاء ديوني والتوسعة عَلَى عيالي، ثُمَّ رجعتُ إِلَيْهِ فَقَالَ لي: مَا صنعت؟ فَأَخْبَرته أَنِّي أتيت بِمَا كلفنيه وامتثلت أمره فِيهِ، فَقَالَ: امْضِ جَزَاك اللَّه خيرا، فَلَمّا كَانَ هَذَا الْعَام أَعْطَانِي مثل نَفسِي لَا عذر لَك فِي أَدَاء الْأَمَانَة واستفراغ الْجهد والطاقة والتنزه عَنِ السفسفة أَو الْخِيَانَة، فأتعبت نَفسِي وأعملت فكري وكددت جسمي فِي تحري أَهْلَ المسكنة وتوخي ذَوي الْحَاجة حَتَّى بلغت الْغَايَة، وصرفت المَال بأسره فِي هَذِهِ الطَّبَقَة، وَلم آخذ لنَفْسي مِنْهُ مِثْقَال ذرة ثُمَّ جِئْته فَقَالَ: مَا صنعت؟ فَأَخْبَرته أنني أتيتُ مَا أَمرنِي بِهِ، فَقَالَ كذبت وَأمر بِي إِلَى السجْن، فَقَالَ لَهُ ابْن شُجَاع: أهكذا كَانَ الْأَمر؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَهَل كَانَ غَيْر هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ ابْن شُجَاع: فَقلت لإسحاق: إِن عِنْدِي فِي هَذَا شَيئًا أذكرهُ لَك، وفصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة عَلَى وَجههَا، فنكث فِي الأَرْض وَقَالَ: قَدْ صدق الرجل فِيمَا ذكره وَأمر بِتَخْلِيَتِهِ، فَقلت لَهُ: كَيْفَ علمت بصدقه بَعْدَ مَا كَانَ مِنْك؟ قَالَ: أمْرُنَا هَذَا جَار عَلَى الإدغال وَخلاف الصِّحَّة، فَإِذا عوملنا بِمثل عَملنَا سَكَنا إِلَيْهِ وأحسنّا الظّن بعامله، وَإِذا أَتَى مَا يُخَالِفهُ أنكرناه ونفرنا عَنْهُ وَلم نصدق صَاحبه. قَالَ القَاضِي: حَدَّثَنِي الشَّيْخ بِهَذِهِ الْحِكَايَة بِلَفْظ غَيْر هَذَا عَبّرت عَنْهُ بلفظي وَلم أخل بِمَعْنَاهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.

المجلس التاسع عشر

الْمجْلس التَّاسِع عَشْر ائْتُونِي بسكين أشقه بَيْنكُمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا فَجَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِأَحَدِهِمَا: فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إِلَى سُلَيْمَانَ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِسِكِّينٍ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى لِلصُّغْرَى بِهِ "، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كُنْتُ أَقُولُ إِلا الْمُدْيَةَ. قَالَ القَاضِي: السِّكِّين والمدية مَعًا اسمان لهَذِهِ الأداة الَّتِي تذبح الْحَيَوَان ويُنحر بهَا وهما موجودان فِي كَلَام الْعَرَب، ولعلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يعرف السكين وَلم تكن من لُغَة قومه، فَأَما الْمُدية فمؤنثة بِحرف التَّأْنِيث الَّذِي فِيهَا وَهُوَ الْهَاء وَجَمعهَا مدى مثل زبية وزبى ورُقية ورقى وكنية وكنى، قَالَ الشَّاعِر: من كلّ كوماء سَحُوف إِذَا ... جَفّتْ من اللَّحْم مُدَى الجازِرِ وَقد اخْتلفت أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي تذكير السكين وتأنيثه، فَذكر بَعضهم وَأنكر تأنيثه، وأنثه آخَرُونَ وأبَوا تذكيره، وَأَجَازَ فريقٌ الْوَجْهَيْنِ مَعًا فِيهِ، وَهَذَا أولى الْأَقْوَال بِالصَّوَابِ عندنَا فِيهِ، لِأَن أُولِي الْمعرفَة بِهَذَا الْبَاب قَدْ حَكَوْها وَأتوا بشواهد رَدُّوها فِيهَا، وَأَنا ذاكرٌ مَا ورد فِي ذَلِكَ عَنْهُمْ بِمَشِيئَة اللَّه وتوفيقه. قَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتانيّ: السكين تُذكر، قَالَ: وَسَأَلت أَبَا زَيْدُ الأَنْصَارِيّ والأصمعي وَغَيرهمَا مِمَّن أدركنا فكلُّهم يذِّكره وينكر التَّأْنِيث، قَالَ: أَنْشدني الْأَصْمَعِي للهذلي: يُرى ناصحًا فِيمَا بَدَا وَإِذا خلا ... فَذَلِك سِكِّينٌ عَلَى الحَلْقِ حَاذِقُ وَقَالَ أَبُو هفان: قَالَ أَبُو عُمَر الْجرْمِي فِي تذكير حاذق: هَذَا كَمَا يَقُولُ شَفْرة قَاطع وحاذق، وَامْرَأَة حَائِض وعاقر، قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ: وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِمَنْزِلَة ذَلِكَ، لِأَن الْحيض لَا يكون إِلَّا للنِّسَاء، والحذقُ يكون للمذكر والمؤنث فَلَا بُد فِيهِ من الْهَاء إِذَا وصف بِهِ الْمُؤَنَّث، وَهَذَا الْبَيْت يدل عَلَى تذكير السكين. قَالَ القَاضِي: الَّذِي ذَكَرَه ابنُ الأنبَاريّ فِي تذكير لفظ حَائِض من العلَّة هُوَ مَذْهَب أَصْحَابه الكوفييَّن، وَقد خَالفه فِيهِ البصريّون عَلَى اخْتِلَاف بَينهم عَلَى تعْيين الْعلَّة سوى أَبِي حَاتِم السِّجستاني فَإِنَّهُ اخْتَار فِيهِ قَول الْكُوفِيّين، ولشرح هَذَا مَوضِع هُوَ أولى بِهِ. وَلَو سُلّم إِلَى ابْن الأنبَاريّ اعتلاله فِي حَائِض لَكَانَ مَا احْتج بِهِ أَبُو عُمَر الْجرْمِي من قَوْلهم شفرة قَاطع وحاذق كَافِيا فِيمَا استدلَّ بِهِ وَلم يَقُل أَبُو بَكْر فِي هَذَا شَيئًا وَلَا عرض للمعتل بطعن فِي اعتلاله، وَهَذَا

ذكاء عبد الملك وعلمه

يدلُّ عَلَى لُزُومه إِيَّاه وعجزه عَنِ الِانْفِصَال مِنْهُ، وَقد قَالَت الْعَرَب: امْرَأَة عاشق وَهَذَا مثل حاذق والعشق يكون للرِّجَال وَالنِّسَاء وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر الأنبَاريّ، قَالَ: وَأخْبرنَا أَبُو الْعَبَّاس، عَنْ سَلَمَة، عَنِ الْفراء، أَنَّهُ قَالَ: السكين ذَكَرَ وَقد أُنِّثت، وَأنْشد فِي التَّأْنِيث: فَعَيّثَ فِي السّنام غَدَاةَ قُرٍّ ... بِسِكيِّنٍ مُوَثّقة النِّصَابِ وَأنْشد فِي التَّأْنِيث أَيْضا: إِذَا أعْرَضَت مِنْهَا عَناقٌ رَأَيْته ... بسكيِّنِه من حولهَا يتلهف يلوذ بهَا عَنْ عينهَا لَا يَرُوعُها ... كَأَنَّهُ من حَوْبائه الموتُ يُصْرَفُ وَحَدَّثَنَا ابْن الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن الْحزَامِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوب، قَالَ ابْن الأنبَاريّ: وحَدثني أبي، عَنْ مُحَمَّد بْن الحكم، عَنِ اللحياني، قَالَ: السكين تذكر وتؤنث، قَالَ اللحياني: لَمْ يعرف الْأَصْمَعِي فِي السكين إِلَّا تذكير السكين وتأنيث السَّرَاوِيل، وأنشدنا عَنْ ثَعْلَب: ادنُ إِلَى الشّاةِ من خِيارها ... واخْرج السكين من قِمْجَارِها القمجار: الغلاف، فَهَذَا شَاهد التَّأْنِيث. ذكاء عَبْد الْملك وَعلمه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُريد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعُكْلي، عَنِ الحرمازي قَالَ: أنْشد رَجُل من جلساء عَبْد الْملك أبياتَ أُحَيْحَةَ بْن الْجُلاح: استغنِ أَوْ مُتْ وَلَا يَغْرُرْكَ ذُو نَشَبٍ ... من ابْن عَمٍّ وَلَا عَمٍّ وَلَا خَالِ يَلْوُون مَا عِنْدهم من حَقِّ جارهم ... وَعَن عَشيرتهم وَالْمَال بالوالي وأجْمَع وَلَا تَحْقِرَنْ شَيئًا تُجَمِّعُه ... وَلَا تُضَيِّعَهْ يَوْمَا عَلَى حَال إِنِّي مقيمٌ عَلَى الزَّوْراء أعْمُرُها ... إنّ الكريمَ عَلَى الأقوام ذُو المَال لَهَا ثَلاثُ بِئَارٍ فِي جَوَانبها ... وكُلُّها عَقِبٌ تُسْقَى بإقْبَالِ كلُّ النداء إِذَا ناديتُ يَخْذُلُني ... إِلَّا ندَائِي إِذَا ناديتُ يَا مَالِي مَا إِن يَقُولُ لشَيْء حِين أَفعلهُ ... لَا أستطيعُ وَلَا يَنْمُو عَلَى حَال فَقَالَ رَجُل من جلساء عَبْد الْملك، وَمَا الزَّوْرَاء يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَالله لَوْ أرْسلت فِيهَا الْأَشْقَر مَا ترك حَوْضًا، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْملك: إِن أَبَا عَمْرو كَانَ من رجال قومه وَكَانَ يرى أَنَّهُ عَنَى هَذَا، فَعجب النّاس من ذكاء عَبْد الْملك وَمن مَعْرفَته بكُنْيَةِ أحيحة. قصَّة غَرِيبَة ممّا كَانَ يرد عَلَى الْقُضاة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، فقَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن

التعليق على الخبر

مُحَمَّد بْن يزِيد، عَنْ أبي عَبْد اللَّه النباجي، قَالَ: دَخَلَ ابْن أبي ليلى عَلَى أبي جَعْفَر الْمَنْصُور وَهُوَ قاضٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: إِن القَاضِي قَدْ يرد عَلَيْهِ من طرائف النّاس ونوادرهم أُمُور، فَإِن كَانَ ورد عَلَيْكَ شَيْءٍ فَحَدَّثَنِيهِ، فقد طَال عليّ يومي، فَقَالَ: وَالله لَقَدْ ورد عليّ - مُنْذُ ثَلَاث - أمرٌ مَا ورد عليّ مثله، أَتَتْنِي عَجُوز تكَاد أَن تنَال الأَرْض بوجهها أَوْ تسْقط من انحنائها، فَقَالَت: أَنَا بِاللَّه ثُمَّ بِالْقَاضِي أَن يَأْخُذ لي بحقّي وَأَن يُعِينَني عَلَى خَصْمي، قلت: من خَصْمُك؟ قَالَتْ: ابْنَة أَخ لي، فدعوتُ بهَا فَجَاءَت امْرَأَة ضخمةُ ممتلئة فَجَلَست مُنْبهرة، فَقَالَت الْعَجُوز: أصلح اللَّه القَاضِي، إِن هَذِهِ ابْنَة أخي وَأوصى إليَّ بهَا أَبوهَا، فربَيْتُها فأحسنت التربية، ووليتها فأحسنت الْولَايَة، وأدّبْتها فأحسنتُ التَّأْدِيب، ثُمَّ زوجتها ابْن أَخ لي، ثُمَّ أفسدَتْ عليّ بَعْدَ ذَلِكَ زَوجي، فَقلت لَهَا: مَا تَقُولِينَ؟ قَالَتْ: يَأْذَن لي القَاضِي أَن أُسفر فَأخْبر بحجتي؟ فَقَالَت: يَا عدوة الله تريدين أَن تسفري فتفتني القَاضِي بجمالك، فَقَالَ: فأطرقت خوفًا من مقالتها، وَقلت: تكلمي، فَقَالَت: صَدَقَتْ أصلح اللَّه القَاضِي، هِيَ عَمّتي أوصى بِي إِلَيْهَا أَبِي وربتني فأحسنت وَوَلِيَتْنِي فأحسنت وأدّبتني فأحسنت، وزوَّجتْني ابْن عَم لي وَأَنا كارهة، فَلم أزل حَتَّى عطف اللَّه بَعْضنَا عَلَى بَعْض واغتبط كلُّ وَاحِد منا بِصَاحِبِهِ، ثُمَّ نشأت لَهَا بنيَّة فَلَمّا أدْركْت حَسَدتْني عَلَى زَوجي ودأبت فِي فَسَاد مَا بيني وَبَينه، وحَسّنت ابْنَتهَا فِي عينه حَتَّى عَلِقَها وخطبها إِلَيْهَا، فَقَالَت: لَا أزَوجك حَتَّى تجْعَل أَمر امْرَأَتك بيَدي فَفعل، فَأرْسلت إليَّ: أَي بنية إِن زَوجك قَدْ خطب إِلَى ابْنَتي فأبيت أَن أزَوجهُ حَتَّى يَجْعَل أَمرك فِي يَدي فَفعل، وَقد طَلقتك ثَلَاثًا، فَقلت صبرا لأمر اللَّه وقضائه، فَمَا لَبِثت أَن انْقَضتْ عدتي فَبعث إليَّ زَوجهَا: إِنِّي قَدْ علمتُ ظلم عَمَّتك لَك وَقد أخلف اللَّه عَلَيْكَ زوجا فَهَل لَك فِيهِ؟ قلت: من هُوَ؟ قَالَ: أَنَا، وَأَقْبل يخطبني فَقلت: لَا وَالله حَتَّى تجْعَل أَمر عَمّتي فِي يَدي فَفعل، فَأرْسلت إِلَيْهَا: إِن زَوجك قَدْ خطبني فأبيتُ عَلَيْهِ إِلَّا أَن يَجْعَل أمرَك فِي يَدي فَفعل، وَقد طَلقتك ثَلَاثًا، فَلم يزل حَيا حَتَّى توفى رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ ألبثْ أَن عطف اللَّه قلب زَوجي الأوّل فَتذكر مَا كَانَ من موافقتي إِيَّاه فَأرْسل إليَّ: هَلْ لَك فِي الْمُرَاجَعَة، قلت: قَدْ أمكنك ذَلِكَ، فخطبني فأبيت إِلَّا أَن يَجْعَل أَمر بنتهَا فِي يَدي فَفعل، فطلقتها ثَلَاثًا، فَوَثَبت الْعَجُوز وَقَالَت: أصلح اللَّه القَاضِي، فعلتُ هَذَا مرّة وفعلتْه هِيَ مرّة بَعْدَ مرّة، فَقلت: إِن اللَّه تبَارك وَتَعَالَى لَمْ يُوَقِّت لهَذَا وَقْتًا، وَقَالَ: " وَمن بغي عَلَيْهِ لينصرنه الله ". التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر قَالَ القَاضِي: إِن زَوْجَ الْعمة لَمْ يكن لَهُ أَن يتَزَوَّج ابْنَة أَخِيهَا وَهِي فِي حباله، وَأرى أنَّ الْجَارِيَة أَرَادَت أَن يتَوَلَّى التَّفْرِيق بَينه وَبَينهَا، اسْتِيفَاء مِنْهَا ومجازاة لَهَا عَلَى فعلهَا، وَقد رُويت لَنَا هَذه الْقِصَّة عَنْ طَرِيق آخر وفيهَا مُخَالفَة لهَذِهِ الرِّوَايَة فِي السَّنَد والمتن مَعًا، وَأَنا

ذاكرها ليستوفي النَّاظر فِي كتاب هَذَا الْأَمريْنِ جَمِيعًا بِمَشِيئَة اللَّه وعونه. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن دَاوُد بْن سُلَيْمَان النَّيْسَابُوريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن سهل السّامري بفلسطين، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الإِمَام، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْخَلِيل، قَالَ: أَخْبرنِي رُوح بْن حَرْب السِّمْسار، قَالَ: كنت فِي دَار الطيالسة فَإِذا الْهَيْثَم بِهِ عَدِيّ حَاضر، قَالَ: سَمِعت مُحَمَّد بْن أبي ليلى يَقُولُ: كنت يَوْمَا فِي مجْلِس الْقَضَاء فوردت على عَجُوز وَمَعَهَا جَارِيَة شَابة، قَالَ: فَذَهَبت الْعَجُوز تَتَكَلَّم قَالَ: فَقَالَت الشَّابَّة: أصلح اللَّه القَاضِي، مُرْها فلتسكُتْ حَتَّى أتكلمَ بحُجّتي وحُجّتِها، فَإِن لحنتُ بِشَيْء فلتردَّ عليّ، فَإِن أذِنْتَ لي سَفَرْت، قَالَ: فَقلت: أسفري، قَالَ: فَقَالَت الْعَجُوز: إِن سَفَرَتْ قضيتَ لَهَا عليّ، قَالَ: قلت: أسْفِري، فأسْفَرت وَالله عَنْ وَجْهٍ مَا ظننتُ أَن يكون مثله إِلَّا فِي الْجنَّة، فَقَالَت: أصلح اللَّه القَاضِي، هَذِهِ عَمّتي، مَاتَ أبي وَتَرَكَنِي يتيمة فِي حجرها فربتني فأحسنت التربية، حَتَّى إِذَا بلغتُ مبلغ النِّسَاء قَالَتْ: يَا بنية! هَلْ لَك فِي التَّزْوِيج؟ قلت: مَا أكره ذَلِكَ يَا عمَّة، هَكَذَا كَانَ؟ قَالَت الْعَجُوز: نَعَمْ. قَالَتْ فخطبني وُجُوه أَهْلَ الْكُوفَة فَلم ترض لي إِلَّا رَجُلا صيرفيًّا فزوجتني، فَكُنَّا كأننا ريحانتان مَا يظنّ أَن اللَّه تَعَالَى خَلَق غَيْرِي، وَلَا أظنّ أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلْقٌ غَيره، يَغْدوُ إِلَى سُوقه وَيروح عليّ بِمَا رزقه اللَّه، فَلَمّا رَأَتْ الْعمة موقعه مني وموقعي مِنْهُ حَسَدَتْنا عَلَى ذَلِكَ، قَالَتْ: فَكَانَت لَهَا ابْنَة فسَوَّقْتها وهيأتها لدُخُول زَوجي عليّ فَوَقَعت عينه عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا عَمَّة! هَلْ لَك أَن تزوجيني ابْنَتك؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِشَرْط، قَالَ لَهَا: وَمَا الشَّرْط؟ قَالَتْ: تُصَيَّر أَمر ابْنَة أخي إليَّ، قَالَ: قَدْ صيرتُ أمرهَا إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَإِنِّي قَدْ طلقتُها ثَلَاثًا بتَّةً، وزوجت ابْنَتهَا من زَوجي، فَكَانَ يَغْدُو عَلَيْهَا وَيروح كَمَا كَانَ يَغْدُو عليّ وَيروح. فَقلت لَهَا: يَا عمَّة! تأذنين لي أَن أنتقل عَنك، قَالَتْ: نَعَمْ، فانتقلت عَنْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ لعمتي زوجٌ غَائِب فَقدم فَلَمّا توَسط منزله، قَالَ: مَالِي لَا أرى رَبِيبتَنا؟ قَالَتْ تزوجتْ وَطَلقهَا زوجُها فانتقلت عَنَّا، فَقَالَ لَهَا: عَلَيْنَا من الْحق مَا نُعَزِّيها بمصيبتها، قَالَتْ: فَلَمّا بَلغنِي مَجِيئه تهيأتُ لَهُ وتَسَوَّقْتُ، قَالَتْ: فَلَمّا دَخَلَ عليّ سلم وعَزَّاني بمصيبتي ثُمَّ قَالَ لي: إِن فِيَّ بَقِيَّة من الشَّبَاب فَهَل لَك أَن أتزوجك؟ قلت: مَا أكره ذَاك وَلَكِن عَلَى شَرط، قَالَ لي: وإيش الشَّرْط؟ قلت: تُصَيّر أَمر عَمّتي بيَدي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ صيرت أمرهَا بِيَدِك، قلت: فَإِنِّي قَدْ طَلقتهَا ثَلَاثًا بَتَّة، قَالَتْ: وقدِم بثَقَلِه عليّ من الْغَد وَمَعَهُ سِتَّة آلَاف دِرْهَم، فَأَقَامَ عِنْدِي مَا أَقَامَ ثُمَّ إِنَّهُ اعتلَّ فُتوفي، فَلَمّا انقضتْ عِدَّتي جَاءَ زَوجي الأوّل يُعَزِّيني بمصيبتي فَلَمّا بَلغنِي مَجِيئه تهيأتُ لَهُ وتَسَوَّقْت، فَلَمّا دَخَلَ عليّ قَالَ: يَا فُلَانَة! إِنَّك لتعلمين أنَّكَ كنت أحبَّ النّاس إليَّ وأعزهم عليّ، وَقد حل لَنَا الرّجْعَة فَهَل لَك فِي ذَلِكَ؟ قلت: مَا أكره ذَلِكَ وَلَكِن تُصَيِّر أَمر ابْنَة عمِّي بيَدي، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ فعلتُ صيرتُ أَمر ابْنَة عَمَّتك بِيَدِك، قلت: فَإِنِّي قَدْ طَلقتهَا ثَلَاثًا بَتَّة، أصلح اللَّه

أخاف أن يكون في قبولهما وهق رقبتي

القَاضِي، فَرَجَعت إِلَى زَوجي، فَمَا استعداؤُها عليّ، فَقَالَ ابْن أبي ليلى: وَاحِدَة بِوَاحِدَة والبادي أظلم، قومِي إِلَى مَنْزِلك. قَالَ ابْن أبي ليلى: فَحدثت الْهَادِي بذلك، فَقَالَ: وَيحك يَا مُحَمَّد! مَا سَمِعت حَدِيثا أحسن من هَذَا، أَنَا أُحِبَّ أَن أحدث بِهِ الخيزران، يَعْنِي أمه. قَالَ القَاضِي: وقصة هَذَا الْخَبَر كقصة الْمُقدم لَهُ فِي أَنَّهُ لَا يحل الْجمع بَيْنَ الْمَرْأَة وعمتها فِي النِّكَاح، وَأَن التمَاس هَذِهِ الْجَارِيَة من خاطبها تمليكها طَلَاق عَمَّتهَا وبنتها من حباله لمّا وَصفنَا أَنَّهَا أَرَادَت أَن تشفي غيظها وتتولى التَّفْرِيق بَينهَا وَبَين زَوجهَا بِنَفسِهَا مُقَابلَة لَهَا عَلَى مَا ابْتَدَأتهَا بِهِ من إساءتها. أَخَاف أَن يكونَ فِي قَبُولهما وَهَقُ رقبتي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حسان، قَالَ: قَالَ لي عمي: قَدِمَ مُحَمَّد بْن قَحْطَبَةَ الْكُوفَة فَقَالَ: أحتاج إِلَى مُؤَدِّب يؤدبُ أَوْلَادِي، حافظٌ لكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عَالِمٌ بِسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبالآثار وَالْفِقْه والنحو وَالشعر وَأَيَّام النّاس فَقيل لَهُ: مَا يجمع هَذِهِ الْأَشْيَاء إِلَّا دَاوُد الطَّائِي وَكَانَ مُحَمَّد بْن قَحْطَبَةَ ابْن عَم دَاوُد، فَأرْسل إِلَيْهِ يعرض ذَلِكَ عَلَيْهِ ويُسَنِّي لَهُ الأرزاقَ والفائدة، فَأبى داودُ ذَلِكَ، فَأرْسل بدرة فِيهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم، وَقَالَ لَهُ: اسْتَعِنْ بِهِا عَلَى دهرك، فَردهَا، فَوجه إِلَيْهِ ببدرتين مَعَ غلامين لَهُ مملوكين، وَقَالَ: إِن قَبِل البدرتين فأنتما حُرَّان. فمضيا بهما إِلَيْهِ فَأبى أن يقبلهما فَقَالَا لَهُ: فِي قبولهما عتق رقابنا، فَقَالَ لَهما: إِنِّي أَخَاف أَن يكونَ فِي قَبُولهما وَهَقُ رقبتي فِي النَّار، رُدَّاها إِلَيْهِ وقولا لَهُ أَن يَرُدَّهما عَلَى من أخَذْتُهما مِنْهُ أولى من أَن تُعْطِيني إيَّاهُمَا. لَوْ عُلِم السّبَب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الْمبرد فَجَاءَهُ رجلٌ من وُلِد ابْن الزيات فَشَكا إِلَيْهِ أَمر ابنٍ لَهُ خُدع وَلَيْسَ يدْرِي أَيْنَ هُوَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ جميل الْوَجْه، وشاور أَبَا الْعَبَّاس فِي أمره، فَلَمّا قَامَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أنشدنا الرياشي: وَلَو كَانَ هَذَا الضَّبُّ لَا ذَنَبٌ لَهُ ... وَلَا كُشْيةٌ مَا مَسّهُ الدَّهْر لامِسُ وَلكنه من أَجْلِ طِيب ذُنَيبِه ... وكُشْيَتِه دَبّتْ إِلَيْهِ الدهارِسُ قَالَ القَاضِي: الْكُشية: الشحمة، وَيُقَال: إِن عَليّ جنبتي ظَهره من جهتي عُنُقه إِلَى ذَنبه شَحْمتين ممتدتين إِلَيْهِ هما كُشْيتاه، وجمع الكشية كُشى مثل كُلية وكلى، قَالَ الشَّاعِر: إِنَّك لَوْ ذُقت الْكُشَى بالأكباد ... لَمْ تُرسلِ الضَّبَّة إعداء الوَادِ والدهارس والدهاريس: الدَّوَاهِي، قَالَ الشَّاعِر: حَنّتْ إِلَى النَّخْلَةِ القصوى فَقلت لَهَا ... حِجْرٌ حرَام أَلا تِلْكَ الدَّهارِيس

بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن توليه القضاء

بِأَيّ شَيْءٍ استحقَّ سَعِيدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن توليه الْقَضَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السّرّاج بنَيْسَابور، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن رشيد، قَالَ: قلت للهيثم بْن عَدِيّ: بِأَيّ شَيْءٍ اسْتحق سعيدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن أَن ولاه المهديُّ الْقَضَاء وأنزله مِنْهُ تِلْكَ الْمنزلَة الرفيعة؟ قَالَ: إِن خَبره فِي اتِّصَاله بالمهدي طريف، إِن أحببتَ شَرَحْتُه لَك، قلت: قَدْ وَالله أحببتُ ذَلِكَ، قَالَ: اعْلَم أَنَّهُ وافي الرّبيع الْحَاجِب حِين أفضت الخلافةُ إِلَى الْمهْدي، فَقَالَ: اسْتَأْذن لي على أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ لَهُ الرّبيع: يَا هَذَا! وَمَا حَاجَتك؟ قَالَ: أَنا رجل رَأَيْت لأمير الْمُؤمنِينَ أعزه الله رُؤْيا صَالِحَة، وَقد أَحْبَبْت أَن تذكرني لَهُ، قَالَ: لَهُ الرّبيع: يَا هَذَا! إِن الْقَوْم لَا يصَّدِّقُون مَا يرونه لأَنْفُسِهِمْ فَكيف مَا ترَاهُ لَهُمْ، فاحتل بحيلة هِيَ أَرَدُّ عَلَيْكَ من هَذِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِن لَمْ تخبره بمكاني سألتُ من يُوَصِّلُنْي إِلَيْهِ، فَأَخْبَرته أَنِّي سَأَلتك الْإِذْن لي عَلَيْهِ فَلم تَفْعل، فَدخل الرّبيع عَلَى المهديّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّكُم قَدْ أطمعتم النّاس فِي أَنفسكُم، فقد احْتَالُوا لَكُمْ بِكُل ضرب، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: هَكَذَا تصنع الْمُلُوك فَمَا ذَلِكَ؟ قَالَ: رَجُل بِالْبَابِ يزْعم أَنَّهُ رَأَى لأمير الْمُؤمنِينَ أيّده اللَّه رُؤْيا حَسَنَة، وَقد أحَبَّ أَن يَقُصَّها عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ المهديُّ: وَيحك يَا ربيع! إِنِّي وَالله أرى الرُّؤْيَا لنَفْسي فَلا تَصِحُّ لي، فَكيف إِذَا ادَّعاها لي من لعلّه قَد افتعلها؟ قَالَ: قَدْ وَالله قلتُ لَهُ مثل ذَلِكَ فَلم يقبل، قَالَ: فهات الرَّجُل، قَالَ: فَأدْخل عَلَيْهِ سعيد بن الرَّحْمَن وَكَانَ لَهُ رواءٌ وجمال ومروءة ظَاهِرَة ولحية عَظِيمَة وعارضةٌ ولسان، فَقَالَ لَهُ المهديُّ: هَات بَارك اللَّه عَلَيْكَ، مَاذا رَأَيْت؟ قَالَ: رأيتُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ آتِيَا أَتَانِي فِي مَنَامِي فَقَالَ لي: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ المهديُّ يعِيش ثَلَاثِينَ سنة فِي الْخلَافَة، وَآيَة ذَلِكَ أَنَّهُ يرى فِي ليلته هَذِهِ فِي مَنَامه كَأَنَّهُ يُقَلِّبُ يواقيتَ ثُمَّ يَعُدُّها فيجدها ثَلَاثِينَ ياقوتة كَأَنَّهَا قَدْ وُهبت لَهُ، فَقَالَ لَهُ المهديُّ: مَا أحسن مَا رَأَيْت! وَنحن نمتحن رُؤْيَاك فِي ليلتنا الْمُقبلَة عَلَى مَا خيبرتنا، فَإِن كَانَ الْأَمر عَلَى مَا ذَكَرَت أعطيناك مَا تُرِيدُ، وَإِن كَانَ الْأَمر بِخِلَاف ذَلِك لم نعاقبك لعلمنا أَن الرُّؤْيَا رُبمَا صدقت وَرُبمَا أخلفت، قَالَ لَهُ سَعِيد: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَاذَا أصنع أَنَا السَّاعَة إِذَا صرت إِلَى منزلي وعيالي وَأَخْبَرتهمْ أَنِّي كنت عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أكْرمه اللَّه ثُمَّ رجعت صِفْرًا؟ قَالَ لَهُ الْمهْدي: فَكيف نعمل؟ قَالَ: يُعَجِّل لي أَمِير الْمُؤمنِينَ أعزه اللَّه مَا أحبّ وأحلف لَهُ بِالطَّلَاق أَنِّي قَدْ صدقتُ، فأمَرَ لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وَأمر أَن يُؤخذ مِنْهُ كَفِيل ليحضُر فِي غَيْر ذَلِكَ الْيَوْم، فَقبض المَال وَقيل: من يكفُلُ بك، فَمد عينه إِلَى خَادِم لَهُ حَسَن الْوَجْه والزي فَقَالَ: هَذَا يكفلُ بِي، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أتكفل بِهِ يَا تَمَلُّك، فاحمرّ وخجل وَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فكفل بِهِ وَانْصَرف سَعِيد بْن عَبْد الرَّحْمَن بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَلَمّا كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة رأى المهدى مَا ذكر لَهُ سعيد حرفا حرفا، وَأصْبح سعيد فَوَافى الْبَاب وَاسْتَأْذَنَ فَأذن لَهُ، فَلَمّا وَقعت

التعليق على هذه القصة

عين الْمهْدي عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ مصداق مَا قلت لَنَا؟ قَالَ لَهُ سَعِيد: وَمَا رَأْي أَمِير الْمُؤمنِينَ شَيئًا؟ فضجع فِي جَوَابه، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: امْرَأَتي طَالِق إِن لَمْ يكن رأيتَ شَيئًا، قَالَ لَهُ الْمهْدي: وَيحك! مَا أجرأك عَلَى هَذَا الْحلف بِالطَّلَاق! قَالَ: لِأَنِّي أَحْلف عَلَى صِدْق، قَالَ لَهُ المهديُّ: فقد وَالله رَأَيْت ذَلِكَ مُبينًا، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: اللَّه أكبر، فأنجز لي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا وَعَدتنِي، قَالَ لَهُ: حُبًّا وكرامة، ثُمَّ أَمر لَهُ بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَعشرَة تخوت ثيابًا من كلّ صنف، وَثَلَاث مراكب من أنفس دوابّه مُحلاة، فَأخذ ذَلِكَ وَانْصَرف، فلحق بِهِ الْخَادِم الَّذِي كفل بِهِ، وَقَالَ لَهُ: سألتُك بِاللَّه هَلْ كَانَ لهَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي ذكرتَها من أصل؟ قَالَ لَهُ سَعِيد: لَا وَالله، قَالَ الْخَادِم: كَيْفَ وَقد رَأَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذكرتَه لَهُ؟ قَالَ هَذِهِ من المخاريق الْكِبَار الَّتِي لَا يأبه لَهَا أمثالكم، وَذَلِكَ أَنِّي لمّا ألقيت إِلَيْهِ هَذَا الْكَلَام خطر بِبَالِهِ وَحدث نَفسه وَأسر بِهِ قلبه وشغل بِهِ فكره، فساعة نَام خُيِّل لَهُ مَا حَلَّ فِي قلبه وَمَا كَانَ شغل بِهِ فكره فِي الْمَنَام، فَقَالَ لَهَ الْخَادِم: قَدْ حلفتَ بِالطَّلَاق، قَالَ: طلقت وَاحِدَة وَبقيت معي عَلَى ثِنْتين فأزيدُ فِي مهرهَا عشرَة دَرَاهِم وأتخلّص وأحصل عَلَى عشرَة آلَاف دِرْهَم وَثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَعشرَة تخوت من أَصْنَاف الثِّيَاب وَثَلَاث مراكب فرهة، فبهت الْخَادِم فِي وَجهه وتعجّب من ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ سَعِيد: قَدْ صَدَقْتُك وَجعلت صِدقي لَك مكافأتك عَلَى كفالتك بِي فاسْتُر عليّ، فَفعل ثُمَّ طلبه المهديُّ لمنادمته، وحَظِيَ عِنْدَهُ وقَلّده القضاءَ عَلَى عَسْكَر المهديّ فَلم يزل على ذَلِكَ إِلَى أَن مَاتَ. فَهَذَا كَانَ السَّبَب فِي وُصلة سَعِيد بْن الرَّحْمَن بأمير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي، فَهَل سَمِعت بِأَعْجَب من ذَلِكَ يَا دَاوُد؟ قَالَ: لَا. التَّعْلِيق عَلَى هَذِهِ الْقِصَّة قَالَ القَاضِي: قَول سَعِيد فِي هَذَا الْخَبَر أَنَّهُ طَلّق وَاحِدَة وَبقيت مَعَه عَلَى اثْنَتَيْنِ وَأَنه يزِيد فِي مهرهَا عشرَة دَرَاهِم، من كَلَام الحَمْقى العامَّة وجُهّالهم، لأنَّ مُطِلق امْرَأَته الْمَدْخُول بهَا وَاحِدَة إِن راجَعَها فِي عِدَّتها فَلا مَهْرَ عَلَيْهِ لَهَا، وَإِن تزوَّجها بَعْدَ بينونتها فَعَلَيهِ الصَدَاق مبتدئًا غَيْر زَائِد عَلَى قدرٍ مِنْهُ مُتَقَدم، وَفِي حمل سَعِيد نَفسه فِي هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى الْكَذِب وخاصة فِي الرُّؤْيَا وإطلاع الْخَادِم عَلَى قَبِيح مَا أَتَاهُ، وَكذبه فِيمَا حَكَاهُ، وجَعْله هَذِا مُكَافَأَة لَهُ عَلَى كفَالَته بِهِ، واعتماده مسترسلا إِلَيْهِ فِي سَتْر رذيلته عَلَيْهِ، دَلِيل عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِمحل من الغَرَق، وَأَن عِظَمَ لحيته كَانَ عَلَى شكلٍ يدل عَلَى السّفاهة والحمق. وَقد حَدَّثَنَا عليّ بْن الفَضْل بْن طَاهِر البلْخيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَيُّوب بْن يزِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَعْقُوب، قَالَ حَدَّثَنَا مُصْعَب بْن خَارِجَة، عَنْ أَبِيه، من كَانَتْ لحيته طَوِيلَة فَلا يلم فِي عقله شَيْءٍ. حَدَّثَنَا اللَّيْث بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْث المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعت عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود، يُقَالُ: نظر

حكاية عن القاضي العوفي، وكان طويل اللحية

عَليّ بن حجر إِلَى أبي الدَّرْدَاء، قَالَ: وَهُوَ طَوِيل اللِّحْيَة فَأَنْشَأَ يَقُولُ: لَيْسَ بطُولِ اللَّحَى ... يَسْتَوجِبُون القَضَا إِن كَانَ هَذَا كَذَا ... فالتّيْسُ عَدْلٌ رِضَا قَالَ: ومكتوب فِي التَّوْرَاة: لَا يَغُرَّنك طول اللحى، فَإِن التيس لَهُ لحية. حِكَايَة عَنِ القَاضِي الْعَوْفِيّ، وَكَانَ طَوِيل اللِّحْيَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري، قَالَ: أَخْبرنِي السَّاجِي بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: اشْترى رَجُل من أَصْحَاب القَاضِي الْعَوْفِيّ جَارِيَة فغاضبته وَلم تطعه، فَشَكا ذَلِكَ إِلَى الْعَوْفِيّ فَقَالَ: أنفذها إِلَيّ حَتَّى أكلمها فأنفذها إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَزُوبُ يَا لَعُوبُ يَا ذَاتَ الجلابيب، مَا هَذَا التمنع المجانب لِلْخَيْرَاتِ، وَالِاخْتِيَار للأخلاق المَشْنُوءات، فَقَالَت لَهُ: أيد اللَّه القَاضِي: لَيْسَ لي فِيهِ حَاجَة فَمُرْه يَبِيعني، فَقَالَ لَهَا: يَا مُنْيَةَ كُلِّ حَلِيم، وبَحّاثٍ عَنِ اللطائف عليم، أما علمت أَن فرط الاعتياصات من الموموقات عَلَى طالبي المودات والباذلين لكرائم المصونات مؤديات إِلَى عدم المفهومات؟ فَقَالَت الْجَارِيَة: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أصلح لهَذِهِ العثنونات عَلَى صُدُور أَهْلَ الركاكات من المواسي الحالقات، وضحكت وَضحك أَهْلَ الْمجْلس. وَكَانَ الْعَوْفِيّ عَظِيم اللِّحْيَة. قَالَ القَاضِي: الْعَوْفِيّ هُوَ الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَطِيَّة بْن سعيد بْن جُنَادَة، ويكنى أَبَا عَبْد اللَّه من أَهْلَ الْكُوفَة وَقد سمع سَمَاعا كثيرا، غَيْر أَنَّهُ ضَعِيف فِي الحَدِيث، قَدِمَ بَغْدَاد وَولي قَضَاء الشرقية بَعْدَ حَفْص بْن غياث ثُمَّ نقل من الشرقية فولى قَضَاء عَسْكَر الْمهْدي فِي خلَافَة هَارُون ثُمَّ عزل، فَلم يزل بِبَغْدَاد إِلَى أَن تُوُفّي بهَا سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ من أعظم النّاس لحية. الْمجْلس الْعشْرُونَ حَدِيث إِن يصدق ذُو العقيصتين يدْخل الْجنَّة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ الصَّالِحِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ يُوسُفَ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَزِيعٍ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَعَثَ بَنُو سَعِيدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فيا ابْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنِّي سَائِلُكَ وَمُغْلِظٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: أنْشدك لله إِلَهَكَ وَإِلَهَ مَنْ كَانَ

كتاب قيصر إلى عمر رضي الله عنه بشأن النخلة

قَبْلَكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، آللَّهُ بَعَثَكَ إِلَيْنَا رَسُولا؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نعم، قَالَ: فنشدة مِثْلَهَا، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نعم، قَالَ: فنشدة مِثْلَهَا، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ شَرَائِعَ الإِسْلامِ يُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا يُنَاشِدُهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَلا إِلَهَ إِلا اللَّهَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ وَلا أَزِيدُ وَلا أَنْقُصُ، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين وَلَّى: " إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ ". قَالَ: فَأَتَى إِلَى بَعِيرِهِ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللاتُ وَالْعُزَّى، فَقَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ، اتَّقِ الْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ، قَالَ: وَيْلَكُمْ، وَاللَّهِ مَا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولا وَأَنْزَلَ كِتَابًا لينقذكم بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمَةً، قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ ذَكَرَ كَلِمَةً مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. قَالَ القَاضِي رَحمَه اللَّه: لَمْ يذكر لَنَا مَا الْكَلِمَة، ولعلّها ذهبتْ عَنْ حفظ بَعْض الروَاة أَوْ سَقَطت من كِتَابه، وَيَنْبَغِي أَن يكون مَعْنَاهُ أعظم بركَة أَوْ مَا أشبه هَذَا من الْوُجُوه، وَفِي هَذَا الْخَبَر: مَا أبان عَنْ حُسْنِ دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ووطاءة كَنَفه ولين جَانِبه، وإجابته إِلَى الحَلِف لما فِيهِ من تسكين نفس مُسَاجله، وتأميله زَوَال الريب عَنْ قَلْبه، وَهُوَ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أصدق النّاس فِي قِيله، وأوفاهم أَمَانَة فِيمَا هُوَ بسبيله. كتاب قَيْصر إِلَى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بشأن النَّخْلَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَنْصُور بْن أبي الجهم الشيعي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُس بْن الْحَارِث الطَّائِفِي، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: كتب قَيْصر إِلَى عُمَر: أخْبرك أَن رُسُلي أَتَتْنِي من قبلك فَزَعَمت أنَّ قِبلَكم شَجَرَة ليستْ بخليقةٍ لشَيْء من الْخَيْر، تَخْرج مثل آذان الْحُمُر ثُمَّ تشقق عَنْ مثل اللُّؤْلُؤ أَحْسبهُ قَالَ: الْأَبْيَض ثُمَّ تخضر فَتكون مثل الزمرد الْأَخْضَر ثُمَّ تحمرّ فَتكون مثل الْيَاقُوت الْأَحْمَر، ثُمَّ تينع وتنضج فَتكون كأطيب فالوذج أُكِل، ثُمَّ تيبس فَتكون عصمَة للمُقِيم وَزَادا للْمُسَافِر، فَإِن تكن رُسُلي صَدَقتني فَلا أرى هَذِهِ الشَّجَرَة إِلَّا من شجر الْجنَّة. فَكتب إِلَيْهِ عُمَر؟ " من عَبْد اللَّه عُمَر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى قَيْصر ملك الرّوم: إِن رُسُلَك قَدْ صدقتك، هَذِهِ الشَّجَرَة عندنَا هِيَ الشَّجَرَة الَّتِي أنبتها اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَرْيَم حِين نَفَست بِعِيسَى ابْنهَا عَلَيْهِ السّلام فَاتق اللَّه وَلَا تتَّخذ عِيسَى إِلَهًا من دون اللَّه، فَإِن مَثَل عِيسَى عندنَا كَمثل آدم، خَلقه من تُراب ثُمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون، الحقُّ

بعض ما تلحن فيه العامة الزمرد والزبرجد

من رَبك فَلا تكن من الممترين ". بَعْض مَا تلحن فِيهِ الْعَامَّة الزُّمرد والزَّبَرجد قَالَ القَاضِي رَحمَه اللَّه: قَدْ رُوينا هَذَا الْخَبَر من طرق شَتَّى، وَفِي بَعْضهَا أَلْفَاظ لَيست فِي بَعْض، وَقَوله الزمرد الْعَامَّة يخطئون فِيهِ فَيَقُولُونَ زُمُرُّد بِالدَّال الْمُهْملَة، وَيَقُولُونَ الزبرجذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَالَّذِي حَكَاهُ أَهْلَ اللُّغَة عَنِ الْعَرَب أَنَّهُ الزمرد بالإعجام والزبرجد بالإبهام عَلَى عكس مَا يَقُوله من لَا عَلَمُ بِهِ من الْعَوام، وَذكر بَعْض أَهْلَ الْمعرفَة أنَّ من فضل النّخل أنَّ جَمِيعه فِي بِلَاد الإِسْلام، وَأَنه لَيْسَ فِي بِلَاد الشّرك مِنْهُ شَيْءٌ. من شُهَدَاء الْهوى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن الفَرَج الرياشي، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن سَلام، قَالَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَتًى من بني أُميَّة من ولدَ سَعِيد بْن عُثمان بْن عَفّان وَكَانَ يختلفُ إِلَى قَيْنة لبَعض قُرَيْش، وَكَانَ طَريرًا ظريفًا، وَكَانَت الْجَارِيَة تُحِبُّه وَلَا يَعْلَمُ بحبها، فَأَرَادَ يَوْمَا أَن يشكو ذَلِكَ، فَقَالَ لبَعض إخوانه: امضِ بِنَا إِلَى فُلَانَة، وانطلقا فدخلا إِلَيْهَا وتوافى فتيَان من قُرَيْش وَالْأَنْصَار، فَلَمّا جَلَست مجلسها واحتجرت بمزهرها، قَالَ الأمويُّ تغنين: أحبكمُ حبًّا بكلِّ جوارحي ... فَهَل لكمُ عِلْم بِمَا لكمُ عِنْدي وتَجْزُون بالودِّ المضاعَفِ مثله ... فَإِن الْكَرِيم من جزى الْوُدَّ بالْوُدِّ قَالَتْ نَعَمْ، وَأحسن مِنْهُ، وغنت: للَّذي ودنا الْمَوَدَّة بالضع ... ف وفَضْل البَادِي بِهِ لَا يُجَازَى لَو بدا بِنَا لكم مَلأ الأر ... ض وأقطارَ شامِها والْحِجَازَا فَعجب الْقَوْم من سرعته مَعَ شغل قلبه، وَمن ذهنها وَحسن جوابها فازداد بهَا كَلَفًا، وصَرَّح عَمَّا فِي قلبه فَقَالَ: أَنْت عُذْر الْفَتى إِذا هتك السِّت ... ر وَإِن كَانَ يُوسُفَ المَعْصُومَا من يَقُمْ فِي هَوَاكِ يَقْصُر عَنِ اللّو ... مِ وإمّا زَالَ كَانَ مَلُوما وَبلغ عُمَر بْن عبد الْعَزِيز وَهُوَ عَلَى المَدِينَةِ خَبَرهَا، فاشتراها بِعشر حدائق ووهبها لَهُ وَمَا يُصلحها، فَمَكثت عِنْدَهُ حولا ثُمَّ مَاتَت فرثاها، فَقَالَ: قَدْ تمنيت جنَّة الْخلد بالجه ... د فأُدخلْتُها بِلَا اسْتِئْهَالِ ثُمَّ أخرجتُ إِذْ تطعمت بالنع ... مة مِنْهَا والمَوْتُ أَحْمَدُ حَالِيَ وَكرر هَذَا الشّعْر مرَارًا وقَضَى، فدُفنا مَعًا، فَقَالَ أشعب: هَذَان شَهِيدا الْهوى انحرو

من نزاهة حفص بن غياث في الحكم

اعَلَى قَبره سبعين نحرة كَمَا كبر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قبر حَمْزَة سبعين تَكْبِيرَة. قَالَ: وَبلغ أَبَا حَازِم فَقَالَ: لَوْ مُحِبٌّ فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يبلغ فِي الْحبّ هَذَا الْمبلغ فَهُوَ وَلِيٌّ. من نزاهة حَفْص بْن غياث فِي الحكم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مخلد بن حَفْص حَفْص العَطَّار: قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى ابْن اللَّيْث، قَالَ: بَاعَ رَجُل من أَهْلَ خُرَاسَان جمالا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم من مَرْزُبان المجوسيِّ وَكيل أم جَعْفَر، فمطله بِثمنِهَا وحبسه، فطال ذَلِكَ عَلَى الرَّجُل فَأتى بَعْض أَصْحَاب ابْن غياث فشاوره، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقل لَهُ: أَعْطِنِي ألف دِرْهَم وأحيلُ عَلَيْكَ بِالْمَالِ الْبَاقِي وأخرجُ إِلَى خُراسان، فَإِذا فعل هَكَذَا فالقني حَتَّى أُشير عَلَيْكَ، فَفعل الرَّجُل وأتى مرزبان فَأعْطَاهُ ألف دِرْهَم، فَرجع إِلَى الرَّجُل فَأخْبرهُ، فَقَالَ: عُد إِلَيْهِ فَقل لَهُ: إِذَا ركبت غَدا فطريقُك عَلَى القَاضِي تَحْضُرُ وأوكِّل رَجُلا يقبض المَال وَأخرج، فَإِذا جلس إِلَى القَاضِي فادِّع عَلَيْهِ مَا بَقِي لَك من المَال، فَإِذا أقرّ حَبسه حَفْص وَأخذت مَالك، فَرجع إِلَى مرزبان فَسَأَلَهُ فَقَالَ: انتظرني بِبَاب القَاضِي، فَلَمّا ركب من الْغَد وثب إِلَيْهِ الرَّجُل فَقَالَ: إِن رَأَيْت أَن ننزل إِلَى القَاضِي حَتَّى أوكِّل بِقَبض المَال وَأخرج فَنزل مرزبان فتقدَّما إِلَى حَفْص بْن غياث فَقَالَ الرَّجُل: أصلح اللَّه القَاضِي، لي عَلَى هَذَا تِسْعَة وَعِشْرُونَ ألف دِرْهَم، قَالَ حَفْص: مَا تَقول يَا مجوسيُّ؟ قَالَ: صَدَق أصلَح اللَّه القَاضِي، قَالَ: مَا تقولُ يَا رَجُل فقد أقرّ لَك؟ قَالَ: يُعطيني مَالِي أصلح اللَّه القَاضِي، فَأقبل حَفْص عَلَى الْمَجُوسِيّ فَقَالَ: مَا تَقول؟ قَالَ: هَذَا المَال عَلَى السيدة، قَالَ: أَنْت أَحمَق، تقرُّ ثُمَّ تَقول: عَلَى السيدة، مَا تَقول يَا رَجُل؟ قَالَ: أصلح اللَّه القَاضِي، إِن أَعْطَانِي مَالِي وَإِلَّا حبستَه، قَالَ حَفْص: مَا تَقول يَا مجوسيّ؟ قَالَ: المالُ عَلَى السيدة، قَالَ: خُذُوا بِيَدِهِ إِلَى الْحَبْس، فَلَمّا حُبس بلغ أم جَعْفَر الْخَبَر فَغضِبت فَبعثت إِلَى السِّنْدي: وَجِّه إليَّ مرزبان، وَكَانَت الْقُضاة تَحبس الْغُرَمَاء فِي الْجِسر، فعَجِلَ السِّنْدي فَأخْرجهُ، وَبلغ حفصًا الْخَبَر فَقَالَ: أَحْبِسُ أَنَا ويُخرِج السِّنْدي، لَا جَلَست مجلسي هَذَا أَوْ يُردُّ مرزبان إِلَى الْحَبْس، فجَاء السندي إِلَى أم جَعْفَر فَقَالَ: اللَّه اللَّه فِي، أَنه حَفْص بْن غياث وأخاف من أَمِير الْمُؤمنِينَ أنْ يَقُولُ: بِأَمْر من أخرجته، رُدِّيهِ إِلَى الْحَبْس وَأَنا أكَلمُ حفصًا فِي أمره فأجابته فَرجع مرزبان إِلَى الْحَبْس، فَقَالَت أم جَعْفَر لهارون: قاضيك هَذَا أَحمَق، حبس وَكيلِي واستَخف بِهِ فمرهُ لَا ينظر فِي الحكم ويولي أمره إِلَى أَبِي يُوسُف، فَأمر لَهَا بِكِتَاب وَبلغ حفصًا الْخَبَر، فَقَالَ للرجل: أحضرني شُهودًا حَتَّى أُسَجِّلَ لَك عَلَى المجوسيِّ بِالْمَالِ، فَجَلَسَ حَفْص فسجّل عَلَى الْمَجُوسِيّ وَورد كتاب هَارُون مَعَ خَادِم، فَقَالَ: هَذَا كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: مَكَانك نَحْنُ فِي شَيْءٍ حَتَّى نَفرُغ مِنْهُ، فَقَالَ: كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: انْظُر مَا يُقَالُ لَك، فَلَمّا فرغ حَفْص من السِّجل أَخذ الْكتاب من الْخَادِم فقرأه، فَقَالَ: اقْرَأ عَلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ السّلام وَأخْبرهُ أنَّ كِتَابه ورد وَقد أنفذْتُ الحكم،

لا يستحيي أحدكم من التعلم

فَقَالَ الْخَادِم: قَدْ وَالله عرفتُ مَا صنعتَ، أبيتَ أَن تَأْخُذ كتاب أَمِير الْمُؤمنِينَ حَتَّى تَفْرغ مِمَّا تُرِيدُ، ووَالله لأخبرنّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، بِمَا فعلت، فَقَالَ لَهُ حَفْص: قل مَا أَحْبَبْت، فجَاء الْخَادِم فَأخْبر هَارُون فَضَحِك، وَقَالَ: مُرْ لحفص بْن غياث بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، فَركب يحيى بْن خَالِد فَاسْتقْبل حفصًا منصرفًا من مجْلِس الْقَضَاء، فَقَالَ: أيُّها القَاضِي! قَدْ سررتَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْيَوْم وَأمر لَك بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم، فَمَا كَانَ السَّبَب فِي هَذَا؟ قَالَ: تَمّم اللَّه سُرُور أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأحسن حفظه وكلاءته، مَا زدتُ عَلَى مَا أفعل كلَّ يَوْمَ، قَالَ: عليّ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا أعلم إِلَّا أَن يكون سَجّلْتُ عَلَى مرزبان الْمَجُوسِيّ بِمَا وَجب عَلَيْهِ، فَقَالَ يحيى بْن خَالِد: بِهَذَا سُرَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ حَفْص: الْحَمد لله كثيرا، فَقَالَت أم جَعْفَر لهارون: لَا أَنَا وَلَا أَنْت إِلَّا أَن تعزل حفصًا، فَأبى عَلَيْهَا، ثُمَّ ألحّت عَلَيْهِ فَعَزله عَنِ الشرقية وولاه الْقَضَاء على الْكُوفَة فَمَكثَ عَلَيْهَا ثَلَاث عشرَة سنة، وَكَانَ أَبُو يُوسُف لمّا وُلّي حَفْص قَالَ لأَصْحَابه: تَعَالَوْا نكتبْ نوادرَ حَفْص، فَلَمّا وَردت أَحْكَامه وقضاياه عَلَى أَبِي يُوسُف قَالَ لَهُ أَصْحَابه: أَيْنَ النَّوَادِر الَّتِي زعمت نكتبها؟ فَقَالَ: وَيحكم! إِن حفصًا أَرَادَ اللَّه فوفّقه. قَالَ ابْن مخلد: قَالَ أَبُو عليّ: سَمِعت أَبَا عليّ حَسَن بْن حَمَّاد سجادة يَقُولُ: قَالَ حَفْص بْن غياث: وَالله مَا وليت الْقَضَاء حَتَّى حَلّت لِيَ الْميتَة، وَمَات يَوْمَ مَاتَ وَلم يُخَلّف درهما وَخلف عَلَيْهِ تسع مائَة دِرْهَم دَيْنًا، قَالَ سجادة: وَكَانَ يُقَالُ: خُتِم الْقَضَاء بحفص بْن غياث. لَا يَسْتَحْيي أَحَدُكُمْ من التّعَلُّم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْفَتْح القلانسي، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن أبي عَمْرو الشَّيْبَانيّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن الطَّائِي، قَالَ: قَالَ لي عَبْد اللَّه بْن زَيْدُ القَيْسيّ: بَينا أَنَا وَاقِف عَلَى رَأس ابْن هُبَيْرة وَبَين يَدَيْهِ سِمَاطَانِ من وُجُوه النّاس إِذْ أقبل شَاب لَمْ أر فِي مثل جماله وكماله، حَتَّى دنا من ابْن هُبَيْرة فَسلم عَلَيْهِ بالإمرة فَقَالَ: لَهُ: أصلح اللَّه الْأَمِير، امرؤٌ قدحته كُربة، وأوحشته غُربة، ونأتْ بِهِ الدَّار، وَحل بِهِ عَظِيم، خَذَله أخلاؤُه، وشمت بِهِ أعداؤه، وأسلمه الْبعيد، وجفاه الْقَرِيب، فَقُمْت مقَاما لَا أرى لي مُعَولا ولَا حازبا إِلَّا الرَّجَاء لله تَعَالَى وحُسن عَائدة الْأَمِير، وَأَنا أصلح اللَّه الْأَمِير مِمَّن لَا تُجهل أسرته وَلَا تضيع حرمته، فَإِن رَأَى الْأَمِير - أصلحه اللَّه - أَن يسدَّ خَلتي وَيجْبر خصاصتي يفعل، فَقَالَ ابْن هُبَيْرة: مَنِ الرَّجُل؟ قَالَ: من الَّذِينَ يَقُولُ لَهُم الشَّاعِر: فَزَارةُ بَيت العزِّ والعزُّ فِيهِمُ ... فَزَارَة قَيسٍ حَسْبَ قيس فَعَالُها لَهَا الْعِزَّة القصوى مَعَ الشّرف الَّذِي ... بناه لقيس فِي الْقَدِيم رِجالُها وَهل أحدٌ إِن مدَّ يَوْمَا بكفه ... إِلَى الشَّمْسِ فِي مجْرى النُّجُوم ينالها لهيهات مَا أعيا القرونَ الَّتِي مَضَت ... مآثر قيس واعتلاها فعالها

اللحانون من الخاصة

فَقَالَ ابْن هُبَيْرة: إِن هَذَا لأدبٌ حَسَنٌ مَعَ مَا أرى من حَداثة سنك، فكم أَتَى لَك من السن؟ قَالَ: تسع وَعِشْرُونَ سنة، فلحن الْفَتى، فَأَطْرَقَ ابْن هُبَيْرة كالشامت بِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَو لَحّان أَيْضا مَعَ جميل مَا أَتَى عَلَيْهِ منطقك؟ شِنْتَه وَالله بأقبح الْعَيْب، قَالَ: فأبصر الْفَتى مَا وَقع فِيهِ، فَقَالَ: إِن الْأَمِير أصلحه اللَّه عظُم فِي عَيْني وملأت هيبته صَدْرِي، فَنَطَقَ لساني بِمَا لَمْ يعرفهُ قلبِي، فوَاللَّه إِلَّا مَا أقالني الْأَمِير عثرتي عِنْدَمَا كَانَ من زلتي، فَقَالَ ابْن هُبَيْرة: وَمَا عَلَى أَحَدكُمْ أَن يتَعَلَّم الْعَرَبيَّة فيقيم بهَا أوَدَه، ويَحْضُرَ بهَا سُلْطَانَه، ويُزَيّن بهَا مشهده، وينوءَ بهَا عَلَى خصمة، أَوَ يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَن يكون لِسَانه مثل لِسَان عَبده أَوْ أكّاره؟ وَقد أمرنَا لَك بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَإِن كَانَ سَبَقَك لسَانك وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِبَعْض مَا أوصلناه إِلَيْك، وَلَا يستحيي أَحَدُكُمْ من التَّعَلُّم، فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذَا اللِّسَان لَكَانَ الإِنْسَان كالبهيمة الْمُهْملَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَوْ كالصورة الممثلة، قتل اللَّه الشَّاعِر حَيْث يَقُولُ: ألم تَرَ مِفْتَاح الْفُؤاد لسانَهُ ... إِذَا هُوَ أبْدى مَا يَقُولُ من الفَمِ وكائِنْ ترى من صاحبٍ لَك مُعْجَب ... زيادتُه أَوْ نَقْصُه فِي التَّكَلُّم لسانُ الْفَتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه ... فَلم يبْق إِلَّا صُورَة اللَّحْم والدمِ قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: فَإِن رَأَى الْأَمِير يفعل، فَالْأَحْسَن: فَإِن رَأَى فعل، أَوْ فَإِن ير يفعل ليتفق لفظ الشَّرْط وَلَفظ الْجَزَاء، وَفعل الْجَزَاء مُسْتَقْبل فِي الْمَعْنى وَإِن أَتَى بِهِ بِلَفْظ الْمُضِيّ، ومجيئه مختلط عَلَى مَا فِي هَذَا الْخَبَر صَوَاب، وَقَالَ زُهَيْر: وَمن هاب أَسبَاب المنايا يَنَلْنَهُ ... وَلَو نَالَ أَسبَاب السَّمَاء بسُلّمِ اللّحّانُون من الخَاصَّة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عليّ الخَطِبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَد البربوني، قَالَ: قَالَ أَبُو أَيُّوب يَعْنِي سُلَيْمَان بْن أبي شيخ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَاد: كَانَ الْوَلِيد بْن عبد الْملك بْن مَرْوَان لَحّانًا كَأَنِّي اسْمَعْهُ عَلَى مِنْبَر النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أهل المَدِينَةِ. قَالَ: وَقَالَ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان لرجل من قُرَيْش: إنَّك لرجل لَوْلَا أنَّكَ لحّان، فَقَالَ: وَهَذَا ابْنك الْوَلِيد يلحن، قَالَ: لَكِن ابْني سُلَيْمَان لَا يلحن، قَالَ الرَّجُل: وَأخي فلَان لَا يلحن. قَالَ أَبُو أَيُّوب: كَانَ ربيعَة الرَّأْي لحّانًا، وَمَالك بْن أنس لَحّانًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَن السُّلَميّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَازِنِيِّ، قَالَ: سمع أَبُو عَمْرو أَبَا حنيفَة يتَكَلَّم فِي الْفِقْه ويلحن فأعجبه كَلَامه واستقبح لحنه، فَقَالَ: إِنَّهُ لَخطابٌ لَوْ ساعده صَوَاب، ثُمَّ قَالَ لأبي حنيفَة: إِنَّك أحوجُ إِلَى إصْلَاح لسَانك من جَمِيع النّاس.

جاريتان تغلبان عيسى بن أبان

جاريتان تغلبان عِيسَى بن أبان حَدَّثَنِي طَاهِر بْن مُسْلِم الْعَبْدي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعت عِيسَى بْن أبان، يَقُولُ: كنت عِنْدَ الْمَأْمُون فاستأذنته فِي الْخُرُوج إِلَى الْبَصْرَة إِلَى عيالي، فَقَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ أشوق إِلَيْكَ مِنْك إِلَى عِيَالك، وَلَكِن وَجِّه إِلَيْهِم فيحملوا، ثُمَّ قَالَ لخادم عَلَى رَأسه: قل لَهُمْ: يحثّوا، قَالَ: فَإِذا غلامٌ أَمْرَد قَدْ أقبل لَمْ تَرَ عَيْني أحسنَ مِنْهُ مُغَلَّفٌ بالغالية يخْطر حَتَّى جَاءَ فَسلم، فَقَالَ لَهُ: مرْحَبًا ثُمَّ أجلسه على فَخذه الْيُمْنَى، ثُمَّ أقبل آخر مثله فأقعده عَلَى فَخذه الْيُسْرَى فَجعلت أنظر إِلَى حُسنهما، فَقَالَ لي: يَا عِيسَى! بأيِّهما ترى أَن أبدأ، فَقلت: أعيذ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِاللَّه، لَقَدْ نَزَّهَهُ اللَّه عَنْ هَذَا وصانه، قَالَ: يَا عِيسَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي ذهبتَ إِلَيْهِ، إنَّهُمَا جاريتان اشْتَهيْتُهما فِي زيّ الغلمان، فَقلت: أَمِير الْمُؤمنِينَ أَعلَى عينا، فَقَالَت الأولى: وَالله يَا عِيسَى مَا تحسن الْحُكُومَة، ألم تسمع إِلَى قَول الله عز وَجل: " السَّابِقُونَ الْأَولونَ " قَالَ: فبقيتُ وَالله مُتَعَجِّبا وتمنّيت أَنِّي كنتُ اهتديت إِلَى مَا قَالَت بِجَمِيعِ مِلْكي، ثُمَّ قَالَت الْأُخْرَى: لَا وَالله يَا عِيسَى، مَا تبصر من الْحُكُومَة شَيئًا، ألم تسمع إِلَى قَول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى " فتركته مَعَهُمَا وَخرجت. أَبُو نواس يَأْخُذ معنى حَدِيث شرِيف وينظمه شعرًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو ثُمَامَةَ الْقَيْسِيُّ، قَالَ: فَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ عِنْدَهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، فَتَحَدَّثَ رَوْحٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْقُلُوبُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ". قَالَ أَبُو نُوَاسٍ: أَنْتَ لَا تَأْنَسُ بِي وَسَأَجْعَلُ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْظُومًا بِشِعْرٍ، قُلْتُ: فَإِنْ قُلْتَ ذَلِكَ فَجِئْنِي بِهِ، فَجَاءَنِي فَأَنْشَدَنِي: يَا قَلْبُ رِفْقًا، أَجَدٌّ مِنْكَ ذَا الْكَلَفُ ... وَمَنْ كَلِفْتَ بِهِ جَانٍ كَمَا تَصِفُ وَكَانَ فِي الْحَقِّ أَنْ يَهْوَاكَ مُجْتَهِدًا ... بِذَاكَ خَبَّرَ مِنَّا الْغَابِرُ السَّلَفُ إِنَّ الْقُلُوبَ لأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ ... لِلَّهِ فِي الأَرْضِ بِالأَهْوَاءِ تَعْتَرِفُ فَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا فَهُوَ مُخْتَلِفٌ ... وَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهُوَ مُؤْتَلِفُ حَدَّثَنَا الصولي: قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يزِيد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْن مهدويه، قَالَ: حَدَّث أَبُو حَفْص عُمَر بْن إِبْرَاهِيم الْعَدوي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمنْهَال - إِلَّا أَنَّهُ قَالَ الضَّرِير - قَالَ: حَدَّثَنِي يزِيد بْن زُرَيْع: وسَاق الْخَبَر، إِلَّا أَنَّهُ زَاد فِيهِ قَالَ يزِيد بْن زُرَيْع: وَكَانَ أَبُو نواس صَبِيًّا.

شرب نبيذا ثم لا يدري أطلق امرأته أم لا، وحكم ذلك

شرب نبيذًا ثُمَّ لَا يدْرِي أطلق امْرَأَته أم لَا، وَحكم ذَلِكَ حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أيّوب بْن زَاذَان الْقُرْبَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد التّميميّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن معري، قَالَ: جَاءَ رَجُل إِلَى أبي حنيفَة، فَقَالَ: إِنِّي شربتُ البارحة نبيذًا فَلا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: الْمَرْأَة امرأتُك حَتَّى تستيقن أنَّكَ طَلَقْتَها، ثُمَّ أَتَى سُفْيَان الثّوريّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! إِنِّي شربتُ البارحة نبيذًا فَلا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: اذْهَبْ فَرَاجعهَا فَإِن كنت قَدْ طَلقتهَا فقد راجعتها وَإِن لَمْ تَكُ طَلّقْتها لَمْ تَضُرَّك الْمُرَاجَعَة شَيئًا، ثُمَّ أَتَى شريك بْن عَبْد اللَّه، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! إِنِّي شربت البارحة نبيذا وَلَا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: اذْهَبْ فَطلقهَا ثُمَّ رَاجعهَا، ثُمَّ أَتَى زُفَر بْن الْهُذيْل، فَقَالَ: يَا أَبَا الْهُذيْل! إِنِّي شربت البارحة نبيذا وَلَا أَدْرِي طلقتُ امْرَأَتي أم لَا، قَالَ: سَأَلت غَيْرِي؟ قَالَ: أَبَا حنيفَة، قَالَ: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: الْمَرْأَة امرأتُك حَتَّى تستيقن أنَّكَ قَدْ طَلقتهَا، قَالَ: الصَّوَاب قَالَ، قَالَ: فَهَل سألتَ غَيره؟ قَالَ: سُفْيَان الثّوريّ، قَالَ: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: اذْهَبْ فَرَاجعهَا فَإِن كنت قَدْ طَلقتهَا فقد راجعتها وَإِن لَمْ تَكُ طَلّقْتها لَمْ تَضُرك الْمُرَاجَعَة شَيئًا، قَالَ: مَا أحسن مَا قَالَ! قَالَ: فَهَل سَأَلتَ غَيره؟ قَالَ: شريك بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: فَمَا قَالَ لَك؟ قَالَ: اذْهَبْ فَطلقهَا ثُمَّ رَاجعهَا، فَضَحِك زفر وَقَالَ: لأضربنَّ لَك مثلا، رَجُل مَرَّ بمثغب يسيل فَأصَاب ثَوْبه، قَالَ لَك أَبُو حنيفَة: ثوبُك طَاهِر وصلاتك تَامَّة حَتَّى تستيقن أَمر المَاء، وَقَالَ لَك سُفْيَان: اغسله فَإِن يَك نجسا فقد طَهُر، وَإِن يَك نظيفاً زَاد نظافة، وَقَالَ لَك شريك: اذْهَبْ فبُلْ عَلَيْهِ ثُمَّ اغسله. حذف ألف الِاسْتِفْهَام قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: وَلَا أَدْرِي طلقت امْرَأَتي أم لَا، والفصيح وَلَا أَدْرِي أطلقت، غَيْر أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِع بِغَيْر ألف اكْتِفَاء بِدلَالَة أم، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: تَرُوح من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... وماذا يَضُرُّك لَوْ تنتِظر وَقَالَ آخر: لَعَمْرك مَا أَدْرِي وَإِن كنتُ داريا ... شُعَيْبُ بْن سَهْم أم شُعَيب بْنِ مِنْقَرِ وَقَالَ ابْن أبي ربيعَة: فوَاللَّه مَا أَدْرِي وَإِن كنتُ داريا ... بِسبع رَمَيْن الجَمْر أم بِثَمَانِ وَقد أجَاز قَوْمٍ حذف ألف الِاسْتِفْهَام وَإِن لَمْ تكن أم فِي الْكَلَام، وتأولوا مثل هَذَا فِي الْقُرْآن، كَقَوْلِه " هَذَا رَبِّي " واستشهدوا بقول الْهُذلِيّ: رَفَوْني وَقَالُوا يَا خُوَيلدُ لمْ تُرَع ... فقلتُ وأنكرتُ الْوُجُوه: هُمُ هُمُ؟ وَقَول ابْن أبي ربيعَة: ثُمَّ قَالُوا: تحبها؟ قلت بهراًعدد الرَّمْل والحصى والتُّرابِ وَأنكر هَذا بعض نظار

المجلس الحادي والعشرون

النَّحْوِيين، إِذْ فِيهِ عِنْدَهُ التباس الْخَبَر والاستخبار، وَقَالَ: الأبيات عَلَى الْخَبَر دون الِاسْتِفْهَام. وَقد أحسن زُفَر فِي فَصله بَيْنَ هَؤُلاءِ الثَّلَاثَة فِيمَا أفْتَوا بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَفِيمَا ضربه لسائله من الأمثل، وأمّا قَول أبي حنيفَة فَهُوَ محضُ النّظر ومَرُّ الْحق، وَلَا يجوز أَن يحكم عَلَى امْرِئ فِي زَوجته بِطَلَاقِهَا بَعْدَ صِحَة زوجيِّتها، ويقين الْعلم بِثُبُوت النِّكَاح بَينه وَبَينهَا، بظنِّ عَرَض لَهُ وحُسْبان أَنَّهُ أوقع الطَّلَاق فِي حالٍ يتَغَيَّر فِيهَا الْفَهم، ويزولُ مَعهَا التَّمْيِيز، وَهُوَ أبعد عِنْدَ ذَوي الأفهام، من أضغاث الأحلام، ورؤيا الراقد فِي الْمَنَام، من حَال الصِّحَّة الَّتِي تلْزم فِيهَا الْأَحْكَام، وتجري فِيهَا الأقلام، فأمّا مَا قَالَ سفيانُ الثّوريّ فَإِنَّهُ أَشَارَ بالاستظهار والتوقفة وَالْأَخْذ بالحزم والحيطة وَهَذِه طَريقَة أَهْلَ الْوَرع الْمُتَّقِينَ، وَذَوي الِاسْتِقْصَاء عَلَى أنفسهم من أَهْلَ الدِّين، وفُتيا أَبِي حنيفَة فِي هَذَا عين الْحق وجُلُّ الْفِقْه، وَأي هَاتين المحجّتين سلك من نزلت بِهِ هَذِهِ النَّازِلَة، وعرضَتْ لَهُ هَذِهِ الحادثةُ فَهُوَ مُصيبٌ محسن عَلَى مَا بَينا فِيهَا من الفَضْل بَيْنَ المنزلتين، وأمّا مَا أفتى بِهِ شريك وتعجّب زفُر مِنْهُ وَاقع فِي موقعه، وَلَا وَجه فِي الصِّحَّة لمّا أَشَارَ بِهِ، وَقد أصَاب زُفرٌ أَيْضا فِي الْمثل الَّذِي ضربه لَهُ، وَأرى أنَّ شَرِيكا توهم أنَّ الرّجْعَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا مَعَ تحقق الطَّلَاق، فَأمر باستئناف تَطْلِيقَة لتصح الرّجْعَة بعْدهَا، وَهَذَا مَا لَا يحِيل فَسَاده، وَلَو كَانَ كَمَا نرى أَنَّهُ توهمه لما أثرت الرّجْعَة إِلَّا فِي التطليقة الَّتِي أوقعهَا وتيقنها دون الَّتِي أشْفق من تقدمها وَهُوَ عَلَى غَيْر يَقِين مِنْهَا، وَلَو أنَّ رَجُلا وكّل رَجُلا فِي طَلَاق زَوجته، ثُمَّ غَابَ الْوَكِيل فأشفق من تطليقه إِيَّاهَا عَلَيْهِ، وَأشْهد على رَجعتهَا وَهُوَ غَيْر عَالم بوقوعها، ثُمَّ تبين أَنَّهَا وَقعت قَبْلَ مُرَاجعَته لصحّت رجعته، وَكَذَلِكَ لَوْ كتب إِلَى زَوجته بِطَلَاقِهَا إِذَا وصل إِلَيْهَا كِتَابه، ثُمَّ أشهد عَلَى الرّجْعَة بَعْدَ الْوُصُول وَقبل انْقِضَاء الْعدة، لكَانَتْ الرّجْعَة صَحِيحَة لوقوعها بَعْدَ الطَّلَاق الَّذِي لَمْ يكن عَالما بِهِ.؟ الْمجْلس الْحَادِي وَالْعشْرُونَ حَدِيث إِنَّكُم لن تسعوا النّاس بأموالكم حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأُبَلِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَلَفٍ الْجِيلانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي: قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ ذِي حَمَّامٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ الْحَنَفِيِّ وَيُكَنَّى أَبَا الْفَضْلِ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ". التَّعْلِيق عَلَى الحَدِيث قَالَ القَاضِي: هَذَا الَّذِي ذكره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أحسن الْكَلَام وألطفه، وأبلغ بَيَان وأشرفه، وَلَقَد أرشد أمته إِلَى الْحَاضِر المتيسر، وَالْمَوْجُود الَّذِي لَيْسَ بمستصعب وَلَا مُتَعَذر، وَقد جَاءَ عَنْهُ وَعَن السّلف بعده فِي حسَن الْخلق، وَبسط الْوَجْه، وتوطئة الكَنَف،

عيش الفقراء وحساب الأغنياء

وَجَمِيل المعاشرة، وكريم الصُّحْبَة، مَا يطول ذكره ويتعب جمعه، وَجَاء عل النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: " إنَّ الرَّجُل ليدرك بحُسْن خَلْقه دَرَجَة الصَّائِم الْقَائِم، وَإِن خَير مَا أُوتِيَ الْمَرْء بَعْدَ الْإِيمَان بِاللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلْقٌ حَسَن " وَجَاء عَنْهُ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا فِي ذمّ سوء الْخلق مَا يطولُ ذكره، وَأمر هذَيْن الخلقين فِي فَضله وَحسنه، وَنقض الآخر وقبحه، بَين عِنْدَ خَواص العاقلين وعوام المتميزين، من أَن يحْتَاج إِلَى الإطناب فِيهِ والإسهاب فِي الاستشهاد عَلَيْهِ، وفقنا الله وَإِيَّاكُم من الْأَخْلَاق لكل مَا يحمد ويُستحسن، وأعاذنا ممّا يذمّ ويستهجن، فَلَنْ ندرك خيرا إِلَّا بفضله ومعونته، وَلنْ ندرأ شَرًّا إِلَّا بحوله وقوته. عَيْش الْفُقَرَاء وحساب الْأَغْنِيَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ الْعُتْبِي، عَنْ سَعِيد، قَالَ: سَمِعت أَعْرَابِيًا، يَقُولُ: عجبا للبخيل المتعجل للفقر الَّذِي مِنْهُ هرب، والمؤخر للسّعَة الَّتِي إِيَّاهَا طلب، وَلَعَلَّه يَمُوت بَيْنَ هربه وَطَلَبه، فَيكون عيشه فِي الدُّنْيَا عَيْش الْفُقَرَاء، وحسابه فِي الآخِرَة حِسَاب الْأَغْنِيَاء، مَعَ أنَّكَ لَمْ تَرَ بَخيلا إِلَّا وَغَيره أسعد بِمَالِه مِنْهُ، لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا مهتمٌ بجمعه، وَفِي الآخِرَة آثم بِمَنْعه، وَغَيره آمن فِي الدُّنْيَا من همّه، وناج فِي الآخِرَة من إثمه. قَالَ القَاضِي: وَفِيمَا حكى لي من منثور كَلَام ابْن المعتز: بَشِّرْ مَال الْبَخِيل بحادث أَوْ وَارِث، وَمن منظومة: يَا مَالَ كُلِّ جامعٍ ووارث ... أبْشِر بريبِ حادثٍ أَوْ وَارِثِ سَبَب نكبة أبي أَيُّوب المورياني وَزِير الْمَنْصُور حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْل الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي: قَالَ: كَانَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور فِي بَعْض أَسْفَاره فِي أيّام بني أُميَّة تزوج امْرَأَة من الأزد بالموصل عَنْ ضُرٍّ شَدِيد أَصَابَهُ حَتَّى أكرى نَفسه مَعَ الملاحين يمدُّ فِي الْحَبل، حَتَّى انْتهى إِلَى المَوْصِل أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لأمر خَافَه عَلَى نَفْسه، فتنكر وأكرى نَفسه فِي مدادي السفن، فَخَطب هَذِه الْمَرْأَة ورَغّبها فِي نَفسه، ووعدها ومناها وَأخْبرنَا أَنَّهُ نَابِهُ القَدْر، وَأَنه من أَهْلَ بَيت شَرَف، وَأَنَّهَا إِن تزوجته سَعِدَتْ بِهِ، فَلم يزل يُمَنِّيها بِهَذَا وَشبهه حَتَّى أَجَابَتْهُ وَأقَام مَعهَا، وَكَانَ يخْتَلف فِي أَسبَابه وَيجْعَل طَرِيقه عَلَيْهَا بِمَا رزقه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اشتملتْ عَلَى حَمْل، فَقَالَ لَهَا: أيتها الْمَرْأَة! هَذِهِ رُقْعةٌ مختومة عنْدك لَا تَفْتَحيها حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنك، فَإِن ولدت ابْنا فسمِّيه جعفرا وكَنِّيه أَبَا عَبْد اللَّه، وَإِن ولدت بِنْتا فسمِّيها فُلَانَة، وَأَنا عَبْد اللَّه بن مُحَمَّد ابْن عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، فاسْتُري أَمْرِي فَإنّا قومٌ مطلوبون، وَالسُّلْطَان إِلَيْنَا سريع، وودّعها وَخرج، فقُضي أَنَّهَا ولدتْ ذكرا وأخرجت الرقعة وقرأت النّسَب فَسَمتْهُ جعفرًا وَضرب الدَّهْر على ذَلِكَ مَا تسمع لَهُ خَبرا، وَنَشَأ الصَّبِي مَعَ أَخْوَاله وَأهل بَيت أمه، وَكَانَ كَيِّسًا ذَهِنًا لَقِنًا واستخلف

أَبُو الْعَبَّاس فَقيل للْمَرْأَة: إِن كنت صَادِقَة فِي رقعتك وَكَانَ من كتبهَا صَادِقا فَإِن زَوجك الْخَلِيفَة أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَتْ: مَا أَدْرِي صفوا لي صفة هَذَا الْخَلِيفَة، قَالُوا: غلامٌ حِين اتَّصل وَجهه، قَالَتْ: لَيْسَ هُوَ هُوَ، قيل: فاستري إِذَا أَمرك، وَلم يلبث أَبُو الْعَبَّاس أَن مَاتَ وَاسْتحق عِنْدهَا الْيَأْس، وَأَقْبل ابْنهَا عَلَى الْأَدَب فتأدب وظَرُفَ وَكتب ونزعت بِهِ همته إِلَى بَغْدَاد، فَدخل ديوَان أبي أَيُّوب كَاتب الْمَنْصُور، وَانْقطع إِلَى بَعْض أَهله فَأتى عَلَيْهِ زمَان يتقَّوت الْكتب ويتزيد فِي أدبه وفهمه وخطه، حَتَّى بلغ إِن صَار يكْتب بَيْنَ يَدي أبي أَيُّوب، إِلَى أَن تهَيَّأ أَن خرج خَادِم يَوْمَا إِلَى الدِّيوَان يطْلب كَاتبا يكْتب بَيْنَ يَدي الْمَنْصُور، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب للغلام: خُذْ دَوَاتَك وقم واكتب بَيْنَ يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَدخل الغلامُ فَكتب وَكَانَت تتهيأ من أبي جَعْفَر إِلَيْهِ النظرة بَعْدَ النظرة يتأمله، وألقيت عَلَيْهِ محبته واستجاد خطه واسترشق فهمه، فَلبث زَمَانا لَا يزَال الْخَادِم قَدْ خَرَجَ فيَقُولُ: يَا غُلَام خُذ دواتك وقم واكتب بَيْنَ يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ، واستراح أَبُو أَيُّوب إِلَى مَكَانَهُ، وَرَأى أَنَّهُ قَدْ حَمَل عَنْهُ ثقلا، وبرَّ الغلامَ وَوَصله وكساه كُسْوةً تصلح أَن يَدْخُل بهَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ إِن أَبَا جَعْفَر قَالَ للغلام يَوْمَا: مَا اسْمك؟ قَالَ: جَعْفَر، قَالَ: ابْن من؟ فَسكت متحيرًا، قَالَ: ابْن من وَيحك؟ قَالَ: ابْن عَبْد اللَّه قَالَ: فَأَيْنَ أَبوك؟ قَالَ: لَمْ أره وَلم أعرفهُ، وَلَكِن أُمِّي أَخْبَرتنِي أَن أبي شرِيف، وَأَن عِنْدَها رقْعَة بِخَطِّهِ فِيهَا نسبه، عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس بْن عَبْد الْمطلب، فساعة ذَكَرَ الرقعة تغير وَجه الْمَنْصُور، فَقَالَ: وَأَيْنَ أمك؟ قَالَ: بالموصل، قَالَ: وَأَيْنَ تَنْزِلُونَ؟ قَالَ: فِي مَوضِع كَذَا، قَالَ: فتعرفُ فلَانا؟ قَالَ: نَعَمْ هُوَ إِمَام مَسْجِد مَحَلّتنا، قَالَ: أفتعرف فلَانا؟ قَالَ: نَعَمْ بَقّالٌ فِي سكتنا، فَلَمّا رَأَى الْغُلَام أَبَا جَعْفَر ينْزع بأسماء قَوْمٍ يعرفهُمْ أَدْرَكته هيبةٌ لَهُ، وجَزَع وتَدَمّعَ، فأدركت أَبَا جَعْفَر الرقة عَلَيْهِ فَلم يَتَمَالَك أَن قَالَ: فُلَانَة بِنْت فلَان من هِيَ مِنْك؟ قَالَ: أُمِّي، قَالَ: ففلانة؟ قَالَ: خَالَتِي، قَالَ: ففلان؟ قَالَ: خَالِي، فضمه إِلَيْهِ وَبكى، وَقَالَ: يَا غُلَام! لَا يعلمنّ أَبُو أَيُّوب وَلَا أحد من خَلْقٌ اللَّه تَعَالَى مَا دَار بيني وبنيك، انْظُر انْظُر احذر احذر، فَنَهَضَ الْغُلَام فَخرج، فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوب لَقَد احتبستَ عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: كتبتُ كتبا كَثِيرَة وأملّها عَلَي، قَالَ: فَأَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: جعلهَا نسخا يتردَّدُ فِيهَا حَتَّى يُحْكمها ثُمَّ تخرج إِلَى الدِّيوَان ثُمَّ إِن أَبَا جَعْفَر جعل يَقُولُ فِي بَعْض الْأَيَّام لأبي أَيُّوب: هَذَا الْغُلَام الَّذِي يكْتب بَيْنَ يَدي كيس فاستوص بِهِ، قَالَ: فاتّهم أَبُو أَيُّوب الْغُلَام أَنه يلقِي إِلَى أبي جَعْفَر الشَّيء بَعْدَ الشَّيء من خَبره، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن سَأَلَهُ عَنْهُ مرّة بَعْدَ مرّة فقُذِف فِي قلب أبي أَيُّوب بُغْضُ الْغُلَام، وَأَنه يقوم مقَامه إِن فَقده أَبُو جَعْفَر، وَقذف فِي قلبه أَنَّهُ يسْعَى عَلَيْهِ وَأَنه يخرج أخباره، فَجعل إِذَا خَرَجَ الْخَادِم يطْلب كَاتبا بعث مَعَه غَيره وَأَبُو جَعْفَر يزْدَاد وَلها إِلَى الْغُلَام ويجن جنونًا وَلَيْسَ يمنعهُ من إدنائه وَإِظْهَار أمره إِلَّا لأمر يَريده، فَلَمّا رَأَى أنَّ

أَبَا أيّوب يحْبسهُ عَنْهُ عنادًا، قَالَ للخادم: اخْرُج إِلَى الدِّيوَان فجئني بفلان الْغُلَام الَّذِي كَانَ يكْتب بَيْنَ يَدي، فَإِن بعث مَعَك أَبُو أَيُّوب بِغَيْرِهِ فَقل: لَا، أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا يدْخل عَلَيْهِ غَيره، فَفعل الْخَادِم ذَلِكَ فَاسْتحقَّ فِي قلب أبي أَيُّوب مَا حذره وحَدَّثَتْه بِهِ نَفسه، فَقَالَ الْغُلَام: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ - جعلني اللَّه فدَاك - قَدْ تعرفت من أبي أَيُّوب البغض والاستثقال بمكاني، وَله غوائل لَا يُحِيط بهَا علمي وَأَنا أخافه عَلَى نَفسِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: بَارك الله عَلَيْك، فَمَا أَخْطَأت الَّذِي فِي نَفسِي وَهَذَا كُله يَا بني قَدْ جال فِي صَدْرِي، فَإِذا كَانَ غَد فتعرض لِأَن يغلظ لَك، فَإِذا أغْلظ فَقُمْ فَانْصَرف كَأَنَّك مغضب، وَلَا تعد إِلَى الدِّيوَان وَاجعَل وَجهك إِلَى أمك، وأوصل إِلَيْهَا هَذَا العقد وَهَذَا الْكيس وكتابي هَذَا، واحمل أمك وَمن اتبعها من قرابتك وَأَقْبل فَانْزِل مَوضِع كَذَا، فَانِي منفذ إِلَيْكَ خَادِمًا يتفقد أمورك وَيعرف خبرك، وَلَا تطلِعنَّ أحدا من الْخلق طلع مَا مَعَك، وامض بِهَذَا المَال وَبِهَذَا العقد وأحرزه أَولا قَبْلَ رجوعك إِلَى الدِّيوَان، ثُمَّ قَالَ للخادم: أَخْرَجَهُ من بَاب كَذَا وَكَذَا، فَخرج الْغُلَام فأحرز مَا كَانَ مَعَه ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الدِّيوَان، وَأَبُو أَيُّوب فِي فكره من احتباسه عِنْدَ الْمَنْصُور، وَرجع الْغُلَام بِوَجْه بهج مسرور لَا يخفي ذَلِكَ عَلَيْهِ وَظُهُور الْفَرح فِي وَجهه وشمائله، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: أحلفُ بِاللَّه لَقَدْ رَجَعَ هَذَا الْغُلَام بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي مضى بِهِ، وَلَقَد دَار بَينه وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ من ذكرى مَا سرّه، واستشعر الوحشة مِنْهُ وَصرف أَكثر عمله عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن أغْلظ لَهُ، فَقَالَ الْغُلَام: أَنَا إِنْسَان غَرِيب أطلب الرزق وَأَنت تستخفُّ بِي، فَكَأَنِّي قَدْ ثقلت عَلَيْكَ فأنتحي عَنْكَ قَبْلَ أَن تطردني، ثُمَّ قَامَ فَانْصَرف وافتقده أَبُو أَيُّوب أيّاما، وَرَأى أنَّ أَبَا جَعْفَر لَا يسْأَل عَنْهُ وَلَا يذكرهُ، ثُمَّ إِن نفس أبي أَيُّوب نازعته إِلَى عَلَمُ حَقِيقَة خَبره، فَأرْسل من يسْأَل عَنْهُ فِي الْموضع الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ، فَقيل لَهُ: إِنَّهُ قَدْ تهَيَّأ للسَّفر وتجهز جهازًا حسنا وشخص إِلَى أَهله بالموصل، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب فِي نَفسه: وَمن أَيْن لَهُ مَا يتجهز بِهِ، وَكم مبلغ مَا ارتزق معي وارتفق بِهِ؟ لهَذَا الْأَمر نبأ، وَجعلت نَفسه تزدادُ وَحْشَة مِنْهُ وَمن خَبره إِلَى أَن قيل لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو جَعْفَر وَصله بِمَال ووهب لَهُ شَيئًا، فَقَالَ فِي نَفسه: هَذَا الَّذِي ظَنَنْت وَقد ربصه لمكاني وَيَنْبَغِي أَن يكون استأذنه فِي أَن يخرج إِلَى أَهله فيلم بهم ثُمَّ يرجع إِلَيْهِ فيقلِّده مَكَاني، فَقَالَ لرجل من أَصْحَابه: اخْرُج إِلَى طَرِيق المَوْصِل قَرْيَة قَرْيَة برًّا وبحرًا، فَإِذا عرفتَ مَوْضِعه فاقتله وجئني بِمَا مَعَه، فشخص وتهيأ، ثُمَّ إِن الْغُلَام لمّا خرج عَنْ بَغْدَاد رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمن فقصر فِي مسيره، وَكَانَ يُقيم فِي الْموضع فيستطيبه الْيَوْم واليومين وَالْأَكْثَر والأقل، فَلحقه رَسُول أبي أَيُّوب وعرفه، فباتا بقرية فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُول فخنقه وطرحة فِي الْبِئْر وَأخذ خُرجَه وخرائط كَانَتْ مَعَه، وَركب دابَّة لَهُ وَرجع إِلَى أبي أَيُّوب وسَلّم ذَلِكَ إِلَيْهِ وَشرح الْخَبَر لَهُ، ففتش مَتَاعه أَبُو أَيُّوب فَإِذا المَال وَالْعقد فَعرفهُ، وَإِذا كتاب الْمَنْصُور بِخَطِّهِ إِلَى أمه فَوَجَمَ أَبُو أَيُّوب وَنَدم وَعلم أَنَّهُ قَدْ عجل وَأَخْطَأ، وَأَن الْخَبَر لَمْ يكن كَمَا ظن، وعزم عَلَى الْحلف والمكابرة إِن عثر عَلَى شَيْءٍ من أمره، وَأَبْطَأ خبر الْغُلَام عَلَى أبي جَعْفَر، واستبطأه فِي الْوَقْت الَّذِي ضرب لَهُ، فَدَعَا خَادِمًا من ثقاته ورجلا من خاصته، فَقَالَ لَهما: استقرئا الْمنَازل إِلَى المَوْصِل منزلا منزلا وقرية قَرْيَة، وأعطيا صفة الْغُلَام حَتَّى تدخلا المَوْصِل، ثُمَّ اقصدا مَوضِع كَذَا من المَوْصِل فسلا عَن فُلَانَة، وَوصف لَهما كل مَا أَرَادَ ففعلا، فَلَمّا انتهيا إِلَى الْموضع الَّذِي أُصِيب فِيهِ الْغُلَام أُعْلِما خَبره، وَذكروا الْوَقْت الَّذِي أُصِيب فِيهِ فَإِذا التَّارِيخ بِعَيْنِه، ثُمَّ مضيا إِلَى المَوْصِل فسألا عَنْ أمه فوجداها أشدَّ خَلْق اللَّه تَعَالَى وَلَهًا إِلَى ابْنهَا، وحاجة إِلَى عَلمُ خَبره، فأطلعاها طلع حَاله، وأمراها أَن تستر أمرهَا، ثُمَّ رجعا إِلَى أبي جَعْفَر بجملة خَبره، فَكَادَتْ أمه أَن تقتل نَفسهَا وَلم تُرد الدُّنْيَا بعده، وَكَانَ الْمَنْصُور يذكُره فيكادُ ذكرهُ يصدع قلبه، وَأجْمع أَبُو جَعْفَر عَلَى الْإِيقَاع بِأبي أَيُّوب عِنْدَ ذَلِكَ، فاستصفي مَاله وَمَال أَهْلَ بَيته، ثُمَّ قَتلهمْ جَمِيعًا وأباد عصراءهم، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَبَا أَيُّوب لَعنه وسبه، وَقَالَ: ذَاك قَاتل حَبِيبِي.، أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ أَلا يدْخل عَلَيْهِ غَيره، فَفعل الْخَادِم ذَلِكَ فَاسْتحقَّ فِي قلب أبي أَيُّوب مَا حذره وحَدَّثَتْه بِهِ نَفسه، فَقَالَ الْغُلَام: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ - جعلني اللَّه فدَاك - قَدْ تعرفت من أبي أَيُّوب البغض والاستثقال بمكاني، وَله غوائل لَا يُحِيط بهَا علمي وَأَنا أخافه عَلَى نَفسِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَر: بَارك الله عَلَيْك، فَمَا أَخْطَأت الَّذِي فِي نَفسِي وَهَذَا كُله يَا بني قَدْ جال فِي صَدْرِي، فَإِذا كَانَ غَد فتعرض لِأَن يغلظ لَك، فَإِذا أغْلظ فَقُمْ فَانْصَرف كَأَنَّك مغضب، وَلَا تعد إِلَى الدِّيوَان وَاجعَل وَجهك إِلَى أمك، وأوصل إِلَيْهَا هَذَا العقد وَهَذَا الْكيس وكتابي هَذَا، واحمل أمك وَمن اتبعها من قرابتك وَأَقْبل فَانْزِل مَوضِع كَذَا، فَانِي منفذ إِلَيْكَ خَادِمًا يتفقد أمورك وَيعرف خبرك، وَلَا تطلِعنَّ أحدا من الْخلق طلع مَا مَعَك، وامض بِهَذَا المَال وَبِهَذَا العقد وأحرزه أَولا قَبْلَ رجوعك إِلَى الدِّيوَان، ثُمَّ قَالَ للخادم: أَخْرَجَهُ من بَاب كَذَا وَكَذَا، فَخرج الْغُلَام فأحرز مَا كَانَ مَعَه ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الدِّيوَان، وَأَبُو أَيُّوب فِي فكره من احتباسه عِنْدَ الْمَنْصُور، وَرجع الْغُلَام بِوَجْه بهج مسرور لَا يخفي ذَلِكَ عَلَيْهِ وَظُهُور الْفَرح فِي وَجهه وشمائله، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: أحلفُ بِاللَّه لَقَدْ رَجَعَ هَذَا الْغُلَام بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي مضى بِهِ، وَلَقَد دَار بَينه وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ من ذكرى مَا سرّه، واستشعر الوحشة مِنْهُ وَصرف أَكثر عمله عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يلبث أَن أغْلظ لَهُ، فَقَالَ الْغُلَام: أَنَا إِنْسَان غَرِيب أطلب الرزق وَأَنت تستخفُّ بِي، فَكَأَنِّي قَدْ ثقلت عَلَيْكَ فأنتحي عَنْكَ قَبْلَ أَن تطردني، ثُمَّ قَامَ فَانْصَرف وافتقده أَبُو أَيُّوب أيّاما، وَرَأى أنَّ أَبَا جَعْفَر لَا يسْأَل عَنْهُ وَلَا يذكرهُ، ثُمَّ إِن نفس أبي أَيُّوب نازعته إِلَى عَلَمُ حَقِيقَة خَبره، فَأرْسل من يسْأَل عَنْهُ فِي الْموضع الَّذِي كَانَ نازلا فِيهِ، فَقيل لَهُ: إِنَّهُ قَدْ تهَيَّأ للسَّفر وتجهز جهازًا حسنا وشخص إِلَى أَهله بالموصل، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب فِي نَفسه: وَمن أَيْن لَهُ مَا يتجهز بِهِ، وَكم مبلغ مَا ارتزق معي وارتفق بِهِ؟ لهَذَا الْأَمر نبأ، وَجعلت نَفسه تزدادُ وَحْشَة مِنْهُ وَمن خَبره إِلَى أَن قيل لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو جَعْفَر وَصله بِمَال ووهب لَهُ شَيئًا، فَقَالَ فِي نَفسه: هَذَا الَّذِي ظَنَنْت وَقد ربصه لمكاني وَيَنْبَغِي أَن يكون استأذنه فِي أَن يخرج إِلَى أَهله فيلم بهم ثُمَّ يرجع إِلَيْهِ فيقلِّده مَكَاني، فَقَالَ لرجل من أَصْحَابه: اخْرُج إِلَى طَرِيق المَوْصِل قَرْيَة قَرْيَة برًّا وبحرًا، فَإِذا عرفتَ مَوْضِعه فاقتله وجئني بِمَا مَعَه، فشخص وتهيأ، ثُمَّ إِن الْغُلَام لمّا خرج عَنْ بَغْدَاد رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمن فقصر فِي مسيره، وَكَانَ يُقيم فِي الْموضع فيستطيبه الْيَوْم واليومين وَالْأَكْثَر والأقل، فَلحقه رَسُول أبي أَيُّوب وعرفه، فباتا بقرية فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُول فخنقه وطرحة فِي الْبِئْر وَأخذ خُرجَه وخرائط كَانَتْ مَعَه، وَركب دابَّة لَهُ وَرجع إِلَى أبي أَيُّوب وسَلّم ذَلِكَ إِلَيْهِ وَشرح الْخَبَر لَهُ، ففتش مَتَاعه أَبُو أَيُّوب فَإِذا المَال وَالْعقد فَعرفهُ،

جميل وقول أحدهم فيه لن يفلح هذا أبدا

وَإِذا كتاب الْمَنْصُور بِخَطِّهِ إِلَى أمه فَوَجَمَ أَبُو أَيُّوب وَنَدم وَعلم أَنَّهُ قَدْ عجل وَأَخْطَأ، وَأَن الْخَبَر لَمْ يكن كَمَا ظن، وعزم عَلَى الْحلف والمكابرة إِن عثر عَلَى شَيْءٍ من أمره، وَأَبْطَأ خبر الْغُلَام عَلَى أبي جَعْفَر، واستبطأه فِي الْوَقْت الَّذِي ضرب لَهُ، فَدَعَا خَادِمًا من ثقاته ورجلا من خاصته، فَقَالَ لَهما: استقرئا الْمنَازل إِلَى المَوْصِل منزلا منزلا وقرية قَرْيَة، وأعطيا صفة الْغُلَام حَتَّى تدخلا المَوْصِل، ثُمَّ اقصدا مَوضِع كَذَا من المَوْصِل فسلا عَنْ فُلَانَة، وَوصف لَهما كل مَا أَرَادَ ففعلا، فَلَمّا انتهيا إِلَى الْموضع الَّذِي أُصِيب فِيهِ الْغُلَام أُعْلِما خَبره، وَذكروا الْوَقْت الَّذِي أُصِيب فِيهِ فَإِذا التَّارِيخ بِعَيْنِه، ثُمَّ مضيا إِلَى المَوْصِل فسألا عَنْ أمه فوجداها أشدَّ خَلْق اللَّه تَعَالَى وَلَهًا إِلَى ابْنهَا، وحاجة إِلَى عَلمُ خَبره، فأطلعاها طلع حَاله، وأمراها أَن تستر أمرهَا، ثُمَّ رجعا إِلَى أبي جَعْفَر بجملة خَبره، فَكَادَتْ أمه أَن تقتل نَفسهَا وَلم تُرد الدُّنْيَا بعده، وَكَانَ الْمَنْصُور يذكُره فيكادُ ذكرهُ يصدع قلبه، وَأجْمع أَبُو جَعْفَر عَلَى الْإِيقَاع بِأبي أَيُّوب عِنْدَ ذَلِكَ، فاستصفي مَاله وَمَال أَهْلَ بَيته، ثُمَّ قَتلهمْ جَمِيعًا وأباد عصراءهم، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَبَا أَيُّوب لَعنه وسبه، وَقَالَ: ذَاك قَاتل حَبِيبِي. جميل وَقَول أحدهم فِيهِ لن يفلح هَذَا أبدا حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذر، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخٌ من أَهْلَ وَادي الْقرى، قَالَ: لمّا استعدى آل بثينة مَرْوَان بْن الحكم عَلَى جميل وَطَلَبه رِبْعِيُّ ابْن دجَاجَة الْعَبْدي صَاحب تيماء هرب إِلَى أقاصي بِلَادهمْ، فَأتى رَجُلا من بْني عذرة شريفًا وَله بَنَات سبْعٍ كأنهن البدور جمالا، فَقَالَ: يَا بَنَاتِي! تحلّيْن بجيد حُليكن والبسن جيّد ثيابكن ثُمَّ تعرضن لجميل فَإِنِّي أنفس عَلَى مثل هَذَا من قومِي، فَكَانَ جميل إِذَا تزيَّنَّ ورآهن أعرض بِوَجْهِهِ فَلا ينظر إلَيْهِنَّ، ففعلن ذَلِك مرَارًا وَفعله جميل، فَلَمّا عَلَمُ مَا أُرِيد بِهن أنشأ يَقُول: حَلَفْتُ لكَي تَعْلَمُنَّ أنِّيَ صادقٌ ... ولَلصدقُ خَيْر فِي الأمورِ وأنْجَحُ لتكليمُ يَوْمٍ من بُثَيْنة واحدٍ ... ورؤيتها عِنْدِي ألذُّ وأصلحُ من الدَّهْر أَوْ أخْلُو بِكُنَّ وَإِنَّمَا ... أعالِجُ قلبًا طامحًا حَيْث يطمحُ قَالَ: فَقَالَ لَهُنَّ أَبُوهُن: ارْجِعْنَ، فوَاللَّه لَا يفلح هَذَا أبدا. أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ يردُّ عَلَى اتهام الرشيد لَهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا يزِيد بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: كنت جَالِسا بَيْنَ يَدي هَارُون الرشيد أنْشدهُ شعرًا، وَأَبُو يُوسُف القَاضِي جَالس عَلَى يسَاره، فَدخل الفَضْل بْن الرّبيع، فَقَالَ: بِالْبَابِ أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ، فَقَالَ: أدخلهُ، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: السّلام عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَقَالَ لَهُ الرشيد: لَا سلّم اللَّه عَلَيْكَ وَلَا قَرَّب دَارك وَلَا حَيّا مزارك، قَالَ: لَمْ

كأس أم حكيم

يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: أَنْت الَّذِي يحرم لبس السوَاد، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، من أخْبرك بِهَذَا؟ لَعَلَّ ذَا أخْبرك؟ وَأَشَارَ إِلَى أبي يُوسُف - فعلى هَذَا لعنة اللَّه وعَلى أستاذه من قبله، وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَقَدْ خَرَجَ إِبْرَاهِيم عَلَى جَدِّك الْمَنْصُور فَخرج أخي مَعَه، وعزمت عَلَى الْغَزْو فَأتيت أَبَا حنيفَة فَذكرت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لي: مخرج أَخِيك أحِبَّ إليَّ ممّا عزمت عَلَيْهِ من الْغَزْو، وَوَاللَّه مَا حَرَّمت السوَاد. فَقَالَ الرشيد: فسلّم اللَّه عَلَيْكَ وقَرَّب دَارك وحَيّا مزارك، اجْلِسْ يَا أَبَا إِسْحَاق، يَا مسرور! ثَلَاثَة آلَاف دِينَار لأبي إِسْحَاق، فَأتى بهَا ووضعها فِي يَده وَخرج وَانْصَرف، فَلَقِيَهُ ابْن الْمُبَارك فَقَالَ: من أَيْنَ أَقبلت؟ فَقَالَ من عِنْدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَقد أَعْطَانِي هَذِهِ الدَّنَانِير، وَأَنا عَنْهَا غنيّ، قَالَ: فَإِن كَانَ فِي نَفسك مِنْهَا شَيْءٍ فَتصدق بهَا فَمَا خَرَجَ من سوق الرافقة حَتَّى تصدق بهَا كلهَا. كأس أم حَكِيم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنِي عون بْن مُحَمَّد الْكِنْديّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن إِسْمَاعِيل، أَبُو أَحْمَد إِبْرَاهِيم، قَالَ: ركب الرشيد يَوْمَا بَكِرًا فَنظر إِلَى مُحَمَّد الْأمين يميلُ بِهِ سَرْجه، فَقَالَ: مَا أصارك إِلَى هَذَا يَا مُحَمَّد؟ قَالَ: أصارني إِلَيْهِ البارحة: عَلِّلاني بعاتقاتِ الْكُرُوم ... واسْقِيَانِي بكأسِ أمِّ حَكِيم قَالَ: فانصرفْ يَا مُحَمَّد، فَلَمّا رَجَعَ الرشيد وجّه إِلَيْهِ بخادم وَمَعَهُ كأس أم حَكِيم، وَكَانَ كأسًا كَبِيرا فِرْعُونيًا، قَدْ جعل فِيهِ طَوْقُ ذهبِ ومقبض من ذهب، فَإِذا هُوَ مَمْلُوء دَنَانِير، وَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ بعثتُ إِلَيْكَ بِالَّذِي أسهرك لتشرب فِيهِ وتنتفع بِمَا يصل مَعَه، قَالَ: فَأعْطى الْخَادِم قَبْضَة من دَنَانِير، وَفرق نصفه مَا فِيهِ عَلَى جُلَسَائِهِ وَأعْطى النّصْف خازنه وَشرب فِي الْقدح ثَلَاثَة أَرْطَال رطلا بَعْدَ رَطْل ورَدّه، فَكَانَ مبلغ الدَّنَانِير عشرَة أُلَّاف دِينَار. مَتَى يُقَالُ اللَّيْلَة الْمَاضِيَة، وَمَتى يُقَالُ البارحة قَالَ القَاضِي: جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر أنَّ الْأمين قَالَ: بَكِرًا أصابني البارحة، وَهَذَا كَلَام مستفيض فِي الْعَامَّة إِطْلَاقهم إِيَّاه فِي خطابهم وَفِيمَا يَرْوُونَهُ عَنْ غَيرهم، فَأَما أَهْلَ الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فيذهبون إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ فِي أَوْل النَّهَار إِلَى زَوَال الشَّمْسُ لليلة الْمَاضِيَة كَانَ كَذَا وَكَذَا اللَّيْلَة، فَإِذا زَالَت الشَّمْسُ قَالُوا حِينَئِذٍ: البارحة، وَفِي هَذَا الْخَبَر ذَكَرَ الكأس، وَقد ذهب قَوْمٍ إِلَى أَنَّهَا اسْم للخمر وَاسم للإناء، قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ " وَقيل إِنَّها فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه: صفراء، وَقَالَ الْفراء: الكأس: الْإِنَاء بِمَا فِيهِ، فَإِذا أَخذ مَا عَلَيْهِ وَبَقِي فَارغًا رَجَعَ إِلَى اسْمه إِن كَانَ طَبَقًا أَوْ خُوَانًا أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْض أَهْلَ التَّأْوِيل: الكأس الْخمر، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مزاجها كافوراً " وَقَالَ جلَّ ذكره: " وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كأساً كَانَ مزاجها زنجبيلاً " وَأنْشد أَبُو عُبَيْدة:

القضاة في نظر أبي يوسف

ومَا زَالَتِ الكَأسَ تَغْتَالُنَا ... وتَذْهَبُ بالأوَّلِ الأوَّلِ وَقَالَ الْأَعْشَى: وكأسٍ شربتُ عَلَى لَذَّة ... وَأُخْرَى تداويتُ مِنْها بهَا وَقَالَ آخر: ومَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يمت هَرَمَا ... الْمَوْت كأسٌ والمرءُ ذَائِقُها العبطة: أَن يَمُوت الرَّجُل من غَيْر عِلّة، وَمن هَذَا قَوْلهم: دمٌ عبيط إِذَا كَانَ طريًا قَدْ خَرَجَ من جسم صَحِيح، وَقَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتانيّ: لَا يُقَالُ للْمَوْت كأس، قَالَ القَاضِي: وَهَذَا خطأ مِنْهُ، قَدْ يُضَاف الكأس إِلَى الْمنية، وَقد تُوصَف الْمنية بِأَنَّهَا كأس كَمَا تُوصَف بِأَنَّهَا رَحَى، ويضاف إِلَيْهَا الرّحى فَيُقَال: الْمنية رحى دَائِرَة عَلَى الْخلق، وللمنية عَلَى النّاس رَحَى دَائِرَة، وللموت كأسٌ مرّة، وَالْمَوْت كأس كريهة، وَيُقَال شرب فلَان كأس الْمنية، فيضاف الكأس إِلَيْهَا، قَالَ مهلهل: مَا أُرَجِّي العيشَ بَعْدَ نَدَامَي ... قَدْ أَرَاهُمُ سُقُوا بكأس حَلاقِ أَي بكأس الْمنية، لِأَن حلاق من أَسمَاء الْمنية بِمَنْزِلَة حَذَام وقطام، وَرَوَاهُ بكأس خلاق بِالْخَاءِ فَقَالَ: يَعْنِي بكأس تصيبهم من الْمَوْت وَهَذَا أَكثر وَأشهر من أَن يخيل عَلَى عَالم بِالْعَرَبِيَّةِ، وأعجب بذهابه عَلَى أبي حَاتِم مَعَ سَعَة مَعْرفَته، وَلَكنهُمْ بِشْر وَأَنِّي إِنْسَان يُحِيط بِالْعلمِ كُله وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْءٍ من جَلِيِّه فضلا عَنْ غامضه وخَفيِّه، وَقد قَالَ الشَّاعِر فِي هَذَا الْمَعْنى: أَيْنَ الْقُرُون الَّتِي عَنْ حَظِّها غَفلَتْ ... حَتَّى سَقَاها بكأسِ المَوْت سَاقِيها وَقَالَ السِّجِسْتانيّ: فِي الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْمَوْت إنّما هُوَ الْمَوْت كأس، قَالَ: وَقطع ألف الْوَصْل لِأَنَّهَا فِي مُبْتَدأ النّصْف الثَّانِي وَهَذَا يحْتَمل، وَقَالَ: أنشدناه الْأَصْمَعِي لبَعض الْخَوَارِج، وَقَالَ: لَيْسَ لأمية بْن أبي الصَّلْت، قَالَ القَاضِي: وَقد رَوَت الروَاة هَذَا الشّعْر لأمية بْن أبي الصَّلْت وأمّا الْمَعْنى الَّذِي ذكره السِّجِسْتانيّ من تَجْوِيز قطع ألف الْوَصْل فقد جَاءَ فِي الشّعْر كثيرا كَقَوْل الشَّاعِر: بأبِي امرؤٌ الشَّام بَيْني وبَيْنَه ... أَتَتْنِي ببِشْر بُرْدُه ورَسَائِلُه وَقَالَ آخر: إِذَا جَاوز الْإِثْنَيْنِ سِرٌّ فَإِنَّهُ ... بِبَثٍّ وتَكْثِيِر الْوُشَاةِ قَمِينُ وَقَالَ آخر: أَلا لَا أرى إثْنَين أَحْسَنَ شِيمَةً ... عَلَى حِدْثان الدَّهْر مِنِّي ومِنْ جُمْل وَأحسن هَذَا الْبَاب مَا كَانَ فِي الْأَوَائِل والأركان والأنصاف قَالَ حسان: لتسْمَعُنَّ وشيكًا فِي ديارِهِمُ ... اللَّه أكبر يَا ثَارَاتِ عثمانا الْقُضاة فِي نظر أبي يُوسُف حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَن الحَرَّانيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن الْجَعْد، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُف القَاضِي يَقُولُ: مَا وُلّي الْقَضَاء أحد أفقه فِي

كم كان يصلي بهم لو أكلوا اللوزينج

دين الله وَلَا أَقرَأ لكتاب الله وَلَا أعف عَنِ الْأَمْوَال من ابْن أبي ليلى قَالَ: فَقلت: فابْنُ شُبْرُمة، قَالَ: رَجُلٌ مِكْثار، قَالَ عليّ: وَولى حفصُ بْن غياث الْقَضَاء من غَيْر مشورة أبي يُوسُف فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ بْن الْوَلِيد وَالْحسن اللؤْلُؤِي تتبّعا قضاياه، فتتبعناها فَلَمّا نظر إِلَيْهَا، قَالَ: هَذِهِ قضايا ابْن أبي ليلى، ثُمَّ قَالَ لَهما: تتبعا الشُّرُوط والسجلات ففعلا، فَلَمّا نظر فِيهَا، قَالَ حَفْصُ بْنُ غياثٍ ونظراؤه يعانون قيام اللَّيْل. كم كَانَ يُصَلِّي بهم لَوْ أكلُوا اللّوْزِيَنج حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي، قَالَ: سَمِعت سُفْيَان بْن وَكِيع بْن الجرّاح، يَقُولُ: سمعتُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة، يَقُولُ: دَعَانَا سفيانُ الثّوريّ يَوْمَا فَقدم إِلَيْنَا تَمْرًا ولبنًا خاثرًا فَلَمّا توسّطْنا الْأكل قَالَ: قُوموا بِنَا نُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ شُكْرًا لله تَعَالَى قَالَ سُفْيَان بْن وَكِيع: لَوْ كَانَ قدم إِلَيْهِم شَيئًا من هَذَا اللّوْزينج الْمُحْدَث لقَالَ لَهُمْ: قومُوا بِنَا نصلي التراوح. إغْباب الزِّيَارَة أنشدنا مُحَمَّد بْن أَبِي الْأَزْهَر، قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد بْن يزِيد الْمبرد: عَلَيْكَ بإقْلال الزِّيَارَة إنّها ... تكون إِذَا دَامَتْ إِلَى الْهَجْرِ مَسْلَكًا فإنِّي رأيتُ الْقَطْرَ يُسْلَمُ دَائمًا ... ويُسْألُ بالأيْدِي إِذَا هُوَ أمْسَكَا قَالَ ابْن أبي الْأَزْهَر: فأنشدت هَذِين الْبَيْتَيْنِ أَبَا بِشْر الْبَنْدَنِيجِيّ بِإِسْكَان بني سَعِيد فَقَالَ: هما فِي شعرٍ طَوِيل، وأنشدني القصيدة وَهِي طَوِيلَة، فَقلت لَهُ: أَنْشدني الْمبرد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة، قَالَ: قَدْ قلتهما أَكثر من سبعين سنة، قَالَ القَاضِي: فِي نَحْو هَذَا الْمَعْنى قَول أبي تَمام: وطُول مقَام الْمَرْء فِي الحقِّ مُخْلِقٌ ... لِدِيباجَتَيْه فاغْتَرِبْ يَتَجَدَّدِ فإنِّي رَأَيْتُ الشَّمْسَ زيدتْ مَحبَّةً ... إِلَى النّاس إذْ ليستْ عَلَيْهِمْ بَسْرمَدِ وَمن الْبَيَان الحَسَن فِي هَذَا الْمَعْنى، مَا رَوى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْله: " زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا ". أنشدنا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ: أَنْشدني أَبُو بَكْر الْقُرَشِيّ، قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن: هَل الدَّهْرُ إِلَّا ساعةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ... بِمَا كَانَ فِيهَا من عَنَاء وَمن خَفْضِ فَهَوْنَك لَا تَحْفِلْ بمَشْتَاةِ عَارِضٍ ... وَلَا فَرْحَةٍ سَرَّتْ فكلتاهُما تَمْضِي الْمجْلس الثَّانِي وَالْعشْرُونَ فضل الْعقل حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ النُّورِ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ

عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَقَرَّبَ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِأَنْوَاعِ الْبِرِّ فَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَقْلِ، تَسْبِقُهُمْ بِالدَّرَجَاتِ وَالزُّلَفِ عِنْدَ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ ". قَالَ القَاضِي: وَهَذَا مَا يبين بِهِ شَرَف الْعقل وفضله، وَأَن الْأَعْمَال الصَّالِحَة تَزْكو بِهِ ويتضاعف ثَوَاب عاملها بِحَسب حَظِّهم مِنْهُ، وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُل ليَكُون من أَهْلَ الصَّلاة وَأهل الصّيام وَأهل الْجِهَاد - حَتَّى عد سِهَام الْخَيْر - ويجازي إِلَّا عَلَى قَدْرِ عَقْله " وروى عَنْهُ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُ قَالَ: " مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا عَقْلا إِلا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْمَا مَا ". وَمَا روى عَنِ الْعقل وفضله، وَشرف مَنْزِلَته، وعظيم نَفعه، أَكثر من أَن يُحْصى. وَقد حَدَّثَنَا الْحَارِث بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ حَسَنٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ ". وَإِن فِي هَذَا مَا يرغب فِي اقتباس الْعلم واكتساب الْحِكْمَة وَرفع الْمَرْء قدره عَنْ طبقَة الْعَوام، ومنزلة الهَمَج الطغام، فكم ذِي علم وَمَعْرِفَة وَحِكْمَة وبصيرة، قد نبه وسَمَا وارتفع وَعلا، وَصَارَ متبوعًا مُعظَمًّا وزَعيمًا مُقَدَّما، وَكم من ذِي قدر وَحسب، ومنصب وَنسب، وَمَال ونشب، وَشرف فِي أَصله، ومنزلة فِي أَهله، قَدْ هدم مَا بِنَاء لَهُ أَهله وشيّدوه، وخفض مَا رَفَعُوهُ، وحطَّ مَا عَلوه وعَمّدُوه، وَقد روينَا أَن بَعْض وُلْدِ رَوْحِ بْن حَاتِم بْن قُبَيصة بْن الْمُهلّب وُجد فِي الْقبَّة الَّتِي بِالْبَصْرَةِ، وَهِي الَّتِي يُقَالُ لَهَا " خضراء روح " عَلَى سوءة، فَقيل لَهُ: وَيْحك أَفِي مَحَلِّ شَرَفك؟! فَقَالَ: ورثنا المجدَ عَنْ آباءِ صِدْقٍ ... أسَأْنَا فِي دِيَارِهِم الصَّنِيعَا وَمِمَّا يستحسن فِي هَذَا الْمَعْنى قَول الْقَائِل: إنَّ الْفَتى من يَقُولُ هأنذا ... لَيْسَ الفَتَى من يَقُولُ كَانَ أبي وَللَّه در الْقَائِل: لَسْنَا وإنْ أَحْسَابُنَا كَرُمَتْ ... أبدا عَلَى الأحساب نَتّكِلُ نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أوائلُنا تبني ... ونفعل مثل مَا فَعَلُوا وَقد رُوينا أنَّ زَيْدَ بْن عليّ تَمثّل بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَلَقَد كَانَ رضوَان اللَّه عَلَيْهِ من أَعْلَام الْأَبْرَار وَالْأَئِمَّة الأخيار، سلك سَبِيل سلفه، واقتفى آثَارهم فارتفع واعتلى، وَأم أنوارهم فاستبصر واهتدى، وَرفع قواعدَ بنيانهم، وشيد وثيق أركانهم، واتّبع سبيلهم فِي نصْرَة حزب الإِسْلام وأوليائه، ومحاربة حَرْبِ الدِّين وأعدائه، وغَضِب لله جلّ جَلَاله من طغيان

خبر سعد العشيرة

المترفين وعدوان الْمُسْرِفين، فَجَاهد فِي سَبِيل ربه بِنَفسِهِ وَمن أطاعه من أَهله الْمُتَّقِينَ، وأوليائه من أماثل الْمُسلمين، وإخوانه فِي الملَّة والدِّين، وَأبْدى صفحته، وبذل فِي ذَاتَ اللَّه مَاله وصحبته، فَقضى اللَّه تَعَالَى لَهُ بالتوفيق والسعادة، وَختم لَهُ بالفوز وَالشَّهَادَة، وَنَقله إِلَى دَار كرامته، وَجعل أعداؤه بغرض الانقلاب إِلَى دَار عَذَابه ونقمته. حَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاذِ الْمُؤِّدب خَلَف بْن أَحْمَد، قَالَ سَمِعت المازنيِّ ينشد: وَلرُبَّ ذِي مالٍ ترَاهُ مُبَاعدا ... كَالْكَلْبِ ينبحُ من وَرَاء البابِ وَترى الأديب وَإِن دَهَتْه خَصَاصَةٌ ... لَا يُسْتَخَفُّ بِهِ عَلَى الأبوابِ وَلَقَد أحسن ابنُ الرُّومِي فِي قَوْله: فَلا تفتخر إِلَّا بِمَا أَنت فاعلٌ ... وَلَا تحسبن المَجْد يُوَرثُ كالنّسَب وَلَيْسَ يَسُود المرءُ إِلَّا بِفِعْلِهِ ... وَإِن عَدَّ آبَاء كرامًا ذَوِي حَسَب إِذَا الْعُود لَمْ يُثْمِرْ وَإِن كَانَ شُعْبَةً ... من الْمُثْمِرات اعْتَدَّه النّاسُ فِي الحَطَب وَهَذَا بَاب يَتَّسِع وَيكثر جمعه، وَلنَا فِيهِ رِسَالَة تشْتَمل عَلَى جملَة كَثِيرَة مِنْهُ. خبر سَعْد الْعَشِيرَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبرنِي عمي، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْن الْكَلْبِيّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: وَفَدَ سعدُ الْعَشِيرَة فِي مائَة من وَلَده إِلَى بَعْض مُلُوك حِمْير، وَكَانَ سعدٌ قَدْ عُمّر مائَة وَخمسين سنة، فَلَمّا دَخَلَ عَلَى الْملك قَالَ لَهُ: مَا مَعَك يَا سَعْد؟ قَالَ: عشيرتي، قَالَ: أَنْت سَعْدُ الْعَشِيرَة. فَسُمِّيَ سَعْد الْعَشِيرَة، قَالَ لَهُ الْملك: إِنَّهُ قَدْ بَلغنِي عَنْكَ رجاحةُ لُبِّ، ورصانةُ حِلم، وأصالة رَأْي، ونفاذٌ فِي الْأُمُور، مَعَ مَا جَرّبت من تصرف الدُّهور، فَهَل أَنْت مخبري عَمَّا أسائِلُك عَنْهُ؟ فَقَالَ: أَيهَا الْملك: إِن عَقْلِي وقلبي مضغتان مني، حَرَاهما الدَّهْر كَمَا حَرَى سَائِر جسمي، وَلَكِنِّي أَبُو روية ثاقبة مَا خذلتني مُنْذُ أيدتني، فَلْيقل الْملك أسمع، فَإِن أوفّق للصَّوَاب فبِيُمْنِ الْملك، وَإِن يَخُنِّي الجوابُ، فبمَا ثَلَمَتْهُ مِنِّيَ الأحْقابُ، قَالَ لَهُ: يَا سَعْد! مَا صلاحُ الْملك؟ قَالَ: أَيهَا الْملك! مَعْدَلةٌ شائعة، وهيبة وازعة، ورعية طَائِعَة، فَإِن فِي المعدَلة حَيَاة الْأَنَام، وَفِي الهيبة نفي الظلام، وَفِي طَاعَة الرّعية التآلف والالتئام. قَالَ لَهُ الْملك: يَا سَعْد! فَمن أَحْمَدُ الْمُلُوك إيَالا، وَأَحْسَنهمْ عِنْدَ الرّعية حَالا؟ قَالَ: من كثرتْ فِي اصطناع الْمَعْرُوف رغبته، ومالت إِلَى الأضياف رَحمته، وتخول بالمراعاة رَعيته، واعتدلت بهيبته رأفته، قَالَ: يَا سَعْد! يُسْتَدرك عَنْهُ الْمُلُوك حُسْنُ المكانة؟ وتُستبدل مِنْهُ الفظاظة بالليانة؟ قَالَ: بالمبالغة فِي طَاعَته، والانتهاء إِلَى مَشِيئَته، ومجانية مسخطته، والتقرب إِلَيْهِ بموافقته، قَالَ: فَبِمَ تُؤْمَن سطوة الْملك ويُحتجب من بَوَادِر

معنى الألفاظ اللغوية

عُقُوبَته؟ قَالَ: بِالنَّصِيحَةِ غَيْر المَمْذُوقة، وَأَدَاء الْأَمَانَة غَيْر المشوبة بالخيانة، وَقطع لِسَان العتاب بالحيطة بالمغيب، والتحفظ عَنْ إفشاء الْكَلِمَة فِي الطعْن عَلَيْهِ، فَإِن الْكَلَام إِذَا لَفَظَهُ اللِّسَان لَمْ تَمْلِك إِعَادَته إِلَى الْقلب، وَلم يُؤْمن مِنْهُ عَثْرةٌ غَيْر مُقَالة، وكبوة غَيْر مغتفرة، قَالَ: فَأَيْنَ يُوجد الرَّأْي الْأَصِيل، وَالصَّوَاب الألِيل؟ قَالَ: عِنْدَ الناصح اللبيب، الحازم الأريب، الَّذِي إعلانه ككمنونه، ومبتذله كمصونه، قَالَ: فَبِمَ يدْرك عَلَمُ الْأَمر فِي الولاج المَأزول والرأي المستور فِي مُسْتَقر التامور؟ قَالَ: بِإِحْدَى خلتين، إِمَّا بالعشيرة المماطلة، والتجربة المصاولة، أَوْ بالمحبة الْبَالِغَة، والبصيرة الثاقبة، قَالَ: من أَحَق النّاس بالمعاونة عَلَى دهره وأحراهم بالمساعدة عَلَى أمره؟ قَالَ: من جعلك سندًا لظهره، وَألقى إِلَيْكَ مقاليد أمره، وَجعل رجاءك عَامر صَدره، قَالَ: بِمَ تتأكد محبَّة الْخَاصَّة، ويستعطف رضَا الْعَامَّة؟ قَالَ: ببسط يَد العَدْل، أَوْ إِطْلَاق عقل الْبَذْل، والتجافي عَنِ العثار، مَا لَمْ يخرج ذَلِكَ إِلَى انتشار، قَالَ: فَبِمَ تحسن أحدوثة الْملك؟ قَالَ: بإرجائه الْعقُوبَة فِي سُلْطَان الْغَضَب، وتعجيل مُكَافَأَة المحسن قَبْلَ الطّلب، وتسليط الْحلم والأناة عَلَى الطيش والنزق واستصلاح أولى الانقياد لاستجلاب أولى الرهَق. معنى الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة قَالَ القَاضِي: قَول سَعْد الْعَشِيرَة فِي عقله وَقَلبه: حراهما الدَّهْر كَمَا حرى سَائِر جسمي مَعْنَاهُ نقصهما، يُقَالُ: حرى الشَّيء يحرى أَي نقص، كَمَا قَالَ الْقَائِل: فِي جَسَدٍ يَنْمِي وعَقلٍ يَحْرِي وَفِي قَوْله: فبمَا ثَلَمتَه مني الأحقاب يَعْنِي السنين، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: " لابثين فِيهَا أحقابا " وَالْوَاحد حُقْب، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " أَو أمضي حقبا " وَقيل إِن الحقب ثَمَانُون عَاما، وَقيل لَهُ: حقبة من الدَّهْر يُراد بِهِ الْمدَّة الطَّوِيلَة، قَالَ متم بْن نُوَيرة: يرثى أَخَاهُ مَالِكًا: وكُنّا كَنُدْمَانَيْ جَذيِمة حِقْبَةً ... من الدَّهْر حَتَّى قيل لن يَتَصَدَّعَا وَقَوله: أَحْمَد الْمُلُوك إيالا: يَعْنِي الْإِصْلَاح وَالتَّدْبِير والسياسة، وَيُقَال فلَان حَسَن الإيالة إِذَا وُصِف بِالْإِحْسَانِ فِي سياسة أمره، وَقَوله: الولاج المأزول يَعْنِي المَدْخل الضَّيِّق، وَيُقَال: أصَاب الْقَوْم أزل أَي شدَّة وضيق. قَالَ الشَّاعِر: وَإِن أفْسَد المَالُ الجماعاتِ والأزْل فَأَما الإزل بِكَسْر الْهمزَة: فالكذب، كَمَا قَالَ ابنُ دارة: يَقُولُونَ إزلٌ حُبٌّ ليلى وودُّها ... وَقد كَذَبوا مَا فِي مَوَدَّتِها إزْلُ وَقَوله: التامور يُرِيد الْقلب، ويعبر بالتّامور عَنِ النَّفس وَهُوَ الدَّم، يُقَالُ نفس سَائِلَة أَي دم، وَالنّفاس وَالنُّفَسَاء من هَذَا.

الوليد يوافق الحجاج على عسفه بآل المهلب

الْوَلِيد يُوَافق الحَجَّاج عَلَى عسفه بآل الْمُهلب حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق إِسْمَاعِيل بْن يُونُس، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَة بْن دراج، قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِي: كتب الحَجَّاج إِلَى الْوَلِيد بْن عَبْد الْملك يذكر عَسْفَهُ آل الْمُهلب ومطالبته إيَّاهُم بِمَا اختانوا من الْأَمْوَال، فَوَقع فِي كِتَابه بِخَطِّهِ: لَيْسَ للخائن حُرْمَة تبْعَث الْأَحْرَار عَنْ ترفيههم، فإياك وتضييع حق قَدْ وَجب، وَأَمَانَة مَال خطير يزين الدّولة ويُحَصِّن الْخلَافَة، وَيُؤْخَذ من خائن لَمْ يَشكر عَلَيْهِ، وَيدْفَع إِلَى نَاصح يحْتَاج إِلَيْهِ، فَلَمّا قَرَأَ الحَجَّاج كِتَابه أنشأ يَقُولُ متمثلا بِشعر من بني كلاب: وَإِنِّي لَصَوَّانٌ لنَفْسي وإنّني ... عَلَى الهول أَحْيَانًا بهَا لَرحُومُ وَإِنِّي لأزري فِي خلال كَثِيرَة ... عَلَى الْمَرْء أَن يختال وَهُوَ لئيمُ أَنَا أشعر أم أَنْت؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: أَخْبرنِي ثَابت بْن الزُّبَيْر بْن هِشَام، قَالَ: قَدِمَ الْمَأْمُون من خُرَاسَان وَمَعَهُ شَاعِر، فَلَقِيَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة فَقَالَ لَهُ: من أشعر أَنَا أم أَنْت؟ قَالَ: أَنْت أشعر وَأولى بالتقدمة ووقّره، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة: كم تَقول فِي اللَّيْلَة من بَيت شعر؟ قَالَ: رُبمَا أَقمت عَلَى القصيدة لَا تكون ثَلَاثِينَ بَيْتا شهرا، قَالَ: فَأَنا أشعر مِنْك، رُبمَا دَعَوْت الْجَارِيَة فأمليتُ عَلَيْهَا خمس مائَة بَيت، قَالَ: فحمي الْخُرَاساني فَقَالَ: لَوْ كنت أرْضى مِثل شِعرك لقلتُ فِي اللَّيْلَة خَمْسَة آلَاف بَيت، قَالَ: مثل أَي شعر؟ مثل قَوْلك: أَلا يَا عُتْبةَ السَاعَةْ ... أمُوت السّاعَةَ الساعهْ قَالَ: فاستضحك الْقَوْم مِنْهُ. وَحَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: قيل لأبي مهدية: يُعْجِبك قَول الشَّاعِر: أَلا يَا عتبَة السَاعَةْ ... أمُوت السّاعَةَ الساعهْ قَالَ: لَا، وَلكنه يَغُمُّني، قَالَ: فَقيل لَهُ: فَمَا يُعْجِبك؟ قَالَ: يُعجبنِي: جَاءَ زهيرٌ عارضًا رُمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رِمَاحُ هَلْ أحْدَثَ الدَّهْر لَنَا نكبةً ... أَوْ فُلَّ يَوْمَا لزهيرٍ سلاحُ بَدْء أَمر أبي الْعَتَاهِيَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن صَدَقة، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الأسَدِيُ، قَالَ: أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بْن سَلام، قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يعْمل الفخار، وَكَانَ أَبُو الْعَتَاهِيَة معتوهًا، وَكَانَ يعرف بإبراهيم الْمَجْنُون، قَالَ: فجَاء إنسانٌ يَوْمَا فصاح: أَيْنَ إِبْرَاهِيم الْمَجْنُون؟ فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة:

يقول شعرا وهو لا يدري

لَا ذنبَ إِن كَانَ ذَا جُنُونا ... كَذَا أَرَادَ اللَّه أَن أكونا وَانْطَلق يَقُولُ الشّعْر واشتهر بِهِ وبإحسانه فِيهِ. يَقُولُ شعرًا وَهُوَ لَا يدْرِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَحْمُود الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُوس بْن مهْدي بالكرخ، قَالَ: نزلت على ابْن أبي الْبَغْل عِنْدَ تقلده الإشراف عَلَى أَعمال الْجَبَل، فزارته مغنيةٌ كَانَ بهَا لَهِجًا عَلَى قِلَّة إعجابه بِالنسَاء، فَإنّا لَلَيْلةٌ وَنَحْنُ قُعُودٌ بِالْبُسْتَانِ نَشْرَبُ وَقَدْ طَلَعَ الْقَمَرُ، فَهَبَّتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ فَقَلَبَتْ صَوَانِيَنَا الَّتِي كَانَ فِيهَا شَرَابُنَا فَشِيلَتْ وَأَقْبَلَ الْغِلْمَانُ يَسْقُونَنَا، فَسَكِرَ ابْن أبي الْبَغْل عَلَى ضَعْفِ شُربه، وَقَامَ إِلَى مرقده وأخَذَنَا مَعَه والمغنية، فَلَمّا حصلنا فِيهِ استدعى قدحًا وَلنَا مثله، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: مغموسةٌ فِي الْحُسَن معشوقةٌ ... تقتلُ ذَا الصَّبِّ وتُحْيِيهِ باتَ يُرِينِيهَا هِلالُ الدُّجَى ... حَتَّى إِذَا غَاب أَرتْنِيهِ وَطرح الشّعْر عَلَى الْمُغنيَة فلقنته وغنتنا بِهِ، وشربنا الْقدح وانصرفنا، فَلَمّا كَانَ من غدٍ وحضرنا الْمَائِدَة وَهِي مَعَنَا فاتحناه بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَحلف أَنَّهُ لَمْ يعقل بِمَا جرى وَلَا بالشعر، واستدعى دفتره فَأثْبت الْبَيْتَيْنِ فِيهِ. طَرَأَ الواغل برغم هروبهم إِلَى الصَّحرَاء حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق الْمَعْرُوف بحرمي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن عبد الرَّحْمَن الْبَصْرِيّ وَيعرف بالمخضوب، بِمَكَّة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: حَدثنِي ابْن عَائِشَة: أنَّ ثَلَاثَة فتيَان من فتيَان أَهْلَ الْبَصْرَة وَكَانُوا يتنادمون، فتطربوا يَوْمَا إِلَى الصَّحرَاء وَالْخلْوَة فِيهَا مِمَّن يَغُلُّ عَلَيْهِمْ فِي شرابهم ويَنْبذ عَلَيْهِمْ، فَخَرجُوا فِي غِبِّ مطرٍ إِلَى ظهر الْبَصْرَة فَأخذُوا فِي شرابهم ولهوهم يتناشدون حَتَّى كَرُبَت الشَّمْسُ أَن تغيب، فَإِذا بأعرابي كالنجم المنقض يهوى حَتَّى جلس بَينهم، فَقَالَ بَعضهم لبَعض: قَدْ علمنَا أنَّ مثل هَذَا الْيَوْم لَا يتم لَنَا ثُمَّ قَالَ لَهُ أحدهم: أيُّهَا الواغلُ الثقيلُ عَلَيْنَا ... حِين طَابَ الحديثُ لِي ولِصَحْبي ثُمَّ قَالَ الآخر: خَلِّ عَنَّا فَأَنت أثقل والل ... هـ عَلَيْنَا من فَرْسَخَيْ دِيرِ كَعْبِ ثُمَّ قَالَ الثَّالِث: ومِن النّاس من يَخِفُّ ومنْهُمْ ... كَرَحَى البَزْرِ رُكِّبَتْ فَوق قَلْبِي فَقَالَ الأَعْرَابِي: لست بالبارح العشية والل ... هـ لشجٍّ وَلَا لِشِدَّة ضَرْبِ أَوْ ترَوْنَ بالْكِبَار مُشَاشي ... وتُعِلُّون بَعْدَ ذَاكَ بقَعْبِ

الواغل والوارش

وَطرح قِعْبا كَانَ معلّقا فضحكوا من ظَرْفِهِ وحَمَلوه مَعَهم إِلَى الْبَصْرَة فَلم يَزَلْ نديمًا لَهُمْ. الواغل والوارش قَالَ القَاضِي: الواغل الَّذِي يَغِلُ عَلَى الشِّرْب من غَيْر أَن يَدْعُوَهُ النّاس، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: فاليوم أشربُ غَيْر مُسْتَحْقبٍ ... إِثْمًا من اللَّه وَلَا وَاغِلِ وَيُقَال للَّذي يفعل مثل هَذَا فِي الطَّعَام وارش. احتكم يَا أَبَا السِّمْط حَدَّثَنَا يزْدَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي عِيسَى بْن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقُتَبي، قَالَ: قَدِمَ معنُ ابْن زَائِدَة بَغْدَاد فَأَتَاهُ النّاس وَأَتَاهُ ابْن أبي حَفْصة، فَإِذا الْمجْلس غَاصٌ بأَهْله، فَأخذ بعضَادَتَيِ الْبَاب ثُمَّ قَالَ: وَمَا أحْجَم الأعْدَاءُ عَنْكَ تَقِيَّةً ... عَلَيْكَ ولكنْ لَمْ يَرَوا فِيك مَطْمَعَا لَهُ راحتان الْجُود والحَتْفُ فيهمَا ... أبَى اللَّه إِلَّا أَن يَضُرَّ ويَنْفَعَا فَقَالَ معن: احتكم يَا أَبَا السِّمْط؟ فَقَالَ: عشرَة آلَاف، فَقَالَ معن: ربحتُ وَالله عَلَيْكَ تسعين ألفا. مُكَافَأَة بغا عَلَى شجاعته حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عليّ بْن الْحُسَيْن بن عبد الْأَعْلَى الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي عليّ بْن الْحُسين بْن عَبْد الْأَعْلَى، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن طَاهِر قَدْ أهْدى للمعتصم شُهْرُبين مُلَمّعين ذَكَرَ أنَّ خُرَاسَان لَمْ تُخرج مثلهمَا، فَسَأَلَهُ بغا أَن يحملهُ عَلَى أَحدهمَا فَأبى وَقَالَ: تَخَير غَيرهمَا مَا شِئْت فخُذه، قَالَ: فخرجنا وَلم يَأْخُذ شَيئًا فَلَمّا كُنَّا بطبرستان عرض لَهُ قَوْمٍ من أَهلهَا، فَقَالُوا: أعز اللَّه الْأَمِير! إِن فِي بَعْض الْغِياض سَبُعًا قَد استكلب عَلَى النَّاس وأقناهم، فَقَالَ: إِذَا أردْت الرحيل غَدا فكُونوا مَعي حَتَّى تَقِفُوني عَلَى مَوْضِعه، قَالَ: فَلَمّا رحلنا من غَد حضر جمَاعَة مِنْهُم فَانْفَرد مَعَهم فِي عشْرين فَارِسًا من غلمانه، وَمَعَهُ قوسه ونشابتان فِي منطقته، قَالَ: فصاروا بِهِ إِلَى الغيضة فثار السَّبع فِي وَجهه من بَينهم، قَالَ: فحرك فرسه من بَين يَدَيْهِ وَأخذ نشابة من النشابتين فَرَمَاهُ فِي استه، فَمر السهْم فِيهَا إِلَى الريش، وَركب السَّبع رَأسه، قَالَ: وَعَاد بغا إِلَيْهِ فَمَا أجترأ أحد عَلَى النُّزُول إِلَيْهِ حَتَّى نزل بغا فَوَجَدَهُ مَيتا، قَالَ: فشبرناه فَكَانَ من رَأسه إِلَى رَأس ذَنبه سِتَّة عشر شبْرًا، ووجدناه أحَصَّ الشّعْر إِلَّا مَعْرِفَتَه، قَالَ: فكتبنا بِخَبَرِهِ إِلَى المعتصم، فلحقنا جوابُ كتَابنَا بُحلوان يذكر فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تفاءلت بقتل السَّبع، وَرَجا أَن يكون من عَلَامَات الظفر ببابك، وَأَنه قَدْ وجّه إِلَى بُغا بالشهربين اللَّذين كَانَ طلب أَحدهمَا فَمَنعه، وبسبع خلع من خَاصَّة خلعه وثيابه، وَخمْس مائَة ألف دِرْهَم صلَة لَهُ وَجَزَاء عَلَى قَتله السَّبع، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ المعتصم بذلك إضراؤه عَلَى طَاعَته ومجاهدة عدوه.

أول ما ظهر من فهم سليمان عليه السلام

قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي السَّبع وَجَدْنَاهُ أحَصّ: لَا شعر عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: قَدْ حصَّتِ البَيْضة رَأْسِي فَمَا ... أُطْعَمُ نَوْمًا غَيْر تِهْجَاعِ أول مَا ظهر من فهم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السّلام حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن سُفْيَان، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن صَالح، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْوَلِيد، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيد بْن بشير، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِد، عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس، قَالَ: لمّا تزوج دَاوُد عَلَيْهِ السّلام بِتِلْكَ الْمَرْأَة، وولدتْ لَهُ سُلَيْمَان بْن دَاوُد بَعْدَمَا تَابَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، غُلَاما طَاهِرا نقيًا فهما عَاقِلا عَالما، وَكَانَ من أجمل النّاس وأعظمه وأطوله، فَبلغ مَعَ أَبِيهِ حَتَّى كَانَ يشاوره فِي أُمُوره ويدخله فِي حكمه، فَكَانَ أول مَا عرف دَاوُد من حكمته وتفرس فِيهِ النُّبُوة أنَّ امْرَأَة كَانَتْ كُسِيت جمالا، فَجَاءَت إِلَى القَاضِي تخاصمُ عِنْدَهُ، فَأَعْجَبتهُ فَأرْسل إِلَيْهَا يخطبها، فَقَالَت: مَا أُرِيد النِّكَاح فَرَاوَدَهَا عَلَى الْقَبِيح، فَقَالَت: أَنَا عَنِ الْقَبِيح أبعد، فَانْقَلَبت مِنْهُ إِلَى صَاحب الشرطة فأصابها مِنْهُ مثل الَّذِي أَصَابَهَا من القَاضِي، فَانْقَلَبت إِلَى صَاحب السُّوق فَكَانَ مِنْهُ مثل ذَلِك، فَانْقَلَبت مِنْهُ إِلَى حَاجِب دَاوُد فأصابها مِنْهُ مَا أَصَابَهَا من الْقَوْم، فرفضت حَقّهَا ولزمت بَيتهَا فَبينا القَاضِي وَصَاحب الشرطة وَصَاحب السُّوق والحاجب جُلُوس يتحدثون فَوَقع ذكرهَا، فتصادق القوم بَينهم وشَكَا كلُّ وَاحِد مِنْهُم إِلَى صَاحبه مَا أَصَابَهُ من الْعجب بهَا، قَالَ بَعضهم: وَمَا يمنعكم وَأَنْتُم وُلَاة الْأَمر أَن تتلطفوا بهَا حَتَّى تستريحوا مِنْهَا فَاجْتمع رأيُ الْقَوْم عَلَى أَن يشْهدُوا أنَّ لَهَا كَلْبًا وَأَنَّهَا تضطجع فترسله عَلَى نَفسهَا حَتَّى ينَال مِنْهَا مَا ينَال الرَّجُل من الْمَرْأَة، فَدَخَلُوا عَلَى دَاوُد عَلَيْهِ السّلام، فَذكرُوا لَهُ أنَّ امْرَأَة لَها كلب تُسَمِّنُه وترسله عَلَى نَفسهَا حَتَّى يفعل بهَا مَا يفعل الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ فكرهنا أَن نرفع أمرهَا إِلَيْكَ حَتَّى تَتَحقّق، فمشينا حَتَّى دَخَلنَا منزلا قَرِيبا مِنْهَا فِي السَّاعَة الَّتِي بلغنَا أَنَّهَا تفعل ذَلِكَ، فَنَظَرْنَا إِلَيْهَا كَيْفَ حَلّتْه من رباطه ثُمَّ اضطجعت لَهُ حَتَّى نَالَ مِنْهَا مَا ينَال الرَّجُل من الْمَرْأَة، ونظرنا إِلَى الميلِ يدْخل فِي الْمُكْحلة وَيخرج مِنْهَا، فَبعث دَاوُد عَلَيْهِ السّلام فَأتى بهَا فرجَمَها، فَخرج سُلَيْمَان يَوْمئِذٍ وَهُوَ غلامٌ حِين ترعرع وَمَعَهُ الغلمان وَمَعَهُ حصانه يلْعَب، فَجعل مِنْهُم صَبيا قَاضِيا آخر عَلَى الشرطة وَآخر عَلَى السُّوق وَآخر حاجبًا وَآخر كَالْمَرْأَةِ، ثُمَّ جَاءُوا يشْهدُونَ عِنْدَ سُلَيْمَان مثل مَا شهد أُولَئِكَ عِنْدَ دَاوُد عَلَيْهِ السّلام يريدونَ رَجْم ذَلِكَ الصَّبِي كَمَا رُجِمَت الْمَرْأَة، قَالَ سُلَيْمَان عِنْدَ شَهَادَتهم: فَرِّقُوا بَينهم، ثُمَّ دَعَا بِالصَّبِيِّ الَّذِي جعله قَاضِيا، فَقَالَ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا كَانَ لَوْن الْكَلْب؟ قَالَ: أسود، قَالَ: نَحُّوه، ونادى بِالَّذِي جعل على الشرطة، فَقَالَ لَهُ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا كَانَ لَوْن الْكَلْب؟ قَالَ أَحْمَر، قَالَ: نَحُّوه، ثُمَّ دَعَا بِصَاحِب السُّوق فَقَالَ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا كَانَ لون الْكَلْب؟ قَالَ: أَبيض قَالَ: نَحُّوه، ثُمَّ دَعَا بِالَّذِي

المجلس الثالث والعشرون

جعله حاجبًا، فَقَالَ: أيقنت الشَّهَادَة؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا كَانَ لَوْن الْكَلْب؟ قَالَ: أغبش، قَالَ: أردتم أَن تَغُشُّوني حَتَّى أرْجُمَ امْرَأَة من الْمُسلمين، فَقَالَ للصبيان: ارجمُوهُم، وخلّي سَبِيل الصَّبِي الَّذِي جعله امْرَأَة وَرجع إِلَى حصانه، فَدَخَلُوا عَلَى دَاوُد عَلَيْهِ السّلام فأخبروه الْخَبَر، فَقَالَ دَاوُد: عليّ بالشهود السَّاعَة وَاحِدًا وَاحِدًا فَأتى بهم فَسَأَلَ القَاضِي: مَا كَانَ لون الْكَلْب؟ قَالَ: أسود، ثُمَّ أَتَى بِصَاحِب الشرطة فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَبيض، ثُمَّ أَتَى بِصَاحِب السُّوق فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كَانَ أَحْمَر، ثُمَّ أَتَى بالحاجب فَسَأَلَهُ فَقَالَ: كَانَ أغبش، فَأمر بهم دَاوُد عَلَيْهِ السّلام فَقتلُوا مَكَان الْمَرْأَة، فَكَانَ هَذَا أَوْل مَا استبان لداود عَلَيْهِ السّلام من فهم سُلَيْمَان عَلَيْهِ السّلام. وَقد حدث فِي أيّام الدّولة العباسية فِي وَدِيعَة أودعها بَعْض الشُّهُود بواسط، فأبدلها واختان صَاحبهَا فِيهَا مَا يضارع هَذِهِ الْقِصَّة من بَعْض جهاتها، نَحن نأتي بهَا فِيمَا نستأنفُه من مجَالِس كتَابنَا هَذَا إِن شَاءَ اللَّه. الْمجْلس الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من مَكَارِم الْأَخْلَاق حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمَحَارِمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّاشِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاهِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سكين ابْن أَبِي سِرَاجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورًا يَدْخُلُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ يَكْشِفُ عَنْ كَرْبِهِ أَوْ يَسُدُّ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ لأَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخٍ لَهُ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ ". قَالَ القَاضِي: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سَعِيد فِي سكين، يُقَالُ سُكَيْنُ بْن أبي سراج وسكين بْن سراج، قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر ترغيبٌ فِي أَنْوَاع من أَفعَال الْخَيْر وأبواب الْبر وَمَكَارِم الْأَخْلَاق، وذَمٌّ لسوء الْخلق وتكريهٌ لَهُ، وكل فصل من فُصُول هَذَا الْخَبَر قَدْ أَتَى فِي مَعْنَاهُ أَخْبَار، وَرويت فِي مجالسه آثَار عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن تقدمنا من الْأَئِمَّة الماضين وَالسَّلَف الصَّالِحين، والخاصة من عُلَمَاء الْمُسلمين وحكماء أَهْلَ الدِّين، وَكِتَابنَا هَذَا مُتَضَمّن لكثير مِنْهُ مُتَفَرقًا فِي الْمجَالِس المرسومة فِيهِ، وحقيق عَلَى من كَرُمَتْ نَفسه عَلَيْهِ، وحُبِّبَتْ مَنَافِعهَا إِلَيْه، أَن يسْعَى فِي اكْتِسَاب مَا يزينها ويصلحها، ويهذب أخلاقه ويُنَقحها، ويهجر مَذْمُوم الْخَلَائق ويطرحها، نسْأَل اللَّه المعونة عَلَى ذَلِكَ بفضله وَطوله، وقوته وَحَوله.

خبر عمرو بن المسبح أرمى عربي

خبر عَمْرو بْن المسبح أرمى عَرَبِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنِ الْعَبَّاس بْن هِشَام، قَالَ: حَدَّثَنِي جميل بْن مُرَاد الطَّائِي من بني معن، عَنْ أشياخه، قَالَ: كَانَ عَمْرو بْن المسبح أرمي عربيٍّ عَلَى وَجه الأَرْض فَأدْرك امْرَأَ الْقَيْس وَله يَقُولُ امْرُؤ الْقَيْس: رُبَّ رامٍ من بَنِي ثُعَلٍ وعاش حَتَّى أدْرك النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْن خمسين وَمِائَة سنة فَسَأَلَهُ عَنِ الصَّيْد، فَقَالَ " كل مَا أصْمَيْت ودَعْ مَا أنْمَيْت " وَفِيه يَقُولُ رجلٌ من طييء: نَعَبَ الْغُرَابُ ولَيْتَهُ لَمْ يَنْعَبِ ... بالبين من سَلْمَى وأمِّ الحَوْشَبِ ويروى زعب الْغُرَاب وَهِي لُغَة، قَالَ القَاضِي: وَكَأن زعب فِي هَذِهِ اللُّغَة من رفع الشَّيء وَأَخذه وَمِنْه قَول النَّبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد بن عَمْرو: " وأرغب لَك من المَال " قَالَ الشَّاعِر: لَيْت الْغُرَاب رَمَى حِمَاطَةَ قَلْبهِ ... عَمْروٌ بأسهمه الَّتِي لَمْ تُلْغَبِ ويروى تغلب، واللغاب عيب فِي السِّهَام، وَهُوَ اخْتِلَاف فِي الريش الَّتِي يراش بهَا واللُّؤام خِلَافه وَهُوَ مَحْمُود، وَذكر ابْن الْكَلْبِيّ أنَّ عمرا هَذَا كَانَ يمر بِهِ السِّرْبُ من القطا يطير فِي السَّمَاء، فَيَقُول: أيتها تُرِيدُونَ؟ فيشار لَهُ إِلَى وَاحِدَة فيصرعها، قَوْله: كُلْ مَا أصْمَيْتَ ودع مَا أنميت، يُقَالُ: أصمى الرَّجُل الصَّيْد إِذَا أَصَابَهُ فَمَاتَ بِحَضْرَتِهِ، وأنماه إِذا أَصَابَهُ فتحامل فعاب عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ وأشواه إِذَا أخطأه وَيُقَال: هَذَا شَوًى إِذَا لَمْ يصب المقتل، قَالَ الشَّاعِر: وَكنت إِذَا الْأَيَّام أحْدَثنَ نكبةً ... أَقُول شَوًى مَا لَمْ يُصِبْن صَمِيمي وَيُقَال: أشوي إِذَا أَخطَأ الصميم وَأصَاب الْأَطْرَاف كاليدين وَالرّجلَيْنِ، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: سَلِيمُ الشّظَى عَبْل الشّوى شَنِج النّسَا ... لَهُ حَجَبَاتٌ مُشْرِفَات عَلَى الفَال وَقد يُقَالُ لجلدة الرَّأْس شواة وَتجمع شوا، وَقَالَ بَعْض أَهْلَ التَّأْوِيل فِي قَوْله عزَّ ذكره " نَزَّاعَةً لِلشَّوَى " أنَّ مَعْنَاهُ الْأَطْرَاف، وَقيل: فَرْوَة الرَّأْس، وَقيل الْهَام، وَقيل العصب والعقب، وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي أكل الصَّيْد إِذَا أَتَاهُ راميه وَغَابَ عَنْ عينه فأحلّه بَعضهم، وحَرّمه بَعضهم عَلَى ظَاهر الْخَبَر الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقدر آخَرُونَ لغيبته مدَّة عَلَى اخْتِلَاف مِنْهُم فِي قَدْرِهَا، قَالَ القَاضِي: وَأرى أَنَّهُ قيل للرامي فِي الْموضع الَّذِي وَصفنَا لإصابته الصميم، وأصمى أَصله عِنْدِي أصْمم فاسُتثْقِل التَّضْعِيف فَقيل أصمى، وأشْبِعت فَتحة الْمِيم الأولى فَصَارَت ألفا مَكَان الْمِيم الثَّانِيَة وبدلا مِنْهَا، وَالْعرب تَقول: تمطى فلَان من المطا وَهُوَ الظّهْر وَأَصله تمطط، وَيَقُولُونَ تقضى من القضة وَأَصله تقضض، قَالَ الراجز: دَانِي جَنَاحَيْه من الطّور فَمَرّ ... تَقَضَى البَازِي إِذَا البَازِي كَسَر

لم يسمع بأسرة دخلت الإسلام كهؤلاء

وَهَذَا الْبَاب كثيرٌ جدا، وَمَا وجدت أحدا سبقني إِلَى مَا قلتُ فِي الصميم وَهُوَ بَيِّن، وَمن الشوى بِمَعْنى فَرْوَة الرَّأْس، قَول الشَّاعِر: إِذَا هِيَ قَامَت تقشعر شواتها ... ويشرق بَين اللَّيْث مِنْهَا إِلَى الصُّقْل وَقَالَ الْأَعْشَى: قَالَت قُتَيْلَةُ مَا لَهُ ... قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ وَذكر عَنْ أبي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ قَالَ: من رَوَاهُ هَكَذَا فقد صَحّف، وَزعم أَنَّهُ سَرَاتُه بِالسِّين وَالرَّاء يَعْنِي أَعْلَاهُ، وَمَا ذكره أَبُو عَمْرو أولى بالتصحيف، وَرِوَايَة الْبَيْت بالشين وَالْوَاو، وَقد ثَبت وَصحت فِي تَأْوِيلهَا وعُرفت، وَقَول أَبِي عَمْرو فِي السراة صَحِيح لَوْ أَتَى بِهِ الشَّاعِر، وَمن السّراة قَول امْرِئ الْقَيْس: كَأَن سَرَاتَهُ وجِدَّةَ مَتْنِهِ ... مَدَكُّ عروسٍ أَوْ صَرَايَةَ حنظل وَقد روى أنَّ أَبَا عَمْرو لمّا تبين صِحَة الرِّوَايَة بالشين رَجَعَ إِلَيْهَا، وَقد ذكرنَا كلَاما فِي هَذَا الْفَصْل أشْبع من هَذَا فِي كتَابنَا الَّذِي أمللناه فِي شرح مُخْتَصر الْجرْمِي فِي النَّحْو. لَمْ يُسْمع بأسرة دخلت الإِسْلام كهؤلاء وَحَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد، عَنِ الْعَبَّاس بْن هِشَام، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيد بْن عَبْد اللَّه الْجعْفِيّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَشْيَاخ قومه قَالُوا: كَانَتْ عِنْدَ أبي سَبْرة وَهُوَ يزِيد بْن مَالك بْن عَبْد اللَّه بْن الذُّؤَيب بْن سَلَمَة بْن عَمْرو بْن ذهل بْن مُرّان بْن جُعْفي امْرَأَة مِنْهُم فَولدت لَهُ سَبْرة وعَزيزًا ثُمَّ مَاتَت فورّثت ابناها إبِلا، ثُمَّ تزوج أَبُو سُبْرَة أُخْرَى فجفا ابنيه ونحاهما فِي إبلهما الَّتِي ورثاها عَنْ أمهما، فَلَمّا بلغهما مهاجرة النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سُبْرَة لمولى لأمه كَانَ يرْعَى عَلَيْهِ: ابغني نَاقَة كِنَازًا ذاتَ لبن، فَقَالَ القَاضِي: هِيَ الْكَثِيرَة اللَّحْم المجتمعة الْجِسْم، فَأَتَاهُ بهَا فركبها وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِيهِ: أَلا أبْلِغا عني يَزِيدَ بْن مَالِكٍ ... ألمّا يَأنِ للشّيخ أَن يَتَذَكّرا رَأَيْت أبَانَا صَدَّ عَنّا بِوَجْهِهِ ... وأمسَك عنّا مَالَه وَتَنَمّرا ثُمَّ توجّه إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأسلم وَأَقْبل أَخُوهُ عَزِيز، فَقَالَ للْمولى: أَيْنَ أخي؟ قَالَ: نَدَّت لَهُ نَاقَة فَذهب فِي طلبَهَا، فَنظر فِي الْإِبِل فَلم يرَ شَيئًا، فَقَالَ للْمولى: لَتُخْبِرنّي، فَأخْبرهُ وأنشده الْبَيْتَيْنِ، فَدَعَا بِنَاقَة فركبها وَهُوَ يَقُولُ: أَلا أبلغا عنّي معاشر مذْحج ... فَهَل لي من بَعْد ابْن أُمِّيَ مِعْبَرُ وَلحق بِالنَّبِيِّ صلّى اللَّه عَلَيْهِ فَأسلم، ثُمَّ أقبل أَبُو سُبْرَة فَقَالَ للْمولى: أَيْنَ ابناي؟ فَأخْبرهُ خبرهما وأنشده شعرهما، فَركب وَهُوَ يَقُولُ: وسبرة كَانَ النَّفس لَوْ أنَّ حَاجَة ... تُرَدُّ وَلَكِن كَانَ أمرا تَيَسّرا

خبر مقتل عمرو ذي الكلب

وَكَانَ عَزِيزٌ خَلّتي فرأيتهُ ... تولّى وَلم يقبل عَلَيَّ وأدْبرا ثُمَّ لحق بهما وَخلف عِنْدَ الْمولى غُلَاما لَهُ يُقَال لَهُ شَنْفر، فَمَكثَ الْمولى أَيَّامًا ثُمَّ لحق بهم وَأنْشد يَقُولُ: بُدِّلْت أنيابًا حِيالا وشَنْفَرَا ... بأهْلِي لَا أرْضَى بِهِمْ من أُولَئِك قَالَ القَاضِي: الأنياب جمع نَاب وَهِي النَّاقة المسنة، والحيال: جمع حَائِل وَهِي الَّتِي حَالَتْ عَنْ أَن تشْتَمل عَلَى حمل، فَأتى أَبُو سُبْرَة النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ ابناه فأسلموا، فَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَزِيز: مَا اسْمُك؟ قَالَ: عَزيز، قَالَ: لَا عَزِيز إِلَّا اللَّه، أَنْت عَبْد الرَّحْمَن، وَقَالَ أَبُو سَبْرة للنَّبِي صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم: إِن بِظهْر كَفّي سَلْعة قَدْ مَنَعَتْني من خطام رَاحِلَتي، فَدَعَا النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدح فَجعل يَضْرِبُ بِهِ عَلَى السَّلْعة ويَمْسَحُها فَذَهَبت، ودعا لَهُ ولابنيه وأقطعه جروان وَاديا فِي بِلَاد قومه، قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: فَلم يسمع لأهل بَيت أجابوا إِلَى الإِسْلام طَوْعًا بِمثل هَؤُلاءِ. خبر مقتل عَمْرو ذِي الْكَلْب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنِ الذمارِي، قَالَ: دَخَلَ عَمْرو بْن معدي كرب الزَّبِيديّ عَلَى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَوْمَا، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا ثَوْر! أَخْبرنِي بِأَعْجَب مَا رَأَيْت، فَقَالَ: إِنِّي أخْبرك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنِّي خرجت يَوْمَا أُرِيد حَيا من أَحيَاء الْعَرَب حَتَّى إِذَا مَا كنت بواد يُقَالُ لَهُ بطن شريان إِذَا أَنَا بِرَجُل مفترس أسدًا قَدْ أَدخل رَأسه فِي جَوْفه، وَهُوَ يلغ فِي دَمه كَمَا يفترس الْأسد النّاس والبهائم ويلغ فِي دِمَائِهِمْ، فهالني ذَلِكَ وراعني وظننته شَيْطَانا ثُمَّ عاتبت نَفسِي، فَصحت بِالرجلِ فوَاللَّه مَا نهنه صياحي بِهِ حَتَّى صحت بِهِ صَيْحَة أُخْرَى فَلم يبل، فَصحت الثَّالِثَة فَرفع رَأسه وَنظر إليَّ وَعَيناهُ كالجمرتين، ثُمَّ أعَاد رَأسه فِي جَوف الْأسد احتقارًا لي، فوقفت أنظر إِلَيْهِ تَعَجبا مِنْهُ، فَأَقْبَلت حَيَّة كَانَ عَلَى طريقها تكون شبْرًا أَوْ نَحوه فتعثرت بِهِ فلدغته لدغة فِي مَنْكِبه كَمَا كَانَ باركا عَلَى الْأسد، فصاح مِنْهَا صَيْحَة ثُمَّ أطرق فَلم أره يَتَحَرَّك كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فدنوت مِنْهُ فَإِذا سيف لَهُ وقوسٌ موضوعان، وَفرس مشدود فَأخذت سلاحه، فَلم يَتَحَرَّك فأممته ودنوت مِنْهُ وَضربت بيَدي إِلَى ذِرَاعَيْهِ فتبعتني وَالله يَده من الْكَفّ فَوَقَعت، فَقلت: إِن هَذَا للعجب، لَا أَبْرَح حَتَّى أعلم علمه عِنْدَ بَعْض من يمر فأسأله فَإِذا كلب رابض نَاحيَة، فَأَقْبَلت السبَاع والنسور فحماه الْكَلْب فَلَمَّا جنني اللَّيْل انصرفت وَتركته عَلَى هَيئته فَمضى لذَلِك زمن، فَبينا أَنَا بسوق عكاظ فِي أيّام الْمَوْسِم فِي أجمع مَا كَانَ النَّاس، إِذَا امْرَأَة تَنْشُدُ الرَّجُلَ فَعرفت النَّعْت وَالصّفة، فقلتُ: أَنَا صَاحب الرَّجُل، وَهَذَا سَيْفه وقوسه، قَالَ: فَقَالَت: يَا عَمْرو! إِنَّهُ لَا يجمل بمثلك الْكَذِب وَأَنت فَارس قَوْمك، فأسألك باللاتِ والْعُزّى إِلَّا صَدَقْتني، فخبرتها الْخَبَر، فَقَالَت: صدقت، وَإِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِكَ لِأَن أسدًا مرّة عدا عَلَى أَخ كَانَ لَهُ يُقَالُ لَهُ صَخْر فَأَكله، فآلى عَلَى نَفسه أَلا

أيهما أجود

يلقى أسدًا إِلَّا افترسه وولغ فِي دَمه، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ كلب، فَسمى عمرا ذَا الْكَلْب، وَأَنا أُخْته الْجنُوب، وبكته فِي شعر تَقول فِيهِ: وكلّ حَيّ وَإِن طالَتْ سَلامَتُهم ... يَوْمَا طريقهمُ فِي الشَّرِّ مركُوب أبلغ هُذيلا وخصِّص فِي سَرَاتِهِمُ ... عَنِّي مقَالا وبعضُ القَوْل تكذيبُ بِأَن ذَا الْكَلْب عمرا خيرهُم نَسَبًا ... بِبَطن شريان يَعْوِي عِنْدَهُ الذِّيبُ تمشي النسور إِلَيْهِ وَهِي لاهية ... مَشْيَ العذارى عَلَيْهِن الجَلابِيبُ الطاعنُ الطَّعْنَةَ النَّجْلاءَ يتبعُها ... مُثْعَنْجِرٌ من نَجِيعِ الجَوْفِ أُثْغُوبُ أَيهمَا أَجود؟ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْن يزِيد، عَنْ صَالح بْن كيسَان، وحَدثني الْحَسَن بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن ضحاك، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بْن مُحَمَّد، عَنْ عوَانَة، قَالَ: وَفد عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس عَلَى مُعَاوِيَة بْن أبي سُفْيَان، فَلَمّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق عارضته سَحَابَة فأمَّ أبياتًا من الشِّعرَ، فَإِذا هُوَ بأعرابي قَدْ قَامَ إِلَيْهِ فَلَمّا رَأَى هَيئته وبهاءه، وَكَانَ من أحسن النَّاس شارة وَأَحْسَنهمْ هَيْئَة، قَامَ إِلَى عُنَيْزة لَهُ ليذبحها فجاذبته امْرَأَته ومانعته، وَقَالَت: أكَلَ الدهرُ مَالَك وَلم يُبْق لَك ولبناتك إِلَّا هَذِهِ الْعُنَيْزة يتمتعون مِنْهَا ثُمَّ تُرِيدُ أَن تَفْجَعَهُنّ بهَا، فَقَالَ: وَالله لأذبحنّها، فذبْحُها أحسن من اللُّؤم، قَالَت: إِذن وَالله لَا تبقي لبناتك شَيئًا فَأخذ الْعُنَيْزة - وأضجعها، وَقَالَ: قَرِينَتِي لَا تُوقِظي بُنَيَّهْ ... إِن توقظيها تنتحب عَلَيْهِ وتنزع الشَّفْرَة من يَدَيَّه ... أبْغِضْ بِهَذَا وبذا إِلَيَّه ثمَّ ذبح الشَّاة وأضرم نَارا وَجعل يقطع من أطايبها وَيُلْقِيه عَلَى النّار ثُمَّ يناوله عُبَيْد اللَّه ويحدثه فِي خلال ذَلِكَ بِمَا يُلْهيه ويضحكه، حَتَّى إِذا أصبح عبيد اللَّه وانجلت السحابة وهَمَّ بالرحيل قَالَ لقيِّمِه: مَا مَعَك؟ قَالَ: خمس مائَة دِينَار، قَالَ: ألقها إِلَى الشَّيْخ، قَالَ: القَيِّم جعلتُ فِداك، إِن هَذَا يُرضيه عُشْر مَا سميت وَأَنت تَأتي مُعَاوِيَة وَلَا تَدْرِي عَلَى مَا توافقه عَلَى ظَاهره أم على بَاطِنه، قَالَ: وَيحك إِنَّا نزلنَا بِهَذَا وَمَا يملك من الدُّنْيَا إِلَّا هَذِهِ الشَّاة فَخرج لَنَا من دُنْيَاهُ كلهَا، وَإِنَّمَا جُدْنا لَهُ بِبَعْض دُنْيَانَا فَهُوَ أَجود منا، ثُمَّ ارتحل فَأتى مُعَاوِيَة فَقضى حَوَائِجه، فَلَمّا انْصَرف وَقرب من رَحل الأَعْرَابِي قَالَ لوَكِيله: انْظُر مَا حَال صاحبنا، فعوَّل إِلَيْهِ فَإِذا إبل وَحَال حَسَنَة وَشاء كثير، فَلَمّا بصر الأَعْرَابِي بعبيد اللَّه قَامَ إِلَيْهِ فأكب عَلَى أَطْرَافه يقبلهَا، ثُمَّ قَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، قَدْ مدحتك وَمَا أَدْرِي من أَي خَلْقٌ اللَّه أَنْت ثُمَّ أنْشدهُ:

مطايب الجزور وأطايب الفاكهة

توسَّمْتُه لمّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ وَقلت: المَرْءُ من آلِ هاشمِ والا فمِنْ آل الْمُرَار فإنَّهُم ... مُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك الأكارم فَقُمْت إِلَى عنز بَقِيَّة أعنزٍ ... فأذبحها فعل امرئٍ غَيْر نادم فعوَّضني مِنْهَا غِنَايَ وإنَّمَا ... يُسَاوي لُحيم العَنْزَ خمس دَرَاهِم أفدتُ بهَا ألفا من الشَّاء حُلَّبا ... وعبدًا وَأُنْثَى بَعْدَ عَبْد وخادم مباركة من هاشمي مبارك ... خِيَار بني حَوَّاء من نسل آدم فَللَّه عينا من رَأْي لعُنَيزة ... أفادت وراشت بَعْدَ عَشْر قوادم فَقلت لعِرْسِي فِي الْخَلَاء وصِبْيَتِي ... أحقٌّ ترى هَذَا أم أَحْلَام نَائِم قَالَ عُبَيْد اللَّه: قَدْ أصبتُ وَأَنا من وُلَد الْعَبَّاس وَأَنا من آل المرار، فبلغت مُعَاوِيَة، فَقَالَ: لله درُّ عُبَيْد اللَّه، من أَي بَيْضَة خَرَجَ، وَفِي أَي عُش درج، عُبَيْد اللَّه معلِّم الْجُود، وَهُوَ وَالله كَمَا قَالَ الحطيئة: أُولَئِكَ قومٌ إِن بَنَوْا أحسَنُوا الْبِنا ... وَإِن عاهدُوا أوْفَوْا وَإِن عَقَدُوا شَدُّوا وَإِن كَانَت النُّعْمى عَلَيْهِمْ جَزَوْا بهَا ... وَإِن انْعَمُوا لَا كدَّرُوها وَلَا كدوا مطايب الْجَزُور وأطايب الْفَاكِهَة قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: وَجعل يقطع من أطايبها، وَالصَّوَاب من مطايبها هَكَذَا يُقَالُ فِي اللَّحْم، وَالْعرب تَقول: مطايب الْجَزُور وأطايب الْفَاكِهَة، والمطايب من الْجمع الَّذِي لَا وَاحِد لَهُ عَلَى منهاج لَفظه، وَقِيَاسه مثل ملامح ومشابه وَهَذَا كثير. وَقد حكى الْفراء أَنَّهُ سَأَلَ بَعْض الْعَرَب عَنِ الْوَاحِد فِي مطايب الْجَزُور، فَحكى عَنْهُ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يكن عِنْدَهُ فِيهِ شَيْءٍ يحفظه، وَأَنه أَخذ يتَكَلَّف فِيهِ قولا يَسْتَخْرِجهُ وَجعل يَقُولُ: مطيبة وَأَنه ضحك من هَذَا من قَوْله مطيبة، وَقَول الحطيئة أَحْسنُوا الْبُنا هَكَذَا رَأَيْته بِضَم الْبَاء. وَقد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْقُرَشِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: أتيت شُعْبَة يَوْمَا وَعِنْده حَمَّاد بْن سَلَمَة وهما يتكلمان فِي حَدِيث، فَقَالَ لَهُ شُعْبَة: يَا أَبَا سَلَمَة! هَذَا الْفَتى الَّذِي ذكرته لَك، فَقَالَ لي حَمَّاد بْن سَلَمَة كَيْفَ تنشد قَول الحطيئة: أُولَئِكَ قَوْمٍ ... ، فابتدأت القصيدة من أَولهَا: أَلا طرقتنا بَعْدَمَا هجعتْ هنْد ... وَقد سِرْنَ خَمْسًا واتْلأبَّ بِنَا نَجْد إِلَى أَن بلغت الْبَيْت: أُولَئِكَ قومٌ إِن بَنَوْا أحسَنُوا الْبِنا ... وَإِن عاهدُوا أوْفَوْا وَإِن عَقَدُوا شَدُّوا فَقَالَ لي حَمَّاد بْن سَلَمَة: يَا بني! إِن الْعَرَب تَقول: بَنَى يَبْني بِناءً فِي الْعمرَان، وَيَقُولُونَ

أعرابي يشرب بجزة صوف فتعاتبه امرأته

فِي الشّرف: بِنَا يبنو بنَاءً فَأَنْشد هَذَا: أُولَئِكَ قَوْمٍ إِن بنوا أَحْسنُوا إِلَيْنَا، فَعرفت قَدْر حَمَّاد بْن سَلَمَة من ذَلِكَ الْيَوْم، فَمَا كَنت أنْشدهُ إِلَّا مَا كنت أتقنه. قَالَ القَاضِي: وَالْبناء فِي الرباع والمساكن مَمْدُود مكسور الْبَاء فِي لُغَات عَامَّة الْعَرَب، وبهذه اللُّغَة جَاءَ الْقُرْآن، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَالسَّمَاءَ بِنَاءً "، وَذكر الْفراء أنَّ من الْعَرَب من يقصر الْبناء هَا هُنَا. أَعْرَابِي يشرب بجزَّة صوف فتعاتبه امْرَأَته حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نصر، عَنِ الْأَصْمَعِي، قَالَ: شرب أَعْرَابِي بجزة صوف، فَلَامَتْهُ امْرَأَته وعتبت عَلَيْهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: عَتَبَتْ عَلَيَّ لأنْ شَرِبْتُ بصُوفِ ... فلئنْ عَتَبْتِ لأشْرَبَنْ بخَرُوفِ وَلَئِن عتبتِ لأشربنَّ بنَعْجَةٍ ... ذَرْءًا وَمن بَعْدَ الخروف سَحُوفِ الذرء: الَّتِي فِي رَأسهَا بَيَاض، والسحوف: سَمِينَة. وَلَئِن عتبت لأشربن بلَقْحَةٍ ... صَهباء مالِئَةَ الإناءِ صَفُوفِ وَلَئِن عتبتِ لأشربنَّ بصاهل ... مَا فِيهِ من هجن وَلَا تَقْرِيفِ الهجين: الَّذِي أمه من غَيْر جنس أَبِيهِ، والمقرف مثله. وَلَئِن عتبتِ لأشربنَّ بواحدي ... ويكونُ صبري بَعْدَ ذَاك حَلِيفِي فَلَقَد شربتُ الْخمر فِي حَانُوتِها ... صفراءَ صَافِيَة بِأَرْض الرِّيفِ وَلَقَد شهِدت الْخَيل تُقْرَعُ بالقَنَا ... وأجبْتُ صَوْتَ الصَّارِخ المَلْهُوفِ قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ: إِنِّي وجدت بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد أنَّ امْرَأَته أَجَابَتْهُ فَقَالَت: مَا إِن عتبت لِأَن شَرِبْتَ بصُوفِ ... أَوْ أَن تَلَذَّ بلَقْحَةٍ وخَرُوفِ فاشربْ بِكُل نفيسة أُوتِيتَها ... ومَلكتَها من تَالِدٍ وطريفِ وارفع بطرفك عَنْ بُنَيَّ فَإِنَّهُ ... من دونه شغب وجذع أُنُوفِ فطنة قَاض حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِدْرِيس الْحداد، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُون الْحمال، عَنْ يزِيد بْن هَارُون، قَالَ: تقلد الْقَضَاء بواسط رَجُل ثِقَة كثير الحَدِيث مَا أَظُنهُ إِلَّا أُكْرِه عَلَى الْقَضَاء وَالله أعلم - فجَاء رَجُل فاستودع بَعْض الشُّهُود كيسًا مَخْتُومًا ذَكَرَ أَنَّ فِيهِ ألف دِينَار، فَلَمّا حصل الْكيس عِنْدَ الشَّاهِد، وطالت غيبَة الرَّجُل، قَدَّر أَنَّهُ قَدْ هلك، فَهَمَّ بإنفاق المَال، ثُمَّ دَبّر ففتق الْكيس من أَسْفَله وَأخذ الدَّنَانِير وَجعل مَكَانهَا

رأي أبي يوسف القاضي فيمن يشهدون عنده

دَرَاهِم وَأعَاد الْخياطَة كَمَا كَانَتْ، وقُدِّر أنَّ الرَّجُل وافى وطالب الشَّاهِد بوديعته فَأعْطَاهُ الْكيس بختمه، فَلَمّا حصل فِي منزله فضَّ خَتْمه فصادف فِي الْكيس دَرَاهِم فَرجع إِلَى الشَّاهِد، وَقَالَ لَهُ: عافاك اللَّه، اردُدْ عليّ مَالِي فَانِي استودعتُك دَنَانِير وَالَّذِي وجدت دَرَاهِم مَكَانهَا، فَأنْكر ذَلِكَ واستعدى عَلَيْهِ القَاضِي الْمُقدم ذكره، فَأمر بإحضار الشَّاهِد مَعَ خَصمه، فَلَمّا حضرا سَأَلَ الْحَاكِم: مُذْ كم أودعتُه هَذَا الْكيس؟ قَالَ: مذ خمس عشرَة سنة، فَأقبل عَلَى الشَّاهِد، فَقَالَ: مَا تَقول؟ قَالَ: صدق هُوَ عِنْدِي مُنْذُ خمس عشرَة سنة، فَأخذ القَاضِي الدَّرَاهِم وَقَرَأَ شكلها فَإِذا هِيَ دَرَاهِم مِنْهَا مَا قَدْ ضُرب مُنْذُ سَنتين وَثَلَاثَة وَنَحْو ذَلِكَ فَأمره أَن يدْفع الدَّنَانِير إِلَيْهِ فدفعَها إِلَيْهِ أَوْ مَكَانهَا وأسْقَطَه، فَقَالَ لَهُ: يَا خائن ونادى مناديه: أَلا إِن فلَان بْن فلَان القَاضِي قَدْ أسقط فلَان بْن فلَان الشَّاهِد، فاعلموا ذَلِكَ وَلَا يغتَرِرْ بِهِ أحد بَعْدَ الْيَوْم، فَبَاعَ الشَّاهِد أملاكه بواسط، وَخرج مِنْهَا هَارِبا فَلا يَعْلَمُ عَنْهُ خبر، وَلَا أحسَّ مِنْهُ أثر. رأيُ أَبِي يُوسُف القَاضِي فِيمَن يشْهدُونَ عِنْدَهُ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن قَال حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: قَالَ الرشيد لأبي يُوسُف القَاضِي: بَلغنِي أنَّكَ تَقول إِن هَؤُلاءِ الَّذِين يشْهدُونَ عنْدك وَتقبل أَقْوَالهم متصنعة، فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ وَكَيف ذَلِكَ؟ قَالَ: لأنَّ من صَحَّ سَتْرُه وخلصت أَمَانَته لَمْ يعرفنا وَلم نَعْرَفْه، وَمن ظهر أمره وانكشف سِتْرُه لَمْ يأتنا وَلم نقبله، وبَقِيتْ هَذِهِ الطَّبَقَة وهم هَؤُلاءِ الْمُتَصَنِّعة الَّذِينَ أظهرُوا السّتْر وأبطنوا غَيره، فَتَبَسَّمَ الرشيد وَقَالَ: صدقت. نوع الشُّهُود الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد بْن أبي حنيفَة حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عليّ أَبُو مُحَمَّد الخطبي، قَالَ: لمّا وُلّي إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد بْن أبي حنيفَة الْقَضَاء، قَالَ: يجب أَن يكون بَيْنَ أَيْدِينَا قَوْم نَتَمَنْدَلُ بهم ويتمنْدَلُون هُمْ بالعامة، وَلَا يجب أَن يَكُونُوا من أكَابِر النّاس وَمن أعاليهم، وَلَا سوقتهم وسِفْلتهم، فَاخْتَارَ متوسطي التُّجَّار فجعلهم شُهُودًا. معنى السوقة الصَّحِيح قَالَ القَاضِي: قَول ابْن حَمَّاد من سوقتهم وسفلتهم، يدلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يظنّ أنَّ السوقة أَهْلَ الْأَسْوَاق، وَلم يَعْلَمُ أنَّ السوقة هُم الَّذِينَ يسوقهم الْمُلُوك بسياستهم وَأَن النّاس مُلُوك وسوقة أَي رعية، كَمَا قَالَ زُهَيْر: يَا حَار لَا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بداهيةٍ ... لَمْ يَلْقها سُوقَةٌ قبلي وَلَا مَلِكُ وَقَالَت حُرقة بِنْت النُّعْمَان بْن الْمُنْذر: فَبينا نسوسُ النّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذَا نَحْنُ فيهم سوُقةٌ نتنصف

ما قيل في نوح بن دراج القضاء

مَا قيل فِي نوح بْن دراج الْقَضَاء حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ الْعَدوي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن رَاشد، قَالَ: قيل لِشَرِيك بْن عَبْد اللَّه: قَدْ تقلد الْقَضَاء نوح بْن دَرّاج، قَالَ: ذهبت العَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا غضبوا كَفَرُوا. النّسَب الْقصير حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْحَسَن الصَّواف، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الصَّلْت الْحمانِي، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْر بْن عليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بْن الْحَارِث، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ الفرزدق بْن غَالب: خرجت من الْبَصْرَة أُرِيد الْعمرَة، فَرَأَيْت عسكرًا فِي الْبَريَّة، فَقلت: عَسْكَر من هَذَا؟ قَالُوا: عَسْكَر الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: فَقلت: لأقضينّ حق رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَأَتَيْته فسلّمت، فَقَالَ: من الرَّجُل؟ فَقلت: الفرزدق بْن غَالب، فَقَالَ: هَذَا نسب قصير، فَقلت: أَنْت أقصر مني نسبا، أَنْت ابْن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لي: أَبُو من؟ فَقلت: أَبُو فراس، قَالَ: يَا أَبَا فراس كَيْفَ خَلّفْتَ النّاس وَمن أَيْنَ والى أَيْنَ؟ قَالَ: قلت: من الْبَصْرَة أُرِيد الْعُمْرة، وَمَا سَأَلت عَنْهُ من أَمر النّاس فقلوبهم مَعَك وَسُيُوفهمْ مَعَ بني أُميَّة وَالْقَضَاء ينزل من السَّمَاء قَالَ: فاغرورقت عَيناهُ، وَقَالَ: هَكَذَا النّاس فِي كلِّ زمَان، أَتبَاع لذِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم، وَالدّين لَغو عَلَى ألسنتهم فَإِذا فُحصوا بالابتلاء قَلَّ الدَّيّانون. قَالَ القَاضِي: معنى مَا ذَكَرَ من قصر النّسَب فِي هَذَا الْخَبَر، أنَّ النبيه الَّذِي بِغَيْر نَظِير لَهُ يُشَارِكهُ فِي نسبه وَمَا يعرف بِهِ فَلا يحْتَاج إِلَى زِيَادَة فِي انتسابه وإطالته، وَهُوَ مستغن بقصير مَا يعرف بِهِ عَنْ كَثِيره، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أحبُّ من النِّسوانِ كُلِّ قصيرةٍ ... لَهَا نَسَبٌ فِي الْعَالمين قَصِيرُ وَمن هَذَا النّسَب نسب الرُّسُل والأنبياء والملوك وَالْخُلَفَاء، وَقد قَالَ النسابة الْبكْرِيّ لرؤبة بْن العجاج لمّا انتسب لَهُ: مَه قَصّرْت وعَرَّفت. وَحكى لي بَعْض أَصْحَابنَا، أَنَّهُ وجد بِخَط صاحبنا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن جُمْهُور: سألتُ أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بْن جرير بْن يزِيد الطَّبَريّ أَن يزيدني فِي نسبه، فَقَالَ متمثلا قَول رؤبة: قَدْ يرفعُ العجّاجُ بَيْتا فادْعُني ... بِاسْمٍ إِذَا الأنسابُ طالَتْ يَكْفِني الْمجْلس الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من يكن فِي حَاجَة أَخِيه حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَمَّالُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي، قَالَ: ابْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ يَكُنْ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ يَكُنِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ ". قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا يرغب فِي قَضَاء حاجات الإخوان، إِذْ سَعْيهمْ فِيهَا يعود

إسلام سادن الصنم

عَلَيْهِمْ بمعونة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي حَاجتهم، ويرجى بِهِ إدراكهم مِنْهَا مَا لَا يبلغونه بسعيهم، دون مَعُونَة اللَّه لَهُمْ عَلَيْهِ وتيسيره إِيَّاه، وَقد جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنى وَنَحْوه أَخْبَار كَثِيرَة، وَقد مضى بَعْض ذَلِكَ فبمَا مضى فِي كتَابنَا، فَلَعَلَّنَا نأتي فِيما بَعْدَ بِمَا يَحْضُرنا مِنْهُ إِن شَاءَ اللَّه. إِسْلَام سَادِن الصَّنَم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن، عَن الْعَبَّاس ابْن هِشَام، عَنْ أَبِيه، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كبران الْمُرادي، عَنْ يحيى بْن هاني بْن عُرْوَة، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أبي سُبْرَة الْجعْفِيّ، قَالَ: كَانَ لسعد الْعَشِيرَة صنم يُقَالُ لَهُ فراس وَكَانُوا يعظمونه، وَكَانَ سادنه رَجُلا من بني أنس اللَّه بْن سَعْد الْعَشِيرَة، يُقَالُ لَهُ ابْن دقشة، قَالَ عَبْد الرَّحْمَن: فَحَدثني رَجُل من بني أنس اللَّه يُقَالُ لَهُ ذُبَاب، قَالَ: كَانَ لِابْنِ وقشة رَئِيٌّ من الجنّ يُخبرهُ بِمَا يكون، قَالَ: فَأَتَاهُ ذَاتَ يَوْمَ وَأَنا عِنْدَهُ فَأخْبرهُ بِشَيْء فَنظر إليَّ وَقَالَ لي: يَا ذُبَاب، اسْمَع الْعجب العجاب، بعث اللَّه أَحْمَد بِالْكتاب، يَدْعُو بِمَكَّة فَلا يُجاب، قَالَ: فَقلت مَا تَقول؟ فَقَالَ: مَا أَدْرِي هَكَذَا قَالَ لي، فَلم يكن إِلَّا قَلِيل حَتَّى سمعنَا بِظُهُور النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فثُرت إِلَى الصَّنَم فحطمته، ثُمَّ أتيتُ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقلت: تَبِعْتُ رَسُول الله إِذْ جَاءَ بِالْهدى ... وخَلّفْت فَرَّاسًا بدار هَوَانِ شَدَدْتُ عَلَيْهِ شَدَّةً فتركتُهُ ... كَأَن لَمْ يكن والدهر ذُو حَدَثَانِ فَلَمّا رَأَيْت اللَّه أظهر دينَهُ ... أجبتُ رَسُول الله حِين دَعَاني فأصبحتُ لِلْإِسْلَامِ مَا عشتُ ناصرًا ... وألقيتُ فِيهِ كَلْكَلِي وجِراني فَمن مُبلغٍ سَعْد الْعَشِيرَة أنّنِي ... شَرِيتُ الَّذِي يَبْقَى بآخَرَ فَانِ مناظرة ابْن عَبَّاس للحَرُورية حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم، أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن يُوسُف بْن الضَّحَّاك الْفَقِيه، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَر بْن عليّ الفلاسي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن سُدّي، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرمة بْن عمار، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو رميل، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاس، قَالَ: لمّا خَرَجَت الحرورية اعتزلوا فِي دَار، وَكَانُوا سِتَّة آلَاف، فقلتُ لعليٍّ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أَبْرِدْ بِالصَّلَاةِ لعلِّي أكلِّمُ هَؤُلاءِ الْقَوْم، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافهُم عَلَيْكَ، قلت: كَلا فَلبِست أحسن مَا يكن من اليمنة وترجّلْتُ وَدخلت عَلَيْهِمْ فِي دَار نصف النَّهَار وهم يَأْكُلُون، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا ابْن عَبَّاس، فَمَا جَاءَ بك؟ فَقلت لَهُمْ: أتيتكم من عِنْدَ أَصْحَاب النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمهاجرين وَالْأَنْصَار، وَمن عِنْدَ ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصهره، وَعَلَيْهِم نزل الْقُرْآن، وهم أعلم بتأويله مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُم مِنْهُم أحد لأبلغكم مَا يَقُولُونَ وأبلغهم مَا تَقولُونَ، فَقَالَ بَعضهم: لَا تخاصموا قُريْشًا فَإِن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " بَلْ هُمْ

خبر الأصدقاء الثلاثة

قوم خصمون " فانتحى لي نَفَرٌ مِنْهُم فَقَالُوا: لنكِّلمنه، فَقلت: هاتوا مَا نقمتم عَلَى أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْن عَمه، قَالُوا: ثَلَاثًا، قلت: مَا هن؟ قَالُوا: أما إِحْدَاهُنَّ فإنّه حكّم الرِّجَال فِي أَمر اللَّه تَعَالَى، وَقد قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " إِن الحكم إِلَّا لله " مَا شَأْن الرِّجَال وَالْحكم؟ قلت: هَذِهِ وَاحِدَة، قَالُوا: وأمّا الثَّانِيَة فَإِنَّهُ قَاتل وَلم يَسْبِ وَلم يغنم، فَإِن كَانُوا كفَّارًا فقد حلَّ سِباهم وقتالهم، وَلَئِن كَانُوا مُؤمنين فَمَا حَلَّ قِتَالهمْ وَلَا سباهم، قلت: هَذِهِ ثِنْتَانِ فَمَا الثَّالِثَة؟ قَالُوا: إِنَّه محا نَفسه من إمرة الْمُؤمنِينَ فَإِن لَمْ يكن أَمِير الْمُؤمنِينَ فَهُوَ أَمِير الْكَافرين، قَالَ: قلت: هَلْ عنْدكُمْ من غَيْر هَذَا؟ قَالُوا: حَسبنَا هَذَا، قلت: أَرَأَيْتُم إِن قَرَأت عَلَيْكُمْ من كتاب اللَّه وَسنة نبيه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم مَا يَرُدُّ قَوْلكُم هَذَا ترجعون؟ قَالُوا: نَعَمْ، قلت أما قَوْلكُم حَكّم الرِّجَال فِي أَمر اللَّه تَعَالَى، فَأَنا أَقرَأ عَلَيْكُمْ من كتاب اللَّه عز وَجل أَن قَدْ صير اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حكمه إِلَى الرِّجَال فِي ثُمْن رُبْع دِرْهَم، وَأمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الرِّجَال أَن يحكموا فِي أرنب، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عدل مِنْكُم " وَكَانَ من حكم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنَّه صيره إِلَى الرِّجَال يحكمون فِيهِ وَلَو شَاءَ لحكم فِيهِ فَجَاز حكم الرِّجَال، أنْشدكُمْ بِاللَّه أحكم الرِّجَال فِي صَلَاح ذَاتَ الْبَين وحقن دِمَائِهِمْ أفضل أم حكمهم فِي أرنب؟ وَفِي الْمَرْأَة وَزوجهَا: " وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَينهَا فَابْعَثُوا حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا إِن يريدا إصلاحاً يوفق الله بَينهمَا "، نشدتكم الله فَحكم الرِّجَال فِي إصْلَاح ذَاتَ بَينهم وحقن دِمَائِهِمْ أفضل أم حكمهم فِي بضع امْرَأَة؟ أخرجت من هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وأمّا قَوْلكُم قَاتلَ وَلم يَسِبْ وَلم يَغْنَم أفتَسْبُون أمكُم عَائِشَة فتستحلون مِنْهَا مَا تستحلون من غَيرهَا وَهِي أمكُم، فَإِن قُلْتُمْ: إِنَّا نستحل مِنْهَا مَا نستحل من غَيرهَا لَقَدْ كَفرْتُمْ، وَلَئِن قُلْتُمْ لَيست بأمِّنا لَقَدْ كَفَرْتُم لقَوْله تَعَالَى: " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم " فَأنْتم بَين ضلالتين فَأتوا مِنْهُمَا مخرجا، أخرجت من هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. وأمّا قَوْلكُم محا نَفسه من إمرة الْمُؤمنِينَ فَأَنا آتيكم بِمَا ترصون بِهِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَة صَالح الْمُشْركين فَقَالَ لعليّ: " اكْتُب يَا عليّ: هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله قَالُوا: لَا نعلم أنَّكَ رَسُول الله، وَلَو نعلم أَنَّك رَسُول اللَّه مَا قَاتَلْنَاك، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْحُ يَا عليّ، اللَّهُمّ إِنَّك تعلم أَنِّي رَسُول الله، أمْحُ يَا عليّ واكتب: هَذَا مَا صَالح عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، وَوَاللَّه، لرَسُول اللَّه خَيّر من عليّ لَقَدْ محا نَفسه، وَلم يكن مَحْوُه ذَلِكَ يَمْحُوه من النُّبُوَّة، أخَرَجْتُ من هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَرجع مِنْهُم أَلفَانِ وَخرج سَائِرهمْ فقتُلوا عَلَى ضَلَالَة، قَتلهمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار. خبر الأصدقاء الثَّلَاثَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابنَا أنَّ عَبْد

الْملك بْن مَرْوَان كتب إِلَى الحَجَّاج: أنفذ مَعَ عَبْد اللَّه بْن كَعْب أَرْبَعَة آلَاف إِلَى خُرَاسَان فَفعل، فشخص فِي المعسكر ثَلَاثَة كَانُوا متؤاخين متصاحبين عَلَى اللَّذَّات ومعاقرة الشَّرَاب، يُقَالُ لَهُمْ: أَوْس بْن حَارِثَة وأنيس بْن خَالِد وَبشر بْن غَالب، وَكَانُوا إِذَا نزلُوا منزلا انفردوا دون النّاس فَخَلَوْا بشرابهم ولذاتهم، فَلم يزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى دخلُوا سجستان ونزلوا رزداق راوند وخزازي..قَالَ أَحْمَد بْن يحيى: الصَّوَاب مَا ذكره وَهُوَ رزداق، ورستاق خطأ - فَمَاتَ أَوْس - قَالَ القَاضِي: أصل هَذَا الْكَلَام بِالْفَارِسِيَّةِ وعُرِّب فَقيل: رزداق ورستاق، وَهُوَ أَكثر فِي كَلَام من تَقَدَّمَ وَمن تَأَخّر فِيمَا وَردت الْأَخْبَار عَنْهُمْ بِهِ فَعظم حزنهما عَلَيْهِ وجزعهما لَهُ، وَقَالَ أنيس يرثيه: تَخَطّى إِلَى الموتَ من بَيْنَ من أرى ... فأتلفَ نُدْماني لَقَدْ جَار واعْتَدَى أثْلَبَني فَتى كَانَ النديمَ حياتَهُ ... لَنَا دُونَ خَلْق اللَّه كَانَ أَبَا الرِّضَا حَلِيمًا أديبًا ماجدًا ذَا سَمَاحَةٍ ... بَعيدا عَن الْفَحْشَاء وَالشَّر والخنا أَمينا جوادًا غَيْرَ كَزٍّ مخالفٍ ... وَلَا جاعلا ربًّا من المَال مَا حَوَى يخَوَّنَه الدَّهْر الخَئُونُ برِيبةٍ ... فَأصْبح رهنا للصفائح والصّفَا أناديه يَا أوسُ بْنُ حَارِثَة الَّذِي ... بِهِ كنتُ أنْفِي الهَمَّ عني والأذى أجبني لقد أنفذت بالوجد عَبرتي ... عَلَيْكَ أما ترثي لباكٍ إِذَا بَكَى وَقد كنت ذَا رأيٍ وسَمْع وفِطْنَة ... سَرِيعا إِلَى الدَّاعِي مجيباً الندا فَلَيْسَ لَنَا إِذَا مَاتَ أَوْس منادِمٌ ... سِوى قَبره حَتَّى يحل بِنَا الرَّدَى وَقَالَ فِيهِ أَيْضا: وردنا خُزازى إِذْ وردنا ثَلَاثَة ... كأنا جَمِيعًا أَيهَا النّاس واحدُ أنيسٌ وأوسُ الْحَارِثِيّ بْنُ خَالِد ... وَنصر أخوهم والمنايا رواصدُ فَكُنَّا وَلَا نبغي من النّاس رَابِعا ... كأنا أثاف لَا نَريمُ رواكدُ فَلَمّا رمانا النّاس بالأعين الَّتِي ... مَتَى يَرْمُقوا شَيئًا بهَا فَهو بائدُ رمتني بَنَات الدَّهْر منا بأسْهُمٍ ... ونبل المنايا للرِّجَال قواصدُ فأردَيْنَ أَوْسًا لهفَ نَفْسِي لفقده ... سَقي قبرَه صَوْبُ الغَمامِ الرَّواعدُ فَمَاتَ أنيس فَعظم حزن نصر عَلَيْهِ، واتصل بكاؤه وجزعه لَهُ، وَقَالَ يرثيه: أنيس فدته النَّفس مَيْتًا فقدتُهُ ... فنفسي لَهُ حَرَّى عَلَيْهِ تَقَطّعُ أنيس فدتك النفسُ أصبحتُ مُفردًا ... وحيدًا فَمَا أَدْرِي أخي كَيْفَ أصنعُ

تعليق لغوي

أنيس فَدْتكَ النَّفس خُلّفْتَ حَسْرةً ... عليّ فعيني الدَّهْر مَا عشتُ تُدْمُع أنيس فدتك النَّفس مَاذا رزئته ... لَقَدْ خفت أَن أَقْْضِي وشيكًا فأسْرعُ فَكيف بقائي بَعْدَ أوسٍ أخي الفدى ... وَبعد أنيس لستُ فِي الْعَيْش أطمعُ ثُمَّ جعل يجلس بَيْنَ قبريهما فيشرب قدحًا وَيصب فِي كلّ قبر قدحاً، وَيَقُول: خليلي هبا مَا قَدْ رَقَدْتُما ... أجَدَّكُما لَا تقضيان كَرَاكُما ألم تعلما مَا إِن راوند كُلّها ... وَلَا بخزازي لي صديق سواكما أصبُّ عَلَى قبريكما من مدامة ... فإلا تَذُوقا أرْوِ مِنْهَا ثَرَاكُما مُقيم عَلَى قَبْريكما لستُ بارحًا ... طوال اللَّيَالِي أَوْ يُجيب صَدَاكما أجدكما مَا ترثيان لموجع ... حَزِين عَلَى قبريكما إِذْ بكاكما جرى النّوم بَيْنَ اللّحم والعظم مِنْكُمَا ... كأنّكُما كَأسَيْ عُقَارٍ سَقَاكُمَا ألم ترحمَاني أنني صِرْت مُفْردًا ... وأنِّيَ مُشْتَاقٌ إِلَى أَن أرَاكُما أناديكما بالجهر مني صَبَابَة ... كأنكما لَمْ تسمعا من دَعَاكُما فَإِن كنتما لَا تسمعاني فَمَا الَّذِي ... خليلي عَن سمع الدُّعَاء عداكما سأبكيكما حَتَّى الْمَمَات فَمَا الَّذِي ... يَرُدَّ عَلَى ذِي عَوْلَةٍ إِن بَكَاكُمَا فَلم يزل يشرب ويردد هَذَا الشّعْر حَتَّى مَاتَ، فَدفن إِلَى جانبهما، فقبورهم هُنَاكَ تسمى قُبُور الْإِخْوَة. تَعْلِيق لغَوِيّ قَالَ القَاضِي: قَول أنيس فِي شعره: كأنا أثاف لَا تريم رواكد، الأثافي أثافي الْقدر، وَهِي مَا تنصب عَلَيْهِ من حِجَارَة أَوْ غَيرهَا، والواحدة أثفية، وَمثله أُمْنِية وأماني وأوقية وأواق، وَقد يُخَفف هَذَا فَيُقَال أماني وأواقي، وروى عَنْ بَعْض الْمُتَقَدِّمين أَنَّهُ قَرَأَ " لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أماني " بِالتَّخْفِيفِ، وَقيل: هُوَ فِي تخفيفه وتشديده بِمَنْزِلَة قراقر وقراقير فِي جمع قُرْقُور، وَالْعرب تَقول فِي دعائها عَلَى الرَّجُل: رَمَاه اللَّه بثالثة الأثافي يُرِيدُونَ الْجَبَل، لأَنهم يجْعَلُونَ للقدر أثفيتين ويسندونهما إِلَى الْجَبَل فيغنيهم عَنْ أثفية أُخْرَى، وَقيل: إِنَّهُم يخففون الأثافي من هَذَا الْبَاب أَكثر من تخفيفهم غَيره لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله، وَمن قَالَ هَذَا وَنَحْوه: الْأَخْفَش وَقَوله: لَا تريم، أَي لَا تَبْرَح، يُقَالُ: لَا أريم وَمَا أريم، وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي النَّفْي لَا يُقَالُ: مَا رمت كَمَا يُقَال مَا زلت، وَلَا يُقَالُ زلت فِي الأبيات، قَالَ الشَّاعِر: لَمِنْ طَلَلٌ برامة مَا يريم ... عَفَا وخَلا لَهُ حُقْبٌ قديم

الصمصامة سيف عمرو بن معدي كرب

وَقَالَ الْأَعْشَى: أَبَانَا فَلا رِمْتَ مِنْ عِنْدَنا ... فإنّا بخيرٍ إِذَا لَمْ تَرِم وَقَالَ أَيْضا: أَفِي الطَّوْفِ خِفْتِ عَلَيَّ الرَّدَى ... وَكم من ردٍ أَهله لَمْ يَرِم وَقَول نصر بْن غَالب فِي أنيس أَيْضا: لَقَدْ خفت أنْ أَقْْضِي وشيكًا أسكن الْيَاء فِي أقضى وَحكمهَا أَن تنصب بِأَن ليسلم بَيته من الانكسار، وَقد يَجْعَل هَذَا عَلَى لُغَة من يَقْرَأ الْفِعْل الْمُضَارع عَلَى الرّفْع بَعْدَ أَن وَلَا ينصبه وَقد جَاءَت فِي الشّعْر أَبْيَات عَلَى هَذَا فِي الصَّحِيح غَيْر المعتل، من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر: وَإِنِّي لأجتاز القِرى طَاوِيَ الحَشَا ... مُحَاذَرَةً من أَن يُقَالُ لئيمُ وروى بَعضهم عَن مُجَاهِد أنَّه قَرَأَ: " لِمَنْ أَرَادَ أَن يتم الرضَاعَة " وَالْأَشْهر عَنْهُ: من أَرَادَ أَن يتمَّ الرضَاعَة، وعَلى تَوْجِيه الْفِعْل إِلَيْهَا وَقِرَاءَة الْجُمْهُور من السّلف وَالْخلف الَّتِي لَا نستجيز تَعَدِّيها " من أَرَادَ أَن يتمَّ الرضَاعَة " لوجُوب الحجَّة بنقلها لصحتها فِي الْعَرَبيَّة ومقاييسها، وَمِمَّا أسكنت ياؤه من معتل هَذَا الْبَاب قَول الْأَعْشَى: فَتى لَوْ يُنادي الشَّمْسُ ألقتْ قِنَاعها ... أَو القَمَر السّاري لألْقَى المَقَالدا وَجَاء مثله فِي الْوَاو، وَذَلِكَ قَول الفرزدق: فَإِن حَرَامًا أَن أسبَّ مُقَاعِسا ... بآبائي الشُّمِّ الكرامِ الخضارمِ وَلَكِن نَصَفًا لَوْ سببتُ وسَبّني ... بَنو عَبْد شمسٍ من منافٍ وهاشمِ أُولَئِكَ أكفائي فجئتني بمثلهم ... وأعبدُ أَن أهجو كُلَيْبًا بدارمِ وَمثل هَذَا كثير وشواهده وَذكر علله من جِهَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب وَاسع جدا، وَله مَوضِع هُوَ أولى بِهِ، وَقد أضيفت جملَة هَذَا الشّعْر وَالْخَبَر الَّذِي تضمنه فِي رِوَايَة أُخْرَى إِلَى قُس بْن سَاعِدَة وَأَنه أنْشد هَذَا فِي نديميه، وَقد روينَاهُ فِي أَخْبَار قُسِّ وأقاصيصه. الصمصامة سيف عَمْرو بْن معدي كرب حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعقيلِيّ أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن إِسْحَاق بْن الْحَارِث، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمَد بْن أبي مُحَمَّد اليزيدي، قَالَ: كَانَ أبي ربّى الرشيد ومُوسَى ابْني المهديّ وأدَّبهما قَالَ: فَدخلت عَلَى مُوسَى وَقد اسْتخْلف وَكَانَ يجلني ويكرمني، فَسلمت فَرد عَليّ السّلام واستقعدني فَقَعَدت، وَإِذا بَيْنَ يَدَيْهِ سيف عريض كَأَنَّهُ بقلة، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا سيف عَمْرو بْن معدي كرب الصمصامة، فاستحسنته، فَقَالَ لي أَمِير الْمُؤمنِينَ: قَدْ كنت سَأَلت أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمهْدي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَن يهب لي هَذَا السَّيْف فضنَّ بِهِ عَنْي ومنعنيه، فآليت إِن بَلغنِي اللَّه

نتيجة الرفق ونتيجة التعذيب

تَعَالَى أملي أَن أمتحنه، وَقد عزمت على أَن أَدْعُو غلامي طرخان الحريري وَهُوَ جيد الذِّرَاع، وَأَن يحضر لي صَخْرَة سَوْدَاء طولانية من حِجَارَة القصارين، وأتقدم إِلَيْهِ أَن يجمع يَدَيْهِ فِي السَّيْف ثُمَّ يضْرب بِهِ الرَّأْس الدَّقِيق من الصَّخْرَة، فَإِن سلم سلم وَإِن يقطع يقطع، قَالَ: فَلم نزل نطلب إِلَيْهِ ونسأله إعفاء السَّيْف من المحنة ونقول: شرفٌ من شَرَف الْعَرَب وَسيف لَا يُوجد مثله، فَأبى ودعا غُلَامه طرخان وأحضر الصَّخْرَة، قَالَ أَحْمَد، قَالَ أبي: فَقلت لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! فَإِذا لَمْ تُطِعْنِي فاعمل لَهُ حَدِيثا يبْقى على الدَّهْر، يدْخل من بِالْبَابِ من الشُّعَرَاء حَتَّى يحضروا السَّيْف ومحنته، فَإِن سلم وصفوه وَإِن يقطع رثوه، فَأمر بإحضار الشُّعَرَاء، وَكَانَ بِالْبَابِ مِنْهُم أَبُو الهول وَأَبُو الغول التَّمِيمِي وَسلم الخاسر، فَقيل لَهُم: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أحْضركُم لمحنة هَذَا السَّيْف فَمن أحسن الْوَصْف لَهُ وَالْقَوْل فِيهِ فصلته عشرَة آلَاف دِرْهَم وخلعة وحملان، ثمَّ أحضر طرخان وَالسيف بَين يَدي مُوسَى، فحسر عَنْ ذِرَاعَيْهِ وهزّه وَجمع يَدَيْهِ فِي قَائِمَة ثُمَّ ضَرَب بِهِ الصَّخْرَة فَمضى فها باترًا لَهَا وَلم يصبهُ شَيْءٍ، فَأَما أَبُو الهول فَلم يصف شَيئًا، وأمّا سلم فَلم يرض مَا قَالَ، وأمّا أَبُو الغول فوصف فَأحْسن وَأخذ الصِّلَة عشرَة آلَاف دِرْهَم والْحُملان وَالْخلْع وَانْصَرف، وَأمر لأبي الهول وَسلم الخاسر بِخَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف وانصرفا، فَكَانَ الشّعْر لأبي الغول حَيْثُ يَقُولُ: حَازَ صمصامة الزَّبِيديّ من بِي ... ن جَمِيع الْأَنَام مُوسَى الْأمين سيف عَمْرو وَكَانَ فِيمَا علمنَا ... خيرُ مَا أغمدتْ عَلَيْهِ الجفون أَخْضَر اللَّوْن بَيْنَ حَدَّيْه بردٌ ... من رياحٍ تَمِيسُ فِيهِ المَنُون أوقدتْ فَوْقه الصَّوَاعِق نَارا ... ثُمَّ شابته بالزُّعاف القيون فَإِذا مَا سللته بهر الشم ... س ضِيَاء فَلم تكد تَسْتَبِين مَا يُبَالِي إِذَا الضّريبة حانت ... أشمالٌ سَطَتْ بِهِ أم يَمِينُ نتيجةُ الرِّفْق ونتيجة التعذيب حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْمَرْزُبَان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن جَعْفَر بْن بنان المخزمي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة، قَالَ: حَدَّثَنِي عليّ بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي، عَنْ أبي المضرحي، قَالَ: أَمر الْحجَّاج مُحَمَّد بْن الْمُنْتَشِر بْن أخي مَسْرُوق بْن الأجدع أَن يَعذِّبَ أزْدَاد مَرْذ بْن الهربز، فَقَالَ أزداد مرذ: يَا مُحَمَّد! إِن لَك شرفًا قَدِيما، وَإِن مثلي لَا يعْطى عَلَى الذُّلِّ شَيئًا، فاستأد وارفق بِي، فاستأدى فِي جُمُعَة ثَلَاثمِائَة ألف، فَغَضب الحَجَّاج وَأمر معبدًا صَاحب الْعَذَاب أَن يعذبه فدق يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ فَلم يعطهم شَيئًا، قَالَ: فَإِنِّي لأسير بَعْدَ ثَلَاثَة أيّام إِذ أَنَا بأزداد مرذ مُعْتَرضًا عَلَى بغل قَدْ دُقّتْ يَدَاهُ وَرجلَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد! فَكرِهت أَن آتيه فَيبلغ الحَجَّاج، وتذممت من تَركه إِذْ دَعَاني، فدنوتُ مِنْهُ فَقتل: حَاجَتك؟ فَقَالَ: إِنَّك قَدْ

كيف يكون باردا وله هذا الشعر

وليت مني مثل هَذَا فأحسنت إِلَيّ، ولي عِنْد فُلَانَة مائَة ألف دِرْهَم، فَانْطَلق فَخذهَا، قفلت: لَا وَالله لَا آخذ تدرهماً وَأَنت عَلَى هَذِهِ الْحَال، قَالَ: فَإِنِّي أحَدثك حَدِيثا سمعته من أَهْلَ دينك، يَقُولُونَ: إِذَا أَرَادَ الله بالعباد خَبرا أمطرهم فِي أَوَانه، وَاسْتعْمل عَلَيْهِمْ خيارهم، وَجعل المَال عِنْدَ سمحائهم، وَإِذا أَرَادَ بهم شرا أمطروا فِي غير أَوَانه، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم شرارهم، وَجعل المَال فِي أشحائهم. وَمضى وأتيت منزلي فَمَا وضعت ثِيَابِي حَتَّى جَاءَنِي رَسُول الحَجَّاج، فَأَتَيْته وَقد اخْتَرَطَ سَيْفه فَهُوَ فِي حجره، فَقَالَ: ادنُ، فدنوت قَلِيل، ثُمَّ قَالَ: ادن، فَقلت: لَيْسَ بِي دُنُوٌّ، وَفِي حجر الْأَمِير مَا أرى، فأضحكه اللَّه تَعَالَى لي وأغمد السَّيْف فَقَالَ: مَا قَالَ لَك الْخَبيث، فَقلت: وَالله مَا غششتك مُنْذُ استنصحتّني، وَلَا كذبتك مذ صدقتني، وَلَا خُنْتُك مُنْذُ ائتمنتني، وأخبرته بِمَا قَالَ: فَلَمّا أردتُ ذَكَرَ الرَّجُل الَّذِي عِنْدَهُ المَال صرف وَجهه، وَقَالَ لَا تسمه، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ سمع عَدو اللَّه الْأَحَادِيث. كَيْفَ يكون بَارِدًا وَله هَذَا الشّعْر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الفَضْل بْن حبَان الْحلْوانِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن ضباب، قَالَ: سمعتُ بَعْض أَصْحَابنَا بالرَّقة يَقُولُ: كَبر خَالِد الْكَاتِب حَتَّى دق عظمه ورَق جلده فوسوس، فرأيته ببغدّاد وَالصبيان يتبعونه ويصيحون بِهِ: يَا بَارِد يَا بَارِد! فأسند ظَهره إِلَى قصر المعتصم، وَقَالَ: كَيْفَ أكون بَارِدًا وَأَنا الَّذِي أَقُول: بَكَى عاذلي من رَحْمَتي فرحمته ... وَكم من مبعدٍ من مثله ومعينِ ورَقّتْ دموعُ الْعين حَتَّى كَأَنَّهَا ... دُموعي لَا دموعُ جفوني السَّيِّد الحميريُّ يستكمل هَدِيَّة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا الصَّائِغ بِمَكَّة، قَالَ: أَخْبَرَنَا يحيى بْن مَعِين، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن كناسَة: أَن واليًا كَانَ بِالْكُوفَةِ أهْدى إِلَى السَّيِّد بْن مُحَمَّد الْحِمْيريّ رِدَاءً عَدَنِيًّا، فَكتب إِلَيْهِ السَّيِّد فِي شعر وجَه بِهِ إِلَيْهِ: وَقد أتَانا رداءٌ من هَدِيَتِكُمْ ... فَلا عَدِمْناك طُولَ الدَّهْر من والِ نَعَم الرداءُ جَزَاك اللَّه صَالِحَة ... لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُوصولا بسربال فَلَمَّا قَرَأَ اشعر أهْدى إِلَيْهِ خلعة تَامَّة. معاتبات فِي عدم قَضَاء الْحَاجة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي خَيْثَمَة، قَالَ: أنشدت لسَعِيد بْن سُلَيْمَان المساحقي القَاضِي فِي هَارُون بْن زَكَرِيّا كَاتب الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد:

عبيد الله بن جعفر يهب ثيابه لبعض الفتيان

أزورك رِفهًا كلّ يومٍ وليلةٍ ... ودرُّك مخزونٌ عليّ قصير لأيّ زمَان أرتجيك وخَلة ... إِذَا أَنْت لَمْ تَنْفع وَأَنت وَزِيرُ فَإِن الْفَتى ذَا اللب يطْلب مَاله ... وَفِي وَجهه للطالبين بشيرُ حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: كتب رَجُل إِلَى يحيى ابْن خَالِد بْن برمك فِي حَاجَة وَكَانَ وعده فمطله إِيَّاهَا فَأرْسل إِلَيْهِ بِهَذِهِ الأبيات: لَوْلَا المماتُ وَأَن الْعُمر مُنْتَقصٌ ... لما اكْتَرثتُ بِمَا تَأتي من الْعِلَلِ إِمَّا اعتزمتَ عَلَى تَنفيذ وَعْدِك لي ... فامنع حَياتِي من الآفاتِ والأجلِ وَمَا تَذَكّرَ قَوْمٌ مَا فعلتَ بهم ... عِنْدَ الْوُرود على مَعْرُوفك الخَضِلِ إِلَّا استعنتُ بوجهِ الأَرْض أنكتُهُ ... وأضمُّ بَعْضِي إِلَى بعضيِ من الخَجَلِ قَالَ: فَقضى حَاجته وَأحسن جائزته، وَوَقع مَا قَالَه بألطف الْموقع عِنْدَهُ. عُبَيْد اللَّه بْن جَعْفَر يهب ثِيَابه لبَعض الفتيان حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَبْد الْأَعْلَى الشَّيْبَانِيّ، وَأحمد بْن عُبَيْد اللَّه الغنوي، أنَّ عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر كَانَ فِي سفر لَهُ، فمرَّ بفتيانٍ يُوقدون تَحت قِدْرٍ لَهُمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ أحدُهُم، فَقَالَ: أَقُول لَهُ حِين ألفيتُه ... عَلَيْكَ السلامُ أَبَا جعفرٍ فَوقف وَقَالَ: وَعَلَيْك السّلام وَرَحْمَة اللَّه، فَقَالَ: وهذي ثِيَابِي فقد أخلقت ... وَقد عضني زمن مُنكر قَالَ: فَهَذِهِ ثِيَابِي مَكَانهَا - وَعَلِيهِ جُبَّة خَز وعمامة خَز ومطرف خَز - ونعينك على زمنك، فَقَالَ: فَأَنت كريم بني هَاشم ... وَفِي الْبَيْت مِنْهَا الَّذِي يذكر قَالَ: يَا ابْن أخي، ذَاك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ القَاضِي: وهذي ثِيَابِي، وَيُقَال: هاتا أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر: فهذي سيوفٌ يَا صُدَيُّ بْن مالكٍ ... كثيرٌ وَلَكِن أَيْنَ بِالسَّيْفِ ضاربُ وَقَالَ آخر فِي هاتا: إِن كنتِ كارهةً لعيشتنا ... هاتا فحُلِّي فِي بني بدر وروى عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَميّ أَنَّهُ قَرَأَ " وَلا تَقْرَبَا هَذِه الشَّجَرَة "، وأمّا هَذَا فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات. هَذَا وَهِي أفصحهن وأشهرهن، وهذّاء بمدَّة بعْدهَا همزَة مَكْسُورَة، وهذَّائِهِ بِمدَّة بعْدهَا همزَة ثُمَّ هَاء مكسورتان وكسرة الْهَاء مشبعة، قَالَ الشَّاعِر فِي هَذِهِ اللُّغَة:

المجلس الخامس والعشرون

هذَّائِهِ الدِّفَّة خَيْرُ دفترٍ ... فِي كفِّ خيرِ عَالمٍ مُصَوِّرِ وَآخَرُونَ يروون هَذِه الْقِصَّة عَن الْمَنْصُور. حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن خضر، عَنْ أَبِيه، قَالَ: دَخَلَ رَجُل عَلَى الْمَنْصُور، فَقَالَ: أقولُ لَهُ حِين واجهتهُ ... عَلَيْكَ السّلام أَبَا جَعْفَر فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: وَعَلَيْك السّلام، فَقَالَ: فأنتَ المهذَبُ من هاشمٍ ... وَفِي الْفَرْع مِنْهَا الَّذِي يذكرُ فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: ذَاك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: فهذي ثِيَابِي قد أُخْلِقَتْ ... وَقد عَضّنِي زَمَنٌ منْكَرُ فَألْقى إِلَيْهِ الْمَنْصُور ثِيَابه وَقَالَ: هَذَه بدلهَا. الْمجْلس الْخَامِس وَالْعشْرُونَ الرزق عَلَى قدر النَّفَقَة حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْحَمَّالُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: أَوْصَلْتُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رُقْعَةً أَشْكُو فِيهَا غَلَبَةَ الدَّيْنِ وَحَالا قَدْ دُفِعْتُ إِلَيْهَا، فَوَقَّعَ عَلَى ظَهْرِ رُقْعَتِي: فِيكَ يَا شَيْخُ خَلَّتَانِ: الْحَيَاءُ وَالسَّخَاءُ، أَمَّا السَّخَاءُ فَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ مَا فِي يَدَيْكَ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي قَطَعَكَ عَنْ إِطْلاعِنَا عَلَى حَالِكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَتْ فِيهَا بُلْغَةٌ فَذَاكَ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذِهِ ثَمَرَةُ مَا جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، فَأَنْتَ حَدَّثْتَنِي وَأَنْتَ قَاضٍ لأَبِي الرَّشِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاق الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ مَفَاتِيحَ الرزق متوجهة نَحْو الْعَرْش فَيُنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ أَرْزَاقَهُمْ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ، فَمَنْ كَثَّرَ كُثِّرَ لَهُ، وَمَنْ قَلَّلَ قُلِّلَ لَهُ ". قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَكُنْتُ أُنْسِيتُ هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى حَدَّثَنِي بِهِ الْمَأْمُونُ فَكَانَ أَحْظَى عِنْدِي مِنَ الصِّلَةِ. ابْن هرمة يرثي الحكم بْن الْمطلب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان، قَالَ: أَخْبرنِي رَجُل من قُرَيْش بِمَكَّة، أَحْسبهُ قَالَ: من وُلِدَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْد بْن مغوث الْحِمصِي عَنْ أَبِيه، قَالَ: كنت فِيمَن حضر الحكم بْن الْمطلب بْن عَبْد اللَّه بْن الْمطلب بْن حنظب بن الْحَارِث ابْن عَبْد بْن عُمَر بْن مَخْزُوم وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ بمنبج، قَالَ: وَلَقي من الْمَوْت شِدَّة، فَقَالَ رجلٌ مِمَّن حضر وَهُوَ فِي غشية لَهُ: اللَّهُمّ هوّن عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ وَكَانَ، فَلَمّا أَفَاق قَالَ: من الْمُتَكَلّم؟ قَالَ: الْمُتَكَلّم أَنَا. فَقَالَ: إِن ملك الْمَوْت يَقُولُ لَك: إِنِّي بكلِّ

وفود جرير على عبد الملك بن مروان

سخي رَفِيق، قَالَ: وكأنما كَانَتْ فَتِيلَة أطفئت، فَلَمّا بلغ مَوته ابْن هرمة قَالَ: سَأَلَا عَنِ الْجُود وَالْمَعْرُوف أَيْن هما ... فَقلت إنَّهُمَا مَاتَا مَعَ الحَكَمِ مَاتَا مَعَ الرَّجُل الموفي بِذِمَّتِهِ ... يَوْمَ الْحفاظ إِذَا لَمْ يُوفَ بالذممِ مَاذَا بمنبَج لَوْ تُنشَرْ مَقَابِرُها ... من التَهَدُّمِ بِالْمَعْرُوفِ والكَرَمِ قَالَ ابْن دُرَيْد: فَسَأَلت أَبَا حَاتِم عَنْ قَوْله: لَوْ تنشر مقابرها لَمْ جزم؟ فَقَالَ: قَالَ قَوْمٍ من النَّحْوِيين: كَرَاهَة لِكَثْرَة الحركات، كَمَا قَالَ الراجز: إِذَا اعوجَجْنَ قلتُ صاحبْ قَوِّمِ ... بالدَّوِّ أَمْثَال السّفِينِ الْعُوَّمِ وَقَالَ: لَوْ قَالَ: لَوْ نبشتْ مقابرها لاستراح من اللّبْس وَكَانَ كلَاما فصيحًا. قَالَ القَاضِي: وَقد بَينا فِيمَا مضى من هَذِهِ الْمجَالِس هَذَا النَّحْو ممّا سُكِّن فِي الشّعْر مَعَ اسْتِحْقَاقه التحريك، وَذكرنَا مَا أنْشدهُ سِيبَوَيْهٍ فِي هَذَا الْمَعْنى وَالِاخْتِلَاف فِي رِوَايَته واستجازته، مَا يُغني عَنْ إِعَادَته، فَأَما قَول أَبِي حَاتِم فِي معنى نبشت فِي لفظ الْفِعْل الْمَاضِي وَإِسْكَان عينه، فَهُوَ كَمَا قَالَ: وَهُوَ مطرد فِي الْقيَاس وَقد جَاءَ مِنْهُ شَيْءٍ كثير، وَمن ذَلِكَ قَول أبي النَّجْم: لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْمسك والبانُ انْعَصَر وَمثله: رُجْمَ بِهِ الشيطانُ فِي ظلمائِهِ وُفُود جرير عَلَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عَمْرو الْوراق، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طهْمَان قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَنْ أبي عَمْرو الشَّيْبَانيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَرْوَان بْن أبي حَفْصَة، قَالَ: جلس عَبْد الْملك بْن مَرْوَان يَوْمَا للنَّاس عَلَى سَرِير، وَعند رِجْلِ السرير مُحَمَّد بْن يُوسُف أَخُو الحَجَّاج بْن يُوسُف، وَجعل الْوُفُود يدْخلُونَ عَلَيْهِ وَمُحَمّد بْن يُوسُف يَقُولُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! هَذَا فلَان، هَذَا فلَان، إِلَى أَن دَخَلَ جرير بْن الخَطَفَي فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! هَذَا جرير بْن الخطفي، قَالَ: فَلا حَيّاه اللَّه، الْقَاذِف للمُحْصَنَات والعاضِه لأعراض النّاس - قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنبَاريّ: العاضه: الْمُغتاب، وَيُقَال: العاضه: النّمّام، وَيُقَال: السَّاحر، قَالَ القَاضِي: وَمِنْه الْخَبَر عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لعن العاضهة والمستعضهة، يَعْنِي الساحرة والمستسحرة، قَالَ الراجز: الماءُ مِنْ عِضَاهِهِنَّ زَمْزَمَهْ وَقيل فِي قَول اللَّه تَعَالَى: " الَّذِينَ جعلُوا الْقُرْآن عضين " أَقْوَال مِنْهَا: هَذَا، وَهُوَ أنَّ

الْمُشْركين قَالُوا: هُوَ سحر، وَقيل: إِنَّهُم عَضَوْه بِأَن آمنُوا بِبَعْضِه وَكَفرُوا بِبَعْضِه، وَقيل، بل اقتسموه بَينهم استهزاء فَقَالُوا: لفُلَان هَذِهِ السُّورَة وَلفُلَان هَذِهِ السُّورَة، فعضوه كَمَا تعضى الشَّاة وكما تجزأ أَعْضَاء الْجَزُور فتقسم وتوزّع بَيْنَ مقتسميها وَهَذَا فِيمَا يتَضَمَّن عَنْهُ بِمَشِيئَة اللَّه وعونه كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز ونأتي عَلَى مَا جَاءَ فِيهِ عَنْ أَهْلَ الْعلم، وَأَصْحَاب التَّأْوِيل والمفسرين، وَعَن أَصْحَاب الْمعَانِي النَّحْوِيين، وَمن العضه السحر، مَا أنشدنيه عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى: أعُوذُ بِرَبِّي من النافثا ... فِي عُقَد العَاضِهِ الْمُعْضِهِ وَقَالَ: يَعْنِي بهما السَّاحر، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الحَامض: المعضه الَّذِي يَأْتِي بِالْأَمر الْعَظِيم ثُمَّ يَبْهَت - فَقَالَ جرير: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ دخلتُ فاشْرأب النّاس نحوي، وَدخل قومٌ بعدِي فَلم يشرئب النّاس إِلَيْهِم، فقدرت أَن ذَلِكَ لذكر جميلٍ ذَكرنِي بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ عَبْد الْملك: لمّا ذُكِرْت لي قُلتُ: لَا حيّاهُ اللَّه القاذفُ للمحصنات العاضهُ لأعراض النّاس، فَقَالَ جرير: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هجوتُ أحدا حَتَّى أجزه عِرضي سَنَةً، فَإِن أمسك أَمْسَكت، وَإِن أَقَامَ استعنتُ عَلَيْهِ وهجوتُه، فَقَالَ لَهُ: هَذَا صديقك أَبُو مَالك سَلِّم عَلَيْهِ - يَعْنِي الأخطل - فاعتنقه وَقَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هجاني أحدٌ كَانَ هجاؤُه عليّ أشدَّ من هجائه، إِلَّا أَنِّي كنتُ أَظن أنَّه يُرْشى عَلَى هجائي، فَقَالَ لَهُ الأخطل: كذبتَ وأُتُنِ أمِّك، قَالَ لَهُ جرير: صدقتُ وَخَنَازِير أمك، فَقَالَ عَبْد الْملك: أحضروا جَامِعَة فأحضرت وغمز الْوَلِيد الْغُلَام أَن ناجز بهَا، فَقَالَ عَبْد الْملك للأخطل: أنْشِدْ، فَأَنْشد: تأبّد الربُع من سلمى بأجْفار ... وأقْفرتْ من سُلَيمي دِمْنَةَ الدَّارِ حَتَّى خَتمهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْملك: قضينا لَك أنَّك أشعر من مضى وَمن بَقِي. واستأذنت قيس عَبْد الْملك فِي أَن ينشد جريرٌ فَأبى، وَلم يزل جرير مُقيما دهرًا يلْتَمس إنشاد عَبْد الْملك وَقيس تشفع لَهُ، وَعبد الْملك يَأْبَى إِلَى أَن أذن لَهُ يَوْمَا، فأنشده: أتصحُو بل فؤادُك غَيْر صَاح ... عَشِيَّة هَمَّ صَحْبُك بالرواح فَقَالَ عبد الْملك: بل فُؤَادك يَا بن اللخناء - قَالَ أَبُو بَكْر: اللخناء: المنتنة الرّيح، فَلَمّا انْتهى إِلَى قَوْله: تَعَزَّتْ أم حَزْرَة ثُمَّ قَالَتْ ... رَأَيْتُ الْمُوردين ذَوي اللقاحِ تُعَلِّلُ وَهِي سَاغِبةٌ بَنِيها ... بِأَنْفَاسِ من الشبم القراح قَالَ أبوبكر: الشبم: الْبَارِد، والقراح: المَاء الَّذِي لَيْسَ مَعَه لبن، والساغبة الجائعة، قَالَ القَاضِي: وَمن دُعَاء الْعَرَب: حلبتَ قَاعِدا وشربتَ بَارِدًا، يُرِيدُونَ كنت ذَا غنم تحلبها وَأَنت قَاعد وَلَا إبل لَك تحلبها قَائِما، وشربت بَارِدًا أَي مَاء مَحْضا، قَالَ عبد الْملك: لَا

الرشيد يحبس محمد بن الليث ثم يطلقه ويكرمه

أروى اللَّه عَيمتَها، قَالَ القَاضِي: العَيْمة: شَهْوَة اللَّبن، يُقَالُ: عَمت إِلَى اللَّبن أعيم عيمة، وَمن دُعَاء الْعَرَب: مَا لَهُ عَامَ وغام وآم، فغام: قرم إِلَى اللَّبن وَلم يقدر عَلَيْهِ، وآم: مَاتَت امْرَأَته، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وأُبنا وَقد آمتْ نِسَاءٌ كثيرةٌ ... ونسْوَانُ سَعْدٍ لَيْسَ فيهنَّ أيِّمُ معنى آمت نسَاء مَاتَ أَزوَاجهنَّ، وغام: عَطش فَلم يقدر عَلَى المَاء، فَلَمّا انْتهى إِلَى قَوْله: ألستُمْ خَيْر من ركب المَطَايا ... وأندى العَالمين بُطُون رَاحِ قَالَ عَبْد الْملك: من مَدْحنَا فليمدحْنا هَكَذَا. فَلَمّا خَتمهَا أمره بإعادتها، فَلَمّا أنْشد: أتَصْحُو أم فؤادُك غَيْرُ صَاحِ لَمْ يقل لَهُ مَا قَالَ فِي الْمرة الأولى، ولمّا خَتمهَا أَمر لَهُ بِمِائَة نَاقَة بأداتها ورعاتها، فَقَالَ جرير: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! اجْعَلْهَا من إبل كلب، وإبل كلب إبل كرام. قَالَ القَاضِي: وَقد كتبنَا هَذَا الْخَبَر عَنْ أبي بَكْر بْن الأنبَاريّ فِي مجْلِس آخر: فَأتى بِهِ بِزِيَادَة فِي هَذِهِ القصيدة وَأنْشد فِيهِ كلمة جرير كلهَا وَفسّر غريبها، وَإِذا عثرنا عَلَيْهِ رسمناه فِيمَا نستقبله من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه. الرشيد يحبس مُحَمَّد بْن اللَّيْث ثُمَّ يُطلقهُ ويكرمه حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن زَيْدُ أَبُو عليّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بالحكيمي، قَالَ: سمعتُ أَحْمَد بْن يُوسُف الْكَاتِب يَقُولُ: حَدَّثَنِي ثُمَامَة بْن أَشْرَس، قَالَ: أول مَا أنكر يحيى بْن خَالِد من أمره، أنَّ مُحَمَّد بْن اللَّيْث أبي الرّبيع الْكَاتِب كتب إِلَى الرشيد رِسَالَة يَعِظُه فِيهَا وَيذكر فِيهَا يحيى بْن خَالِد وَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن يحيى بْن خَالِد لَا يُغني عَنْكَ من اللَّه شَيئًا، وَقد جعلته فِيما بَيْنك وَبَين اللَّه عَزَّ وَجل، فَكيف أَنْت إِذا وقفت بَيْنَ يَدَيْهِ فسألك عَمَّا عملت فِي عباده وبلاده، فَقلت: أَي رب! استكفيت يحيى بْن خَالِد أُمُور عِبَادك، أتراك تحتج بِحجَّة يرضاها؟ مَعَ كَلَام فِيهِ توبيخ وتقريع، فَلَمّا قَرَأَهَا الرشيد دَعَا يحيى بْن خَالِد وَقد تَقَدَّمَ إِلَى يحيى خبر هَذِهِ الرسَالَة، فَقَالَ لَهُ: أتعرف مُحَمَّدًا بْن اللَّيْث؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فأيُّ الرِّجَال هُوَ؟ قَالَ: مُتّهم على الْإِسْلَام. فَأمر الرشيد بِمُحَمد بْن اللَّيْث فَوضع فِي المطبق فَأَقَامَ دهرًا، فَلَمّا تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فَأمر بِإِخْرَاجِهِ فأحضر، فَقَالَ لَهُ بَعْدَ مُخَاطبَة طَوِيلَة: يَا مُحَمَّد! أتحبني، قَالَ: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: أوتقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وضعت فِي رِجلي الأكْبَالَ وحلت بيني وَبَين الْعِيَال بِلَا ذَنْب وَلَا حَدَثٍ أحدثتُ سوى قَول حَاسِد يكيدُ الْإِسْلَام وَأَهله، وَيُحب الْإِلْحَاد وَأَهله، فَكيف أُحِبَّكَ؟ قَالَ: صدقت، وَأمر بِإِطْلَاقِهِ، ثُمّ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد بْن اللَّيْث أتحبني، قَالَ لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَكِن قَدْ ذهب بَعْض مَا كَانَ فِي قلبِي، فَأمر أَن يدْفع إِلَيْهِ من

خبر وضاح اليمن

سَاعَته مائَة ألف دِرْهَم فأحضرت، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد أتحبني؟ قَالَ: أما الْآن فَنعم، قَدْ أَنْعَمت وأحسنت، فَقَالَ: انتقم الله لَك مِمَّن ظلمك وَأخذ بحقِّك مِمَّن بغى عَلَيْكَ، فَكَانَ هَذَا أول مَا ظهر من الرشيد فِي أَمر يحيى بْن خَالِد ثُمَّ تَزَيّد الْأَمر بَعْدَ ذَلِكَ. خبرُ وضَّاحِ الْيمن حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حِبّان بْن صَدَقة، عَنْ مُحَمَّد بْن أبي السّري، عَنْ هِشَام بْن مُحَمَّد بْن السَّائِب، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ يزِيد بْن عَبْد الْملك بْن مَرْوَان أم الْبَنِينَ بِنْت فلَان، وَكَانَ لَهَا من قلبه مَوضِع قَالَ: فَقدم عَلَيْهِ من نَاحيَة مصر بجوهر لَهُ قيمَة وَقدر، قَالَ: فَدَعَا خصِيًّا لَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى أم الْبَنِينَ وَقل لَهَا: أُتيتُ بِهِ الساعةَ فبعثتُ بِهِ إِلَيْكَ، قَالَ: فَأَتَاهَا الْخَادِم فَوجدَ عِنْدهَا وَضَّاحَ الْيمن وَكَانَ من أجمل الْعَرَب وأحسنها وَجها، فعشقته أم الْبَنِينَ فأدخلته عَلَيْهَا، فَكَانَ يكون عِنْدهَا فَإِذا أحسّت بِدُخُول يزِيد بْن عَبْد الْملك عَلَيْهَا أدخلته فِي صندوق من صناديقها، فَلَمّا رَأَتْ الْغُلَام قَدْ أقبل أدخلته فِي الصندوق فَرَآهُ الْغُلَام وَرَأى الصندوق الَّذِي دخل فِيهِ، فَوضع الْجَوْهَر بَيْنَ يَديهَا وأبلغها الرسَالَة، ثُمَّ قَالَ: يَا سيِّدتي هَبِي لي مِنْهُ لُؤْلؤة، قَالَتْ: لَا، وَلَا كَرَامَة، فَغَضب وَجَاء إِلَى مَوْلَاهُ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِنِّي دخلت عَلَيْهَا وَعِنْدهَا رَجُل، فَلَمّا رأتني أدخلته صندوقًا فَهُوَ فِي الصندوق الَّذِي من صفته كَذَا وَكَذَا وَهُوَ الثَّالِث أَو الرَّابِع، فَقَالَ لَهُ يزِيد: كذبت يَا عَدو اللَّه، جئوا فِي عُنُقه فوجأوا عُنُقه وَنَحْوه عَنهُ، قَالَ: فأمهل قَلِيلا ثُمَّ قَامَ فَلبس نَعله وَدخل عَلَى أم الْبَنِينَ وَهِي تمتشط فِي خزانتها، فجَاء حَتَّى جلس عَلَى الصندوق الَّذِي وصف لَهُ الْخَادِم، فَقَالَ: يَا أم الْبَنِينَ! مَا أحبب إِلَيْكَ هَذَا الْبَيْت؟ قَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أدخلهُ لحاجتي وَفِيه خزانتي فَمَا أردْت من شَيْءٍ أَخَذته من قُرب، قَالَ: فَمَا فِي هَذِهِ الصناديق الَّتِي أَرَاهَا؟ قَالَتْ: حُلِيِّي وأثَاثي، قَالَ: فهبي لي مِنْهُ صندوقًا، قَالَتْ: كلهَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: لَا أُرِيد إِلَّا وَاحِدًا وَلَك عليّ أُعْطِيك زِنَته وزنة مَا فِيهِ ذَهبًا، قَالَتْ: فَخذ مَا شِئْت، قَالَ: هَذَا الَّذِي تحتي، قَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! عَدِّ عَنْ هَذَا وَخذ غَيره، فَإِن لي فِيهِ شَيئًا يَقع بمحبتي، قَالَ: مَا أُرِيد غَيره، قَالَتْ: هُوَ لَك، قَالَ: فَأَخذه ودعا الفراشين فحملوا الصندوق فَمضى بِهِ إِلَى مَجْلِسه فَجَلَسَ وَلم يَفْتَحهُ وَلم ينظر مَا فِيهِ، فَلَمَّا جنه اللَّيْل دَعَا غُلَاما لَهُ أعجميا، فَقَالَ لَهُ: اسْتَأْجر أجراء غرباء لَيْسُوا من أهل الْمصر، قَالَ: فجَاء بهم فَأَمرهمْ فَحَفروا لَهُ حُفْرة فِي مَجْلِسه حَتَّى بلغ المَاء، ثُمَّ قَالَ: قَدِّموا لي الصندوق فألقي فِي الحفرة ثُمَّ وضع فَمه عَلَى شَفْرِهْ فَقَالَ: يَا هَذَا! قَدْ بلغنَا عَنْكَ الْخَبَر فَإِن يكن حَقًا فقد قَطعنَا أَثَره وَإِن يكن بَاطِلا فَإِنَّمَا دفنّا خَشَبًا، ثُمَّ أهالوا عَلَيْهِ التُّرَاب حَتَّى اسْتَوَى، قَالَ: فَلم ير وضاح الْيمن حَتَّى السَّاعَة، قَالَ: فَلا وَالله مَا بَان لَهَا فِي وَجهه وَلَا فِي خلائقه وَلَا فِي شَيْءٍ حَتَّى فرق الْمَوْت بَيْنَهُمَا.

جنه وجن عليه

جَنّهُ وجنَّ عَلَيْهِ قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: فَلَمّا جنّه اللَّيْل، والفصيح من كَلَام الْعَرَب: جن عَلَيْهِ اللَّيْل وأجنه اللَّيْل، قَالَ اللَّه جلّ اسْمه " فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كوكباً " وَفِيه لُغَة أُخْرَى وَهُوَ جَنّه كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر، وَقد روى عَن بعض الماضين من الْقُرَّاء " جَنّهُ المَأْوى " وَهَذَا وَجه شَاذ فِي الْقِرَاءَة، واللغة، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَيْضا وجهٌ من اللُّغَة لَيْسَ بِالظَّاهِرِ السائر وَهُوَ قَوْله: ثُمَّ أهالوا عَلَيْهِ التُّرَاب، واللغة الفاشية الصَّحِيحَة الْعَالِيَة: هِلْتُ عَلَيْهِ التُّرَاب أهِيله، قَالَ اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَكَانَتِ الْجِبَالُ كثيباً مهيلاً ". من أدب آل الْبَيْت حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ شَاذَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَزَّازُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بِالْقَلْزُمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الْمَدَائِنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، فَقلت: يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ أَوْصِنِي، فَقَالَ: يَا سُفْيَانُ! لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ، وَلا رَاحَةَ لِحَسُودٍ، وَلا خَلَّةَ لِبَخِيلٍ، وَلا أَخَا لِمَلُولٍ، وَلا سُؤْدُدَ لسيء الْخلق، قلت يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ، زِدْنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ! كُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَكُنْ عَابِدًا، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَاصْحَبِ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوكَ بِهِ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَلا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَكَ مِنْ فُجُورِهِ، وَشَاوِرْ فِي أمورك الَّذين يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى، فَقُلْتُ: يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ: زِدْنِي، قَالَ: يَا سُفْيَانُ! مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلا سُلْطَانٍ، فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قلت: يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي قَالَ: يَا سُفْيَانُ أَدَّبَنِي أَبِي بِثَلاثٍ وَأَتْبَعَنِي بِثَلَاث، قلت يَا ابْن رَسُول الله! مَا الثَّلاثُ الَّتِي أَدَّبَكَ بِهِنَّ أَبُوكَ؟ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السَّوْءِ لَا يَسْلَمْ، وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السَّوْءِ يُتَّهَمْ، وَمَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ يَنْدَمْ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي: عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الْخَيْرِ تَحْظَ بِهِ ... إِنَّ اللِّسَان لِمَا عَوَّدْتَ مُعْتَادُ مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ ... فِي الْخَيْرِ وَالشَّر فانظركيف تَرْتَادُ قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا الثَّلاثُ الأُخَرُ؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: إِنَّمَا يُتَّقَى حَاسِدُ نِعْمَةٍ، أَوْ شَامِتٌ بِمُصِيبَةٍ، أَوْ حَامِلُ نَمِيمَةٍ. وُفُود كَثِيرَة عزَّة عَلَى عَبْد الْملك وَحَدِيثه مَعَه حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عليّ بن المزربان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن هَارُون النَّحْوِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أبي يَعْقُوب الدينَوَرِي، قَالَ: أَخْبرنِي نصر بْن مَنْصُور، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: كَانَ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان يحب النّظر إِلَى كُثَيِّر إِذَا دخل عَلَيْهِ آذنه يَوْمَا، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! هَذَا كُثَيِّر بِالْبَابِ، فَاسْتَبْشَرَ عَبْد الْملك، وَقَالَ: أَدْخِلْه يَا غُلَام،

فَدخل كُثير وَكَانَ دميمًا حَقِيرًا تَزْدَريه الْعين فسلّم بالخلافة، فَقَالَ عَبْد الْملك: تَسْمَع بالْمُعَيْديِّ خيرٌ من أَن ترَاهُ، فَقَالَ كثير: مهلا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَإِنَّمَا الرَّجُل بأصغريه - قَالَ القَاضِي: الْعَرَب تَقول: تسمع بالمعيديِّ لَا أَن ترَاهُ، وَأَن تسمع بالمعيدي خَير من أَن ترَاهُ، وَهُوَ مَثَلٌ سَائِر - بِلِسَانِهِ وَقَلبه، فَإِن نَطَق نَطَقَ بِبَيَان، وَإِن قَاتل قَاتل بحنان، وَأَنا الَّذِي أَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: وَجَرَّبْتُ الأمورَ وَجَرَّبَتْنِي ... فقد أبدتْ عَريكَتي الأمُورُ وَمَا يَخْفَ الرِّجَالُ عَلَيَّ إِنِّي ... بِهِم لأخُو مُثَاقَبَة خَبِيرُ تَرى الرَّجُل النّحيفَ فتزدريه ... وَفِي أثوابه أسدٌ يَزِيرُ ويُعْجِبكَ الطّرِيرُ فتبتليه ... فيُخْلِفُ ظَنّكَ الرَّجُل الطّريرُ وَمَا عِظَمُ الرِّجَال لَهُمْ بِزَيْنٍ ... وَلَكِن زَيْنُهَا كَرَمٌ وخيرُ بُغَاثُ الطّيْر أطْوَلُها جُسُومًا ... وَلم تَطِلِ الْبُزَاةُ وَلَا الصُّقُورُ وروى بغاث الطّير أَكْثَرهَا فِرَاخًا ... وأمُّ الصَّقْر مِقْلاتٌ نَزُور وَفِي بغاث الطير لُغَتَانِ: بَغَاث وبِغَاث بِالْفَتْح وَالْكَسْر، فَأَما الضَّم فخطأ عِنْدَ أَهْلَ الْعلم باللغة، فقد أجَاز بَعضهم الضَّم، والمقلات الَّتِي لَا يعِيش لَهَا وُلِدَ، والقلت بِفَتْح اللَّام: الْهَلَاك، وَمن ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْمُسَافر وَمَا مَعَه عَلَى قَلَتٍ إِلَّا مَا وَقَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَمِنْه قَول الشَّاعِر فَلم أر كالتّجْمِيرِ مَنْظَرَ نَاظِرٍ ... وَلَا كَلَيَالِي الحَجِّ أقْلَتْن ذَا هَوَى ويروى: أفلتن بِالْفَاءِ، فَأَما القلت بِسُكُون اللَّام: فالنقرة فِي الْجَبَل أَو الْحجر يجْتَمع فِيهَا المَاء، تجمع قلات، قَالَ الشَّاعِر: كأنَّ عَيْنَيْهِ من الْغُئُورِ ... قَلَتَان فِي جَوْف صَفًا مَنْقُورِ ثُمَّ رَجعْنَا إِلَى شعر كُثَيِّر: لَقَدْ عَظُم البَعِير بِغَيْر لُبٍّ ... فَلَم يَسْتَغْنِ بالْعِظَمِ البَعِيرُ فيركب ثُمَّ يضْرب بالهراوى ... فَلا عُرْفٌ لَدَيْهِ وَلَا نَكِيرٌ قَالَ القَاضِي فيروى: يُجَرِّرهُ الصَّبِيُّ بكلِّ سَهْبٍ ... ويَحْبِسهُ عَلَى الْخَسْف الْجَرِير قَالَ القَاضِي: الْجَرِير: الْحَبل، وَبِه سمي الرَّجُل: قَالَ الشَّاعِر: يرى فِي كف صَاحبه خَلاء ... فيُفْزِعهُ ويُجْبِنُه الجريرُ

خروج عبد الملك بنفسه إلى حرب مصعب وتمثله بشعر لكثير

رَجعْنَا إِلَى شعر كُثَيِّر: وعُودُ النّبْعِ يَنْبَتُ مُسْتَمِرًّا ... وَلَيْسَ يَطُول والقَصْبَاء خُور قَالَ القَاضِي: النبع من كريم الشّجر وتتخذ مِنْهُ القسيّ، قَالَ الشَّاعِر: ألم تَرَ أنَّ النّبْعَ يَصْلُب عُودُهُ ... وَلَا يَسْتَوِي والخَرْوَعُ المَتَقصِّفُ وَقَالَ الْأَعْشَى: ونَحْنُ أُنَاسٌ عُودُنا عُودُ نَبْعَةٍ ... إِذَا افتخرَ الحَيّان بَكْرٌ وتَغْلِبُ قَالَ: فَاعْتَذر إِلَيْهِ عبد الْملك وَرفع مَجْلِسه، ثُمَّ قَالَ: يَا كثير! أَنْشدني فِي إخْوَان دهرك هَذَا، فأنشده: خَيْرُ إخوانِك الْمُشَارِكُ فِي المر ... روأين الشّريكُ فِي الْمُرِّ أَيْنَا الَّذِي إِن حضرت سرك فِي الح ... ي وَإِن غبتَ كَانَ أُذْنًا وعَيْنًا ذَاك مثل الحسام أخلصه الق ... ين وجلاه الْجلاء فاداد رَيْنَا قَالَ القَاضِي: ويروى: جلاه التلام يُرِيد التلامذة والتلاميذ وهم الصياقلة هَا هُنَا، وَيُقَال التلام المدوس وَهُوَ حجر يُجلى بِهِ، رَجَعَ الشَّاعِر: أنتَ فِي معشر إِذَا غبت عَنْهُمْ ... بَدَّلُوا كلّ مَا يَزينك شَيْنَا فَإِذا مَا رأوك قَالُوا جَمِيعًا ... أَنْت من أكْرم الرِّجَال عَلَيْنَا فَقَالَ لَهُ عَبْد الْملك: يغْفر اللَّه لَك يَا كُثَيِّر، فَأَيْنَ الإخوان؟ قَالَ: غَيْر أَنِّي أَنَا الَّذِي أَقُول: صَدِيقُك حِينَ تَسْتَغْنِي كثيرٌ ... ومَالَكَ عِنْدَ فقركِ من صِدِيقِ فَلا تُنْكِر عَلَى أحدٍ إِذَا مَا ... طَوَى عَنْكَ الزِّيَارة عِنْدَ ضِيقِ وكنتُ إِذَا الصّديق أَرَادَ غيظيعلى حَنَقٍ وأشْرَقني برِيقِي غفرتُ ذُنُوبَه وصفحت عنهمخافة أَن أكونَ بِلَا صَدِيقِ خُرُوج عَبْد الْملك بِنَفسِهِ إِلَى حَرْب مُصْعَب وتمثله بِشعر لكثير حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد، قَالَ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، عَنْ أَبِيه، عَنْ جَدّه، قَالَ: وفَدَ كُثَيِّر على عبد الْملك وَهُوَ يُرِيد الْخُرُوج إِلَى مُصْعَب، فَقَالَ لَهُ لمّا خَرَجَ: يَا ابْن أبي جُمُعَة! ذكرتُك بِشَيْء من شعرك السَّاعَة، فَإِن أصبته فلك حُكْمُك، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أردتَ الخروجَ فبكتْ عاتكةُ بِنْت يزِيد وَحَشَمُها - يَعْنِي امْرَأَته - فذكَرْتَ قولي: إِذَا مَا أَرَادَ الغَزْوُ لَمْ تَثْنِ هَمّه ... حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرٍّ يَزِينها

معنى الغرب

نَهَتهُ فلمّا لَمْ تَرَ النّهْي عَاقَه ... بكتْ فَبكى مِمّا عراها قَطِينُها فَقَالَ: أصبت وَالله، احْتَكِم، قَالَ: مائَة نَاقَة من نُوقك المختارة، قَالَ: هِيَ لَك، فَلَمّا كَانَ الْغَد نظر عَبْد الْملك إِلَى كُثَيِّر يسيرُ فِي عُرْض النّاس ضَارِبًا بذقنه عَلَى صَدره يفكر، فَقَالَ عليّ بِكَثِير فجيء بِهِ، قَالَ: فَإِن أصبت مَا كنتَ تفَكُر فِيهِ فَلِي حُكْمي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: الله، قَالَ: اللَّه، قَالَ: قلت فِي نَفسك: مَا أصنع بِالْمَسِيرِ مَعَ هَذَا الرَّجُل، لَيْسَ على نِحِلَتي وَلَا عَلَى مذهبي يسير إِلَى رَجُل كَذَلِك وَكِلَاهُمَا عِنْدِي ظَالِم من أَهْلَ النَّار، ويلتقي الْحَيَّانِ فيصيبني سهم غَرْبٌ فَأَكُون قَدْ خسرتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، قَالَ: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أَخْطَأت حَرْفًا فاحتكم، قَالَ حكمي أحْسِنَ صِلَتك وأصرفك إِلَى أهلك، فَفعل ذَلِكَ معنى الغرب قَالَ القَاضِي: يُقَالُ: أَصَابَهُ سهم غَرَب وَغرب والتحريك أعلاهما، وَهُوَ أَن يُصِيبهُ السهْم عَلَى حِين غَفلَة مِنْهُ، والغرب أَيْضا عِلّة تعرض للعين، والغرب دلو عَظِيمَة، وَمِنْه الْخَبَر: " بالغَرْب فَفِيهِ نصف الْعُشْر " وَيجمع غروبا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: من ديارْ بالهَضْبِ هَضْبِ القَلِيبِ ... فَاضَ مَاءُ الشُّؤونِ فَيْضَ الْغُرُوبِ والغرب مُقَابل الشرق، والغَرَب بِالتَّحْرِيكِ ضرب من الشّجر مَعْرُوف، والغرب بِالْفَتْح أَيْضا من أَسمَاء الْفِضَّة، قَالَ الْأَعْشَى: إِذَا انكب أَزْهَر بَيْنَ السُّقاة ... وَلِعُوا بِهِ غَرَبًا أَوْ نُضَارا قَالَ أَبُو عُبَيْدة: الغرب: الْفِضَّة، والنُّضَار: الذَّهَبَ، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الغرب: الْخشب، والنضار: الأثْل، وكل ناعم فَهُوَ نضار، وَقيل للأصمعي: إِنَّهُم لَمْ يَكُونُوا يشربون فِي آنِية الْخشب يَعْنِي الأكاسرة، وَيُقَال لِلْفِضَّةِ: اللُّجَين، والقطعة مِنْهُ سبيكة ودبلة، وَالذَّهَب: نضر وعقيان وعسجد، وَيُقَال لَهُ: الزخرف، والغرب أَيْضا: مَا سَالَ من الْحَوْض والبئر من المَاء، كَمَا قَالَ ذُو الرمة: فَأدْرك الْمُتَبَقّي من ثَمِيلَتِهِ ... وَمن ثمائلها واستنشئ الغرب قَوْله: واستنشئ الغرب مَعْنَاهُ أَنَّهُ شم من قَوْلهم: شممت مِنْهُ نشوة طيبَة أَي ريحًا طيبَة، يَقُولُ: شممن المَاء من شدَّة الْعَطش، يَعْنِي حمر الْوَحْش. /بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْمَجْلِسُ السَّادِسُ وَالْعِشرُونَ أَصْلُ الْمُعَانَقَةِ وَالْمُصَافَحَةِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو سَعِيدٍ الْخُوَارِزْمِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّوِيلُ، حَدثنَا مُحَمَّد بن حَاتِم الجرجائي، حَدثنَا سَلمَة ابْن صَالِحٍ الأَحْمَرُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، عَنْ مُعَانَقَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ إِذَا لَقِيَهُ؟ قَالَ: كَانَ تَحِيَّةُ الأُمَمِ وَخَالِصُ وُدِّهِمُ

التعليق على الخبر الإصر، الذراع

الْعِنَاقَ، وَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ خَرَجَ يَرْتَادُ لِمَاشِيَتِهِ بجبلٍ مِنْ جِبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، إِذْ سَمِعَ صَوْتَ مقدسٍ يُقَدِّسُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَذُهِلَ عَمَّا كَانَ يَطْلُبُ، فَقَصَدَ ذَلِكَ الصَّوْتَ، فَإِذَا هُوَ بِشَيْخٍ طُولُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا شَيْخُ! مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: مَنْ فِي السَّمَاءِ، قَالَ: فَمَنْ رَبُّ مَنْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: ألها رب غَيره؟ قَالَ: فَمَنْ رَبُّ مَنْ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ، قَالَ: أَلَهَا رَبٌّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: مَالهَا رَبٌّ غَيْرُهُ، وَهُوَ رَبُّ مَنْ فِيهَا وَرَبُّ مَنْ تَحْتَهَا وَمَنْ فَوْقَهَا، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَيْنَ قِبْلَتُكَ؟ فَأَوْمَأَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ طَعَامِهِ، قَالَ: أَجْمَعُ مِنْ هَذَا التَّمْرِ فِي الصَّيْفِ فَآكُلُهُ فِي الشِّتَاءِ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: لَا أعلم أحدٌ بَقِيَ مِنْ قَوْمِي غَيْرِي، قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ؟ قَالَ: فِي تِلْكَ الْمَغَارَةِ قَالَ: أَفَتُرِينَا بَيْتَكَ، قَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَهُ وادٍ لَا يُخَاضُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَيْفَ تَعْبُرُهُ؟ قَالَ: أَمْشِي عَلَيْهِ ذَاهِبًا وَأَمْشِي عَلَيْهِ جَائِيًا، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: فَانْطَلِقْ بِنَا لَعَلَّ الَّذِي ذَلَّلَهُ لَكَ أَنْ يُذَلِّلَهُ لِي، قَالَ: فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَيْهِ، فَمَشَيَا عَلَيْهِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَتَعَجَّبُ مِمَّا أُوتِيَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا دَخَلا الْمَغَارَةَ إِذَا قِبْلَتُهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَيُّ يومٍ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى أَشَدُّ؟ قَالَ الشَّيْخُ: يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ يَضَعُ كُرْسِيَّهُ، يَوْمَ تُؤْمَرُ جَهَنَّمُ فَتَزْفُرُ زَفْرَةً فَلا يَبْقَى نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ إِلا تَهُمُّهُ نَفْسُهُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا شَيْخُ! ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يُؤَمِّنِّي وَإِيَّاكَ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: وَمَا تَصْنَعُ بِدُعَائِي، إِنَّ لِي فِي السَّمَاءِ دَعْوَةً مَحْبُوسَةً مُنْذُ ثَلاثِ سِنِينَ، قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: ألأا أُخْبِرُكَ بِمَا حَبَسَ دَعْوَتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا حَبَسَ دَعَوَاتِهِ لِحُبِّ صَوْتِهِ، ثُمَّ يُجِيبُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا عَجَّلَ لَهُ الْحَاجَةَ وَأَلْقَى الْيَأْسَ فِي صَدْرِهِ لِبُغْضِ صَوْتِهِ، مَا دَعْوَتُكَ يَا شَيْخُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ مَحْبُوسَةٌ؟ قَالَ: مر بِي هَاهُنَا شَابُّ فِي رَأْسِهِ ذُؤَابَةٌ مُنْذُ ثَلَاث سِنِينَ وَمَعَهُ غنمٌ كَأَنَّهَا حَشَفٌ، وبقرٌ كَأَنَّهَا حَفِيَتْ ... قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ وَأَحْسَبُهُ حَفِلَتْ أَيْ جُمِعَ اللَّبَنُ فِي ضُرُوعِهَا وَأُخِّرَ حِلابُهَا، قُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لَكَ فِي الأَرْضِ خليلٌ فَأَرِنِيهِ قَبْلَ خُرُوجِي مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكَ، فَاعْتَنَقَا، فيومئذٍ كَانَ أَصْلُ الْمُعَانَقَةِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ السُّجُودُ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا، ثُمَّ جَاءَ الصِّفَاحُ مَعَ الإِسْلامِ فَلَمْ يَسْجُدُوا وَلَمْ يُعَانِقُوا، وَلا تَتَفَرَّقُ الأَصَابِعُ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لِكُلِّ مُصَافِحٍ. التَّعْلِيق عَلَى الْخَبَر الإصْر، الذِّرَاع قَالَ القَاضِي: الْحَمد للَّه الَّذِي وضع عَنَّا الآصار، والآصار: جمعُ إصْر، وَهُوَ الْعَهْد، وَأَصله الثُّقْل، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ من قبلنَا " يَعْنِي التَّشْدِيد فِي الْعِبادة، والتثقيل فِي الشَّرِيعَة، وقَالَ تَعَالَى ذكره: " وأخذتم على ذَلِكُم إصري " أَيْ عَهْدي، وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي

حكم المصافحة والمعانقة والقيام للزائر

كَانَت عَلَيْهِم " يَعْنِي التثقيل فِيمَا كُلِّفُوهُ وكُتب عَلَيْهِم، وَقد قرىء: آصَارهم عَلَى الجَمْع. وَفِي هَذَا الْخَبَر: أَن الرَّجُل الَّذِي لَقِيَه إِبْرَاهِيمُ عَلَيْه السَّلام كَانَ طولُه ثمانيةَ عَشَرَ ذِرَاعا، فجَاء بِهِ عَلَى التَّذْكِير والأغلبُ فِيهِ التَّأْنِيث، وَفِي تذكيره خلاف بَيْنَ اللُّغَويين، وَقَدْ أجَازه بَعضهم وَحَكَاهُ، وَقَد استقصينا القَوْل فِي هَذَا فِي مَوضِع غَيْر هَذَا، وشرحناه وأوضحنا الْبَيَان عَنْهُ وبينَّاه. حكم المصافحة والمعانقة وَالْقِيَام للزائر وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ أَنَّهُ ندب إِلَى المصافحة وَكَانَ يَفْعَلهَا، وَأَنه سُئِل: أينحني الرجلُ لصَاحبه، فَقَالَ: لَا، قِيلَ أفيعانقه؟ قَالَ: لَا، قِيلَ: أفيصافحه؟ قَالَ: نعم. وَقَدْ ذكر اسْتِعْمَال الْقيام والمصافحة عَنْ بعض السّلف، وليسا عِنْدِي بمحظورين، أَولا أحد من أَهْل الْقُدْوة حَرّم ذَلِكَ، غَيْر أَن الْأَخْذ بِمَا أدَّب بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته أولى بذوي الْأَلْبَاب، وأليقُ بِوَجْه الْحق وَالصَّوَاب. أصل الْيمن، مَا هُوَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ، حَدَّثَنَا السَّكَنُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَزِيَّةَ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي قُرْظَةُ الْمَازِنِيُّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيِّ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ، قَالَ: خَرَجْتُ وافدًا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي جَمَاعَةٍ لَيْسَ فِيهِمْ يمانٍ غَيْرِي، فَلَمَّا كُنَّا بِبَابِهِ دُفعنا إِلَى ابْن هُبَيْرة وَهُوَ عَلَى شُرَطِهِ وَمَا وَرَاء بَابه، فَتقدم الوفدُ رَجُلا رَجُلا كلهم يخْطب ويُطنب فِي أَمِير الْمُؤْمِنِين وَابْن هُبيرة، فَجعل يبحثهم عَنْ أنسابهم، فَكرِهت ذَلِكَ، وَقلت: إِن عَرَفني زادني ذَلِكَ عِنْده شرًّا، وكرهتُ أَن أَتكَلّم فأُطْنب، فجعلتُ أتأخر رجاءَ أَن يَمَلَّ كلامَهم فُيمْسِك، حَتَّى لَمْ يبْق غَيْرِي، ثُمّ تقدمْتُ فتكلمت بِدُونِ كَلَامهم وَإِنِّي لقادر عَلَى الْكَلَام، فَقَالَ: مِمَّن أَنْت؟ فَقلت: من أَهْل الْيمن، قَالَ: من أيِّها؟ قُلْتُ: من مذْحج، قَالَ: إِنَّك لتطمح بِنَفْسِك، اختصر. قُلْتُ: من بني الْحَارِث بْن كَعْب، قَالَ: يَا أَخا بني الْحَارِث! إِن النّاس ليزعمون أنّ أَبَا الْيمن قردٌ، فَمَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ قُلْتُ: وَمَا أَقُول أصلحك اللَّهُ، إِن الحجَّة فِي هَذَا لغير مشكلة، فَاسْتَوَى قَاعِدا، وقَالَ: وَمَا حجتك؟ قُلْتُ: تنظر إِلَى القرد أَبَا من يُكنَّى، فَإِن كَانَ أَبُو الْيمن فَهُوَ أبوهم، وَإِن كَانَ يكنى أَبَا قَيْس فَهُوَ أَبُو مَنْ كُنِّيَ بِهِ. فَنَكس ونكت بظفره إِلَى الأَرْض، وَجعلت اليمانة تَعضّ عَلَى شفاهها تظن أَن قَدْ هَوِيتُ، والقيسيَّةُ تكَاد أَن تَزْدردني، وَدخل بهَا الْحَاجِب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين ثُمّ رَجَعَ، فَقَامَ ابْن هُبَيْرة فَدخل ثُمّ لَمْ يلبث أَن خرج، فَقَالَ الْحَارِثِيّ: فَدخلت ومَرْوَان يضْحك، فَقَالَ: إيهٍ عَنْك وَعَن ابْن هُبَيْرة فَقلت: قَالَ: كَذَا فَقلت كَذَا، فَقَالَ: وَايْم اللَّه لقَدْ حَجَجْتَه، أَوْ لَيْسَ أَمِير

وعلى ذكر القرد

الْمُؤْمِنِين الَّذِي يَقُولُ: تمسَّك أَبَا قَيس بِفضل هَنَاتِها ... فَلَيْس عَلَيْهَا إِن هلكتَ ضمانُ فَلم أر قردًا قبلهَا سَبَقَتْ بِهِ ... جيادَ أَمِير الْمُؤْمِنِين أتَانُ قَالَ زِيَاد: فخرجتُ واتَّبعني ابنُ هُبَيْرة فَوضع يَده بَيْنَ مِنكبي، ثُمّ قَالَ: يَا أَخا بني الْحَارِث، واللَّهِ مَا كَانَ كَلَامي إيّاك إِلا هفوة، وَإِن كُنْت لأربأ بنفسي عَن ذَلِك، وَلَقَد سرّني إِذْ لُقِّنْتَ عليَّ الحجَّة ليَكُون ذَلِكَ لي أدبًا فِيمَا أسْتقبل، وَأَنا لَك بِحَيْثُ تُحِب، فاجعلْ مَنْزِلك عليَّ، ففعلتُ فأكرمني وَأحسن منزلي. قَالَ ابْن دُرَيْد: والبيتان ليزِيد بْن مُعَاوِيَة، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حمل قردًا عَلَى أتانٍ وحشية فَسبق بَينهَا وبَيْنَ الْخَيل. وعَلى ذكر القرد حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن كَامِل، قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَجِيحٍ أَبِي مُضَرَ، وَقَالَ: هُوَ نَجِيحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: خَطَبَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر فَقَالَ مِنْ خُطْبَتِهِ: يَزِيدُ الْقِرْدُ وَشَارِبُ الْخَمْرِ، قَالَ: فَبَلَغَتْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَة، فَمَا بَات لَيْلَتِهِ حَتَّى جَهَّزَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَجَلَسَ وَالشَّمْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ مُعَصْفَرَةٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا الأَمْرُ انْبَرَى وَأَخَذَ الْجَيْشُ عَلَى وَادِي الْقُرَى عِشْرُونَ أَلْفًا بَيْنَ كَهْلٍ وَفَتَى أَجَمْعَ سكرانٍ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى فِي أول لِقَاء بَيْنَ أَبِي نواس وَأبي الْعَتَاهِيَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، ثَنَا أَحْمَد بْن مَنْصُور المَرْوَزِيّ، حَدَّثَنَا عُمَر بْن يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيّ، قَالَ: اجْتمع عِنْدِي أَبُو نواس وأَبُو الْعَتَاهِيَة، وكل وَاحِد مِنْهُمَا لَا يعرفُ صاحبَه، فعرَّفْتُ أَبَا الْعَتَاهِيَة أَبَا نُوَاس فسلَّم عَلَيْه، وَجَعَل أَبُو نواسٍ ينشدُ من شغشاف شعره، فَانْدفع أَبُو الْعَتَاهِيَة فَأَنْشد، فَقَالَ لَهُ أَبُو نواس: هَذَا وَالله الْمُطْمِعُ الْمُمْتَنع، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَتَاهِيَة: هَذَا القولُ مِنْك - واللَّه - أحسنُ من كلِّ مَا أنشدتَ، كَيفَ الْبَيْت الَّذِي مدحتَ بِهِ الرشيدَ أَو الرَّبِيعَ: قَدْ كنتُ خفتُك ثُمّ آمَنَنِي ... مِنْ أنْ أَخَافَكَ خَوْفُك اللَّهَ لوددتُ أَنِّي كُنْت سبقتُك إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي: وأنْشدني أَبِي هَذِهِ الأبيات لأبي نُوَاس فِي الْفَضْل بْن الرَّبِيع بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد: مَا من يدٍ فِي النّاس واحدةٍ ... إِلا أَبُو الْعَبَّاس مَوْلَاهَا نَام الثقاتُ وَطَالَ نومُهُمُ ... وسَرَى إِلَى نَفسِي فأحْيَاها

هشام بن عبد الملك يسترضي الأبرش الكلبي

قَدْ كنتُ خفتُك ثُمّ آمَنَنِي ... مِنْ أنْ أَخَافَكَ خَوْفُك اللَّهَ فغفوت عني عَفْو مقتدرٍ ... حلت لَهُ نقمٌ فألْغَاها هِشَام بْن عَبْد الْملك يسترضي الأَبْرَش الْكَلْبِيّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، ثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن الطَّائِي، عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس، قَالَ: حَدَّثَنِي الأبرشُ بْن الْوَلِيد الْكَلْبِيّ، قَالَ: دخلت عَلَى هِشَام بْن عَبْد الْملك فَسَأَلته حَاجَة فَامْتنعَ عَليّ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! لَا بُد مِنْهَا، فإنّا قَدْ ثَنَيْنَا عَلَيْهَا رِجْلا، قَالَ: ذَلِكَ أضعفُ لَك أَن تَثْنِيَ رِجْلَك عَلَى مَا لَيْسَ عنْدك، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! مَا كنتُ أظنُّ أَنِّي أمدُّ يَدي إِلَى شَيْء مِمَّا قِبَلك إِلا نلتُه، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: لِأَنِّي رأيتُك لذَلِك أَهلا ورأيتُني مُستحقَّهُ مِنْك، قَالَ: يَا أبرشُ! مَا أَكثر من يرى أَنَّهُ يستحقُّ أمرا لَيْسَ لَهُ بِأَهْل، فَقلت: أُفٍّ لَك لَكِن إِنَّك - واللهِ مَا علمتُ - قليلُ الْخَيْر نَكِدُهُ، واللَّه إنْ نُصِيبُ مِنْك الشيءَ إِلا بعد مَسْأَلَة، فَإِذا وصل إِلَيْنَا مَننْتَ بِهِ، واللَّه إنْ أصبْنَا مِنْك خيرا قَطُّ، قَالَ: لَا، واللَّه، ولكنّا وجدنَا الأعرابيَّ أقلَّ شيءٍ شُكرًا، قُلْتُ: واللَّه إِنِّي لأكْره للرجل أَن يُحْصِيَ مَا يُعطي. وَدخل عَلَيْه أَخُوهُ سَعِيدُ بْن عَبْد الْملك وَنحن فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَه يَا أَبَا مُجاشِع، لَا تقل ذَلِكَ لأمير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: فَقَالَ هِشَام: أَتَرْضَى بِأبي عُثْمَان بيني وَبَيْنك؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ سعيدٌ: مَا تقولُ يَا أَبَا مُجاشِع؟ فَقلت: لَا تَعْجَلْ، صَحِبْتُ - واللَّهِ - هَذَا وَهُوَ أرْذَلُ بني أَبِيهِ، وَأَنا يومئذٍ سَيِّدُ قَومي وأكثرُهُمْ مَالا وأوجَهُهُمْ جاهًا، أُدْعَى إِلَى الأمورِ الْعِظَام من قِبَلِ الْخُلَفَاء، وَمَا يَطْمع هَذَا يومئذٍ فِيمَا صَار إِلَيْهِ، حَتَّى إِذا صَار إِلَى الْبَحْر الأخْضَر غَرَفَ لنا مِنْهُ غَرْفَةً ثُمّ قَالَ: حسبُ. فَقَالَ هِشَام: يَا أبرشُ! اغْفِرها لي، فواللَّهِ لَا أعودُ لشيءٍ تكرههُ أبدا، صدق يَا أَبَا عُثْمَان. قَالَ: فواللَّه مَا زَالَ مُكرمًا لي حَتَّى مَاتَ. الفَرَزْدَق يُؤّجَّل ثَلَاثًا حَدَّثَنَا أَبِي رحمَهُ اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الحنلى، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن بشر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَمْرو الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بْن خَالِد الْعُمَاني، قَالَ: قدم الفرزدق الْمَدِينَة فِي سنةٍ جدبةٍ حَصْباء، فَمشى أهلُ الْمَدِينَة إِلَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز، وَهُوَ يَوْمئِذٍ أميرها فَقَالُوا لَهُ: أصلح اللَّه الْأَمِير، إنّ الفرزدقَ قدِم مدينتنا هَذِهِ فِي هَذِهِ السّنة الجَدْبة الَّتِي قَدْ خَلَتْ أموالها، ولَيْسَ عِنْد أحدٍ مِنْهُم مَا يُعطيه، فَلَو أَن الْأَمِير بعث إِلَيْهِ فأرضاه وتقدّم إِلَيْهِ أَلا يَعْرض لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء، قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز، فَقَالَ: يَا فرزدقُ! إِنَّك قَدِمْتَ مدينتنا فِي هَذِهِ السّنة الجدبة، ولَيْسَ عِنْد وَاحِد مِنَّا مَا يُعطي شَاعِرًا، وَقَدْ أمرت لَك بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، فخُذْها وَلا تَعْرِض

قد يصلح العشق الفتيان

لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء. قَالَ: فَأَخذهَا الفرزدق ومرّ بِعَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان وَهُوَ جَالس فِي سقيفَةِ دَاره وَعَلِيهِ مطرفٌ وعمامةُ خَز حَمْرَاء وجبة خَزٍّ حَمْرَاء، فَقَالَ: أعَبْدَ اللَّهِ أنتَ أحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجَمَاعير الكبارِ فلِلْفَارُوقِ أمُّكَ وابنُ أرْوَى ... أَبوك وَأَنت مُنْصَدِعُ النهارِ هما قمرُ السَّماءِ وَأَنت نجمٌ ... بِهِ فِي اللَّيْل يُدْلِجُ كلُّ سارِ قَالَ: فَخلع عَلَيْه جُبَّتَه والْمِطْرَفُ والْعِمامة ودعا لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. قَالَ: فَخرج رجلٌ كَانَ عندعبد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، وَقَدْ حضر الفَرَزْدَق عِنْدَمَا أَعْطَاه عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَتقدم إِلَيْهِ فَأخْبر عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز الْخَبَر، فَبعث إِلَيْهِ عُمَر: ألم أتقدّم إِلَيْك يَا فرزدقُ أَلا تَعْرِض لأحدٍ بمدحٍ وَلا هجاء، اخْرُج فقد أَجَّلْتُك ثَلَاثًا، فَإِن وجدتُك بعد ثَلَاث نَكَّلْتُ بك، قَالَ: فَخرج الفرزدق وَهُوَ يَقُولُ: أَأَوْعَدَنِي وأَجَّلَنِي ثَلَاثًا ... كَمَا وعدت لمهاكها ثَمُودُ؟ قَدْ يُصْلِحُ العشقُ الفتيانَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْن مُحَمَّد بْن ناظرة السدُوسِي، قَالَ: حَدَّثَنِي قُبَيْصةُ بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْيَمَان ابْن عُمَر مَوْلَى ذِي الرِّيَاسَتين قَالَ: كَانَ ذُو الرِّياستين يَبْعثُني وأحداثًا من أَحْدَاث أَهله إِلَى شيخ بخراسان لَهُ أدبٌ وَحُسْنُ معرفةٍ بالأمور، وَيَقُولُ لنا: تعلَّموا مِنْهُ الْحِكْمَة فَإِنه حَكِيم، فكنّا نأتِيه، فَإِذا انصرفنا من عِنْده سَأَلَنا ذُو الرياستين وَاعْترض مَا حفظناه فنُخْبِرُه، فصرنا ذَات يوْم إِلَى الشَّيْخ فَقَالَ لنا: أَنْتُم أدباءُ وَقَدْ سَمِعْتُمْ الْحِكْمَة، وَلكم خيراتٌ ونعمٌ، فَهَل فِيكُم عاشق؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: اعشقوا فَإِن الْعِشْق يُطلق اللسانَ الغبيَّ، وَيفتح حِيلَة البليد والبخيل، وَيبْعَث عَلَى التنظُّفِ، وتحسين اللِّباس، وتَطْيِيبِ المَطْعم، وَيَدْعُو إِلَى الْحَرَكَة والذكاء. وَيُشْرِفُ الهِّمَة، وإيّاكُم والحرامَ. فانصرفنا من عِنْده إِلَى ذِي الرياستين، فَسَأَلْنَاهُ عمّا افدناه فِي يَوْمنَا ذَلِكَ، فهِبْناهُ أَن نُخْبِره، فغرم علينا، فَقُلْنَا لَهُ: أَمَرَنَا بِكَذَا وَكَذَا، وقَالَ لنا كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صدق واللَّهِ، أتعلمون من أَيْن أَخذ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ ذُو الرياستين: إِن بهْرَام جُور كَانَ لَهُ ابنٌ وَكَانَ قَدْ رَشَّحَه لِلْأَمْرِ من بعده، فَنَشَأَ الْفَتى ناقصَ الْمُرُوءَة، خاملَ النَّفْس، سيىء الْأَدَب، فغَمَّهُ ذَلِكَ، وَوَكَّلَ بِهِ من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يُلازمه ويعلَّمه، وَكَانَ يسألهم عَنْهُ فيحكون لَهُ مَا يَغُمُّه، من سوء فهمه وَقلة أدبه، إِلَى أَن سَأَلَ بعضَ مؤدِّبيه يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُؤَدب قَدْ كُنّا نَخَاف سُوءَ أدبه فحَدَثَ من أمْرِه مَا صِرنْا إِلَى الْيَأْس من فلاحه، قَالَ: وَمَا

الآن ظرف ولطف

ذَاك الَّذِي حدَّث؟ قَالَ: رَأَى أَمَةَ فلانٍ الْمَرْزُبَانِ فعشِقها حَتَّى غلبتْ عَلَيْه، فَهُوَ لَا يَهْذِي إِلا بهَا، وَلا يتشاغلُ إِلا بذكرها، فَقَالَ بهْرَام: الْآن رجوتُ فَلاحَه. ثُمّ دَعَا بِأبي الْجَارِيَة، فَقَالَ: إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْك سِرًّا فَلَا يَعْدُوَنَّكَ، فضمِن لَهُ سِرَّه، فَأعلمهُ أَن ابنَهُ قَدْ عشق ابْنَته، وَأَنه يُرِيد أَن يُنكحها إيّاه، وأمرَهُ أَن يأمرها بإطماعه فِي نَفسهَا، ومراسلته من غَيْر أَن يَرَاهَا، أَوْ تقع عينه عَلَيْهَا، فَإِذا استحكم طمعُهُ فِيهَا تَجنَّتْ عَلَيْه وهجرته، فَإِن استعتبها أعلمتْهُ أَنَّهَا لَا تصلْح إِلا لملكٍ وَمَنْ همَّتُه همَّةُ مَلِك، وَأَنه يمْنَعهَا من مواصلته أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ، ثمَّ ليعلمه خَبَرهَا وَخَبره، لايطلعها عَلَى مَا أسرّ إِلَيْهِ. فَقبل أَبوهَا ذَلِكَ مِنْهُ، وَفعلت الْمَرْأَة مَا أمرهَا بِهِ أَبوهَا، فَلَمَّا انْتَهَت إِلَى التجني عَلَيْه، وَعلم الْفَتى السَّببَ الَّذِي كرهته، أَخَذَ فِي طَلَبِ الْأَدَب وَالْحكمَة، والْعِلم والفروسيَّة، والرِّماية وضَرْب الصَوَالِجة، حَتَّى مَهَر فِي ذَلِكَ، ثُمّ رفع إِلَى أَبِيهِ أَنَّهُ يحْتَاج من الدوابِّ والآلات والمطاعم والملابس والندماء إِلَى فَوق مَا يُقَدَّرُ لَهُ، فسُرَّ بِذَلِك وَأمر لَهُ بِهِ. ثُمّ دَعَا مُؤدِّبه فَقَالَ لَهُ: إِن الموضعَ الَّذِي وَضَع ابْني نفْسَه من حُبِّ هَذِهِ الْمَرْأَة لَا يُزْري بِهِ، فتقدَّم إِلَيْهِ أَن يرفَع إليَّ أمْرَها، ويسألَنِي أَن أزّوِّجَه إِيَّاهَا فَفعل، فَرفع الْفَتى ذَلِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَدَعَا بأبيها فزوَّجه إِيَّاهَا، وَأمر بتعجيلها إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِذا اجْتَمَعْتَ وَهِي فَلَا تُحْدِثْ شَيْئا حَتَّى أصيرَ إِلَيْك، فَلَمَّا اجْتمعَا صَار إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا بُني! لَا يَضَعَنَّ مِنْها عنْدك مراسلَتُها إياك وليستْ فِي حِبَالِك، فإنِّي أَنَا أمَرْتُها بِذَلِك، وَهِي أعظمُ النّاس مِنَّةً عَلَيْك بِمَا دَعَتْك إِلَيْهِ من طلب الْحِكمة، والتَخَلُّق بأخلاق الْمُلُوك، حَتَّى بلغتَ الحدَّ الَّذِي تَصْلُح مَعَه لِلْمُلْكِ من بعدِي، فزِدْها من التشريف وَالْإِكْرَام بِقدر مَا تَستحقُّ مِنْك، فَفعل الْفَتى وعاش مَسْرُورا بالجارية، وعاش أَبوهُ مسرورٌ بِهِ، وَأحسن ثوابَ أَبِيهَا، وَرفع مرتبتهُ وشَرَفه، بصيانته سِرَّهُ وطاعتِه، وأحسنَ جَائِزَة المؤدِّبِ بامتثاله مَا أمرَهُ بِهِ، وَعقد لِابْنِهِ عَلَى الْمُلْك من بعده. قَالَ الْيَمَانِيّ مَوْلَى ذِي الرياستين، ثُمّ قَالَ لَهُم ذُو الرياستين: سَلُوا الشَّيْخ الْآن لِمَ حَمَلَكْم عَلَى الْعِشق؟ فَسَأَلْنَاهُ، فحدثنا حَدِيث بهْرَام جور وَابْنه. الْآن ظرف ولَطُف قَالَ القَاضِي: وَقَدْ حَكى لي بعضُ ذَوي الْفَضْل وَالْأَدب أَنَّهُ أُخْبِر عَنْ فَتى من خاصَّةِ أَهله أَنَّهُ عَشِق، عَلَى وَجه الزِّرَاية عَلَيْه، فَقَالَ: الْآن ظَرُف ولَطُف ونَظُف. من التلطف فِي ترقية الْمَرْء إِلَى الْمَعَالِي وَمِمَّا يضارع خبر بهْرَام جور فِي السياسة وَالتَّدْبِير والتلطُّفِ والاحتيال، فِي ترقية الْمَرْء من الدناءة إِلَى معالي الْأَحْوَال، مَا حَدَّثَنِي بِهِ بعضُ إِخْوَاننَا من أَهْل الْأَدَب عَمَّن ذكره من نُظرائه، أَن بعض الْحُكَمَاء حَضَّ أصحابَه عَلَى طلب الْعلم، وذَكَر لَهُم عِظَمَ فَضله وشَرَفَ

أَهله، وقصَّ عَلَيْهِم فِيهِ قصصا، وَضرب لَهُم أَمْثِلَة، فَكَانَ مِمَّا قَالَه لَهُم: إنّ الرَّجُل قَدْ يبلغُهُ الْكِبَر، فَتَكِلُّ أدواتُه، وتضعُف آلاته، وتنقطعُ لَذَّاته، فَلَا يحفلُ بشيءٍ من أمْر الدُّنْيَا إِلا بِأَن يُثْنَى عَلَيْه بالمعرفة، ويُعَظَّمَ بِأَن يُشارَ إِلَيْهِ بِالْعلمِ وَالْحكمَة، فجِدُّوا فِي طلب الْعلم، وَلا تيأسوا من إِدْرَاكه. فقد بَلغنِي أَن رَجُلا قَرَأَ فِي صحيفَة: أَنَّهُ من أَرَادَ شَيْئا وسعى فِي طلبه ناله أَوْ شَيْئا مِنْهُ، فَقَالَ فِي نَفسه: أريدُ أَتزوّج فُلانة - يَعْنِي مَلِكَةً كَانَتْ فِي زَمَانه، وَأخذ فِي طلب ذَلِكَ، فتوجَّه إِلَى بلادها وأتى قصرهَا، وَرَأى الْحَاشِيَة المحيطة ببابها، وَكَانَ يَأْتِي الْبَاب فِي كُلّ يوْم فيجلسُ فِي فنائه، وَصَارَ بَينه وبَيْنَ الْحَاشِيَة بعضُ الأنْسِ لِكَثْرَة ترداده، وَكَانَ يُحَدِّثهُمْ ويحدثونه، وَرُبمَا سَأَلُوهُ عَنْ حَاجَة إِن كَانَتْ لَهُ فَلَا يُجِيبهُمْ بِشَيْء، إِلا أَنَّهُ بَعْدُ قَالَ: لي حاجةٌ إِلَى الملكة، فَقَالُوا لَهُ: أخْبِرنا بهَا فإنّ وَرَاءَنَا خدمًا وَمن بعدهمْ جوارٍ ووصائفَ بحضرتها، وَمن قِبَلِهِنَّ تَنْتَهِي الْأَخْبَار إِلَيْهَا، فَقَالَ: لَا أذكر حَاجَتي إِلا لَهَا، فأمسكوا عَنْهُ، وَكَانَت الملكةُ تشرِفُ من بعض مُسْتشرفاتها عَلَى فنَاء قصرهَا، وَترى من يَحْضُرُ ببابها، فأرسلتْ بعد سنةٍ من مصير ذَلِكَ الرَّجُل إِلَى حضرتها إِلَى مَنْ بِالْبَابِ: إِنِّي أرى منذُ سَنة رجلا غَرِيبا يَأْتِي فِي كُلّ يوْم، فانظروا مَا شَأْنه، فَإِن كَانَ مَظْلُوما نصرناهُ، وَإِن كَانَ مُسْتميحًا أعطيناه، وَإِن خطب عملا يصلُحُ لمثله ولّيناه، فأرسلوا إِلَيْهَا بِمَا خاطبهم بِهِ إِذْ سَأَلُوهُ عَنْ حَاله، فَأمرت بإدخاله إِلَيْهَا، فَلَمَّا وقف بَيْنَ يَديهَا سَأَلْتُهُ عَنْ حَاجته، فَقَالَ: لَا أذكرها وأحدٌ يسمعُ مَا أذكرهُ، فَأمرت جواريها بالتباعد، ثُمّ قالَتْ لَهُ: قُل، فَقَالَ: قصدتُ الملكة خاطبًا لَهَا، أتزوِّجُني نَفسهَا؟ فَقَالَت: إِنَّك لست بملكٍ وَلَا من وَلَد الْمُلُوك، وَمَتى تزوجتُك سقطَت منزلتي، وَزَالَ ملكي، وَلَكِن مالذي جَرَّأك عَلَى أَن خاطبتني بِهَذَا؟ فَأَخْبرهَا بِمَا خطر لَهُ حِين قَرَأَ الصَّحِيفَة، فَقَالَت لَهُ: فإنني أرى أَن تطلب الْحِكْمَة، وتتعلم الْعلم حَتَّى تصير رَأْسا فِيهِ، وتشتهر فِي النّاس منزلتك مِنْهُ، فَإِن منزلَة الْعلم أشرفُ من منزلَة الْمُلْك، فَإِذا صرتَ فَردا فِي الْحِكْمَة حَسُن مِنْك أَن تَخْطُبنِي وحَسُن بِي أَن أتزوَّجك، وَأَن أسمع أَهل مملكتي فَأَقُول لَهُم: قَدْ طالَتْ أيّامُ مُلكي وَلَيْسَ فِي أَهْل بَيْتِي من يقوم بِهِ بعدِي، وَقَدْ رَأَيْت أَن أَتزوّج إِلَى هَذَا وأرجع إِلَى رَأْيه فِي حَياتِي، لفضل علمه وَظُهُور حكمته، وَيقوم مقَامي بعد وفاتي، فَلَا ينكرُ ذَلِكَ أحدٌ من رعيتي. وَفِي هَذِهِ الْمَدِينَة دارٌ يجْتَمع فِيهَا أَهْل الْحِكْمَة ورؤساء الفلاسفة، ويجتمع النّاس إِلَيْهِم للْقِرَاءَة عَلَيْهِم والتعلُّمِ مِنْهُم، وَأَنا أتقدَّم إِلَى الْمُتَقَدّم مِنْهُم بالتقديم لَك والإقبال عَلَيْك، فاجتهدْ فِي التَّعَلم، واقطعْ ليلك ونهارك باقتباسه، فَإِذا بلغتَ مِنْهُ رُتْبَة عالية فَحِينَئِذٍ تنالُ مَا أَنْت راغبٌ فِيهِ من جِهتي، فَفعل ذَلِكَ وَصَارَ إِلَى الدّار وَأَقْبل عَلَى التعلُّمِ، وَكَانَ ذَا ذكاءٍ وفطنة، وَكَانَ يأخذُ فِي الْمدَّة الْيَسِيرَة مَا يأخذُ غَيره فِي الْمدَّة الطَّوِيلَة، إِلَى أَن لحق بِمن

ودرس من أفلاطون للحث على التعلم

هُنَالك من متقدِّمي الْحُكَمَاء، ثُمّ تقدَّمهم إِلَى أَن صَار فَردا فيهم، واشتهر فِي النّاس فضلُه، وعَظَّموه لِسَعَةِ علمه وَظُهُور حكمته، وَصَارَ مَقْصُودا للاستفادة مِنْهُ، فخطر ببال الملكة ذكره، فسألتْ عَنْهُ فأُخْبِرت بِمَا انْتهى إِلَيْهِ أمره، فَأمرت باستدعائه فَحَضَرَ، فَقَالَت لَهُ: قَدْ بَلَغني مَا أصبتُه من الْحِكْمَة، فَهَل لَك فِيمَا كُنْت سألتنيه؟ فَقَالَ: لَا حاجَة لي فِي ذَلِكَ، فَقَالَت: وَلِم، وَقَدْ كنتَ حَرِيصًا عَلَيْه؟ فَقَالَ: رغبتُ فِي هَذَا وَأَنا أرى أَنَّهُ أفضلُ مَا يبلغهُ الإِنْسَان فِي دُنْيَاهُ، فَلَمَّا نِلتُ مَا نلتُه من الْحِكْمَة، وعلمتُ مَا علمتُ من أفانين الْعلم، تبينتُ مَا بَيْنَ الْعلم والْمُلْك من الْفَضْل، فرغبتُ بعلمي عَنْ مُلْكِ الدُّنْيَا، فَقَالَت لَهُ: لهَذَا أمرتُك بِمَا أمرتُك بِهِ، ورأيتُ أنَّكَ إِن لَمْ تبلغ الْغَايَة فِي الْعلم لَمْ تَعُد إليَّ، وَإِن عَلَتْ طبقتُك فِيهِ رغبتَ بِنَفْسِك عَنْ أُمُور الدُّنْيَا، وعلمتَ أَن مَا ظفرتَ بِهِ أفضلُ مِمَّا كنتَ التمسته. وصَرَفَتْه وَلَمْ تَزَلْ مُكْرِمةً لَهُ. ودرسٌ من أفلاطون للحث عَلَى التعلّم وَقَدْ حكى لي بعضُ المَفَلْسِفين بأنّ فَتى كَانَ يحضرُ مجلسَ أفلاطون ويحبُّه ويعظمه، ويُؤثر اسْتِمَاع كَلَامه، وَلا يقرأُ عَلَيْه شَيْئا، وَلا يتَعَلَّم مِنْهُ كَمَا يتَعَلَّم غَيره، وَأَن هَذَا الْفَتى قَالَ لأفلاطون يَوْمًا: قَدْ أحببتُ أَيهَا الحكيمُ أَن تحضرَ الْيَوْم منزلي وتأكل من طَعَامي، وتكرمني بالْمُشَاربة والمنادمة، فَأَجَابَهُ، فَلَمَّا صَار إِلَى منزله أكلا وأخذا فِي تنَاول - الشَّراب واستماع الملاهي، ثُمّ إِن أفلاطون بَصق فِي وَجهه - يَعْنِي الْفَتى - فارتاع لذَلِك، وقَالَ: مَا هَذَا أَيهَا الْحَكِيم؟ فَقَالَ: إنّه عُرِض لي هَذَا الَّذِي نفثته كَمَا يعرض لسَائِر النّاس فيلقونه فِي أَهْون الْأَمَاكِن وأخّسِّها، ورأيتُ مَنْزِلك وفرشك وآنيتَك، فَلم أر موضعا أخَسَّ من نَفسك، فنبذتُ هَذَا الْأَذَى فِيهِ، فَقَالَ: قَدْ وَعَظْتَ أَيهَا الحكيمُ فأبلغْتَ، ونصحتَ فأحسنتَ، وَأَنا مُنْذُ الْآن أسعى فِي تشريف نَفسِي بدراسة الْعِلم وَطلب الْحِكْمَة. ثُمّ صَار من أشدِّ حاضري مجْلِس أفلاطون حِرصًا عَلَى اكْتِسَاب الْحِكْمَة، وَأَحْسَنهمْ للْعلم أخذا. المجِلسُ السّابع وَالْعِشروُن مَذَق فمُذِق لَهُ حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا رجلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَتَّجِرُ بِالْخَمْرِ فِي الْبَحْرِ إِذْ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: إِنِّي آتِي قَوْمًا لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِجَيِّدِ الْخَمْرِ مِنْ رَدِيئِهِ، فَلَوْ أَنِّي مَزَجْتُ الْخَمْرَ أُضْعِفَ لِيَ فِي الثَّمَنِ، فَأَمْهَلَ حَتَّى اسْتَعْذَبُوا الْمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى أَوَانِيهِ فَنَصَّفَهَا مِنَ الْخَمْرِ ثُمَّ مَزَجَهُ بِالْمَاءِ حَتَّى مَلأَهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَوْضِعَ فَبَاعَ بِضِعْفِ مَا كَانَ يَبِيعُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَأَى فِي طَرِيقِهِ قِرْدَةً

فَاسْتَحْسَنَهَا فَاشْتَرَاهَا. وَحَمَلَهَا مَعَهُ فِي سفينته، فَلَمَّا لججوا عدث الْقِرْدَةُ عَلَى كِيسِهِ فَأَخَذَتْهُ وَصَعِدَتِ الدَّقَلَ، فَأَقْعَتْ عَلَيْهِ وَالْكِيسُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فَصَاحَ بِهَا أَهْلُ السَّفِينَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَقْذِفَ بِنَفْسِهَا وَالْكِيسَ فِي الْبَحْرِ، فَتَرَكُوهَا فَفَتَحَتِ الْكِيسَ ثُمَّ أَقْبَلَتْ تُخْرِجُ دِينَارًا فَتَرْمِي بِهِ فِي السَّفِينَةِ وَدِينَارًا فِي الْبَحْرِ، وَدِرْهَمًا فِي السَّفِينَةِ وَدِرْهَمًا فِي الْبَحْرِ، حَتَّى أَتَتْ عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الْكِيسِ ثُمَّ نَزَلَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: " مَذَقَ فَمُذِقَ لَهُ ". قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا أوجب مجانبة الْغِشِّ، وتدليس الْعَيْب فِي البيع، وظلم النّاس فِي أَمْوَالهم، وبخسهم أشياءهم، وتخويف لِذَوي الْأَلْبَاب بتعجيل الْعقُوبَة لَهُم، وَسُوء الْعَاقِبَة فِي أَمْوَالهم، وسلبهم مَا طمعوا أَن يتمتعوا بِهِ فِي دنياهم، وينتفعوا بِهِ فِي مَعَايشهمْ مَعَ التَّعَرُّض للإثم فِي معادهم، وحلول مَا لَا قبل لَهُم بِهِ من عُقُوبَة رَبهم. وَقَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ: " مَذَقَ فَمُذِقَ لَهُ " أَيّ مزج سلْعَته بغَيْرهَا غِشًّا للنَّاس إرادةَ تثمير مَاله وغِشِّ غَيره، فجُوزي بسلبه الْفَضْل الَّذِي ظَلَم بِأَخْذِهِ، فسُمِّيتُ مجازاته مَذْقًا، إِلْحَاقًا لَهَا بالممذُوقِ فِي حَقِيقَة اللُّغَة من جِهَة التَّسْمِيَة، وَهَذَا ضرب من فصيح كَلَام الْعَرَب، ومُسْتَحْسَنِ خطابها، كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ "، فسَمَّى المبتدأَ باسم الْجَزَاء، وَإِن كَانَ الابتداءُ لَا يُسمى عُقُوبَة فِي انْفِرَاده، طلبا للائتلاف، واتفاق أَلْفَاظ الْجُمْلَة فِي الخَطَّاب، وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن وألفاظ الشَّرِيعَة، ومنثور كَلَام الْعَرَب ومنظومه، من ذَلِكَ قَول عَمْرو بْن كُلْثُوم: أَلا لَا يَجْهَلنْ أحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا وأصلُ المَذْقِ فِيمَا ذكرنَا: الخَلْطُ والمزج، يُقَالُ: لَبَنٌ صرفٌ وصريفٌ وممذوقٌ، ويُقَالُ لَهُ أَيْضا: مَذْق، فيسمى باسم الْمصدر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لَمْ يَسْقِها مذقٌ وَلا نَصِيفُ ... وَلا تُمَيْراتٌ وَلا تَعْجيفٌ لَكِن غَذَاهَا المّذْقُ والصَّرِيفُ وَقَد اسْتعَار هَذَا الْمَعْنى بعضُ الْمُحدثين، فَقَالَ: وأراك تَشْرَبُني وتَمْذُقُني ... وَلَقَد عهدتُك شاربي صِرْفا وقَالَ صَالِح بْن عَبْد القدوس، وَبَعْضهمْ يرويهِ لسابق الْبَرْبَرِي: إِن الْكَرِيم إِذا أحبَّكَ قلبُهُ ... أَعْطَاك مِنْهُ مَوَدَّة لَا تُمْذَقُ وقَالَ أَبُو مَعْدَان مَوْلَى آل أَبِي الْحَكَم: جَرِّعَانِي ممذوقةٌ وامْزُجَاها ... لَيْسَ صِرْف الشَّرَاب كالممذوقِ وَهَذَا النَّحْو كثير وَاسع.

يصارح الحجاج برأيه في أخيه

يصارح الحَجَّاج بِرَأْيهِ فِي أَخِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُريد، أَنْبَأَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: بَلغنِي أَن طاووساً كَانَ يَقُولُ: بَينا أَنَا جَالس مَعَ الحَجَّاج بِمَكَّة إِذْ مرّ رَجُلٌ يُلَبّي حول الْبَيْت، فَرفع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ، فَقَالَ الحَجَّاج: عليَّ بِالرجلِ، فأُتِي بِهِ، قَالَ: مِمَّن الرَّجُل؟ قَالَ: من الْمُسْلِمِين، فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك، قَالَ: فَعَمَّ سَأَلت، قَالَ: عَنِ الْبَلَد، قَالَ: من أَهْل الْيمن، قَالَ: كَيفَ تركتَ مُحَمَّد بْن يُوسُف؟ قَالَ: تركته عَظِيما جسيمًا، رَكَّابًا خَرَّاجًا ولاجًا، قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك، قَالَ: فَعَمَّ سَأَلت؟ قَالَ: عَنْ سيرته؟ قَالَ: تركته ظَلُومًا غَشُومًا، مُطيعًا للمخلوق، عَاصِيا للخالق، قَالَ: فَمَا الَّذِي حملك عليَّ بِهَذَا فِيهِ، وَأَنت تعرف مَكَانَهُ مني؟ قَالَ: أتراه مَكَانَهُ مِنْك أعز بمكاني من اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَأَنا قَاضِي دَيْنَهُ، ووافدُ بَيته، ومصدق نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، فَسكت الحَجَّاج فَمَا أحار جَوَابا، وَقَامَ الرَّجُل فَدخل الطّواف. فاتَّبَعْتُه فَإِذا هُوَ فِي الْمُلْتزم، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذُ بك، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ لي فِي الْكَهْف إِلَى جُودِك، والرِّضا بضمانك، مندوحةً عَمَّن سواك الباخلين، وغِنًى عَمَّا فِي أَيدي الْمُسْتأْثِرِين، اللَّهُمَّ فَرَجَكَ الْقَرِيب، ومعروفَك الْقَدِيم، وعادتَك الْحَسَنَة، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، رأيتُهُ وَاقِفًا عَلَى الْموقف فدنوتُ مِنْهُ، فَسَمعته يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِن كنتَ لَمْ تقبلْ حَجِّي وتَعَبِي ونَصَبِي، فَلَا تَحْرمَنِي الأجرَ عَلَى مصيبتي بِتَرْكِكَ القبولَ مني، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ غَدَاة جمعٍ أَفَاضَ مَعَ النّاس، فسمعتُه يَقُولُ: يَا سَوْءَتاهُ مِنْك يَا رب وَإِن غفرت. ثمَّ لَمْ أره بعد ذَلِكَ. معنى المندوحة والمستأثرين قَالَ القَاضِي: قَوْله: مَنْدُوحة، المندوحة: السَّعَةُ والْفُسْحة، كَمَا قَالَ تَمِيم بن أبي مُقْبل: سَرَّ عَامر قومِي وَمن يَكُ قَوْمُهُ ... كقومي يكنْ لَهُ بِهم مُنْتَدَح يَعْنِي غُنْيةً ومُتَّسَعًا. وَقَوله: عَمَّا فِي أَيدي المستأثرين، المستأثرون: هم الَّذين يستبِدُّون بِمَا فِي أَيْديهم، يُقَالُ: اسْتَأْثر فُلان بِمَا عِنْده أَيّ استبدَّ بِمَا فِي يَده وتَفَرَّد بِهِ، قَالَ أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة: تَمَزَّزْتُها غيرَ مستأثرٍ ... عَلَى الشّرْبِ أَوْ منكرٌ مَا عُلِمْ ويروى: غَيْر مستدبرٍ ... عَنِ الشّرْبِ وَمن أَمْثَال الْعَرَب: إِذا اسْتأْثَر اللَّهُ بشيءٍ فَالْهُ عَنْهُ. وَفِي الْخَبَر: " أَو اسْتأْثرتَ بِهِ فِي علم الغَيْب عنْدك ".

تشدد القضاة في الحق، وتقدير الخلفاء لهم

ويُقَالُ فِي الذَّمِّ: استأَثَر فلانٌ بِمالِهِ أنْ يُخرجَهُ فِي حَقِّه. وَفِي الْمَدْح: " آثرَ بِمَا عِنْده " إِذا آثر غَيره عَلَى نَفسه، وَإِذَا آثر غَيره مَعَ حَاجته كَانَ أولى بالمدح والثَّناء، وأبعدَ من الذَّمِّ والْهِجاء، قَالَ اللَّه جلّ اسْمه: " وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون "، فَبيْنَ المؤثرين والمستأثرين مَا بَيْنَ الأجواد والباخلين، والمانعين والباذلين، وَأهل هَاتين المنزلتين فِي اسْتِحْقَاق الْحَمد والذم، والتفريط والقَصْد، عَلَى رُتْبه من التَّفَاوُتِ بِحَسب مَا تقرَّر فِي الدّين، وَثَبت فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِين، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِك قواماً "، وقَالَ تَعَالَى ذكرُه: " وَلا تَجْعَلْ يدك مغلولةً إِلَى عُنُقك ول تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا، إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، إِنَّهُ كَانَ بعباده خَبِيرا بَصيرًا "، وقَالَ تقدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ: " وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لرَبه كفوراً ". فقد أبان لنا ربُّنا بفضله وإنعامه علينا فِي هَذَا الْبَاب قَصْدَ السَّبِيل، وأوضح لنا محجَّة الاقتصاد والتَّعْدِيل، وبيّن أَن بَيْنَ الْإِسْرَاف والتبذير طَرِيقا أَمَمًا، وصِراطًا قِيَمًا، فإيّاه نسألُ تَوْفِيقًا لسُنَن أولى الْفَضْل، وهدايتنا سَوَاء السَّبيل، وَهُوَ حَسْبُنا وَنعم الْوَكِيل. وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَعِيلُ أحدٌ عَلَى قَصْدٍ، وَلا يَغْنَى أحدٌ عَلَى سرفٍ كَبِير ". معنى يعيل هَاهُنَا: يفْتَقر، يُقَالُ: عَال الرَّجُل يَعيلُ عَيْلَةً إِذا افْتقر، قَالَ الشَّاعِر: فَمَا يَدْرِي الفقيرُ مَتَى غِنَاهْ ... وَلا يدْرِي الغنيُّ مَتَى يَعِيلُ وَجَاء عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ آخذٌ عَنْ رَبِّهِ أَدَبًا حَسَنًا، فَإِذَا وَسَّعَ عَلَيْه وَسَّعَ، وَإِذَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ ". حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الضَّالُّ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الضَّالَّ لأَنَّهُ خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ فَضَلَّ الطَّرِيقَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ الضُّبَعِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ آخِذٌ عَنْ رَبِّهِ أَدَبًا حَسَنًا، فَإِذَا وَسَّعَ عَلَيْه وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا أَمْسَكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ ". تشدد الْقُضَاة فِي الْحق، وَتَقْدِير الْخُلَفَاء لَهُم حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَزْيَدٍ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدثنِي عمر ابْن أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ نُمَيْرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَدِم عَلَيْنَا أَمِيرُ الؤمنين الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ

البر بالقصاد وكيف يكون

عِمْرَانَ الطَّلْحِيُّ عَلَى قَضَائِهِ وَأَنَا كَاتِبُهُ، فَاسْتَعْدَى الْحَمَّالُونَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَيْءٍ ذَكَرُوهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْهِ كِتَابًا بِالْحُضُورِ مَعَهُمْ أَوْ إِنْصَافِهِمْ، فَقُلْتُ: تُعْفِينِي مِنْ هَذَا فَإنَّهُ يَعْرِفُ خَطِّي، فَقَالَ: اكْتُبْ، فَكَتَبْتُ ثُمَّ خَتَمَهُ وَقَالَ: لَا يَمْضِي بِهِ وَاللَّهِ غَيْرُكَ، فَمَضَيْتُ بِهِ إِلَى الرَّبِيعِ وَجَعَلْتُ أَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّبِيعُ فَقَالَ لِلنَّاسِ - وَقد حَضَره وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالأَشْرَافُ وَغَيْرُهُمْ -: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكُمُ: " إِنِّي قَدْ دُعِيتُ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلا أَعْلَمَنَّ أَحَدًا قَامَ إِلَيَّ إِذَا خَرَجْتُ أَوْ بَدَأَنِي بِالسَّلامِ "، ثُمَّ خَرَجَ وَالْمُسَيَّبُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالرَّبِيعُ وَأَنَا خَلْفَهُ، وَهُوَ فِي إزارٍ ورداءٍ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَمَا قَامَ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى بَدَأَ بالقبر فَسلم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الرَّبِيعِ فَقَالَ: يَا رَبِيعُ! وَيْحَكَ أَخْشَى إِنْ رَآنِي ابْنُ عِمْرَانَ تَدْخُلُ قَلْبَهُ هيبةٌ فَيَتَحَوَّلُ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَبِاللَّهِ لَئِنْ فَعَلَ لاولي لِي وِلايَةً أَبَدًا، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَ متكأً أَطْلَقَ رِدَاءَهُ عَنْ عَاتِقِهِ ثُمَّ احْتَبَى بِهِ، وَدَعَا بِالْخُصُومِ الْحَمَّالِينَ، ثُمَّ دَعَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَقَضَى لَهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ لِلرَّبِيعِ: اذْهَبْ فَإِذَا قَامَ وَخَرَجَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْخُصُومِ فَادْعُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا دَعَاكَ إِلا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ جَمِيعًا، فَدَعَاهُ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ سلّم، فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ دِينِكَ وَعَنْ نَبِيِّكَ وَعَنْ حَسَبِكَ وَعَنْ خَلِيفَتِكَ أَحْسَنَ الْجَزَاءِ، قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِعَشَرَةِ آلافِ دِينَارٍ فَاقْبِضْهَا، فَكَانَتْ عَامَّةُ أَمْوَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ من تِلْكَ الصِّلَةِ. الْبر بالْقُصَّادِ وَكَيف يَكُون حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْفَضْل بْن الْحَسَن الْأَهْوَازِي، قَالَ: قدِم إِلَى الأهواز رجلٌ من وُلِد الْحَسَن بْن سهل، حسن الْهَيْئَة وَالْأَدب، فَأخْبرنَا جماعةٌ من العراقَّيين أَنَّهُ كَانَ فِي نعمةٍ واسعةٍ فزالَتْ عَنْهُ، وَكَانَ قَصْدُه لِأَحْمَد بْن دِينَار، فَقبله أَحْمَد وقَالَ: الْزَمْني ووَعَدَهُ الإِحْسَان، وأجرى عَلَيْه وعَلى غُلام كَانَ مَعَه نُزُلا من خُبْز ولحمٍ وتَوَابِلَه مِقْدَار ثَلَاثَة دَرَاهِم، وقَالَ لَهُ: تمهَّلْني فإنّي فِي شغلٍ، فَإِذا انْكَشَفَ وَجْهي بَلَغْتُ لَك مَا تحبّ، فطال مقَامه وأُخْلِقَتْ أثوابُه، فَكتب إِلَيْهِ: صَحِبتكُمُ عَامَيْن فِي حالِ عسرةٍ ... أُرَجِّي نَداكُمْ والظُّنُونُ فُنُونُ فَمَا نلتُ مِنْكُم طائلا غَيْر أَنني ... تعلمتُ حَال الْفقر كَيفَ تكون فوصلت الرقعة إِلَى أَحْمَد بْن دِينَار، وَكَانَ يَعْقُوب بْن إِسْحَاق اليزيدي حَاضرا، فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لرجلٍ من وُلِد الْحَسَن بْن سهل، قَالَ لَهُ: وَهُوَ مقيمٌ عنْدك نَحوا من حَوْلين، قَالَ: قريب من ذَلِكَ، فَانْصَرف أَبُو يُوسُف ووجّه إِلَى الرَّجُل فَأحْضرهُ وَدفع لَهُ بِمِائَة دِينَار، وقَسَّط لَهُ عَلَى جمَاعَة من الْوُجُوه أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَكتب لَهُ إِلَى بزازٍ كَانَ

من سخاء المهدي

يعامله بكسوةٍ بِأَلف دِرْهَم، ووجّه من اكترى لَهُ زَوْرقًا إِلَى مَدِينَة السَّلام، وزوَّدَهُ زادًا كَبِيرا حسنا، وقَالَ لَهُ: اخْرُج لَا تَلْقَ مَنْ قَصَدْته، فَقَالَ: واللَّه لأضْرِبَنّ جُودَك عَلَى نائلٍ يَكُون مِنْهُ، ولأَفْرِدَنَّ الشُّكْر لَك دونه، ولأتجهنَّ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي صيانتك عَنْ كلِّ دناءةٍ ومعرةٍ كَمَا صُنْتني عَنْهَا، وَانْصَرف. وَبلغ الخبرُ ابْن دِينَار، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وحشةٍ عظيمةٍ صَارَت بَيْنَهُمَا. من سخاء الْمهْدي حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد، وحَدَّثَنِي أَبِي رحمَهُ اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمد الْخُتلِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه ابْن هَارُون، ومُوسَى الفَرْوِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْملك بْن عَبْد الْعَزِيز، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلَني المهديُّ أميرُ الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: يَا ماجشون! مَا قُلْتُ حِين فُقد أَصْحَابك، يَعْنِي الْفُقَهَاء، قَالَ: قُلْتُ: يَا مَنْ لباكٍ عَلَى أَصْحَابه جَزِعَا ... قَدْ كنتُ أَحْذَرُ ذَا مِنْ قَبْلِ أَن يَقَعَا إِن الزَّمَان رأى إلْفَ السُّرور بِنَا ... فدَبَّ بالهَجْرِ فِيمَا بينَنَا وسَعَى فليصْنَعِ الدَّهْر بِي مَا شاءَ مُجْتَهدًا ... فَلَا زيادَةَ شيءٍ فَوق مَا صَنَعَا فَقَالَ: واللَّهِ لأُغْنِيَنَّك، فَأَجَازَهُ بِعشْرَة آلَاف دِينَار فَقدم بهَا الْمَدِينَة فَأكلهَا فِي السخاء وَالْكَرم. الْأَقْوَال فِي " بَيْنَ " قَالَ القَاضِي: فِيمَا بينَنَا بِالنّصب، هَكَذَا رُوِي عَلَى الظَّرْف، وَقَدْ حكى بعضُ النحْويِّين عَنِ الْعَرَب، أَتَانِي سِوَاءَك ودُونَك، وذُوكِرْت بروايته بالجرّ هَلْ تَجُوز؟ وَمَا وَجه جَوَازهَا؟ ووجهُ الجرِّ فِي هَذَا أَن يَكُون معنى البَيْن هَاهُنَا: الْوَصْل، وَالْمعْنَى فدب فِي وصلنا، فَيكون لَهَا وَجْهَان: أَحَدُهُمَا أَن تكون مَا حَشْوًا زَائِدا كَمَا قِيلَ مثل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: " فَبِمَا رحمةٍ من الله "، " فبمَا نقضهم ميثاقهم "، وَرُوِيَ مثل هَذَا فِي قَول الشَّاعِر: فَلَو أنَّ نَفْسًا أَخْرَجَتْها مخافةٌ ... لأخرجَ نفسِي اليومَ مَا قَالَ خالِدُ الْمَعْنى: قَولُ خَالِد وقِيلُ خَالِد، فقولٌ وقالٌ، مثل عيبٍ وعَاب، وذمٍّ وذامٌ، وقيلٌ وقالٌ: مثل: قيرٍ وقَار. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن تكون مَا بِمَعْنى شيءٍ أتتْ للإبهام فِي النَّوْع أَو الْقدر ويبدل مِنْهَا مَا بعْدهَا، كأَنَّه قَالَ فِي الْبَيْت: فدبّ فيّ شَيْء مَا، ثُمّ فسّره بقوله: بَيْننَا وجرّه عَلَى البَدَل مِنْهُ، وَمثل مَا هَاهُنَا قَول ذِي الرُّمة: أشْبَهْنَ من بَقَرِ الخَلْصَاءِ أعْيُنَها ... وهُنّ أحسنُ مِنْهَا بَعْدَهَا صُوَرا الْمَعْنى: أحسن مِنْهَا صُوُرا، وَمن الْبَين بِمَعْنى الْوَصْل قَول الشَّاعِر: لقَدْ كَذَّبَ الواشِين بيني وَبَينهَا ... فقرت بِذَاكَ البَيْنِ عَيْني وعينُها

يتخلص من الولاية ببيت شعر

وقَالَ الآخر: لَعَمْرُك لَوْلَا البينُ لانقطع الْهوى ... وَلَوْلَا الهَوَى مَا حَنَّ للبينِ آلفُ وَمِمَّا أَتَى بِالرَّفْع فِي بَيْنَ بِالْفِعْلِ قَول الشَّاعِر: إِذَا هِيَ قامتْ تَقْشعرُّ شُواتُها ... ويُشْرِقُ بَيْنَ اللّيْتِ مِنْهَا إِلَى الصُّقْلِ وَقَد اخْتلفت الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة قَول اللَّه تَعَالَى: " لَقَدْ تقطع بَيْنكُم "، فَقَرَأَ ذَلِكَ كثيرٌ من قُرَّاء الْمَدِينَة وَالشَّام وبعضُ أَهْل الْكُوفَة " بينَكُم " بِالنّصب، وَقَرَأَ كثير من أَهْل الْحجاز وَالْعراق وَغَيْرُهُمْ " بَيْنَكُمْ " بِالرَّفْع والنَّصْب، وَاحْتج كلُّ واحدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِهِ، وَهُوَ قَوْله: كأنّ رماحَهُمْ أشْطَانُ بئرٍ ... بعيدٍ بَيْنُ جَالَيْهَا جَرُورِ وَقَدْ عَابَ بعضُ أَهْل الْعَرَبيَّة مِمَّنْ يتكلّم فِي الْقرَاءَات واخْتَار مِنْهَا قِرَاءَة لنَفسِهِ، وَهِي الْقِرَاءَة بِالنّصب فِي هَذَا الْحَرْف، وَزعم أَن من اخْتَارَهَا حَذَف الْمَوْصُول وَأبقى الصِّلَة واسْتُنْكِرَ هَذَا إِذْ كَانَت الصِّلَة تَمامًا للموصول، وَكَأن الذَّاهب إِلَيْهِ أَتَى بِبَعْض جملَة الِاسْم دون بَاقِيهَا كالدَّال من زَيْد، وَلَيْسَ هَذَا كالصفة الْقَائِمَة مقَام الْمَوْصُوف لِأَن كُلّ واحدٍ من الْمَوْصُوف وَالصّفة كلمة تَامَّة فِي نَفسهَا، وَجَعَل الْمَعْنى هَذَا الْقَائِل: لقَدْ تقطع مَا بَيْنكُم، وَكَأن العائب لهَذِهِ الْقِرَاءَة يعرف للنصب فِيهَا وَجها غَيْر الَّذِي ذكره فطعن فِيهِ وَأنْكرهُ. وَفِي هَذَا عِنْدِي - بعد الَّذِي قدمت ذكره فِي أول هَذَا الْفَصْل - وَجه آخر لَمْ أر أحدا قبلي أَتَى بِهِ، وَهُوَ أَن يَكُون تَأْوِيل الْكَلَام لقَدْ تقطع مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ بَيْنكُم وضلَّ عَنْكُم، كأَنَّه قَالَ: الَّذِي كُنْتُم تَزْعُمُونَ تقطع بَيْنكُم فَلم يَنْتَظِم لكم ويَصْلُحْ بِهِ أمرُكم، وَهَذَا قَوْله تَعَالَى: " وتقطعت بهم الْأَسْبَاب ". يتَخَلَّص من الْولَايَة بِبَيْت شعر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو عُثْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي الْعُتْبِي: قَالَ: وُلّي عمرُ بْن عَبْد الْعَزِيز رَجُلا فكره الْولَايَة، فَكتب إِلَى عُمَر: بِسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحيم، لعبد اللَّه عُمَر أَمِير الْمُؤْمِنِين، أما بعد: فاسْقِنِي شَرْبَةً أَلَذُّ عَلَيْها ... ثُمّ عِدَّ مِثْلَ شَرْبَتِي لِهِشَامِ فَكتب إِلَيْهِ عُمَر: اعتزلْ عَمَلي، فاعتزل ثمَّ كتب إِلَيْهِ: عسلاً سَائِلًا وَمَاءً قُرَاحًا ... إنَّني لَا أُحِبُّ شُرْبَ الْمُدَامِ فَكتب إِلَيْهِ عُمَر: عُدْ إِلَى عَمَلك، فَكتب إِلَيْهِ: لَا حَاجَة لي فِي عَمَلكُمْ. أَنْت أسْوَدُ أم حَاتِم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّد بْن سَلام، قَالَ: قِيلَ لأوس بْن حَارِثَة، وَهُوَ أَوْس بْن سَعْد الطَّائِي: أنتَ أسْوَدُ أم حَاتِم؟ وَكَانَ أوسُ يَمْشي فِي ثَلَاثِينَ من وَلَده، فَقَالَ: لَو أنني وَوَلَدِي لحاتم لأنْهَبَنَا فِي غَدَاة.

يصلح بين عبد الملك وزوجه فينال حكمه

وَقيل لحاتم: أَنْت أسود أم أَوْس؟ فَقَالَ: بعضُ وَلَدِ أوسٍ أسْودُ منّي. يُصْلِح بَيْنَ عَبْد الْملك وزَوْجِه فينالُ حُكمه حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الضَّحَّاك الْمِصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بْن عَدِيّ الطَّائِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي. أَن عَبْد الْملك بْن مَرْوَان كَانَ من أَشد النّاس حُبًّا لامْرَأَته عَاتِكَة بِنْت يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، وأمُّها أم كُلْثُوم بِنْت عَبْد اللَّه بْن عَامر بْن كُرَيْز، قَالَ: فَغَضِبَتْ عَلَيْه - يَعْنِي عَلَى عَبْد الْملك - وَكَانَ بَيْنَهُمَا بَاب فحجبتْه وأغلقَتْ ذَلِكَ الْبَاب، فشقَّ عَلَى عَبْد الْملك فَشَكا إِلَى خاصته، فَقَالَ لَهُ عُمَر بْن بِلَال الْأَسدي: مَالِي عَنْك إِن رَضِيَتْ؟ قَالَ: حُكْمُك، قَالَ: فَأتى عمر ابْن بِلَال بَابَها باكيًا، فخرجتْ إِلَيْهِ حاضنتها ومواليها وجواريها، فَقُلْنَ: مَا لَك؟ فَقَالَ: فزعتُ إِلَى عَاتِكَة ورجوتُها، فقد عَلِمَتْ مَكَاني من أَمِير الْمُؤْمِنِين مُعَاوِيَة وَمن يَزِيد بعده، فَقُلْنَ: مَالك؟ قَالَ: كَانَ لي ابْنَانِ لَمْ يكن لي غَيرهمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحبه، فَقَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِين: أَنَا قاتلٌ الآخر، فَقلت: أَنَا الْوَلِيّ وَقَدْ عفوتُ. فَقَالَ: لَا أَعُود النّاس هَذِهِ الْعَادة. ورجوت اللَّه تَعَالَى أَن يحيا ابْني هَذَا، فدخلْنَ عَلَيْهَا فذكرن لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَت: فَمَا أصنع مَعَ غَضَبي عَلَيْه، وَمَا أظهرت لَهُ؟ فَقُلْنَ: إِذا واللَّه يقتل ابْنه. فَلم يزلن بهَا حَتَّى دَعَتْ بثيابها فلبستْها، ثُمّ خرجت إِلَيْهِ من الْبَاب، فَأَقْبَلَ خَدِيج الْخَادِم، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! عَاتِكَة قَدْ أقبلتْ، فَقَالَ: وَيلك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قَدْ - وَالله - طَلَعَتْ. قَالَ: فأقبلتْ فسلَّمتْ فَلم يردَّ، فَقَالَت: أمَا - واللَّه لَوْلَا عُمَرُ بْن بِلَال مَا جئتُ قطُّ، فَلَا بدَّ أَن تَهَبَ لي ابنَه، فَإنَّهُ الوليُّ وَقَدْ عَفَا. قَالَ: إِنِّي أكرهُ أَن أُعوِّدَ النّاس هَذِهِ الْعَادة. فَقَالَت: نَشَدْتُك اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فقد عرفتَ مَكَانَهُ من أَمِير الْمُؤْمِنِين مُعَاوِيَة وَمن يَزِيد. فَلم تزل بِهِ حَتَّى أخذت رجله فقبّلتها، فَقَالَ: هُوَ لَك. فَلم يبرحا حَتَّى اصطلحا. قَالَ: ثُمّ رَاح عُمَر بْن بِلَال إِلَى عَبْد الْملك، فَقَالَ لَهُ: رَأينَا ذَلِكَ الْأَمر، حاجتُكَ؟ قَالَ: مزرعةً بعَبِيدِها وَمَا فِيهَا، وألْفَ دينارٍ، وفَرَائضَ لوَلَدي وأهلِ بَيْتِي، وإلْحاقَ عُمَّالِي. قَالَ: ذَلكَ لَك. المجِلسُ الثَامِن وَالْعِشرُونْ أَنْت صَاحب الْجُبَيْذة بالْأَمْس؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْنِ الْحُسَيْنِ الْمُسْتَعِينِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٌ، حَدَّثَنَا هَرْثَمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ بَنَانٍ، عَنْ قُعَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَهْمٍ، قَالَ:

تعليق لغوي الكشح والجبيذة

كُنْتُ بِالْمَدِينَةِ فَمَرَّتْ بِيَ امرأةٌ فَأَخَذْتُ بِكَشْحِهَا، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَيْتُهُ فَلَمْ يُبَايِعْنِي، فَقَالَ: أَنْتَ صَاحِبُ الْجُبَيْذَةِ بِالأَمْسِ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا أَعُودُ، قَالَ: فَبَايَعَنِي. تَعْلِيق لغَوِيّ الكشحُ والجبيذة قَالَ القَاضِي: الكَشْحُ: الخاصرة، كَمَا قَالَ زُهَيْر: وَكَانَ طَوَى كَشْحًا عَلَى مُسْتَكَنِّهِ ... فَلَا هُوَ أبداها وَلم يتندم وَقَوله: الْجُبيذة: تصغيرُ جَبْذَة، والجَذْبةُ، يُقَالُ: جَبَذْتُ الشَّيْء وجَذَبْته إِذا شددتُه إِلَيْك، وَنَحْو هَذَا من كَلَام الْعَرَب: صاعقةٌ وصَاقِعَة، وَمَا أطْيَبَهُ وَمَا أيْطَبَه، ويبتغي بِي الدَّم ويتبغّي فِي كثير من الْكَلَام أَتَى كَذَلِك، وَسمي اللغويُّون هَذَا النَّوْع " بَاب الْقلب "، وَقَدْ جمع بَعضهم هَذَا الضَّرْب أَوْ مَا انْتهى إِلَيْهِ مِنْهُ. وسيلةٌ مُؤَكدَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد: أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: قَالَ بعض خلفاء بني أُمَيَّة - وَلَمْ يسمه - مَا توسل إليّ أحدٌ بوسيلة، وَلا تذرع بذريعةٍ هِيَ أقرب إِلَى مَا يحبُّ منَّي من يدٍ سبقتْ منِّي إِلَيْهِ أُتْبِعُها لِيُحْسِنَ حفظهَا، لِأَن مَنْع الْأَوَاخِر يقطعُ لسانَ شكر الْأَوَائِل، وَمَا سمحتْ نَفسِي بِرَدِّ بِكر الْحَوَائِج. تشدُّد شريك بْن عَبْد اللَّه فِي إحقاق الْحق حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْخُزَاعِيَّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْهَيَامِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَتَتْهُ امْرَأَة يَوْمًا - يَعْنِي شَرِيكًا - مِنْ وَلَدِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ صَاحِبِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مجْلِس الْحكم، فَقَالَت: أَنَا بِاللَّه ثُمّ بِالْقَاضِي، امرأةٌ مِنْ وَلَدِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه صَاحب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وردَّدت الْكَلَام، فَقَالَ: إيهًا عَنْك، الْآن من ظلمك؟ قَالَتْ: الْأَمِير عِيسَى بْن مُوسَى، كَانَ لي بستانٌ عَلَى شاطىء الْفُرات، لي فِيهِ نخلٌ، ورثْتُه عَنْ آبَائِي، وقاسمتُ إخوتي، وبنيتُ بيني وَبينهمْ حَائِطا، وجعلتُ فِيهِ رَجُلا فارسيًّا فِي بيتٍ يحفظُ لي النَخْلَ ويقومُ بِبُسْتاني، فَاشْترى الأميرُ عِيسَى من إخوتي جَمِيعًا وسَامَنِي فأرْغَبَنِي فَلم أبِعْهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَة بعث خَمْسمِائَة فاعلٍ فاقتلعُوا الْحَائِط، فأصبحتُ لَا أعرف من نَخْلي شَيْئا وَاخْتَلَطَ بِنَخْل إخوتي. قَالَ: يَا غُلام! طينَة، فختم لَهَا خَاتمًا، ثُمّ قَالَ لَهَا: امْضِي بِهِ إِلَى بَابه حَتَّى يحضرَ معكِ. فَجَاءَت الْمَرْأَة بالطينة فَأَخذهَا الحاجبُ وَدخل عَلَى عِيسَى، فَقَالَ لَهُ: أعْدِيَ شريكٌ عَلَيْك، قَالَ لَهُ: أدْعُ لي صاحبَ الشرطة، فَدَعَا بِهِ، فَقَالَ: امْضِ إِلَى شريك فَقل لَهُ: يَا سُبْحَانَ اللَّه! مَا رأيتُ أعجبَ من أمْرِك، امرأةٌ ادَّعتْ دَعْوى لَمْ تصحَّ، أَعْدَيْتها عليَّ؟ فَقَالَ: إِن رَأَى الأميرُ أَن يُعفِيَني فَلْيفعل، فَقَالَ: امضِ وَيْلَك.

فَخرج فَأمر غلمانه أَن يتقدّموا إِلَى الْحَبْس بفراشٍ وَغير ذَلِكَ من آلَة الْحَبْس، فَلَمَّا جَاءَ وقف بَيْنَ يَدي شريكٍ القَاضِي فأدّى الرسَالَة، فَقَالَ لصَاحبه: خُذْ بِيَدِهِ فضعْهُ فِي الْحَبْس، قَالَ: قَدْ - واللَّه يَا أَبَا عَبْد اللَّه - عرفتُ أنَّكَ تفعلُ بِي هَذَا، فقدَّمتُ مَا يُصْلحني إِلَى الْحَبْس. قَالَ: وَبلغ عِيسَى بْن مُوسَى ذَلِكَ فوجَّه بحاجبه إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا من ذَاكَ، رسولُ أَيّ شيءٍ أَنْت؟ فأدَّى الرسَالَة، فألحقه بِصَاحِبِهِ فحُبس. فَلَمَّا صلّى الأميرُ الْعَصْر بعث إِلَى إِسْحَاق بْن صَباح الأَشْعَثيّ وَإِلَى جمَاعَة مو وُجُوه الكوفةِ من أصدقاءِ شريك، فَقَالَ: أمضوا إِلَيْهِ وأبلغوه السَّلَام وأَعْلمُوه أَنَّهُ قَد استخفَّ بِي، فإنّي لستُ كالعَامَّة. فمضَوْا وَهُوَ جالسٌ فِي مَسْجده بعد الْعَصْر، فَدَخَلُوا إِلَيْهِ فأبلغوه الرسَالَة، فَلَمَّا انْقَضى كلامُهم، قَالَ لَهُم: مَالِي لَا أَرَاكُم جئْتُمْ فِي غَيره من النّاس؟! من هَاهُنَا من فتيَان الحيِّ؟ فابتدرُوهُ، فَقَالَ: يأخذْ كلُّ وَاحِد مِنْكُم بيدِ رجلٍ من هَؤُلاءِ فيذهبْ بِهِ إِلَى الْحَبْس، لابتم - واللَّه - إِلا فِيهِ، قَالُوا: أجادٌ أَنْت؟ قَالَ: حقًّا، حَتَّى لَا تعودوا تَحملُوا رسالةَ ظَالِم، فحبسهم. فَركب عِيسَى بْن مُوسَى فِي اللَّيْل إِلَى بَاب الحَبْس فَفتح الْبَاب وأخذهُم جَمِيعًا، فَلَمَّا كَانَ من الغَدِ وَجلسَ شريكٌ للْقَضَاء، جَاءَ السَّجَّان وَأخْبرهُ، فَدَعَا بالْقِمَطْرِ فختمها ووَجَّه بهَا إِلَى منزله، وقَالَ لغُلامه: الْحقْني بثَقَلي إِلَى بَغْدَاد، واللَّه مَا طلبنا هَذَا الأمرَ مِنْهُم، ولكنْ أكرهُونا عَلَيْه، وَلَقَد ضَمِنُوا لنا الإعزازَ فِيهِ. وَمضى نَحْو قنطرة الْكُوفَة يُرِيد بَغْدَاد، وَبلغ عِيسَى بْن مُوسَى الخبرُ، فَركب فِي موكبه فَلحقه وَجَعَل يناشده اللَّه وَيَقُولُ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! تَثَبَّتْ، انْظُر إخوانَك تحبسْهم؟ دَعْ أعْوَاني، قَالَ: نعم، لأنَّهُم مَشَوْا لَك فِي أمرٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِم المشْيَ فِيهِ، ولستُ ببارح أَوْ يُردُّوا جَمِيعًا إِلَى الْحَبْس، وإِلا مضيتُ من فوري إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين فاستعفيتُه فِيمَا قَلَّدني. فَأمر بردهمْ جَمِيعًا إِلَى الْحَبْس، وَهُوَ - واللَّه - واقفٌ مَكَانَهُ حَتَّى جَاءَ السَّجَّان، فَقَالَ: قَدْ رجعُوا إِلَى الْحَبْس، فَقَالَ لأعوانه: خُذُوا بلجامه قُودُوه بَيْنَ يَدَيَّ إِلَى مجْلِس الْحُكْم، فَمَرُّوا بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى دخل الْمَسْجِد، وَجلسَ مجْلِس الْقَضَاء، ثُمّ قَالَ: الجَرِيرِيَّةُ الْمُتَظَلِّمةُ من هَذَا؟ فَجَاءَت، فَقَالَ: هَذَا خَصْمُكِ قَدْ حضر، فَلَمَّا جلس مَعهَا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ: يَخْرجُ أُولَئِكَ من الْحَبْس قبل كُلّ شيءٍ، ثُمّ قَالَ: مَا تقولُ فِيمَا تَدَّعِيه هَذِهِ؟ قَالَ: صَدَقَتْ، فَقَالَ: تَرُدُّ جميعَ مَا أُخِذَ مِنْهَا إِلَيْهَا وتَبْنِي حائطَها فِي أسْرع وَقت، كَمَا هدم، قَالَ: أَفْعَلُ، أَبقِيَ لَكِ شيءٌ؟ قَالَ: تَقُولُ المرأةُ: نعم، وبيتُ الفارسيّ ومَتاعُه، قَالَ: وبيتُ الفارسيّ ومتاعُه، فَقَالَ شريك: أبَقِيَ شيءٌ تَدّعينه عَلَيْه؟ قَالَتْ: لَا، وجَزَاكَ اللَّهُ خيرا، قَالَ: قُومي، وَزَبرها، ثُمّ وثب من مَجْلِسه فَأخذ بيد عِيسَى بْن مُوسَى فأجْلَسَه فِي مَجْلِسِه، ثُمّ قَالَ: السَّلام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير، تأمرُ بِشَيْء؟ قَالَ: بأيِّ شيءٍ آمُر؟ وَضحك.

من بلاغة خالد بن صفوان وحسن كلامه

من بلاغة خَالِد بْن صَفْوَان وحُسْنِ كَلَامه حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْخُتُلِّيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْص النَّسَائيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ عَمْرٍو، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: خَرَجَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَعَهُ مَسْلَمَةَ أَخُوهُ إِلَى مَصَانِعَ قَدْ هُيِّئَتْ لَهُ وَزُيِّنَتْ بِأَنْوَاعِ النَّبْتِ، وَتَوَافَى إِلَيْهِ بِهَا وُفُودُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَدْ بُسِطَ لَهُ فِي مَجَالِسَ مشرفةٍ، مطلةٍ عَلَى مَا شُقَّ لَهُ مِنَ الأَنْهَارِ الْمُحِفَّةِ بِالزَّيْتُونِ فِي سَائِرِ الأَشْجَارِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ! هَلْ فِيكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَانِعِ؟ قَالُوا: لَا، غَيْرَ أَنَّ فِينَا قَبْرَ نَبِيِّنَا الْمُرْسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: أَفِيكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَانِعِ؟ قَالُوا: لَا، غَيْرَ أَنَّ فِينَا تِلاوَةَ كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: أَفِيكُمْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَصَانِعِ؟ قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ لسانٌ وبيانٌ لأَجَابَ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: أَفَعِنْدَكَ غَيْرُ مَا قَالُوا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَصِفُ بِلادِي، وَقَدْ رَأَيْتُ بِلادَكَ نَفْسَهَا، فَقَالَ: هَاتِ، فَقَالَ: يَعْدُو قَانِصُنَا فَيَجِيءُ هَذَا بالشَّبُّوط والشِّيم، وَيَجِيء هَذَا بالظَّبْي والظَّلِيم، وَنحن أكثرُ النّاس عاجًا وساجًا، وخزًّا وديباجاً، وخريدة مغناجاً، وبرذرناً هِمْلاجًا، وَنحن أَكثر النّاس فَيْدًا ونقدًا، وَنحن أوسعُ الناسِ بَرِّيَّةً، وأريفهم بحريَّة، وَأَكْثَرهم ذُرِّيَّة وأبعدُهُم سَريَة، بُيُوتنَا ذهب، ونهرنا عجب، أَوله رُطب، وآخرهُ عِنَب، وأوسطُه قَصَب. فأمّا نهرهُ العجبُ، فَإِن الماءَ يُقبل وَلَهُ عُبَاب وَنحن نيامٌ عَلَى فُرُشِنا، حَتَّى يدْخل بأرضنا، فيغْسِل آنيتَها، وَيَعْلُو مَتْنَها، فنبلغ مِنْهُ حاجتنا، وَنحن عَلَى فرشنا، لَا نُنافِسُ فِيهِ من قِلَّة، وَلا نُمنَعُ مِنْهُ لِذِلَّة، يأتينا عِنْد حاجتنا إِلَيْهِ، وَيذْهب عَنَّا عِنْد ريِّنا مِنْهُ، وغناءنا عَنْهُ. النخلُ عندنَا فِي منابته، كالزَّيتون عنْدكُمْ فِي مَنَازِله، فَذَلِك فِي أَوَانه، كَهَذا فِي إبّانه، ذَاك فِي أفنانه، كَهَذا فِي أغصانه، يخرجُ أَسْفَاطًا عِظامًا وأوساطًا، ثُمّ ينغلقُ عَنْ قضبان الْفِضَّة منظومة بالزبرجد الْأَخْضَر، ثُمّ يصير أصفر وأحمر، ثُمّ يصير عسلا فِي شَنِّه، مرتتجًا بِقَرَبِه، وَلا إِنَاء حولهَا الْمُذَاب، ودونها الحراب، لَا يقربهَا الذُّبَاب، مَرْفُوعَة عَنِ التُّرَاب، من الرَّاسِخاتِ فِي الوَحْل، الْمُلْقَحَاتِ بالفَحْل، الْمُطْعِمَات فِي المَحْل. وأمّا بيوتُنا الذَّهَب فَإنَّا لنا عَلَيْهِنَّ خَرْجًا فِي السنين والشهور نَأْخُذهُ فِي أوقاته، وَيدْفَع اللَّه عَنْهُ آفاته، وننفقه فِي مرضاته. قَالَ: فَقَالَ هِشَام: وأنّي لَكُمُ هَذَا يَا ابْن صَفْوَان وَلَمْ تسبقوا إِلَيْهِ، وَلَمْ تغلبُوا عَلَيْه؟ فَقَالَ: ورثناه عَنِ الْآبَاء ونَغْمُرُه للأبناء، ويدفعُ لنا عَنْهُ ربُّ السَّمَاء، فمثلُنا فِيهِ كَمَا قَالَ أَوْسُ بْن مَغْراء الشَّاعِر: فمهما كَانَ مِنْ خيرٍ فإنَّا ... وَرِثْنَاهُ أَوَائِلَ أوَّلِينَا

السبب في عزل شريك بن عبد الله القاضي

ونحنُ مُوَرِّثُوه كَمَا وَرِثْنا ... عَنِ الْآبَاء إِن مِتْنا بنينَا قَالَ: فَقَالَ هِشَام: للَّهِ دَرُّكَ يَا ابْن صَفْوَان، لقَدْ أُوتيتَ لِسَانا وعِلْمًا وبيانًا، فأكرمَهُ وأحسنَ جائزته وقَدَّمه عَلَى أَصْحَابه. السَّبَب فِي عزل شريك بْن عَبْد اللَّه القَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر العامري، حَدَّثَنَا مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه الزُّبَيْريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: تقدَّم إِلَى شريك بْن عَبْد اللَّه وَكيل لمُؤْنِسَةَ مَعَ خصمٍ لَهُ، فَجعل يستطيل عَلَى خَصْمه إدْلالا بموضعه من مُؤْنِسَة. فَقَالَ لَهُ شريكٌ: كُفَّ لَا أَبا لَك فَقَالَ: أتقولُ هَذَا لي وَأَنا وكيلُ مُؤنسة؟! فأمَرَ بِهِ فصُفِعَ عَشْرَ صفعاتٍ فَانْصَرف يجْرِي وَدخل عَلَى مُؤْنِسَة وشَكَا لَهَا، فكتبتْ مُؤنِسَة إِلَى المهديِّ فعزل شَرِيكًا. وَكَانَ قبلَ هَذَا بيسيرٍ قَدْ دخل شريكٌ عَلَى الْمهْدي، فَقَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي لَك تَقَلُّدُ الْحِكم بَيْنَ الْمُسْلِمِين، قَالَ: وَلِمَ؟! قَالَ: لخلافك عَلَى الْجَمَاعَة، وقولك بِالْإِمَامَةِ. قَالَ: أما قَوْلك: لخلافك عَلَى الْجَمَاعَة، فَعَن الْجَمَاعَة أخذتُ ديني، فَكيف أخرج عَنْهُمْ وهم أُصَلِّي فِي ديني؟ وأمّا قَوْلك: بِالْإِمَامَةِ، فَمَا أعرف إِمَامًا إِلا كتاب اللَّه وَسنة رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وَأما قولُك: مثلك لَا يَنْبَغِي لَهُ الحكم بَين المسليمن، فَهَذَا شيءٌ أَنْتُم فعلتموه فَإِن كَانَ خطأ فاستغفروا اللَّهَ مِنْهُ، وَإِن كَانَ صَوَابا فأمسكوا عَلَيْه. قَالَ: مَا تقولُ فِي عليِّ بْن أَبِي طَالِب؟ قَالَ: مَا قَالَ عَنْهُ جَدَّاك الْعَبَّاسُ وعبدُ اللَّه قَالَ: وَمَا قَالا عَنْهُ؟ قَالَ: أما الْعَبَّاسُ فَمَاتَ وعليُّ عِنْده أفضل الصَّحَابَة، وَقَدْ كَانَ يرى كبراء الْمُهَاجِرين يسألونه عَمَّا ينزل من النَّوَازِل، وَمَا احْتَاجَ هُوَ إِلَى أحدٍ حَتَّى لحق بِاللَّه تَعَالَى، وَأما عَبْد اللَّه فَإنَّهُ كَانَ يَضْربُ بَيْنَ يَدَيْهِ بسيفين، وَكَانَ فِي حروبه رَأْسا مُتَّبعًا وَقَائِدًا مُطَاعًا، فَإِن كانتْ إمامةُ عليٍّ جَوْرًا لَكَانَ أوَّلَ من يقعدُ عَنْهَا أَبوك لعلمه بدين اللَّهِ تَعَالَى وفقهه فِي أَحْكَام اللَّه. فَسكت المهديُّ وأطرق، وَلَمْ يَمْضِ بعد هَذَا الْمجْلس إِلا قليلٌ حَتَّى عَزَل شريك. لَطِيفَة بَيْنَ خَالِد بْن عَبْد اللَّه وأعرابي قَصده حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كثير الْعَبْدِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْملك بْن قُرَيْب الْأَصْمَعِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن الْهَيْثَم، قَالَ: بَيْنَمَا خَالِد بْن عَبْد اللَّه بظَهْرِ الْكُوفة مُتَنَزِّهًا إذْ حَضَره أعرابيُّ، فَقَالَ: يَا أَعْرَابِي! أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ الْقرْيَة - يَعْنِي الْكُوفَة - قَالَ: وماذا تحاولُ بهَا؟ قَالَ: قصدتُ خَالِد بْن عَبْد اللَّه متعرِّضًا لمعروفه، قَالَ: فَهَل تعرِفُه؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل بَيْنك وَبَينه قرَابَة؟ قَالَ: لَا، ولكنْ لِمَا بَلَغنِي من بَذْله

تعليق نحوي

المعروفَ، وَقَدْ قُلْتُ فِيهِ شعرًا أتقرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ، قَالَ: فأنشِدْني مِمَّا قُلْتُ فِيهِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: إليكَ ابنَ كُرْزِ الخَيْر أقبلتُ رَاغِبًا ... لتجبُرَ منّي مَا وَهى وتبدَّدا إِلَى الْمَاجِد الْبُهْلولِ ذِي الْحلم والنَّدى ... وأكرمِ خَلْقِ اللَّهِ فرعا ومَحْتَدَا إِذا مَا أناسٌ قصَّرُوا فِي فَعَالِهمْ ... نَهَضْتَ فَلم يُلْفَى هُنَالك مَقْعَدَا فيا لَك بحرًا يَغْمُرُ النَّاسَ مَوْجُهُ ... إِذا يُسْأَلُ المعروفُ جاشَ وأزْبدا بلوتُ ابْن عَبْد اللَّهِ فِي كُلّ موطنٍ ... فألفيتُ خير النّاس نَفْسًا وأمْجدا فَلَو كَانَ فِي الدُّنْيَا من النّاس خالدٌ ... لجودٍ بِمَعْرُوف لَكُنْت مُخَلَّدا فَلَا تَحْرِمَنِّي مِنْك مَا قَدْ رجوتُهُ ... فيصبحَ وَجْهي كَالِحَ اللَّونِ أرْبَدا فحفظ خَالِد الشّعْر، وقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ، صَنَعَ اللَّه لَك. فَلَمَّا كَانَ من غدٍ وَدخل الناسُ إِلَى خالدٍ واسْتوى السِّماطانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، تقدَّمَ الأَعْرابي وَهُوَ يَقُولُ: إليكِ ابنَ عبدِ الْقَيْس، فَأَشَارَ إِلَيْهِ خالدٌ بِيَدِهِ أَن اسْكُتْ. ثُمّ أنْشد خَالِد بَقِيَّة الشّعْر، وقَالَ لَهُ: يَا أعرابيُّ! قَدْ قِيلَ هَذَا الشّعْر قبل قَوْلك، فتحَّير الأعرابيُّ وَورد عَلَيْه مَا أدْهَشَه، وقَالَ: واللَّه مَا رأيتُ كَالْيَوْمِ سَبَبًا لخيبةٍ وحِرْمان، فانصرفَ وأتْبَعَهُ خالدٌ برسولٍ ليسمعَ مَا يَقُولُ، فَسَمعهُ الرسولُ يَقُولُ: أَلا فِي سَبِيل اللَّهِ ماكنت أَرْتَجِي ... لديْهِ وَمَا لاقَيْتُ من نَكَدِ الجَدِّ دخلْتُ عَلَى بحرٍ يجودُ بمالِهِ ... ويُعطي كثيرَ المالِ فِي طلب الحَمْدِ فحالَفَني الجَدُّ المشومُ لِشِقْوتِي ... وقارنني نَحْسِي وفارَقَني سَعْدِي فَلَو كَانَ لي رزقٌ لَدَيْهِ لَنِلْتُهُ ... وَلكنه أمرٌ من الْوَاحِد الفَرْدِ فَقَالَ لَهُ الرسولُ: أجب الْأَمِير، فَلَمَّا انْتهى إِلَى خالدٍ، قَالَ لَهُ: كَيفَ قُلْتُ فأنشده، ثُمّ استعاده فَأَعَادَهُ ثَلَاثًا إعجابًا مِنْهُ بِهِ، ثُمّ أَمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. تَعْلِيق نحْوي قَوْله: فَلم يُلْفَى، وَالْوَجْه: لَمْ يُلْفَ، وَلكنه اضْطُرَّ فجَاء بِهِ عَلَى الأَصْل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَلَمْ يأتِيكَ والأَنْبِاء تَنْمِي ... بِمَا لاقتْ لَبُونُ بني زيَادِ وَقَد استقصينا هَذَا الْبَاب فِي غَيْر هَذَا الْموضع. اعفني من أَربع حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن الأَزْدِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: كَانَ عبد الملك بْن مَرْوَان إِذا دخل عَلَيْه رجلٌ من أفقٍ

الزرع والجراد

من الْآفَاق، قَالَ لَهُ: اعْفني من أَربع، وقُلْ بعدَها مَا شئتَ أَلا تكْذِبْني فَإِن الكَذُوب لَا رَأْي لَهُ، وَلا تُجِبْنِي فِيمَا لَا أسألُك عَنْهُ، فَإِن فِي الَّذِي أَسأَلك عَنْهُ شغلا عَمّا سِوَاه، وَلا تحملْني عَلَى الرّعية، فَإِنَّهُم إِلَى مَعْدَلَتِي ورأفَتي أحْوَج. الزَّرع وَالْجَرَاد حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن عليّ بْن الْمَرْزُبَان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن الأَسَديّ أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه بْن صَالِح بْن شيخ بْن عُمَيْرة، حَدثنَا عبد الرحمن بْن أَخِي الْأَصْمَعِي، عَنْ عمّه الْأَصْمَعِي، قَالَ: قِيلَ لأعرابيٍّ: أَكَانَ لَك زَرْعٌ؟ قَالَ: نعم، وَلَكِن أَتَانَا رجلٌ من جَراد، تَنَبَّل مناجل الحَصاد، فسُبحان مهلك القويِّ الأكُول، بالضَّعيفِ المأكُول. المتفضِّلُ جَاوز حدَّ الْمنصف حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن خَلَف السُّكري، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى زَكَرِيّا بْن يَحْيَى بْن خَلاد الْمِنْقَرِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرفيّ، ثَنَا الْأَصْمَعِي، عَمَّن أخبرهُ: أَن أَبَا جَعْفَر المَنْصُور حِين عَفَا عَنْ أَهْل الشَّام، قَالَ لَهُ رجلٌ، يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! الانتقامُ عدلٌ والتجاوزُ فَضْل، والْمُتفضِّلُ قَدْ جَاوز حَدَّ الْمُنْصِف، فَنحْن نُعِيذُ أَمِير الْمُؤْمِنِين بِاللَّه عَزَّ وَجَلّ من أَن يَرْضى لنَفسِهِ بأوْكَسِ النَّصِيبين، وأَلا يرتفعَ إِلَى أَعلَى الدَّرَجتين. المجِلسُ التَاسِع والْعِشروُن النّاس سَوَاء كأسنان الْمشْط حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُفَضَّلِ بْنِ حَيَّانَ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ إِدْرِيسُ بْنُ يُونُسَ الْفَرَّاءُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَاجٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّاسُ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ، وَالْمَرْءُ كثيرٌ بِأَخِيهِ، وَلا خَيْرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مِثْلَ مَا تَرَى لَهُ ". قَالَ القَاضِي: وَقَدْ تضمَّن هَذَا الْخَبَر بألفاظه اللطيفة الجامعة، ومعانية الشَّرِيفَة النافعة، حِكَمًا متقبَّلةً فِي الْعقل، ثَابِتَة فِي الْفَضْل، راجحةً فِي ميزَان الْعدْل. وَقَوله عَلَيْه السَّلام: " الناسُ سواءٌ كأسْنان الْمُشْط " من أَبْيَنِ الْكَلَام النَّبيه، وَأحسن التَّمْثِيل والتشبيه، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر: سواسيةٌ كأسْنان الْحِمَار فنحا هَذَا النحوَ فِي الْعبارَة من التَّساوي والتشاكُل، والاشتباه والتماثُل. فأمّا قَول هَذَا الشَّاعِر: سواسية.. فَإِن بعض عُلَمَاء أَهْل اللُّغة ذكر أَن السَّواسية هُمُ المتساوون فِي الشَّبَه، وَأَن هَذَا القَوْل إِنَّمَا يُستعمل فِي الذَّم، وقولُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النَّاسُ سواءٌ كَأَسْنَانِ الْمشْط، وَإِنَّمَا يتفاضلون بالعافية "، تَأْدِيب لَهُم وحَضٌّ لَهُم عَلَى تفكُّرِهِم فِي أنفسهم، وَأَنَّهُمْ يتساوون فِي الأَصْل، ويتفقون فِي الخَلْقَ والْجِبِلّ، ويتفاوتون فِي منَازِل

الْفَضْل، ليرجعوا إِلَى الْمعرفَة بِأَنْفسِهِم، ويتنزهوا عَنِ المنافسة الَّتِي تُفْسِدُ ذاتَ بَيْنهم، ويجتنبوا البَغْيَ والتفاخُرَ، والاستطالة بالتكاثر، وليشكُرِ الْمُفَضَّل مِنْهُم ربه عَزَّ وَجَلّ، إِذْ أَبَانَهُ بِالْفَضْلِ عَلَى من سواهُ، وخصّه بنعمته دون كثير مِمَّنْ عداهُ، وَيُؤَدِّي حق مَوْلَاهُ فِيمَا أولاه وأبلاه، فَإِن النّاس عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَثر مُعَافى ومُبْتلى، وَقَدْ أحسن الَّذِي يَقُولُ: الناسُ أشكالٌ وشَتَّى فِي الشِّيَمْ ... وكُلُّهُمْ يجمَعُهُ بيتُ الأَدَمْ وَقَوله عَلَيْه السَّلام: " المَرْءُ كثيرٌ بأَخيه " من بليغ الْكَلَام ونفيس الْحِكَم، لِأَن الْمَرْء يشد أَخَاهُ ويؤازره، ويُعَضِّدُه ويناصره، وَقَدْ أَتَى الْخَبَر فِي الأُمَّةِ الهادية أَنَّهَا كالْبُنْيان يَشُدُّ بعضُه بَعْضًا. وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَنَاصُرِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ، أَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى عَضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ بُرْدَةَ، حَدثنَا أَبُو شهَاب، عَن الْحسن، وَعَمْرو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسْلِمُونَ كرجلٍ وَاحِدٍ، إِذَا اشْتَكَى عضوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ ". وَفِي استقصاء مَا جَاءَ فِي التعاطف والتواصل، والمصافاة والتباذل، من الرِّوَايَات والْآثَار، والحكايات وَالْأَخْبَار، وتُنُوشد من منظوم الأَشْعَار، طولٌ لَيْسَ هَذَا من مَوْضِعه، واشتهارهُ عِنْد الْعَامَّة والخاصة، يُغني عَنِ الإسهاب فِيهِ، والإطناب فِي ذكره، وإحضار جُمَيْع مَا قِيلَ فِيهِ، وَمَا خَالفه، وَإِنِّي لأستحسنُ مَا أنشدتُه عَنْ عَبْد اللَّه بْن الْمُعْتَزّ وَهُوَ: للَّهِ أخوانٌ صَحِبْتُهُمُ ... لَا يملِكُونَ لسلوةٍ قَلْبَا لَوْلَا تستطيعُ نفوسُهُمْ بَعُدتْ ... أجْسامُهُمْ فتعانقتْ حُبَّا وَقَوله فِي الْخَبَر: " وَلا خَيْرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لَكَ مِثْلَ مَا ترى لَهُ ". من أفْصح لفظٍ، وأوضحِ معنى. وتأويله عِنْدِي: أَنَّهُ لَا خير لامرىء فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يَرَى لِأَخِيهِ من المناصحة والمكافأة والمخالصة، وَأخذ نَفسه لَهُ بالإنصاف والمساعدة، والإسعاف والمرافدة، مثل الَّذِي يرَاهُ لَهُ أَخُوهُ من ذَلِكَ، وَمن كَانَ لِأَخِيهِ الصَّادِقِ فِي مؤاخاته بِهَذِهِ الْمنزلَة فَهُوَ بالعدو أشبه مِنْهُ بالولي. وَقَد اخْتلف ذَوُو الْفُحْص والتفتيش من أَصْحَاب الْمعَانِي، فِي قَول الشَّاعِر: وَإِنِّي لأستحيي أَخِي أَن أرَى لَهُ ... عَلَيَّ مِنَ الحَقّ الَّذِي لَا يرَى ليَا فَقَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يرى أَن لي عَلَيْه حَقًا حسب مَا أرى لَهُ من وجوب حَقه عَلَى، ووجَّهُوه إِلَى نَحْو مَا تأوَّلنَاه. وقَالَ بعض الْمُحَقِّقين من هَذِهِ الطَّائِفَة والمتحققين بتحصيل مَعَانِيهَا:

خبر من فتح القسطنطينية

بل الْمَعْنى إِنِّي أستحيي أَخِي أَن أرى لَهُ عِنْدِي مِنْ فضلٍ سابقٍ مِنْهُ، مَالا يرى لي عِنْده من فضل، فَيكون قَدْ ثَبَّت عِنْدِي حقَّا لَمْ أُثَبِّتْ لنَفْسي عِنْده من الْحق مثلَه. وَهَذَا أصح التَّأْويلَيْنِ، وأصوب المعنين، وَقَوله: وَإِنِّي لأستحيي أَخِي أَن أرى لَهُ ... ، يشهدُ بِصِحَّة هَذَا التَّأْوِيل، لِأَن قَائِلا لَو قَالَ لآخر: إِنِّي لأستحييك أَن آتِي من حسن عشرتك مَا لَا يَأْتِي مثله فِي معاشرتي، لَكَانَ من الْكَلَام الركيك الَّذِي يستهجن وَلا يُسْتَحسن، وَلَو قَالَ لَهُ: إِنِّي لأستحييك أَن تعاشرني من النُّبْل مَا لَا أعاشرك بِمِثْلِهِ، لَكَانَ من أبين الْكَلَام وأفْصَحِه، وَأحسن معنى وأوضحه. فأمّا قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الْخَبَر: " وَلا خيرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ لَا يرى لَك مِثْلَ مَا ترَاهُ لَهُ "، فَهُوَ جارٍ علىعكس هَذِهِ الطَّرِيقَة بِحَسب مَا بَيناهُ، وَإِنَّمَا يَصحُّ حملُه عَلَى النَّحْو الَّذِي حملنَا عَلَيْه تَفْسِير الْبَيْت، لَو كَانَ قِيلَ فِيهِ: وَلا خير لمن صُحبته فِي صحبتك إِذا لَمْ تَرَ لَهُ من الْحق مثل الَّذِي يرى لَك، عَلَى مَا تقدم من تلخيصنا. خبر من فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: كتب مَسْلَمَةَ بْن عَبْد الْملك إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ: أرِقتُ وصحراءُ الطُّوانَةِ مَنْزِلِي ... لبرقٍ تلالا نَحْو عمْرَة يلمح أزوال أمرا لم يَكُنْ ليُطِيقَهُ ... من الْقَوْم إِلا الْقُلَّبِيُّ الصَّمَحْمحُ فَكتب الْقَعْقَاع بْن خُلَيْد الْعَبْسيّ إِلَى عَبْد الْملك: فأبْلغ أميرَ الْمُؤْمِنِين بأنَّنا ... سِوَى مَا يَقُولُ الْقُلَّبِيُّ الصَّمَحْمحُ أكلْنا لحومَ الْخَيل رَطْبًا ويابسًا ... وأكبادُنا من أكْلنا الخيلَ تَقْرَحُ ونحْسُبها نَحْو الطوانة ظُلّعا ... وَلَيْسَ لَهَا حَوْلَ الطوانة مسرح فليت الفَزَارِيّ الَّذِي غشَّ نفسَهُ ... وَخَانَ أميرَ الْمُؤْمِنِين يُسَرَّحُ وَكَانَ أصابتُهم مجاعةٌ حَتَّى أكلُوا الخيْلَ، فكتم ذَلِكَ مَسْلَمَةَ بْن عَبْد الْملك، وَكتب مَعَ رَجُل من بني فَزَارَة، فَذَلِك معنى قَوْله: فليت الفَزَاريّ الَّذِي غش نَفسه معنى بعض الْكَلِمَات ووزنها قَالَ القَاضِي: الْقُلَّبِيُّ: الَّذِي يعرف تَقَلُّبَ الْأُمُور وتدبيرها، ويتصفَّحُها فَيعلم بمجاريها، يُقَالُ: رجلٌ قُلَّبِيٌّ حُوَّليٌّ: لمحاولته وتقلبه، وتدبيره، ويُقَالُ لَهُ أَيْضا: حُوَّلٌ قُلَّب، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: حُوَلّ قلبٌ معنٌ مفنٌ ... كُلّ داءٍ لَهُ لَدَيْهِ دَوَاءُ وَقَوله: الصَّمَحْمح: أَرَادَ بِهِ وَصفه بالشدة وَالْقُوَّة، وبَيْنَ أَهْل الْعلم بِكَلَام الْعَرَب

اخْتِلاف فِي معنى الصَّمحمح من جِهَة اللُّغَة وَفِي وَزنه من الْفِعْل عَلَى الطَّرِيقَة القياسية، فَأَما اللُّغويون فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَذهب سِيبوَيْه وَمن قَالَ بقوله: إنَّه الشديدُ الغليظ الْقصير وَهُوَ صفة، ويُقَالُ أَيْضا للغليظ الشَّديد: دَمَكْمَك، وقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الصَّمحمح: المحلوق الرَّأْس، وَأنْشد: صمحمحٌ قَدْ لاحَهُ الهَوَاجِرُ وقَالَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى: الصَّمحمح: الأصلع. وَاخْتلف النحويون فِي وزن صمحمح من الْفِعْل، فَقَالَ سِيبوَيْه وَمن يسْلك سَبيله من الْبَصرِيين: هُوَ فَعَلْعل، وقَالَ الفَرَّاءُ وأتباعُه من الكوفيِّين: هُوَ فَعَلَّل مثل: سفرجل، وَكَذَلِكَ دَمَكْمَك، ولكلِّ فريقٍ مِنْهُم اعتلالٌ فِي قَوْله، وطعنٌ فِي مَذْهَب خَصْمه. فَأَما الفراءُ فَإنَّهُ احْتج بِأَن قَالَ: لَو جَازَ أَن يَكُون صمحمح عَلَى فعلعل لتكرير لفظ الْعين وَاللَّام، لجَاز أَن يَكُون صَرْصَر عَلَى فَعْفَع، وسَجْسَج لتكرير لفظ الْفَاء، فَلَمَّا بَطَل أَن يَكُون صَرْصَر عَلَى فَعْفَع بَطل أَن يكون صمحمج عَلَى فعلعل. وَالَّذِي قَالَه سِيبوَيْه هُوَ الصَّحِيح الَّذِي يشهدُ القياسُ بتصويبه، وَذَلِكَ أَن مُوَافقَة الْحَرْف المتكرر الْحَرْف الْمُتَقَدّم فِي صورته يُوجب مُوَافَقَته فِي الْحَكَم عَلَى وَزنه إِذا استوفى فِي وزن الْكَلِمَة الَّتِي هِيَ فَاء الْفِعْل وعينه ولامه، مَا لم يلجىء إِلَى خلاف هَذَا حجةٌ كالقصور عَنِ استكمال هَذِهِ الْحُرُوف، وَالْحَاجة إِلَى إتْمَام الْكَلِمَة بِاخْتِصَار حُرُوف الْفِعْل، فَلهَذَا قُضِيَ عَلَى " صَرْصَر " بِأَنَّهُ " فَعْلَل "، وَلَمْ يَجُزْ حمله عَلَى " فَعْفَع " لِأَنَّهُ لَو حُمِل عَلَى هَذَا بَطل التَّمامُ لعدم اللّام، وَإِذَا جعلت عين الْفِعْل فِي صمحمح مكررة لَمْ يفْسد الْكَلَام، وَتمّ مَعَ إِقَامَة الْقيَاس واستقام، وَقَدْ قَالَ بعض من احتجَّ بِهَذَا من أَصْحَاب سِيبوَيْه: أَلا ترى أَنَا نجْعَل إِحْدَى الرَّاءين فِي احمرَّ زَائِدَة، وَلا نجْعَل إِحْدَى الرَّاءين فِي مَرَّ وكَرَّ زَائِدَة لأنّا لَو جعلنَا أَحَدهمَا زَائِدَة بَطل عين الْفِعْل أَوْ لامه. وَقَالُوا: مِمَّا يُبطل قَول الفَرَّاء، قَوْلهم: " خُلَعْلَع " وَهُوَ الْجُعَلُ، لَو سلكنا بِهِ مَذْهَب " سَفَرْجل " لَمْ يَكُنْ لَهُ نظيرٌ فِي كَلَام الْعَرَب، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامهم مثل سُفَرْجَل، قَالُوا: وَفِي خُرُوجه عَن أبينة كَلَام الْعَرَب دليلٌ عَلَى زِيَادَة الْحَرْف فِيهِ. وَزعم الفَرَّاء أَن اخْلَوْلق: افْعَوْعل، فكرَّر العينَ وَلَمْ يَجعله افعولل أَو افعلَّل، وقَالَ بعض من احْتج لسيبويه بِهَذَا، وَأنكر قَول الفَرَّاء إِن قَالَ قائلٌ: لَيْسَ فِي الْأَفْعَال افعلَّل، قِيلَ لَهُ: يلْزم الفَرَّاء أَن يَجْعَلهَا افعلل وَلا يَجعله افعوعل وَلا يُكَرر الْعين، إِذا كَانَ قَدْ أنكر تَكْرِير الْعين فِيمَا ذكرنَا. وَفِي استقصاء القَوْل فِي هَذِهِ الْكَلِمَة ونظيرها وذُكِر اخْتِلاف النَّحْوِيين فِي أصل الْبَاب الَّذِي يشْتَمل عَلَيْهَا طولٌ يضيق عَنْهُ قدْرُ مجلسٍ بأسره من مجَالِس هَذَا الْكتاب، وَلَهُ مَوضِع

تصميم قاضي الرقة على إنصاف المظلوم

هُوَ أولى بِهِ يُؤتي بِهِ فِيهِ إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى. تصميم قَاضِي الرقة عَلَى إنصاف الْمَظْلُوم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الازهر، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الزُّبَير بْن بَكَّار بْن عَبْد اللَّه بْن مُصْعَب بْن ثَابِت بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير بْن الْعَوَّام بْن أَسد، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مُصْعَب بْن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ عُبَيْد اللَّه بْن ظَبْيان قَاضِي الرَّقَّةِ، وَكَانَ الرشيد إِذْ ذَاك بهَا، فجَاء رَجُل فاستعدى إِلَيْهِ من عِيسَى بْن جَعْفَر، فَكتب إِلَيْهِ ابنُ ظبْيَان: " أما بعد، أبقى اللَّه الْأَمِير وَحفظه، وأتمَّ نعْمَته عَلَيْه، أَتَانِي رجلٌ يذكر أَنَّهُ فُلان بْن فُلان، وَأَن لَهُ عَلَى الْأَمِير - أبقاه اللَّه - خمس مائَة ألف دِرْهَم - فَإِن رَأَى الْأَمِير - أبقاه اللَّه - أَن يحضر مَعَه مجْلِس الحكم أَوْ يوكَّل وَكيلا يُناظر خَصْمَهُ فعل ". قَالَ: وَدفع الْكتاب إِلَى الرَّجُل، فَأتى بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر فَدفع الْكتاب إِلَى حَاجِبه فأوصله إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: كُلْ هَذَا الْكتاب. فَرجع إِلَى القَاضِي فَأَخْبَرَه، فَكتب إِلَيْهِ: أبقاك اللَّه وحفظك وأمتع بك، حضر رجلٌ يُقَالُ لَهُ فُلان بْن فُلان، فَذكر أَن لَهُ عَلَيْك حقًّا فَصِرْ مَعَه إِلَى مجْلِس الْحَكَم أَوْ وكيلك إِن شَاءَ اللَّه. وَوجه بِالْكتاب مَعَ عونين من أعوانه، فحضرا بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر ودفعا الْكتاب إِلَيْهِ، فَغَضب وَرمى بِهِ، فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فَأَخْبَرَاهُ. فَكتب إِلَيْهِ: حفظك اللَّه وأبقاك وأمتع بك، لَا بُد أَن تصيرَ أَنْت وخصمك إِلَى مجْلِس الْحُكْم، فَإِن أَنْت أبيتَ رفعتُ أَمرك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين إِن شَاءَ الله. وَوجه الْكتاب مَعَ رجلَيْنِ من أَصْحَابه الْعُدُول، فقعدوا عَلَى بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر حَتَّى خرج، فقاما إِلَيْهِ ودفعا إِلَيْهِ كتاب القَاضِي، فَلم يقرأه وَرمى بِهِ، فأبلغاه ذَلِكَ. فختم قِمَطْرَهُ وَانْصَرف وَقعد فِي بَيته، وَبلغ الخبرُ الرشيدَ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أمره، فَأَخْبَرَه بالقصة حرفا حرفا، فَقَالَ لإِبْرَاهِيم بْن عُثْمَان: صِرْ إِلَى بَاب عِيسَى بْن جَعْفَر فاختم عَلَيْه أبوابَه كُلَّها، وَلا يخرُجَنَّ أحدٌ وَلا يدخلن أحدٌ عَلَيْه حَتَّى يَخْرُج إِلَى الرَّجُل من حقِّه أَوْ يصير مَعَه إِلَى الْحَاكِم. قَالَ: فأحاط إِبْرَاهِيم بداره ووكَّل بهَا خمسين فَارِسًا وأغلقت أبوابه، وَظن عِيسَى أَنَّهُ قَدْ حدَّث للرشيد رأيٌ فِي قَتله، فَلم يَدْر مَا سَبَب ذَلِكَ، وَجَعَل يكلم الأعوان من خلف الْبَاب، وارتفع الصياحُ من دَاره، وصَرَخ النساءُ، فأمرهن أَن يَسْكُتن، وقَالَ لبَعض غِلمان إِبْرَاهِيم: أُدْعُ لي أَبَا إِسْحَاق لأكلمه، فأعلموه مَا قَالَ: فجَاء حَتَّى صَار إِلَى الْبَاب، فَقَالَ لَهُ عِيسَى ويْلك مَا حالُنا؟ فَأَخْبَرَه خبرَ ابنِ ظَبيان، فَأمر أَن تحضر خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم من سَاعَته ويُدفع بهَا إِلَى الرَّجُل.

يخوف جارية بإهدائها لأصمعي

فجَاء إِبْرَاهِيم إِلَى الرشيد فَأَخْبَرَه، فَقَالَ: إِذا قبض الرَّجُل مَاله فافتح أبوابه. يُخَوِّف جَارِيَة بإهدائها لأصمعي حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد، قَالَ: قَالَ الْأَصْمَعِي: دخلت عَلَى جَعْفَر بْن يَحْيَى بْن خَالِد يَوْمًا من الأيَّام، فَقَالَ: يَا أصْمَعيُّ! هَلْ لَك من زَوْجَة؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فجارية؟ قُلْتُ: جاريةٌ للمِهْنة، قَالَ: فَهَل لَك أَن أهبَ لَك جَارِيَة نظيفة؟ قُلْتُ: إِنِّي لمحتاجٌ إِلَى ذَلِكَ. فَأمر بِإِخْرَاج جاريةٍ إِلَى مَجْلِسه، فخرجتُ جاريةٌ فِي غَايَة الْحَسَن وَالْجمال والهيئة والظَّرْف، فَقَالَ لَهَا: قَدْ وهبتُكِ لهَذَا، وقَالَ: يَا أصْمَعِيُّ! خُذْها. فشكرتُهُ. فَبَكَتْ الجاريةُ وَقَالَت: يَا سيِّدي! تدفَعُني إِلَى هَذَا الشَّيْخ مَعَ مَا أرى من سَمَاجته وقُبْح منظره؟ وجَزِعَت جزعًا شَدِيدا. فَقَالَ: يَا أَصْمَعيُّ! هَلْ لَك أَن أعَوِّضَك مِنْهَا ألف دِينَار؟ قُلْتُ: مَا أكرهُ ذَلِكَ، فَأمر لي بِأَلف دِينَار، وَدخلت الجاريةُ، فَقَالَ: يَا أصمعيُّ! إِنِّي أنكرتُ عَلَى هَذِهِ الْجَارِيَة أمرا فأردتُ عقوبتها بك ثُمّ رحمتُها مِنْك. قُلْتُ: أَيهَا الْأَمِير! فألا أعلمتَني قبل ذَلِكَ فإنِّي لَمْ آتِك حَتَّى سَرَّحْتُ لِحْيتي وأصلحتُ عِمَّتِي، وَلَو عرفتُ الْخَبَر لصِرْت إِلَيْك عَلَى هيئةِ خِلْقَتِي، فواللَّه لَو رأتْني كَذَلِك لما عاودت شَيْئا تنكره أبدا مَا بقيت. الْمَرْء فِي رُتْبَة السّلطان حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمَدَائِنِي، قَالَ: زَعَمُوا أَن رجلا من بني كنَانَة أَتَى نَصْرَ بْن سَيَّار وَهُوَ عَلَى خُرَاسَان، وَكَانَ لَهُ صديقا فَوَجَدَهُ قد غير عَنِ الْعَهْد، فَلَمَّا رَأَى الْإِعْرَاض قَالَ: قُلْ لنصرٍ والمرءُ فِي رُتْبَة السل ... طان أعْمَى مَا دَامَ يُدْعى أميرَا فَإِذا زَالَت الإِمارةُ عنهُ ... واستوى والرجالٌ عادَ بَصيرَا فَبَلغهُ، فَقَالَ: أقسمتُ عَلَيْك إِلا أنْشَدْتني الْبَيْتَيْنِ، فأنشده فَقَالَ: صدقت لَعَمْرو اللَّه، وأثبَته فِي صحابته، وَأحسن جائزته، وَجعله فِي سُمَّاره. تَأْكِيد الضَّمِير الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل - الْمَفْعُول مَعَه قَالَ القَاضِي: هَكَذَا فِي كتابي: واستوى وَالرِّجَال بِالْوَاو، وَرفع الرِّجَال عطفا عَلَى الضَّمِير الَّذِي فِي اسْتَوَى، والفصيح من كَلَام الْعَرَب فِي مثل هَذَا أَن يُؤكِّدُوه ثُمّ يَعْطِفُوا عَلَيْه فيقولوا: فاسْتوى هُوَ والرِّجال، وَقَدْ جَاءَ فِي الشّعْر غيرُ مؤكَّد، قَالَ جرير: ورَجَا الأُخَيْطِلُ من سفاهةِ رَأْيِهِ ... مَا لَمْ يكنْ وأبٌ لَهُ لِينَالا والبصريُّون من النَّحْوِيين يستقبحون ترك التوكيد فِيهِ، وَالْأَمر فِيهِ عِنْد الْكُوفِيّين أيسرُ، عَلَى أَنهم يختارون التوكيد ويُؤْثرونه، وَقَدْ أنْشد الفَرَّاء:

حماد الراوية يحاول أن يغتنم غنيمة

ألم تَرَ أنَّ النّبْعَ يَصْلُب عُودُهُ ... وَلَا يَسْتَوِي والخَرْوَعُ المَتَقصِّفُ وَلَو قيل: فَاسْتَوَى وَالرِّجَال بِمَعْنى مَعَ الرِّجَال كَانَ حسنا، وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي يُسمى بَاب الْمَفْعُول مَعَه، كَقَوْلِهِم: اسْتَوَى الماءُ والخَشَبَة، وَجَاء البَرْدُ والطَّيَالِسَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فكونُوا أنْتُمُ وَبَنِي أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الْكُلْيَتَيْنِ من الطُّحَالِ وَقَد يُقَالُ: اسْتَوَى الماءُ بالخشبة، وَرُوِيَ هَذَا الْبَيْت: واستوى بِالرِّجَالِ، وَجَاء فِي الْخَبَر: ذكر التَّبِيع فِي وُلِد الْبَقر، فَقِيل: هُوَ الَّذِي اسْتَوَى قرناه بأذنيه، وَمن هَذَا النَّحْو قَوْلهم: مَا صنعتَ وأباك. وَهَذَا بَاب يَتَّسِع القَوْل فِيهِ من قِبَلِ صناعَة النَّحو ومذاهب أَهله، وَلَيْسَ هَذَا من مَوَاضِع شَرحه، وَقَدْ ذَكرْنَاهُ فِي مَوْضِعه من كتبنَا فِي النَّحْو وعلوم الْقُرْآن الْكَرِيم، وَفِي رسالةٍ أفردناها. حَمَّاد الراوية يحاول أَن يغتنم غنيمَة حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه المَرْثدي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِد بْن كُلْثُوم وَغَيره، عَنْ حَمَّاد الراوية، قَالَ: كُنْت عِنْد الْوَلِيد يَوْمًا فَدخل عَلَيْه رَجُلان كأنَّهما كَانَا مُنَجِّمَيْن، فَقَالا: قَدْ نَظَرْنا فِيمَا أَمَرْتَنا بِهِ فوجدناك تملِكُ سَبْعَ سِنِين مُؤَيَّدًا مَنْصورًا، تستقيمُ لَك النّاس، ويزكُو لَك الخَرَاجُ. قَالَ حَمَّاد: فاغتنمتُها وأردتُ أَن أخدعَه كَمَا خَدَعاه، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! كَذَبَا، نَحْنُ أعْلمُ بالروايةِ والْآثَار وضَرُوبِ الْعُلُومِ مِنْهُمَا، وَقَدْ نَظرنَا فِي هَذَا وَنظر الناسُ فِيهِ قَدِيما فوجدناك تملكُ أَرْبَعِينَ سنة فِي الْحَال الَّتِي وَصفا. قَالَ: فَأَطْرَقَ الْوَلِيدُ ثُمّ رفع رَأسه إليّ، فَقَالَ: لَا مَا قَالَه هَذَانِ يكسرني، وَلَا مَا قُلْتَه يَقَرُّنِي، واللَّه لأَجْبِيَنَّ هَذَا المَال من حِلِّهِ جبايةَ من يعيشُ لِلْأَبَد، ولأصرفَّنهُ فِي حقِّه صَرْف من يموتُ فِي غدٍ. كَلِمَات حكيمة للخليل بْن أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْمقري، أَنْبَأَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود المَرْوَزِيّ بمرو، أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْن أَكْثَم، أَنْبَأَنَا النَّضْر بْن شُمَيْل، قَالَ: سمعنَا الْخَلِيل بْن أَحْمَد، يَقُولُ: التواني إضاعةٌ، والحزمُ بضَاعَة، والإنصافُ رَاحَة، واللجاجةُ وقاحة. المجلِسُ الثَلاثون حديثُ سَوادِ بْنِ قَارِب حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ حُجْرٍ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَنْصُور الْأَنْبَارِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ، عَنْ

مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَالسٌ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ إِذْ مَرَّ بِهِ رجلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَتَعْرِفُ هَذَا الْمُسَلِّمَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الَّذِي أَتَاهُ رَئِيُّهُ مِنَ الْجِنِّ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ. فَدَعَا عُمَرُ الرَّجُلَ فَقَالَ: أَنْتَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: أَنْتَ كَمَا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ الرَّجُلُ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا اسْتَقْبَلَنِي أحدٌ بِهَذَا مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِمَّا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ، فَأَخْبِرْنِي بِإِتْيَانِكَ رَئِيُّكَ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينِ! بَيْنَا أَنَا نائمٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي رَئِيِّي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ وَافْهَمْ وَاعْقِلْ، قَدْ بُعِثَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَأَخْبَارِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هاشمٍ ... بَيْنَ رَوَابِيهَا وَأَحْجَارِهَا فَقُلْتُ: دَعْنِي أَنَامُ، فَإِنِّي أَمْسَيْتُ نَاعِسًا. فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلابِهَا ... وشَدَّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا صَادِقُو الْجِنِّ كَكُذَّابِهَا فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هاشمٍ ... لَيْسَ قدامها كَأَذْنَابِهَا قَالَ الْقَاضِي: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى بَابِهَا فَقُلْتُ: دَعْنِي أَنَامُ، فَإِنِّي أَمْسَيْتُ نَاعِسًا. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ فَافْهَمْ وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، قَدْ بُعِثَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى عِبَادَته، ثمَّ أنشأ يقولك عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَحْسَاسِهَا ... وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَحْلاسِهَا

تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا خير الْجِنِّ كَأَنْجَاسِهَا فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... وَاسْمُ بِعَيْنَيْك إِلَى رَاسِهَا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ شَدَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي رَحْلَهَا وَصِرْتُ إِلَى مَكَّةَ، فَقِيلَ لِي: قَدْ سَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَصِرْتُ إِلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَعَقَلْتُ نَاقَتِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ: هَاتِ يَا سَوَادُ بْنُ قَارب فَقلت: أَتَانِي رئيي بَعْدَ هدءٍ ورقدةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا بَلَوْتُ بِكَاذِبِ ثَلاثَ ليالٍ قَوْلُهُ كُلَّ ليلةٍ ... أَتَاكَ رسولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ فَشَمَّرْتُ مِنْ ذَيْلِ الإِزَارِ وَوَسَّطْتُ ... بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْنَاءُ بَيْنَ السَّبَاسِبِ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... فَإِنَّكَ مأمونٌ عَلَى كُلِّ غَائِبِ ةأنك أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وَسِيلَةً ... إِلَى اللَّهِ يَا ابْن الأَكْرَمِينَ الأَطَايِبِ فَمُرْنَا بِمَا نَأْتِيهِ يَا خَيْرَ مَنْ مَشَى ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيْبُ الذَّوَائِبِ وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شفاعةٍ ... سِوَاكَ بمغنٍ عَنْ سَوادِ بْنِ قَارِبِ قَالَ: فَفَرِحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَرَحًا شَدِيدًا. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: لقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ هَذَا الْخَبَرَ مِنْكَ، فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَأْتِيكَ رَئِيُّكَ الْيَوْمَ؟ قَالَ: أَمَا مُنْذُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى فَلا، وَنعم الْبغوض كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْجِنِّ. قَالَ القَاضِي: قَدْ رُوِّينَا خبر سَواد بْن قَارب هَذَا من طُرُق عِدَّة، وَفِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلاف، ومعانيها مُتَقَارِبَة، وَقَوله: فارْحل إِلَى الصفوة من هَاشِم: صفوة الشَّيْء: خِيارُه وأخْلصه، يُقَالُ: هَذِهِ صَفْوة الْمَتَاع وصِفوته، وَالْكَسْر أفْصح اللُّغَات فِيهِ، فَإِذا نزعت الْهَاء فِيهِ، فَقِيل: هَذَا صَفْوُ الشَّيْء بِالْفَتْح لَا غَيْر. وَقَوله: الذعلِبُ: السَّريعةُ، والوَجْنَاءُ: صفةٌ لَهَا بغلظ الوَجْنة وسَعَتها وَهُوَ من عَلَامَات النجابة. وَفِي هَذَا الْخَبَر: مَا دلَّ عَلَى نُبُوَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وصِحة دَعوته، وَهُوَ أحدُ الْأَخْبَار الَّتِي تقدَّمت بالتبشير برسالته، والإشارةُ إِلَى صفته، والإيماء إِلَى نجومه ومخرجه، وَهُوَ بابٌ واسعٌ كَبِير جدا يُتْعب إحصاؤه، وَقَدْ ضمنته العلماءُ كتبَهُمْ وأخْبارهم. وَقَوله فِي هَذَا الْخَبَر: بَيْنَ السَّباسِب، وَهِي الأفضية الواسعةُ من الأَرْض، وَهِي مَا كَانَ مِنْهَا قَفْرًا أملس، وَاحِدهَا سَبْسَب، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: نعم قَدْ تركناهُ بأرضٍ بعيدةٍ ... مُقيمًا بهَا فِي سبسبٍ وأَكَامِ

كلمات حكيمة

ويُقَالُ فِي هَذَا بَسَابِس. كَلِمَات حكيمة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رجلٌ من حَنْظَلة يَقُولُ: إِنَّهُ لَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ يَدُلَّكَ عَقْلُكَ عَلَى تَرْك القَوْل فِي أَخِيك، فَفِيهِ خلالٌ ثَلَاث: أما واحدةٌ فلعلَّك أَن تذكُرَهُ بِمَا هُوَ فِيك، أَوْ لَعَلَّك تذكره بأمرٍ قَدْ عافاك اللَّه مِنْهُ، فَمَا هَذَا جزاءُ الْعَافِيَة أَن تَجْحد الشُّكْر عَلَيْهَا. أَوْ لعلَّك تذكُرُه بِمَا فِيك أعظمُ مِنْهُ، فَذَلِك أشَدُّ اسْتحكامًا لمقْتِه إياك، أما كُنْت تسمع: ارْحم أَخَاك وأحْمَدِ الَّذِي عَافَاك. عَجِيبَة من الْعَجَائِب الزاغ أَبُو عَجْوَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عَليّ مُحرز ابْن أَحْمَد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَليّ مُحرز ابْن أَحْمَد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُسْلِم السَّعْديّ، قَالَ: وَجَّه إليَّ يَحْيَى بْن أَكْثَم يَوْمًا فصرتُ إِلَيْهِ، فَإِذا عَنْ يَمِينه قمطرٌ مجلَّدة، فَجَلَست فَقَالَ لي: افْتَحْ هَذَا القمطر، فَفَتحهَا فَإِذا شيءٌ قَدْ خرج مِنْهَا، رَأسه رَأس إنسانٍ، وَهُوَ من سُرَّتِهِ إِلَى أَسْفَل خِلْقَةٌ " زاغ "، وَفِي ظَهره وصَدْره سَلْعَتَان، فكبَّرتُ وهلَّلتُ وفَزِعْت، ويَحْيَى يضْحك، فَقَالَ لي بلسانٍ فصيح طَلْق ذَلِق: أَنَا الزاغُ أَبُو عَجْوه ... أَنَا ابنُ اللَّيْثِ واللبوه أحب الراح والريحا ... ن والنَّشْوةَ والقَهْوَة فَلَا عَدْوَى يَدِي تُخْشَى ... وَلا تُحْذَرُ لي سَطْوَه وُلي أشياءُ تُسْتَطْرَفْ ... بِيَوْم الْعُرْسِ والدعوة فَمِنْهَا سلعةٌ فِي الظه ... ر لَا تسترها الفَرْوَة وأمّا السّلْعَة الْأُخْرَى ... فَلَو كَانَ لَهَا عُرْوة لما شكّ جَمِيع النا ... س فِيهَا أنَّها رِكْوَةْ ثُمّ قَالَ: يَا كهلُ! أنشِدْني شِعرًا غَزِلا: فَقَالَ لي يَحْيَى: قَدْ أنْشَدَك الزاغُ فأنْشِدْه، فأنشدْتُه: أَغَرَّكِ أنْ أَذْنَبْتِ ثُمّ تَتَابَعَتْ ... ذنوبٌ فَلم أهْجُرْكِ ثُمّ ذُنُوبُ وَأَكْثَرت حَتَّى قلتِ لَيْسَ بصارِمِي ... وَقَدْ يُصْرَمُ الإِنْسَانُ وَهُوَ حَبِيبُ فصاح: زاغ زاغ زاغ، ثُمّ طَار، ثُمّ سقط فِي القمطر، فَقلت ليحيى: أعزَّ اللَّه القَاضِي، وعاشقٌ أَيْضا؟! فَضَحِك، قلت: أَيهَا القَاضِي: ماهذا؟ قَالَ: هُوَ مَا ترَاهُ، وجَّه بِهِ صاحبُ الْيمن إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَمَا رَآهُ بعدُ وَكتب كتابا لَمْ أَفْضُضْهُ، وأظن أَنَّهُ ذكر فِي الْكتاب

عدل سوار القاضي وانتصار الرشيد له

شَأْنَهُ وحَالَه. عَدْلُ سَوَّار القَاضِي وانتصارُ الرشيد لَهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الْأَزْهَر، حَدَّثَنَا الزُّبَير، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَلام، قَالَ: كَانَ حَمَّاد بْن مُوسَى صاحبَ أمرِ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان وَالْغَالِب عَلَيْه، فحبس سَوَّارُ القَاضِي رجلا فِي بعض مَا يَحْبِس فِيهِ الْقُضاة، فَبعث حمادٌ فَأخْرج الرَّجُل من الْحَبْس فجَاء خَصْمُه إِلَى سَوَّار حَتَّى دخل، فَأَخْبَرَه أَن حَمَّادًا قَدْ أخرج الرَّجُل من الْحَبْس. وَركب سَوَّارٌ حَتَّى دخل عَلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان وَهُوَ قاعدٌ للنَّاس، وَالنَّاس عَلَى مَرَاتِبهمْ، فَجَلَسَ بِحَيْثُ يرَاهُ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان، ثُمّ دَعَا آخر من نظرائه، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ للْأولِ، فَأجَاب مثل جَوَاب الأول فأقعده مَعَ صَاحبه، فَفعل ذَلِكَ بجماعةٍ مِنْهُم، ثُمّ قَالَ لَهُم: انْطَلقُوا إِلَى حَمَّاد بْن مُوسَى فضعوه فِي الْحَبْس، فنظروا إِلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان فأعلموه مَا أَمرهم بِهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِم: أَن افعلوا مَا يَأْمُركُمْ بِهِ، فَانْطَلقُوا إِلَى حَمَّاد فوضعوه فِي الْحَبْس، وَانْصَرف سَوَّارٌ إِلَى منزله، فَلَمَّا كَانَ بالعشيِّ أَرَادَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان الرّكُوب إِلَى سَوَّار، فجاءتْه الرُّسُل فَقَالُوا: إِن الأميرَ عَلَى الرّكُوب إِلَيْك، فَقَالَ: لَا، نحنُ بالركوب أولى إِلَى الْأَمِير. فَركب إِلَيْهِ فَقَالَ: كنتُ عَلَى الْمَجِيء إِلَيْك أَبَا عَبْد اللَّه، قَالَ: مَا كنت لأجشم الْأَمِير ذَاك، قَالَ: بَلغنِي مَا صنع هَذَا الجاهلُ حَمَّاد، قَالَ: هُوَ مَا بلغ الْأَمِير، قَالَ: فَأحب أَن تَهَبَ لي ذَنْبَه، قَالَ: أفعلُ أَيهَا الْأَمِير، اردُدَ الرَّجُل إِلَى الْحَبْس، قَالَ: نعم، بالصَّغَرِ لَهُ والقماءة. فَوجه إِلَى الرجل فحبسه وَأطلق حَمَّادًا، وَكتب بِذَلِك صاحبُ الْخَبَر إِلَى الرشيد، فَكتب إِلَى سوارٍ يُجرِّيه ويَحْمَدُهُ عَلَى مَا صنع، وَكتب إِلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان كتابا غليظًا يذكُرُ فِيهِ حَمَّادًا وَيَقُولُ: الرَّافِضِيُّ ابنُ الرَّافِضِيّ، واللَّهِ لَوْلَا أَن الوعيدَ أَمَام العقوبةِ مَا أدَّبْتُه إِلا بِالسَّيْفِ، ليَكُون عِظَةً لغيره ونَكَالا. يفتاتُ عَلَى قَاضِي الْمُسْلِمِين فِي رَأْيه، ويركبُ هَوَاهُ لموضعِهِ مِنْك، ويَعْرِضُ فِي الْأَحْكَام استهانةً بِأَمْر اللَّهِ تَعَالَى، وإقداماً على أَمِير لمؤمنين، وَمَا ذَاك إِلا بك، وَبِمَا أرْخيتَ من رَسَنِه، فَأَنا للَّه لَئِن عَاد إِلَى مثلهَا ليجِدنِّي أغضبُ لدين اللَّه تَعَالَى، وأنتقمُ من أعدائه لأوليائه. أبياتٌ فِي مَا يلاقيه المحبُّون حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى، قَالَ: قَالَ: أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّه بْن شبيب، أَنْشدني عَلِيّ بْن طَاهِر ابْن زَيْد بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام لبَعض الْمُحدثين: أَلا رُبَّ مشغوفٍ بِمن لَا يَنَالُه ... غَدَاةَ تُسَاقُ الْمُنْشَآتُ إِلَى البحرِ غَدَاةَ تَوَافَى أهلُ جمعٍ وصحبةٍ ... لَدَى الجَمْرةِ القصوى أولو الجمجم الْغُبْرِ

تفسير الشنب والغر

ولِلرَّمْيِ أَن تُبْدِي الْحِسانُ أكُفَّها ... وتَفْتَرُّ بِالتَّكْبِيرِ عَنْ شَنَب غُرِّ فيا رُبَّ باكٍ شجوَهُ ومعولٍ ... إِذا مَا رَأَى الأطنابَ تُنْزَعُ للنَّفْرِ تَفْسِير الشنب والغرّ قَالَ أَبُو بَكْر: الشَّنب: الثغر الْبَارِد، والشّنب: بردُ الأسْنان، والْغُرُّ: الْبيض. قَالَ القَاضِي: وَمن الشنب قولُ ذِي الرُّمَّة: لمياءُ فِي شَفَتَيْها حوةٌ لعسٌ ... وَفِي اللَّثَاتِ وَفِي أنْيابِها شَنَبُ فَسَّره أهلُ اللُّغَة أَنَّهُ بردٌ وعذوبةٌ فِي الْأَسْنَان، وَقَوله فِي هَذَا الشّعْر: وتَفتَرُّ بِالتَّكْبِيرِ ... عَنْ شنبٍ غُرِّ يُقَالُ: شَنَبٌ وَهُوَ نعتٌ مُوَحَّدُ اللَّفْظ، كأَنَّه قَالَ: عَنْ بَارِد، ثُمّ قَالَ: غُرّ، فَأتى بِلَفْظ الْجمع، لِأَنَّهُ أَرَادَ بالشَّنب جُمَيْع الثغر فَهُوَ عدد، وَلَفظه مُوحد، وعَلى هَذَا الْوَجْه قَرَأَ من قَرَأَ: " ثِيَاب سندسٍ خضرٍ " لِأَن السُّنْدُسَ جمعٌ فِي جنسه واحدٌ فِي لَفظه. عَاقِبَة الاستخفاف حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمد الختلين قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن خَالِد الحَنّاط، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّه الْخُرَاساني، يَقُولُ: من استخف بالعلماء ذَهَبتْ آخرتُه، وَمن استخفَّ بإخوانه قلَّتْ معونته، وَمن استخفّ بالسُّلْطان ذهبتْ دُنْياه. عِفَّةُ جرير، وفجور الفَرَزْدَق حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد الله ابْن إِسْحَاق بْن سَلام وأَحْمَد بْن يَحْيَى، وأَبُو الْعَبَّاس الْأَحول، كلُّ بِسَنَده: أَن جَرِيرًا قَدِم عَلَى عُمَر بْن عبد الْعَزِيز وَهُوَ يتولَّى الْمَدِينَة، فأنزله فِي دارٍ وَبعث إِلَيْهِ بجاريةٍ تَخْدُمُه، فَقَالَت لَهُ: إِنِّي أَرَاك شَعِثًا فَهَل لَك فِي الْغُسْل؟ فَجَاءَتْهُ بغِسْل وَمَاء، فَقَالَ: تَنَحَّيْ عَنِّي ثُمّ اغْتسل. ثُمّ قدِم الفَرَزْدَق فأنزله دَارا وَبعث إِلَيْهِ بجاريةٍ فعرضت عَلَيْه مثل ذَلِكَ، فَوَثَبَ عَلَيْهَا فخرجتْ إِلَى عُمَر، فنفاه عَنِ الْمَدِينَة وأجَّلَهُ ثَلَاثًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ: توعَّدَنِي وأجَّلني ثَلاثًا ... كَمَا لَبِثَتْ لِمهلَكِهَا ثَمُودُ وَبلغ ذَلِكَ جَرِيرًا، فَقَالَ: نَفَاكَ الأَغَرُّ ابنُ عَبْد الْعَزِيز ... بِحَقِّكَ تُنْفى عَنِ المسجدِ وشَبَّهْتَ نفسَكَ أشْقَى ثَمُودَ ... فَقَالُوا: ضَلَلْتَ وَلَم تهتدِ وَقَدْ أُخِّرُوا حِين حَلَّ العَذَابُ ... ثَلاثَ ليالٍ إِلَى الموعدِ تَعْلِيق لغَوِيّ قَالَ القَاضِي: الْغِسْل: مَا يُغْسل بِهِ الرأسُ والجَسَدُ من خِطْمِيٍّ وَغَيره، والغَسْلُ مصدر

الحديث الحسن، أبقى للذات

غَسَلْت، وأمّا الْغُسْل بِالضَّمِّ فقد اخْتلف أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هُوَ المَاء، وقَالَ بَعضهم: الغَسْل والْغُسْل لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد، كالرَّهْبِ والرَّعْبِ، والرُّهْب والرُّعْب، وَمثله من الْأَسْمَاء الْأَعْيَان: الحَشُّ والْحُشُّ والرَّفْغُ والرُّفُغ. وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة: بحقك تنفى، وَقد رَوَاهُ رَاوُون: وَحَقُّك، واخْتُلِف فِي مَوضِع تُنْفَى من الْإِعْرَاب، فَقَالَ بعضُهم: مَوْضِعه رفعٌ عَلَى أصل إِعْرَاب الْمُضارع، إذْ لَمْ يأتِ هاهُنا أَن فتنْصَبَه، وقَالَ آخَرُونَ: مَوْضِعه نصبٌ وأضمروا أَن وأعملوها مضمرة، لِأَن الْمَعْنى: وحقُّك أَن تُنْفى، وَقَد اختُلف نَحْو هَذَا الاخْتِلاف فِي بَيت طَرَفة، حَيْثُ يَقُولُ: أَلا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... وَأَن أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْت مُخْلِدِي فروى: أحضرُ بِالرَّفْع والنَّصب عَلَى نَحْو مَا وَصفنَا، وروى عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضا قَول الشَّاعِر: يَا لَيْتَني مِتُّ قبل أعْرِفكمْ ... وصَاغَنَا اللَّهُ صِيغَة ذَهَبَا وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى ذكره: " قُلْ أفغير الله يأمروني أعبد " فَزعم الْكُوفِيُّونَ أَن الْمَعْنى: تأمروني أَن أعْبُدَ، وَأنكر البَصْريون هَذَا وَقَالُوا: تأمروني كَلَام أَتَى اعتراضًا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَالْمعْنَى: أفغير اللَّهِ أعبدُ، كَقَوْلِك: زيدا أرى لقِيت، وَنَحْو هَذَا قَول جرير يهجو عُمَر بْن لَجأ: أَبِالأَرَاجِيزِ يَا ابْنَ اللُّؤْمِ تُوعِدُني ... وَفِي الأَرَاجِيزِ خِلْتُ اللُّؤْمَ والخَوَرَا الْمَعْنى: وَفِي الأراجيز اللؤمُ والخَوَرُ فِيمَا خلت. وَهَذَا عندنَا من الكَلِم الَّذِي اخْتُصِرت فَائِدَته من الصِّيغَة اللُّغَوِيَّة، وأُلغِيَ عمله من الْجِهَة النحوية. وَلِهَذَا الْفَصْل وَمَا ذكرنَا فِيهِ، موضعٌ من كلامنا فِي مَعَاني الْقُرْآن وأبواب الْعَرَبيَّة، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ. الحَدِيث الْحسن، أبقى للذات حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن مَالك الشَّيْبَانِيّ، حَدَّثَنَا الغَلابِي، حَدَّثَنَا ابْن سَلام، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَعْبَد، قَالَ: بعث عَبْد الْملك بْن مَرْوَان إِلَى الشَّعْبِيّ، فَقَالَ: يَا شَعْبِي! عَهْدِي بك وَأَنَّك الْغُلَام فِي الْكُتَّاب فَحَدِّثْنِي، فَمَا بَقِيّ شيءٌ الْآن إِلا وَقَدْ مَلِلْتُه سوى الْحَدِيث الْحَسَن، وَأنْشد: ومِلِلْتُ إِلا من لِقاء محدثٍ ... حَسَن الْحَدِيث يَزيدُني تَعْليمَا قَالَ القَاضِي: ونظيرُ هَذَا قَول ابْن الرُّومِي: وَلَقَد سئمتُ مآربِي ... فَكَأَن طيِّبُها خبيثُ إِلَّا الحديثُ فإنّه ... مثل اسْمه أبدا حديثُ

كيف عاد الزهري إلى قول الحديث

كَيفَ عَاد الزُّهْرِيّ إِلَى قَول الْحَدِيث حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ الزُّهْرِيَّ بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الْحَدِيثَ فَأَلْفَيْتُهُ عَلَى بَابِهِ، فَقُلْتُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُحَدِّثَنِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُ الْحَدِيثَ؟ فَقُلْتُ: إِمَّا أَنْ تُحَدِّثَنِي وَإِمَّا أَنْ أُحَدِّثَكَ، فَقَالَ: حَدِّثْنِي، فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: " مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُعَلِّمُوا ". قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا. المجلِسُ الْحَادِي وَالثَلاثون أَنَا خَيْركُم بَيْتا، وخيركُم نَفْسًا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَلِيِّ بْنِ بَطْحَا فِي آخَرِينَ، وَاللَّفْظُ لإِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو فُضَيْلٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ: " أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَسْمَعُ مِنْ قَوْمِكَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: إِنَّمَا مَثَلُ محمدٍ كَمَثَلِ نبتٍ فِي كِبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عبد الْمطلب - مَا سمعناه اسمى قَبْلَهَا - إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ فَرَّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي مِنْ خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جعلهم بُيُوتًا فجعلني من خَيْرَهُمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا ". قَالَ القَاضِي: قَدْ أبان رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْخَبَر مَا فَضله اللَّه تَعَالَى بِهِ عَلَى الْعَالمين، وأرغم بِهِ أعدائه الضَّالِّين المكذبين، وَلَقَد شَرّفه اللَّه تَعَالَى بفضله عَلَى سَائِر الْمُسْلِمِين، وكَرَّمه بِأَن ختم بِهِ النَّبيين، وَرفع دَرَجَته فِي عليّين، فهناه اللَّه مَا أَعْطَاه، وزاده فِيمَا منحه وأولاه، وتابع لَدَيْهِ مواهبه وعطاياه، وأسعدنا بِشَفَاعَتِهِ يوْم نَلْقاه، وكافأه عَنَّا وحاطه وأجزل مثوبته، وَرفع فِي أَعلَى عليين مَنْزِلَته، بِمَا أدّاه إِلَيْنَا من رسَالَته، وأفاضه علينا من نصيحته، وعَلَّمناه من كِتَابه وحكمته. وَمعنى قولِ مَنْ قَالَ: نبتٌ فِي كبا، الْكِبَا بِالْقصرِ: المَزْبلة، والْكِبَاءُ بِالْمدِّ: الْعُودُ والبَخُور، قَالَ المرقِّشُ الأَصْغر: فِي كلِّ يوْم لَهَا مقطرةٌ ... فِيهَا كباءٌ مُعَدٌّ وحَمِيم والمقطرة: هِيَ الَّتِي يَجْعَل فِيهَا الْقُطُر فيُتبخر بِهِ، والْقُطُر: الْعود الَّذِي بِمَبْخَرتِه كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس: كأنّ الْمُدَامَ وصَوْبَ الغَمَامِ ... وريحَ الْخُزَامَى ونَشْرَ الْقُطُرْ يُعَلُّ بِهِ بردُ أنْيابها ... إِذا طَرَّبَ الطائرُ المستحر

من حسن معاوية وذكائه

من حسن مُعَاوِيَة وذكائه حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ، أَنْبَأَنَا الرِّيَاشِيُّ، عَنِ ابْنِ سَلامٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لابْنِ أَبِي أَحْمَدَ: أَصَبْتَ لَنَا مَالا أَبْتَاعُهُ؟ فَأَتَاهُ فَقَالَ: قَدْ أَصَبْتُ لَكَ مَالا، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: البَلْدَةُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، قَالَ: النُّخَيْلُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: وَدْعَانُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، قَالَ: الْغَابَةُ، قَالَ: نَعَمْ، اشْتَرِهَا، قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! سَمَّيْتُ لَكَ أَمْوَالا تَعْرِفُهَا فَكَرِهْتَهَا، وَأَخْبَرْتُكَ بِمَا لَا تَعْرِفُ فَاخْتَرْتَهُ، قَالَ: نَعَمْ، سَمَّيْتَ لِيَ الْبَلْدَةَ فَتَبَلَّدَتْ عَلَّيَ، وَسَمَّيْتَ النُّخَيْلَ فَكَانَ مُصَغَّرًا، وَسَمَّيْتَ لِي وَدْعَانَ فَنَهَتْنِي نَفْسِي عَنْهَا، وَسَمَّيْتَ لِيَ الْغَابَةَ فَعَلِمْتُ أَنَّ بِهَا كَثْرَةَ الْمَاءِ، وَقَدْ قَالَ الأَوَّلُ: إِنْ كُنْتَ تَبْغِي الْعِلْمَ أَوْ مِثْلَهُ ... أَوْ شَاهِدًا يُخْبِرُ عَنْ غَائِبِ فَاعْتَبِرِ الأَرْضَ بِأَسْمَائِهَا ... وَاعْتَبِرِ الصَّاحِبَ بِالصَّاحِبِ أعِزَّ أمْرَ اللَّه يُعزَّك اللَّه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه، عَنْ عَمْرو بْن الْهَيَّاج بْن سَعِيد، حَدَّثَنِي مُجالد بْن سَعِيد، قَالَ: كنتُ من صحابة شَرِيك فأتيتُه يَوْمًا وَهُوَ فِي منزله باكرًا، فَخرج إليَّ فِي فَرْوٍ مَا تَحْتَهُ قميصٌ وَعَلِيهِ كِسَاء، فَقلت: قَدْ أضْحَيْتَ عَنْ مجْلِس الْحَكَم، قَالَ: غسلتُ ثِيَابِي أمس فَلم تَجِفَّ فَأَنا أنْتَظر جُفُوفَها، اجلسْ فجلستُ، فَجعلنَا نتذاكرُ بَاب العَبْدِ يتزوَّجُ بِغَيْر إِذن موَالِيه، فَقَالَ: مَا عنْدك فِيهِ؟ وَمَا تَقُولُ؟ وَكَانَت الخيرزان قَدْ وجَّهت رَجُلا نصرانيًّا عَلَى الطِّراز بِالْكُوفَةِ وكتبت إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى أَلا يعْصِيَ لَهُ أمرا، فَكَانَ النَّصْرانُّي مُطَاعًا فِي الْكُوفَة، فَخرج علينا ذَلِكَ اليومَ من زُقَاقٍ يخرجُ إِلَى النَّخَعِ وَمَعَهُ جماعةٌ من أَصْحَابه، عَلَيْه جُبَّةُ خَزٍّ وطيلسان، عَلَى بِرْذَوْنٍ فَارِه، وَإِذَا رجلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مكتوفٌ وَهُوَ يَقُولُ: واغَوْثَاهُ بِاللَّه، أَنَا بِاللَّه ثُمّ بِالْقَاضِي، وَإِذَا آثَار السِّيَاطِ فِي ظَهره، فَسلم عَلَى شَرِيك وَجلسَ إِلَى جَانِبه، فَقَالَ الرَّجُل الْمَضْرُوب: أَنَا بِاللَّه ثُمّ بك أصلحك اللَّه، أَنَا رَجُل أعمل لهَذَا الوَشْيَ، أُجْرَةُ مثلي مائةُ دِرْهَم فِي الشَّهْر، أَخَذَنِي هَذَا مُنْذُ أَرْبَعَة أشهرٍ واحتبسني فِي طرازٍ يُجْرِي عليَّ فِيهِ الْقُوت، وُلّي عيالٌ قَدْ ضَاعُوا، فأفلتُّ مِنْهُ الْيَوْم هَارِبا فلحقني فَفعل بظهري مَا ترى. فَقَالَ: قمّ يَا نَصْرانيُّ واجلسْ مَعَ خَصْمِك، قَالَ: أصلحك اللَّه يَا أَبَا عَبْد اللَّه هَذَا من خَدَمِ السيدة، مُرْ بِهِ إِلَى الحَبْس، قَالَ: قُمْ وَيلك فاجلسْ مَعَه كَمَا يُقَالُ لَك، فَجَلَسَ. فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْآثَار الَّتِي بِظهْر هَذَا الرَّجُل؟ مَنْ أثَّرها بِهِ؟ قَالَ: أصلح اللَّه القَاضِي، إِنَّمَا ضربتُه أسْوَاطًا بيَدي، وَهُوَ يستحقُّ أَكثر من هَذَا، مُرْ بِهِ إِلَى الْحَبْس. فَألْقى شريكٌ كساءُهُ وَدخل دَاره وَأخرج سَوْطًا رَبَذِيًّا، ثُمّ ضرب بِيَدِهِ إِلَى مجامع أَثوَاب النَّصْرانُّي، وقَالَ للرجل: انْطَلِقْ إِلَى أهلك، ثُمّ رفع السَّوْط فَجعل يضْرب بِهِ النَّصْرانُّي

صلة الرحم تخفف الحساب

وَيَقُولُ: بأصْبَحيٍّ قُدَّ من قَفَا جمل. لاتضرب - واللَّه - الْمُسْلِمِين بعْدهَا أبدا، فَهَمَّ أصحابُ النَّصْرانُّي أَن يخلِّصُوه من يَده فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا من فتيَان الْحَيّ؟ خُذُوا هَؤُلاءِ فاذهبوا بهم إِلَى الْحَبْس، فهرب الْقَوْم جَمِيعًا وأَفْردُوا النَّصْرانُّي، فضُرب أسواطًا فَجعل النَّصْرانُّي يَعْصِرُ عَيْنَيْهِ ويبكي وَيَقُولُ: سَتَعْلم. فَألْقى السَّوطَ فِي الدهليز، وقَالَ: يَا أَبَا حَفْص! مَا تقولُ فِي العَبْد يتزوَّجُ بِغَيْر إذْن موَالِيه، وأخذْنا فِيمَا كُنّا فِيهِ كأَنَّه لَمْ يصنعْ شَيْئا، وَقَامَ النَّصْرانُّي إِلَى البرذون ليركبه فاستعصى عَلَيْه، وَلَم يَكُنْ لَهُ من يأخذُ ركابه، فَجعل يضْرب البرذون، فَقَالَ لَهُ شريك: ارُفق بِهِ وَيلك، فَإنَّهُ أطوعُ لله مِنْك، فَمضى. فالتفتَ إِلَى شريكٌ، فَقَالَ: خُذْ بِنَا فِيمَا كُنّا فِيهِ، قُلْتُ: مَا لنا وَلذَا؟ قَدْ - وَالله - فعلت الْيَوْم فَعْلةً ستكونُ لَهَا عَاقِبَة مَكْرُوهَة، فَقَالَ: أعز أَمر الله تَعَالَى يُعِزَّكَ اللَّهُ، خُذْ فِيمَا نحنُ فِيهِ. وَذهب النَّصْرانُّي إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى فَدخل عَلَيْه، فَقَالَ: من بك، وَغَضب الأعوان وَصَاحب الشرطة، فَقَالَ شريكٌ فعل بِي كَيْت وَكَيْت، قَالَ: لَا واللَّه، مَا أتعرض لِشَرِيك، فَمضى النَّصْرَانِي إِلَى بَغْدَاد فَمَا رَجَعَ. قَالَ القَاضِي: الأصبحيات: سياطٌ مَعْرُوفَة، وَاحِدهَا أصبحي، وَهِي منسوبةٌ إِلَى ذِي أصبح ملك من مُلُوك الْيمن. صلَة الرَّحِم تخفف الْحساب حَدثنَا الْحسن بن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد الْكَلْبِيّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْميُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَقَعَ بَيْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كلامٌ فِي صدر يَوْم، فأغلط فِي الْقَوْلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ، ثُمَّ افْتَرَقَا وَرَاحَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَالْتَقَيَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: كَيْفَ أَمْسَيْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ: بِخَيْرٍ، كَمَا يَقُولُ الْمُغْضَبُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! أمَا عَلِمْتَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُخَفِّفُ الْحِسَابَ؟ فَقَالَ: لَا تَزَالُ تَجِيءُ بِالشَّيْءِ لَا نَعْرِفُهُ، قَالَ: فَإِنِّي أَتْلُو عَلَيْكَ بِهِ قُرْآنًا، قَالَ: وَذَلِكَ أَيْضًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَاتِهِ، قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عز وَجل: " الَّذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سوء الْحساب ". قَالَ: فَلا تَرَانِي بَعْدَهَا قَاطِعًا رَحِمًا. أبياتٌ فِي وصف الْهوى حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الوضاح، عَنِ الْوَاقِدِيّ، عَنْ أَبِي الجحَاف، قَالَ: إِنِّي لفي الطّواف وَقَدْ مضى أَكثر اللَّيْل وخفّ الحاجُّ إذْ بامرأةٍ شابةٍ قَدْ أقبلتْ كأَنَّها شمسٌ، عَلَى قضيبٍ غُرِسَ فِي كَثِيب، وَهِي تَقُولُ:

هو أشعر الناس

رَأَيْتُ الْهوى حُلْوًا إِذا اجْتمع الوَصْلُ ... ومُرًّا عَلَى الْهِجْرَانِ لَا بل هُوَ القَتْلُ وَمن لَمْ يَذُقْ للهَجْر طعْمًا فَإنَّهُ ... إِذا ذاق طَعْم الْحُبِّ يَدْر مَا الوَصْلُ وَقَدْ ذُقْتُ من هذَيْن فِي الْقُرْبِ والنَّوى ... فأبْعَدُهُ قتلٌ وأقْرَبُهُ خَبْلُ هُوَ أشعر النّاس حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، قَالَ: قَالَ بعض أَصْحَاب العتابي: رَأَيْت العَتَّابِيّ ينظر فِي كتابٍ ويلتفتُ إليَّ وَيَقُولُ: هُوَ واللَّهِ أشعرُ النّاس، فَقلت: وَمن هُوَ؟ قَالَ: أما تعرفُه؟ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: إِذا نَحْن أَثْنَيْنَا عَلَيْك بِصَالح ... فَأَنت الَّذِي نُثْنِي وَفَوق الَّذِي نُثْنِي وَإِن جَرَتِ الألفاظُ يَوْمًا بمدحةٍ ... لغيرك إنْسَانًا فَأَنت الَّذِي نَعْنِي فَقلت لَهُ: من هُوَ؟ قَالَ: أَوْ مَا تعرفه؟ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: تَسَتَّرْتُ من دَهْرِي بِظلِّ جَنَاحِه ... فَصِرْتُ أرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي فَلَوْ تَسَلِ الأَيَّامُ مَا اسْمِيَ لما دَرَتْ ... وَأَيْنَ مَكَاني مَا عَرَفْنَ مكانِي ويروى: فَلَو تسْأَل الْأَيَّام بِي مَا عرفنني، ويُروى: مَا دَرَيْن بِي، فَقلت: من هُوَ؟ قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ: إِن السَّحابَ لَتَسْتَحْيِي إِذا نَظَرَتْ ... إِلَى نَدَاكِ فَقَاسَتْهُ بِمَا فِيها حَتَّى تَهُمَّ بإقلاعٍ فيجمعها ... خوف الْعُقُوبَةِ من عِصْيان مُنْشِيها فَقلت: لمن هُوَ؟ قَالَ: لأبي نواس. جميلَة من هُذَيْل حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن أَبِي خميصة الْأَضَاحِي وَيعرف بِأبي عَبْد اللَّه، الحَرَمِيّ، ويزدادُ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يزْدَاد المَرْوَزِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بكارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن دَاوُد الْمَخْزُومِيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بْن يَعْقُوب الثَّقَفيّ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي الزِّنَاد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة امرأةٌ من هُذَيل من نَاحيَة مَكَّة، وَكَانَت جميلَة وَمَعَهَا صبي، فَرغب الناسُ فِيهَا فخطبوها، فَكَادَتْ تذْهب بعقول أَكْثَرهم، فَقَالَ فِيهَا عبيد الله ابْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة بْن مَسْعُود: أُحِبُّك حبًّا لَو شَعَرت بِبَعْضِهِ ... لَجُدْتِ وَلَم يَصْعُبْ عَلَيْك شَدِيدُ أُحِبك حُبًّا لَا يحبُّك مثَلَهُ ... قريبٌ وَلا فِي العاشقين بعيدُ وحبك يَا أم الصَّبيِّ مُدَلِّهِي ... شهيدي أَبُو بَكْر فَنِعْمَ شَهِيدُ ويَعْرِفُ وَجْدي قاسمُ بنُ محمدٍ ... وعُروةُ مَا ألْقى بكم وسَعِيدُ

فقهاء المدينة السبعة

ويَعْلَمُ مَا ألْقى سُلَيْمَانُ عِلْمَهُ ... وخارجةٌ يُبْدي بِنَا ويُعيدُ مَتَى تسْألي عَمَّا أَقُول وتُخْبَرِي ... فلِلَّهِ عِنْدِي طارفٌ وتَلِيدُ فُقَهَاء الْمَدِينَة السَّبْعَة أَبُو بكر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِث بْن هِشَام، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وعُرْوَة بْن الزُّبَير، وسَعِيد بن الْمسيب ابْن حون، وسُلَيْمَان بْن يَسَار مَوْلَى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وخارجة ابْن يَزِيد بْن ثَابِت، وهَؤُلاءِ السِّتةُ وَهُوَ سابعهم " فقهاءُ الْمَدِينَة السَّبْعَة " الَّذِين أُخِذَ عَنْهُمُ الرَّأْي والسُّنَن، قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْن الْمُسَيِّب: أما أَنْت - واللَّهِ - فقد أَمِنْت أَن تسألنا وَمَا طمعتَ إِن سَأَلْتَنَا أَن نَشْهد لَك بزُورٍ - والْحَدِيث عَلَى لفظ الحَرَمِيّ - وَحَدِيث يزْدَاد نَحوه. جَارِيَة لِلْحَجَّاج تَشُكُّ فِي عِفَّة جرير حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن أَحْمَد الْمُزَني، قَالَ: قَالَتْ جَارِيَة لِلْحَجَّاج: يدْخل عَلَيْك جريرٌ فيشبِّبُ بالْحُرم، قَالَ: مَا علمتُه إِلا عفيفًا، قَالَتْ: فأَخْلِني وإياه، فأخلاهما. فَقَالَت: يَا جرير! فَنَكس رَأسه وقَالَ: هأنذا، فَقَالَت: بِاللَّهِ أَنْشدني قَوْلك: أوانِسُ، أمَّا مَنْ أردن عفاءه ... فعانٍ، وَمن أطْلقْنَ فَهُوَ طَلِيقُ دَعَوْنَ الهَوَى ثُمّ ارْتَمَيْن قلوبَنا ... بأسْهُمِ أعداءٍ وهنَّ صَدِيقُ فَقَالَ: مَا أعرف هَذَا، ولكنّي الْقَائِل: ومَنْ يأمنُ الحَجَّاجَ أمَّا نَكَالُهُ ... فصعبٌ وأمّا عِقْدُه فَوَثِيقُ وخِفْتُك حَتَّى اسْتَنْزَلَتْنِي مَخَافَتِي ... وَقَدْ كَانَ دُوني من عِمَايَةَ نِيقُ عمايةُ: جَبل، ونيق: أَعْلَاهُ. يُسِرُّ لَك البغضاءَ كلُّ منافقٍ ... كَمَا كُلُّ ذِي دينٍ عَلَيْك شفيق فَقَالَت: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُك يَا بغيضُ، بِاللَّهِ أَنْشدني قَوْلك: نَام الخلي وَمَا رقدت بحيلة ... ليل التَّمامِ تَقَلُّبَا وسُهُودَا مَا ضرَّ أهْلُكِ أَن يقولَ أميرُهُمْ ... قولا، إِذا نَزَل الْمُلِمُّ، سدِيدًا رَمَتِ الرُّماةُ فَلم تُصِبْكَ سِهَامُهُم ... وَرَأَيْت سهمك للرماةصيودا فَقَالَ: مَا أعرف هَذَا، ولكنّي الْقَائِل: دَعَا الحَجَّاجُ مثلَ دُعاءِ نوحٍ ... فَأَسْمع ذَا المعارج فاسْتَجَابا صبرت النفسَ يَا ابْن أَبِي عقيلٍ ... مُحَافظَة فَكيف ترى الثوابا

الحجاج يفضل شعر جرير

وَلَو لَمْ يَرْضَ رَبُّكَ لَمْ يُنزِّلْ ... مَعَ النَّصْر الملائكةَ الْغِضَابا فَقَالَت: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسأَلك يَا بغيض، أَنْشدني قَوْلك: إِن الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفها مرضٌ ... قتلننا ثُمَّ لَمْ يحيين قَتْلَانَا يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وهُنَّ أضْعَف خلق اللَّه أرْكَانَا فَقَالَ: مَا أعرف هَذَا، وَلَكِنِّي الْقَائِل: رَأَى الحَجَّاجُ عَافِيَة ونَصْرا ... عَلَى رَغْم الْمُنَافِقِ والحَسُود دَعَا أهلَ الْعِراق دعاءَ نوحٍ ... وَقَدْ ضَلُّوا ضَلالَةَ قومِ هُود فَقَالَت: لَيْسَ عَنْ هَذَا سألتُكَ يَا بغيضُ، بِاللَّهِ أَنْشدني قَوْلك: نَام الخليُّ وَمَا تنامُ هُمُومِي ... وكأنَّ لَيْلِي باتَ لَيْلَ سَلِيمِ كُنَّا نواصلكُمْ بحبْل مودةٍ ... فَلَقَد عجبتُ لحبْلِنا المَصْرُومِ وَلَقَد تَوَكَّلُ بالسُّهادِ لِحُبِّكُمْ ... عينٌ تبيتُ قليلةَ التَّهْوِيمِ إِن امْرَأً مَنَع الزِّيَارَة مِنْكُم ... حقًّا لَعَمْرُو أبيكِ غيرُ كريمِ فَقَالَ: مَا أعرفُ هَذَا وَلَكِنِّي الْقَائِل: وثِنْتَانِ فِي الحَجَّاجِ لَا تَرْكُ ظالمٍ ... سَوِيًّا وَلا عِنْد الْمُرَاشَاة قابِلُ وَمن غَلَّ مالَ اللَّهِ غُلّتْ يمينُه ... إِذا قِيلَ أدُّوا لَا يَغُلَّنَّ عَامِلُ وهما حَيْثُ يراهما الحَجَّاج، فَقَالَ: للَّهِ دَرُّك يَا ابْن الخَطَفَي، أبيتَ إِلا كَرَمًا وتَكَرُّمًا. الحَجَّاج يُفضِّل شِعر جرير حَدَّثَنَا المظفر بْن يَحْيَى، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس المَرْوَزِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِسْحَاق بْن سَعْدان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْد اللَّه الثَّقَفيّ، عَنْ خَاله مُحَمَّد بْن يَحْيَى، قَالَ: أنْشد الفَرَزْدَق الحَجَّاج: وَمَا يأْمنُ الْحَجَّاجَ وَالطَّيْرُ تَتَّقِي ... عُقُوبَتَهُ إِلا ضَعِيفُ الْعَزَائِمِ فَقَالَ الحَجَّاج: وَيحك يَا فَرَزْدق، واللَّهِ إِن الْحِبالَ لَتُوضَعُ للطير فتَتَنَحَّى عَنْهُ، مَا قَالَ جرير أحسنُ من هَذَا، حيثُ يَقُولُ: فَمَا يأمنُ الْحَجَّاجَ أما عِقابُهُ ... فَمُرٌّ وأمّا عَقْدة فوثيقُ يُسِرُّ لَك الشحناء كلُّ مُنَافِق ... كَمَا كلُّ ذِي دينٍ عَلَيْك شفيقُ براعةُ بشّارٍ فِي الشكاية إِلَى الْأَحْرَار حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن الْحَارِث الْعُقَيْليّ، ثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر بْن حبيب العَدَويّ، عَنِ الْأَصْمَعِي، قَالَ: لَمْ يقلْ أحدٌ قطُّ فِي التَفَرُّجِ

لؤلؤة ابن جعفر

بالمفاوضة إِلَى الْأَحْرَار، والتشكِّي إِلَى أَهْل الْحِفاظ والأقْدار، وذَوِي الرِّقَابِ والأخْطار، مثل قَول بشار حَيْثُ يَقُولُ: وأبْثَثْتُ عَمْرًا بعضَ مَا فِي جَوَانحي ... وجَرَّعْتُه من مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ وَلا بُدَّ من شكوى إِلَى ذِي حفيظةٍ ... إِذا جَعَلَتْ أسْرَارُ نَفْسِيَ تطْلُعُ لُؤْلؤةُ ابْن جَعْفَر حَدَّثَنَا أَبِي رَحْمَة اللَّه، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتَلَّي، أَنْبَأَنَا أَبُو حَفْصٍ النَّسَائِيُّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن حاتِم الجَرْجَرائي، سَمِعْتُ أَيُّوب بْن سيارٍ، يُحدِّث: أَن رَجُلا من أَهْل الْمَدِينَة بَعث بابْنتِهِ إِلَى عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، فَقَالَ: إِنَّا نُرِيد أَن نُخْدِرَها، وَقَدْ أحببتُ أَن تمسح بيدِكَ عَلَى نَاصِيَتها وتَدْعُوَ لَهَا بِالْبركَةِ. قَالَ: فأقعدها فِي حجره، وَمسح ناصِيتها، ودَعَا لَهَا بِالْبركَةِ، ثُمّ دَعَا مَوْلَى لَهُ فَسَارَّهُ بشيءٍ، فَذهب الْمولى ثُمّ جَاءَ فَأَتَاهُ بشيءٍ فَصَرَّهُ عَبْد اللَّه ابْن جَعْفَر فِي خِمار الفتاة ثُمّ دَفعهَا إِلَى الرَّسُول. قَالَ: فنظروا فَإِذا لؤلؤةٌ فأُخْرجت إِلَى السُّوقِ لتُباع فعُرِفَتْ وَقيل: لؤلؤةُ ابْن جَعْفَر حَبَا بِها ابنةَ جَارِه، قَالَ: فبيعتْ بِثَلَاثِينَ ألفِ دِرْهَم. ملكي خير من ملككما حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَر الأَزْدِيّ، ثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُفَضَّل بْن غَسَّان، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِر الدِّمِشْقي، حَدَّثَنَا هِشَام بْن يَحْيَى الغساني، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: خرج عبد اللك بْن مَرْوَان مِنَ الصَّخْرة فَأدْرك سُلَيْمَان بْن قَيْس الغساني وَابْن هُبَيْرة الْكِنْديّ وهما يمشيان فِي صحن بَيت المَقْدِس. قَالَ: فَمَا عَلِما حَتَّى وضع يَدَه الْيُمنى عَلَى مِنكَبِ سُلَيْمَان، وَيَده الْيُسْرَى عَلَى منْكب ابْن هُبَيْرة الْكِنْديّ، ثُمّ قَالَ: أفْرِجَا لملكٍ لَيْسَ كملك غَسّانَ وَلا كنْدة، قَالَ: فالتفتا فَإِذا أميرُ الْمُؤْمِنِين، فأرادا أَن يَفْخَرا بمُلكهما، فَقَالَ: عَلَى رَسْلكما، أَلَيْسَ مَا كَانَ فِي الإِسْلام خيرا مِمَّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالا: بلَى، قَالَ: فمُلكِي خيرٌ من مُلككم؟، قَالَ: ثُمّ مَشَيَا مَعَه حَتَّى أَتَيَا منزله فَدخل، فَأذن لَهما، فَقَالَ لَهما: إِن الشَّاعِر يَقُولُ: جاءتْ لتصْرَعَنِي فقلتُ لَهَا: ارْفُقِي ... وعَلى الرَّفيق من الرفيق ذِمامُ وَقَدْ صحبتماني من حَيْثُ رَأَيْتُمَا، ولكما بِذَلِك عَليّ حقٌّ وذِمَام، فَإِن أحببتما أَن تَرْفَعَا مَا كانتْ لَكمَا من حاجةٍ السَّاعة، وَإِن أحببتُما أَن تَنْصرفا فتذكَّرا عَلَى مهلكما فعلتما. قَالَ: فَمَا رفعا إِلَيْهِ حَاجَة إِلا قَضَاهَا المأمونُ يسألُ عَنِ الْعِشْق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَة

عبد الله بن طاهر يصلح زوجه ببيتي شعر

الشَّامي، قَالَ: سَأَلَ أَمِير الْمُؤْمِنِين الْمَأْمُون يَحْيَى بْن أَكْثَم عَنِ الْعِشْق مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ سوانح تَسْنَحُ للمرءِ فيهيمُ بهَا قَلْبُه، وتُؤْثرها نَفسه، قَالَ: فَقَالَ لَهُ ثُمامة: اسْكُتْ يَا يَحْيَى، إِنَّمَا عَلَيْك أَن تُجيب فِي مَسْأَلَة طلاقٍ، أَوْ فِي محرمٍ صَادَ ظَبْيًا أَوْ قَتَلَ نَمْلة، فَأَما هَذِهِ فَمَسائِلُنا نَحْنُ، فَقَالَ لَهُ المأمونُ: قُلْ يَا ثُمَامة، مَا الْعِشْق؟ فَقَالَ ثُمامةُ: العشقُ جليسٌ ممتع، وأليفٌ مُؤنس، وصاحبٌ ملك، مسالكه لَطِيفَة، ومذاهبه غامضة، وَأَحْكَامه جائرة، ملك الْأَبدَان وأرواحَها، والقلوبَ وخواطرها، والعيونَ ونَواضِرَها، والعقولَ وآراءَها، وأُعْطِيَ عِنانَ طاعتها، وقَوْدَ تَصَرُّفِها، توارى عَنِ الْأَبْصَار مَدْخَلُه، وعَمِيَ فِي الْقُلُوب مسلكه. فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَحْسَنت - واللَّهِ - يَا ثُمَامَة، وَأمر لَهُ بِأَلف دِينَار. عَبْدُ اللَّهِ بْن طَاهِر يُصْلح زَوْجَهُ ببيتي شعر حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن إِسْحَاق الجابري الْمَوْصِلِيّ بِالْبَصْرَةِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَاسر الْكَاتِب، كَاتب ابْن طولون، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن إِسْحَاق، قَالَ: اشْترى عَبْد اللَّه بْن طَاهِر جَارِيَة بخمسةٍ وَعشْرين ألفا عَلَى ابْنة عَمِّه، فوجِدَتْ عَلَيْه، وقعدتْ فِي بعض المقاصير، فمكثتْ شَهْرَيْن لَا تُكَلِّمه، فَعمل هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: إِلَى كَمْ يكونُ العَتْبُ فِي كل ساعةٍ ... وَكم لَا تملين القطيعة والهَجْرَا رُويدَكِ إنّ الدَّهْر فِيهِ كفايةٌ ... لِتَفْرِيقِ ذاتِ البَيْنِ فانتظري الدهرا قَالَ: وقَالَ لِلْجَارِيَةِ: اجلسي عَلَى بَاب المقصَورة فَغَنِّي بِهِ، قَالَ: فَلَمَّا غنت الْبَيْت لأوّل لَمْ تَرَ شَيْئا، فَلَمَّا غَنَّت الثَّانِي فَإِذا هِيَ قَدْ خرجتْ مشقوقة الثَّوْب حَتَّى أكبَّتْ عَليّ رِجْلِهِ فقَبَّلَتْها. الجوابُ من جنس السُّؤال حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، ثَنَا يَمُوت بْن الْمُزَرَّع قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَاتِم السّجِسْتانيّ، يَقُولُ: كَانَ رجلٌ يحبُّ الكلامَ وَيخْتَلف إِلَى حُسَيْن النَّجّار، وَكَانَ ثقيلاً متشادقاً لَا يدْرِي مَا يَقُولُ، فآذى حُسَيْنًا ثمَّ فطن لَهُ، فَكَانَ يعد لَهُ الجوابَ من جنس السُّؤَال فَيَنْقَطِع ويسكت، فَقَالَ لَهُ يَوْمًا: مَا تقولُ - أسْعَدَك اللَّه - فِي جَدٍّ يُلاشِي التوهيمات فِي عُنْفُوان الْقُرْبِ من دَرْكِ المطالب؟ فَقَالَ لَهُ حُسَين: هَذَا من وجُود فَوْتِ الكَيْفُوفِيَّة عَلَى غَيْر طَرِيق الحسوبية، وبمثله يَقع إِلَيْنَا قي الْمُجانَسَةِ عَلَى غَيْر تلاقٍ وَلا افْتِرَاق. فَقَالَ الرجلُ: هَذَا محتاجٌ إِلَى فِكْر واسْتخراج، فَقَالَ حُسَيْن: افتكرْ، فإنّا قَد استرحْنا. المجلِسُ الثَاني وَالثَلاثون زوجاتُ الرسولِ يسألْنَهُ النَّفَقَة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنِ سَعِيدٍ الْمُسَاحِقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ

تعليق وشرح لغوي

عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ مَحْجُوبِينَ بِبَابِهِ لَمْ يُؤْذَنْ لأحدٍ مِنْهُمْ، فَأَذِنَ لأَبِي بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ واجمٌ، فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ لأُمَازِحَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، وَلأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي آنِفًا النَّفَقَةَ، فَقُمْتُ إِلَيْهَا فَوَجَأْتُ فِي عُنُقِهَا. فَضَحِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: فَهُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلُنَّنِي النَّفَقَةَ، قَالَ: فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عَائِشَةَ فَوَجَأَ فِي عُنُقِهَا، وَقَامَ عُمَرُ إِلَى حَفْصَةَ فَوَجَأَ فِي عُنُقِهَا، وَكِلاهُمَا يَقُولُ: لِمَ تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَقُلْنَ: وَاللَّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَبَدًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ. تَعْلِيق وَشرح لغَوِيّ قَالَ القَاضِي: قَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر " ورسولُ اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسلم: واجم، الواجم: الحزين، والوجُومُ: الْحزن والفتور، يُقَالُ: وَجِم يَجِمُ وُجُومًا فَهُوَ واجم، مثل وقف يقف وقوفًا فَهُوَ وَاقِف. قَالَ الْأَعْشَى مَيْمُون بْن قَيْس: هُرَيْرَةَ وَدِّعْهَا وإنْ لَام لائِمُ ... غَدَاة غدٍ أمْ أَنْتَ لِلْبَيْنِ واجمُ وَقَول عُمَر: فَوَجَأْتُ عُنقها، مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَكَّ عُنُقَها بِيَدِهِ أَوْ غَيرهَا، وَمن الْعَرَب من يتْرك الْهَمْز فِيهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَكنت أذلّ مِنْ وتدٍ بقاعٍ ... يوجيء رَأسه بالفهر واجي وَقيل: إِن الشَّاعِر اضطُرَّ فَترك الْهَمْز لإِقَامَة الْوَزْن فِي الْبَيْت، كَمَا قَالَ الآخر: سَالَتْ هذيلٌ رَسُولَ اللَّهِ فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هذيلٌ بِمَا سالَتْ وَلَم تُصِبِ يُرِيد: سَأَلت. وقَالَ آخر: فارعَيْ فَزارَةُ ... لَا هَنَاكِ المرْتَعُ يُرِيد: هَنَّأك. خبر صَخْر بن شريد السُّلَمِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، أَنْبَأَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ: التقى صَخْرُ بْن عَمْرو بْن الشَّرِيد السُّلَمِيّ ورجلٌ من بني أَسد، فطعن الأَسَديّ صَخرًا، فَقِيل لصخر: كَيفَ طَعَنَك؟ قَالَ: كَانَ رُمْحُه أطولَ من رُمْحِي بأُنْبُوب، فَمَرض صخرٌ مِنْهَا فطال مرضُه، فكانتْ أمُّهُ إِذا سُئلت عَنْهُ، قَالَتْ: نَحْنُ بخيرٍ مَا رَأينَا سوادَه بَيْننَا، وَكَانَت امْرَأَته

خبر عن تحليل النبيذ، والاستطراد إلى حكمه

إِذا سُئِلت عَنْهُ، قَالَتْ: لَا حَيٌّ فيُرجَى، وَلا ميتٌ فيبكى، فَقَالَ صَخْر: أرى أمَّ صخرٍ مَا تَمَلٌّ عِيادتي ... ومَلَّتْ سُلَيْمَي مَضْجَعِي ومَكَاني إِذا مَا امرؤٌ سَوَّى بأُمٍّ حَلِيلَة ... فَلَا عَاشَ إِلا فِي شقًا وهوان لَعَمْري لقَدْ أيقظتَ لَو كَانَ نَائِما ... وأسمعتَ لَو كَانَتْ لَهُ أذُنَانِ بَصيرًا بِوَجْهِ الحَزْم لَو يَسْتَطِيعُهُ ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعِيرِ والنَّزَوانِ قَالَ القَاضِي، ويروى: أَهُمُّ بأمرِ الحزم لَو أستطيعه. وَقَول أم صَخْر، مَا رَأينَا سوَاده: أَيّ شَخْصَه، قَالَ الشَّاعِر: بَين المخارِم يَرْتَقِبْنَ سَوَادِي أَيّ شخصي. خبر عَنْ تَحْلِيل النَّبِيذ، والاستطراد إِلَى حكمه حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَدِّي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ، قَالَ: حَضَرْتُ شَرِيكًا فِي مَجْلِسِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَعِنْدَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالْجُرَيْرِيُّ رجلٌ مِنْ وَلَدِ جُرَيْرٍ، وَكَانَ خَطِيبًا لِلسُّلْطَانِ، فَتَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ فِي النَّبِيذِ الأَحْمَرِ وَاخْتِلافِهِمْ فِيهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: إِنَّا نَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ هَذِهِ الإِبِلِ وَنَشْرَبُ عَلَيْهَا مِنَ النَّبِيذِ مَا يَقْطَعُهَا فِي أَجْوَافِنَا وَبُطُونِنَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ، إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ، فَقَالَ شَرِيكٌ: أَجَلْ وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ، شَغَلَكَ عَنْ ذَلِكَ الْجُلُوسُ عَلَى الطَّنَافِسِ فِي صُدُورِ الْمَجَالِسِ وَسَكَتَ. فَتَذَاكَرَ الْقَوْمُ الْحَدِيثَ فِي النَّبِيذِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! حَدِّثِ الْقَوْمَ بِمَا سَمِعْتَ فِي النَّبِيذِ، فَقَالَ: كَلا، الْحَدِيثُ أَعَزُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ أَنْ يُعَرَّضَ لتكذيبٍ عَلَى مَنْ يَرُدُّ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ أَوْ عَلَى عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ. تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ قَالَ الْقَاضِي: مَا أَسْكَرَ مِنَ الأَنْبِذَةِ فَهُوَ خمرٌ مُحَرَّمٌ شُرْبُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الأَوْدِيُّ: كُلُّ شَرَابٍ مسكرٍ كَثِيرُهْ ... مِنْ عِنَبٍ أَوْ غيْرِهِ عَصِيرُهْ فَإنَّهُ محرمٌ يَسِيرُهْ ... إِنِّي لَكُمُ من شَرِّهِ نَذِيرُهْ ويحقق هَذَا مَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ ". وَقَدْ ذكرنَا فِي كتبنَا الْفِقْهِيَّة الدليلَ من الْكتاب والسُّنَّة وَالْقِيَاس، عَلَى تَحْرِيم الأَنْبذةِ الَّتِي

خلع عليه حتى استغاث

أحَلَّها من أَحلَّها من مُتَفَقِّهة العراقين. وذُكِر من ذَلِكَ شَيْخُنا أَبُو جَعْفَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي كتبه فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُخَالفين فِيهِ، ونَقْضِ مَا اعتلُّوا بِهِ مَا تشرّف بِهِ النَّاصح لنَفسِهِ، النَّاظِر لدينِهِ، المحقِّق فِي نظره عَلَى مَوضِع الصَّوَاب مِنْهُ، فَأَما الرِّوَايَة الَّتِي حدَّث بهَا شريكٌ عَنْ عُمَر رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهَا مَعْرُوفَة وَلها نَظَائِر مروية عَنْهُ، وَهِي فِي تَأْوِيلهَا غَيْر مخالفةٍ لما ذهب إِلَيْهِ مُخَالفونا، مُخطئون عندنَا فِي تَأْوِيل بَعْضهَا، فَكيف يُظَنُّ بعمر غَيْر مَا أضفنا من القَوْل إِلَيْهِ، وحَمَلْنا تَأْوِيل الرِّوَايَات عَنْهُ عَلَيْه، وَقَدْ ثَبت عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي ابْنه: إِن عُبَيْد اللَّه شرب شَرَابًا وَإِنِّي سائلٌ عَنْهُ، فَإِن كَانَ مُسْكِرًا حَدَدْتُه، فَسَأَلَ عَنْهُ فَكَانَ مُسْكرًا فَحَدَّه، فَلم يسْأَل أيُّ سائلٍ عَنْهُ: إِن كَانَ فِي نوعٍ مخصوصٍ أَوْ نيئًا غَيْر مطبوخ، وَلا قَالَ أيُّ سائلٍ عَنْ عُبَيْد اللَّه: هَلْ تَمَادى فِي شُرْب مَا شَرِبَهُ حَتَّى أسكره؟ أم اقْتصر عَلَى الْقَلِيل مِنْهُ؟ ووقف عِنْد مقدارٍ لَا يبلغ إِلَى السُّكْر بِهِ؟ وَقَدْ نُقِل عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَحدُّ فِي الرَّائحة، فَأخذ بِهَذَا جمهورُ المتفقهين من أَهْل الْمَدِينَة. وَلَيْسَ كتَابنَا هَذَا من مَوَاضِع الإطناب فِي هَذَا الْبَاب ومحاجّاة الْخُصُوم فِيهِ. خَلَع عَلَيْه حَتَّى اسْتَغَاثَ وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن إِسْحَاق بْن سَلام، قَالَ: أَتَى الْكُمَيْتُ بابَ مَخْلَد بْن يَزِيد بْن الْمُهَلّب يمدحه، فصادف عَلَى بَابه أَرْبَعِينَ شَاعِرًا، فَقَالَ للآذن: استأذنْ لي عَلَى الْأَمِير. فَاسْتَأْذن لَهُ عَلَيْه فإذِن لَهُ، فَقَالَ لَهُ: كم رأيتَ بِالْبَابِ من شاعرٍ؟ قَالَ: أربعينَ شَاعِرًا، قَالَ: فَأَنت جَالِبُ التَّمْرِ إِلَى هَجَر، قَالَ: فَإِنَّهُم جَلَبُوا دَقَلا وَجَلَبْتُ أَزَاذًا، قَالَ: فهاتِ أَزاذَك، فَأَنْشد: هَلا سألتِ منازلا بالأبْرَقِ ... دَرَسَتْ فَكيف سُؤَالُ من لَم يَنْطِقِ لعبتْ بهَا رِيحَانِ ريحُ عجاجةٍ ... بالسَّافِياتِ من التُّراب الْمُعْنِقِ والهَيْفُ رأئحةٌ لَهَا ينتاحُها ... طَفَلُ العَشِيِّ بِذِي حَنَاتِمَ شُرَّقِ الحَنَاتِمُ: جرارٌ خُضْر شَبَّه الغَيْمَ بهَا، والهَيْفُ: الرِّيحُ الحَارَّة، قَالَ القَاضِي: من الهَيفِ قولُ ذِي الرُّمَّة: وصَوَّحَ البَقْلَ مازيٌ يجيءُ بِهِ ... هيفٌ يمانيةٌ فِي مَرِّهَا نَكَبُ والحَنَاتِمُ: وَاحِدهَا حَنْتَمة وحَنْتَم، قَالَ الشَّاعِر فِي الحَنْتم: وأَقْفَر من حضارةٍ وِرْدُ أهْلِهِ ... وَقَدْ كَا يَسْقِي فِي قلالٍ وحَنْتَمِ وقَالَ فِي الحناتم: يَمْشُون حولَ مكدمٍ قَدْ كَدَّحَتْ ... مَتْنَيْهِ حَمْلُ حناتمٍ وقِلالِ

اعتذار بليغ لدى المأمون

قَوْله: كَدَّحَتْ متنيه حملُ حناتم، كَقَوْل الشَّاعِر: أرَى مَرَّ السِّنِينِ أَخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخذَ السِّرارُ من الْهِلالِ وَلِهَذَا نَظَائِر تُذكَرُ وتُشْرح عِلَلُها فِي مَوَاضِع أُخَر. تمامُ شِعر الْكُمَيْت: تصلُ اللِّقاحُ إِلَى النَّتَاجِ مَزِيَّةً ... لِحُقوق كوكبها وَإِن لَمْ يَحْقُقِ غَيَّرْنَ عهدَك بالديار وَمن يَكُنْ ... رَهْنَ الْحَوَادِث من جديدٍ يَخْلُقِ إِلا خَوالِدَ فِي المحلَّةِ بيتُها ... كالطَّيلَسَانِ من الرمادِ الأوْرَقِ مُتَبَجِّحًا تَرَكَ الولائدُ رأسَهُ ... مثلَ السِّوَاكِ ودَمُّهُ كالْمُهْرقِ دارُ الَّتِي تركتْك غيرَ ملومةٍ ... دنا فارع بهَا عَلَيْك وأشفق قَدْ كنتُ قبلُ تَتُوقُ من هجرانِها ... فاليومَ إذْ شحط المزارُ بهَا تَقِ والحبُّ فيهِ حلاوةٌ ومرارة ... سائلْ بِذَلِك من تَطَعَّمَ أَوْ ذُقِ مَا ذاقَ بُؤسَ معيشةٍ ونعيمَها ... فِيمَا مضى أحدٌ إِذا لَمْ يعشقِ من قَالَ رَبِّ أَخا الهموم وَلَم يبتْ ... غَرَضَ الْهُمُومِ ونَصْبِهِنَّ يؤرَّقِ حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله: بَشَّرْتُ نَفْسِي إذْ رأيتُك بِالغنَى ... ووثِقْتُ حِين سَمِعْتُ قَوْلك لي: ثِقِ فَأمر بِالْخِلَعِ عَلَيْه، فخُلِع عَلَيْه حَتَّى اسْتَغَاثَ، فَقَالَ: أَتَاك الْغَوْث، ارْفَعُوا عَنْهُ. اعتذارٌ بليغٌ لَدَى الْمَأْمُون حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم بْن جَعْفَر الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْل الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وإِبْرَاهِيم بْن عِيسَى، قَالا: دخل مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك بْن صَالِح عَلَى الْمَأْمُون - وَقَدْ كَانَتْ ضِياعُه حِيزَتْ وقُبضت - فَقَالَ: السَّلام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك بَيْنَ يَديك، سليلُ نِعْمَتك، وَابْن دَوْلتك، وغُصْنٌ من أغْصان دَوْحتك، أتأذنُ لي فِي الْكَلَام؟ قَالَ: نعم. فَتكلم فَقَالَ: الحمدُ للَّه ربِّ الْعَالمين، وَلا إِلَه إِلا اللَّهُ ربُّ الْعَرْش الْعَظِيم، وَصلى اللَّهُ عَلَى مَلَائكَته المقربين، وعَلَى مُحَمَّد خَاتَمِ النَّبِيِّين، ونستميحُ اللَّه لحياطةِ ديننَا ودنيانا، ورعايةِ أقصانا وأدنانا ببقائك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، ونسألُ اللَّهَ أَن يَمُدَّ فِي عمرك وَفِي أثرك من أعمارنا وآثارنا، وَأَن يَقِيكَ الأَذَى بأسْماعنا وأَبْصارنا، فَإِنّ الحقّ لَا تَعْفُو دياره، وَلا يتهدَّمُ مَسَارُه، وَلا يَنْبتُّ حبلُه، وَلا يَزُول ظِلُّه، مَا دمت ظلّ اللَّه فِي رَعيته، والأمين عَلَى عباده وبلاده. يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! هَذَا مقامُ العائذ بظلِّك، الهاربُ إِلَى كَنَفِك وفَضْلِك، الفقيرُ إِلَى

رحْمتك وعَدْلك، من تَعَاوُرِ الغوائب، وسهام المصائب، وكَلَبِ الدَّهْر، وَذَهَاب الوَفْر، وَفِي نظرِ أَمِير الْمُؤْمِنِين مَا فَرَّج كُرْبةَ المكروب، وبَرَّد غليل الملهوف. ثُمّ إنَّه تقدَّم من رَأْي أَمِير الْمُؤْمِنِين فِي الضِّياع الَّتِي أفادناها نعمُ آبَائِهِ الطاهرين، ونَوافِلُ أسْلافه الرَّاشدين، مَا اللَّهُ وليُّ الْخِيَرةِ فِيهِ لأمير الْمُؤْمِنِين، وَإِن عَبْد الْملك بْن صَالِح قَدِم الجزيرة حِين قدمهَا والحربُ لاقِح، والسيفُ مَشْهور، وَالشَّام قَدْ نَفِل أديمه، وتحطمتُ قُرُونُه، والسفيانيُّ قَد استعرتْ ناره، وكَثُرَتْ أنصاره، وَلبس للحرب لباسها، وأعَّد لَهَا أحَلاسها، وكُلُّنا يومئذٍ فِي ثَوب الْقِلَّةِ والصَّغار، بَيْنَ حربٍ دائرةٍ رحاها، وفتنةٍ تُصَرِّفُ بأنيابها، فكأنَّا نُهْزَةُ دواعيها، وغَرضُ راميها، إِذا ثارت عجاجةٌ من عجاجها لَمْ تَنْجَلِ إِلا عَنْ شِلْو مَأْكُول، أَوْ دمٍ مَطْلُول، أَوْ منزلٍ مَهْدوم، أَوْ مالٍ مَكْلُوم، أَوْ قلبٍ يَجِف، أَوْ عين تَذْرِف، أَوْ حرمةٍ حَرَّى، أَوْ طَرِيدَة وَلْهى، قَدْ أتْعَسَ اللَّهُ جَدَّها، تهتفُ بسِّيدها أَمِير الْمُؤْمِنِين مِنْ تَحت رَحَا الدَّهْر، وكَلْكَل الفَقْر، وَتَدْعُو اللَّه بإلباس الصَّبْر، وإعداد النَّصْر، فَالْحَمْد للَّه المتطول عَلَى أوليائك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، إعزازَ نصرك، الْمُبَلِّغهم الْيَوْم الَّذِي كَانُوا يأْمُلُون، والأمَدَ الْأَقْصَى الَّذِي كَانُوا ينتظرون. ثُمّ إِنِّي قمتُ هَذَا الْمقَام متوسِّلا إِلَيْك بآبائك الطَّاهرين، بالرشيد خير الهداة الرَّاشِدين، والمَهْدِيِّ ربيع السِّنين، والمنصورِ نَكَالِ الظَّالمين، ومحمدٍ خير المحمَّدين بعد خَاتم النَّبِيين والمرسليين، وبعليٍّ زَيْن العابدين، وَبِعَبْد اللَّه تَرْجُمانِ الْقُرآن ولسان الدّين، وبالعباس وَارِث سيِّد الْمُرْسلين، مُزْدَانًا إِلَيْك بِالطَّاعَةِ الَّتِي أفرغ اللَّه عَلَيْهَا غُصْني، واحتنكتْ بهَا سِنِّي، وسِيطَ بهَا لحمي وَدمِي، مُتَعَوِّذًا من شماتة الأعداءِ، وحلول الْبلَاء، ومقارنة الشِّدَّة بعد الرخَاء. يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! قَدْ مضى جَدُّكَ المنصورُ وعَمُّكَ صالِحُ بنُ عليٍّ وَبَينهمَا من الرَّضاعِ والنَّسَبِ مَا قَدْ علم أميرُ الْمُؤْمِنِين، فَكَانَ ذَلِكَ لَهُ خصُوصًا ولبني أَبِيهِ عُمُوما، فَسبق بِهِ بني أَبِيهِ، وَفَاتَ بِهِ أقربيه، وَهُوَ صَاحب الجعديّ الناجم فِي مصر، حِين اجتثَّ اللَّه أصْله، وأيْبَس فَرْعَه، وصرعَهُ مَصْرَعَه، وَهُوَ صاحبُ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ حِين دَعَا الشَّيْطَانُ أولياءَهُ فَأَجَابُوهُ، وَرفع لَهُم لواءَ الضَّلالَةِ فاتَّبعُوه. وَهُوَ صاحبُ عِيسَى بْن مُوسَى حِين رمى الْخلَافَة بِبَصَرِه، وسَمَا إِلَيْهَا بنظره، وَمَشى إِلَيْهَا البَخْتَرِيّ، وَلبس لباسَ وُلاةِ العهود، حَتَّى أثبت اللَّه الحقَّ فِي نِصابه، وأقرَّهُ فِي قِرابه. يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! الدَّهْرُ ذُو اغتيال، وَقَدْ تقلَّب بِنَا حَالا بعد حَال، فليرحم أميرُ الْمُؤْمِنِين الصِّبْيةَ الصِّغَار، والعجائزَ المحجوباتِ الْكِبَار، واللاتي سقاهُنَّ الدَّهْر كَدرًا بعد صفوٍ، ومُرًّا بعد حلْو، وهَنيئًا نِعَمُ آبَائِك اللَّاتِي غَذَتْنا صغَارًا وكبارًا، وشبابًا وأمشاجًا فِي الأصلاب، ونُطَفًا فِي الْأَرْحَام، وقَرّبْنا بِحَيْثُ قَرَّبنا اللَّه مِنك فِي القَرابة والرَّحِم، فَإِن رقابَنا قَدْ ذَلَّتْ لِسَخَطك، وَإِن وُجُوهنا قَدْ عَنَتْ لموْجَدَتِك، فأقلنا عَثْرَة عاثرنا، وعَلى اللَّه المليِّ

المجلس الثالث والثلاثون

الْجَزَاء، وَإِن الْحق فِي يدك، فهبْ لنا مَا قصّرنا فِيهِ من تَرْك الرِّمَمِ البالية، للأُمَمِ الخالية، مِنَّا فِي طَاعَة آبَائِك، فقد مَضَوْا مُتَمَسِّكِينَ بأقوى وسائلها، معتصمين بأقوى حبائلها، يوالون فِيهَا الْبعيد الجنيب، ويُنَادون فِيهَا الْقَرِيب الحبيب، عَلَى ذَلِكَ مَضَوْا وَبَقينَا حَتَّى يَرِثَنا اللَّه عَزَّ وَجَلّ، وَهُوَ خيرُ الْوَارِثين. يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن اللَّه عَزَّ وَجَلّ سَهَّل بك الْوُعُور، وجَلَّى بك أَن تجور، ومَلأَ من خَوفِك القلوبَ والصُّدُور، وَجَعَل اسْمك حبلا كثيفًا، وجَبَلا منيفًا، يردعُ بك الْفَاسِق، ويقمع بك الْمُنَافِق، فَارْتَبَطَ نِعَم اللَّه عز وَجل عَنْك بِالْعَفو وَالْإِحْسَان، فَإِن كلَّ إمامٍ مسؤل عَنْ رَعيته، وَإِن النعم لَا تَنْقَطِع بالمزيد فِيهَا حَتَّى ينقطعَ الشُّكْرُ عَلَيْهَا. يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إنَّه لَا عَفْوَ أفضلُ من عَفْو إمامٍ قادرٍ عَلَى مذنبٍ عَاثِر، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: " وليعفو وَلْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لكم ". حاط اللَّهُ أَمِير الْمُؤْمِنِين بسَتْرِهِ الضَّافي، وصُنْعِه الْكَافِي، ثُمّ قَالَ: أميرَ الْمُؤْمِنِين أَتَاك ركبٌ ... لَهُم قُرْبَى ولَيْسَ لَهُم بلادُ همُ الصَّدْر الْمُقدم من قُرَيْش ... وَأَنت الرأسُ يتبعك العبادُ فقد طابت لَك الدُّنْيَا ولذتْ ... وأرجُو أَن يطيب لَك المَعَادُ فَقَالَ الْمَأْمُون: يفعلُ ذَلِكَ بِمَشِيئَة اللَّه، وأسأله التَّوْفِيق فِي الرِّضَا عَنْك، والإجابة إِلَى مَا سَأَلت، وَأَن يُعقب ذَلِكَ محبوبًا بِمَنِّهِ، وَجَمِيل عَادَته فِي مثله. وَأمر بردِّ ضيَاعه، وَأحسن جائزته، وَقضى حاجاته. المجلِسُ الثالِث وَالثلاثُونْ لَا حَلِيم إِلا ذُو عَثْرَة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَوْهِبُ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْحَارِث، عَن دراج بن السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، وَمُحَمّد بْنُ إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: " لَا حَلِيمَ إِلا ذُو عَثْرَةٍ، وَلا حَكِيمَ إِلا ذُو تَجْرِبَةٍ ". قَالَ القَاضِي: وَهَذَا الخبرُ من بليغ الْحِكْمَة الَّتِي أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعلمهَا أُمته، والعاثُر إِذا كَانَ لبيبًا، والمجرِّب إِذا كَانَ مُحنَّكًا أريبًا، فَتبين هَذَا مغبة عثرته، وتهذَّب هَذَا بعواقب تجربته، استشعرا الحذار، وأنعما الِاعْتِبَار، واستصحبا الاستبصار، فتحرزا من

بنو أمية وتنقصها لعلي

العثار، وتنزَّها عَنْ تورُّطِ الْخبط والاغترار، وَقَدْ قَالَ بعض الْعلمَاء الربانيين، وَمن بَصَّره اللَّه رُشْده فِي الدُّنْيَا وَالدّين: لقَدْ عثرتُ عَثْرَة لأُختبرْ ... سَوف أكيسُ بعْدهَا واسْتَمِرّ وَفِي قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طائفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هم مبصرون ". مَا يُؤَيّد هَذَا وَيشْهد لَهُ. جعلنَا اللَّه وإيّاكُم مِمَّنْ يُؤثر حَظه من الخليقة الْحسنى، والطريقة المثلى، عَلَى حَظِّ نَفسه من الْهوى. بَنو أُمَيَّة وتنقُّصها لعليّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن خضر، عَنْ سَعِيد بْن عُثْمَان الْقُرشي، قَالَ: سَمِع عامرُ بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير ابْنه ينالُ من عَلِيّ بْن أبي طَالِب عَلَيْه السَّلام، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! لَا تَنْتَقِصْهُ، فَإِن بَنِي أُمَيَّة تَنَقَّصَتْهُ ثَمَانِينَ عَاما فَلم يَزِدْهُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِك إِلا رِفْعةً، إِن الدّين لَمْ يَبْنِ شَيْئا فهدَّمتْه الدُّنْيَا، وَإِن الدُّنْيَا لَمْ تَبْنِ شَيْئا إِلا رجعتْ عَلَى مَا بنتْ فهدَّمته. التخلُّص البارع حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بَكَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم التَّمِيمِي، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَضْل بْن الرَّبِيع يحدث عَن أَبِيه، قَالَ: كُنَّا وقوفًا عَلَى رَأس المَنْصُور وَقَدْ طرحت للمهدي وسَادَة، إِذْ أقبل صَالِح ابْنه فَوقف بَيْنَ السماطين وَالنَّاس عَلَى مقادير أسنانهم ومواضعهم، وَقَدْ كَانَ يرشحه لبَعض أُمُوره، فَتكلم فأجاد، وَمد المَنْصُور يَده إِلَيْهِ ثُمّ قَالَ: يَا بني إليَّ واعتنقه، وَنظر فِي وُجُوه أَصْحَابه: هَلْ يذكر أحدٌ فَضله، ويصف مقامة؟ فكلهم كره ذَلِكَ، فَقَامَ شَبَّة بْن عقال بْن معية بْن نَاجِية التَّمِيمِيّ، فَقَالَ: للَّه در خطيب قَامَ عنْدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! ماأفصح لِسَانه، وَأحسن بَيَانه، وأمضى جنانه، وأبل رِيقه وَكَيف لَا يَكُون كَذَلِك وأمير الْمُؤْمِنِين أَبوهُ وَالْمهْدِي أَخُوهُ، وهما كَمَا قَالَ زُهَيْر بْن أَبِي سلمي: يطْلب شأو امرأين قدما حسنا ... نالا الْمُلُوك وبذا هَذِهِ السِّوقَا هُوَ الْجواد فَإِن يلْحق بشأوهما ... على تكاليفه فَمثله لَحقا أَو يسبقاه عَلَى مَا كَانَ من مهلٍ ... فَمثل مَا قدما من صالحٍ سبقا قَالَ الرَّبِيع: فَأَقْبَلَ عَليّ أَبُو عُبَيْد اللَّه فَقَالَ: واللَّه مَا رَأَيْت مثل هَذَا تخلص، أرْضى أَمِير الْمُؤْمِنِين، ومدح الْغُلَام، وَسلم من الْمهْدي. قَالَ: والتفت إِلَى المَنْصُور فَقَالَ: يَا ربيع! لَا ينصرفن التَّمِيمِيّ إِلا بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم.

قصة عجيبة في البراعة في علم النجوم

قصَّة عَجِيبَة فِي البراعة فِي علم النُّجُوم حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس البرتي، قَالَ: حُدِّثْتُ أَن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر كَانَ مولودًا بحدِّ السرطان، فَلَمَّا أَن كَانَ ذَات لَيْلَة جمع أَهْل بَيته، فَقَالَ: إِنِّي مولودٌ بِحَدّ السرطان، وَإِن طالع السّنة السرطان، وَإِن الْقَمَر اللَّيْلَة ينكسف فِي السرطان وَهِي لَيْلَة الْأَحَد، فَإِن نجوت فِي هَذِهِ اللَّيْلَة فسأبقى سِنِين، وَإِن تكن الْأُخْرَى فَإِنِّي ميتٌ لَا محَالة. فَقَالُوا لَهُ: بل يُطِيل اللَّه تَعَالَى. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَة دَعَا غُلَاما لَهُ، كَانَ قَدْ علمة النُّجُوم، فأصعده إِلَى قبَّة لَهُ فَأعْطَاهُ بَنَادِق واصطرلابًا، وقَالَ لَهُ: خُذ الطالع فَكلما مضى من انكساف الْقَمَر دقيقة فاقذف إِلَى ببندقة حَتَّى أَعْلَم ذَلِكَ. وَجلسَ محمدٌ مَعَ أَصْحَابه فَجعل الْغُلَام كلما مضى من انكساف الْقَمَر دقيقة رمى إِلَيْهِ ببندقة، فَلَمَّا انكسف من الْقَمَر ثُلثه قَالَ لأَصْحَابه: مَا تَقولُونَ فِي رَجُل قَاعد مَعكُمْ يقْضِي ويمضي وَقَدْ ذهب ثلث عمره، وَقَالُوا لَهُ: بل يُطِيل اللَّه تَعَالَى عمرك أَيهَا الْأَمِير. فَلَمَّا مضى من الْقَمَر ثُلُثَاهُ عمد إِلَى جواريه فَأعتق مِنْهُنَّ من أحبّ، ووقف من ضيَاعه مَا وقف، وقَالَ لَهُم: " مَا تَقولُونَ فِي رَجُل معلم يقْضِي ويمضي، وَقَدْ ذهب ثلثا عمره، فَقَالُوا لَهُ: بل يُطِيل اللَّه عمرك أَيهَا الْأَمِير، فَلَمَّا مضى من الثَّالِث دقيقتان قَالَ لَهُم مُحَمَّد إِذا استغرق الْقَمَر فأمضوا إِلَى أَخِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن طَاهِر، ثُمّ قَامَ فاغتسل وَلبس أَكْفَانه وَتحفظ وَدخل إِلَى بيتٍ لَهُ وردَّ عَلَيْه الْبَاب واطضجع، فَلَمَّا استغرق الْقَمَر فِي الانكساف فاضت نَفسه، فَدَخَلُوا إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ ميت، فَانْطَلقُوا إِلَى عُبَيْد اللَّه أَخِيهِ ليعلموه فَإِذا عُبَيْد اللَّه أَخُوهُ فِي طيارة عَلَى الْبَاب قَدْ سبقهمْ، فَقَالَ لَهُم: أمات أَخِي؟ قَالُوا: نعم، فَقَالَ: مَا زلت آخذ لَهُ الطالع حَتَّى استغرق الْقَمَر فِي الْكُسُوف، فَعلمت أَنَّهُ قَدْ قبض، ثُمّ دخل فأكبَّ عَلَى أَخِيه باكيًا طَويلا ثُمّ خرج وَهُوَ يَقُولُ: هد ركن الْخلَافَة الموطود ... زَالَ عَنْهَا السرادق الْمَمْدُود حط فسطاطها الْمُحِيط عَلَيْهَا ... هوت أطنابها فَمَال العمود يَا كسوفين لَيْلَة الْأَحَد النح ... س أضلتكما النُّجُوم السُّعْود أحد كَانَ حَده، من نحوسٍ جمعت ... حَدهَا إِلَيْهِ الأحود أحدٌ كَانَ حَده مثل حد السي ... ف وَالنَّار شب فِيهَا الْوقُود كسف الْبَدْر والأمير جَمِيعًا ... فانجلى الْبَدْر والأمير عميد عاود الْبَدْر نوره لتجلي - يه وَنور الْأَمِير لَا يعود

الكسوف والخسوف

أظلمت بعده الْخلَافَة والدن ... يَا عَلَيْهَا كآبة وجمودُ لأمور قَدْ كَانَ دبر مِنْهَا ... مبرما وَقَدْ مضى وَمِنْهَا عنيد قَدْ بكاه الْعرَاق والشرق والغر ... ب فمنهما تهائمٌ ونجود وَبكى حاسدوه حزنا عَليّ ... هـ وَبكى بعده الْعَدو الحقود يَا ابْن عَبْد الْإِلَه لَمْ يَك للمو ... ت إِلَى مَنْ سواك عَنْك محيد قَالَ: فَلَمَّا حمل عَلَى السرير أنشأ يَقُولُ: تداوله الأكف عَلَى سري ... أَلا للَّه مَا حمل السرير أكف لَو تمد إِلَيْهِ حَيا ... إِذا رجعت وأطولها قصير تباشرت الْقُبُور بِهِ وأضحى ... تبكيه الأرامل وَالْفَقِير الْكُسُوف والخسوف قَالَ الْقَاضِي: وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ. وَقِيلَ فِيهِ الْكُسُوفُ وَالانْكِسَافُ بِالْكَافِ وَاللُّغَةُ الْجَيِّدَةُ: خَسَفَ الْقَمَرُ بِالْخَاءِ، قَالَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَخسف الْقَمَر ط، وَجَاء عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يُكْسَفَانِ لِمَوْتِ أحدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلاةِ " فِي خبرٍ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ الشَّمْسَ انْكَسَفَتْ عَلَى عَهْدِهِ. وَقَد اخْتلف اللغويون فِي هَذَا فَقَالَ بَعضهم: يُقَالُ: كسفت الشَّمْس إِذا لحق الْكُسُوف بَعْضهَا وخسفت إِذا استغرق الْكُسُوف جَمِيعهَا. وقَالَ بَعضهم: يُقَالُ: كسفت الشَّمْس وَخسف الْقَمَر، وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد، وقَالَ أَوْس بْن حجر فِي عَبْد اللَّه بْن فَضَالَة: ألم تكسف الشَّمْس شمس النها ... ر والنجم للجبل الْوَاجِب ويروى: الْبَدْر فِيمَا أروي. وَالصَّلَاة عِنْد الْكُسُوف سنة مَعْرُوفَة، وَقَد اخْتلف فِي صفتهَا وَعدد ركعاتها، والجهر والمخافتة فِي الْقِرَاءَة فِيهَا، وَكَانَ مَالك يرى الِاجْتِمَاع لَهَا فِي كسوف الشَّمْس دون الْقَمَر، وَكَانَ غَيره يرى الِاجْتِمَاع للصَّلَاة فِي الخسوفين مَعًا، وقَالَ جرير يرثي عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز: الشَّمْس طالعةٌ لَيست بكاسفةٍ ... تبْكي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا وَقَد اخْتلف الروَاة فِي رِوَايَة هَذَا الْبَيْت، فَرَوَاهُ البصريون: الشَّمْس طالعة لَيست بكاسفةٍ، وَرَوَاهُ الْكُوفِيُّونَ الشمسُ كاسفةٌ لَيست بطالعةٍ، وَرَوَاهُ بعض الروَاة: ويبكي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا، وَرَوَاهُ بَعضهم: يبكي عَلَيْك نُجُوم اللَّيْل والقمرا.

القول في فاضت نفسه وفاظت

وَقد اخْتلف أَصْحَاب الْمعَانِي وَأهل الْعلم من الروَاة وذووا الْمعرفَة بالإعراب من النُّحَاة فِي تَفْسِير وُجُوه هَذِهِ الرِّوَايَات وقياسها فِي الْعَرَبيَّة. وَفِي ذكر ذَلِكَ طولٌ لَا يحْتَملهُ هَذَا الْموضع، وَقَدْ ذَكرْنَاهُ فِي مَوضِع هُوَ أولى بِهِ، عَلَى أنني سأذكر عِنْد آخر تَفْسِير مَا فِي هَذَا الْخَبَر طرفا يشرف عَلَى جملَة هَذَا الْبَاب إِن شَاءَ اللَّه. القَوْل فِي فاضت نَفسه وفاظت وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: فَلَمَّا استغرق الْقَمَر فِي الإنكساف فاضت نَفسه، مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَاتَ وَفَارق الْحَيَاة وَخرجت نَفسه، وَفِي هَذِهِ اللَّفْظَة لُغَتان محكيتان عَنِ الْعَرَب بالظاء وَالضَّاد عَلَى مَا سنبينه إِن شَاءَ اللَّه. وَقد يُقَال: فاذ وفاز فِي هَذَا الْمَعْنى فِي أحرف كَثِيرَة. وَقَد اخْتلف أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي مَوَاضِع مِمَّا يَأْتِي فِيهِ فاظ وفاض، وَأَنا أذكر مَا حضرني من جملَة القَوْل فِيهِ مِمَّا حُكيَ عَنِ الْعَرَب، وَمَا أروى من مَذَاهِب اللغويين فِيهِ، غَيْر مستقصٍ لجَمِيع مَا روينَاهُ لِسَعَتِهِ وغيبة كثيرٍ مِنْهُ، وَمن يقف عَلَى مَا أثْبته من هَذَا الْبَاب هَاهُنَا يشرف عَلَى مَعْرفَته، ويشرك الْعلمَاء بِهِ فِي إِدْرَاك جملَته أَوْ معظمه، إِن شَاءَ اللَّه. فمما روينَاهُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاه مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن الطُّوسيّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدة، عَنِ الْكسَائي، قَالَ: يُقَالُ: فاظت فسه وفاض الميتُ نَفْسَهُ، وأفاظ اللَّه تَعَالَى نَفْسَهُ، قَالَ: وَبَعض بني تَمِيم يَقُولُ: فاضت نَفسه بالضاد. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَن وأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن الْحَكَم، عَنْ أَبِي الْحَسَن اللحياني، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت بالظاء، وفاض الْمَيِّت بالضاد. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي: قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن وسيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوب بْن السّكيت، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت يفوظ، وفاظ يفيظ. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الجهم، عَنِ الفَرَّاء، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت نَفسه بالظاء وَنصب النَّفْس، قَالَ أَبُو بَكْر، وأنشدني أَبِي، قَالَ: أَنْشدني أَبُو عِكْرمَة الضَّبِّيّ: وفاظ ابْن حَضْرَة عانيًا فِي بُيُوتنَا ... يمارس قدا فِي ذِرَاعَيْهِ مصحبًا " الْمُصْحَب ": الَّذِي عَلَيْه وَبَرُه. وقَالَ رُؤْبة: لَا يَدْفِنُونَ مِنْهُمُ من فَاظَا قَالَ القَاضِي: وقَالَ ابْن السِّكِّيت فِي كتَاب الْأَلْفَاظ، ويُقَالُ: فاظ الرَّجُل وفاظت نَفسه تفيظ فيظاًوفووظاً، وَقَالَ رؤبة: لَا يفنون مِنْهُمُ من فَاظَا

أَيّ من هلك. وقَالَ الْكسَائي: فَاظَ هُوَ نَفْسُه، وأَفَظْتُهُ أَنَا نَفْسَه، قَالَ: وقَالَ أَبُو عُبَيْدة: وَمن الْعَرَب من يَقُولُ فاضت نَفسه بالضاد، وَأنْشد لبَعض الرُّجَّاز: اجْتمع النّاس وَقَالُوا عُرْسُ ... زَلَحْلَحَاتٌ مائراتٌ مُلْسُ فَفُقِّئتْ عينٌ وفاضَتْ نفسُ ... إِذا قصاعٌ كالأكُفِّ خَمْسُ قَالَ: وقَالَ الْكسَائي: ناسٌ من تَمِيم يَقُولُونَ: فاضت نَفسه تفيض. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ: أَتَيْنَا رَجُلا من بني مَخْزُوم، وَكَانَ مَوْلَى ضاحية بني تَمِيم، فَوَافى دُكَيْنُ الراجز، فَقَالَ: للبواب: إِنِّي أُلاع إِلَى السجْن أدْخِلني، فَأبى البواب أَن يُدْخِلَه، فَوقف دُكَيْن الراجز عَلَى دكانٍ وَقَد انْصَرف بعضُ الْقَوْم، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: اجْتمع النَّاس وقَالُوا عُرْسُ ... إِذا قصاع كالأكَفِّ خَمْسُ زَلَحْلَحاتٌ قَدْ جُمِعْنَ مُلْسُ ... فَفُقِّئَتْ عينٌ وفاظت نفسُ فَقَالَ لَهُ البواب: من أَنْت لَا حيَّاك اللَّه؟ قَالَ: أَنَا دُكَيْنُ الراجز، فَأدْخلهُ. قَالَ أَبُو بَكْر، قَالَ لي أَبِي، قَالَ أَحْمَد بْن عُبَيْد: أُلاع مَعْنَاهُ: أتوقَّدُ حِرصًا عَلَيْه، ويحترق فُؤَادِي طلبا لَهُ، قَالَ القَاضِي: من هَذَا قَول الْأَعْشَى: ملمعٍ لاعَةِ الْفُؤَاد عَلَى الجح ... ش فَلاهُ عَنْهَا فَبِئْسَ الفَالي قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الزَّلَحْلحات: الَّتِي تجول وَتذهب فكَأَنَّها لَا تَقَرُّ فِي مَوضِع وَاحِد - وَجرى بَيْنَ الْأَصْمَعِي وَأبي عُبَيْدة فِي هَذَا الْبَاب تَشَاجُرٌ ومُنَازَعة - وفاظت نفس، فَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْعَرَب لَا تَقُولُ: فاظت نَفسه وَلا فاضت نَفسه، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: فاظ الرَّجُل إِذا مَاتَ وطَنَّ الضِّرس. وقَالَ أَبُو عُبَيْدة: كذب الْبَاهِلِيّ - يَعْنِي الْأَصْمَعِي -: مَا هُوَ إِلا فاظت نفس. قَالَ القَاضِي: قَول الْأَصْمَعِي: وطنَّ الضِّرس إخبارٌ مِنْهُ، لِأَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة فِي تَمام هَذَا الْبَيْت: وَطن الضرس مَكَان وفاظت نفس، وَقَدْ أَتَى فِي هَذَا أَربع رِوَايَات: فاظت نفسٌ وفاضت نفسٌ، وَطن الضرس وطَنَّتْ ضرس، وَاسْتشْهدَ بِهَذِهِ الرِّوَايَة من رَأَى تَأنيث الضِّرس عَلَى معنى تَأْنِيث السِّنِّ. وقَالَ أَبُو حَاتِم فِي الضرس: رُبمَا أنَّثوه عَلَى معنى السِّنِّ، قَالَ: وَأنكر الْأَصْمَعِي تأنيثه، قَالَ: وأنشدنا قَول دُكَيْن الراجز: ففقئت عينٌ وطنت ضِرسُ إِنَّمَا هُوَ: وطَنّ الضرس، قَالَ: فَلم يفهمهُ الَّذِي سَمعه، وَأَخْطَأ سَمعه. قَالَ أَبُو بَكْر: قَالَ أَصْحَاب الْكسَائي والفَرَّاء وَمن نقل عَنْهُمَا، فَقَالَ: فاضت نَفسه

توجيه إعراب بيت جرير

وفاظت نَفسه، وفاظ الْمَيِّت نَفسه وأفاظه اللَّه نَفسه. وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر: قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق القَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا نصر بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، عَنْ أبي عَمْرو بْن الْعَلَاء، قَالَ: يُقَالُ: فاظ الْمَيِّت وَلا يُقَالُ: فاظت نَفسه، وعَلى قَول من أجَاز فاضت نَفسه تفيض، قَالَ الشَّاعِر: كَادَت النّفْسُ أَن تفيضَ عَلَيْهِ ... إِذْ ثَوَى حَشْوَ ريطةٍ وبُرُودِ قَالَ القَاضِي: وَأرى أَن من قَالَ: فاض الْمَيِّت مَكَان فاظ، أَخذه من قَوْلهم: فاظ الْإِنَاء إِذا طفح فَخرج مِنْهُ بعض مَا فِيهِ، وفاض الدمع: إِذا انحدر وسال، فَكَأَن النَّفْس لما ضَاقَ بهَا الْحَيّ لَمْ يحملهَا فَفَاضَتْ وسالت، يُقَالُ: نفس سَائِلَة، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْس: ففاضتْ دُموعُ العَيْنِ منِّي صبَابةً ... عَلَى الَّنْحر حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمَلِي وقَالَ الْأَعْشَى: مِن ديارٍ بالهَضْبِ هَضْبِ القَلِيبِ ... فَاضَ مَاءُ الشُّئُونِ فَيْضَ الْغُرُوبِ أنشدنا أَبُو مُحَمَّد بْنُ الْحَسَن بْن عُثْمَان الْبَزَّار، قَالَ: أَنْشدني مُحَمَّد ابْن الرُّومِي مَوْلَى الطاهري. فِي أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن جرير الطَّبَرِيّ: كَانَ بَحْرًا من الْعُلُوم فَلَمَّا ... فاضَ بالنَّفْس غاضَ بحرٌ مَعِينُ من لَهُ بَعْدَهُ إِذا هُوَ لَا هُوَ ... مَثْلُهُ غَيْرُهُ عَلَيْه أمينُ وقَالَ ابْنُ السّكيت، وقَالَ الأَصْمَعِيّ: وَجَب الرَّجُل فَهُوَ وَاجِب إِذا مَاتَ، وَأنْشد لقيس بن الخطيم: أطاعت بَنو عوفٍ أَمِيرا نَهَاهُم ... عَنِ السِّلْمِ حَتَّى كَانَ أوّلَ وَاجِبِ قَالَ القَاضِي: فعلى هَذَا التَّأْوِيل قَدْ يُحمل الجبلَ الواجبُ الَّذِي فِي الْبَيْت، الَّذِي قدمنَا رِوَايَته عَنْ أَوْس بْن حجر: أَن يَكُون مَعْنَاهُ: الْمَيِّت، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي: الْوَاقِع السَّاقِط، وَمن قَوْلهم: وَجَبَتِ الشَّمس إِذا سقط الْقُرْصُ، وقَالَ اللَّه تبَارك وتَعَالَى: " فَإِذا وَجَبت جنوبها ". تَوْجِيه إِعْرَاب بَيت جرير وَنحن الْآن مُنْجِزُو مَا وَعَدْنا فِي الْبَيَان عَنِ اخْتِلاف النَّحْوِيين فِي قَول جرير: تَبْكِي عَلَيْك نُجُوم اللَّيل والقَمَرَا وَفِي إِعْرَاب نُجُوم اللَّيْل، وَفِي وَجه نَصَبِ قَوْله: والقمرا، فَأَما من رَوَى: الشَّمْس طالعةٌ لَيست بكاسفةٍ فَإنَّهُ ينصب: نُجُوم اللَّيْل بإعمال كاسفة، كَمَا يُقَالُ: هِيَ ضاربةٌ عَبْد اللَّه، ويعطف الْقَمَر عَلَى نُجُوم اللَّيْل، وَقَوله: تبْكي صفة لقَوْله الشَّمْس طالعة، وتبكي فِي مَوضِع رفع، كأَنَّه قَالَ: طالعة باكية، وَقَدْ يَكُون تبْكي فِي مَوضِع نَصَبِ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنى الْحَال، إِمَّا من

الشَّمْس أَوْ من التَّاء فِي لَيست، كأَنَّه قَالَ: لَيْسَت فِي حَالَة بكاء، وَقَدْ تكون سادَّةً مسد خبر لَيْسَ، وَنصب نُجُوم اللَّيْل بكاسفة. وَأشهر الجوابات فِي هَذَا وأعرفها، وأقربها مأخذًا أَن جملَة معنى هَذَا القَوْل: أَن الشَّمْس لَمْ تَقْوَ عَلَى كَسْفِ النُّجُوم وَالْقَمَر لإظلامها وكسوفها، وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ: نَصَبِ نُجُوم اللَّيْل بقوله: تبْكي، وَالْمعْنَى: تبْكي عَلَيْك مُدَّة نُجُوم اللَّيْل وَالْقَمَر، فنصب عَلَى الظّرْف. وَحكى عَنِ الْعَرَب: لَا أُكَلِّمك سَعْد الْعَشِيرَة أَيّ زَمَانَه، وقَالَ آخَرُونَ: المعني تغلب ببكائها عَلَيْك بكاءَ نُجُوم اللَّيْل، وَفِي هَذَا التَّأْوِيل وَجْهَان، أَحَدهمَا أَن يَكُون أُرِيد بالنجوم وَالْقَمَر الساداتُ الأماثل، كَمَا قَالَ النَّابِغَة فِي مدح النُّعْمَان بْن الْمُنْذر: ألم تَرَ أَن اللَّه أَعْطَاك سُورةً ... تَرى كُلّ ملكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ فَإنَّك شمس والملوكُ كواكبُ ... إِذا طلعتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ وَقَدْ تَأَول الْمُفَضَّل الضَّبِّيّ قَول الفَرَزْدَق: أخذْنا بآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُم ... لنا قمراها والنجومُ الطوالِعُ أَنَّهُ عَنى بالقمر: مُحَمَّدًا وإِبْرَاهِيم صلّى اللَّه عَلَيْهِمَا، وبالنجوم الطوالع: أَئِمَّة الدّين وخلفاء الْمُسْلِمِين، وَإِن كَانَ غَيره قَدْ تَأَول ذَلِكَ أَنَّهُ الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب، وَمثل هَذَا أَيْضا: وَمَا لتغلب إِن عدوا مساعيهم ... نجمٌ يُضيءُ وَلا شمسٌ وَلا قَمَرُ وَهَذَا التَّأْوِيل فِي تبْكي أَي تغلب ببكائها من الْبَاب الَّذِي يُقَالُ فِيهِ: خاصمني فَخَصمته وغالبني فغلبته، كَمَا قَالَ الأخطل: إِن الفَرَزْدَق صَخْرَة ملمومةٌ ... طَالَتْ فَلَيْس نيالها الأوعالا يُرِيد: طَالَتْ الأوعال فَلَيْسَتْ تنالها أَنْت، ذهب إِلَى هَذَا أَبُو بَكْر بْن الْأَنْبَارِي، وَمَا علمت أحدا سبقه إِلَيْهِ، وجائزٌ أَن يَكُون الْمَعْنى: أَن الأوعال ليستْ تنَال الصَّخرة وَقَدْ طالتها، وَتَكون من بَاب الفاعلين والمفعولين اللَّذين يفعل كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه مثل مَا فعل بِهِ، مثل: ضربت وضربني زيدٌ وزيدًا، وَلِهَذَا مَوضِع ييسر فِيهِ. وَأما من رَوَى: نُجُوم اللَّيْل والقمرا، فَإنَّهُ من بَاب الْمَفْعُول مَعَه، كَقَوْلِهِم: اسْتَوَى المَاء والخشبة، وَمَا صنعت وأباك، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: فكونُوا أنْتُمُ وَبَنِي أَبِيكُمْ ... مَكَانَ الْكُلْيَتَيْنِ من الطَّحَالِ ويروى: الشَّمْس كاسفةً لَيست بطالعة، فَإنَّهُ استعظم أَن تطلع وَلا تكسف مَعَ الْمُصَاب. وَمثل: ألم تكسف الشَّمْس فِي الْبَيْت الَّذِي قدمنَا ذكره، مثل هَذَا قَول الشَّاعِر: أَيَا شَجَرَ الخابُور مَالَكَ مُورقًا ... كأنَّكَ لَمْ تَجْزَع عَلَى ابْن طَرِيف

احذر هؤلاء الخمسة

فَتى لَا يُحِبُّ الزَّادَ إِلا من التُّقَى ... وَلا المالَ إِلا من قَنَاةِ سُيُوفِ احذر هَؤُلاءِ الْخَمْسَة حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد مولى بني هِشَام، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْقُرَشِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْهُذلِيّ، عَنْ أَبِي حَمْزَة الثمالِي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْن عَلِيّ، قَالَ: قَالَ لي أَبِي: يَا بني! انْظُر خَمْسَة لَا تحادِثْهُمْ وَلا تُصَاحِبْهُمْ، وَلا تُرى مَعهم فِي طَرِيق، قُلْتُ: يَا أبه! جُعِلتُ فِدَاكَ، من هَؤُلاءِ الْخَمْسَة؟ قَالَ: إياك ومصاحبةَ الْفَاسِق، فَإنَّهُ يبيعك بأكلةٍ أَوْ أقل مِنْهَا، قُلْتُ: يَا أبه! وَمَا أقل مِنْهَا؟ قَالَ: الطمع فِيهَا ثُمّ لَا ينالها. قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الثَّانِي؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الْبَخِيل، فَإنَّهُ يخذلك فِي مَاله أحْوج مَا تكون إِلَيْهِ، قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الثَّالِث؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الْكذَّاب فَإنَّهُ يقرب مِنْك الْبعيد ويباعد مِنْك الْقَرِيب، قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الرَّابِع؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الأحمق، فَإنَّهُ يحذرك مِمَّنْ يُرِيد أَن ينفعك فيضرك، قُلْتُ: يَا أبه! وَمن الْخَامِس؟ قَالَ: إياك ومصاحبة الْقَاطِع لرحمه، لِأَنِّي وجدته ملعونًا فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي الَّذِين كفرُوا، " فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ " إِلَخ، وَفِي الرَّعْد " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ " الآيَةَ، وَفِي الْبَقَرَة: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا " إِلَى آخر الآيةِ. وَاحْذَرْ هَؤُلاءِ إِن ... حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن وسيم، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن أَخِي الْأَصْمَعِي، عَنْ عمّه، قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بْن الْعَلاء: يَا عَبْد الْملك: كن من الْكَرِيم عَلَى حذرٍ إِن أهنته، وَمن اللَّئِيم إِذا أكرمته، وَمن الْعَاقِل إِذا أحرجته، وَمن الأحمق إِذا مازحته، وَمن الْفَاجِر إِذا عاشرته، وَلَيْسَ من الْأَدَب أَن تجيب من لَا يَسْأَلك، وَلا تسْأَل من لَا يُجيبك، أَوْ تُحَدِّث من لَا يُنْصِت لَك. قَالَ القَاضِي: وَكَأن قَول البحتري: وسألتُ من لَا يستجيب فَكنت فِي اس ... تخباره كمجيب من لَا يسْأَل مأخوذٌ من قَول أبي عَمْرو فِي هَذَا الْخَبَر، وَمَا ذكره من سُؤال من لَا يُجيب، وَإجَابَة من لَمْ يسْأَل. معنى تعاوره الشُّعَرَاء حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن إِسْحَاق الحائري الْمَوْصِلِيّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: كُنْت فِي منزل أَبِي عَبْد اللَّه نفطويه إِذْ دخل عَلَيْه غلامٌ هاشمي نضر الْوَجْه، فَقَالَ لَهُ: يَا أستاذ! قَدْ عملت من الشّعْر بَيْتَيْنِ اسمعهما، فَقَالَ: أنْشد، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: كم صديقٍ منحته صفو ودي ... فجفاني وملني وقلاني

ربما نفع الحمق

قل مَا مل ثُمّ عاود وَصلي ... بَعْدَمَا ذمّ صُحْبَة الخلان قَالَ نفطويه: يَا موصلي! لَيْسَ تجيئون بِمثل هَذِهِ الملاحات. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فأمسكتُ سَاعَة ثُمّ عملتُ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ: أَحْمد اللَّه مَا امتحنت صديقا ... لي إِلا نَدِمت عِنْد امتحاني لَيْت شعري خصصت بالغدر من ... كُلّ صديقٍ أم ذَاك حكم الزَّمَان قَالَ القَاضِي: وَقد قَالَ متقدموا الشُّعَرَاء ومتأخروهم فِيمَا تضمنته هَذِهِ الأبيات الْأَرْبَعَة مَا يتعب جمعه ويشق استيعابه، ولعلنا نودع مجَالِس كتَابنَا هَذَا كثيرا مِنْهُ إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا: ذممتك جاهدًا حَتَّى إِذا مَا ... بلوت سواك عَاد الذَّم حمدا وَلَم أحمدك من خيرٍ وَلَكِن ... وجدت سواك شرا مِنْك جدا فعدت إِلَيْك مبتئسًا ذليلا ... لِأَنِّي لَمْ أجد من ذَاك بدا كذي جوعٍ تحامى أكل ميتٍ ... فَلَمَّا اضْطر عَاد إِلَيْهِ شدا وَالْبَيْت السائر فِي هَذَا الْمَعْنى: عتبتُ عَلَى بشرٍ فَلَمَّا جفوته ... وعاشرت أَقْوَامًا بكيتُ عَليّ بشر رُبمَا نفع الْحمق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ، حَدَّثَنَا ابْن الْمُدبر، قَالَ: انْفَرد الرشيد وعِيسَى بْن جَعْفَر بْن المَنْصُور والْفَضْل بْن الرَّبِيع فِي صيد من الموكب، فَلَقوا أَعْرَابِيًا مليحاً فصيحًا فولع بِهِ عِيسَى إِلَى أَن قَالَ لَهُ: يَا ابْن الزَّانِيَة! فَقَالَ: بئس مَا قُلْتُ، قَدْ وَجب عَلَيْك ردهَا أَو الْعِوَض، فارض بِهَذَيْنِ المليحين يحكمان بيني وَبَيْنك، فَقَالَ: قَدْ رضيت، فَقَالا: يَا أَعْرَابِي! خُذْ مِنْهُ دانقين عوضا من شتمك، فَقَالَ: أَهَذا الْحُكْمُ؟ فَقَالا: نعم، فَقَالَ: هَذَا درهمٌ وأمكم جَمِيعًا زانيه، وَقد أرجحت لَكمَا بترك مَا وَجب لي. فغلب عَلَيْهِم الضحك، وَمَا كَانَ لَهُم سرُور يومهم ذَلِكَ غَيْر الْأَعرَابِي، وَضم الرشيد الْأَعرَابِي إِلَيْهِ وَخص بِهِ، وَكَانَ يَدعُوهُ فِي أكثرالأوقات، فَكَانَ الْأَعرَابِي بعد ذَلِكَ يَقُولُ للرشيد: لَو عرفت لأبقيت، ولربما نفع الْحمق. المجلِسُ الرَّابِع وَالثَلاثونْ شكره الله أَربع خِصَال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهَ الْعَلَوِيُّ الْعَيَّاشِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بن

تعليق المؤلف

جَعْفَر ابْن أَبِي طَالِبٍ الْجَعْفَرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْخَصِيبِ الْحَنَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ بَزَّازٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ شَكَرَكَ عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ كُنْتَ عَلَيْهِنَّ مُقِيمًا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا هُنَّ؟ قَالَ جَعْفَرٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَوْلا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَبَّأَكَ بِهِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ عَنْ نَفْسِي كَرَاهِيَةَ التَّزْكِيَةِ. إِنِّي كَرِهْتُ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ لأَنِّي رَأَيْتُهَا لَا تَنْفَعُ وَلا تَضُرُّ، وَكَرِهْتُ الزِّنَا لأَنِّي كَرِهْتُ أَنْ يُؤْتَى إِلَيَّ، وَكَرِهْتُ شُرْبَ الْخَمْرِ لأَنِّي رَأَيْتُهَا مُنْقِصَةً لِلْعَقْلِ، وَكُنْتُ إِلَى أَنْ أَزِيدَ فِي عَقْلِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَنْقِصَهُ، وَكَرِهْتُ الْكَذِبَ لأَنِّي رَأَيْتُهُ دَنَاءَةً. تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر من المحاسن لظَاهِر مَا فِيهَا من الْفَضْل لِذَوي اللب وَالْعقل، مَا لَا خَفَاء بِهِ لمن أحسن النّظر لنَفسِهِ، ونصح لَهَا، وحرص عَلَى رشدها وصلاحها، ونزهها عَمَّا يرديها ويشينها. وَقَدْ أَتَت الشَّرِيعَة بِالدُّعَاءِ إِلَى هَذِهِ الْخِصَال، ووكدتها وحضت عَلَيْهَا وأيدتها، وَذَلِكَ أظهر من أَن يحْتَاج إِلَى ذكر مَا أَتَى بِهِ التَّنْزِيل، وأَنْبَأَ بِهِ الرَّسُول، وَرُوِيَ عَنْ عُلَمَاء أَهْل الْفِقْه والتأويل، وَأولى التَّقَدُّم فِي الْفَهم والتحصيل، وَالْأَمر فِيهِ أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى الإطلالة بإحضار مَا رُوِيَ فِيهِ. وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لما يرضيه، وعصمنا من الضَّلَالَة وهدانا لصالح الْأَعْمَال وَحميد الفعال، وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيد، الْعلي الْمجِيد. مَا كَانَ زِيَاد يَقُوله للرجل إِذا ولاه عملا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدة، عَنْ يُونُس، قَالَ: كَانَ زيادٌ إِذا وُلّى رَجُلا عملا قَالَ لَهُ: خُذْ عَهْدك وسر إِلَى عَمَلك، وَاعْلَم أنَّكَ مَصْرُوف رَأس سنتك، وَأَنَّك تصير إِلَى أَربع خلال، فاختر لنَفسك، إِنَّا إِن وجدناك أَمينا ضَعِيفا استبدلنا بك لضعفك، وسلمتك من معرتنا أمانتك، وَإِن وجدناك قَوِيا خائنًا استهنَّا بقوتك، وأحسنَّا عَلَى خِيَانَتك أدبك، وأوجعنا ظهرك، وثقلنا غرمك، وَإِن جمعت علينا الجرمين جَمعنَا عَلَيْك المضرتين، وَإِن وجدناك أَمينا قَوِيا زِدْنَا فِي عَمَلك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مَالك، وأوطأنا عقبك. معنى أوطأنا عقبك قَالَ القَاضِي: قَول زِيَاد: وأوطأنا عقبك، يُرِيد أَن نشرفك وننوه بك ونرفع من قدرك، فيكثر أتباعك، ويطأ الرِّجَال عقبك، باتبَاعهمْ إياك، وازدحامهم فِي موكبك، وَالْعرب تَقُولُ للرجل إِذا وَصفته بالسؤدد: فلَان موطأ الأعقاب، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

معاوية وإعجابه بولده يزيد

يَا سيِّدًا مَا أَنْتَ مِنْ سيدٍ ... مُوَطَّأَ الأَعْقَابِ رَحَب الذِّرَاعِ قَوَّالَ معروفٍ وَفَعَّالَهُ ... وَهَّابَ أُمَّاتِ الفصال الرِّبَاع قَالَ هَذَا فِي الشّعْر: موطأ الأعقاب، وَإِنَّمَا للْإنْسَان عقبان عَلَى أحد وَجْهَيْن، إِمَّا أَن يَكُون رَأْي الْإِثْنَيْنِ جمعا. كَمَا قَالَ اللَّه جلّ جَلَاله: " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قَالُوا: لَا تَخَفْ، خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بعض " إِلَى قَوْله: إِنَّ هَذَا أَخِي ... ، وَإِمَّا يَكُون جمع العقبين بِمَا حولهما كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا ... شُرُفَاتُهُ اللَّبَّاتُ وَالنَّحْرُ فَجَمَعَ اللَّبَّة بِمَا حَوْلَهَا. وقَالَ: أمات فِي جمع أم، وَهَذَا مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب، وَقَدْ زعم بَعضهم أَن أمات تسْتَعْمل فِي الْبَهَائِم وَأُمَّهَات تسْتَعْمل فِي الأناسي، وَالْجُمْهُور عَلَى تَجْوِيز ذَلِكَ فِي الْجَمِيع، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِر: إِذَا الأُمَّهَاتُ قَبَحْنَ الْوُجُوه ... فَرَجْتَ الظَّلامَ بِأُمَّاتِكَا وَفِي مَوَاضِع من هَذَا الْبَاب خلاف بَيْنَ الْكُوفِيّين والبصريين لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره، واللغة الْمَشْهُورَة أُمَّهَات، وَفِي الْوَاحِدَة هَاء مقدرَة، وَرُبمَا أظهرت، كَمَا قَالَ الراجز: أُمَّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي واللغة الْعَالِيَة المستفيضة السائرة الَّتِي جَاءَ بهَا الْقُرْآن الْكَرِيم فِي مَوَاضِع كَثِيرَة: أم وَأُمَّهَات، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأمه آيَة "، وقَالَ تَعَالَى: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ". مُعَاوِيَة وإعجابه بولده يَزِيد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الأضَاحِيُّ الْمَعْرُوفُ بِحَرَمِيٍّ، ثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّه بْن شَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن عَمْرو ابْن مُعَاوِيَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسَتْ مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيَّةُ تُرَجِّلُ ابْنَهَا يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَمَيْسُونُ يَوْمَئِذٍ مُطَلَّقَةٌ، وَمُعَاوِيَةُ وَفَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِمَا، وَيَزِيدُ وَأُمُّهُ لَا يَعْلَمَانِ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ تَرْجِيلِهِ نَظَرَتْ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهَا وَقَبَّلَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بَيْتًا مِنَ شِعْرٍ: إِذَا مَاتَ لَمْ تُفْلِحْ مُزَيْنَةُ بَعْدَهُ ... فَنُوطِي عَلَيْه يَا مُزَيْنُ التَّمَائِمَا قَالَ: وَمَضَى يزِيد فَأتبعهُ فَاخِتَةُ بَصَرَهَا، وَقَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ سَوَادَ سَاقَيْ أُمِّكَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ رَأَيْتِهَا؟ أَمَا وَاللَّهِ عَلَى ذَاك لَمَا فَرَّجَتْ عَنْهُ وَرِكَاهَا خيرٌ مِمَّا تَفَرَّجَتْ عَنْهُ وَرِكَاكِ. وَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ مِنْ بِنْتِ قَرَظَةَ عَبْدُ الله، وَكَانَ أَحمَق النَّاسِ، قَالَتْ فَاخِتَةُ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّكَ تُؤْثِرُ هَذَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: سَوْفَ أُبَيِّنُ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى تَعْرِفِيهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومِي مِنْ مَجْلِسِكِ، يَا غُلامُ! ادْعُ لِي عَبْدَ اللَّهِ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا بُنَيَّ! إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ

سيدة النساء

أُسْعِفَكَ وَأَنْ أَصْنَعَ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، فَسَلْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَسْتَ تَسَلْهُ شَيْئًا إِلا أَعَطَاكَهُ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْتَرِيَ لِي كَلْبًا فَارِهًا وَحِمَارًا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا بُنَيَّ! أَنْتَ حِمَارٌ وَنَشْتَرِي لَكَ حِمَارًا، قُمْ فَاخْرُجْ، قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ يَا غُلامُ! ادْعُ لي يزيداً، فَدَعَاهُ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يُسْعِفَكَ وَيُوَسِّعَ عَلَيْكَ وَيَصْنَعَ بِكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ، فَاسْأَلْهُ مَا بَدَا لَكَ، قَالَ: فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي بَلَّغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَأَرَاهُ فِي هَذَا الرَّأْيَ، حَاجَتِي أَنْ تَعْقِدَ لِيَ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِكَ، وَتُوَلِّيَنِي الْعَامَ صَائِفَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُحْسِنَ جَهَازِي وَتُقَوِّيَنِي، فَتَكُونَ الصَّائِفَةُ أَوَّلَ أَسْفَارِي، وَتَأْذَنَ لِي فِي الْحَجِّ إِذَا رَجَعْتُ وَتُوَلِّيَنِي الْمَوْسِمَ، وَتُزِيدَ أَهْلَ الشَّامِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَتجْعَل ذَلِك بشفاعتي، وتفرض لأَيْتَامِ بَنِي جُمَحَ وَأَيْتَامِ بَنِي سَهْمٍ وَأَيْتَامِ بَنِي عَدِيٍّ، قَالَ: مَالك وَلِبَنِي عَدِيٍّ؟ قَالَ: لأَنَّهُمْ جَالَفُونِي وَانْتَقَلُوا إِلَى دَارِي، قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ - إِذَا رَجَعْتَ - ذَلِكَ بِكَ، وَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَقَالَ لابْنَةِ قَرَظَةَ: كَيْفَ رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَوْصِهِ بِي، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، فَفَعَلَ. قَالَ القَاضِي: قدر روينَا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر، وَفِيه: أنَّ عَبْد اللَّه سَأَلَ مَالا وأرضًا، وَأَن يَزِيدَ قَالَ لمُعَاوِيَة: اعْتِقْني من النَّار أعتق اللَّه رقبتك من النَّار، فَقَالَ لَهُ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنِّي وجدتُ فِي الْأَثر أَنَّهُ " من تقلَّد أَمر الأُمَّةِ ثَلَاثَة أَيَّام حَرّمه اللَّهُ عَلَى النَّار "، فاعهد إِلَيّ من بعْدك. سيدة النّساء حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعِجْلِيُّ الْبَزَّازُ الْمَعْرُوفُ بِالْمَرَاجِلِيِّ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُمَرَ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُجَالِدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَرَّ بِي مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا شَعْبِيُّ! قُمْ، فَقُمْتُ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي وَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْقَصْرَ فَقَصَّرْتُ، فَقَالَ: ادْخُلْ يَا شَعْبِيُّ، فَدَخَلَ حُجْرَةً فَقَصَّرْتُ، فَقَالَ: ادْخُلْ يَا شَعْبِيُّ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتًا فَقَصَّرْتُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَدَخَلْتُ، فَإِذَا امْرَأَةٌ فِي حَجَلَةٍ، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ هَذِهِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذِهِ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لَيْلَى، وتمثَّل: وَمَا زلتُ فِي ليلى لَدُنْ طَرَّ شَاربي ... إِنِّي الْيَوْم أُخْفِي حُبَّها وأداجنُ وأحْمِلُ فِي ليلى لقومٍ ضغينةً ... وتُحْمَلُ فِي ليلى عليَّ الضغائنُ ثُم قَالَ لي: يَا شَعْبِي! إِنَّهَا اشتهتْ عليّ حَدِيثك، فحادثْها، وَخرج وتَرَكنا. قَالَ: فَجعلت أُنْشِدُها وتُنْشِدُني، وأحادثها وتحادثُني حَتَّى أنشدتها قَول قَيْس بْن ذُرَيْح: أَلا يَا غُراب البَينْ قَدْ طِرْتَ بالَّذِي ... أُحاذِرُ من لُبْنَى فَهَل أنْتَ واقِعُ تبْكي عَلَى لُبنى وَأَنت قتلتَها ... وَقَدْ هلكتْ لُبْنَى فَمَا أَنْت صَانِعُ قَالَ: فَلَقَد رَأَيْتهَا وَفِي يَدهَا غراب تنتفُ ريشَه وتضربُه بقضيبٍ وتَقُولُ لَهُ: يَا مَشُوم. وغراب يُضرب فِي سوق الطير حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير، قَالَ: قَالَ الْخَلِيل بْن سَعِيد: مررتُ بسوق الطير فَإِذا النّاس قَد اجْتَمعُوا يركبُ بعضُهم بَعْضًا فاطلعت فَإِذا أَبُو السّائب قَابِضا عَلَى غرابٍ يباعُ قَدْ أَخَذَ طرف رِدَائه، وَهُوَ يَقُولُ للغراب يَقُولُ لَك قَيْس بْن ذُرَيْح:

وجارية تغني في ذمه

أَلا يَا غُراب البَينْ قَدْ طِرْتَ بالَّذِي ... أُحاذِرُ من لُبْنَى فَهَل أَنْت واقعُ ثُمّ لَا يَقع ويضربه بردائه والغراب يَصِيح. وَجَارِيَة تُغنِّي فِي ذَمِّه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَمُوت بْن الْمُزَرّع، قَالَ: كُنْت آتِي أَبَا إِسْحَاق الزيَادي إِذْ مَرَّت بِهِ أمةٌ سَوداء شَوْهاء، فَقَالَ لَهَا: يَا عُنَيْزة! أسمعيني: مَرَّ بالبَيْن غرابٌ فَنَعَبْ فَقَالَت: لَا: واللَّهِ، أَو تهب لي قِطْعَة. فَأخْرج صريرة من جيبه فناولها قِطْعَة أريت أَن فِيهَا ثَلَاث حباتٍ، فَوضعت الجرة على ظهرهَا وَقَعَدت عَلَيْهَا ثُمّ رفعت عقيرتها: مَرّ بالبَيْنِ غُرَابٌ فنعب ... لَيْت ذَا الناعبَ بالبين كَذَبْ فلحاك اللَّهُ من طيرٍ فقد ... كنت لَو شئتَ غَنِيًّا أَن تُسَبْ قَالَ أَبُو بَكْر: فأحْسَنَتْ. هَذَا الطَّائِر الْمَظْلُوم وأنشدني الحكيمي لأبي الشيص: النَّاس يلحون غرا ... ب الْبَيْنِ لما جَهلُوا ومَا غُرَابُ الْبَين إِلا ... ناقةٌ أَوْ جَمَلِ وَمَا على ظهر غرا ... ب البَيْنُ تُمطى الرِّحَلُ وَلا إِذا صَاح غرا ... ب فِي الديار احتملوا مَا فرق الألاف بِعْ ... د اللَّه إِلا الإبلُ قَالَ القَاضِي: وأنشدني مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن مقسم، قَالَ: أَنْشدني أَحْمَد بْن يَحْيَى لِأَحْمَد بْن مَيَّة - وَهُوَ أحد الظرفاء - شعرًا:

حقق الله لهم أمنياتهم

يسبُّ غرابَ الْبَين ظُلْمًا معاشرُ ... وهم آثروا بُعْدَ الحبيب عَلَى الْقُرْبِ وَمَا لغرابِ البينِ ذنبٌ فأبتدي ... بِسَبِّ غُرابِ الْبَين لكنه ذنبِي فيا شَوْقُ لَا تَنْفَدْ وَيَا دَمْعُ فِضْ وزِدْ ... وَيَا حُبُّ راوح بَيْنَ جنبٍ إِلَى جنبِ وَيَا عاذلي لُمْني ويَا عَائِدي الْحَنِي ... عَصَيتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي التُّرْبِ إِذا كَانَ ربِّي عَالما بسريرتي ... فَمَا النَّاسُ فِي عَيْني بأعظمَ من رَبِّي حقق اللَّه لَهُم أمنياتهم حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْن الْقَاسِم الكوكبي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا، كُنَّا بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ أَنَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن الزبير، وَمصْعَب بن الزبير، وَعبد الْملك بن مَرْوَان، قَالَ الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ حَدِيثِهِمْ: لِيَقُمْ رجلٌ رجلٌ مِنْكُمْ فَلْيَأْخُذْ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَيَسْأَلِ اللَّهَ حَاجَتَهُ، فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَعَةٍ. قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَإِنَّكَ أَوَّلُ مولودٍ وُلِدَ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عظيمٌ، أَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ وَحُرْمَةِ عَرْشِكَ، وَبِحُرْمَةِ نَبِيِّكَ، أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْحِجَازَ وَيُسَلَّمَ عَلَيَّ بِالْخِلافَةِ. وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا مُصْعَبُ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَامَ فَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رَبُّ كُلِّ شيءٍ وَإِلَيْكَ يَصِيرُ كُلُّ شيءٍ، أَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شيءٍ أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي الْعِرَاقَيْنِ، وَتُزَوِّجَنِي سُكَيْنَةَ بنت الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَقَامَ وَأَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرَضِينَ السَّبْعِ، ذَاتِ النَّبْتِ بَعْدَ الْقَفْرِ، أَسْأَلُكَ بِمَا سَأَلَكَ الْمُطِيعُونَ لأَمْرِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحُرْمَةِ وَجْهِكَ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ، وَبِحَقِّ الطَّائِفِيِنَ حَوْلَ بَيْتِكَ، أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوَلِّيَنِي شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَلا يُنَازِعُنِي أحدٌ إِلَّا أتيت بِرَأْسِهِ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى جَلَسَ. ثُمَّ قَالُوا: قُمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَامَ حَتَّى أَخَذَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رحمنٌ رَحِيمٌ، أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي سَبَقَتْ غَضَبَكَ، وَأَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ، أَلا تُمِيتَنِي مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تُوجِبَ لِيَ الْجَنَّةَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَا ذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى رَأَيْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ أُعْطِيَ مَا سَأَلَ مِنَ الدُّنْيَا، وَبُشِّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْجَنَّةِ.

أسلوب الحكيم

أسلوب الْحَكِيم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو، حَدَّثَنَا أَبُو عبد الله الْقرشِي، حدثنامحمد بْن الضَّحَّاك الْخُزَاعيّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَمر الحَجَّاج بإحضار الغَضْبَانِ بْن القَبَعْثَرِي، وقَالَ الحَجَّاج: زَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يكذبْ قَطُّ، وَالْيَوْم يكذب، فَلَمَّا دخل عَلَيْه، قَالَ: قَدْ سَمِنْتَ يَا غَضْبَان! قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، القَيْدُ والرَّتْعَةُ، والخَفْضُ والدَّعَة، وقِلَّةِ التَّعْتَعَة، وَمن يكن ضيف الْأَمِير يَسْمَن، قَالَ: أتُحِبُّني يَا غَضْبَان؟ قَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، أَوْ فرقٌ خيرٌ من مَحَبَّتي، قَالَ: لأحملنَّك عَلَى الأَدْهم، قَالَ: مثلُ الْأَمِير حَمَلَ عَلَى الأدهم والكميت الْأَشْقَر، قَالَ: إنَّه حَدِيد، قَالَ: لِأَن يَكُون حديدًا خيرٌ من أَن يَكُون بليدًا. الرّدُّ الخَالِص حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاسُ الْمَرْثَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الطلحي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! واللَّهِ لَكَأَنَّ عِمَّتُكَ هَذِهِ خِمْرَةُ هِنْدٍ عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهَا فِيمَا يُوصَفُ لِي. قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهُ مُعَاوِيَةُ بِشَيْءٍ. وَدَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: مرْحَبًا، هَاهُنَا فأجلسه بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعِيدٍ عَلَى السَّرِيرِ، فَسَاءَلَهُ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كَيْفَ بِرُّ هَذَا بِكَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا أَرَدْتُ بِهَذَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: وَمَا أَرَدْتَ بِخِمْرَةِ هِنْدٍ. لَوْلَا الْحيَاء حَدَّثَنِي عُثْمَان بْن مُحَمَّد بْن شَاذان القَاضِي، حَدَّثَنَا عَبْد الْملك بْن الْقَاسِم الْحَارِثِيّ، قَالَ: بَلغنِي أَن إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق القَاضِي كَانَ يُؤذِّن، فمرَّ بِهِ غلامٌ حسنُ الْوَجْه، فَأطَال النّظر إِلَيْهِ، ثُمّ قَالَ عِنْد فَرَاغه من أَذَانه: لَوْلَا الحياءُ وأنني مستورُ ... والعيبُ يلحقُ بالكبير كبيرُ لَحَلَلْتُ بالأرضِ الَّتِي أَنْتُم بهَا ... ولكانَ منزلُنا هُوَ المهجورُ شَيْء من الصبوة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: كنتُ عِنْد ثَعْلَب جَالِسا فَجَاءَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ، فَقَالَ لَهُ: أهاهنا شيءٌ من صبوتك، فأنشده: سقى الله أَيَّامًا لنا وليالينا ... لَهُنَّ بِأَكْنَافِ الشَّبَاب ملاعب إِذْ الْعَيْش غض وَالزَّمَان بعزةٍ ... وَشَاهد آفاتِ المحبين غائبُ

أحسن الشعر

أحسن الشّعْر حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: استنشدني أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بْن عَلِيّ بعقب قصيدة أنشدتُه إِيَّاهَا ومدحته فِيهَا، وَسَأَلته الْجُلُوس فَأَجَابَنِي، وقَالَ لي فِي شيءٍ مِنْهَا: لَو أبدلتَ مَكَانَهُ؟ فَقلت لَهُ: هَذَا كلامُ الْعَرَب، فَقَالَ: أحسنُ الشّعْر مَا دخل القلبَ بِلَا آذان، هَذَا بعد أَن بدلتُ الْكَلِمَة، فَقَالَ لي إِنْسَان بِحَضْرَتِهِ: مَا أَشد وُلُوعك بِذكر الْفِرَاق فِي شعرك! فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وأيُّ شيءٍ أمَضُّ من الْفِرَاق؟ ثُم حكى عَنْ مُحَمَّد بْن حبيب، عَنْ عمَارَة بْن عقيل بْن بِلَال بْن جرير، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا كَانَ أَبوك صانعًا حَيْثُ يَقُولُ: لَو كنتُ أَعْلَمُ أَن آخِرَ عَهْدِكُمْ ... يوْم الرَّحيلِ فعلتُ مَا لَمْ أفْعَلِ قَالَ: يَقْلَعُ عينه وَلا يرى مَظْعَنَ أحبابه تعليقات بلاغية ونحوية قَالَ القَاضِي: وَلي من أبياتٍ لَمْ يَحْضُرْني حفظهَا فِي هَذَا الْوَقْت أَيْضا هِيَ فِي معنى قَول أَبِي سُلَيْمَان دَاوُد فِي هَذَا الْخَبَر: تَخْترِقُ الْحُجْبَ بِلَا حَاجِبِ ... وتَدْخُلُ الأُذْنَ بِلَا آذِنِ والأُذْنُ مَعَ الْآذِن يُؤْثر للمجانسة، وَمَا يدخُل الْقلب أبلغ فِي تَحْقِيق الْمَعْنى وَقَوله: لَو كنتُ أَعْلَم أَن آخِرَ عَهْدِكُمْ ... يوْم الرَّحيلِ..................... يرْوى: يوْم الرحيل رفعا ونصبًا، فَمنْ نَصبه فَعَلَى أَنَّهُ ظَرْف، وَالْمعْنَى أَن آخر عهدكم فِي يوْم الرحيل، وَمن رَفَعَهُ جعل يوْم الرحيل نفسَهُ هُوَ آخر الْعَهْد. وَقَدْ قَرَأت القَرَأَةُ: " قَالَ مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة "، فَمَنْ رَفَعَ جَعَلَ الْموعد هُوَ الْيَوْم، وَمن نَصَبِ جعل الْموعد فِي الْيَوْم. وقَالَ يُونُس: سألتُ رُؤْبَة: أَيْنَ منزلُكَ؟ فَقَالَ: شَرْقِيُّ الْمَسْجِد، وقَالَ جرير: هَبّتْ شَمَالا فذِكْرَى مَا ذَكَرْتُكُمُ ... إِلَى الصَّفَاةِ الَّتِي شَرْقِيَّ حَوْرَانَا فنصب، وَالرَّفْع جَائِز وَذَلِكَ عَلَى مَا مضى من بياننا، وَالِاخْتِيَار عِنْدِي رفع قَول رُؤْبة وَنصب قَول جرير فِي بَيته عَلَى مَا قَالا، مَعَ جَوَاز خِلَافه، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئل عَنْ نفس منزله فَأخْبر أَنَّهُ شَرْقي الْمَسْجِد، وَيقدر جَوَابه: منزلي هُوَ شرقيُّ الْمَسْجِد أَوْ شرقيُّ الْمَسْجِد هُوَ منزلي، هَذَا هُوَ عُرْف النّاس فِي السُّؤَال عَنْ مثل هَذَا، وَالْجَوَاب عَنْ: مَا ثوبُك؟ فَيُقَال: خزٌّ أَيّ من خزّ، وَمَا لون فَرَسِك؟ فَيُقَال: أشقرُ، وَلا يُقَالُ فِي الْغَالِب: شُقْرة، والنَّصْبُ فِيهِ عَلَى معنى أَنَّهُ سُئل فِي أَيّ موضعٍ مَنْزِلك؟ فَيُقَال: فِي شرقيِّ الْمَسْجِد، وأمّا شرقيُّ حَوْران فِي بَيت جرير فَمَعْنَاه إِلَى الصفاة الَّتِي هِيَ شَرْقي حوران، وَلَو أُرِيد هَذَا فَالوَجْهُ فِيهِ إظهارُ هِيَ فَيُقَال الَّتِي هِيَ شَرْقي حَوْرَان. وَقَدْ قَرَأَ يَحْيَى بْن يَعْمَر: " تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ "، وَالْوَجْه إِذا أُوثِرَ هَذَا الْمَعْنَى أَن

يتعلق بالقضاة حين يعزلون

يُقَالُ: عَلَى الَّذِي هُوَ أحسن. يتعلَّقُ بالقضاة حِين يُعْزلون حَدَّثَنَا ظَاهر بْن مُسْلِم الْعَبْدِيّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عِمْرَانَ الضَّبِّيّ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن حلايس، قَالَ: لما عُزل شريكٌ عَنِ الْقَضَاء تعلَّق بِهِ رَجُلٌ ببغدادَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! لي عَلَيْك ثلثمِائة دِرْهَم فأعْطِنَاهَا، قَالَ: وَمن أَنا؟ قَالَ: أَنْت شريك بْن عَبْد اللَّه القَاضِي، قَالَ: وَمن أَنَّى هِيَ لَك؟ قَالَ: من ثمن هَذَا الْبَغْل الَّذِي تَحْتك، قَالَ: نعم، تَعَال، فجَاء يمشي مَعَه حَتَّى إِذا بلغ الْجِسْر قَالَ: من هَاهُنَا؟ فَقَامَ إِلَيْهِ أولَئِك الشُّرَط، فَقَالَ: خُذُوا هَذَا فاحبسوه وَلَئِن أطلقتموه لأخبرنَّ أَبَا الْعَبَّاس عَبْد اللَّه بْن مَالك، فَقَالُوا: إِن هَذَا الرَّجُل يتَعَلَّق بِالْقَاضِي إِذا عُزِل فيفتدي مِنْهُ، وَقَدْ تعلق بسلمة الْأَحْمَر حِين عزل عَنْ وَاسِط فَأخذ مِنْهُ أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، فَقَالَ: هَكَذَا. فَكُلِّمَ فِيهِ فَأبى أَن يُطلقه، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه بْن مَالك: إِلَى كم تحبس هَذَا الرَّجُل؟ قَالَ: حَتَّى يَرُدَّ عَلَى سَلَمَة الْأَحْمَر أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، قَالَ: فَرد عَلَى سَلَمَة أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، فجَاء سلمةٌ إِلَى شريك فتشكّر لَهُ، فَقَالَ: يَا ضَعِيف! كُلّ من سَأَلَك مَالَكَ أَعْطيته إيّاه. لَعَلَّه الْخضر أَوْ إلْيَاس حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَاهِلِيُّ الصَّرَّافُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ فُرَافِصَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلانِ يَتَبَايَعَانِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُكْثِرُ الْحَلِفَ، فَمَرَّ عَلَيْهِمْ رجلٌ فَقَامَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي يُكْثِرُ الْحَلِفَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُكْثِرُ الْحَلِفَ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي رِزْقِكَ إِنْ حَلَفْتَ، وَلا يُنْقِصُ مِنْ رِزْقِكَ إِنْ لَمْ تَحْلِفْ، قَالَ: امْضِ لِمَا يَعْنِيكَ، قَالَ: إِنَّ ذَا مِمَّا يَعْنِينِي، فَلَمَّا أَخَذَ يَنْصَرِفُ عَنْهُمَا، قَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ آيَةِ الإِيمَانِ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ، وَأَلا يَكُونَ فِي قَوْلِكَ فضلٌ عَلَى عَمَلِكَ، وَاحْذَرِ الْكَذِبَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ.. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: الْحَقْهُ فَاسْتَكْتِبْهُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ، فَقَامَ فَأَدْرَكَهُ، فَقَالَ: أكْتِبْنِي هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ، قَالَ: مَا يُقَدِّرُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أمرٍ يَكُونُ. قَالَ: فَأَعَادَهُنَّ عَلَيَّ حَتَّى حَفِظْتُهُنَّ، ثُمَّ مَشَى مَعَهُ حَتَّى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدَهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ الْخِضْرُ أَوْ إِلْيَاسُ. سَبْقُ والبة إِلَى بَيْتَيْنِ جَيِّدين حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِسْمَاعِيل بْن الْقَاسِم الشَّرْقِي، حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن سَلام السَّكُونيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن جنَاح الْمحَاربي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نواس يَقُولُ: سبقني والبةُ إِلَى بَيْتَيْنِ من شعرٍ قالهما، وَدِدْتُ أَنِّي سبقته وَأَن بعض أعضائي اختلج مني:

أسماء أوقات الشراب

وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيان من رَاحَ واغْتَدَى ... لِشُرْب صبوحٍ أَوْ لشُرْب غَبْوقِ ولكنْ فَتى الفتيان من رَاح واغْتَدَى ... لِضَرِّ عَدُوٍّ أَوْ لِنَفْعِ صديق أَسمَاء أَوْقَات الشَّرَاب قَالَ القَاضِي: شُرب الغَدَاةِ يُقال لَهُ فِي كَلَام الْعَرَب: صَبْوح، ويُقَالُ لشرب نصف النَّهَار: القَيْل، ولِشُرْب العَشِيِّ: الغَبُوق، ولشرب اللَّيْل: الفَحْمة، ولشُرب السَّحَر: الجاشِريَّة. وَقَول أَبِي نواس: وَأَن بعض أعضائي اختلج مني، أَيّ اقْتُطِع، وَمِنْه سمي المقْتَطَعُ من الْبَحْر إِلَى الْوَادي خليجًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: ومُدْرِك أمرٍ كانَ يَأْمُلُ دُونَهُ ... ومختلجٍ من دُونِ مَا كانَ يَأْمُلُ المجلِسُ الخامِسُ والثَلاثون طَائِر أَبيض يُرْسل قبل الضَّيْف حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَضْلِ، أَبُو حُمَيْدٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرَةُ بْنُ أَشْرَسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَلاءُ أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ ضَيْفًا إِلَى أَهْلِهِ بَعَثَ طَائِرًا أَبْيَضَ يُسَمَّى ضَيْفًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَيَجِيءُ الطَّائِرُ فَيَقُومُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَعِظَمُ ذَلِكَ الطَّائِرِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا، قَالَ: فَيُنَادِي: يَا أَهْلَ الدَّارِ! وَلَيْسَ يُجِيبُهُ أَحَدٌ، فَيَسْكُتُ عَنْهُمْ سَاعَةً؟ ثُمَّ يُنَادِي الثَّانِيَةَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَيَسْمَعُ صَوْتَهُ جَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالأَرْضِ السَّابِعَةِ مَا خَلا الثَّقَلَيْنِ، فَيُجِيبُهُ جِبْرِيلُ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مِنْ تَحْتِ عَرْشِ الْجَبَّارِ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَا حَاجَتُكَ إِلَى أَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَسُولا إِلَى أَهْلِهَا وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ السَّلامَ، وَيَقُولُ إِنَّ فُلانًا يَأْتِيكُمْ ضَيْفًا إِلَى أَرْبَعِينَ صَبَاحًا وَهَذِهِ بَرَكَتُهُ وَرِزْقُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: نَاوِلْنِيهِ لأَقْبِضَهُ، فَيُنَاوِلْهُ جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: مَا هَذِهِ الرُّقْعَةُ فِي مِنْقَارِكَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّهَا بَرَاءَةٌ لَهُمْ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ جِبْرِيلُ، نَاوِلْنِيهَا فَيُنَاوِلُهُ فَيَقْرَؤُهَا وَيَتَعَجَّبُ جِبْرِيلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ الطَّائِرُ: أَتَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ الطَّائِرُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُحْصِيَ عَلَيْهِمْ حَسَنَاتِهِمْ وَلا أُحْصِي عَلَيْهِمْ سَيِّئَاتِهِمْ مَا دَامَ الضَّيْفُ فِيهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ مَنْ عِنْدِهِمْ خَرَجَ بِذُنُوبِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وَرِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَإِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ، وَحَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الضَّيْفُ ضَيْفًا بِذَلِكَ الطَّائِرِ. قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر ترغيب فِي إِضَافَة الضَّيْف وَقَضَاء حق ضيافته، وَدلَالَة عَلَى وجوب حَقه ورفعة منزلَة مُضِيفه، وَلَم تزل الْأُمَم عَلَى اخْتِلاف أديانها وآرائها، وأخلاقها وعاداتها، تستحسن الضِّيَافَة وترغبُ فِيهَا وتتواصى بهَا، وتتحاض عَلَيْهَا، وتتعاير بالرغبة عَنْهَا، والتفريط فِي الْمُسَابقَة إِلَيْهَا، وللعرب من الخصُوصية فِي هَذَا، والحفوف فِيهِ،

من بركة آل البيت

والمباذلة والمباهاة، وَحسن الِاقْتِدَاء بهَا عَلَيْه والمضاهاة، مَا بزتْ بِهِ مَنْ سواهَا وأبَرَّت عَلَيْه، حَتَّى أَنَّهَا كَانَتْ تتدين باعتقاد وُجُوبه، وَلُزُوم فَرْضه، وتقصب من أَعْرَاض عَنْهُ وتنبذه، وتسبه وتعيبه، وَترى الْحَمد والذم فِيهِ متوارثًا فِي أعقابها وأحسابها، ثُمّ جَاءَ الإِسْلام بتحسين هَذَا الْبَاب وَالنَّدْب إِلَيْهِ وَالتَّرْغِيب فِيهِ، وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ "، فَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ أَفْعَالِ الإِسْلامِ، وَأَخْلاقِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَمَا وَرَدَ فِي هَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَوَائِلِ السَّلَفِ وَأَمَاثِلِ الْخَلَفِ، وَذَوِي الأَدَبِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبَصَائِرِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَعَنِ الشُّعَرَاءِ قَدِيمِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ مَدْحًا وَذَمًّا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى الْمُخْتَارُ مِنْ لَطِيفِهِ وَبَدِيعِهِ، فَضْلا عَنْ أَنْ يُحَاطَ بِجَمِيعِهِ، وَقَدْ مَضَى فِي بَعْضِ مَجَالِسِ كِتَابِنَا هَذَا صَدْرٌ مِنْهُ، وَنَحْنُ نَأْتِي فِيمَا نَسْتَقْبِلُهُ مِنْهَا بِمَا يُوَفِّقُ اللَّهُ تَعَالَى بِقُوَّتِهِ ومشيئته ن. من بركَة آل الْبَيْت حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَلِيّ الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْص بْن مُحَمَّد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن مُحَمَّد الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنِي حمد بْن الخصيب قبل وزارته، قَالَ: كُنْت كَاتبا للسيدة شُجَاع أمّ المتَوَكل، فَإِنِّي ذَات يوْم فِي مجلسي فِي ديواني إِذْ خرج إليّ خَادِم خَاص وَمَعَهُ كيس، فَقَالَ لي: يَا أَحْمَد! إِن السيدة أم أَمِير الْمُؤْمِنِين تقرئك السَّلام، وَتقول لَك: هَذِهِ ألف دِينَار من طيِّب مَالِي، خُذْها وادفعها إِلَى قوم مستحقين تكتبُ لي أَسْمَاءَهُم وأنسابهم ومنازلهم فَكلما جَاءَنَا من هَذِهِ النَّاحِيَة شيءٌ صَرَفْناه إِلَيْهِم، فَأخذت الْكيس وصرت إِلَى منزلي، ووجهت خلف من أَثِق بهم فعرفتهم مَا أمرت بِهِ، وسألتهم أَن يُسموا لي من يعْرفُونَ من أَهْل السّتْر وَالْحَاجة، فأسْمَوْا لي جمَاعَة، ففرقت فيهم ثلثمِائة دِينَار وَجَاء اللَّيْل وَالْمَال بَيْنَ يَدي لَا أُصِيب مُحِقًّا، وَأَنا أفكر فِي سُرَّ من رَأَى وبُعْد أقطارها وتكاثف أَهلهَا، لَيْسَ بهَا محقٌ يَأْخُذ ألف دِينَار، وبَيْنَ يَدي بعضُ حُرَمي وَمضى من اللَّيْل ساعةٌ وغُلِّقت الدُّرُوبُ وَطَاف العَسَسُ، وَأَنا مفكرٌ فِي أَمر الدَّنَانِير، إِذْ سَمِعْتُ بَاب الدَّار يدقُّ، وسَمِعْتُ البواب يكلم رَجُلا من وَرَائه، فَقلت: لبَعض مَنْ بَيْنَ يديّ: اعرف الْخَبَر، فَعَاد إليّ، فَقَالَ لي: بِالْبَابِ فُلان بْن فُلان العَلَويّ يسألُ الْإِذْن عَلَيْك، فَقلت: مُرْه بِالدُّخُولِ، وَقلت: لمن بَيْنَ يَدي من الْحُرم: كونُوا وَرَاء هَذَا السّتْر، فَمَا قَصَدَنا فِي هَذَا الْوَقْت إِلا لحَاجَة، فَدخل وَسلم وَجلسَ، وقَالَ لي: طَرَقَني فِي هَذَا الْوَقْت طَارق لرَسُول اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْه وَآله من ابْنة لرَسُول اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْه وَآله، وَلا واللَّه مَا عندنَا وَلا أعْدَدنا مَا يَعُدّ النّاس، وَلَم يَكُنْ فِي جواري من أَقرع إِلَيْهِ غَيْرك، فَدفعت إِلَيْهِ دِينَارا فَشكر وَانْصَرف، وخرجتْ ربَّةُ الْمنزل، فَقَالَت: يَا هَذَا تدفع إِلَيْك السيدةُ ألفَ دِينَار تدفعُها إِلَى مُحِقٍّ أحقّ من ابْن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا قَدْ شكاه إِلَيْك؟ فَقلت لَهَا: فإيش

السَّبِيل؟ قَالَتْ: تدفع الْكيس إِلَيْهِ، قُلْتُ: يَا غُلام! رُدَّه، فردّه فحدّثته بِالْحَدِيثِ وَدفعت الْكيس إِلَيْهِ فَأَخذه وشكر وَانْصَرف، فَلَمَّا ولَّى جَاءَ إبليسُ لَعنه اللَّه، فَقَالَ لي: المتوكلُ وانحرافه عَنْ أَهْل هَذَا الْبَيْت، يُدفع إِلَيْك ألفُ دِينَار تدفعها إِلَى مستحقين تكْتب أَسْمَاءَهُم وأنسابهم ومنازلهم، فإيش تحتج؟ وَقَدْ دفعتَ إِلَى عَلَويٍّ سبعَ مائَة دِينَار. فَقلت لربة الْمنزل: وقعتيني فِيمَا أكره، فإمَّا سَبْعمِائة دِينَار أَوْ زَوَال النعم، وعرَّفتُها مَا عِنْدِي، فَقَالَت: اتكل عَلَى جَدِّهم، فَقلت: دَعِي هَذَا عَنْكِ، المتَوَكل وانحرافه فإيش أحتج إيش أَقُول؟ قَالَتْ: اتكل عَلَى جَدّهم، فَمَا زَالَت بِمثل هَذَا القَوْل وَمثله إِلَى أَن اطمأننت وَسكت وَقمت إِلَى فِرَاشِي، فَمَا استثقلتُ نومًا إِلا وَصَوت الْفُرَانِقِ عَلَى الْبَاب، فَقلت: لبَعض من يَقْرُب مني: مَنْ عَلَى الْبَاب؟ فَعَاد إِلَيّ، فَقَالَ: رَسُول السيدة يَأْمُرك بالركوب إِلَيْهَا السَّاعَة فَخرجت إِلَى صحن الدَّار وَاللَّيْل بحالته والنجوم بحالتها، وَجَاء ثَان وثالث فأدخلتهم، فَقلت: اللَّيْل بحالته! فَقَالُوا: لابد من أَن تركب فركبت فَلم أصل إِلَى الْجَوْسَقِ إِلا وَأَنا فِي موكب من الرُّسُل، فَدخلت الدَّار فَقبض خادمٌ عَليّ يَدي فَأَدْخلنِي إِلَى الْموضع الَّذِي كُنْت أصل، ووقفني، وَخرج خَادِم خَاصَّة من دَاخل فَأخذ بيَدي، وقَالَ: يَا أَحْمَد! إِنَّك تُكلِّم السيدة أم أَمِير الْمُؤْمِنِين فقف حَيْثُ توقف، وَلا تَكَلَّم حَتَّى تُسْأَل، وأدخلني إِلَى دَار لَطِيفَة فِيهَا بيُوت عَلَيْهَا ستورٌ مُسْبَلة، وشمعةٌ وسط الدَّار، فوقَفَنِي عَلَى بابٍ مِنْهَا فوقفت لَا أَتكَلّم، فصاح بِي صائح، قَالَ: يَا أَحْمَد! فَقلت: لبيْك يَا أم أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَت: حسابُ ألف دِينَار، بل حِسَاب سَبْعمِائة دِينَار وبكت، فَقلت فِي نَفسِي: نكبة! علويٌ أَخَذَ المَال وَمضى فَفتح دكاكين التُّجَّار فِي السُّوق وَاشْترى حَوَائِجه، وتحدث فَكتب بِهِ بعض أَصْحَاب الْأَخْبَار، فَأمر المتوكِّل بقتلي وَهِي تبْكي رَحْمَة لي، ثُمّ أمسكتْ عَنِ الْكَلَام، وقَالَتْ: يَا أَحْمَد! حِسَاب ألف دِينَار بل حِسَاب سَبْعمِائة دِينَار، ثُمّ بَكت فَفعلت ذَلِكَ ثَلَاث مَرَّات ثُمّ أمسكتْ، وسَأَلَتْني عَنِ الْحساب، فصدَقْتُها عَنِ الْقِصَّة، فَلَمَّا بلغتُ إِلَى ذكر العَلَويّ بكتْ، وَقَالَت: يَا أَحْمَد! جَزَاك اللَّه خيرا وجزى من فِي مَنْزِلك خيرا، تَدْرِي مَا كَانَ جرى اللَّيْلَة؟ قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: كُنْت نَائِمَة فِي فِرَاشِي فَرَأَيْت النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: جَزَاك اللَّه خيرا وجزى أَحْمَد بْن الخصيب خيرا، وَمن فِي منزله خيرا، فقد فَرَّجتم فِي هَذِهِ الليلةَ عَنْ ثلاثةٍ من وَلَدِي، مَا كَانَ لَهُم شيءٌ، خُذْ هَذَا الْحلِيّ مَعَ هَذِهِ الثِّيَاب وَهَذِه الدَّنَانِير وادفعها إِلَى العَلَويّ، وَقل لَهُ: نَحْنُ نصرف عَلَيْك مَا جَاءَ من هَذِهِ النَّاحِيَة، وَخذ هَذَا الحليَّ وَهَذِه الثِّيَاب وَهَذَا المَال فادفعه إِلَى زَوجتك، وَقل: يَا مباركة! جَزَاك الله عناخيراً فَهَذِهِ دلالتك، وَخذ هَذَا يَا أَحْمَد، فدفَعَتْ إليّ مَالا وثيابًا، وخرجتُ يُحملُ ذَلِكَ بَيْنَ يديَّ، وركبتُ منصرفًا إِلَى منزلي، وَكَانَ طريقي عَلَى بَاب العَلويّ، فَقلت: أبدأ بِهِ إِذا كَانَ اللَّه رَزَقنا هَذَا عَليّ يَدَيْهِ، فدقَقْتُ الْبَاب، فَقِيل لي: من هَذَا؟ فَقلت: أَحْمَد بْن الخصيب، فَخرج إليّ فَقَالَ: يَا أَحْمَد هاتِ مَا مَعَك، فَقلت فِي بالي: وَمَا يدْريك مَا معي؟ فَقَالَ لي: انصرفتُ من عنْدك بِمَا أخذتُه مِنْك وَلَم يَكُنْ عندنَا شَيْء فَدخلت عَلَى بِنْت عمي فعرَّفْتُها الْخَبَر، ودفعتُ إِلَيْهَا المَال ففرحَتْ، وَقَالَت: مَا أُرِيد أَن تشتري شَيْئا وَلا آكل شَيْئا، وَلَكِن قُمْ فَصَلِّ أَنْت وادْعُ حَتَّى أؤمِّن عَلَى دعائك، فقمتُ فصلَّيتُ ودعوت وأمّنَتْ ووضعتُ رَأْسِي ونمتُ، فَرَأَيْت جدِّي عَلَيْه السَّلام فِي النّوم وَهُوَ يَقُولُ لي: قَدْ شكرتُهم عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم إِلَيْك، وهم بارُّوكَ بشيءٍ فاقْبَلْه، فدفعتُ إِلَيْهِ مَا كَانَ معي وانصرفتُ، وصرت إِلَى منزلي فَإِذا ربَّة الْمنزل قلقة قَائِمَة تُصلِّي وَتَدْعُو، فعرفتْ أَنِّي قَدْ جِئْت مُعَافًى، فَخرجت إليّ فسألتني عَنْ خبري، فحدَّثْتها الْحَدِيث عَلَى وَجهه، فَقَالَت لي: ألم أقل لَك: أتكل عَلَى جَدِّهم، رأيتَ مَا فعل؟ فدفعتُ إِلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا فأخذتْهُ. وَقل: يَا مباركة! جَزَاك اللَّه عناخيراً فَهَذِهِ دلالتك، وَخذ هَذَا يَا أَحْمَد، فدفَعَتْ إليّ مَالا وثيابًا، وخرجتُ يُحملُ ذَلِكَ بَيْنَ يديَّ، وركبتُ منصرفًا إِلَى منزلي، وَكَانَ طريقي عَلَى بَاب العَلويّ، فَقلت: أبدأ بِهِ إِذا كَانَ اللَّه رَزَقنا هَذَا عَليّ يَدَيْهِ، فدقَقْتُ الْبَاب، فَقِيل لي: من هَذَا؟ فَقلت: أَحْمَد بْن الخصيب، فَخرج

وقصة أخرى في هذا الشأن

إليّ فَقَالَ: يَا أَحْمَد هاتِ مَا مَعَك، فَقلت فِي بالي: وَمَا يدْريك مَا معي؟ فَقَالَ لي: انصرفتُ من عنْدك بِمَا أخذتُه مِنْك وَلَم يَكُنْ عندنَا شَيْء فَدخلت عَلَى بِنْت عمي فعرَّفْتُها الْخَبَر، ودفعتُ إِلَيْهَا المَال ففرحَتْ، وَقَالَت: مَا أُرِيد أَن تشتري شَيْئا وَلا آكل شَيْئا، وَلَكِن قُمْ فَصَلِّ أَنْت وادْعُ حَتَّى أؤمِّن عَلَى دعائك، فقمتُ فصلَّيتُ ودعوت وأمّنَتْ ووضعتُ رَأْسِي ونمتُ، فَرَأَيْت جدِّي عَلَيْه السَّلام فِي النّوم وَهُوَ يَقُولُ لي: قَدْ شكرتُهم عَلَى مَا كَانَ مِنْهُم إِلَيْك، وهم بارُّوكَ بشيءٍ فاقْبَلْه، فدفعتُ إِلَيْهِ مَا كَانَ معي وانصرفتُ، وصرت إِلَى منزلي فَإِذا ربَّة الْمنزل قلقة قَائِمَة تُصلِّي وَتَدْعُو، فعرفتْ أَنِّي قَدْ جِئْت مُعَافًى، فَخرجت إليّ فسألتني عَنْ خبري، فحدَّثْتها الْحَدِيث عَلَى وَجهه، فَقَالَت لي: ألم أقل لَك: أتكل عَلَى جَدِّهم، رأيتَ مَا فعل؟ فدفعتُ إِلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا فأخذتْهُ. قَالَ القَاضِي رمة اللَّه عَلَيْه: وجدتُ ابْن الخصيب مخطِئًا فِي نِسْبَة المتَوَكل إِلَى الانحراف عَنْ أَهْل الْبَيْت، وسأبيِّن فِيمَا يَأْتِي من مجَالِس هَذَا الْكتاب مَا يبطل قَوْله إِن شَاءَ اللَّه تَعَالَى. وقصة أُخْرَى فِي هَذَا الشَّأْن حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشُّحَيْمِيُّ الْقَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ الحَرَضِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ يَوْمًا فَقَالَ لِي: بَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ قاعدٌ دَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ، قَالَ لَكَ: أَطْلِقِ الْقَاتِلَ الْمَحْبُوسَ، فَقُلْتُ: لَيْسَ عِنْدِي قَاتِلٌ مَحْبُوسٌ، قَالَ: فَأَمَرْتُ أَنْ يُفَتَّشَ، فَذُكِرَ لِي رجلٌ فَأَمَرْتُ بِإِحْضَارَهِ، فَرُفِعَ فِي قِصَّةٍ أَنَّهُ رجلٌ وُجِدَ مَعَهُ سكينٌ أَوْ أَنَّهُمْ وَجَدُوا السِّكِّينَ مَعَهُ؟ فَقُلْتُ لَهُ: مَا قِصَّتُكَ؟ فَقَالَ: أَنَا رَجُلٌ بتريٌ، عَمِلْتُ كُلَّ بليةٍ مِنَ الزِّنَا وَالْفِسْقِ وَالشَّرِّ وَكُنَّا جَمَاعَةٌ فِي دَارٍ فَأَدْخَلْنَا امْرَأَةً فَصَاحَتْ، فَقَالَتْ: يَا قَوْمُ! اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنِّي امْرَأَةٌ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَمِنْ وَلَدِ فَاطِمَةِ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَدَفَعْتُهُمْ عَنْهَا، فَقَالُوا: أَيَا فَاسِقُ لَمَّا قَضَيْتَ بِحَاجَتِكَ مِنْهَا تَدْفَعُنَا، فَجَاذَبْتُهُمْ وَجَاذَبُونِي حَتَّى قَتَلْتُ رَجُلا مِنْهُمْ وَخلَّصْتُهَا مِنْهُمْ، فَابْتَدَرُونِي وَمَعِيَ السِّكِّينُ وَحُبِسْتُ، قَالَ: قُلْتُ: رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ جَاءَنِي وَأَمَرَنِي بِإِطْلاقِكَ، قَالَ: فَقَالَ: فَإِنِّي تَائِبٌ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ كُلِّ شيءٍ كُنْتُ فِيهِ وَلَا أَعُود فِي شَيْء مِنْهُ أَبَدًا فَأَطْلَقْتُهُ. قَالَ الشُّحَيْمِيُّ: هَذَا مَعْنَى مَا حَدَّثَنِي بِهِ حَفِظْتُهُ مِنْهُ حِفْظًا. قَالَ القَاضِي: عُمَر بْن الْحَسَن الحَرَضِي هَذَا هُوَ ابْن الأُشْنَاني القَاضِي، والحَرَض فِي كَلَام الْعَرَب الأُشنان والإِناءُ الَّذِي يَجْعَل مِنْهُ الْمُحْرضَة فاتهمه لنا الشحيمي لأَنا حَدَّثَنَا عَنْهُ هَذِهِ الْقِصَّة قبل مَوته بسنين كَثِيرَة. رَأْي القَاضِي فِي إِطْلَاق سراح الرَّجُل قَالَ القَاضِي: وَدَفْعُ هَذَا الْمَحْبُوس مَنْ حاول مِنْ أَصْحَابه ركوبَ الْفَاحِشَة - عَلَى مَا

التجمل مع المصائب

ذكر فِي هَذَا الْخَبَر - حسنٌ فِي الدّين، جميلٌ فِي شَرِيعَة الْمُسْلِمِين، وتخلية إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم سَبيله وَترك تَعَقُّبِه بمكروه أَوْ عُقُوبَة صَوَاب، إِن كَانَت الْقِصَّة جَرَتْ عَلَى مَا حَكَاهُ، مِن عرضٍ لمُسلم أَوْ معاهدٍ يُرِيد بِهِ مَكْرُوها، بِغَيْر حقٍّ فِي نَفسه أَوْ مَاله، فحقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِين دَفْعُه عَمَّا قَصَده من ذَلِكَ وَشرع فِيهِ، وحَرْبُه وقتالُه إِن كَانَتْ لَهُ قُوَّة وَفِيه مَنَعَةٌ، وَإِن أَبى دَفَعهُم إِيَّاه بالطَّعْنِ وَالضَّرْب عَلَى نَفسه إِذْ كَانَ قصدهم دَفْعَه عَنْ ظلمه، وإعجازه عَمَّا يرومُه من بَغْيِهِ وعَدْوِه، ودَمُهُ وَمَا ناله من الْجراح فِي نَفسه وإتلافُ أعضائِهِ هدرٌ لَا قِصَاصَ فِيهِ وَلا دِيَة، وَلا إرْشَ وَلا حُكُومَة، وَلا تبعةَ وَلا عُقُوبة، وَلا غُرْم وَلا كَفَّارَة، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَفْهُوم فِي الشَّرِيعَة والموروث بَيْنَ أهل الملَّة، والمستفيض بَيْنَ أَهْل الْقبْلَة، والمتقبل من مَذَاهِب خَاصَّة عُلماء الأئمَّة، وعامَّةُ الْأمة. التجمل مَعَ المصائب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُثْمَان، عَنِ الْعُتْبِي، قَالَ: لما تُوُفّي عَبْد الْملك بْن مَرْوَان أَسف عَلَيْه عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز أسفا مَنعه عَنِ الْعَيْش وَكَانَ نَاعِمًا فاستشعر مِسْحًا تَحت ثِيَابه سبعين لَيْلَة، فَقَالَ لَهُ قَاسِم بْن مُحَمَّد يَوْمًا وَهُوَ يفاكهه: أما علمت أَن من مضى من سَلَفِنا كَانُوا يستحبون اسْتِقْبَال المصائب بالتجمل، ومواجهة النِّعم بالتواضع، فراح عُمَر من عجيَّة يَوْمه ذَلِكَ فِي ثيابٍ موشاة تقوم عَلَيْهِ بثمانمائة دِينَار. مَالك بْن أَسمَاء يضْرب لِلْحَجَّاج مثلا حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي بْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر الضَّبِّيّ، قَالَ: عَاصِم بْن الحَدَثَان، حَدَّثَنِي من شهد الحَجَّاج وَهُوَ يُعاتب مَالك بْن أَسمَاء وَكَانَ يَسْتَعْمِلهُ عَلَى الْحيرَة وطَسُّوجِها، فَشَكَاهُ أهل الْحيرَة فَبعث إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَدو اللَّه! استعملتُك وشرَّفتك وَأَرَدْت أَن ألحقك بعلية الرِّجَال فأفسدت نِعْمَتك، وأشمت بأختك ضرائرها، وفضحت نَفسك، وأقبلتَ عَلَى الْبَاطِل وَمَا لَا يحب اللَّه من الشُّرب وَقَول الشعرن والانتشار بِهِ وَأَقْبَلت تغني، وَتقول: حبّذا لَيْلَتي بتلّ بُوَنَّا ... حَيْثُ نُسْقَى شرابنا ونُغَنَّي بِشرب الكاسِ ثُمت الكاس حَتَّى ... يحسَبَ الجاهلون أنَا جُننّا أما لأُخْرِجَنّ جنونك من رَأسك، يَا حَرَسيّ أَدْخل مَنْ بِالْبَابِ من أَهْل الْحيرَة، فَدخلت جماعةٌ مِنْهُم شيخ من بني بَقِيلة، فَقَالَ لَهُم، أيُّ أميرٍ أميركم؟ قَالَ الشَّيْخ: خيرُ أميرٍ، غَيْر أَن الْخمر غليت مُنْذُ وَلِينا، قَالَ: وَكَيف ذَاك، قَالَ الشَّيْخ: أَخَذَ ألفَ دِنٍّ فِي شهر، قَالَ الحَجَّاج: قَاتله اللَّه مَا أمكره من شيخ! لجَادَ مَا تخلص إِلَى مَا يُرِيد، قَالَ: ومالكٌ ساكتٌ لَا يتَكَلَّم، فَأدْخل عَلَيْه مِلْحَان بْن قيسٍ الرّاسبيّ وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قَدْ شهد مشَاهد الحَرُوريَّة فبُعِثَ إِلَيْهِ من الْبَصْرَة، فَقَالَ لَهُ الحَجَّاج: أمِلْحان؟ قَالَ: نعم ملْحان، قَالَ: أَحْمد

اللَّه الَّذِي خَصَّني بقتلك وأراق دَمَكَ عَلَى يَدي، قَالَ: فَضَحِك ملْحَان، وقَالَ: واللَّه مَا رأيتُ رَجُلا كَالْيَوْمِ أبعدَ من كل خير وَلا أقرب من كُلّ قَبِيح، واللَّه يَا حَجّاج لَو عرفت أَن لَك رياً وخِفْتَ عذَابا ورجوتَ ثَوابًا، مَا اجْتَرأت عَلَى اللَّه هَذِهِ الجرأة، دونَك دمي فأرِقْه، فَالْحَمْد للَّه الَّذِي أكرمني بهوانك، عَلَيْك لعنةُ الله وعَلى من وَلَا، فاستشاط الحجاجُ وَغَضب، وقَالَ: اضْرِب عُنُقه، فضُرب عُنُقه فَتَدَهْدَهَ رأسُه حَتَّى كَاد يصيبُ مَالك بْن أَسمَاء، قَالَ: ثُمّ سكن الحَجَّاج قَلِيلا، ثُمّ قَالَ لمَالِك: تكلم، أما لَك عُذرٌ؟ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَك، فَقَالَ مَالك: أصلح اللَّه الْأَمِير، إِن لي وَلَك مثلا، قَالَ الْحجَّاج: مَا هُوَ قَبّح اللَّه أمثالكم يَا أَهْل الْعرَاق، قَالَ: زَعَمُوا أَن أسدًا وثعلبًا وذئبًا اصطحبوا فَخَرجُوا يتصيَّدُون، فصادوا حمارا وظبيًا وأرنبًا، فَقَالَ الْأسد للذئب: يَا أَبَا جعدة! اقْسمْ بَيْننَا صيدنا، قَالَ: الْأَمر أبين مُنْذُ لَك، الْحمار لَك والأرنب لأبي مُعَاوِيَة، والظبي لي، فخبطه الْأسد فأنْدَرَ رَأسه، ثُمّ أقبل عَلَى الثَّعْلَب، وقَالَ: قَاتله اللَّه مَا أجهله بِالْقِسْمَةِ هَات أَنْت، قَالَ الثعب: يَا أَبَا الْحَارِث! الْأَمر أوضح من ذَلِك، الْحمار الْحمار لغذائك والظَّبْيُ لعشائك وتخلَّلْ بالأرنب فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ الْأسد: مَا أقضاك! من علمك هَذِهِ الْقَضِيَّة؟ قَالَ: رأسُ الذِّئْب النَّادِرُ بَيْنَ عَيْني، وَلَكِن رَأس ملْحَان أبطل حجتي أصلحك اللَّه، قَالَ: أَخْرجُوهُ عني قبَّحه اللَّه وقَبَّح أَمْثَاله. قَالَ عَاصِم بْن الْحدثَان: ملْحَان الَّذِي يَقُولُ: وأبيضَ مخباتٍ إِذا اللَّيْل جَنَّهُ ... رَعَى حَذَرَ النَّارِ النُّجُوم الطَّوالِعا إِذا استثقل الأقوامُ نوما رأيتَهُ ... حذارًا عِقَاب اللَّه لِلَّهِ ضَارِعا فَطَوْرًا تَبَكَّى سَاجِدًا مُتَضرِّعًا ... وطورًا يُنَاجِي اللَّه وَسْنان رَاكِعَا صَحِبت فَلم أذْمُمْ وَمَا ذَمَّ صُحْبتي ... وَكَانَ لخلّات المكارم جَامعا سَخِيًّا شجاعًا يَبْذُل النَّفْس فِي الوغى ... حَيَاةً إِذا لَاقَى العدوَّ المقارعا فلاقى المنايا مُسْلِمُ بْن خويلد ... فَلم يكُ إذْ لاقَى الْمنية جازعًا مضى والقَنَا فِي نَحره متقدِّمًا ... إِلَى قِرْنِهِ حَتَّى تكعكع رَاجعا وأدبرت الأقْرَان عَنْهُم وخافهم ... وَكَانَ قَدِيما للعَدُوِّ مُمَاصِعا فَمَاتَ حميدا مُسْلِم بْن خويلد ... لأهل التقى والحزم والحلم فاجعا ومُسْلِم بْن خويلد بْن زَيَّان الرَّاسِبي، قُتِل يوْم النهروان، وَأم مُسْلِم أُخْت وَهْب الرَّاسِبي أعقب السَّجَّاد، عَبْد اللَّه بْن وَهْب ذِي الثفنات وَكَانَ يُقَالُ لَهُ السَّجَّاد. قَالَ: القَاضِي: حَتَّى تكعكع رَاجعا مَعْنَاهُ ارْتَدَّ رَاجعا ووقف عَنِ الْمُضِيّ والاستمرار عَلَى وتيرته، وَقَوله: وَكَانَ قَدِيما لِلْعَدو مماصعًا: والمماصعة الْمُضَاربَة والمجالدة، يُقَالُ:

يا فتى! ألست ظريفا

ماصعه مماصعةً ومصاعًا مثل ضاربه مُضَارَبَة وضرابًا، وقاتله مقاتلة وقتالا وصارعه مصارعة وصراعًا. وَمن المصاع، قَول الْأَعْشَى: إِذا هنّ نازلن أقرانهن ... وَكَانَ الْمِصاعُ بِمَا فِي الْجُوَقْ يصف جواري يلهون ويتلاعبن تضارباً بحليهن، وقَالَ الْقطَامِي: تراهم يَغْمزُون من استركوا ... ويجتبنون مَنْ صدق الْمِصَاعَا وَرُوِيَ عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْه السَّلام فِي التذكية. إِذا مَصَعت بذَنَبِها وَهُوَ من هَذَا، وَجَاء عَنْ بعض أَهْل التَّأْوِيل فِي الْبَرْق: " مَصْعُ ملكٍ " فِي مثل هَذَا الْمَعْنى. وَفِي المَثَل الَّذِي ضربه مَالك بْن أَسمَاء لِلْحَجَّاج تأديبٌ وتنبيه، وَقِيَاس زتشبيه، وَيعْتَبر بِهِ ذَوُو اللب، وتتمكن حكمته فِي الْقلب. وَمِمَّا يضارع هَذَا الْمثل مِمَّا أَتَى بِهِ الْحُكَمَاء عَلَى ألسن الْبَهَائِم: مَا ذكرمن أَن الْأسد كَانَ يلازمه ويحضر مَجْلِسه ذئبٌ وثعلب، وَأَن الْأسد وجد عِلَّةً فَتَأَخر عَنْهُ الثَّعْلَب أَيَّامًا فتفقده وَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا فعل الثَّعْلَب فَأَنا لَمْ أره مُنْذُ ثَلَاثَة أَيَّام مَعَ مَا عرض لي من الْمَرَض، فانتهزها الذِّئْب ليُغري بِهِ الْأسد وَيفْسد حَاله عِنْده، ويحمله عَلَى مكروهه، فَقَالَ: أَيهَا الْملك مَا هُوَ إِلا أَن وقف عَلَى عِلَّتِك حَتَّى استبدَّ بِنَفسِهِ وَمضى فِيمَا يَخُصّه من كَسبه ولهوه، وَبلغ الثَّعْلَب هَذَا فَوَافى الْأسد فَلَمَّا دخل عَلَيْه، قَالَ: مَا أخَّرك عنِّي مَعَ علَّتي وحاجتي إِلَى كونك بِالْقربِ مني، قَالَ: أَيهَا الْملك لما وقفت عَلَى الْعِلَّة الْعَارِضَة لَك لَمْ يَسْتقرّ بِي قَرَار، وَجعلت أجول وأجوب الْآفَاق إِلَى أَن وقفت عَلَى مَا يشفى الْملك من مَرضه، فَقَالَ: قَدْ علمت أنَّكَ لَا تفارق نصيحتي وَلا تخرج عَنْ طَاعَتي، فَمَا الَّذِي وقفت عَلَيْه مِمَّا أشْتَفِي بِهِ، قَالَ: تتَنَاوَل خُصَى ذِئْب، فَإنَّهُ يُبرئك حِين يستقرُّ فِي جوفك، قَالَ: أَنَا عَامل عَلَى هَذَا، وَخرج الثَّعْلَب فَجَلَسَ فِي دهليز الْأسد، ووافى الذِّئْب فحين وقف بَيْنَ يَدَيْهِ وثب عَلَيْه، فالتهم خُصْيتيه، فَخرج والدمُ يسيل وَيجْرِي عَلَى فَخذيهِ، فَلَمَّا مرَّ بالثعلب، قَالَ لَهُ: يَا صَاحب السِّروال الْأَحْمَر، إِذا جالست الْمُلُوك فَانْظُر كَيفَ تذكرُ حاشيتهم عِنْدهم. وَقَدْ روينَا فِي بعض مجالسنا هَذِهِ أَنَّهُ قِيلَ لبَعض الْحُكَمَاء: مِمَّنْ تعلمت الْعقل؟ قَالَ: مِمَّنْ لَا عقل لَهُ، كُنْت أرى الْجَاهِل يفعل الشَّيْء فيضرُّه فأجتنبه. يَا فَتى! أَلَسْت ظريفًا؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَامر بْن عِمْرَانَ أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ، عَنْ سُلَيْمَان بْن أَبِي شيخ، قَالَ: بَينا عبيد اللَّه بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن ابْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْهِمَا السَّلام يطوف بِالْبَيْتِ، إِذْ رَأَى امْرَأَة تَطوف وتنشد:

رأي أبي زيد في أصحاب الحديث

لَا يقبل اللَّهُ من معشوقةٍ عملا ... يَوْمًا وعاشقها غَضْبَان مهجور قَالَ القَاضِي: وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة يَلِيهِ بيتٌ آخر وَهُوَ: وَكَيف يَأجُرُها فِي قتل عاشقها ... لَكِن عاشقها من ذَاك مأجور فَقَالَ عَبْد اللَّه للْمَرْأَة: يَا أمة اللَّه! مثل هَذَا الْكَلَام فِي مثل هَذَا الْموقف؟ فَقَالَت: يَا فَتى أَلَسْت ظريفًا؟ قَالَ: بلَى، قَالَتْ: أَلَسْت راويةً للشِّعر؟ قَالَ: بلَى، قَالَتْ: ألم تسمع الشَّاعِر يَقُولُ: بيضٌ غَرَائِر مَا هَمَمْنَ بريبةٍ ... كَظَباءِ مَكَّة صَيْدُهُنَّ حَرَامُ يُحْسَبْنَ مِن لينِ الْحَدِيث زَوَانِيَا ... ويَكُفُّهنّ عَنِ الخَنَا الإِسْلامُ رَأْي أَبِي زَيْد فِي أَصْحَاب الْحَدِيث حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل التَّنوخي: سرق أصحابُ الْحَدِيث نعل أَبِي زَيْد سَعِيد بْن أَوْس، فَكَانَ إِذا جَاءَ أَصْحَاب الشّعْر وَالْأَخْبَار رمى ثِيَابه وَلَم يتفقدها، وَإِذَا جَاءَ أَصْحَاب الْحَدِيث ضَمّها إِلَيْهِ، وقَالَ: ضُمَّ يَا ضَمَّام، واحْذَر لَا تنام. إنَّهُنَّ يكفر العَشِير حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَيْمُون بن هرون، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ جَدِّهِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ. قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ من عِنْد زبيدة - وَقد تغذى عِنْدَهَا وَنَامَ وَشَرِبَ - وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: قَدْ سَرَّنِي سُرُورُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: مَا أَضْحَكُ إِلا تَعَجُّبًا، أَكَلْتُ عِنْدَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَنِمْتُ وَشَرِبْتُ فَسَمِعْتُ رَنَّةً، فَقُلْتُ: مَا هَذَا، قَالُوا: ثلثمِائة أَلْفِ دِينَارٍ وَرَدَتْ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَتْ: هَبْهَا لِي يَا ابْنَ عَمِّ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى عَرْبَدَتْ، وَقَالَتْ: أَيَّ خَيْرٍ رَأَيْتُ مِنْكَ؟ قَالَ القَاضِي: قَدْ روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي النِّسَاءِ: " إِنَّهُنَّ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ "، وَفَسَّرَهُ بِمَا ذَكَرْتُ مِنْ إِحْسَانِ الرَّجُلِ إِلَيْهَا وَأَنَّهَا تَرُبُّ مَنْزِلَهَا، وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا بَعْدَ الْحَجْرِ وَالْخَطْرِ، وَتَقُولُ لِزَوْجِهَا: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ. المجلِسُ السَادِسُ وَالثَّلَاثُونَ خير شَجَرَة فِي الجَنَّة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشُّحَيْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُعَاوِيَةَ الضَّبِّيُّ إِمْلاءً بِمِصْرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عُمَرَ بْنِ يُونُسَ الْيَمَامِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يُقَالُ لَهَا خَيْرًا، أَصْلُهَا فِي مَنْزِلِ رجلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَا أُسَمِّيهِ لَكُمْ، وَفَرْعُهَا فِي سَائِرِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ تِلْكَ الشَّجَرَةَ ".

لحن الراوي في كلمة خير

لحن الرَّاوِي فِي كلمة خير قَالَ: القَاضِي: هَكَذَا أما علينا الشُّحَيْمي هَذَا الْحَدِيث، وَلَفظ بِهِ كَمَا روينَاهُ، فَقَالَ: يُقَالُ لَهَا خيرا، وَلَم يَكُنْ ذَا علم بطريقة الْإِعْرَاب، وَلَعَلَّه لحن فِيهِ فغيَّره عَنْ صَوَابه، ولحن فِيهِ بعضُ من تقدَّمه من رُواته الَّذِين لَا معرفَة لَهُم بتصاريف الْإِعْرَاب ووجوهه، وَالصَّوَاب فِيهِ عِنْدِي أَن يَكُون اللَّفْظ فِي الْخَبَر أَتَى عَلَى الصِّحَّة وَهُوَ يُقَالُ لَهَا خير، فَلَو كَانَ اللَّفْظ خيراء عَلَى فعلاء، أَوْ فعلى على خيرى، لَكِن وَجها مَعْرُوف الْمَذْهَب فِي الْعَرَبيَّة، غَيْر أَنَّهُ كَانَ غَيْر مَصْرُوف وَلا مُنَون، وَالْمَشْهُور من هَذَا الْخَبَر التَّنْوِين، وَأَن خيرا فِيهِ من الخيرالذي هُوَ ضد الشَّرّ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِذا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ الثَّنَاءَ "، وَالْعرب تَقُولُ: جزى اللَّه فلَانا خيرا إِذا دعت لَهُ، وجزاه اللَّه شرًّا إِذا دعت عَلَيْه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر فِي الْمَعْنى الأول: أَلا رَجُلا جزاهُ اللَّه خيرا ... يَدُلُّ عَلَى محصلةٍ تَبِيتُ وقَالَ أَبُو مَعْبَد: جزى اللَّهُ رَبُّ الناسِ خير جَزَائِهِ ... رفيقن قَالا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ وقَالَ الحطيئة فِي الْمَعْنى الثَّانِي: جَزَاكِ اللَّهُ شَرًّا من عجوزٍ ... ولَقَّاكِ الْعُقُوقَ من البَنِينا وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الْمَعْرُوف بَيْنَ خَاصَّة النَّاس وعامتهم، وَغير مُمْتَنع عِنْدِي أَن يَكُون خير اسْم الشَّجَرَة ويَعْني بقولِ الْقَائِل: جَزَاك اللَّه خيرا الْخَيْر الْمَعْرُوف، فَيُجْزَى تِلْكَ الشَّجَرَة إِذا كَانَتْ خيرا من الْخُيُور، وَنَظِير ذَلِكَ قَوْلهم: ويلٌ لفُلان، وذُكِر سِيبوَيْه أَنَّهُ قُبُوح، وقَالَ: غَيره نَحْو ذَلِكَ، وَجَاء عَنْ عددٍ من أَهْل التَّأْوِيل أَنَّهُ وادٍ فِي جَهَنَّم، فَتَأمل هَذَا فَإنَّهُ وجْهٌ لطيفٌ حَسَن. إنَّه شَيْطَان الأحلام حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَن أَبِيه، عَن أم الْحُسَيْن بنت جَعْفَر بْن حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمَّتِهَا زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عناقٌ مَشْوِيَّةٌ فَبَعَثَ إِلَى فَاطِمَةَ، وَعَلِيٍّ، وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَأَجْلَسَهُمْ مَعَهُ لِيَأْكُلُوا فَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيْهَا الْحَسَنُ فَجَذَبَتْ فَاطِمَةُ يَدَهُ وَبَكَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِدَاكِ أَبُوكِ! مَا شَأْنُكِ لِمَ تَبْكِينَ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي الْبَارِحَةَ كَأَنَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْكَ هَذِهِ الْعَنَاقُ وَكَأَنَّكَ جَمَعْتَنَا، فَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيْهَا الْحَسَنُ فَأكل فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُفُّوا، ثُمَّ قَالَ: يَا رُؤْيَا! فَأَجَابَهُ شيءٌ:

خبران يرويهما الزهري عن نفسه

لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتِ حَبِيبَتِي شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، فَقَالَ: يَا أَضْغَاثُ! قَالَ شيءٌ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتِ حَبِيبَتِي شَيْئًا قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، قَالَ: يَا حَدِيثَ النَّفْسِ! فَأَجَابَهُ شيءٌ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتِ حَبِيبَتِي شَيْئًا؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، قَالَ: يَا شَيْطَانَ الأَحْلامِ! أَجَابَهُ شيءٌ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ أَرَيْتَ حَبِيبَتِي شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَيْتُهَا كَذَا وَكَذَا، قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعَبَثُ، فَقَالَ: لَا تَعُدْ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَفَلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتِ، ثُمَّ قَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ. خبران يرويهما الزُّهْرِيّ عَنْ نَفسه حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرو القَعْنَبي، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن هُبَيْرة التَّمِيمِيّ، عَنِ الصَّدَفيّ، عَنِ الزُّهْرِيّ، قَالَ: أتيتُ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان فاستأذنت عَلَيْه فَلم يُؤْذَنْ لي، فَدخل الْحَاجِب، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين إِن بِالْبَابِ رَجُلا شابًّا أَحْمَر، زعم أَنَّهُ من قُرَيْش، قَالَ: صِفْه فوصفه لَهُ، قَالَ: لَا أعرفهُ إِلا أَن يَكُون من وُلِد مُسْلِم بْن شهَاب، فَدخل عَلَيْه، فَقَالَ: هُوَ من بني مُسْلِم فَدخلت، قَالَ: من أَنْت؟ فانتسبت لَهُ وقُلْتُ: إِن أَبِي هلك وَترك عيالا صِبية، وَكَانَ رَجُلا مِتْلافًا لَمْ يتْرك مَالا، فَقَالَ: لي عَبْد الْملك: أَقرَأت الْقُرْآن؟ قُلْتُ: نعم بإعرابه، قَالَ: وَمَا يَنْبَغِي مِنْهُ من وجوهه وعِلَلِه؟ قَالَ: قُلْتُ: نعم، قَالَ: إِنَّمَا فَوق ذَلِكَ فضل إِنَّمَا يُرَاد أَن يعايا ويلغز بِهِ، قُلْتُ: نعم، قَالَ: تعلَّمتَ الْفَرَائِض؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ: الصُّلْبُ والجَدُّ واختلافهما؟ قُلْتُ: أَرْجُو أَن أكون قَدْ فعلت، قَالَ: وَكم دَيْنُ أَبِيك؟ قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: قَدْ قضى اللَّه دَيْنَ أَبِيك، وَأمر لي: بجائزة ورزق يجْرِي، وَشِرَاء دارٍ قطيعةٍ بِالْمَدِينَةِ، وقَالَ: اذْهَبْ فاطلب الْعلم وَلا تَشَاغَل عَنْهُ بشيءٍ فَإِنِّي أرى لَك عينا حافظة وَقَلْبًا زاكيًا، وائت الأَنْصَار فِي مَنَازِلهمْ، قَالَ الزُّهْرِيّ وَكنت أخذت الْعلم عَنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا خرجت إِلَيْهِم إِذا عِلْم جَمٌّ فأتَّبعْتُهم حَتَّى ذُكرتْ لي امْرَأَة نَحْو قبَاء تروي رُؤيا فأتيتُها، فَقلت: أَخْبِرِينِي برؤياك، قَالَ: فَقَالَت: كَانَ لي ولدان واحدٌ حِين حبا، وَالْآخر يتبعهُ، وَهلك أَبوهُمَا وَترك واهنًا وداجنًا ونَخَلات، فَكَانَ الدَّاجنُ نشرب لَبنهَا وَنَأْكُل تمر النخلات، فَإِنِّي لبين النائِمة واليقظانَة - قَالَ: القَاضِي: هَكَذَا فِي الْخَبَر وَالْمَشْهُور فِي العَربيَّة اليقظى - وَلنَا جديٌ فَرَأَيْت كَأَنّ ابْني الْأَكْبَر قَدْ جَاءَ إِلَى شفرةٍ لنا فَأَخذهَا، وقَالَ يَا أمَّه! قَدْ أضْرَرْتِ بِنَا وحبست اللَّبن عَنَّا، فَأخذ الشَّفْرَة وَقَامَ إِلَى وُلد الدَّاجن فذبحه بِتِلْكَ الشَّفرة، ثُمّ نَصَبِ قدرا لنا ثُمّ قطّعه وَوَضعه فِيهَا، ثُمّ قَامَ إِلَى أَخِيهِ فذبحهُ بِتِلْكَ الشَّفْرَة، واستنبهت مَذْعُورَة وَإِذَا ابْني الْأَكْبَر قَدْ جَاءَ، فَقَالَ: يَا أُمّه! أَيْنَ اللَّبن، فَقلت: يشربه وُلِد هَذِهِ الدَّاجِن، فَقَالَ: مَا لنا فِي هَذَا من شيءٍ، وَقَامَ إِلَى الشَّفْرَة فَأَخذهَا ثُمّ أمرَّها عَلَى حلق الدّاجن ثُمّ نَصَبِ الْقدر، قَالَتْ: فَلم ُأكَلِّمهُ حَتَّى قُمْت إِلَى ابْني الصَّغِير فاحتضنته فأتيتُ بِهِ بعض بيُوت الْجِيرَان فَخَبَّأْته عِنْدهم، ثُمّ أَقبلت مغتمة لما رَأَيْت، ثُمّ صعد عَلَى بعض تِلْكَ النخلات فَأنْزل رطبا ثُمّ قَالَ:

سبب حدوث الزلزلة

يَا أُمّه! أُدْني فكُلي، قُلْتُ: لَا أُرِيد، ثُمّ مضى فِي بعض حَوَائِجه وَترك الْقدر فَإِنِّي لمنكبَّة عَلَى بُلِيس عِنْدِي إِذْ ذهب بِي النّوم فَإِذا أَنَا بآتٍ قَدْ أَتَانِي، فَقَالَ: مَالك مُغتَمَّة؟ فَقلت: لكذا وَكَذَا، وَلِأَن ابْني صنع كَذَا وَكَذَا، فَنَادَى يَا رُؤْيَاهُ يَا رُؤْيَاهُ! فَجَاءَت امرأةٌ شابةٌ حَسَنَة الْوَجْه طيبَة الرّيح، فَقَالَ: مَا أردتِ من هَذِهِ الْمَرْأَة الصَّالِحَة، قَالَتْ: مَا أردْت مِنْهَا شَيْئا، فَنَادَى: يَا أضْغَاثُ يَا أضْغَاثُ! فَأَقْبَلت امرأةٌ سَوْدَاء الْخلقَة وسخةُ الثِّيَاب دونهَا، فَقَالَ: مَا أردتِ من هَذِهِ الْمَرْأَة؟ قَالَتْ: رَأَيْتهَا صَالِحَة فَأَرَدْت أَن أغُمَّها، قَالَتْ: ثُمّ انْتَبَهت فَإِذا ابْني أقبل، فَقَالَ: يَا أُمّه! أَيْنَ أَخي؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي حَبَا إِلَى بعض الْجِيرَان، قَالَتْ: فَذهب يمشي لَهو أهْدى إِلَى مَوْضِعه حَتَّى أَخذه وَجَاء بِهِ فَقبله، ثُمّ قعد فَأكل وأكلت مَعَه. قَالَ القَاضِي: قَوْله: فِي الْخَبَر وَترك لي ماهِنًا وداجِنًا، الماهن: الْخَادِم، ويُقَالُ: مَهَن الرَّجُل مِهْنةً ومَهْنَةً، وَفُلَان فِي مِهْنة أَهله ومَهْنَةِ أَهله، وَالْفَتْح عِنْد كثير من أَهْل اللُّغَة أَعلَى، ويُقَالُ: مَهُن مهانةً من الهوان، وَمن المهان بِمَعْنى الْخَادِم، قَول الشَّاعِر: وهَزئْنَ مِنِّي أَن رأَينَ مُوَيْهِنًا ... تَبدُو عَلَيْه شَتَامَةُ المَمْلُوكِ وَأما الدَّاجِن فَهِيَ الشاةُ من شِيَاه البيوتِ الَّتِي تُعْلَفُ، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء لَا ترى فِي دواجن الشَّاءِ زَكَاة، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة أَهْل الْعرَاق وَبِه نقُول، وَقَدْ أوجب عددٌ من فُقَهَاء الْحجاز الزَّكَاة فِي دواجن الْغنم، كَمَا أوجبهَا الْجَمِيع فِي سوائمها، وَاخْتِلَافهمْ فِي عوامل الْإِبِل وَالْبَقر كختلافهم فِي دواجن الْغنم، وكلامنا فِي هَذَا عَلَى استقصاءِ الْحُجج مرسوم فِيمَا ألفناه من كتبنَا فِي الْفِقْه. وَقَول الْمَرْأَة: وَإِنِّي لمتكئةٍ عَلَى بلسٍ لي، البَلَسُ: بعضُ مَا يَكُون فِي رَحْلِ الْقَوْم من الْمَتَاع الَّذِي يُتَّكَأُ عَلَيْه، وَهُوَ اسْم أعجمي لَا أعرفهُ فِي الْعَرَبيَّة وَأرَاهُ بالرومية وَقَد اسْتعْمل عَلَى تَولُّدِه قَدِيما وحديثًا فَروِيَ فِي خبرٍ ذكر أَن أَبَا جفر الْجُمَحِيّ نظر بَيْنَ الْحَسَن بْن زَيْد ومُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز، فَقَالَ: إنَّه أقامني عَلَى البَلَسِ يَعْنِي الْحسن، فَكَأَنَّهُ اسْم لما يُعَلَّى عَلَيْه من كراسي أَو مَا أشبهه ن. وَمِمَّا انْتهى إِلَيْنَا من عجائب أَخْبَار الرُّؤْيَا مَا يُتْعب جمعه وتصعب الْإِحَاطَة بِهِ، وَإِذَا عثرنا مِنْهُ عَلَى شيءٍ أتيناه فِي مُسْتَقْبل مجالسنا مِمَّا تيَسّر مِنْهُ، إِذْ لَمْ نَبْن كتَابنَا هَذَا عَلَى استقصاء نوع نوع مِمَّا يشْتَمل عَلَيْه، وَإِنَّمَا نأتي مِنْهُ بِأَبْوَاب ممتزجة، وأجناس موشحة، وَالْخُرُوج من قصَّة إِلَى قصَّة ن. سَبَب حُدُوث الزلزلة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الْعَبَّاس بِالْكُوفَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأسباط، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ حُسَيْن، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْد اللَّه جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصَّادِق عَلَيْهِمَا السَّلام يَقُولُ: لما خلق اللَّه تَعَالَى ذكره الحوتَ الَّذِي عَلَى ظَهره الأَرْض استعظم فِي نَفسه واستكبر، وقَالَ: مَا خلق اللَّه خلقا هُوَ أقوى مني فَعلم اللَّه

أعرابي ظريف عند أحد العياد

ذَلِكَ مِنْهُ، فخلق سَمَكَة أكبر من النملة وأصغر من الجرادة، فَدخلت فِي مِنْخَرَيْهِ فضعف أَرْبَعِينَ خَرِيفًا ثُمّ خرجت، ثُمّ إِذا أَرَادَ اللَّه يوْم زلزلةٍ تراءت لَهُ تِلْكَ السَّمَكَة فاضطرب من خوفها فاضطربت الأَرْض. قَالَ القَاضِي: رُوينا فِي الزلزلة هَذَا القَوْل وَقَدْ جَاءَ فِي كثير من الْأَخْبَار أَنَّهَا من حَرَكَة الْحُوت واضطرابه من غَيْر ذكر السَّمَكَة المحكي فِي هَذَا الْخَبَر ودخولها فِي أَنفه، وَهِي فِي الْجُمْلَة من الْآيَات الَّتِي يخوف اللَّه بهَا عباده، ويَحُثُّ بهَا إِلَى طَاعَته، والتفكُّر فِي عجائب صَنعته، ومجانبة مَعْصِيَته. والزلزلةُ يقلُّ حُدُوثُها فِي بعض الأرَضَين وَيكثر فِي بَعْضهَا، كَمَا يكثر الْمَطَر فِي بعض الْبلدَانِ كطبرستان ويقلُّ فِي بَعْضهَا كمصر، وَنَظِير هَذَا مَا يُشَاهد من الجَزْرِ والمدِّ فِي بعض الْأَنْهَار دون بعض وَقَدْ جَاءَ عَنْ بعض السّلف أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ سُئِل عَنِ الجزر والمدّ: إِن اللَّه تَعَالَى وكَّلَ مَلَكًا بقاموس الْبَحْر فَإِذا وضع قدمه فِيهِ فاض، وَإِذَا رَفعهَا غاض. وَمِمَّنْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْن عَبَّاس، وَأي الْوُجُوه كَانَ مَعْنَاهُ فَهُوَ من عَجِيب آيَات اللَّه تَعَالَى ذكره وبديع صَنعته، وَفِيه دَلِيل ظَاهر عَلَى توحيده ولطيف حكمته، وَظُهُور قدرته. وَقَدْ ذكر عَنْ سُفْيَان بْن عُيَيْنة أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَن سُفْيَان الثَّوْرِي أَو الْفُضَيْل بْن عِياض - أَنَا أَشُكُّ - أَخْبَرَنِي عَنِ الجَزْرِ وَالْمدّ لما صدقت، وَرَأَيْت غُلَاما لي وَأَنا مُصْعَد من الْبَصْرَة جَالِسا فِي جَانب السَّفِينَة نَاظرا إِلَى شاطىء دجلة مُنْذُ طُلُوع الشَّمْس إِلَى قريبٍ من زَوَالهَا ثُمّ أقبل علينا، فَقَالَ: لَا إِلَه إِلا اللَّه، مَا أعجب هَذَا! أَنَا أراعي دجلة مُنْذُ غدوةٍ وَالْمَاء بِحَالهِ لَمْ يزدْ وَلَم يَنْقُص، فَعجب من فَقْدِه الجزر والمدَّ إِذْ لم يره ن. وأمّا مَا قَالَه المنجمون وَغَيْرُهُمْ من الفلاسفة فِي هَذَا فإننا لَمْ نؤثر ذكره فِي هَذَا الْموضع وَهَذَا معنى لَا يَقع الْعلم بِهِ إِلا بخبرٍ عَنِ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه أَوْ عَلَى لِسَان رَسُوله، وَلا ضَرَر عَلَى أحدٍ من الْخلق فِي فَوت الْعلم بِهِ، وَلَو كَانَ مِمَّا يحْتَاج الناسُ إِلَى مَعْرفَته، وكُلِّفُوا عمله، انصب اللَّه تَعَالَى جَدُّه لَهُم دَلِيلا عَلَيْه، وَجَعَل لَهُم سَبِيلا هاديًا إِلَيْهِ، فالاعتبار بِهِ وَاجِب، والإِيمَان بِأَنَّهُ حِكْمَة اللَّه وَصِحَّة تَدْبيره وَحسن تَقْدِيره لَازم، وَإِن ثَبت فِيهِ مَا يُحِيط الْعلمَاء من الْخلق بحقيقته عَمَّن يلْزم احجة بقوله، وَجب التَّسْلِيم لَهُ والدَّيْنُونة بِهِ. أعرابيُّ ظريف عِنْد أحد العياد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الرياشي، عَنِ مُحَمَّد بْن سَلام، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ من بني ضبة، قَالَ: رَأَيْتُ أعرابيًّا كَبِير السِّنِّ كثير المزاح، بِيَدِهِ مِحْجَنٌ، وَهُوَ يجرُّ رجلَيْهِ حَتَّى وقف عَلَى مِسْعَرِ بْن كِدّام وَهُوَ يصلِّي، فَأطَال الصَّلاة والأعرابي وَاقِف، فَلَمَّا أعيا قعد، حَتَّى إِذا فرغ مِسْعَر من صلَاته سلم الأعرابيُّ عَلَيْه، وقَالَ لَهُ: خُذْ من الصَّلَاة كَفِيلا فتبسن مسعرٌ، وقَالَ: عَلَيْك بِمَا يُجْدِي عَلَيْك نَفْعُه، يَا شيخ كم تَعُد؟

جزاء مجالسة الأنذال

قَالَ: مائَة وبضع عشرَة سنة، قَالَ: فِي بَعْضهَا مَا كفى واعظًا فاعمل لنَفسك، فَقَالَ: أحبُّ اللَّواتي هُنَّ من وُرْقِ الصِّبا ... وَمن هُنَّ عَنْ أزواجِهن طِماحُ مُسِرَّاتُ بغضٍ مُظْهِراتُ مودةٍ ... تَرَاهُنَّ كالمرضى وهُنَّ صِحَاحُ فَقَالَ مِسْعَر: أفٍّ لَك، فَقَالَ: واللَّه مَا بأخيك حَرَكةٌ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة، وَلكنه بحرٌ يَجِيش وَيَرْمِي بزبده، فَضَحِك مِسْعَر، وقَالَ: إِن الشّعْر كلامٌ حَسَنُهُ حَسَن وقَبِيحُه قَبِيح ن. جَزَاء مجالسة الأنذال حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله الطَّلْحي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير بْن أَبِي بَكْر، قَالَ: كَانَ بشكستُ النَّحْويُّ الْمَدَنِيّ وَفد عَلَى هِشَام بْن عَبْد الْملك فَلَمَّا حضر الغَدَاء دَعَاهُ هِشَام، وقَالَ لفتيان من بني أُمَيَّة: تَلاحَنُوا عَلَيْه، فَجعل أحدهم يَقُولُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! رَأَيْت أَبِي فُلان، وَيَقُولُ الآخر: مر بِي أَبَا فُلان، وَنَحْو هَذَا، فَلَمَّا ضجر أَدخل يَده فِي صحفةٍ فغمسها ثُمّ طلى لحيته، وقَالَ لنَفسِهِ: ذُوقي هَذَا جزاؤُك فِي مجالسة الأنذال. من أَخْبَار خَالِد بْن يَزِيد الْكَاتِب حَدَّثَنَا يَزِيد بْن الْحَسَن الْبَزَّاز، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِد الْكَاتِب، قَالَ: دخلتُ عَلَى أَبِي عُبَاد أَبِي الرَّغل بْن أَبِي عُبَاد، وَعِنْده أَحْمَد بْن يَحْيَى وَابْن الْأَعرَابِي فَرفع مجلسي، فَقَالَ لَهُ ابْن الْأَعرَابِي: من هَذَا الْفَتى الَّذِي أَرَاك ترفع من قدره؟ قَالَ: أَوْ مَا تعرفه؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ: هَذَا خَالِد الْكَاتِب الَّذِي يَقُولُ الشّعْر، فَقَالَ: أَنْشدني من قَوْلك شَيْئا فَأَنْشَدته: لَو كَانَ من بشرٍ لَمْ يَفْتِنِ البَشَرا ... وَلَم يَفُقْ فِي الضياء الشَّمْس والقمرا نور تجسَّم منحلٌ ومعقدٌ ... لَو أدركتْه عيونُ النّاس لانكدرا فصاح ابْن الْأَعرَابِي، وقَالَ: كفرت يَا خَالِد هَذِهِ صفة الْخَالِق لَيست صفة الْمَخْلُوق، فأنشدني مَا قُلْتُ غَيْر هَذَا، فَأَنْشَدته: أَرَاك لما لَججْتَ فِي غَضَبِك ... تَتْركُ رَدَّ السَّلامِ فِي كُتُبِك حَتَّى أتيت عَلَى قولي: أقولُ للسُّقْم إِلَى بدني ... حبا لشفاً يَكُون من سَببك فصاح ابْن الْأَعرَابِي، وقَالَ: إِنَّك لفطنٌ وَفَوق مَا وَصَفْتِ بِهِ. قَالَ القَاضِي: ابْن الْأَعرَابِي هَذَا أولى بِصفة الْكفْر من خَالِد، لِأَن خَالِدا لَمْ يَصِفْ مَنْ ذكَرَهُ فِي شعره إِلا بِصفة المخلوقين، إِذْ النورُ مَخْلُوق متجسَّمُه ومُنْحلَّهُ ومنعقِدُه، وَهُوَ والظلمة من خلق اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُنكر خَلْقَهُمَا ويَدَّعي أَنَّهُمَا أصلان قديمان الثنوية، وَابْن الْأَعرَابِي إِذْ جعل هَذِهِ الصّفة للخالق دون الْمَخْلُوق جَاهِل بِالدّينِ، ضال عَنْ سَبِيل الْمُؤْمِنِين.

لا يقبلها أو يعرفه

لَا يقبلهَا أَوْ يعرفهُ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُوسَى الْبَرْمَكِي، قَالَ: قَالَ خَالِد الْكَاتِب: وقف عَليّ رجلٌ بعد الْعشَاء متلفحٌ برداء عَدَنِيّ أسود وَمَعَهُ غُلام مَعَه صُرَّة، فَقَالَ لي: أَنْت خَالِد؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ: أَنْت الَّذِي يَقُولُ: قَدْ بَكَى العاذلُ لي من رَحْمتي ... فبكائي لبكاءِ العاذل قُلْتُ: نعم، قَالَ: يَا غُلام ادْفَعْ إِلَيْهِ الَّذِي مَعَك، فَقلت: وَمَا هَذَا، قَالَ: ثلثمِائة دِينَار، قُلْتُ: واللَّه لَا أقبلها أَوْ أعرفك، قَالَ: أَنَا إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي. الْحبّ أعظم مِمَّا بالمجانين حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنباي، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيّا بْن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْب بْن السكن، عَنْ يُونُس النَّحْويّ، قَالَ: لما اخْتَلَط عقل قَيْس الْمَجْنُون وَامْتنع عَنِ الطَّعَام وَالشرَاب مَضَت أُمّه إِلَى ليلى، فَقَالَت لَهَا: يَا هَذِهِ قَدْ لحق ابْني بسببك مَا قَدْ علمت، فَلَو صِرْت معي إِلَيْهِ رَجَوْت أَن يثوب لُبُّهُ ويرجَع عقلُه، إِذا عاينك، فَقَالَت: أما نَهَارا فَلَا أقدر عَلَى ذَلِكَ، لِأَنِّي لَا آمن الحيَّ عَلَى نَفسِي، وَلَكِن أمضي مَعَك لَيْلًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل، صَارَت إِلَيْهِ، فَقَالَت: لَهُ: يَا قَيْس إِن أُمَّك تزْعم أَن عقلك ذهب بسَببي، وَأَن الَّذِي لحقك أَنَا أصلُه، فَفتح عَيْنَيْهِ فَنظر إِلَيْهَا، وَأَنْشَأَ يَقُولُ: قَالَتْ جُنِنْتَ عَلَى ذِكْرِي فقلتُ لَهَا ... الحبُّ أعظمُ مِمَّا بالمجانين الحبُّ لَيْسَ يُفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصرعُ المجنونُ فِي الْحِين كَانَ يظنهُ هجاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيم الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن الْمُنْذر الخرامي، قَالَ: حَدَّثَنِي معن بْن عِيسَى، قَالَ: دخل ابنُ سَرْجُون السُّلَمِيّ عَلَى مَالك بْن أَنَس وَأَنا عِنْده، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه! إِنِّي قَدْ قُلْتُ أبياتًا من شعرٍ وذكرتُك فِيهَا، فَاجْعَلْنِي فِي حل، قَالَ: أَنْت فِي حلٍّ، قَالَ: أحِبُّ أَن تسمعها، قَالَ: لَا حَاجَة لي بِذَلِك، فَقَالَ: بلَى، قَالَ: هَات، فَقَالَ: قلت: سلوا مَالك الْمُفْتِي عَنِ اللَّهو والْغِنا ... وحُبّ الْحِسان المعجبات الفوارك ينبئكم أَنِّي مُصِيب وَإِنَّمَا ... أسلي هموم النَّفس عني بذلك فَهَل فِي محب يكتم الْحبّ والهوى ... أثامٌ وَهل فِي ضمة المتهالك فَضَحِك مَالك وسري عَنهُ، وقَالَ: لَا إِن شَاءَ اللَّه، وَكَانَ ظن أَنَّهُ هجاه. بيتان لأبي الْعَتَاهِيَة من أحسن الشّعْر حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ ابْن حَمْزَة الْهَاشِمِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْن عَبْد

من لحن العامة

الْملك، قَالَ: جَاءَ أَبُو الْعَتَاهِيَة يُرِيد الدُّخُول عَلَى أَحْمَد بْن يُوسُف فَمَنعه الْحَاجِب فَكتب إِلَيْهِ: ألم تَرَ أنَّ الفَقْر يُرْجَى لَهُ الْغِنَى ... وأنَّ الْغِنَى يُخْشَى عَلَيْه من الفَقْرِ قَالَ: فَقلت لَهُ: لَا تَتَعرض لَهُ وأسْكِتْهُ عَنْك، فَوجه إِلَيْهِ بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم، قَالَ عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم: فأعلمت ذَلِكَ عَلَى بْن جَبَلَة، فَقَالَ: بئْسَمَا صنع كَانَ يَنْبَغِي أنْ يَقُول لَهُ: أحمدُ، إِن الْفقر يُرْجَى لَهُ الْغنى فيشيد باسمه، قَالَ: القَاضِي قَدْ رُوينا هَذَا الْخَبَر عَنْ أَبِي الْعَتَاهِيَة من غَيْر هَذَا الطَّرِيق، وَبعد بَيته الَّذِي فِيهِ بَيت آخر وَهُوَ: ألم تَرَ أَن البَحْر يَنْضُبُ مَاؤُهُ ... وَتَأْتِي عَلَى حيتانه نُوَبُ الدَّهْر من لحن الْعَامَّة فِي ينضب لُغَتَانِ، ضم عين الْفِعْل وَكسرهَا وماضيه نَضَب بِالْفَتْح، وَإِنَّمَا ذكرت هَذِهِ لأنني أسمع الْعَامَّة يَقُولُونَ فِيهِ: ينضَب بِالْفَتْح وَرُبمَا قَالُوا: نضِب بِكَسْر الضَّاد فِي الْمَاضِي، وَهَذَانِ البيتان لأبي الْعَتَاهِيَة من أحسن الشّعْر وأوضحه، عَلَى أَنَّهُ قَدْ سبقه إِلَى بَيته الأول الْقَائِل: فَمَا يدْرِي الْفَقِير مَتى غناهُ ... وماد يَدْري الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وَفِيهِ حِكْمَةٌ وَعِبْرَةٌ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ". عذريٌ وَرب الْكَعْبَة حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بن نصير لخواص، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن مَسْرُوق، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن شبيب، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الصَّمد الْبكْرِيّ، أَخْبَرَنَا ابْن عُيَيْنة، قَالَ: قَالَ سَعِيد بْن عُقْبة الهَمْدانِّي لأعرابي: مِمَّنْ أَنْت، فَقَالَ: من قوم إِذا عشقوا مَاتُوا، قَالَ: عذريٌ وربِّ الْكَعْبَة، فَقلت: ومم ذَاك، قَالَ: فِي نسائنا صباحة، وَفِي فتياننا عفَّة. أتلف ثَلَاثِينَ ألف ألف دِرْهَم حَدَّثَنَا يزْدَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يزْدَاد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ، قَالَ: وحَدَّثَنِي ابْن أَبِي زُهَيْر الْعَبْسيّ، عَنْ عِيسَى بْن أَبِي شَيْبَة الْأَصْغَر، قَالَ: دخل عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي بكرَة عَلَى الحَجَّاج وَفِي إصبعه خَاتَم، فَقَالَ لَهُ: يَا عُبَيْد اللَّه! عَلَى كم ختمت بخاتمك هَذَا؟ قَالَ: عَلَى ثَلَاثِينَ ألف ألف، قَالَ: فَفِيمَ أتْلَفْتها، قَالَ: فِي تَزَوُّج العقائل والمكافأة بالصنائع، وَأكل الْحَار وشُرْبِ القار، قَالَ: أَرَاك ضليعًا، قَالَ: ذَاك أصلحك اللَّه لِأَنِّي لَا آكل إِلا عَلَى نقاء، وَلا أجامع إِلا عَلَى شَهْوَة، فَإِذا كَانَ اللَّيْل رَوَّيْتُ قدميَّ زَنْبقًا، ورأسي بَنَفْسجة يصعد هَذَا ويحدِر هَذَا فَالْتَقَيَا فِي الْمعدة فَعقَد الشَّحْم. قَالَ القَاضِي: العقائل جمع عقيلة، والعقيلة: دُرَّة الْبَحْر، وَبهَا سميت الْمَرْأَة لكرامتها، قَالَ ابْن قيس الرقيات: تذهل الشَّيْخ عَن بنيه وتبدي ... عَن خدام العقيلة الْعَذْرَاء

يحتاج صاحب السلطان إلى ثلاث

يحْتَاج صَاحب السّلطان إِلَى ثَلَاث حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي شيخ مُحدث عَنْ عمّه، قَالَ: خرجتُ من عِنْد يَعْقُوب بْن دَاوُد فَلَمَّا استويتُ عَلَى دابّتي قَامَ إليّ دِهْقَانٌ مَجُوسِيّ وَسَأَلَ أَن أَسْتَأْذن لَهُ يَعْقُوب، فَقلت: إِنَّك لَو كُنْت سَأَلتنِي وَأَنا أَدخل كَانَ أحسن، فَأَما وَأَنا أخرج فَلَا، قَالَ: فَخَطب عَليّ خطْبَة بِالْفَارِسِيَّةِ واضطرني إِلَى أَن دخلتُ عَلَى يَعْقُوب فاستأذنت لَهُ، فَقَالَ: أعرفُه، ثُمّ أرسل من أدخلهُ، فَقَالَ لَهُ الدِّهقان: إِنَّك تعلم أَن من أمثالنا أَن صَاحب السّلطان يَنْبَغِي أَن يَكُون مَعَه خلالٌ ثَلَاث: الصبرُ والعقلُ وَالْمَال، فَأَما مَا لَا ينفذ مِنْهَا فمعي. الصَّبْر وَالْعقل، وَأما مَا تُنْفِده الْأَيَّام فقد فَنِيَ وَهُوَ المَال، فإمَّا أَن تمدَّني بمالٍ فأقيم، وَإِمَّا أَن تَقْضِيَ حَاجَتي، قَالَ: فَقضى حَاجته وَأَعْطَاهُ. المجلِسُ السَّابع والثَلاثون من هدي النبوَّة حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفُلُوسِيُّ أَبُو يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُكَيْنُ بْنُ أَبِي سِرَاجٍ أَبُو عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: نَادَى رجلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، قَالَ: فَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، قَالَ: سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ لأَخٍ لِي مُسْلِمٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ شَهْرًا يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يمضينه لأَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة رضى، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخٍ لَهُ مُسْلِمٍ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلُّ الأَقْدَامُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ. رِوَايَة أُخْرَى للْحَدِيث حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْقَاسِم من زَكَرِيَّا الْمُحَارِبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْن إِسْحَاقَ الرَّاشِدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاهِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُكَيْنِ بْنِ أَبِي سِرَاجٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ وَإِنَّ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، سُرُورًا تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً أَوْ تَسُدُّ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ لأَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضًا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخٍ لَهُ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلُّ الأَقْدَامُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ.

تعقيب للمؤلف

تعقيب للمؤلف قَالَ القَاضِي: وَقَدْ روينَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَة وَنَحْوهَا أَخْبَارًا كرهنا الإطالة باستيعابها، واكتفينا بِمَا أَثْبَتْنَاهُ فِي هَذَا الْموضع مِنْهَا، وفيهَا من إِعْلَام النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا ذكره فِيهَا من مَكَارِم الْأَفْعَال، ومحاسن الْأَعْمَال، وحَضِّه عَلَيْهَا، وَوَصفه مَا أَنْبَأَ عَنْهُ من الْفَضْل مِمَّا يَدْعُو كُلّ ذِي بَصِيرَة إِلَى الِانْقِطَاع إِلَيْهِ، والمواظبة عَلَيْه، وَقُوَّة الرَّغْبَة فِيهِ، والمنافسة فِي وفور الحظِّ مِنْهُ، وَهُوَ مؤكدٌ لما اسْتَقر فِي نفوس ذَوي الفطن السليمة حُسْنُه وشرفه، وَاسْتِحْقَاق الْأَخْذ بِهِ من الإجلال والتعظيم، والتشريف والتقديم، مَعَ عَظِيم مَا يُرْجَى لمن تخلَّق بِهِ من أَهْل الإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله، من جزيل الثَّوَاب، والفوز فِي المنقلب والإياب، والأمن من سوء الْحساب، وأليم الْعَذَاب. يتَصَدَّق بقصب بَيته حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صاعد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بْن الْحَسَن المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْهَيْثَم بْن جميل، يَقُولُ: كَانَ الْحَسَن بْن صَالِح بْن حَيّ يتَصَدَّق، حَتَّى إِذا لَمْ يبْق فِي يَده شيءٌ وَجَاء سائلٌ نزع خُصًّا كَانَ يَكُون أَمَام بَيته فَأعْطَاهُ السَّائِل، حَتَّى إِذا وجد شَيْئا اشْترى قصبًا وبناه، قَالَ: وَكَانُوا إِذا رَأَوْا بابَهُ بِغَيْر خُص علمُوا أَنَّهُ لَمْ يبْق عِنْده شَيْء. خبر صَخْر بْن شريد السُّلَمِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، ثُمّ حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيّ قَالَ: التقى صَخْرُ بْن عَمْرو بْن الشَّرِيد السُّلَمِيّ وَرجل من بني أَسد، فطعن لأسدي صخرًا فَقِيل لصخر كَيفَ طَعَنَك، قَالَ: كَانَ رُمْحُه أطولَ من رُمْحِي بأُنْبُوب، فضمن صخرٌ مِنْهَا فطال مَرضه، وَكَانَت أُمّه إِذا سُئلت عَنْهُ، قَالَتْ: نَحْنُ بخيرٍ مَا رَأينَا سوادَه بَيْننَا، وَكَانَ امْرَأَته إِذا سُئِلت عَنْهُ، قَالَتْ: لَا حَيٌّ فُيْرجَى وَلا مَيِّتٌ فيُنْعَى، فَقَالَ صَخْر: أرى أم صخرٍ لَا تَمَلٌّ عِيادتي ... ومَلَّتْ سُلَيْمَي مَضْجَعِي ومكاني إِذا مَا امرؤٌ سَاوَى بأُمٍّ حَلِيلَة ... فَلَا عَاشَ إِلا فِي شقًا وهوان لَعَمْري لقَدْ أيقظت من كَانَ نَائِما ... وأسمعتَ مَنْ كَانَتْ لَهُ أذنان بَصيرًا بوَجْهِ الحَزْمِ لَو أسْتطيعه ... وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ العَيْرِ والنزوان شرح معنى الضَّمَان والسواد قَالَ: القَاضِي قَوْله فضمن مَعْنَاهُ سَقِم وبَلِي جِسْمه، يَقُولُ: بفلان ضمانٌ مثل سقامٌ وضمانةٌ مثل زَمَانة، قَالَ ابْن الدُّمَيْنة: أُمَيْم بقلبي مِنْ هَوَاكِ ضمانةٌ ... وأنتِ لَهَا لَو تَعلمين طبيبُ

معاني العير

ويروي زَمَانَة، وَحكى: بفلان زمنٌ وزمانةٌ وزمنةٌ، وضمنٌ وضمنةٌ وضمانةٌ وضَمَان، وَقَول: أم صَخْر مَا رَأينَا سَوَادَهُ يَعْنِي شخصه، قَالَ الْأسود بْن يَعْفُر: إِن المنيَّة والْحُتوف كِلاهما ... فَوق المَخَارِمِ يَرْمُقان سَوَادِي مَعَاني العير والعَيْر هَا هُنَا الْحمار، وَهُوَ اسمٌ يقعُ عَلَى أَشْيَاء ذَوَات عددٍ. مِنْهَا اسْم جبل، ويُقَالُ: للملَك عَيْرٌ، وللعُودِ الْمُمتدِّ متوسطًا لورق الشَّجر والنبات، وللناتىء فِي الْكَفّ، وللناتىء فِي ظهر الْقدَم، وَلما فِي سَواد الْعين، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: ويمشِي الْقِبِصَّى قبل عيرٍ وَمَا جَرَى ... وَلَم تَدْرِ مَا شَأني وَلم أدر مَا لَهَا الْقِبِصَّى مشيةٌ فِيهَا تَوَثُّب، وَمن كَلَام الْعَرَب: افْعَل هَذَا قبل عيرٍ وَمَا جرى، ويُقَالُ: للوَتِد عَيْر، وَقَدْ قَالَ أولو الْمعرفَة مِنْ رُواة الشِّعر فِي قَول الْحَارِث بْن حِلْزة: زَعَمُوا أَن كل من ضرب العي ... ر موالٍ لنا وَأَنا الوَلاءُ أقوالا وَحمل كُلّ مِنْهُم تَأْوِيله عَلَى وَجه من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَلذكر ذَلِكَ موضعٌ غَيْر هَذَا، وأمّا النَّزَوَان فَهُوَ التوثُّب والتحرك صُعُدًا، وذُكِر أَهْل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا حَرَكَة فِيهَا تصعُّد وارتفاع، ذكر نَحْو ذَلِكَ سِيبوَيْه، وَمثل هَذَا الجَوَلان والخَفَقَانُ والبَرَدَان والرَّجفان والعَسَلان والسَّيلان مِمَّا يكثر تعداده. شعرٌ عَلَى حَائِط حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُفَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: قَالَ لي أَبُو عَليّ صديقنا حَدَّثَنِي بعض أَهْل الْمعرفَة، أَنَّهُ بَينا هُوَ فِي بعض بِلَاد الشَّام نزل فِي دَار من دورها فَوجدَ عَلَى بعض الْحِيطَان كتوباً: دعوا مُقْلَتي تبْكي لفقد حبيبها ... ليطفىء بَرْدُ الدَّمْع حرَّ كُرُوبها فَفي حلِّ خيطِ الدمع للقلب راحةٌ ... فَطُوبَى لنَفس مُتِّعَتْ بحبيبها بِمن لَو رأتْهُ القاطعاتُ أكُفَّها ... لما رضِيَتْ إِلا بِقطع قُلُوبِها قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهُ فَأخْبر أَن بعض الْعمَّال ترك هَذِهِ الدَّار وَقَدْ أصَاب ثَلَاثِينَ ألف دِينَار، فَعَلِقَ غُلَاما فأنفق ذَلِكَ المَال كُلَّه عَلَيْه، قَالَ: فَبينا أَنَا جالسٌ وَمر بِنَا ذَلِكَ الْغُلَام، قَالَ: قَالَ: فَمَا رأيتُ غُلَاما أحسنَ مِنْهُ حُسنًا وجمالا. معنى إِذا سرقت فاسرق دُرَّة حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْثُ أَبُو نصر المَرْوَزِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نصر مُحَمَّد بْن يَحْيَى بْن طَاهِر الْخُزَاعيّ المَرْوَزِيّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور بن طَلْحَة، يَقُولُ: سَمِعْتُ عمي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، يَقُولُ: سَأَلَني الْمَأْمُون أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاس!

بعض أخبار ذي الرمة وأخوته ومحبوبته

مَا معنى إِذا سرقت فاسرق دُرَّة، وَإِذَا زَنَيْت فازْنِ بحُرَّة، فَقلت: أويخبرني أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: لَيْسَ هَذَا حَثًّا عَلَى الزِّنَا، وَلا عَلَى السَّرِقَة، وَلَكِن إِذا رُمْتَ الزِّنا من الْحُرَّة تَعذَّر عَلَيْك، وَإِذَا رُمْتَ السّرقَة للدُّرة تعذَّر عَلَيْك لِأَنَّهَا مصونة فَلَا تقدر عَلَيْهَا. بعض أَخْبَار ذِي الرمة وَإِخْوَته ومحبوبته حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، ومُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، عَنْ أَبِي زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِح الفَزَاريّ، قَالَ: ذكر ذُو الرمة فِي مجْلِس فِيهِ عدَّة من الْأَعْرَاب، فَقَالَ: عصمَة بْن مَالك شيخ مِنْهُم قَدْ أَتَى لَهُ مائَة سنة، فَقَالَ، كَانَ من أظرف النّاس، وقَالَ: كَانَ آدم خَفِيف العارضين حسن المضحك حُلْو الْمنطق، وَكَانَ إِذا أنْشد بربر وَحسن صَوته، وَإِذَا واجهك لَمْ تَسْأَم حَدِيثه وَكَلَامه، وَكَانَ لَهُ إخْوَة يَقُولُونَ الشّعْر مِنْهُم مَسْعُود، وَهَمَّام، وخرواش، وَكَانُوا يَقُولُونَ القصيدة فيزيد فِيهَا الأأبيات فيغْلب عَلَيْهَا فتذهب لَهُ، فَأتى يَوْمًا فَقَالَ لي: يَا عصمَة! إِن مية مِنقَرية وَبَنُو منقر أَخبث حَيّ وأبصره بأثر وأعلمه بطرِيق، فَهَل عنْدك من نَاقَة تزدارُ عَلَيْهَا ميَّة؟ فَقلت: نعم، عِنْدِي الجؤذر، قَالَ: عَليّ بهَا فركبناها جَمِيعًا حَتَّى نشرف عَلَى بيُوت الْحَيّ، فَإِذا هُمْ خلوف وَإِذَا بَيت ميَّة خالٍ، فملنا إِلَيْهِ فتقوص النّساء نحونا وَنَحْو بَيت ميّ، فطلعت علينا فَإِذا هِيَ جَارِيَة أملودٌ وَارِدَة الشَّعر، وَإِذَا عَلَيْهَا سِبُّ أصفر وقميص أَخْضَر، فَقُلْنَ أنشدن يَا ذَا الرُّمَّةِ، فَقَالَ: أنشدهن يَا عصمَة، فَنَظَرت إلَيْهِنَّ فأنشدْتُهن: وقفتُ عَلَى رسْم لمية نَاقَتي ... فَمَا زلتُ أبْكِي عِنْدَهُ وأخاطبه وأسقيه حَتَّى كَاد ممّا أبثُّه ... تُكَلِّمني أحجارُه وملاعبُه حَتَّى بلغت إِلَى قَوْله: هَوَى آلفٍ جَاءَ الْفِراقُ وَلَم تُجِلْ ... جوائلها أسرارُهُ ومَعَاتبه فَقَالَت ظريفه مِمَّنْ حضر: فلتجل الْآن، فَنَظَرت إِلَيْهَا حَتَّى أتيت عَلَى القصيدة إِلَى قَوْله: إِذا سَرَحتْ من حُبٍّ مَيٍّ سوارحٌ ... عَلَى الْقلب أبته جَمِيعًا عوازبُه فَقَالَت الظريفة مِنْهُنَّ: قَتَلْتِهِ قَتَلَكِ اللَّه، فَقَالَت ميٌّ: مَا أصحَّهُ وهنيئًا لَهُ، فتنفس ذُو الرمة نفسا كَاد من حَرِّه يُطَيِّر شعر وَجهه، ومضيت فِي الشّعْر حَتَّى أتيت عَلَى قَوْله: وَقد حَلَفت بِاللَّه مية مالذي ... أَقُول لَهَا إِلا الَّذِي أَنَا كاذبه إِذا فَرَمَانِي اللَّه من حَيْثُ لَا أرى ... وَلا زَالَ فِي دَاري عدوٌّ أحاربه

فَقَالَت الظريفة: قتلته قَتلك اللَّه، فَقَالَت ميٌّ: خَفْ عواقب اللَّه يَا غيلَان، ثُمّ أتيتُ عَلَى الشّعْر حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى قَوْله: إِذا راجَعَتْكَ القولَ ميَّةُ أَوْ بدا ... لَك الوجهُ مِنْهَا أَوْ نَصَا الدِّرعَ سَالِبُهُ فيا لَك من جُدٍّ أسيلٍ ومنطق ... رخيم وَمن خلقٍ تعلل جادبه فَقَالَت: تِلْكَ الظريفة: هَا هَذِهِ وَهَذَا القَوْل قد رَاجَعتك، تُرِيدُ واجهتها فَمن لَك أَن يَنضو الدرْع سالبه، فالتفتت إِلَيْهَا مية، فَقَالَت: قَاتلك اللَّه مَا أعظم مَا تجيئين بِهِ، فتحدثنا سَاعَة ثُمّ قَالَت الظريفة للنِّسَاء: إِن لَهما شَأْن فقمن بِنَا، فقمن وَقمت معن فَجَلَست بِحَيْثُ أراهما، فَجعلت ميةُ تَقول لَهُ: كذبت، فَلَبثت طَويلا ثُمّ أَتَانِي وَمَعَهُ قارورةٌ فِيهَا دهن، قَالَ: هَذَا دهنُ طيبٍ أتحفتنا بِهِ مية، وَهَذِه قِلادة للجُؤذُر، واللَّه لَا أَخْرجتُها من يَدي أبدا، فَكَانَ يخْتَلف إِلَيْهَا حَتَّى إِذا انقصى الربيعُ ودعا النّاس الصَّيف أَتَانِي، فَقَالَ: يَا عصمَة! قَدْ رحلت ميُّ فَلم يبْق إِلا الرَّبْعُ والْآثَار، فَاذْهَبْ بِنَا نَنْظُر إِلَى آثَارهم، فخرجنا حَتَّى انتهينا فَوقف، وقَالَ: أَلا يَا اسْلَمي يَا دَارَ ميٍ عَلَى البلَى ... وَلا زَال مُنْهَلًّا بجرْ عائِك القطْرُ وَإِن لَم تَكُوني غَيْر شامٍ بقفرةٍ ... تجرُّ بهَا الأذْيال صيفيةٌ كُدْرُ فَقلت لَهُ: مَا بالُك، فَقَالَ لي: يَا عصمَة إِنِّي لجَلْد، وَإِن كَانَ مني مَا ترى فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ. وَالْخَبَر عَلَى لفظ أَبِي عَبْد اللَّه. قَالَ: وَحدثت عَنِ ابْن أَبِي عَدِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا الرُّمة يَقُولُ: بلغت نصف عُمَر الهَرِم أَرْبَعِينَ سنة، وقَالَ ذُو الرمة: عَلَى حِين راهقتُ الثَّلَاثِينَ وارعوتْ ... لِدَاتي وَكَانَ الحلمُ بِالْجَهْلِ يرجح إِذا خطرت من ذككر ميَّةَ خطرةٌ ... عَلَى الْقلب كَادَت فِي فُؤَادك تجرحُ تصرَّفُ أهواء الْقُلُوب وَلا أرى ... نصيبَك من قلبِي لغيرك يُمْنَحُ وبعضُ الْهوى بالهجر يُمحى فيمَّحى ... وحُبُّك عِنْدِي يَسْتَجدُّ ويَرْبَحُ وَلما شكوتُ الْحبّ كَيْمَا تثيبني ... بوجْدِيَ قَالَتْ إِنَّمَا أَنْت تمزح بعادًا وإدلالا عَليّ وَقَدْ رأتْ ... ضمير الْهوى قَدْ كَاد بالجسم يبرحُ لَئِن كَانَت الدُّنْيَا عَليّ كَمَا أرى ... تباريح من ذكراك لَلْمَوتُ أرْوَحُ ويروى تباريح من مي فللموت أروح قَالَ القَاضِي: وَهَذِه القصيدة من قصائد ذِي الرمة الطوَال الْمَشْهُورَة المستحسنة وأولها: أمنزلتي مي سلامٌ عَلَيْكُمَا ... على النأي والنائي يود وَينْصَح

وَمِنْهَا ذكرتك إِذْ مرت بِنَا أمُّ شادنٍ ... أَمَام المطايا تشرَئبُّ وتسْنَح من المؤلفات الرملَ أدْمَاءُ حرةٌ ... شُعاعُ الضُّحى فِي مَتْنِها يتوضحُ رأتنا كأنا عامِدُون لصيدها ... ضُحى فَهِيَ تَدْنُو تَارَة وتزحزحُ هِيَ الشِّبْهُ أعطافًا وجيدًا ومُقلةً ... ومَيَّةُ أبْهى بَعْدُ مِنْهَا وأملحُ وَهَذِه من أحسن الحائيات الَّتِي أَتَتْ عَلَى هَذَا الروي، ونظيرها كلمة ابْن مُقْبِل الَّتِي أَولهَا: هَل الْقلب عَنْ أسْماءَ سالٍ فَمُسْمِحُ ... وزاجِرُهُ عَنْهَا الخيالُ الْمُبَرَّحُ وَقَول جرير: صَحَا القلبُ عَنْ سَلْمى وَقَدْ بَرِحَت بِهِ ... وَمَا كَانَ يَلْقَى من تُمَاضِرَ أبرحُ وذُكِر فِي خبر ذِي الرمة بِهَذَا الْإِسْنَاد إخوةُ ذِي الرُّمة فَقيل فِيهِ: مَسْعُود، وَهَمَّام، وخرقاش، فَأَما مَسْعُود فَمنْ مشهوري إخْوَته، وإياه عني ذُو الرمة، بقوله: أَقُول لمسعودٍ بجرعاءِ مالكٍ ... وَقَدْ هُمّ دَمْعِي أَن تَسُحّ أوائِلُهْ وَمِنْهُم هِشَام وَهُوَ الَّذِي اسْتشْهد سِيبوَيْه من الْإِضْمَار فِي لَيْسَ بقوله. فَقَالَ: قَالَ هِشَام بْن عُقْبة أَخُو ذِي الرمة: هِيَ الشِّفَاء لدائي لَو ظفرتُ بهَا ... ولَيْسَ مِنْهَا شفاءُ الداءِ مَبْذُولُ وَمِنْهُم أَوْفَى وَهُوَ الَّذِي عناه بعض إخْوَته فِي شعرٍ رثا فِيهِ ذَا الرمة أخاهما: تَعَزَّيْتُ من أوفى بغيلانَ بعدَهُ ... عَزَاءُ وَجَفْنُ الْعين ملآنُ مُتْرعُ وَلَم تُنسني أَوْفَى المصيباتِ بعده ... وَلَكِن نَكْءَ القَرْحِ بالقَرْحِ أوجعُ وَذكره ذُو الرمة، فَقَالَ: أَقُول لأوفي حِين أبْصر باللوى ... صحيفَة وَجْهي قد تغير حَالهَا وَقَوله: فَإِذا هم خلوف، يُقَال: لمن تخلف بالحي إِذا ظعنوا وانتجعوا: خُلُوف، قَالَ الشَّاعِر: فيا لَذَّات يومٍ أزورُ وَحْدي ... ديار الْمُوعِدِيَّ وهُمْ خلوف يروي فيالذات يوْم ويومٍ، أَزور، فَمنْ عَنَى بقوله فيالذات بِالْإِضَافَة إِلَى الْيَاء الَّتِي هِيَ ضمير الْمُتَكَلّم وأسقطها اكْتِفَاء بكسرة التَّاء الَّتِي هِيَ فِي مَوضِع نَصَبِ لإِقَامَة وزن الشّعْر، فَيوم مَنْصُوب لَا غَيْر عَلَى الظّرْف، وَمن أضَاف قَوْله فيالذات إِلَى الْيَوْم جَازَ لَهُ النصب لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْل وَهِي الَّتِي يسميها كوفيُّو النُّحَاة إِضَافَة غَيْر مُحصنَة، وَجَاز الْجَرّ واختير لِإِضَافَتِهِ إِلَى فعل مُعرب غَيْر مَبْنِيّ. وَقَدْ يُقَالُ أَيْضا للحي الظاعن: خُلُوف. وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: مي فِي مَوَاضِع فِيهِ، ومية فِي مَوَاضِع أخر، فقد ذكر

النحويون أَن ذَا الرمة كَانَ يسميها تَارَة مية وَتارَة مي، وَهَذَا بَيْنَ فِي كثير من شعره، من ذَلِكَ قَوْله: ديارُ ميةَ إذْ ميٌّ تساعِفُنا ... وَلا يَرى مثلَها عجمٌ وَلا عَرَبُ وروى قَوْله: فِيمَا ميّ مَا يُدريك أَيْنَ مناخنا ... معرقة الألحى يَمَانِية شَجرا بِالرَّفْع وَالنّصب فَمن رَوَاهُ بِالنّصب فوجهه أَنَّهُ رُخِّم عَلَى قَول من قَالَ: يَا حارِ أقبل وَهُوَ أَقيس وَجْهي التَّرْخِيم، وَمن رَوَاهُ بِالرَّفْع فعلى أَن مي اسمٌ تامٌ غَيْر مرخّم، لِأَنَّهُ منادى مُفْرد وَقَدْ يجوز ترخيمه عَلَى قَول من قَالَ: يَا حارِ. وَمِمَّا يُبِّين أَنَّهُ كَانَ يقْصد تَسْمِيَتهَا بمي عَلَى غَيْر التَّرْخِيم، قَوْله: تداويتُ من ميٍّ بِتَكْلِيم ساعةٍ ... فَمَا زَاد إِلا ضَعْفَ مَا بِي كَلامُها وَقَوله: جاريه أُمْلُود، مَعْنَاهُ: ناعمة كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أرَيْتَ إِن جاءتُ بِهِ أُمْلُودَا ... مُرَجَّلا ويَلْبَسُ الْبُرُودا وأمّا قَوْله وَإِذَا عَلَيْهَا سبٌ أصفر، فَإنَّهُ يَكُون الرِّداء والْخِمَار، قَالَ الشَّاعِر: وأشهدُ من عَوْف حُلُولا كَثِيرَة ... يحجون سِبَّ الزِّبرقان الْمُزَعْفَرا والسِّبُّ: الْخَيط، والسِّب أَيْضا الكفؤ فِي السباب كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لَا تسببني فَلَسْتَ بِسِبِّي ... إِن سِبِّي من الرِّجالِ الكريمُ وقَالَ الأخطل: بني أَسد لستُم بِسبِّي فأقْصِرُوا ... ولكنما سبي سليمٌ وعامر قَوْله: أونضا الدِّرْع سالبه، معنى نَضَاهُ: خَلَعَه، يُقَالُ: نضا السَّيْف من غِمده وانتضاه ونضا الثَّوْب عَنْهُ إِذا خلعه، قَالَ: امْرُؤ الْقَيْس: فَقُمْت وَقد نضَتْ لنومٍ ثِيَابهَا ... لَدَى السِّتْر إِلا لُبْسة المتفضل وَقَوله ومنطق رخيم، الرخيم الَّذِي فِيهِ تقطع يستحسن وَمثله قَوْله أَيْضا: لَهَا بشرٌ مثلُ الحَرِير ومنطقٌ ... رَخِيمُ الحَوَاشي لَا هراءٌ وَلا نَزْرُ وَمن هَذَا قَوْلهم: رخمت الدَّجَاجَة إِذا قطعت بيضها، وَمِنْه ترخيم الْكَلَام فِي الْعَرَبيَّة كَقَوْلِك: يَا حَار وَيَا مالِ، وَقَوله تَعلَّلَ جَادِبُه، الجادب: العائِب، وَمِنْه الْخَبَر " جَدب عمر السمر بعد الْعشَاء " أَيّ عَابَ السَّمَر وَكَرِهَهُ بعد الْعشَاء. وَقَوله أَلا يَا اسلمي، مَعْنَاهُ: يَا هَذِهِ اسلمي، وعَلى هَذَا الْمَذْهَب قِرَاءَة من قَرَأَ " أَلا يَا اسْجُدُوا " وَمن هَذَا النَّحْو قَول الأخطل: أَلا يَا اسلمِي يَا هِنْدُ هِنْدُ بني بدرٍ ... وَإِن كَانَ حيانا عَدِيّ آخر الدَّهْرِ وقَالَ الآخر:

الصغرى أظرفهن

يَا لعنةُ اللَّه والأقوامُ كُلِّهِمُ ... والصَّالحين عَلَى سَمْعَان مِنْ جَارِ وَهَذَا بَاب وَاسع جدا وَنحن نشبع القَوْل فِيهِ إِذا انتهينا إِلَى الْبَيَان عَنْ قَول اللَّه عز وَجل: " أَلا يَا اسجدوا لله " وَشرح مَا فِيهِ من التَّأْوِيل والقراآت فِي مَوْضِعه فِي كتبنَا فِي علل التَّأْوِيل والتلاوة إِن شَاءَ اللَّه. وقولُ ذِي الرمَّة: عَلَى حِين راهقتُ الثَّلَاثِينَ بِنصب حِين، هَكَذَا روينَاهُ، وَهُوَ الْوَجْه المتَّفقُ عَلَى صِحَّته فِي الْإِعْرَاب، وَالْمُخْتَار عِنْد كثير من نُظار النُّحاة الْفَتْح لِإِضَافَتِهِ إِلَى مبنيٍ غَيْر مُعْرب، وَذَلِكَ " راهقت " الَّذِي هُوَ فعل مَاض كَمَا قَالَ الشَّاعِر: عَلَى حينَ عاتبتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبا ... وقُلْتُ ألَمَّا تَصْحُ والشيبُ وَازِعُ وعَلى هَذَا الْوَجْه قِرَاءَة من قَرَأَ من القَرَأَةِ " وَمِنْ خزي يَوْمئِذٍ " وَمن قَرَأَ: يومئذٍ " وَمن عَذَاب يَوْمئِذٍ "، وَهَذَا كلُّه مشروح مَعَ تَسْمِيَة من قَرَأَ بِهِ، وحُجج الْمُخْتَلِفين فِيهِ فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي حُرُوف الْقُرْآن وتأويله. الصُّغْرَى أظرفهن حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن زُهَيْر بْن حَرْب بْن أَبِي خَيْثَمَة، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير بْن بَكَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي مُصْعَب عمي، قَالَ: ذكر لي رجلٌ من أَهْل الْمَدِينَة، أَن رَجُلا خرج حاجًّا فَنزل تَحت سرحةٍ فِي بعض الطَّرِيق من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، فَنظر إِلَى كتاب معلقٍ عَلَى السَّرْحة مَكْتُوب فِيهِ: بِسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم: أَيهَا الْحَاج القاصدُ بَيت اللَّه، إِن ثَلَاث أخواتٍ خَلَون يَوْمًا فبُحْنَ بأهوائهن وذكرن أشجانهن، فَقَالَت الْكُبْرَى: عجبْتُ لَهُ إذْ زار فِي النَّومِ مَضّجَعي ... وَلَو زَارَني مُستيقظًا كَانَ أعْجَبَا وَقَالَت الْوُسْطَى: وَمَا زَارَنِي فِي النَّوْمِ إِلا خَيَالُهُ ... فقلتُ لَهُ أَهلا وسَهْلا ومَرْحَبَا وَقَالَت الصُّغْرَى: بنفسي وَأَهلي من أرى كُلّ ليلةٍ ... ضَجِيعي وريَّاهُ من الْمِسْك أطْيَبَا وَفِي أَسْفَل الْكتاب مَكْتُوب: رحم اللَّه امْرأ نظر فِي كتَابنَا هَذَا فَقضى بِالْحَقِّ بَيْننَا، وَلم يجر فِي الْقَضِيَّة، قَالَ: فَأخذ الْكتاب فَكتب فِي أَسْفَله: أحدِّثُ عَنْ حورٍ تَحَدّثْن مرّة ... حَدِيث امرىءٍ سَاس الْأُمُور وجَرَّبا ثلاثٌ كبكْرَاتِ الهجان عَقَائِل ... نَوَاعم يغلبن اللبيب المهذَّبا خلون وَقَدْ غَابَتْ عيونٌ كثيرةٌ ... من اللائي قَدْ يهوين أَن يتغيبا فبحن بِمَا يُخفين من لاعج الْهوى ... مَعًا واتخذن الشّعْر ملهًى وملعبا

المجلس الثامن والثلاثون

عجبت لَهُ أَن زار فِي النَّومِ مَضّجَعي ... وَلَو زَارَني مُستيقظًا كَانَ أعجبا فَلَمَّا أخْبرت مَا أخْبرت وتضاحكت ... تنفست الْأُخْرَى، وَقَالَت تطربا وَمَا زَارَنِي فِي النَّوْمِ إِلا خَيَالُهُ ... فقلتُ لَهُ أَهلا وسَهْلا ومَرْحَبَا وشوقت الْأُخْرَى وَقَالَت مجيبة ... لَهُنَّ بقولٍ كَانَ أشهى وأعجبا بنفسي وَأَهلي من أرى كُلّ ليلةٍ ... ضَجِيعي وريَّاهُ من الْمِسْك أطْيَبَا فَلَمَّا تبينت الَّذِي قُلْنَ وانبرى ... لي الْحَكَم لَمْ أترك لذِي القَوْل مَعْتَبا قضيت لصُغْراهن بالظّرف إنَّني ... رَأَيْت الَّذِي قَالَتْ إِلَى الْقلب أعجبا قَالَ القَاضِي: السَّرحة الشَّجَرَة، قَالَ عنترة يصف رَجُلا بِعظم الجثة وَكَمَال الْخلقَة وبهاء الصُّورَة: بطلٌ كأنّ ثيابَهُ فِي سرحةٍ ... تَحذى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ وقَالَ بعض الْأَعْرَاب: يَا سرحة الدَّوح أَيْنَ الحيُّ واكبدا ... رُوحِي تَذُوب وَبَيت اللَّهِ من حَسَرِ وقَالَ حُمَيد بْن ثَوْر الْهِلَالِي: أَبى اللَّه إِلا أَن سَرْحَةَ مالكٍ ... إِلَى الْقلب من بَين العضاه تروق الدَّوْحُ: جمع دَوْحة، وَهُوَ مَا عظم من الشّجر. المجلِسُ الثَامِن وَالثَلاثونْ إِذا أحبّ اللَّه عبدا منحه الْقبُول حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِشْكَابَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَشِّرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُة بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، قَالَ: وَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ: وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، قَالَ: وَلا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ. شرح الْحَدِيث قَالَ القَاضِي إِن اللَّه جلّ جَلَاله يحب من عباده من أطاعه، وَيَضَع الْقبُول لمن قَبِل وَصَايَاهُ وَعمل بِمَا يعودُ بمرضاته، فنسأل اللَّه تَعَالَى توفيقنا لطاعته الْمُوجبَة لمحبته، وعصمتنا من مَعْصِيتَه المؤدية إِلَى سَخَطه، فطوبى لمن أطَاع ربه فأحبّه، وويلٌ لمن عَصَاهُ وأغضبه، وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى ذِكره: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيغْفر لكم ذنوبكم " وقَالَ جلَّ اسْمه: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قل فَلم

ضبط بعض المصادر التي أتت على فعول

يعذبكم "، وَمن أحبه ربه أكْرمه وَلَم يُهنه، ونَعَّمه وَلَم يُعذبه، وَلَقَد أحسن لقَائِل: تعضي الإِله وَأَنت تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا مجالٌ فِي الْقِيَاسِ شَنِيعُ لَو كَانَ حُبُّك صَادِقا لأطعتَهُ ... إنَّ المحبَّ لِمن أحبَّ مُطِيعُ ضبط بعض المصادِر الَّتِي أَتَتْ عَلَى فعول قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ، وَالْقَبُول والوَقود والَولُوع وَالْوُضُوء والطَّهور مصَادر جَاءَت عَلَى فَعُول، وَالظَّاهِر الفاشي فِي المصادر الفعول، وَأكْثر مَا يَأْتِي فِي اللَّازِم من الْفِعْل غَيْر الْمُتَعَدِّي، كالْقُعُود وَالْجُلُوس وَمَا أشبههما، ويَّطرِدُ الْفرق بَيْنَ الِاسْم بِالْفَتْح والمصدر بِالضَّمِّ، وَذَلِكَ كَالسحُورِ والْفُطور والصَّعُود والصُّعود والهَبُوط والْهُبُوط وَمَا أشبه هَذَا، وَقَد اخْتلف فِي الْوقُود وَالْوُضُوء ومجاريهما، وَفِي قِرَاءَة قَوْله: " وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " ووقود النَّار، وَبَيَان هَذَا مَرْسُوم فِي أوْلَى الْمَوَاضِع بِهِ، وَمن الولوع قَول عُمَر بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي رَبِيعَة: إِن هَمِّي قَدْ نَفَى النَّوم عَنِّي ... وحديثُ النَّفْس شيءٌ وَلُوعُ فِي قَوْله: ولوع وَجْهَان: يَكُون مَصْدرًا مبدلا من شَيْء، وَيكون صفة لشيءٍ مثل رَجُل ضَرُوب، وَحكى الفَرَّاءُ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ رَوَى: وَجَبَ البيعُ وَجُوبا، وذُكِر الفَرَّاء أَنَّهُ لَمْ يُسْمع فِي هَذَا إِلا الضَّم، فَأَما جُمْهُور أَهْل الْعلم فَلم يعرفوا فِي هَذَا الْبَاب الْفَتْح إِلا فِي الأحرف الْخَمْسَة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا عَلَى مَا فِي بَعْضهَا من الاخْتِلاف فِي تَفْصِيله وتصريفه، وَإِذَا ضُم إِلَى هَذَا مَا حكيناه عَنِ الْكسَائي فَهُوَ حرفٌ سادس، وَقَدْ وجدنَا حرفا سابعًا فِي هَذَا محكيًّا، وَهُوَ غَرِيب نَادِر وَذَلِكَ الْجور. حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَحْمُود الْأَزْهَرِي، عَنْ أَبِي الْعَبَّاس ثَعْلَب، عَنِ ابْن: وَجَرْتُ الصَّبِيَّ آجِرُه وَجُورًا وَوَجُورًا. بيتان فِي المحبَّة والتفضيل بَيْنَهُمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: سَمِعت جَعْفَر بْن سُلَيْمَان، يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ بأشعر من الْقَائِل: إِذا رُمْتُ مِنْهَا سَلْوةً قَالَ شافعٌ ... من الحبِّ ميعادُ السُّلُوِّ المَقَابِرُ فَقلت: أشعر مِنْهُ الأحْوَص حَيْثُ يَقُول: سَيَبْقَى لَهَا فِي مُضْمَر القَلْبِ والحشا ... سريرة ود يَوْم تُبْلَى السَّرَائِرُ قَالَ القَاضِي: بيتُ الْأَحْوَص أوفى معنى وتقصير الْبَيْت المقدَّم عَنْهُ فِي الْمَعْنى الَّذِي قَصده الشاعرانِ، أجلى وَأظْهر من أَن يخفى من وُجُوه شتَّى مِنْهَا: أَن الأول، قَالَ: إِذا رُمْت عَنْهَا سلوةً، وَالْآخر أَوْمَأ إِلَى اتِّصَال وُدِّهِ وَامْتِنَاع انْقِطَاعه وتصرُّمه، وقَالَ الأول: إِن الَّذِي يَثْنيه عَنِ السلوة شَافِع يصرفهُ عَنْهَا بعد رومه إِيَّاهَا، وَجعل الأول وَقت السلو حيت

بيت لأبي طالب في مدح الرسول

تجنّه وَأَهْلهَا الْقُبُور، وصيره ميعادًا ينتظره من رام السَّلْوه، فَهَذَا نقد متيسر ظَاهر لمتأمّله، وَإِن لَمْ يقل فِي جهبذة هَذَا الشَّأْن وطبقته. بَيت لأبي طَالِب فِي مدح الرَّسُول حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أُسْتَاذُ الْهَرَوِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ النَّوْفَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حِكْمَةَ الْمُقَوِّمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: تَذَاكَرُوا أَيُّ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَحْسَنُ، قَالَ: فَقَالَ رجلٌ: مَا سَمِعْتُ بَيْتَ شعرٍ أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ محمودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ تَعْلِيق عروضي قَالَ القَاضِي: قَوْله من اسْمه، يرْوى عَلَى وَجْهَيْن: أَحَدهمَا من اسْمه عَلَى همزَة مَقْطُوعَة لإِقَامَة الْوَزْن وَقَدْ جَاءَ مثله فِي الشّعْر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: بأَبِي امرؤٌ الشَّام بيني وَبَينه ... أَتَتْنِي ببشرى بُرْدُهُ ورَسَائِلُه وقَالَ الآخر: إلّا لَا أرى إثنين أكرمَ شِيمَةً ... عَلَى حِدْثان الدَّهْر مِنِّي ومِنْ جُمْلُ وقَالَ آخر: إِذا جَاوز الْإِثْنَيْنِ سِرٌّ فَإِنَّهُ ... بِبَثٍّ وتَكْثِيِر الوشاة قمينُ ويروي أَلا كُلّ سر جَاوز اثْنَيْنِ إنَّه، فعلى هَذِهِ الرِّوَايَة لَا شَاهد فِيهِ، وَالْوَجْه الثَّانِي فِي رِوَايَة الْبَيْت: وشق لَهُ من اسْمه عَلَى الْوَصْل وَترك الْقطع إِقْرَارا لَهُ عَلَى أَصله فِي إِخْرَاجه عَنْ قِيَاسه، فَإِذا رُوِيَ هَكَذَا فَهُوَ عَلَى الزحاف وزحافه حذف خَامِس جزئه الثَّانِي مفاعِي لن، فَيصير مفاعلن وَيُسمى هَذَا الزحاف الْقَبْض، وَقَدْ يَقع الزحاف فِي هَذَا الْخَبَر بِإِسْقَاط سابعه، وَهُوَ نون مفاعي لن وَيُسمى الْكَفّ، وَالْقَبْض فِي هَذَا أحسن الزحافين عِنْد الْخَلِيل، والكف أحسنهما عِنْد الْأَخْفَش، وَهَذَانِ الزحافان يتعاقبان وَلا يَجْتَمِعَانِ. من أحسن مَا قِيلَ فِي الرثاء حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُوسَى الملقي، قَالَ: حَدَّثَنَا سوار، قَالَ: قَالَ الأَصْمَعِيّ: جهدت الْعَرَب أَن تَقُولُ مثل هَذَا الْبَيْت فَمَا قدرت: لقَدْ سَخَّى ربيعةُ أَن يَوْمًا ... عَلَيْهَا مثل يَوْمك لَا يعودُ قَالَ القَاضِي: وَقَدْ نحا هَذَا النَّحْو عددٌ من الشُّعَرَاء، إِمَّا اقْتِدَاء وَإِمَّا ابْتِدَاء، وَفِي جمعه طول كرهت الإطناب فِيهِ، وَمن أحسن مَا قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: لَعَمْري لئِن كُنَّا فَقَدْناك سَيِّدًا ... كَرِيمًا لَهُ حقُّ التَّنَاوُشُ والفَزَع

أبيات في الزهد

لقَدْ جر نفعا فَقدنَا لَك إننا ... أمِنا عَلَى كُلّ الرَّزايا من الجَزَع وقَالَ آخر: لَئِن كَانَت الْأَيَّام أطْولْن لَوْعتي ... لفقدك أَوْ ألْزَمْن قَلْبي التَّفَجُّعَا لقَدْ أمنتْ نَفسِي المصائِبَ بعدَهُ ... فأصبحتُ مِنْهَا آمِنًا أَن أرَوَّعا وَهَذَا النَّوْع وَمَا يُضارِعه كثير، كرهنا الإطالة بِذكرِهِ. أَبْيَات فِي الزّهْد حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَامِد بْن أَحْمَد بْن أُسَيْد، قَالَ: أخذت بيد عَلِيّ بْن جَبَلَة يَوْمًا فأتينا أَبَا الْعَتَاهِيَة فوجدناه فِي الْحمام، فانتظرناه فَلم يلبث أَن جَاءَ، فَدخل عَلَيْه إِبْرَاهِيم بْن مقَاتل بْن سهل وَكَانَ جميلا، فَتَأَمّله أَبُو الْعَتَاهِيَة، وقَالَ مُتمثلا: يَا حسان الْوُجُوه سَوف تموتو ... ن وتبلى الْوُجُوه تَحت التُّرَاب فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيّ بْن جَبَلَة، فَقَالَ: اكْتُبْ: يَا مُرَبيِّ شَبَابَهُ للتراب ... سَوف يلهو الْبِلَى بعِطْر الشَّبَاب يَا ذَوِي الأوجُهِ الْحِسانِ المصونا ... ت وأجسامها الْغِضَاض الرِّطَاب أكثرُوا من نعيمها أَوْ أقلُّوا ... سَوف تُهدونها لعَفْر التُّراب قَدْ تُصبك الْأَيَّام نصبا صَحِيحا ... بِفِرَاق الإخوان والأصحابِ قَالَ: فَقَالَ لي أَبُو الْعَتَاهِيَة: قل يَا حَامِد، قُلْتُ: مَعَك وَمَعَ أَبِي الْحَسَن؟ فَقَالَ: نعم، فَقلت: يَا مقيمين رَحَلوا للذِّهاب ... بشفير الْقُبور حَطُّ الرِّكاب نَعِّمُوا الأوْجُهَ الْحِسَانَ فَمَا ... صَوْنكموها إِلا لعَفْر التُّرَاب والْبَسُوا ناعم الثِّيَاب فَفِي الحف ... رة تُعرُّون من جُمَيْع الثِّيَاب قَدْ ترَوْنَ الشَّبَاب كَيفَ يموتو ... ن إِذا اسْتُنْضِرُوا بمَاءِ الشبابِ إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ يحكم بَيْنَ شاعرين حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن عجلَان، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق، قَالَ: كَانَ عِنْد الْفَضْل بْن يَحْيَى وَعِنْده مُسْلِم بْن الْوَلِيد الأَنْصَارِيّ ومَنْصُور النمري يُنْشِدانه، فَقَالَ: احكم بَيْنَهُمَا، فَقلت: الْحَكَم عيبٌ عَليّ، والأمير أولى من حكم وَقَدْ سَمِع شعرهما، قَالَ: أقسمتُ عَلَيْك لمَّا فَعَلْت، قُلْتُ: هما صديقان شاعران وَقل من حكم بَيْنَ الشُّعَرَاء فَسلم مِنْهُم، وَلَكِن إِن أحبَّ الأميرُ وصفتُ لَهُ شعرهما، فَقَالَ:

آراء للمؤلف في النقد بحضرة الخليفة

فصفه، فَقلت: أما مَنْصُور النمري فَحسن الْبناء، قريب الْمَعْنى، سهل كَلَامه، صَعب مرامه، سُلَيْم الْمُتُون، كثير الْعُيُون، وأمّا مُسْلِم فمزج كَلَام البَدَوِيِّين، بِكَلَام الحضريّين، وَضَمنَهُ الْمعَانِي اللطيفة، والألفاظ الطريفة، فَلَه جزالة البدويّين ورقَّة الحضريين، قَالَ: أبَيْتَ أَن تحكم فحكمت، مَنْصُور أشعرهما. آراء للمؤلف فِي النَّقْد بِحَضْرَة الْخَلِيفَة قَالَ القَاضِي: وَكنت يَوْمًا جَالِسا فِي دَار أَمِير الْمُؤْمِنِين الْقَادِر بِاللَّه وبالحضرة جمَاعَة مِنْ أماثل شعراء زَمَاننَا، وَفِيهِمْ من لَهُ حَظّ من أَنْوَاع الْآدَاب، وَتصرف فِي نقد الشّعْر وَمَعْرِفَة بأعاريضه وقوافيه، وخواصه ومعانيه، وَمَا يمْتَنع مِنْهُ وَيجوز فِيهِ، فأفاضوا فِي هَذِهِ الْوُجُوه إِلَى أَن انْتَهوا إِلَى ذكر أَبِي تَمام وَمُسلم بْن الْوَلِيد، وقَالَ كُلّ وَاحِد مِنْهُم فِي تجميل أوصافهما، وترتيب أشعارهما بِمَا حَضَره، وَلَم أُصْغِ كُلّ الإصغاء إِلَى مَا أتوابه من ذَلِكَ، إِذْ لَمْ يَجْرِ عَلَى قصد التَّحْقِيق، وَظهر مِنْهُم أَوْ من بَعضهم تَشَوُّفٌ إِلَى أَن آتِي بِمَا عِنْدِي فِي ذَلِكَ، فَقلت: أَبُو تَمام لَهُ التَّقَدُّم فِي إحكام الصَّنْعَة وحبك الْأَلْفَاظ الْمُطَابقَة المسْتَعْذَبة، وإبداع الْمعَانِي اللطيفة الْمُسْتَغْرَبة، والاستعارة المتقبلة الغريبة، والتشبيهات الْوَاضِحَة العجيبة، ومُسلم لَهُ الطَّبْع وَقرب المأخذ، فقبلوا بِهَذَا وأعجبوا بِهِ، وأظهروا استحسانه، والاغتباط باستفادته، ثُمّ حضرني بعض من يتعاطى هَذَا الشَّأْن فَسَأَلَنِي إملاءَه عَلَيْه، فَقلت لَهُ: أَنَا قائِل لَك فِي هَذَا قولا وجيزًا مُخْتَصرا يَأْتِي عَلَى الْمَعْنى، وَلَهُ مَعَ الِاخْتِصَار حلاوة، وبهاء وطلاوة، وَهُوَ أَن أَبَا تَمام أصنع، وَمُسلم أطبع، وَكَانَ بعضُ من قَدَّمتُ الْحِكَايَة عَنْهُ من الشُّعَرَاء لما قلتُ فِي ذَلِك الْمجْلس مَا قلته أقبل عليَّ، وقَالَ لي: مَا أحدٌ يُدَانِيك فِي هَذَا الْبَاب، فَلِمَ لَا تكون مِنَّا؟ وَلَم تُؤثر مجالسة غَيرنَا، لغَلَبَة هَذَا الشَّأْن عَلَيْه، وَجرى يَوْمًا بيني وبَيْنَ رجلٌ لَهُ حَظّ من الْعلم وَالْأَدب ذكُر بعض من كُنَّا نجالسه من رُؤَسَاء ذَوي السّلطان وَالْولَايَة، وَأهل الْعلم وَالْأَدب وَالرِّوَايَة، مَعَ وفور حَظه من التدين، والنزاهة والتصون، وَأَنه كَانَ يخالفنا فِي أَشْيَاء، ويمارينا فِيهَا مَعَ ظُهُور صِحَة مذاهبنا، وَفَسَاد اختياراته الْمُفَارقَة لاختيارنا، وتذاكرنا مَا يُظهره من الزراية عَلَى أَبِي تَمام وَابْن الرُّومِي وأَنَّهُ لَا يقف عِنْد التَّسْوِيَة بَينهمَا وبَيْنَ من هُوَ منخفض بدرجات متفاوته عَنْهُمَا، حَتَّى يَحَطَّهُما عَمَّن هُوَ أَدْوَن رُتْبَة وأوفى منزلَة، فَقلت لهَذَا الرَّجُل: كَأَنّ هَذَا الْأَمر يخْتَلف بِحَسب اخْتِلاف الأمزجة، وتركيب الْأَبْنِيَة، وَيلْحق بِمَا يخْتَلف فِيهِ شهوات النّاس ولَذَّاتهم من الْأَطْعِمَة والاشربة، ويُؤْثِرُونه من المراكب والملابس والمواطن، ثُمّ ذكرت لَهُ أَحْوَال النّاس فِي اختيارهم مَا يختارونه من الشّعْر، وَأَن كثيرا مِنْهُم بالطويل أَشد أعجابًا مِنْهُ بِغَيْرِهِ، وَيذْهب غَيره إِلَى مثل هَذَا بالبسيط، وَبَعْضهمْ فِي الْكَامِل، وَبَعْضهمْ فِي الوافر، وَقَدْ كَانَ قُدَامة الْكَاتِب يرى تَقَدُّم أول السَّريع عَلَى غَيره من أَنْوَاع الشّعْر فِي بهائه وتَقَبُّل الطبائع لَهُ،

بعض الناس يدعي من الآراء ما ليس له

وَألف كتابا فِي نقد الشّعْر وأتى بِهَذَا الْمَعْنى فِيهِ، وَذهب غَيره إِلَى إِيثَار الْخَفِيف، وذُكِر أَن الألحان أحسن موقعًا فِيهِ مِنْهَا فِيمَا سواهُ، قَالَ: وَلذَلِك صَار مُحْتملا من الزَّحاف مَا لَا يحْتَملهُ غَيره، فَقلت لهَذَا الرَّجُل: إِن نقد الشّعْر عَلَى التَّحْقِيق عزيزٌ جدا، وَإِن النَّاقِد الَّذِي يُعْتَمدُ فِي النَّقْد عَلَيْه، ويُرجع فِي صِحَّته إِلَيْهِ، لَا يَكُون كَامِلا حَتَّى يَكُون مفرِّقًا عَلَى الصِّحَّة بَيْنَ المطبوع عَلَى المنظوم الْمُؤلف، وبَيْنَ النَّظْمِ الْمُتَكَلّف، وَالطَّرِيق المتعسَّف، وَيكون ناقدًا فِي فقه اللُّغَة غَيْر مقصر عَلَى تأدية مسموعها، وَحفظ مَنْصُوصِها ومَسْطُورها، ومضطلعاً بلطيف الْإِعْرَاب وَقِيَاس النَّحْو، حَافِظًا للأمثال المضروبة، مهتديًا بأعلام الْعقل المنصوبة، حَاصِرًا لمجاري الْعُرْفِ وَالْعَادَة، آخِذا من كُلّ علم وأدب بحظٍّ، وضاربًا فِي صناعات الْفِكر بِسَهْم، وَيكون نَاظرا مِدْرهًا، قَدْ أَنَس بجملة من أساليب المتفلسفين، وصناعة الْمُتَكَلِّمين، وجدال المتناظرين، وَيكون مَعَ هَذَا معتدلا بَعيدا من الْهوى والتعصب لنَوْع دون نوع، وشخص دون شخص، وبحسب تَكَامل هَذِهِ الْخلال، واجتماع هَذِهِ الْخِصَال، تتكامل لناقد الشّعْر نَقده، وبحسب مَا يعْدم مِنْهَا يقل حَظه، وبقدر مَا تَمكُّن هَذَا النَّاقِد من النَّقْد بَيْنَ الرجحان، والتساوي وَالنُّقْصَان، كَمَا يُميِّز وازن الذَّهَب وَالْفِضَّة بَيْنَ الزائِد والمعتدل والناقص بالعيان، ويتجلى الْمَعْنى لأَحَدهمَا بِبَصَرِه وَالْآخر ببصيرته. بعض النَّاس يَدعِي من الآراء مَا لَيْسَ لَهُ وَكَانَ بعض من مضى لسبيله من أَهْل زَمَاننَا شكا لبَعض من يُحَاضِرُه فِي مجْلِس بعض وُلَاة هَذَا الزَّمَان، وَحكى عَنْهُ أَنَّهُ يُعَارضهُ فِي أَشْيَاء يَأْتِي بهَا من الْآدَاب، يَدَّعيها لنَفسِهِ، وَكَانَ مِمَّا حكى أَنَّهُ وصف أَبَا تَمام والبحتري، فَقَالَ: أَبُو تَمام أَعلَى، والبحتري أحلى، وادَّعى لنَفسِهِ هَذَا القَوْل، وَقَدْ كَانَ عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد الأَزْدِيّ حكى أَنَّهُ سَمِع رَجُلا فِي مجْلِس ثَعْلَب يَقُولُ هَذَا، فَاسْتَحْيَيْت من هَذَا الْمُخَاطب إِلَى أَن أَقُول لَهُ هَذَا كَلَام قَدْ سبقتما إِلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ لَك وَلا لَهُ، وكِلاكُما مدعٍ مِنْهُ مَا لَا حقَّ لَهُ فِيهِ، وخطر بقلبي، قَول الْقَائِل: تَجمعُوا فِي فلانٍ فكلُّهم يَدَّعِيه ... والأُمُّ تضحكُ مِنْهُم لعلمها بِأَبِيهِ وَحكى لي بعض كُتَّابِ ابْن الْفُرات: أَن ابْن الْفُرَات أنْشد هَذَا، قَالَ: فَقلت لَهُ: لَو قَالَ: لجهلها بِأَبِيهِ، كَانَ أَجود، فأعجبه ذَلِكَ فناظرتُ الحاكي فِي هَذَا، وبَصَرْت مَا أَتَى بِهِ هَذَا الشَّاعِر وَلَم أوثر إطالةَ كتابي بحكايته، وَكَانَ بعض أَصْحَابنَا حكى لي عَنْ هَذَا الْمُخَاطب الشاكي إِلَى أَنَّهُ أدعى مثل هَذِهِ الدَّعْوَى فِي شيءٍ أَنَا ذاكرٌ مَا رُوِيَ لي فِيهِ. دَابَّة وَمَا أشبههَا لَا تقع فِي شعر حَدَّثَنَا صديقنا الْحَسَن بْن خالويه، قَالَ: كتب الْأَخْفَش إِلَى صديق لَهُ من الْكتاب يستعير مِنْهُ دَابَّة، ودابة لَا تقع فِي شعر لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ ساكنين، فَكتب إِلَيْهِ: أردتُ الركُوب إِلَى حاجةٍ ... فمرْ لي بفاعلةٍ من دَبَبْتُ

أمثلة مما همز ولا أصل للهمز فيه

وَكَانَ الْمَكْتُوب إِلَيْهِ ظريفًا فَأَجَابَهُ: بريذيننا يَا أخي غامزٌ ... فكنْ سيِّدي فَاعِلا من عَذَرْتُ فَحكى صاحبنا هَذَا أَن هَذَا الرَّجُل ادّعى هَذِهِ الْقِصَّة وَهَذَا الشّعْر لنَفسِهِ. قَالَ: القَاضِي: فَأَما امْتنَاع دُخُول دَابَّة وخاصة وَمَا أشبههَا فِي الشّعْر لِئَلَّا يلتقي فِيهِ ساكنان، فَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب، وَإِنَّمَا يجْتَمع فِي الشّعْر سَاكن ومُسَكَّن كَقَوْل امرىء الْقَيْس: لَا وَأَبِيك ابْنة العامِرِيّ ... لَا يَدعي القَومُ أَنِّي أفر إِذا ركبُوا الْخَيل واستلأموا ... تحرقتِ الأرضُ واليومُ قر وَقَول الْأَعْشَى: إِذا أَنَا سَلَّمْتُ لَمْ يُرْجِعُوا ... تحيَّتَهم وهُمْ غَيْر صُرّ وَهَذَا كثير وتفسيرهذا لَهُ مَوضِع لَمْ نر إطالة كتَابنَا هَذَا بِذكرِهِ، وَقَدْ بَيناهُ فِي أولى الْمَوَاضِع، وَقَدْ جَاءَ فِي الشّعْر اجْتِمَاع الساكنين فِي مزاحف للمتقارب، وَذَلِكَ: فَقَالُوا الْقصاص وَكَانَ القصا ... ص حَقًا وعدلا عَلَى الْمُسْلِمِينا وَقَدْ رُوِيَ وَكَانَ الْقصاص عَلَى الأَصْل وَالْوَجْه الجائِز الْمَعْرُوف، وَقَدْ كَانَ بَعضهم أَتَى فِي الشّعْر بالدواب وخفف الْبَاء فَلم يلتق ساكنان، وَبَعْضهمْ يكره التقاء الساكنين فِي منثور الْكَلَام ويهرب مِنْهُ إِلَى الْهَمْز، فِيمَا لَا أصل للهمز فِيهِ، وَقَدْ قَرَأَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ " وَلا الضأْلين " بِالْهَمْز، وَهَذِه قراءةٌ مُخَالفَة لقِرَاءَة سائِر الأئمَّة، وَلما نَقله من فِي نَقْلِه الحجَّة من الأئمَّة، وَكَذَلِكَ سَبِيل الْقِرَاءَة الَّتِي رويناها. أَمْثِلَة مِمَّا همز وَلا أصل للهمز فِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أَوْس، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرو بْن عُبَيْد يقْرَأ: فيومئذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إنسٌ وَلَا جَان "، مهموزًا، فَظَنَنْت أَنَّهُ قَدْ لحن، حَتَّى سَمِعْتُ الْعَرَب تَقُولُ: امْرَأَة شأبة، وَهَذِه دأبة عَلَى أَن كُثَيِّرًا قَدْ قَالَ: وأنتَ ابنُ لَيْلَى خَيْرُ قومِكَ مَأَثُرًا ... إِذا مَا احْمَأَرَّتْ بالدِّماءِ العَوَامِلُ فَعلمت أَنَّهُ مَا قَرَأَ إِلا بِأَصْل. قَالَ مُحَمَّد بْن يَزِيد: فَقلت للمازني: أَفَتُحبُّ أَنْت هَذِهِ الْقِرَاءَة؟ قَالَ: أختارها، والتقاء الساكنين اللَّذين أَولهمَا من حُرُوف الْمَدّ واللّين مِنْهَا مَا هُوَ بِمَنْزِلَة حَرَكَة من فصيح كَلَام الْعَرَب الْجَارِي مجْرى فصيح اللُّغَة. وَقَدْ روينَا خَبرا فِي معنى الْخَبَر الَّذِي ريوناه عَنِ ابْن خالويه وَالشعر الَّذِي تَضَمَّنه.

نحوي يحادث جاريته

نحوي يحادث جَارِيَته حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَعْد الكراني، قَالَ: حَدَّثَنِي يَقْدُم بْن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ عَوَانَة: كَانَ رجلٌ يتكلَّف النَّحْو وَكَانَت لَهُ جَارِيَة تسمى زَهْرة، فناداها: يَا فَعْلة من زَهَرْتُ، هَاتِي فَيْعَلاني من طَلَسْتُ، يُرِيد طَيْلَسانه. رَجُل يعاب من لَا يصطنعه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سهل الرَّازيّ، قَالَ: لما دخل الْمَأْمُون بَغْدَاد تلقَّاه أَهلهَا، فَقَالَ لَهُ رجلٌ من الموَالِي: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! بَارك اللَّه لَك فِي مَقْدَمِك، وَزَاد فِي نِعَمك، وشكرك عَنْ رعيتك، فقد فُقْت مَنْ قَبْلَك، وأتْعبتَ من بعْدك، وأيْأسْت أَن يُعتاض مِنْك، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مثلك، وَلا علم شبهك، أما فِيمَن مضى فَلَا يعرفونه، وأمّا فِيمَن بقى فَلَا يرتجونه، فهم بَيْنَ دعاءٍ لَك، وثناءٍ عَلَيْك، وتمسكٍ بك، أخصب جَانِبك، واحْلَوْلى لَهُم ثوابك، وكَرُمَتْ مقدرتُك، وحَسُنت مَبَرَّتُك، ولانت نَظْرتُك، فجبرت الْفَقِير، وفككت الْأَسير، وَأَنت كَمَا قَالَ الشَّاعِر: مَا زِلتَ للبَذْل للنوال وإط ... لَاق لعانٍ بجُرْمِهِ غَلقٍ حَتَّى تمنَّى الْبُزَاةُ أَنهم ... عنْدك أمْسَوْا فِي الْقِدِّ والحَلَقْ فَقَالَ الْمَأْمُون: مثلك يُعَاب من لَا يصطنعه، ويُعَرُّ مَنْ يجهل قدره، فاعذرني فِي سالفك، فَإنَّك ستجدنا فِي مُسْتأنفنا. بِالْإِحْسَانِ فِي البديهة تفاضلت الْعُقُول حَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مهْدي بْن سَابق، قَالَ: دخل الْمَأْمُون ديوَان الْخراج فَمر بِغُلَام جميل عَلَى أُذُنه قلمٌ فأعجبه مَا رَأَى من حُسْنه، فَقَالَ: من أَنْت يَا غُلَام؟ قَالَ: الناشىء فِي دولتك وخريج أدبك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين المتقلب فِي نِعْمَتك، والمؤمل لخدمتك الْحَسَن بْن رَجَاء، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: يَا غُلام بِالْإِحْسَانِ فِي البديهة تفاضلت الْعُقُول، ثمَّ أَمر أَن يرفع عَنْ مرتبته فِي الدِّيوَان، وَأمر لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم. تامُّ الْآلَات فِي كُلّ شَيْء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن من زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان سَعِيد بْن عَبْد اللَّه بْن سَعِيد المهرقاني بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَبَّاس بْن الْفرج الرياشي، عَنِ الأَصْمَعِيّ، عَنْ أبي عَمْرو بْن الْعَلَاء أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَمْرو بْن معدي كرب يحدث بِحَدِيث، فَقَالَ فِيهِ: لقِيت فِي الْجَاهِلِيَّة خَالِد بْن الصَّقْعب وضَربتُه وقَدَوْتُه، وخالدٌ فِي الحَلَقة، فَقَالَ لَهُ رَجُل: إِن خَالِدا فِي الْحلقَة، فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا سيىء الْأَدَب، إِنَّمَا أَنْت محدثٌ فاسمعْ أَوْ فَقُمْ، وَمضى فِي حَدِيثه فَلم يقطعهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُل: أَنْت شجاعٌ فِي الْحَرْب وَالْكذب مَعًا، قَالَ: كَذَلِك أَنَا تامُّ الْآلَات.

المجلس التاسع والثلاثون

المجلِسُ التَاسِع والثَلاثون حكم الْحُدَاء والإنشاد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَاعِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ قَارِمٍ الْعَمِّيُّ بِبَغْدَادَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرْبٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ابْنُ صَاعِدٍ ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فَحَدَّثَنَاهُ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا تَقُولُ فِي الْحُدَاءِ؟ طَافَ الْخَيَالانِ وَهَاجَا سَقَمَا ... خَيَالُ تَكْنَى وَخَيَالُ تَكْتَمَا قَامَتْ تُرِيكَ رَهْبَةً أَنْ تَصْرِمَا ... سَاقًا بِخُنْدَاةٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ كَانَ يُحْدَى بِنَحْوِ هَذَا أَوْ مِثْلِ هَذَا مَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعِبْهُ. قَالَ القَاضِي: هَذَا الْخَبَر قَدْ كتبناه عَنْ عِدَّة من الشُّيُوخ، وَفِيه دلاله عَلَى الرُّخْصة فِي هَذَا الْفَنّ من الإنشاد والْحُداء والنَّصْبِ، ولشيخنا أَبِي جَعْفَر وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب كَلَام وَاسع، وَقَوله: بخنداة بِعني السَّاق الممتلئة الْحَسَنَة، والأدرم: الأملس الَّذِي لَيْسَ لحجمه نُتُوء. المتَوَكل لم يكن منحرفاً عَن أهل الْبَيْت حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: حكى عَلِيّ بْن الجهم عَن المتَوَكل وَقَدْ بلغه أَن رَجُلا أنكر عَلَى رَجُل ينتمي إِلَى التَّشَيُّع قولا أغرق فِيهِ من مدح أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْه السَّلام فَغَضب المتَوَكل، وقَالَ: الناسبُ هَذَا الْمَدْح إِلَى الْغُلُوِّ جاهلٌ، وَهُوَ إِلَى التَّقْصِير أقرب، وَهل أحد بعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أَئِمَّة الْمُسْلِمِين أحقُّ بِكُل ثناءٍ حسنٍ من عليٍّ؟ وأتى من هَذَا الْمَعْنى بِمَا ذكر ابنُ رَاهَوَيْه أَنَّهُ ذهب عَنْهُ حفظه. قَالَ القَاضِي: وَكنت رويتُ فِي الْمجْلس الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ من مجَالِس كتَابنَا هَذَا عَنْ أَحْمَد بْن الخصيب خَبرا نسب فِيهِ المتَوَكل إِلَى الانحراف عَنْ أَهْل الْبَيْت عَلَيْهِم السَّلام، فخطأتُ الخصيب فِي قَوْله هَذَا، ووعدت أَن آتِي فِيمَا أستقبله من الْمجَالِس بِمَا يشْهد لما قُلْتُه، فعثرتُ عَلَى هَذَا الْخَبَر فأوردتُه، ولعلِّي آتِي بِكَثِير مِمَّا رَوَى مَعْنَاهُ إِذا وقعْتُ عَلَيْه، فَإِن المتَوَكل أفضل من أَن لَا يعلم أَن تَعْظِيمه أَهْل الْبَيْت من أعظم مفاخره بعد تَعْظِيمه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ من آله دينا ونسبًا، وَلَو كَانَ المتَوَكل من عَامَّة بني هَاشِم دون خلفائهم لَكَانَ حَقِيقا بتعظيمه للْإِمَام الْعدْل الْهَاشِمِي ابْن الهاشميين أَبِي سِبْطَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَن والْحُسَيْن عَلَيْهِمَا السَّلام. ابْن عَبَّاس كَانَ يَأْخُذ بركابي الْحَسَن والْحُسَيْن وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ:

خبر زيد بن موسى المعروف بالنار

حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ حُسَيْنٍ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُطْرِيٌّ الْخَشَّابُ، عَنْ مُدْرِكِ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ آخِذًا بِرِكَابِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ فَقِيلَ لَهُ: تَأْخُذُ بِرِكَابِهِمْ وَأَنْتَ أَسَنُّ مِنْهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ ابْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوَلَيْسَ مِنْ سَعَادَتِي أَنْ آخُذَ بِرِكَابِهِمَا، وَالْمُتَوَكِّلُ لِمِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِأَنْ يُتَقَبَّلَ مَا فَعَلَهُ جَدُّهُ، وَأَوْلَى مَنْ تَأَسَّى بِمَا أَتَاهُ وَلَمْ يَعْدُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ انْحِرَافُهُ عَمَّنْ نَازَعَهُ خِلافَتَهُ وَسَعَى فِي تَشْعِيثِ سُلْطَانِهِ، وَالْقَدْحِ فِي مُلْكِهِ، وَكَيْفَ يَظُنُّ ذُو لُبٍّ بِالْمُتَوَكِّلِ الانْحِرَافَ عَنْ عَشِيرَتِهِ وَأُسْرَتِهِ وَفَصِيلَتِهِ، وَلَحْمَتِهِ الَّذِينَ شَرُفَ بِهِمْ وَوَرِثَ الْمَجْدَ عَنْهُمْ. خبر زَيْد بْن مُوسَى الْمَعْرُوف بالنَّار وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَارِثِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الغَلابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا أُدْخِلْتُ عَلَى الْمَأْمُونِ وَبَّخَنِي، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ، فَجِيءَ بِي إِلَى الرِّضَا فَتُرِكْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ سَاعَةً وَاقِفًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا زَيْدُ سَوْءَةً لَكَ، مَا أَنْتَ قائلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَفَكْتَ الدِّمَاءَ وَأَخَفْتَ السَّبِيلَ، وَأَخَذْتَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ؟ لَعَلَّكَ غَرَّكَ حَدِيثَ حَمْقَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ أَحْصَنَتْ فرجهَا فَحرم الله زريتها عَلَى النَّارِ، وَيْلَكَ! إِنَّمَا هَذَا لِمَنْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْن فَقَط لَا لي وَلَك، وَاللَّهِ مَا نَالُوا ذَلِكَ إِلا بِطَاعَةِ اللَّهِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنَالَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا نَالُوهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ إِذًا لأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ. زَيْدٌ هَذَا امْرُؤٌ يُعْرَفُ بِزَيْدِ النَّارِ، وَلَهُ أخبارٌ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ وَلَدِهِ قَدِمَ مِنْ بِلادِ الْعَجَمِ إِلَى الْعِرَاقِ وَنُوزِعَ فِي نَسَبِهِ، وَكَانَ لَهُ حججٌ فِي دَعوته كَانَت مِنِّي معونةٌ لَهُ، فَهَذَا الَّذِي حَكَى لَنَا عَنِ الرِّضَا هُوَ اللائِقُ بِفَضْلِهِ وَدِيَانَتِهِ وَنُبْلِهِ وَنَبَاهَتِهِ، وشرفه ونزاهته، وَقد اتبع فِي سَبِيلَ سَلَفِهِ، وَاهْتَدَى بِالْمُصْطَفِينَ مِنْ آبَائِهِ الْمُكَرَّمِينَ بِالنُّبُوَّةِ وَالإِمَامَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: " فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رسولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شاعرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كاهنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُم من أحدٍ عَنهُ عاجزين "، فَانْظُرْ إِلَى مَا قَالَهُ فِي خَيْرِ النَّاسِ عِنْدَهُ وَأَسْعَاهُمْ فِي مرضاته، وأعلمهم بِطَاعَتِهِ، وَأَتْقَاهُمْ لَهُ، وأَوْرَعِهِمْ عَنْ مَحَارِمِهِ، وَأَعْرَفِهِمْ بِهِ، وَأَحْفَظِهِمْ لِحُدُودِهِ، وَأَعْلَمِهِمْ بِشَرَائِعِهِ، وَأَفْقَهِهِمْ فِي دِينِهِ، وَأَنْصَحِهِمْ لِخُلُقِهِ، وَأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، إِعْلامًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ، أَنَّهُ لَا مُحَابَاةَ لَدَيْهِ فَذَكَرَ أَمْكَنَ الرُّسُلِ عِنْدَهُ، قَصْدًا إِلَى تَحْذِيرِ خَلْقِهِ، وَتَخْوِيفِ عِبَادِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولتكونن من الخاسرين "

الأسد في سفينة نوح

فَخَصَّهُ بِخِطَابِهِ وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ، تَشْرِيفًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ، وَدَلالَةً عَلَى خَطَرِ مَا ذَكَرَهُ لَهُ، كَمَا خصّه بقوله: " يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء " وَهَكَذَا قَصَّ عَلَيْنَا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ مِنْ عِلْيَةِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَذَكَرَ تَعَالَى جَدُّهُ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الأَنْعَامَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ، قَالَ: " وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ ويوسف ومُوسَى وهرون وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ". الْأسد فِي سفينة نوح وَقَدْ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن المنادين قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو عُثْمَانَ الصَّفَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: لَمَّا أُمِرَ نوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَكَانَ فِيمَا حَمَلَ مَعَهُ الأَسَدُ، فَجَاعَ فَزَأَرَ زَأْرَةً خَافَ أَهْلُ السَّفِينَةِ أَنْ يَأْكُلَهُمْ، فَشَكَوْهُ إِلَى نُوحٍ فَشَكَاهُ نُوحٌ إِلَى اللَّهِ عز وَجل، فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْحُمَّى، وَكَانَ نوح يمر بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْكُلُهُ بِرِجْلِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَرِنَا مَا أَنْتَ بسرا، قَالَ: فَيَقُولُ: لَهُ الأَسَدُ لَا رَبَّاهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي، قَالَ لَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَدْ أَكدتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَحْيَى بْنَ معِين فَاسْتَحْسَنَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَقَالَ: مَعَ كَثْرَةِ كِتَابَتِي عَنْ عَفَّانَ لَمْ أَكْتُبْ هَذَا، فَأَيْنَ كَتَبْتَ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ؟ فَقُلْتُ: بِالْبَصْرَةِ. لَا يحب اللَّه من الظُّلم شَيْئا وَحَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ أَيْضًا، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش، عَن مُجَاهِد، لَمَّا أَمَرَ نُوحٌ بِإِخْرَاجِ مَنْ فِي السَّفِينَةِ مَرَّ بِالأَسَدِ، وَقَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْحُمَّى فَضَرَبَهُ لِيُقِيمَهُ، قَالَ: أَبَا يَحْيَى: مَا أَدْرِي بِيَدِهِ أَمْ بِرِجْلِهِ، فَخَمَشَهُ الأَسَدُ فَبَاتَ سَاهِرًا فَشَكَا ذَلِكَ نُوحٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُحِبُّ مِنَ الظُّلْمِ شَيْئًا. قَضِيَّة رَجُل يسب السّلف كُنْت بحلوان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فاتفق أَن شَيخا كَانَ يُجَالِسُنَا بِهَا مِنْ أَهْلِ الدِّينَوَرِ يُعْرَفُ بِأَبِي الْحَسَن بْن ظُفْرَان ويُؤْنِسُنا، وَكَانَ مُحَدِّثًا قَدْ حلب الدَّهْر أَشْطُره، وخالط الرؤساءَ وَصَحب السّلطان وَتعلق بأربه وَتصرف فِي أَعماله، وَكُنَّا نعجب بمعاشرته وَحَدِيثه، وذُكِر لأبي الْحَسَن بْن طَاهِر الْكَاتِب فَعرفهُ وذُكِر أَن لَهُ ابْنا هُوَ خَلِيفَته وَصَاحبه عَلَى الْبَرِيد وَالْخَبَر بالدِّينَوَر.

فحدثنا أَبُو الْحَسَن بْن ظفران هَذَا من حفظه، بِمَا أَن موردٌ مَعْنَاهُ بِلَفْظ دون لَفظه عَمَّن حدّثه، قَالَ: كَانَ بالدّينَور شيخٌ يتشيَّع ويميل إِلَى مَذْهَب أَهْل الْإِمَامَة، وَكَانَ لَهُ أَصْحَاب يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ، وَيَأْخُذُونَ عَنْهُ، ويدرسون عَنهُ، يُقَالُ: لَهُ بشر الجَعَّاب فَرفع صاحبُ الْخَبَر بالدِّينَوَر إِلَى المتَوَكل أَن بالدينور رَجُلا رافضيًّا يُحْضِرُ جمَاعَة من الرَّافِضة ويتدارسون الرَّفْض، ويسبُّون الصَّحابة، ويشتمون السَّلف، فَلَمَّا وقف المتَوَكل عَلَى كِتَابه أَمر وزيره عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى بِالْكِتَابَةِ إِلَى عَامله عَلَى الدينور بإشخاص بشر هَذَا والفرقة الَّتِي تجالسه، فَكتب عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وصل إِلَى الْعَامِل كِتَابه وَكَانَ صديقا لبشر الجعّاب، حسن المصافاة لَهُ، شَدِيد الإشفاق عَلَيْه، هَمَّهُ ذَلِكَ وشق عَلَيْه، فاستدعى بشرا وأقرأه مَا كُوتِب بِهِ فِي أمره وَأمر أَصْحَابه، فَقَالَ لَهُ بشر: عِنْدِي فِي هَذَا رَأْي إِن استعملته كُنْت غير مستبطىءٍ فِيمَا أمرت بِهِ، وَكنت بمنجاة مِمَّا أَنْت خَائِف عَليّ مِنْهُ، قَالَ: وَمَا هُوَ، قَالَ: بالدينور شيخ خَفَّاف اسْمه بشر وَمن الْمُمكن المتيسر أَن تجْعَل مَكَان الجعّاب الخَفّاف، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظ عِنْدهم وَمَا نسبت إِلَيْهِ من الحرفة والصناعة، فسُر الْعَامِل بقوله وَعمد إِلَى العَيْنِ من الجَعَّاب فَغير عَيْنِهَا وَغير اسْتِوَاءَ خَطِّها وانبساطه، وَوصل الْبَاء بِمَا صَارَت بِهِ فَاء، وَكَانَ أخبرهُ عَنْ بشر الْخفاف أَنَّهُ رجلٌ فِي غَايَة البله والغفلة، وَأَنه هُزَأَة عِنْد أهل بَلَده وضُحكَة، وَذَلِكَ أَن أَهْل سَواد الْبَلَد يَأْخُذُونَ مِنْهُ الْخِفاف التَّامَّة والمقطوعة بنسيئة، ويَعِدُونَه بأثمانها عِنْد حُصُول الغَلَّة، فَإِذا حصلت وحازوا مَالهم مِنْهَا ماطلوه بِدِينِهِ، ولووه بِحقِّهِ، وَاعْتَلُّوا بأنواع الْبَاطِل عَلَيْه، فَإِذا انْقَضى وَقت البيادر، ودنا الشتَاء واحتاجو إِلَى الْخِفَاف وَمَا جرى مجْراهَا وافوا بشر هَذَا وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وخدعوه، وابتدوا يَعِدُونه الوفاءَ ويُؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة، والمعاهدة الْبَاطِلَة ويضمنون لَهُ أَدَاء الدُّيُون الْمَاضِيَة والمستأنفة، فَيحسُن ظَنُّه بهم ويستسلم إِلَيْهِم، ويستأنف إعطائهم من الْخِفاف وَغَيرهَا مَا يريدونه، فَإِذا حضرت الغَلَّةَ أجْرَوْه عَلَى الْعَادة وَحَمَلُوهُ عَلَى مَا تقدم من السّنة ثُمّ لَا يزالون عَلَى هَذِهِ الوتيرة من أَخذ سلفه فِي وَقت حاجاتهم، وَدفعه عَنْ حَقه فِي أبان غلاتهم، فَلَا يَنْتبه من رقدته وَلا يفيقُ من سُكْره وغفلته، فأنفذ صَاحب الْخَبَر كِتَابه وَأَشَارَ بِتَقْدِيم هَذَا الخَفَّاف أَمَام القَوْل، والإقبال عَلَيْه بالمخاطبة وتخصيصه بِالْمَسْأَلَة، سَاكِنا إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي من ركاكته وعِيِّه وفهاهته بِمَا يضْحك الْحَاضِرين ويحسم الِاشْتِغَال بالبحث عَنْ هَذِهِ الْقِصَّة، ويتخلَّص من هَذِهِ البلية، فَلَمَّا ورد كتاب صَاحب الْخَبَر أَعْلَم عُبَيْد اللَّه بْن يَحْيَى المتَوَكل بِهِ وبحضور الْقَوْم فَأمره أَن يجلس ويستحضرهم ويخاطبهم فِيمَا حُكِي عَنْهُمْ، وَأمر فعُلِّقَتْ بَينه وَبينهمْ سَبَنيَّة ليقف عَلَى مَا يجْرِي ويسمعه ويشاهده، ففُعل ذَلِكَ، وَجلسَ عُبَيْد اللَّه واستدعى المحضرين فقدموا إِلَيْهِ يقدمهم بشر الْخفاف، فَلَمَّا جَلَسُوا أقبل عُبَيْد اللَّه عَلَى بشر، فَقَالَ: أَنْت بشر الخَفَّاف فَقَالَ: نعم، فسكنتْ نفوسُ الْحَاضِرين مَعَه إِلَى تَمام هَذِهِ

الْحِيلَة، وإتمام هَذِهِ المدالسة، وَجَوَاز هَذِهِ المغالطة، فَقَالَ: إنَّه رفع إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين من أَمركُم شَيْء أنكرهُ فَأمر بالكشف عَنْهُ، وسؤالكم بعد إحضاركم عَنْ حَقِيقَته، فَقَالَ لَهُ بشر: نَحْنُ حاضرون، فَمَا الَّذِي تَأْمُرنَا بِهِ؟ قَالَ: بلغ أَمِير الْمُؤْمِنِين أَنَّهُ يجْتَمع إِلَيْك قوم فيخوضون مَعَك فِي الترفض وَشتم الصَّحَابَة، فَقَالَ بشر: مَا أعرف من هَذَا شَيْئا، قَالَ: فقد أمرت بامتحانكم والفحص عَنْ مذاهبكم فَمَا تَقُولُ فِي السّلف، قَالَ: لعن اللَّه السَّلَف، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّه: وَيلك تدي مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: نعم، لعن اللَّه السّلف، فَخرج خَادِم من بَيْنَ يَدي المتَوَكل، فَقَالَ لِعبيد اللَّه: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤْمِنِين: سَلْهُ الثَّالِثَة فَإِذا أَقَامَ عَلَى هَذَا فَاضْرب عُنُقه، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَسأَلك فِي هَذِهِ الْمرة فَإِن لَمْ تَثُبْ وَترجع عَمَّا قُلْتُ أمرت بقتلك، فَمَا تَقُولُ الْآن فِي السّلف؟ فَقَالَ: لعن اللَّه السَّلف، قَدْ خَرَب بَيْتِي، وأبطل معيشتي، وأتلف مَالي وأفقرني وَأهْلك عيالي، قَالَ: وَكَيف، قَالَ: أَنَا رجلٌ أُسَلِّف الأَكَرةَ وَأهل الرُّسْتاق الخَفَّاف والتَّمَشْكان، عَلَى أَن يُوفوني الثّمن مِمَّا يحصل لَهُم من غلاتهم، فأصير إِلَيْهِم عِنْد حُصُول الْغلَّة فِي بيادرهم، فَإِذا أحرزوا الغلت، دفعوني عَنْ حَقي وامتنعوا من تَوْفِيَتي مَالِي، ثُمّ يعودون عِنْد دُخُول الشِّتَاء فيعتذرون إليّ، ويحلفون لي أَنهم لَا يُعاوِدُونَ مَطْلي وظُلمي، وَأَنَّهُمْ يؤدون إليّ الْمُتَقَدّم والمتأخر من مَالِي، فأجيبهم إِلَى مَا يلتمسونه وأعطيهم مَا يطلبونه، فَإِذا جَاءَ وَقت الغَلَّة عَادوا إِلَى مثل مَا كَانُوا عَلَيْه من ظُلمي وكَسَرُوا مَالِي، فقد اختلت حَالي، وافتقرْتُ أَنَا وعيالي، قَالَ: فسُمع ضحكٌ عالٍ من وَرَاء السَّبَنِيَّة، وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ: استحلل هَؤُلاءِ الْقَوْم وخل سبيلهم، فَقَالُوا: أَمِير الْمُؤْمِنِين فِي حِلٍّ وسَعَة، فصرفهم فَلَمَّا توسطوا صحن الدَّار، قَالَ بعض الْحَاضِرين: هَؤُلاءِ قومٌ مُجَّان يحتالون وَصَاحب الْخَبَر فطنٌ مُتَيقِّظ، لَا يكْتب إِلا بِمَا يُعلمهُ ويثق بِصِحَّتِهِ، وَيَنْبَغِي أَن يُسْتَقصى الفحصُ عَنْ هَذَا وَالنَّظَر فِيهِ، فَأمر بردهمْ، فَلَمَّا أمروا بِالرُّجُوعِ، قَالَ بعض الْجَمَاعَة التابعة لبَعض: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك الَّذِي تقدم، فَيجب أَن نتولى نَحْنُ الْكَلَام، ونسلكَ طَرِيق الْجِدِّ والديانة، وَرَجَعُوا فَأمروا بِالْجُلُوسِ ثُمّ أقبل عُبَيْد اللَّه عَلَيْهِم، فَقَالَ لَهُم: إِن الَّذِي كتب فِي أَمركُم مَا كتب لَيْسَ مِمَّنْ يُقْدِم عَلَى الكَتْبِ بِمَا لَمْ يَقْتُلْهُ عِلمًا ويُحيط بِهِ خُبْرًا، وَقَدْ أَمر أَمِير الْمُؤْمِنِين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عَنْ أَمركُم، فَقَالُوا لَهُ: افْعَل مَا أمرت بِهِ، فَقَالَ: من خيرُ النّاس بعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، فَقَالَ لخادم بَيْنَ يَدَيْهِ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالُوا فَأخْبر أَمِير الْمُؤْمِنِين بِهِ، فَمضى ثُمّ عَاد، فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَذَا مذهبي، فَقُلْنَا: الْحَمد لله الَّذِي وَافق أَمِير الؤمنين فِي دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته عَلَى مذْهبه، ثُمّ قَالَ لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ؟ فَقَالُوا: رَحْمَة اللَّه عَليّ أَبِي بَكْر، نقُول فِيهِ خيرا، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي عُمَر قُلْنَا: رَحْمَة اللَّه عَلَيْه وَلا نُحِبُّه، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ أخرج مَوْلَانَا الْعَبَّاس من الشُّورى، قَالَ: فسمعنا من وارء السَّبَنِيَّةِ ضحكًا أَعلَى من الضحك الأول ثُمّ أَتَى الْخَادِم، فَقَالَ لِعبيد اللَّه عَنِ المتَوَكل: أتبعهم صِلَةً فقد لَزِمَهُم فِي طريقهم مؤونة واصرِفْهم، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي غِنًى وَفِي الْمُسْلِمِين من هُوَ أحقُّ بِهَذِهِ الصِّلة وإليها أحْوج. وَا عَلَيْه من ظُلمي وكَسَرُوا مَالِي، فقد اختلت حَالي، وافتقرْتُ أَنَا وعيالي، قَالَ: فسُمع ضحكٌ عالٍ من وَرَاء السَّبَنِيَّة، وَخرج الْخَادِم، فَقَالَ: استحلل هَؤُلاءِ الْقَوْم وخل سبيلهم، فَقَالُوا: أَمِير الْمُؤْمِنِين فِي حِلٍّ وسَعَة، فصرفهم فَلَمَّا توسطوا صحن الدَّار، قَالَ بعض الْحَاضِرين: هَؤُلاءِ قومٌ مُجَّان يحتالون وَصَاحب الْخَبَر فطنٌ مُتَيقِّظ، لَا يكْتب إِلا بِمَا يُعلمهُ ويثق بِصِحَّتِهِ، وَيَنْبَغِي أَن يُسْتَقصى الفحصُ عَنْ هَذَا وَالنَّظَر فِيهِ، فَأمر بردهمْ، فَلَمَّا أمروا بِالرُّجُوعِ، قَالَ بعض الْجَمَاعَة التابعة لبَعض: لَيْسَ هَذَا من ذَلِك الَّذِي تقدم، فَيجب أَن نتولى نَحْنُ الْكَلَام، ونسلكَ طَرِيق الْجِدِّ والديانة، وَرَجَعُوا فَأمروا بِالْجُلُوسِ ثُمّ أقبل عُبَيْد اللَّه عَلَيْهِم، فَقَالَ لَهُم: إِن الَّذِي كتب فِي أَمركُم مَا كتب لَيْسَ مِمَّنْ يُقْدِم عَلَى الكَتْبِ بِمَا لَمْ يَقْتُلْهُ عِلمًا ويُحيط بِهِ خُبْرًا، وَقَدْ أَمر أَمِير الْمُؤْمِنِين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عَنْ أَمركُم، فَقَالُوا لَهُ: افْعَل مَا أمرت بِهِ، فَقَالَ: من خيرُ النّاس بعد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْنَا: أَمِير الْمُؤْمِنِين عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، فَقَالَ لخادم بَيْنَ يَدَيْهِ: قَدْ سَمِعْتُ مَا قَالُوا فَأخْبر أَمِير الْمُؤْمِنِين بِهِ، فَمضى ثُمّ عَاد، فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَذَا مذهبي، فَقُلْنَا: الْحَمد لله الَّذِي وَافق أَمِير الؤمنين فِي دينه ووفقنا لاتباعه وموافقته عَلَى مذْهبه، ثُمّ قَالَ لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ؟ فَقَالُوا: رَحْمَة اللَّه عَليّ أَبِي بَكْر، نقُول فِيهِ خيرا، قَالَ: فَمَا تَقولُونَ فِي عُمَر قُلْنَا: رَحْمَة اللَّه عَلَيْه وَلا نُحِبُّه، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ أخرج مَوْلَانَا الْعَبَّاس من الشُّورى،

اعتذار الحسن بن وهب عن الإعطاء

قَالَ: فسمعنا من وارء السَّبَنِيَّةِ ضحكًا أَعلَى من الضحك الأول ثُمّ أَتَى الْخَادِم، فَقَالَ لِعبيد اللَّه عَنِ المتَوَكل: أتبعهم صِلَةً فقد لَزِمَهُم فِي طريقهم مؤونة واصرِفْهم، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي غِنًى وَفِي الْمُسْلِمِين من هُوَ أحقُّ بِهَذِهِ الصِّلة وإليها أحْوج. قَالَ القَاضِي: فَهَذِهِ الْحِكَايَة تُبِّينُ أَن المتَوَكل عَلَى خلاف مَا توهمه ابْن الخصيب، وبمعزلٍ مِمَّا نسبه فِي هَذَا الْمَعْنى إِلَيْهِ، واللَّه تَعَالَى أَعْلَم بالضمائر، وخفيات السَّرائر، وَهُوَ الْمجَازِي كُلّ مُحْسن ومسيء بِعَمَلِهِ. اعتذار الْحَسَن بْن وَهْب عَنِ الْإِعْطَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُوسَى الْبَرْبَرِي، قَالَ: كتب رجلٌ إِلَى الْحَسَن بْن وَهْب يستميحه وَكَانَ مضيقًا، فَكتب إِلَيْهِ الْحَسَن: الْجُود طَبْعِي ولكنْ لَيْسَ لي مالٌ ... فَكيف يحتال من بالرَّهْن يحتالُ وشهوتي فِي العطايا وانبساطُ يَدي ... وَلَيْسَ مَا أشتهي يَأْتِي بِهِ الْحَال فهاك خطي فزُرْني بحيثُ لي نشبٌ ... وَحَيْثُ يمكنُ إحسانٌ وإفضالُ المجلِسُ الأربَعُونْ لن يدْخل الجَنَّة شحيح أَوْ بخيل حَدَّثَنَا رِضْوَانُ بْنُ أَحْمَدَ بن جالينوس الصَّيْد نائي، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عَبْد اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي شَجَرَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَفَتَقُولُونَ أَوْ يَقُولُ قَائِلُكُمْ: الشَّحِيحُ أَعْذَرُ مِنَ الظَّالِمِ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشُّحِّ، مَا أَسْرَعَ فِي نَفْضِ الإِسْلامِ شيءٌ إِسْرَاعَ الشُّحِّ، وَحَلَفَ اللَّهُ بِعِزَّتِهِ وَجَلالِهِ، لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ شَحِيحًا وَلا بَخِيلا ". قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا يبعثُ عَنِ التَّنَزُّهِ عَنِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَة عَنِ الدناءةِ وَالْبخل، وَيَدْعُو إِلَى السَّماحة والبَذْلِ، ويحثُّ عَلَى السَّخاء، وَيبْعَث عَلَى الْعَطاء، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمثل هَذَا الْخَبَر أَخْبَار كَثِيرَة، وَعَن السّلف وَالْخلف، وأتى فِيهِ من أَخْبَار الْعَرَب وجواهر كَلَامهَا، ومنظوم أشعارها، مِمَّا يقف النَّاظر فِي مجَالِس كتَابنَا هَذَا عَلَى الْكثير المستحسن مِنْهُ، وَلا يحْتَمل هَذَا الْمَكَان الْإِتْيَان بِجَمِيعِهِ فِي مجْلِس وَاحِد لطوله. تَعْزِيَة بليغة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: عزي رجلٌ بعضَ مُلُوك العَجم، فَقَالَ: أَغْنَاك اللَّه عَنِ الْحَاجة إِلَى الصَّبْر بِحسن العزاء، وَلا أنساك مصيبتك بأعظم مِنْهَا وَلا حَرمك جزيل الثَّوَاب عَلَيْهَا.

مخارق يهاجم إسحاق الموصلي فيدافع هذا عن نفسه

مُخَارق يهاجم إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ فيدافع هَذَا عَنْ نَفسه حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن القَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم المَوْصِليّ، قَالَ: قَالَ لي عَلِيّ بْن هِشَام: قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الصَّبُوح فاغْدُ عَليّ، فعانقني عائق عَنِ البكور إِلَيْهِ، فجئتُ فِي وَقت الظّهْر وَعِنْده مُخَارِق، فَقَالَ لي: يَا أَبَا إِسْحَاق أَيْنَ كُنْت؟ فَقلت: شغلني - أعز اللَّه الْأَمِير - مَا لَمْ أجد من الْقيام بِهِ أبدا، ثُمّ دَعَا بِطَعَام وَجَلَسْنَا عَلَى شرابنا فغنى مُخارق صَوتا من الطَّوِيل شعر المؤقل، والغناء لأبي سَعِيد مَوْلَى فَايِد وَهُوَ: وَقَدْ لامني فِي حب مَكْنُونَةَ الَّتِي ... أهيمُ بهَا أهلُ الصَّفَاءِ فأكثرُوا يَقُولُونَ لي مَهْلا وصبرًا فَلم أجدْ ... جَوَابًا سوى أَن قُلْتُ كَيفَ التصبر أأصبرُ عَنْ نَفسِي وَقَدْ حيل دُونها ... ووافقني مِنْهَا الَّذِي كُنْت أحذرُ فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقلت: أَخْطَأت وَيلك! ثُمّ غنَّى صَوتا من الْبَسِيط شعره لحميد بْن ثَوْر، والغناء للهُذَلي وَهُوَ: يَا مُوقِد النَّار بالعلياء من إضمٍ ... قد هجت لي سُقُمًا يَا مُوقِد النَّارِ يَا رُبَّ نارٍ هدتني وَهِي مُوقَدَة ... بالنِّدِّ والعَنْبر الْهِنديِّ والغَارِ تَشُبُّها إِذْ خَبَتْ أيدٍ مخضبةٌ ... من ثيباتٍ مصوناتٍ وأبْكارِ قلوبُهن وَلَم يَبْرَحْن شاخصةٌ ... ينظرن من أَيْنَ يَأْتِي الطَّارِقُ السَّاري فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقلت: أَخْطَأت وَيلك! ثُمّ تغنى صَوتا ثَالِثا من الْكَامِل، شعره لكُثَيّر، والغناء لمعْبَد: إِنِّي لأسْتَحِي أَن أبُوح بحاجتي ... فَإِذا قَرَأت صحيفتي فتهمني وَعَلَيْك عهدُ اللَّه إِن أنبأتِهِ ... أحدا وَلا أظهرتِه بتَكَلُّمِ فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقلت: أَخْطَأت وَيلك! فَغَضب، قَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاق يَأْمُرك الْأَمِير بالبكور فتأتي ظهرا، وتغنيت أصواتًا كُلَّها يُحبها ويطرب إِلَيْهَا فخطأتني فِيهَا، وتزعم أنَّكَ لَا تضرب بِالْعودِ إِلا بَيْنَ يَدَي خليفةٍ أَوْ ولِيِّ عهد، وَلَو قَالَ لَك بعضُ البرامكة مثل هَذَا لبكَّرْتَ وضَرَبْتَ وغَنّيت، فَقلت: مَا ظننتُ أَن هَذَا يَجْري، وواللَّه مَا أُبْديه انتقاصًا لمجلس الْأَمِير أعثره اللَّه، وَلَكِن اسْمَع يَا جَاهِل، ثُمّ أَقبلت عَلَى ابْن هِشَام، فَقلت: دَعَاني - أصلح اللَّه الْأَمِير - يَحْيَى بْن خَالِد يَوْمًا، وَقَالَ لي: بكر فَإِنِّي علىالصبوح، وَقَدْ كُنْت يَوْمئِذٍ فِي دارٍ بأُجْرة، فَجَاءَنِي من اللَّيْل صاحبُ الدَّار فأزعجني إزعاجًا شَدِيدا. فَجرتْ مني يمينٌ غَلِيظَة أَنِّي لَا أُصْبح حَتَّى أتحوَّل، فَلَمَّا أصبحتُ خرجت أَنا وغلماني حَتَّى اكتريتُ منزلا وتحولتُ ثُمّ صرتُ إِلَى يَحْيَى وَقت الظّهْر، فَقَالَ لي: أَيْنَ كُنْت إِلَى السَّاعَة؟ فحدثُته بقصَّتي

وقعدنا عَلَى شربنا وأخذنا فِي غنائنا، فَلم ألبث أَن دَعَا يحيى بداوة وَقِرْطَاس فَوَقع شيءاً لَمْ أدْرِ مَا هُوَ، ثُمّ دفع الرُّقْعة إِلَى جَعْفَر فَوَقع فِيهَا شَيْئا وَدفعهَا إليّ، وَإِذَا يَحْيَى قَدْ كتب: يُدفع إِلَى إِسْحَاق ألف ألفٍ يبتاعُ بهَا منزلا، وَإِذَا جَعْفَر قَدْ كتب يُدفع إِلَى إِسْحَاق ألف ألف يَصْرفها فِي نفقاته ومُرُوءته، فَقلت فِي نَفسِي هَذَا حُلم، فَلم ألبث أَن جَاءَ خَادِم أَخذهَا من يَدي، فَلَمَّا كَانَ فِي وَقت الِانْصِرَاف استأذنتُ وَخرجت، فَإِذا أَنَا واللَّه بِالْمَالِ وَإِذَا الوكلاء ينتظروني حَتَّى أقبضهُ مِنْهُم فعلام يَلُومُنِي هَذَا الْجَاهِل؟ ثُمّ قُلْتُ لمخارق: هَات الْعود فَأَخَذته ورددت الْأَصْوَات الَّتِي أَخطَأ فِيهَا، وغنيت صَوتا من الطَّوِيل بِشعر لِابْن ياسين، والغناء فِيهِ لي وَهُوَ: إلهي مَنَحْتَ الْوُدَّ مِنِّي بخيلةً ... وَأَنت على تَغْيِير ذَاك قَدِيرُ شفاءُ الْهوى بَثُّ الجوى واشتكاؤه ... وَإِن امْرأ أخْفَى الْهوى لصَبُورُ فطرب لذَلِك طَربا شَدِيدا ثُمّ قَالَ: حُقَّ لَك، ثُمّ أقبل عَلَى مُخَارق، فَقَالَ: يَا فَاسق! مَا أَنْت وَالْكَلَام، وَأمر لي بِمِائَة ألف دِرْهَم وخِلعة، وَأمر لِمُخَارق بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فَبلغ ذَلِكَ إِسْحَاق بْن خَلَف فَأَنْشَأَ يَقُولُ: إِن جئتَ ساحته تبغي سماحته ... تَلْقَاكَ رَاحَتُهُ بالوَبْلِ والدِّيَمِ مَا ضرَّ زَائِره الرَّاجي لنائله ... إِن كَانَ ذَا رحمٍ أَوْ غَيْر ذِي رحِمِ فَعَالُه كرمٌ وَقَوله نغمٌ ... بقوله نعمٌ قَدْ لجَّ فِي نِعَم قَالَ القَاضِي: قَول حُمَيد بْن ثَوْر: النِّدُّ والعنبر الْهِنْدِيّ، زعم بعضُ عُلَمَاء اللُّغَة أَن النِّد أعجمي، وَهَذَا حُمَيد بْن ثَوْر أَتَى بِهِ فِي شعره، وَقَدْ رُوِيَ شعرٌ فِي خبر لمُعَاوِيَة نِسْبَة بعضُ الرُّواةِ إِلَى عَبْد الرَّحْمَن بْن حَسَّان، وَبَعْضهمْ إِلَى أَبِي دهبل، فَذكر بعض من رَوَاهُ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: تجْعَل النِّدَّ والألوة والمس ... ك صَلالَها عَلَى الكانون وقَالَ العَرْجيُّ: تَشُبُّ مُتُون الْحُمْر بالنِّد تَارَةً ... وبالعنبر الْهِنْدِيّ وَالْعرْف سَاطِع وَقَالَ الأحْوَص: إِذا خَبَتْ أُوقِدَتْ بالنِّدِّ واشْتَعَلتْ ... وَلَم يكنْ عِطْرُها مسكٌ وأظْفَارُ وَقَوله: تَشُبُّها إِذا خَبَت، معنى تشبها: تُلْهِبُها وتُضْرِمُها، قَالَ الأحْوَص بْن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ: أمِن خليدَة وَهْنًا شَبَّتِ النَّارُ ... ودُوننا من ظلام اللَّيْل أسْتَارُ باتَتْ تُشَبُّ وبتنا الليلَ نَرْقبها ... تَعْنِي قلوبٌ بهَا مَرْضى وأبْصَارُ يُقَالُ: شبت النَّار والرحب شَبَّهُما الإِنْسَان يَشُبُّهَا شبوبًا وشَبًا، وشبَّ الصبيُّ يَشِبُّ

ابن بيض يتحقق له حلمه

شَبَابًا وشَبِيبةً، وشَبَّ الفرسُ يَشِبُّ شِبَابًا وشُبُوبًا، وَقَوله: إِذا خبت يَعْنِي إِذا خمدت، يُقَال: خبت النَّار تخبو خَبُوًا إِذا سكنت، قَالَ الشَّاعِر: وَمنا ضِرَار وابنماه وحاجبٌ ... مُؤَجِّجُ نيرانِ المكارمِ لَا الْمُخْبِي وقَالَ آخر: أَمن زَيْنب ذِي النَّارُ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ مَا تَخْبُو إِذا مَا خَمدَت يَلْقَى ... علينا المندَلُ الرَّطْبُ وقَالَ الْقطَامِي: وَكُنَّا كالحريقِ أصَاب غابا ... فيخبُو تَارةً ويَهِبُّ سَاعَا وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: " كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا " أَقْوَال، قِيلَ: إِن الْمَعْنى كلما سكنت، وَقيل الْمَعْنى كلما التهبت وتوقَّدت، وَجعلُوا هَذِهِ الْكَلِمَة من الأضداد، وَقيل: بل الْمَعْنى بِهَذِهِ الْجُلُود، والتأويل كلما خَبَت جُلُودهمْ. وَشرح هَذَا يَأْتِي فِي كتَابنَا الْمُسَمّى " الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز " إِن شَاءَ الله. وَقَول: كُثَيِّر: إِنِّي أسْتَحيك، اللُّغَة الفصيحة إِنِّي أستحييك، قَالَ: قَالَ تَعَالَى: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يضْرب مثلا "، وقَالَ عز ذكره: " إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ " وللعرب فِيهِ لُغَة أُخْرَى بعد هَذَا وَهِي اسْتَحى يستحي كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَلا يَسْتَحي منَّا رجالٌ وتَتَّقِي ... محارمَنَا لَا يَبُوءُ الدَّمُ بالدَّمِ وَنسب إسحاقُ الشّعْر الَّذِي ختم مَجْلِسه بِالْغنَاءِ فِيهِ إِلَى أَنَّهُ من الطَّوِيل، وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يبين أَيّ نوع من الطَّوِيل هُوَ، فَرَأَيْت أَن أبيِّنَه وَأَقُول: إنَّه النَّوْع الثَّالِث مِنْهُ، وَهُوَ مَقْبُوض العَرُوض مَحْذُوف الضَّرْب مَا كَانَ مُطلقًا، وَمِنْه: أقيمُوا بَنِي النُّعْمَانِ عنَّا صُدُورَكُمْ ... وإِلا تُقِيمُوا صاغرين الرؤسا فَإِذا صُرِّع أَلْحقْتَ عَرُوضَه بضَرْبِه، فَصَارَت محذوفة بِمَنْزِلَتِهِ وَكَانَت فِي الْإِطْلَاق أتم وأطول مِنْهُ، فَمنْ مصرع هَذَا النَّوْع قَول امرىء الْقَيْس: لمن طللٌ أبْقرتُهُ فَشَجاني ... كخط الزَّبُورِ فِي عسيبٍ يَمَانِ وقَالَ أَيْضا: أجَارَتَنَا إِن الْخُطُوبَ تَنُوبُ ... وَإِنِّي مقيمٌ مَا أَقَامَ عَسِيبُ وَقبض فَعُولن الَّذِي قبل الضَّرْب من هَذَا الشّعْر، عَذْبٌ فِي الأسْمَاع من إِيرَاده سالما. ابْن بيض يتَحَقَّق لَهُ حلمه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن بنان، قَالَ: حَدثنَا عَمْرو الْكُوفِي، قَالَ: دخل حَمْزَة بْن بَيْض عَلَى يَزِيد بْن الْمُهَلّب يوْم جُمُعَة وَهُوَ يتأهَّبُ للمضيِّ إِلَى

توصي له بثلث مالها نظير بيت شعر

الْمَسْجِد، وجاريةٌ تُعَمِّمُهُ فَضَحِك، فَقَالَ: لَهُ يَزِيد: ممَّ تَضْحك، فَقَالَ: للَّه رُؤْيَا رأيتُها إِن أذن لي الأميرُ قَصَصْتُها، قَالَ: قل، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: رأيتُك فِي الْمَنَام سَنَنْتَ خزًّا ... عَلَيَّ بَنَفسَجًا وقَضَيْتَ دَيْنِي فَصَدِّقْ مَا هُدِيتَ الْيَوْم رُؤْيا ... رأتها فِي الْمَنَام كَذَاك عَيْنِي قَالَ: كم دينُك؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ ألفا، قَالَ: قَدْ أمرتُ لَك بهَا وبمثلها، ثمَّ قَالَ: يَا غلْمَان! فتشوا الخزائن فجيؤه مِنْهَا بِكُل خَزٍّ بنفسجٍ تَجدُونها، فَجَاءُوا بِثَلَاثِينَ جُبَّة، فَنظر إِلَيْهِ يُلَاحظ الْجَارِيَة، فَقَالَ: يَا جَارِيَة عاوني عَمَّك عَلَى قَبْض الْجِبَاب، فَإِذا وصلت إِلَى منزله فَأَنت لَهُ، فَأَخذهَا والجباب وَالْمَال وَانْصَرف. قَالَ: سننت خَزًّا أَيّ أَلقيته وصَبَبْتَهُ عَليّ، يُقَالُ صَبَّ عَلَيْه ثَوْبه كَمَا قَالَ أَبُو نواس: صببت على الْأَمِير ثيابَ مَدْحِي ... فَقَالَ الناسُ أحسنَ بل أَجَاد ويُقَالُ: سننتُ عَليَّ قَمِيصِي، وسننتُ المَاء عَلَى وَجْهي بِالسِّين الْمُهْملَة، وشننت عَليّ المَاء إِذا أفَضْتَه على جسدك، بالشين النعجمة، وَكَذَلِكَ شَنَّ عَلَيْه الدِّرْع، وشنَّ عَلَيْهِم الْغَارة، وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " من حمأٍ مسنون " أَيّ مَصْبوب عَلَى قصد، وَقيل: متغير الرَّائِحَة، وَهَذَا مسنون وسَنِين، وَلِهَذَا الْبَاب مَوضِع هُوَ مُسْتَقْصى فِيهِ، وَالسّنة مُشْتَقَّة من خذا الأَصْل لِأَنَّهَا شيءٌ جَار عَلَى وَجهه، وَمِنْه سُنَّةُ الطَّرِيق وسَنَنُه، قَالَ لبيد: من معشر سننت لَهُم آباؤهم ... وَلكُل قوم سنةٌ وإمامُها وسُنَّة الْوَجْه كأَنَّها الشيءُ المصبوبُ الْجَارِي عَلَى طَريقَة مَقْصُودَة: كَمَا قَالَ ذُو الرمة: تُرِيكَ سُنَّةَ وجهٍ غيرَ مقرفةٍ ... مَلْساء لَيْسَ بهَا خالٌ وَلا نَدَبُ يروي غَيْر مقرفة وَغير بِالنّصب والجر، فَمن رَوَاهُ نصبا فَهُوَ الْوَجْه الظَّاهِر فِي الصِّحَّة الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلا مَرِيَّة إِذْ هُوَ صفةٌ لمنصوب، وَهُوَ السّنة المنصوبة بالفهل وَهُوَ تريك، وَمن رَوَاهُ جَرًّا فَإنَّهُ أتبعه إِعْرَاب وجْه المخفوض يالإضافة، عَلَى الطَّرِيقَة الَّتِي يجيزُها من يجيزُها للمجاورة، ويجعلها بِمَنْزِلَة قَوْلهم " حُجْرُ ضَبٍّ خربٍ "، وَهَذَا وَجه ضَعِيف مَرْغُوب عَنهُ، وكثيرمن النَّحْوِيين لَا يُجِيزهُ، وَمن محقيقيهم من يُلَحِّن الْمُتَكَلّم بِهِ، وينسب مجيزه من النُّحَاة إِلَى الْخَطَأ والمتكلم بِهِ من العَرَبِ وَإِن كَانَ قدوة حجَّة فِي اللُّغَة إِلَى الْغَلَط، وَهَذَا يَتَّسِع القولُ فِيهِ، وَقَد استقصينا بَيَانه فِي كتَابنَا " الشافي فِي طَهَارَة الرجلَيْن " وَغَيره من كُتبنا ومسائلنا. توصي لَهُ بِثلث مَالهَا نَظِير بَيت شعر حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي أَبُو بركَة الْأَشْجَعِيّ، قالك حَضَرَتِ امْرَأَةً مِنْ بَنِي نُمَيْرٍ الْوَفَاةُ، فَقِيلَ لَهَا: أَوْصِي، فَقَالَتْ: نَعَمْ، خَبِّرُونِي مَنِ الْقَائِلِ:

من جود عبد الله بن جعفر

لَعَمْرُكَ مَا رِمَاحُ بَنِي نميرٍ ... بِطَائِشَةِ الصُّدُورِ وَلا قِصَارُ قَالَ: فَقِيلَ لَهَا: زِيَادٌ الأَعْجَمُ، قَالَتْ: فأُشْهِدُكُمْ أَنَّ لَهُ ثُلُثَ مَالِي، قَالَ: فَحُمِلَ إِلَيْهِ مِنْ ثُلْثِهَا أَرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ. من جُود عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حُدِّثْتُ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُد بْن مُحَمَّد، عَنْ سوَادَة بْن أَبِي الْأسود، عَنْ شهر بْن حَوْشَب. أَن رَجُلا عَطِبَتْ راحلتُه فَأتى أَمِير الْمَدِينَة فَسَأَلَهُ فَلم يحملهُ، فَقِيل لَهُ: ائْتِ ابْن جَعْفَر فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَبَا جعفرٍ إِن الحجيج تَرَحَّلُوا ... وَلَيْسَ لَرَحْلي فاعلمنّ بَعيرُ أَبَا جَعْفَر من أهل بَيت نبوةٍ ... صَلاتهمُ للْمُؤْمِنين طهورُ أَبَا جَعْفَر ضنّ الْأَمِير بِمَالِه ... وَأَنت عَلَى مَا فِي يَديك أَمِير قَالَ: فَأمر لَهُ براحلة وَنَفَقَة وَكِسْوَة سابغة. إِبْلِيس يعلم الْغناء حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: قَالَ: لي شيخٌ من الْكتاب قَدْ أَتَى عَلَيْه نَحْو ثَمَانِينَ سنة، انصرفتُ من ديواني وَأَنا حدثٌ من أحسن النّاس وَجها فلقيني شيخٌ فِي مَوضِع كَانَ زيُّه زِيَّ الرهبان فعلق بِكُمِّي، ثُمّ رفع صَوته وغنى غناء مَا سمعتُ قطُّ أَشْجى وَلا أحسن مِنْهُ فَقَالَ: انْظُر إليّ يَا طوالوالحن، ثُمّ خَلَّى كُمّي وَانْصَرف، وأحسبُه إِبْلِيس. من أَخْبَار ابْن جُدْعَان حَدَّثَنِي عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ: أَتَى رَجُل عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان فَأعْطَاهُ شَيْئا يَسِيرا فلامه الرَّجُل، وَلابْن جُدْعَان جارٌ من قُرَيْش لَهُ مالٌ لَا يُعطي أحدا شَيْئا، فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان: ألام وأُعطِي والبَخِيلُ مُجَاوِرِي ... لَهُ مِثْلُ مَالِي لَا يُلامُ وَلا يُعْطِي قَالَ القَاضِي: ابْن جُدْعَان التَّيْميّ من مشهوري أجواد قُرَيْش، وَفِيه يَقُولُ أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت: علم جدعَان بن عَم ... رٍو أَنَّهُ يَوْمًا مُدَابِرْ ومسافرٌ سَفَرًا بعي ... داً لَا يؤوب لَهُ الْمُسَافِر فقدروه بِفَنائِهِ ... للضيف مترعةٌ زوافِر وَلَهُ أَخْبَار كثيرةٌ، لَعَلَّنَا نأتي بهَا فِيمَا نستقبله من هَذِهِ الْمجَالِس.

العلم من ظهور الدفاتر

الْعلم من ظُهُور الدفاتر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَليفَة الْفضل ابْن الْحُبَاب: أَن أَبَا زَيْد الأَنْصَارِيّ، رَأَى رَجُلا حسن الْعلم، كثير الراوية، جيد الْحِفْظ لمُلح الْأَخْبَار، لَا يتَمَثَّل إِلا بِحسن، وَلا يستشهد إِلا بجيد، فَقَالَ: كَأَنّ عِلْمَهُ واللَّه من ظُهُور الدفاتر. أَعْرَابِي يسْأَل عُمَر حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَليّ بن إِسْمَاعِيل الخطي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَة، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الْمُسَيَّبِ بن شريك بن عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّةْ ... اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: إِذًا أَبَا حفصٍ لأذهبته قَالَ: فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: تَكُونُ عَنْ حَالِي لِتُسْأَلَنَّهْ ... يَوْمَ تَكُونُ الأَعْطِيَاتُ يَمْنَهْ وَالْوَاقِفُ الْمَسْئُولُ بَيْنَهُنَّهْ ... إِمَّا إِلَى نارٍ وَإِمَّا جَنَّةْ قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلامُ أَعْطِهِ قَمِيصِي هَذَا لِذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِشِعْرِهِ، أَمَا وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ. نموُّ النَّبات مُرْتَبِط بِطَاعَة اللَّه حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الْهَيْثَم الشَّبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَوْذَة بْن خَليفَة، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْف الْأَعرَابِي، عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ، قَالَ: أَصَابُوا فِي خزائِن كسْرَى سَلَّةً فِيهَا حِنْطَة كأمثال اللُّؤْلُؤ مَكْتُوب فِيهَا: هَذَا نَبَتَ فِي سنةٍ كَانَ يعْمل فِيهَا بِطَاعَة الله. بكاء الشُّعَرَاء عَلَى الشَّبَاب حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش، قَالَ: حَدَّثَنِي السكرِي، عَنِ المهلبي، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ، أحِسبه عَنِ ابْن سَلام، عَنْ يُونُس، قَالَ: مَا بَكت الأعرابُ فِي أشعارها شَيْئا مَا بَكت الشَّبَاب وَمَا بلغتْ كُنْهَهُ، فاتَّبع هَذَا الْكَلَام النَّمرِيّ، فَقَالَ: مَا كنتُ أُوفِي شَبابي كُنْهُ عِزَّتِهِ ... حَتَّى انْقَضَى فَإِذا الدُّنْيَا لَهُ تَبَعُ قَالَ يَزِيد: وسمعتُ أَحْمَد بْن المعَذَّلِ يتعجَّبُ من بَيت النَّمرِيّ بعد هفا وَيَقُولُ: أما ترى حَيْثُ اشْترط النَّمرِيّ حَيْثُ يَقُولُ: مَا واجه الشيبَ من عين وَإِن وَمِقَتْ ... إِلا لَهَا نبوةٌ عَنْهُ ومُرْتَدَعُ

فتح أول الأسم في النسبة وعلة ذلك

فتح أول الِاسْم فِي النِّسْبَة وَعلة ذَلِكَ قَالَ القَاضِي: النَّمرِيّ منسوبٌ إِلَى النَّمِرِ بْن قاسط، وَإِنَّمَا فتح الْمِيم فِي النِّسْبَة، وَهِي فِي الِاسْم قبل إِضَافَته مَكْسُورَة، فِرَارًا من ثقل الكسرةِ إِلَى خفَّة الفتحة، لِمَا اجْتمع فِي الِاسْم من الكسرات والياءات، وَقَدْ أَتَى هَذَا كثيرا فاشيًا فِي ثَلَاثَة أسماءٍ عِنْد النَّسب، أحدُهُن النَّمرِيّ كَمَا فسرناه والشَّقِرِيّ فِي النّسَب إِلَى بني شَقِرَة من بني تَمِيم، والسُّلَمِيّ فِي النّسَب إِلَى بني سَلَمَة من الْأَنْصَار، والشقرة الْوَاحِدَة من شقائق النُّعْمَان، والسَّلِمة حجارةٌ سُود. وَفِي عِلّة تَغْيِير الكسرة ونقلها فِي النّسَب إِلَى الفتحة حَيْثُ ذكرنَا، وعَلى مَا بَينا، وجهٌ آخر لَمْ أجد أحدا تقدمني فِي استخراجه، وَهُوَ أنَّهم يسكنُون أَوسط مَا كَانَ فَعْل وَإِن كَانَ أَصله الْحَرَكَة تَخْفِيفًا مثل مَلْك وكَتْف وَكَانَ تخفيفه إِذا اتَّصل بِهِ يَاء النّسَب أولى وَكَانُوا إِلَى تسكينه أحْوج، فخفَّفوه وفتحوا ثَانِيَة عوضا مِمَّا حذفوه، وَلِأَنَّهُ قَد ازْدَادَ بياء النّسَب ثِقَلا، ولزمت الكسرة مَا قبل الْيَاء الأولى مِنْهَا. ممازحة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عونُ بْن مُحَمَّد الْكِنْديّ، قَالَ: خرجتُ مَعَ مُحَمَّد بْن أَبِي أُمِّيّه إِلَى نَاحيَة الجسر بِبَغْدَاد، فَرَأى فَتى من أَوْلَاد الْكُتَّاب جميلا فمازحه فَغَضب وتهدّده، فَطلب من غُلَامه دَوَاتَهُ وَكتب من وقته: دون بَاب الْجِسر دارٌ لِهَوًى ... لَا أسمِّيهِ ومَنْ شَاءَ فَطنْ قَالَ كالمازح واسْتَقْلَمَنِي ... أَنْت صَبٌّ عاشقٌ لي أَوْ لِمَنْ؟ قلتُ سَلْ قَلْبك يُخْبرك بِهِ ... فَتَحايَا بَعْدَمَا كَانَ مَجَنْ حُسْنُ ذَاك الوجهِ لَا يُسْلِمُني أبدا مِنْهُ إِلَى غَيْر حَسَن ثُمّ دفع الرقعة إِلَيْهِ فَاعْتَذر وَحلف أَنَّهُ لَمْ يعرفهُ. يعاف المشرب الْمُشْتَرك حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن الْقَاسِم، قَالَ: عَشِق التَّيْميّ جَارِيَة عِنْد بعض النخاسين، فَشَكا وجده ومحبَّته إِلَى أَبِي عِيسَى الرشيد، فَقَالَ أَبُو عِيسَى لِلْمَأْمُونِ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إنَّ التَّيْميّ يجدُ بجاريةٍ لبَعض النخَّاسين، وَقَدْ كتب إليّ بَيْتَيْنِ يسألني فيهمَا، فَقَالَ: لَهُ: وَمَا كتب إِلَيْك؟ فأنشده: يَا أَبَا عِيسَى إِلَيْك الْمُشْتَكَى ... وأخُو الصَّبر مَتَى عيلَ شكا لَيْسَ لي صبرٌ عَلَى هجرانها ... وأعاف المشربَ المشتركا قَالَ: فَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فاشتراها. أَبْيَات لحسان فِي مدح الْخمر وذمها حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي

فليغننا أصواتا بدلا من العطاء

هَارُون بْن عَبْد اللَّه الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُف بْن عَبْد الْعَزِيز بن المجاشون، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت: أتيت جَبَلَة بْن الأَبْهم، الغساني وَقَدْ مَدَحْتُه، وَكَانَ حَسَّانُ قَد اشْتَكَى، فَقَالَ: لَهُ: يَا أَبَا الْوَلِيد مَا تشْتَهي، قَالَ: مَا لَا تقدرون عَلَيْه، قَالَ نتكلَّفُه لَك، قَالَ: رطباتٌ محلقماتٌ من بَنَات ابْن طَابَ، قَالَ: هَذَا مِمَّا لَا نقدر عَلَيْهِ ببلادنا هَذِه، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيد: إِن الْخمر قد شغفتني فاذممها لعَلي أرفضها، فَقَالَ: لَوْلَا ثلاثٌ هُنّ فِي الكأس لَمْ يكنْ ... لَهَا ثمن من شاربٍ حِين يشربُ لَهَا نزقٌ مثل الْجُنُون ومصرع ... دنيُّ وَأَن العقلَ يَنْأى ويعزُبُ فَقَالَ: أفسَدْتها فحسِّنْها، فَقَالَ: وَلَوْلَا ثلاثٌ هنّ فِي الكأس أَصبَحت ... كأنفسِ مالٍ يُسْتفادُ ويُطْلَبُ أمانُّيها وَالنَّفس تظهر طيبها ... على حزنها والهم يُسْلَى فَيذْهب قَالَ: لَا جرم لَا أدعها أبدا. نصيحةُ أَب لِابْنِهِ حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِم بْن الْحسن الزُّبَيْديّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن مُحَمَّد، قَالَ حَدَّثَنِي الْعُتْبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي خَالِد عَنْ سُفْيَان بْن عَمْرو بْن عُتْبَة، قَالَ: لما بلغت خمسَ عشرةَ سنَة، قَالَ لي أَبِي: أَيّ بنيَّ! قَد انقطعتْ عَنْك شرائع الصِّبا، فاختلطْ بِالْخَيرِ تكن من أَهله، وَلا تزايله فَتَبِينَ مِنْهُ كُله، وَلا يغرَّنَّك من اغْترَّ بِاللَّه عَزَّ وَجَلّ فِيك فمدحك بِمَا تعلم خِلَافه من نَفسك، وَاعْلَم أَنَّهُ يَا بني لَا يَقُولُ أحدٌ فِي احدٍ من الْخَيْر مَا لَا يعلم إِذا رَضِيَ، إِلا قَالَ فِيهِ مثله من الشَّرِّ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ إِذا سخط، فاستأنسْ بالوحدة من جلساء السَّوء تسلم من عواقبهم، وَلا تنقل حُسْن ظنِّي بك إِلَى غَيره، قَالَ: سُفْيَان فَمَا زَالَ كَلَام أَبِي لي قِبْلةً أنتقل مَعهَا وَلا أنتقل عَنْهَا وَمَا شيءٌ أَحْمَد مَغَبَّةً من قبولٍ من نَاصح معروفٍ نُصْحَه. فليغننا أصواتًا بَدَلا من الْعَطاء حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الطَّبَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مهويه، قَالَ: وجدتُ فِي كتاب أَبِي بِخَطِّهِ، قالك لما بُويِعَ إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي بِبَغْدَاد قل المَال عِنْده فَكَانَ يلجأ إِلَيْهِ أَعْرَاب من أَعْرَاب السَّوادِ وَغَيْرُهُمْ، فاحتبس عَلَيْهِم العَطاء فَجعل إِبْرَاهِيم يُسَوِّفُهُم بِالْمَالِ وَلا يرَوْنَ لذَلِك حَقِيقَة، إِلَى أَن اجْتَمعُوا يَوْمًا فَخرج رَسُول إِبْرَاهِيم إِلَيْهِم يصرِّح لَهُم أَنَّهُ لَا مَال عِنْده، فَقَالَ قومٌ من غَوْغاء أَهْل بَغْدَاد: فأخرجوا إِلَيْنَا خليفَتَنا فليُغَنِّ لأهل هَذَا الْجَانِب ثَلَاثَة أصوات، وَلأَهل ذَلِكَ الْجَانِب ثَلَاثَة أصوات، فَيكون عَطاء لَهُم،

المجلس الحادي والأربعون

فأنشدني دعبل فِي ذَلِكَ: يَا مَعْشَرَ الْأَعْرَاب لَا تغلطوا ... خُذُوا عَطَاياكم وَلا تسْخطوا فَسَوف يعطيكُم حُنَيْنِيَّةً ... لَا تَدْخُل الكيسَ وَلا تُربط والمَعْبَدِيَّاتُ لقوادكم ... وَمَا بِهَذَا أحدٌ يُغْبَطُ فَهَكَذَا يرزقُ أجْنادَهُ ... خليفةٌ مصحفُهُ البَرْبَطُ قَالَ القَاضِي: البَرْبط الْعُود، وَأَصله بِالْفَارِسِيَّةِ وَالْعرب تسميه الْمِزْهَر، وَقَدْ زعم بَعضهم أَن هَذَا الضَّرْب من آلَات الملاهي تُسَمى الْعود فِي سالف الْأُمَم وغابرها، وَأَن من أَسْمَائِهِ عِنْد الْعَرَب الْكِرَانُ والبَرْبَطُ والْمُوتَر، وَلنَا فِي هَذَا قولٌ لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكره. المجلِسُ الحَادي وَالأربَعوُنْ وجوب ضبط الْعلم وَتَقْيِيد الْحِكْمَة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبٍ، أَنَّ شُعَيْبًا حَدَّثَهُ وَمُجَاهِدًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو: حَدَّثَهُمَا أَنَّهُ، قَالَ لرَسُول اللَّه صلّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ: أَكْتُبُ مَا سَمِعْتُ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عِنْدَ الْغَضَبِ وَعِنْدَ الرِّضَا، قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ أَقُولَ إِلا حَقًّا. قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر دلَالَة وَاضِحَة عَلَى أَنَّهُ من الصَّوَاب ضبط الْعلم وَتَقْيِيد الْحِكْمَة، بالْكِتاب حفظا لَهما وحِرْزًا من تَشَذُّ بهما، وعتادًا يُرجع إِلَيْهَا، ويفزع الناسِي إِلَيْهِمَا فيذكر مَا نَسيَه مِنْهُ، ويستدل عَلَى مَا عزب عَنْهُ، وعَلى فَسَاد قَول من ذهب إِلَى كَرَاهِيَة ذَلِكَ، وَقد جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ "، وَجَاء فِي الْأَثر: أَن سُلَيْمَان بْن دَاوُد، قَالَ لبَعض من أسره من الشَّيَاطِين: مالكلام؟ قَالَ: ريح، قَالَ: فَمَا يُقَيّده، قَالَ: الْكتاب، وَفِي إِحْضَار مَا ورد فِي هَذَا الْمَعْنى وإيراد الْحجَج فِيهِ طول لَا حَاجَة بِنَا إِلَى ذكره فِي هَذَا الْموضع. نصائح غَالِيَة للأحنف بْن قَيْس حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرو، عَنِ الثَّوْرِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُل من أهل الْبَصْرَة، عَنْ رَجُل من بني تَمِيم، قَالَ حضرت مجْلِس الْأَحْنَف بْن قَيْس وَعِنْده قومٌ مجتمعون فِي أمرٍ لَهُم، فَحَمدَ اللَّه تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْه، ثُمّ قَالَ: إِن مِنَ الكَرَمِ مَنْعَ الْحُرَم، مَا أقرب النِّقْمةَ من أَهْل الْبَغي، لَا خير فِي لذةٍ تُعْقِبُ نَدَمًا، لن يَهْلِكَ وَلنْ يَفْتَقِر مَنْ زَهِد، ربَّ هزلٍ قَدْ عَاد جِدًّا، مَنْ أمِن الزَّمَان خانه، وَمن تَعظَّم عَلَيْه مهانه، دَعُوا الْمُزَاح فَإنَّهُ يُورث الضغائِن، خير القَوْل مَا صدقه الْفِعْل، وَاحْتَملُوا لمن أدَلَّ عَلَيْكُم، واقبول عُذْر

بم سدت قومك

من اعتذر إِلَيْكُم، أطع أَخَاك وَإِن عصاك، وصِلْهُ وَإِن جفاك، أنْصِف من نَفسك قبل أَن يُنتصف مِنْك، وَإِيَّاك ومشاورة النّساء، وَاعْلَم أَن كُفْرَ النِّعمة لُؤْم، وصُحبة الْجَاهِل شُؤْم، ومِن الْكَرم الْوَفَاء بالذِّمم، مَا أقبح القطيعةَ بعد الصِّلة، والجفاءَ بعد اللُّطُف، وأقبح العداوةَ بعد الود، لَا تكونن عَلَى الْإِسَاءَة أقوى مِنْك عَلَى الْإِحْسَان، وَلا إِلَى الْبُخْل أسْرع إِلَى البَذْل، وَأعلم أَن لَك من دنياك مَا أصلحت بِهِ مثواك، فأنْفِق فِي حقّ، وَلا تكونَنّ خَازِنًا لغيرك، وَإِذَا كَانَ الغَدْرُ فِي النّاس مَوْجُودا فالثقَة بِكُل أحدٍ عجز، أعْرف الحقَّ لمن عَرَفَه لَك، وَاعْلَم أَن قطيعة الْجَاهِل تعدلُ صلَة الْعَاقِل. قَالَ: فَمَا رَأَيْت كلَاما أبلغ مِنْهُ. فَقُمْت وَقَدْ حفظته. قَالَ القَاضِي: هَذَا لَعَمْري من أشرف الْكَلَام وأبلغه وَأحسنه، وأبلغ الخَطَّاب وأبينه، فرحم اللَّه أَبَا بَحر كَيفَ أَشَارَ بالرَّشَد، وَهدى إِلَى الْقَصْد، وَمَا فصل من فُصُول خطبَته هَذِهِ إِلا وَقَدْ وَردت الآثارُ بِمَا يؤيِّده، مَعَ مَا فِي الْعُقُول مِمّا يدعُو إِلَيْهِ ويؤكده، ومجالسنا هَذِهِ تَتَضَمَّن كثيرا مِمَّا ورد فِي مَعْنَاهُ، إِن شَاءَ اللَّه، وأيَّد بعونه وتوفيقه. بِمَ سُدت قَوْمك؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا نصر بْن عَلِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ المهيبي رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَرَابَةَ الأَوْسِيِّ: بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أُعْطِي سَائِلَهُمْ، وَأَعْفُو عَنْ جَاهِلِهِمْ، وَأَسْعَى فِي مَصَالِحِهِمْ، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِي فَهُوَ مِثْلِي، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ خيرٌ مِنِّي وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ. كَيفَ قَالَ فِيك ذُو الرمة هَذِهِ الْأَشْعَار؟ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو المهلهل الْحُدَاني، قَالَ: ارتحلتُ إِلَى الرمال فِي طلب مي صاحبةِ غيلانَ ذِي الرُّمَّة، فَمَا زلتُ أطلب مَوضِع بَيتهَا حَتَّى أرْشِدتُ إِلَى الْبَيْت، فَإِذا خيمة كبيرةٌ عَلَى بَابهَا عَجُوز هتماء فسَلّمْتُ عَلَيْهَا، ثُمّ قُلْتُ لَهَا: أَيْنَ منزلُ مَيّ؟ قَالَتْ: مَيُّ ذِي الرُّمة، قُلْتُ: نعم، قَالَتْ: أَنَا مي، فعجبت ثُمّ قُلْتُ لَهَا: الْعجب كُلّ الْعجب من ذِي الرُّمَّة وَكَثْرَة مَا قَالَ فِيك، ولستُ أرى من الشَّاهِد وَالْوَصْف شَيْئا، فَقَالَت: لَا تَعْجَبَنَّ يَا هَذَا مِنْهُ، فَإِنِّي سأقوم بِعُذْرِهِ عَنْك، قَالَ: ثُمّ قَالَتْ: يَا فُلَانَة، قَالَ: فَخرجت من الْخَيْمَة جاريةٌ ناهدةٌ عَلَيْهَا برقع، فَقَالَت: أسْفري عَنْك، فَلَمَّا أسفرت تحيَّرتُ لِمَا رَأَيْت من جمَالهَا وبراعتها وفصاحتها، فَقَالَت لي عَلِقَ ذُو الرمة بِي وَأَنا فِي سِنِّها، فَقلت: عَذَرَهُ اللَّهُ ورَحِمَه، أنشديني مَا قَالَ فِيك، قَالَ: فَجعلت تُنْشد وأكتب أَنَا مَا كنتُ مُقيما عِنْدهَا، ثُمّ ارتحلتُ. فَكَانَت مِمَّا أنْشَدتني قَوْله: خليليّ لَا ربعٌ بِوَهْبِينَ مخبرٌ ... وَلا ذُو حجَى يَسْتَنْطِقُ الدَّار يُعذِرُ

مرثية من أحسن المراثي

فَسِيرَا فقد طَال الوقوفُ ومَلّه ... حراجيَجُ أمثالُ الحَنِيَّاتِ ضُمَّرُ فيا صَاح لَو كَانَ الَّذِي بِي من الْهوى ... بِهِ لَمْ أذرْه أَن يُعَزَّى ويُنظَرُ خَليليَ هَلا عُجْتَ إذْ أَنَا واقفٌ ... أَغِيضُ البكا فِي دَارِ مَيٍّ وأزْفُرُ القصيدة ... قَوْله: عجوزٌ هَتْماء: الهَتَمُ: سقوطُ الْأَسْنَان من فَوق وَمن أَسْفَل، يُقال: امْرَأَة هتماء وَرجل أهتم، ويُقَالُ: ضربه فهتم فَاه، قَالَ الفَرَزْدَق: إنّ الأَرَاقِمَ لنْ يَنَال قَدِيمُها ... كلبٌ عوى مُتَهَتِّمُ الأسْنانِ مرثية من أحسن المراثي حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا القَاسِم بْن الْحَسَن، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيّا بْن أَبِي خَالِد البلديّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْوَرَّاق، عَنِ الأَصْمَعِيّ، قَالَ: خرجت إِلَى مَقَابِر الْبَصْرَة فَإِذا امْرَأَة واقفةٌ عَلَى قبر، وَهِي تَنْدُب وَتقول: هَلْ أخبر القبرُ سائِليهِ ... وقرّ عينا بزائريه أم هَلْ تُراه أحَاط علما ... بالجسد المستكن فِيهِ يَا موت لَو تقبل افتداءً ... كنتُ بنفسي سأفتديهِ أنْعِي بُرَيْدًا لمجتديه ... أنعي بُرَيْدًا لِمُعْتَفِيه أنْعِي بُرَيْدًا إِلَى حزوبٍ ... تَحسِرُ عَنْ منظرٍ كريهِ أنْعَتُ من لَا يُحِيط علما ... بوصفه نَدْبُ واصِفيهِ يَا جَبَلا كَانَ ذَا امْتنَاع ... وركنَ عِزٍّ لآمليهِ يَا نَخْلةً طلعُها نضيدٌ ... يَقْرُبُ من كفِّ مُجْتَنيهِ وَيَا مَرِيضا عَلَى فراشٍ ... تؤذيه أيْدي مُمَرِّضِيهِ وَيَا صبورًا عَلَى بلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّه مُبْتَليهِ يَا موتُ مَاذَا أردْتَ مني ... حققتَ مَا كنتُ أتّقِيهِ دهر رماني بفقد إلفي ... أَذمّ دهري وأشتكيه آمَنَكَ اللَّه كُلّ روع ... وكل مَا كُنْت تَتّقِيهِ أسكنك اللَّه فِي محلٍّ ... يقصرُ عَنْ وصفِ ذاكريهِ قَالَ القَاضِي رَحْمَة اللَّه عَلَيْه: هَذِهِ المراثي من أحسن المراثي وأبلغها من الْقُلُوب، للطف مَعَانِيهَا، ورقة حواشيها، وَقرب ألفاظها وعذوبتها، وسماحة مَجَاريها وطلاوتها، وَقل

مَا أثر فِي قلبِي منظوم تأثيرها عِنْد إنشادها، وَكَانَت لي ابْنة لَطِيفَة الْمحل من قلبِي، نَفِيسَةُ الْمنزلَة فِي نَفسِي، ذَات محَاسِن كَثِيرَة، وفضائِل غزيرة، وَرزقت حظًّا من حفظ التِّلَاوَة والآداب الدِّينِيَّة، مَعَ عقل رصينٍ ونزاهة وَدين، وَهبهَا الله ليبفضله ونِعْمتهِ، ثمَّ اسْتَأْثر بهَا بعدله ومشيئته، فَسلمت للرب جلّ جَلَاله قَضَاءَهُ فِيهَا وَعرفت حسن اخْتِيَاره لي وَلها، إِذْ كَانَ خَالِقهَا أملك بهَا من والدها ومنشيها، وأرحم بهَا من ثاكلها، وصابرت عَظِيم الْمُصَاب بهَا، ورضيت بِثَوَاب اللَّه عوضا مِنْهَا، ولَهجْتُ بِهَذِهِ الأبيات الَّتِي قدمت ذكرهَا فَمَكثت زَمَانا أقطع ليلِي ونهاري بتَرْجِيعِها والترنم بهَا، وأستشفي بفيض دموعي وَرفع عفيرتي بتردادها، ولإعجابي بهَا رَأَيْت إتباعها بِذكر مَا حضرني من الْأَخْبَار الَّتِي تضمنتها أنسا مني بإعادتها، وَلَم أَدخل بعض الْآتِيَة بهَا فِي بعض إِذْ كَانَتْ قَدْ وقعتْ إليّ من جهاتٍ شَتّى وطرق مُخْتَلفَة. فَمنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سُلَيْمَان الطُّوسيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الزُّبَير، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْملك بْن قُرَيْب الْأَصْمَعِي: خرجت ذَات يوْم فِي الْبَادِيَة فَإِذا أَنَا بِامْرَأَة إِلَى جَانب قبر وَهِي تُشِير بِيَدِهَا، فَقلت: يَنْبَغِي أَن تكون هَذِهِ تندب أَوْ ترثي، فدنوت حَتَّى قربتُ مِنْهَا فَإِذا هِيَ تَقُولُ: هَلْ خبر الْقَبْر سائِليه ... أم قرّ عينا بزائريه أم هَلْ تُراه أحَاط علما ... بالجَسَدِ الْمُسْتكِنِّ فيهِ لَو يعلم الْقَبْر من يُواري ... تَاهَ عَلَى كُلّ من بليه يَا قبر لَو تقبلُ افْتِدَاءً ... كنتُ بنفسي سأفتديهِ أنعي بُرَيْدًا إِلَى حُزُوب ... تَحسِرُ عَنْ منظرٍ كَرِيهِ أندب من لَا يُحِيط علما ... بوصفه ندب نادبيه يَا جبلا كَانَ فا امتناعٍ ... ةركن عِزٍّ لآمليهِ أنعي بُرَيدًا لمجتنيه ... أنعي بُرَيدًا لمعتفيه يَا نَخْلَة طلعُها نضيدٌ ... يَقْرُبُ من كفِّ مجتنيه تحلو نعم عِنْده سماحًا ... وطيبها راتب بِفِيهِ أيا صبورًا عَلَى بلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّه مبتليه قَالَ: عَبْد الْملك فَحفِظت مَا قَالَتْ، ثمَّ دَنَوْت إِلَيْهَا، فَقلت لَهَا: أعيدي لفظك رَحِمك اللَّه، قَالَتْ: أما وَالله لَو علمت أَن أحدا يَسْمَعُني مَا تفوهت بِهِ، قَالَ: فَقلت لَهَا: إِنِّي أَسأَلك أَلا أعَدْتِيه، فَقَالَت: يَا شيخ سوءةً لَك، أَقُول لَك مَا أَقُول وتعيد عَليّ الْكَلَام فَقلت لَهَا: إِنِّي أَسأَلك

المجلس الثاني والأربعون

إِلا سمعتيه مني، فَأَقْبَلت عَليّ بوجهها، وسفرت عَنْ قناعها، وَقَالَت: اللَّهُمَّ إِن يَأْتِ فِي الدُّنْيَا أصمعي فَهَذَا هُوَ، فَقلت: أَنَا هُوَ، من الْفَتى تندبين؟ فَقَالَت: أَخِي وَابْن أُمِّي. وَرِوَايَة ثَالِثَة حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر، قَالَ: سَمِعْتُ الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ أَتَى الْمَقَابِر ذَات يومٍ فَإِذا جاريةٌ كَادَت أَن تختفي بَيْنَ قبرين قِلة ودمامة، وَهِي تبْكي بقلب موجع، وكلامٍ حزينٍ، وَلَفظ كَأَنَّهُ خرزاتٌ نُظِمْن تحدَّرْن، وَقَدْ أدخلت رَأسهَا فِي لوح الْقَبْر، وَهِي تَقُولُ: هَلْ أخبر الْقَبْر سائِليه ... أم قر عينا بزائريه أم هَلْ ترَاهُ أحَاط علما ... بالبَدَنِ المستكنِّ فِيهِ لَو يعلم الْقَبْر مَا يُواري ... تَاهَ عَلَى كُلّ من يليهِ يَا موت لَو تقبل افتداءً ... كنتُ بنفسي سأفتديهِ أنْعِي بُرَيدًا لمجتنيه ... أنعي بُرَيدًا لمعتفيه أبْكِي بُرَيْدًا إِلَى حزوبٍ ... تَحْسِرُ عَنْ منظرٍ كريهِ يَا جبلا كَانَ ذَا امْتنَاع ... وركنَ عِزٍّ لآمليه يَا نَخْلَة طلْعُها هضيمٌ ... يَقْرُبُ من كفِّ مُجْتَنيهِ وَيَا مَرِيضا عَلَى فراشٍ ... تؤذيه أيْدي مُمَرِّضِيهِ وَيَا صبورًا عَلَى بلاءٍ ... كَانَ بِهِ اللَّه مُبْتَليهِ يَا دهر مَاذَا أردْتَ مني ... حققتَ مَا كنتُ أتقيهِ دهرٌ رماني بفقد صبري ... أذمُّ دَهْري وأشْتَكيهِ ذهبت يَا موتُ بِابْن أُمِّي ... بالسيد الفاضلِ الوجيهِ المجلِسُ الثَاني وَالأربَعُونْ فضل ابْن عَبَّاس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ سُفْيَانَ الطَّرَائِقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ أَبُو الْعَلاءِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ وَلَيْسَ ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، قَالَ: بَيْنَمَا سائلٌ يَسْأَلُ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَلأِ جَالِسٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا سَائِلُ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُصَلِّي الْخَمْسَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَحَقٌّ عَلَيْنَا أَنْ نَصِلَكَ قَالَ: فَنَزَعَ ثَوْبًا كَانَ عَلَيْهِ وَكَسَاهُ إِيَّاهُ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

تعليق المؤلف

يَقُولُ: " أَيُّمَا مسلمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا كَانَ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مَا بَقِيَتْ مِنْهُ رُقْعَةٌ ". تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث مَا يَدْعُو إِلَى فعل الْخَيْر، ويحضُّ عَلَيْه، ويُرَغِّب فِي اصطناع الْمَعْرُوف، ويَنْدُب إِلَيْهِ، ورحمةُ اللَّهِ ورضوانُه عَلَى ابْن عَبَّاس تُرْجمان التَّنْزِيل، وحَبْر التَّأْوِيل، وبحر الْعُلُوم وَالْحكم، والْجُود والكَرَم، فلقت أجيبتْ فِيهِ دعوةُ ابنِ عمِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نبيِّ الرَّحْمَة إِذْ دَعَا لَهُ بالفقه وَالْحكمَة، فأقْبَس عِلمه لقاصديه من الأمَّة، وأفاض فيهم مكارمَه، وأفادهم غرائبَ عِلم الدّين ومَسَائِلَه. عينٌ لِلْحَجَّاج يوفَّقُ فِي مُهَمته حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ الأَصْمَعِيّ، عَنْ يُونُس، عَنْ أَبِي عَمْرو، قَالَ: بعث الحَجَّاج - إِذْ كَانَ يقاتلُ شَبِيبًا والحَرُورِيَّةَ بالعراق - إِلَى صَاحب أَهْل دمشق، فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ لَهُ: اطْلُب لي من أَصْحَابك رَجُلا جَليدًا بَئِيسًا ذَا عَقْل ورأي، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأميرَ، وَمَا أحسَبَني إِلا وَقَدْ أصَبْتُه، إِن فِي أَصْحَابِي رَجُلا من حَكَمِ بْن سَعْد يُقَال لَهُ: الجراخ جَلْد صَحِيح الْعقل يَعُدُّ ذَلِكَ من نَفسه، يَعْنِي الْبَأْس، قَالَ: فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ الحجاجُ قَالَ لَهُ: أدْنُ يَا طَوِيل، فَلم يَزَلْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ويُشير إِلَيْهِ بِيَدِهِ حَتَّى لَصِق بِهِ أَوْ كَاد، ثُمّ قَالَ: اقعد، فَقعدَ تَحُكُّ ركبتُه ركبتَه، وَلَيْسَ عِنْده غَيره، ثُمّ قَالَ لَهُ: قُم السَّاعَة إِلَى فَرَسِك فاحْسُسُه وأَعْلِفه وَأصْلح مِنْهُ، ثُمّ خُذْ سَرْجَه ولجامه، وسلاحك فضعه عِنْد وَتَدِ فَرَسِك، ثُمّ ارْقُب أَصْحَابك حَتَّى إِذا أخذُوا مضاجعهم ونَوَّمُوا فاشدُدْ عَلَى فَرَسك سَرْجَه ولِجَامه، واصبب عَلَيْك سِلَاحك وَخذ رُمْحَك واخرج حَتَّى تَأتي إِلَى عَسْكَر أَعدَاء اللَّهِ تَعَالَى تُعاينهم وتَنْظر إِلَى حَالاتِهم وَمَا هُمْ عَلَيْه، ثُمّ تُصْبِحَني غَدًا، وَلا تُحْدِثَنَّ شَيْئا حَتَّى تَنْصَرِف، فَإِذا انصرفتَ إِلَى أَصْحَابك فَلا تخبرهم بِمَا عهدتُه إِلَيْك. فَنَهَضَ الجراحُ، فَلَمَّا أَتَى أَصْحَابه وهم مُتَشَوِّفُون لَهُ سَأَلُوهُ عَنْ أمره، فَقَالَ: سَأَلَني الْأَمِير عَنْ أَمر أَهْل دمشق، واعْتَلَّ لَهُم بِهِ، ثُمّ فعل مَا أمره بِهِ الحَجَّاج، ثُمّ خرج من الْعَسْكَر يُرِيد عَسْكَر الْقَوْم، فَلَمَّا كَانَ فِي المَنْصَفِ من العسكرين لَقِي رَجُلا فِي مثل حَاله، فَعلم الجراحُ أَنَّهُ عينُ العدوِّ يريدُ مثل الَّذِي خرج لَهُ فتواقفا وتساءلا، ثُمّ شَدَّ عَلَيْه الجَرّاح فَقتله، وأوثق فرسه بَرحْله، ثُمّ نَفَذَ إِلَى الْعَسْكَر الَّذِي فِيهِ القومُ فعاينه، وَعرف من حَاله وَحَال أهلَهُ مَا أُمر بِهِ، ثُمّ انْصَرف إِلَى الْقَتِيل فاحتزّ رَأسه وَأخذ سلاحه وجَنَّب فرسه، وعلق الرَّأْس فِي عُنق فرسه، ثُمّ أقبل. وَصلى الحَجَّاجُ صَلَاة الصُّبْح وَقعد فِي مَجْلِسه، وَأمر بالأستار فَرفعت وَهُوَ مُتَشَوِّف منتظرٌ الجَرّاح، وَجَعَل يَرْمِي بَطَرْفهِ إِلَى النَّاحِيَة الَّتِي يظنّ أَنَّهُ يقبل مِنْهَا، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبل الْجراح يَجْنُبُ الْفرس وَالرَّأْس منوطٌ فِي لبان فَأَقْبَلَ الحَجَّاج يَقُولُ ويقلب كفَّية: فعلتَ

الحجاج يكثر الخير في البيوت

مَا أمرتُك بِهِ؟ قَالَ: نعم، وَمَا لَمْ تَأْمُرنِي، حَتَّى وقف بَيْنَ يَدَيْهِ وَسلم، ثُمّ نزل وحدَّث الحَجَّاج بِمَا صنع وَمَا عاين من الْقَوْم، فَلَمَّا فرغ من حَدِيثه زَبَرَهُ الحَجَّاج وانتهره، وقَالَ لَهُ الحَجَّاج: انْصَرف فَانْصَرف، فَبينا هُوَ فِي رَحْله إِذْ أقبل فَراشون يسْأَلُون عَنِ الْجراح، مَعَهم رُواق وفرشٌ وَجَارِيَة وَكِسْوَة، فدلوا عَلَى رَحْله، فَلم يكلموه حَتَّى ضربوا لَهُ الرواق وفرشوا لَهُ فرشًا واقعدوا فِيهِ الْجَارِيَة، ثُمّ أَتَوْهُ فَقَالُوا: انهض إِلَى صلَة الْأَمِير وكرامته، فَلم يزل الْجراح بعْدهَا يَعْلُو ويرتفع حَتَّى وُلّي أرمينية فاستشهد، قتلته الخَزَرُ. قَالَ أَبُو حَاتِم: الجَرَّاح مَوْلَى مسكان أبي هانىء أَي أَبِي نواس، وَذَلِكَ عني أَبُو نواس بقوله حَيْثُ يَقُولُ: يَا شَقِيقَ النَّفْسِ من حَكَمِ ... نِمْتَ عَنْ لَيْليِ وَلَم أَنَمِ معنى البئيس واللبان قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: فاطلُب لي من أَصْحَابك رَجُلا جَليدًا بَئِيسًا، البئيس: الشجاع الشَّديد فِي الْحَرْب، وَهُوَ من الْبَأْس، والبأس: الْحَرْب قَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ فِي البئيس: وَمَعِي لبوسٌ للبئيس كأنَّها ... قرنٌ بجبهة ذِي نعاج مجفل من قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " بعذابٍ بئيسٍ " مَعْنَاهُ: شَدِيد، وَقَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: وَالرَّأْس منوطٌ فِي لِبَان فرسه، اللبان: الصَّدْر قَالَ عنترة: يَدْعُون عَنْتَرَ والرِّمَاحُ كأَنَّها ... أشْطَانُ بئرٍ فِي لِبَانِ الأَدْهَمِ مَا زلتُ أرْميهم بثُغْرةِ نَحْره ... ولِبَانِهِ حَتَّى تَسَرْبَلَ بالدَّم فازْوَرَّ من وَقع القنا بِلبانِهِ ... وشكا إليّ بعبرةٍ وتَحَمْحُمِ وأمّا اللُّبَان بِالضَّمِّ فَهُوَ الْكُنْدر، واللُّبَانة: الْحَاجة، قَالَ لبيد: قض اللُّبَانة لَا أبالك واذهب ... والحقْ بأسْرتك الْكِرام الْغُيّبِ فَأَما اللِّبان بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَا يدر بِهِ ثدي النّساء، ويُقَالُ لَهُ: مِنْهُنَّ اللبان وَمن غَيْرهنَّ من إناث الْحَيَوَان: لبن، قَالَ الْأَعْشَى: رَضِيَعيْ لبانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَما ... بأسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ وقَالَ بعض الْعَرَب: دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عمروٍ وَلَم أكُنْ ... أَخَاهَا وَلَم أَرْضَعْ لَهَا بِلِبَانِ وَقَدْ كثر اسْتِعْمَال النّاس لفظ اللَّبن فِي اللبان، واستفاض فِي الْآثَار، وَكَلَام فُقَهَاء السَّلَف وَالْخلف ومنطق الْخَاصَّة والعامة، وَأنْكرهُ بعض أَهْل اللُّغَة. الحَجَّاج يكثر الْخَيْر فِي الْبيُوت حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن الْحَسَن، قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد، عَنِ الْهَيْثَم بْن الرَّبِيع، قَالَ: قَالَ الْحجَّاج: إِنِّي لَا

الخلفاء يغارون من أبيات جيدة قيلت في غيرهم

أرى النّاسَ قَدْ قَلُّوا عَلَى موائدي فَمَا بالهم؟ فَقَالَ لَهُ رَجُل من عُرْض النّاس: أصلح اللَّه الْأَمِير، إِنَّك أكثرت خير الْبيُوت فَقل غشيان النّاس لطعامك، فَقَالَ: الْحَمد للَّه وَبَارك اللَّه عَلَيْك، من أَنْت؟ قَالَ: أَنا الصَّلْت بْن قَرَان الْعَبْدِيّ، فَأحْسن إِلَيْهِ. الْخُلَفَاء يغارون من أَبْيَات جَيِّدَة قيلت فِي غَيرهم حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن حَمْزَة، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمد بْن مُوسَى بْن حَمْزَة، قَالَ: الْفضل بن يزِيغ، قَالَ: رَأَيْتُ مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة قَدْ دخل عَلَى الْمهْدي بعد موت مَعْن بْن زَائِدَة فِي جماعةٍ من الشُّعَرَاء وَفِيهِمْ سَلْمُ الخَاسِرُ وغيرهُ، فأنشده مديحًا، فَقَالَ: من؟ قَالَ: شاعرُك مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أَلَسْت الْقَائِل: أَقَمْنَا باليمامةِ بعد معنٍ ... مُقَامًا لَا نُرِيدُ بِهِ زِيَالا وَقُلْنَا أَيْنَ نرحلُ بعد معنٍ ... وَقَدْ ذهب النوالُ فَلَا نَوَالا قَدْ جِئْت تطلبُ نوالنا وَقَدْ ذهب النَّوال، لَا شَيْء لَك عندنَا، جُرُّوا بِرجلِهِ. قَالَ: فجروا بِرجلِهِ حَتَّى أخرج، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل تلطَّف حَتَّى دخل مَعَ الشُّعَرَاء - وَإِنَّمَا كَانَت الشُّعَرَاء تدخل عَلَى الْخُلَفَاء فِي ذَلِكَ الْحِين فِي كُلّ عَام مرّة - قَالَ: فَمثل بَيْنَ يَدَيْهِ وأنشدهُ قصيدته الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: طرقَتْكَ زائرةٌ فَحيِّ خيالَها ... بيضاءُ تخلطُ بِالْحَيَاءِ دلالَها قَادَتْ فؤادَكَ فاستقاد وقَبْلَها ... قاد القلوبَ إِلَى الصِّبَا فأمالها قَالَ: فأنصت لَهَا حَتَّى إِذا بلغ إِلَى قَوْله: هَلْ تَطْمِسُون من السَّماء نجومَها ... بأكُفكم أَوْ تسترُون هِلالها أَوْ تدفعُون مقَالَة عَنْ ربكُم ... جِبْرِيل بَلَّغها النَّبِيّ فقالَها شهِدَتْ من الْأَنْفَال آخر آيةٍ ... بتُراثهم فأردتُمُ إبطالَها يَعْنِي بني عَليّ وَبني الْعَبَّاس، قَالَ: فرأيتُ الْمهْدي وَقَدْ زحف من صدر مُصَلاه حَتَّى صَار عَلَى الْبسَاط إعجابًا بِمَا سَمِع، ثُمّ قَالَ لَهُ: فَإِنَّهَا لأوّل مائَة ألف أُعْطِيها شَاعِر فِي خلَافَة بْني الْعَبَّاس. قَالَ: فَلم تلبث الأيامُ أَن أفْضَت الْخلَافَة إِلَى هَارُون الرشيد، قَالَ: فرأيتُ مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة ماثلا مَعَ الشُّعَرَاء، بَيْنَ يَدي الرشيد وَقَدْ أنْشدهُ شعرًا، فَقَالَ لَهُ: مَنْ؟ قَالَ: شاعرك مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْت الْقَائِل الْبَيْتَيْنِ اللَّذين لَهُ فِي معن اللَّذين أنشدهما الْمهْدي: خُذُوا بِيَدِهِ فأخرجوه، فَإنَّهُ لَا شَيْء لَهُ عندنَا، فَأخْرج. فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِكَ بيومين تَلَطَّف حَتَّى دخل عَلَيْه فأنشده قصيدته الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:

مزرد ينتقم لحرمانه

لَعَمْرُكَ لَا أنسى غَدَاة الْمُحَصَّبِ ... إِشَارَة سلمى بالبنان المخضب وَقَدْ صَدَر الْحُجّاجُ إِلا أَقَلَّهُمْ ... مَصادر شَتّى موكبًا بعد مَوْكب قَالَ: فأعجبتْه، قَالَ لَهُ: كم قصيدتك بَيْتا؟ قَالَ لَهُ: سِتُّونَ أَوْ سَبْعُونَ بَيْتا، فَأمر لَهُ بِعَدَد أبياتها ألوفًا، فَكَانَ ذَلِكَ رَسْمُ مَرْوَان حَتَّى مَاتَ. مُزَرَّدُ ينتقمُ لحرمانه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حثنا أَحْمَد بْن عُبَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَصْمَعِيّ. قَالَ: كُنْت يَوْمًا عِنْد هَارُون أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقدمت إِلَيْهِ فالوذجة، فَقَالَ: يَا أصمعي! قُلْتُ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَدِيث مُزَرَّد أَخِي شَماخ، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن مُزَرَّدًا كَانَ غُلَاما نَهِمًا جَشِعًا، وَكَانَت أمُّهُ تُؤْثِرُ عيالها بالزَّاد عَلَيْه، وَكَانَ ذَلِكَ يغيظه ويَغُمُّه، فَذَهَبت أُمّه يَوْمًا فِي بعض حُقُوق أَهلهَا وخَلَّفَتْ مُزرَّدًا فِي رَحْلِها، فَدخل الْخَيْمَة وَأخذ صَاعَيْ دقيقٍ وصاعَ عجوةٍ وصاعَ سَمْن، فَضرب بعضه بِبَعْض وَأكله، ثُمّ أنشأ يَقُولُ: وَلما مَضَتْ أُمِّي تزورُ عِيالها ... أَغَرْتُ عَلَى الْعِكْمِ الَّذِي كَانَ يُمْنَعُ خلِطتُ بِصَاعَيْ حِنطة صَاعَ عجوةٍ ... إِلَى صاعِ سمنٍ وَسْطُهُ يتربَّعُ ودَبَّلْتُ أَمْثَال الأثافي كَأَنَّهَا ... رُءُوس نقادٍ قُطِّعَتْ يَوْمَ تُجْمَعُ وَقلت لبطني أشْبع الْيَوْم إنَّه ... حِمَى أُمِّنا مِمَّا تفِيد وَتجمع فَإِن كنت مَصْفُورًا فَهَذَا دواؤه ... وَإِن كُنْت غرثاناً فَذا يوْم تشبعُ قَالَ: فاستضحك هَارُون حَتَّى أَخَذَ عَلَى بَطْنه، واستلقى. ثُمّ قعد، فَمد يَده وقَالَ: خُذُوا باسم اللَّه. معنى النهم والنقد، والصفر والغرث قَالَ القَاضِي: قَوْله: كَانَ غُلَاما نَهِمًا، يَعْنِي حَرِيصًا عَلَى الْأكل وَهُوَ كالشَّرِه والجَشِع، يُقَالُ: نهم يَنْهَمُ نَهَمًا فَهُوَ نَهِم، مثل شَرِهَ يَشْرهُ شَرَهًا ويُقَالُ أَيْضا: رَجُل منهوم، وَقَدْ قَدَّمنا القَوْل فِي ذَلِكَ. والنِّقادُ: الْغنم الصغار الَّتِي هِيَ شرطٌ لَيست خِيرات وَلا حَرَزَات، يُقَالُ لَهَا: نَقَد، كَمَا قَالَ الراجز: لَو كُنْتُمُ شَاءً لكنتُمُ نَقَدَا وَقَول مزردٍ يخاطبُ بَطْنه: فَإِن كُنْت مصفورًا، يَعْنِي: وَإِن كَانَ بك الصَّفَرُ وَهُوَ دَاء فِي الْبَطن يهيج الْجُوع عَلَى صَاحبه، قَالَ الشّعْر: لَا يغمزُ السَّاقَ من أَيْن وَلا نَصَبٍ ... وَلا يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ

رد على عتاب

وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " لَا عَدْوَى وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ "، وَكَانَ الْعَرَبُ تَرَى أَنَّ ذَلِكَ يُعْدِي، فَتَأَوَّلَ قَوْمٌ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ عَنَى بِهِ هَذَا الْمَعْنَى وَذَهَبَ بِهِ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ الشَّهْرَ الْمُسَمَّي صَفَرًا، وَإِبْطَالِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ فِي تَقْدِيمِهِ إِلَى الْمُحَرَّمِ عَلَى مَا كَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي النَّسِيءِ. واستقصاء بَيَان هَذَا مرسوم فِي مَوْضِعه، فَأَما الصَّفَر فِي بَيت مُزَرّد وَفِي الْبَيْت الَّذِي استشهدنا بِهِ، فَإنَّهُ الدَّاءُ الَّذِي وَصَفْناه دون غَيره. وَأما قَوْله: فَإِن كُنْت غرثانًا فَإنَّهُ من الغَرْث، وَهُوَ الْجُوع، يُقَالُ: رَجُل غَرْثَانُ أَيّ جَائِع، وَامْرَأَة غَرْثَى، مثل غَضْبان وغَضْبَى، قَالَ الْأَعْشَى: تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ ... وجَارَاتكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا وتروي غُرٌّ مَكَان غرثى، وقَالَ حَسَّان بْن ثَابِت: حصانٌ رزانٌ مَا تَزنُّ بريبةٍ وتُصَبح غَرْثَى من لُحُوم الغَوافِلِ رَدٌّ عَلَى عِتاب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَزِيد المهلبي، قَالَ: سَمِعت هبة الله ابْن إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي، يَقُولُ: كتب أَبِي إِلَى بعض من عتب عَلَيْه فِي شَيْء: لَو عرفتَ الْحُسْن لتجنبتَ الْقَبِيح، وَلَو اسْتَحْلَيْتَ الْحِلْم لاسْتَمْرَرْتَ الخَرقَ، وَأَنا وَأَنت كَمَا قَالَ زُهَيْر: وَذي خطلٍ فِي القَوْل يُحْسَبُ أَنَّهُ ... مصيبٌ فَلم يُلْمِمْ بِهِ فَهُوَ قَائِله عَبَأْتُ لَهُ حِلمي وأكرمتُ غَيْرَه ... وأعرضتُ عَنْهُ وَهُوَ بادٍ مقاتِلُهُ وَإِن من إِحْسَان اللَّه تَعَالَى إِلَيْنَا وإساءتك إِلَى نَفسك أَنَّا أمْسَكْنا عَمَّا تعلم، وقلتَ مَا لَا تعلم، وَتَركنَا الْمُمكن وتناولتَ الْمُعْجِز. أشعب يَتُوب عَنْ لحم الجداء حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس الرثدي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّد عِيسَى بْن عُمَر بْن عِيسَى التَّيْميّ، قَالَ: كَانَ زيادُ بْن عَبْد اللَّه الْحَارِثِيّ خَال أَبِي الْعَبَّاس أَمِير الْمُؤْمِنِين واليًا لأبي الْعَبَّاس عَلَى مَكَّة، فَحَضَرَ أشعب مائدته فِي أناسٍ من أَهْل مَكَّة، وَكَانَت لزياد بْن عَبْد اللَّه الْحَارِثِيّ صَحْفَة يُخَصُّ بهَا، فِيهَا مضيرةٌ من لحم جديٍ، فَأتى بهَا فَأمر الغلامَ أَن يَضَعهَا بَيْنَ يَدي أشعب وَهُوَ لَا يدْرِي أَنَّهَا المضيرة، فَأكلهَا أشعب، يَعْنِي أَتَى على مَا فِيهَا، فاستبطأ زِيَاد بْن عَبْد اللَّه المضيرة، فَقَالَ: يَا غُلام! الصحفة الَّتِي كُنْت تَأتِينِي بهَا، قَالَ: قَدْ أتيتُ بهَا - أصلحك اللَّه - فأمرتني أَن أضعها بَيْنَ يَدي أَبِي الْعَلاء، قَالَ: هَنَّأ اللَّهُ أَبَا الْعَلاء وَبَارك لَهُ، فَلَمَّا رُفِعت الْمَائِدَة، قَالَ: يَا أَبَا الْعَلاء - وَذَلِكَ فِي اسْتِقْبَال شهر رَمَضَان - قَدْ حضر

أول تعرف الشعراء بأبي تمام

هَذَا الشَّهْر الْمُبَارَك، وَقَدْ رَقَقْتُ لأهل السجْن لما هُمْ فِيهِ من الضُّرِّ، ثُمّ لانضمام الصَّوْم عَلَيْهِم، وَقَدْ رَأَيْتُ أَن أُصَيِّرك إِلَيْهِم فتلهيَهُمْ بِالنَّهَارِ وَتصلي بهم اللَّيْل، وَكَانَ أشعب حَافِظًا لكتاب اللَّه، فَقَالَ: أوَ غَيْرُ ذَلِكَ - أصلح اللَّه الْأَمِير - قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أعطي اللَّه عهدا أَلا آكل مَضِيرَة جديٍ أبدا. أول تَعَرُّفِ الشُّعَرَاء بِأبي تَمام حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَحْمُود الْخُزَاعيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الجَهْم، قَالَ: كَانَ الشعراءُ يَجْتَمعُونَ فِي كُلّ جمعةٍ فِي الْقُبَّةِ الْمَعْرُوفَة بهم فِي جَامع الْمَدِينَة، فيتناشدون الشّعْر ويَعْرِضُ كُلّ وَاحِد مِنْهُم عَلَى أَصْحَابه مَا أحدث من القَوْل بعد مفارقتهم فِي الْجُمُعَة الَّتِي قبلهَا. فَبينا أَنَا فِي جُمُعَة من تِلْكَ الْجمع، ودعبل وأَبُو الشِّيص وَابْن أَبِي فنن يَجْتَمعُونَ وَالنَّاس يَسْتَمِعُون إنشاد بَعْضنَا بَعْضًا، أبصرتُ شابَّا فِي أخريات النَّاس جَالِسا فِي زِيّ الْأَعْرَاب وهيئتهم، فَلَمَّا قَطعنَا الإنشاد قَالَ لنا: قَدْ سَمِعْتُ إنشادكم مُنْذُ الْيَوْم، فَاسْمَعُوا إنشادي، قُلْنَا: هَات، فأنشدنا: فَحْوَاكَ عينٌ عَلَى نَجْوَاك يَا مَذِلُ ... حَتَّامَ لَا يَنْقَضِي من قَوْلك الخطل فَإِن أسمج من تَشْكُو إِلَيْهِ هَوًى ... مَنْ كَانَ أحسن شَيْء عِنْده العَذَلُ كَأَنّما جادَ مَغْنَاهُ فغيَّرهُ ... دُموعُنا يَوْم بانوا وَهِي تنمهل وَلَو تَرَانا وإيَّاهُمْ ومَوْقِفُنا ... فِي موقف الْبَين لاستهلالنا زجل من حرقةٍ أطاعتها فرقةٌ أسرت ... قلباً وَمن عذلٍ فِي نَحره غزل وَقَدْ طوى الشوقُ فِي أحْشائنا بقرٌ ... عِينٌ طَوَتْهُن فِي أحشائها الْكِلَلُ ثُمّ مر فِيهَا حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله فِي مدح المعتصم: تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إذْ سَهِرْتُ لَهُ ... حَتَّى ظننتُ قوافِيهِ ستقْتَتِلُ قَالَ: فعقد أَبُو الشيص عِنْد هَذَا البيتِ خنْصره ثُمّ مَرَّ فِيهَا إِلَى آخرهَا، فَقُلْنَا: زِدْنَا فأنشدنا: دمنٌ أَلَمَّ بهَا فَقَالَ سلامٌ ... كم جلَّ عَقْد ضَمِيره الإلمامُ ثُمّ أنشدناها إِلَى آخرهَا، وَهُوَ يمدح فِيهَا الْمَأْمُون، فاستزدناه فأنشدنا قصيدته الَّتِي أَولهَا: قَدْك اتَّئِبْ أَرْبَيْتَ فِي الْغُلَوَاءِ ... كم تَعذِلُون وأنْتُمُ سُجَرَائِي حَتَّى انْتهى إِلَى آخرهَا، فَقُلْنَا لَهُ: لمن هَذَا الشّعْر؟ فَقَالَ: لمن أنشدكموه، قُلْنَا: وَمن تكون؟ قَالَ: أَبُو تَمام حبيبُ بنُ أَوْس الطَّائِي، قَالَ أَبُو الشِّيص: تزْعم أَن هَذَا الشّعْر لَك وَتقول: تَغَايَرَ الشِّعْرُ فِيهِ إذْ سَهِرْتُ لَهُ ... حَتَّى ظننتُ قوافِيهِ ستقْتَتِلُ

شرح وإعراب

قَالَ: نعم، لأنِّي سهرتُ فِي مدح ملكٍ وَلَم أسْهَرْ فِي مدح سُوقة، فقربناه حَتَّى صَار مَعنا فِي موضعنا، وَلَم نَزَل نتهاداه بَيْننَا، وجعلناه كأحدنا، وَاشْتَدَّ إعجابنا بِهِ لدماثته وظرفه، وَكَرمه وَحسن طبعه، وجودة شعره، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم أول يوْم عَرفْنَاهُ فِيهِ، ثُمّ تراقت حَاله حَتَّى كَانَ من أمره مَا كَانَ. شرح وإعراب قَالَ القَاضِي: قَول أَبِي تَمام: يَا مَذِل، المَذَل، الْفُتُور والخَدَر، قَالَ الشَّاعِر: وَإِن مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أشْتكِي ... بِدَعْوَاك من مذلٍ بهَا فَيَهُونُ وَقَوله: حَتَّى ظننتُ قوافِيهِ ستقتتلُ أسكن الْيَاء وحَقُّها النصب لضَرُورَة الشّعْر، وَقَدْ جَاءَ مثله فِي كثير من الْعَرَبيَّة، وَمن ذَلِكَ قَول الْأَعْشَى: فَتًى لَو يُنادي الشَّمْسُ ألقتْ قِنَاعها ... أَو القمرَ السَّارِي لألْقَى المَقَالِدَا وقَالَ رُؤْبة: كَأَنّ أيْديهنَّ بالقَاعِ القَرِقْ ... أَيدي جوارٍ يتعاطَيْن الوَرقْ وَقَدْ قَرَأَ بعضُ النَّحْوِيين من القرأة حرفا من الْقُرْآن عَلَى هَذِهِ اللُّغَة فِي رِوَايَة انْتَهَت إِلَيْنَا عَنْهُ، ذَلِكَ أنَّ أَبِي حَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مُعَاذ بْن قُرَّةَ الهَرَويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن خَشْرَم، قَالَ: سَمِعْتُ الْكسَائي يقْرَأ: " وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ من ورائي " قَالَ: كَأَنّ أيْدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ ... أَيدي جوارٍ يتعاطين الوَرق وَالْمَعْرُوف فِي هَذَا الْموضع من التِّلَاوَة قراءتان، إِحْدَاهمَا: " وَإِنِّي خفت الموَالِي " بِمَعْنى: قَلَّتِ الموَالِي، فالموالي فِي هَذِهِ الْقِرَاءَة ساكنه، وَهِي فِي مَوضِع رفع بِالْفِعْلِ. رُوِيَت هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَعدد من مُتَقَدِّمي القرأة، وَالْقِرَاءَة الثَّانِيَة: وَإِنِّي خِفْتُ، من الْخَوْف الموالِيَ بِالنّصب، إِذْ هِيَ مفعول بهَا. وَهَذَا بَاب وَاسع مُسْتَقْصًى فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي عُلُوم التَّنْزِيل والتأويل، وَالْمَعْرُوف مِمَّا نَقله رُوَاة الشّعْر فِي بَيت الْأَعْشَى: فَتى لَو يُنَادي الشَّمْس، فِيهِ وَجْهَان من التَّفْسِير. أَحَدهمَا: أَن يَكُون من الدُّعَاء والمناداة، وَالْمعْنَى: لَو دَعَاهَا لأجابته مُذْعِنَةً طَائِعَة. وَالْآخر: أَن يَكُون الْمَعْنى: لَو جالسها فِي النَدِيِّ والنَّادِي، وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد النَّحْويّ: لَو يباري من المباراة، وَهِي الْمُعَارضة، وَالْعرب تَقُولُ: فلانٌ يُباري الرّيح، أَيّ يُعَارِضها، قَالَ طرفَة: تباري عنَاقًا ناجياتٍ وأتعبت ... وظيفًا وظيفًا فَوق مورٍ مُعَبَّدِ وَقَول أَبِي تَمام: قَدْكَ، مَعْنَاهُ: حَسبك، قَالَ النَّابِغَة:

المجلس الثالث والأربعون

قَالَت: أَلا لَيْتَما هَذَا الْحمام لنا ... إِلَى حمامتنا أَو نِصْفُهُ فَقَدِ وَمعنى: اتئب: استحيي، أربيت: زِدْتَ فِي الْغُلَوَاء، مَأْخُوذ من الْغُلُوِّ وتَجَاوْز الحَدِّ، قَالَ الشَّاعِر: إِلا كَنَاشِرَةِ الَّذِي ضَيَّعْتُمُ ... كالْغُصْنِ فِي غُلَوائِهِ المتثبت والسُّجَرَاء بِالسِّين الْمُهْملَة جمع سَجِير، وَهُوَ الْقَرِيب الْوَلِيّ، فَأَما الشُّجَراء بالشين الْمُعْجَمَة فَإنَّهُ جمع شجير، وَهُوَ الْبعيد والعَدُوّ. المجلِسُ الثالِث وَالأربَعُونْ الزَّجْرُ عَنْ أَذَى الْيَتِيم حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ الْفُلُوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بن سُفْيَان القطيغي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْيَتِيمَ إِذَا بَكَى اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ لِبُكَائِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ أَبْكَى عَبْدِي وَأَنَا قَبَضْتُ أَبَاهُ وَوَارَيْتُهُ فِي التُّرَابِ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَا عِلْمَ لَنَا، قَالَ: اشْهَدُوا أَنْ مَنْ آوَاهُ أَرْضَيْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر زجر عَنْ أَذَى الْيَتِيم وترغيب فِي التعطفِ عَلَيْه، وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ، والعقول السليمة والفطن السوية، تُنْبِئان عَنْ حَظْر ظُلْمه، وَحسن حفظه وتَعَهُّدِه، وَمَا أَتَى عَنِ اللَّه عَزَّ وَجَلّ فِي مُحكم تَنْزِيله وعَلى لِسَان رَسُوله من التوصية بِهِ، والتوعد بأليم الْعقَاب عَلَى ظلمه، كثير ظَاهر، قَدْ قَامَت الحجَّة بِهِ واستفاض الْعلم بِصِحَّتِهِ، فِي خاصَّةِ الْمُسْلِمِين وعامتهم، ومأموميهم وأئمتهم، فاتقى امرؤٌ ربه، وَخَافَ مقَامه، وأشفق مِمَّا هُوَ أَمَامه، وتدبر قَول الله عز وَجل: " وليخشن الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وسيصلون سعيراً " فَإِن هَذَا الَّذِي تلوناه فِي نَظَائِره من التَّنْزِيل أَجْزلُ لفظٍ وأبلغ وعظ، وَفِي فضل المصيخ إِلَيْهِ، وَالْعَامِل عَلَيْه، والقابل لَهُ، والقائم بِالْقِسْطِ فِيهِ، أوفر حَظّ. وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لمرضاته وأعاننا عَلَى طَاعَته، وعَصَمَنا من مَعْصِيَته، إِنَّه جواد كريمٌ، رءوف رَحِيم. سآكلُ مِنْهَا وَلَو شققت بَطْنَك حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعُتْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرْوَانُ، فَلَمَّا وَرَدَ الْمَدِينَةَ هَيَّأَ لَهُ مَرْوَان

زهد بعض الصحابة وتقشفهم

طَعَاما فَأكْثر وَجَوَّدَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ الْغَدَاءُ جَاءَ متطببٌ نَصْرَانِيٌّ لِمُعَاوِيَةَ فَوَقَفَ وَجَعَلَ إِذَا أَتَى لونٌ قَالَ: كُلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا، وَإِذَا أَتَى لونٌ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يُوَافِقُهُ، قَالَ: لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا. فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ غَدَائِهِمْ، أَقْبَلَ زَنْجِيَّانِ مُؤْتَزِرَانِ بربطتين بيضاويين يَدْلَحَانِ بجفنةٍ لَهَا أَرْبَعُ حَلَقَاتٍ مُتْرَعَةٍ حَيْسًا، فَلَمَّا رَآهَا مُعَاوِيَةُ اسْتَشْرَفَ لَهَا وَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: أَيُّ شيءٍ تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: أُرِيد - وَالله - أَن أواقع ماترى، قَالَ: أُمَزِّقُ ثِيَابِي، قَالَ: وَلَوْ مَزَّقْتَ بَطْنَكَ، فَجَعَلَ يُدَبِّلُ مِثْلَ دَبْلِ الْبَعِيرِ وَيَقْذِفُ فِي جَوْفِهِ حَتَّى إِذَا نَهَلَ، قَالَ: يَا مَرْوَانُ! مَا حَيْسُكُمْ هَذَا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عجوةٌ نَاعِمَةٌ، وإقطةٌ مزنية، وسمنةٌ جهنمية، قَالَ: هَذِهِ - وَاللَّهِ - الأَشْفِيَةُ جُمِعَتْ لَا كَمَا يَقُولُ هَذَا النَّصْرَانِيُّ. زهد بعض الصَّحَابَة وتَقَشُّفُهُم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّكَنِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمُّ أَبِي زَحْرُ بْنُ حصنٌٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ عَمْرٍو الْوَهْبِيُّ، قَالَ: مَرَّ بِنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَنَحْنُ بسرفٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْحَجَّ، فَأَهْدَيْنَا إِلَيْهِ إِقْطًا وَسمنًا ولبناً وَطَيْرًا جَاءَتْ بِهَا الرُّعَاةُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي فِي مَوْضِعِ هَذَا الطَّيْرِ حَيْثُ لَا أَرَى أَحَدًا وَلا يَرَانِي، ثُمَّ جَلَسَ يَأْكُلُ وَجَلَسْتُ آكُلُ مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الأَكْلِ جَعَلَ يَلْحَسُ الصَّحْفَةَ وَيَلْعَقُ مَا فِيهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن! إِن هَاهُنَا من يَكْفِيك غسلهَا، فَقَالَ: إِن لَعْقَ الصِّحَافِ يَعْدِلُ عِتْقَ الرِّقَابِ. عود إِلَى خبر مُعَاوِيَة وَأكله من الحَيْس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو السُّكَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ، قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ وَعَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرْوَانُ، فَاتَّخَذَ طَعَامًا فَلَمَّا حَضَرَ وَجَلَسَ يَأْكُلُ قَامَ نَصْرَانِيٌّ عَلَى رَأْسِ مُعَاوِيَةَ وَجَعَلَ يَقُولُ: كُلْ مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ، وَدَعْ هَذَا فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ، وَأُتِيَ بَعْدَ الطَّعَامِ بجفنةٍ عظيمةٍ يَحْمِلُهَا أَسْوَدَانِ مُؤْتَزِرَانِ بِرَبْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ، مَمْلُوءَةٍ حَيْسًا، أَحْسِبُ أَنَّ كُلَّ واحدٍ مِنْهُمَا يَحْمِلُ جَفْنَةً، فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مُعَاوِيَةُ فَلَمَّا وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلَ يُدَبِّلُ مِنْهَا تَدْبِيلا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى النَّصْرَانِيِّ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا تَأْكُلْ مِنْهَا وَإِلا مَزَّقْتُ ثِيَابِي، قَالَ: وَاللَّهِ لآكُلَنَّ وَلَوْ مَزَّقْتَ بَطْنَكَ، وَجَعَلَ يُمْعِنُ فِي الأَكْلِ حَتَّى اكْتَفَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مَرْوَانُ! مَا جَفْنَتُكَ هَذِهِ؟ قَالَ: عجوةٌ ناعمة، وإقطةٌ مزينة وسمنةٌ جهنمية، قَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ أَشْفِيَةٌ كُلُّهَا لَا مَا يَقُولُ هَذَا النَّصْرَانِيُّ. قَالَ مُوسَى: أَبُو السُّكَيْنِ بْنُ عَبَّاسٍ خَرَجَ إِلَى الْبَادِيَةِ إِلَى شَيْخِنَا هَذَا زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ فَكَتَبَ مِنْهُ هَذِهِ الأَخْبَارَ، وَكَانَ يُسَمِّيهَا " أَخْبَارُ الأَشْرَافِ ".

ابن الأنباري لا يرغب في تفسير الحيس

ابْن الْأَنْبَارِي لَا يرغب فِي تَفْسِير الحيس قَالَ القَاضِي: لما ذكر ابْن الْأَنْبَارِي الحَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَر وَهُوَ يمليه علينا سُئل أَن يُفَسِّر الحَيْس، فَأبى فروجع، فَامْتنعَ وضحر، وَكَانَ فِيمَا قَالَ: لَمْ يفسره من قلبِي فأفسره أَنَا! فعجبت من اعتلاله فِي الِامْتِنَاع من تَفْسِيره بِأَنَّهُ لَمْ يفسره من قبله، وَالنَّاس يَحْتَاجُونَ إِلَى تَفْسِير من تَأَخّر لَهُم مَا لَمْ يتقدمه فِي تَفْسِيره من رَوَاهُ قبله، وأعجب من هَذَا أَنَّهُ أورد تَفْسِيره فِي الْخَبَر نَفسه عِنْد آخِره. قَالَ القَاضِي: والحَيْس من مطاعم الْعَرَب الْمَعْرُوفَة لَهُم الْمَشْهُورَة، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: وَإِذَا تكونُ كريهةٌ أُدْعَى لَهَا ... وَإِذَا يُحَاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بحيسٍ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا. وَقَول الرَّاوِي فِي الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ عَنِ ابْن دُرَيد: دلحان، عني بِهِ حَمْلهما وتناولهما، وجعلهما بِمَنْزِلَة الدَّالِح الَّذِي هُوَ أحدُ من تنَاول الدَّلْو عِنْد الاسْتقاء، وَبعده الماتحُ والمائحُ. أوَّلُ من ذَكَرَ الحَيْسَ فِي شِعْره حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا شيخ ذكره يُقَالُ لَهُ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، حدّثه وَذهب عني اسْمه، عَنِ ابْن دأب، قَالَ: كَانَ ضَمْرَةُ بْن بَكْر بْن عَبْد مَنَاة، سيدَ بني كنَانَة، وَقَدْ ضم وُلِد أَعْمَامه إِلَيْهِ فأغير عَلَى إبل لَهُ فَخرج أهلُه واستنقذوها، وَكَانَ أَشَّدهم بَأْسا أَحْمَر بْن الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة، فَلَمَّا رَدّوا الْإِبِل عَلَى ضَمْرَة عمل حَيْسًا فأطعمه ابْنه جُنْدُب إِذْ كَانَ أحمرُ قَدْ خرج، فَعمد أحمرُ إِلَى سلاحه فلبسه وَأخذ إبِله ورَحْله، وقَالَ: وَالله لَا سَاكَنْتُ ضَمْرَة أبدا وَقَدْ عرف حسن بلائي، وَهُوَ مقبلٌ عَلَى ابْنه دوني، وقَالَ: يَا ضَمْرُ أخْبِرْني ولستَ بفاعلٍ ... وأخُوك صادقُك الَّذِي لَا يكذب هَل فِي الْقَضِيَّة أنْ إِذا استغنيتم ... وأمنتم وَأَنا الْبعيد الأجنب وَإِذَا الشَّدائدُ بالمخَنَّق مَرَّةً ... أشْجَتُكمُ فَأَنا الحبيبُ الأقربُ وَإِذا تكون شَدِيدَة أدعى لَهَا ... وَإِذا يحاس الحيس يدعى جُنْدُب عَجَبًا لتِلْك قَضِيَّة وإقامتي ... فِيكُم عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّة أعجبُ فأكونُ فيكمْ مثلَ عبدِ أبيكمُ ... لَا أُمَّ لي إِن كَانَ ذَاك وَلَا أبُ فَقَالَ جُنْدُب: لنا صاعٌ إِذا كِلْنَا خُصُومَنَا ... نُطَفِّفُها ونُوفِي لِلْوَفِيّ لأحمرَ حَيْسُهُ وَلنَا غِنَانا ... كَمَا أَغْنَى وَإِن عابوا الغَنِيّ فَلِذَا قَالَ عَبيدُ بْن الأبرص

طالب مشاكس

سنُهْدِي إليكمْ أيَّ هَاتين شِئْتُمُ ... ونُعْطِيكُمُ الصَّاعَ الَّذِي قَالَ جُنْدُب الْمَشْهُور من الرِّوَايَة فِي هَذَا الشّعْر: وَإِذَا تكون كريهةُ أُدْعَى لَهَا وشديدةٌ أَيْضا، وَفِي الْبَيْت الَّذِي يَلِيهِ: ذَاكُمْ وجَدِّكُمُ الصَّغَارُ بِعَيْنِهِ ... لَا أُمَّ لي............ والهَوَانُ أَيْضا، وَقَدْ رُوِيَ: عجبٌ لتِلْك قَضِيَّة بِالرَّفْع، عَلَى أَنَّهُ - أَعنِي الْعجب - شيءٌ لَازم، مثل قَوْلهم: ويلٌ لَهُ، وَقَوله: فتربٌ لأفْوَاهِ الْوُشَاةِ وجندلٌ وَقَالُوا: تُرْبًا وجَنْدَلا، وتراباً، جَعَلُوهُ نَائِبا عَنِ الإِهانة والإِذلال. وَرُوِيَ: عجبا لتِلْك، نصبا عَلَى إِضْمَار الْفِعْل، بمنزله قَوْلهم: سَقْيًا ورَعْيًا. وَقد روى لَنَا هَذَا الْخَبَر - أَعنِي خبر ضَمْرة - عَنْ أَبِي مُحَمَّد الْأَنْبَارِي وَفِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلاف، ولعلنا نخرجهُ فِيمَا يُسْتَقبل من مجالسنا هَذِهِ إِن شَاءَ اللَّه. طالبٌ مُشاكس حَدَّثَنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن كَامِل النَّخَعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن جَعْفَر الرُّمَّاني، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل السُّدِّيّ، قَالَ: كنتُ فِي مجلسِ مالكٍ أكتبُ عَنْهُ، فسُئِل عَنْ فَرِيضَة فِيهَا اخْتِلاف عَنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأجَاب فِيهَا بجوابِ زَيْد بْن ثَابِت، فَقلت: فَمَا قَالَ فِيهَا عَلِيّ بْن أَبِي طالبٍ وَعبد اللَّه بْن مَسْعُود، فَأَوْمأ إِلَى الحَجَبَةِ فَلَمَّا هَمُّوا بِي حَاصَرْتُهم وحاصروني فأعْجَزْتُهم، وبَقِيَتْ مِحْبَرتي بكُتُبِي بَيْنَ يَدَيْ مَالك، فَلَمَّا أَرَادَ أَن ينْصَرف، قَالَ لَهُ الحَجَبةُ: مَا نعملُ بكُتب الرَّجُل ومِحْبرته، فَقَالَ: اطلبوه وَلا تهيجوه بسوءٍ حَتَّى تُأْتُوني بِهِ، فَجَاءُوا إِلَيَّ فرفقوا بِي حَتَّى جِئْت مَعَهم، فَقَالَ لي: من أَيْنَ أَنْت؟ فقلتُ: من أهل الْكُوفَة، فَقَالَ لي: إِن أهل الْكُوفَة قوم مَعَهم معرفَة بأقدار الْعلمَاء، فَأَيْنَ خلَّفت الْأَدَب؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا ذاكَرْتُك لأستفيد، فَقَالَ: إِن عليًّا وَعبد اللَّه لَا يُنكَرُ فضلهما، وأهلُ بلدنا عَلَى قَول زَيْد، وَإِذَا كنتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قومٍ فَلَا تبؤهم بِمَا لَا يعْرفُونَ فيبدأَك مِنْهُم مَا تكره. قَالَ: ثُمّ حججتُ من سَنَتِي وقدمتُ الشَّام، فدخلتُ دمشق فجلستُ فِي حلقه الْوَلِيدِ بْن مُسْلِم، فَلم أصبرْ أَن سألتُه عَنْ مَسْأَلَة فَأصَاب، فَقلت: أخطأتَ يَا أَبِي الْعَبَّاس، فَقَالَ: تُخَطِّئُني فِي الصَّواب وتلحنُ فِي الْإِعْرَاب، فَقلت: خَفَضْتُكَ كَمَا خَفَضَك ربُّك، وداخلتُه الاحتجاجَ فَمَالَ الناسُ إليّ وتركُوه، وَقَالُوا: أهلُ الْكُوفَة أهلُ الْفِقه وَالْعلم، فَخفت أَن يندأني مِنْهُ مَا ندأني من مَالك بْن أَنَس، فَإِذا رجلٌ لَهُ حلمٌ ودينٌ وَزَعَهُ عَنِ الْإِقْدَام. السَّفَلَة، وسفلة السفلة حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بن الْجراح الضراب، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن أَمِين، قَالَ:

شهرة قاض بالغلمان

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أوَيْس، قَالَ: سَمِعْتُ مَالك بْن أَنَس، يَقُولُ: قَالَ ربيعةٌ الرَّأْي: يَا مَالِك! مَن السَّفِلَةُ؟ قَالَ: من أكل بِدِينِهِ، قَالَ: فَمنْ سَفِلَةُ السفلة؟ قَالَ: قُلْتُ: من أصلح دُنْيَا غَيره بفسادِ دينه، قَالَ: زِهْ، صَدَقْتَني. شهرة قاضٍ بالغلمان حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الصَّفَّار، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا العيناء فِي مجْلِس أَبِي الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد، قَالَ: كنتُ فِي مجلسِ أَبِي عَاصِم النَّبِيل، وَكَانَ أَبُو بَكْر بْن يَحْيَى بْن أَكْثَم حَاضرا فنازع غُلامًا، فارتفعَ الصَّوْتُ، فَقَالَ أَبُو عَاصِم: مَهْيَم؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو بكر ابْن يَحْيَى بْن أَكْثَم ينازعُ غُلامًا، فَقَالَ: إِن يَسْرقْ فقد سَرَقَ أبٌ لَهُ من قبل. وحكاية أُخْرَى فِي الْمَعْنى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: قَالَ أَبُو عبيد الله مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم: لما عُزِل إِسْمَاعِيل بْن حَمَّاد عَنِ الْبَصْرَة، شيَّعُوه فَقَالُوا: عَفَفْت عَنْ أَمْوَالنَا وَعَن دمائنا، فَقَالَ إِسْمَاعِيل: وَعَن أَبْنَائِكُم. يُعَرِّض بِيَحْيَى بْن أَكْثَم من اللُّواط. وقاضٍ تَفْتِنُه حسناء وَحَدَّثَنَا الحكيمي، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه: وَكَانَ الْحَسَن بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن العَنْبري قَاضِيا عندنَا فِي الْفِتْنَة، وَكَانَ عَابِسا كالِحًا، فَقدمت إِلَيْهِ جاريةٌ لبَعض أَهْل الْبَصْرَة تُخَاصِم فِي مِيرَاث، وَكَانَت حَسَنَة الْوَجْه، فتبسَّمَ وكَلَّمها، فَقَالَ عَبْد الصَّمد بْن المعذَّل: وَلما سَفَرَتْ عَنْهَا الْقِناع متيمٌ ... تَرَوَّحَ مِنْهَا العنبريُّ مُتَيَّمَا رَأَى ابنُ عَبْد اللَّهِ وَهُوَ محكمٌ ... عَلَيْهَا، لَهَا طرفا عَلَيْه مُحَكّما وَكَانَ قَدِيما عَابَس الْوَجْه كالحًا ... فَلَمَّا رَأَى مِنْهَا السُّفُورَ تَبسَّما فَإِن يَصبُ قلبُ الْعَنْبَري فقبلها ... صَبَا باليتامى قلبُ يَحْيَى بْن أكثما مصدر فَاعل الفعال والمفاعلة قَالَ القَاضِي: قولُ أبي العيناء فِي الْحِكَايَة الأولى من حكايتيه هَاتين فِي قَول إِسْمَاعِيل مَا قَالَه يعرِّض بِيَحْيَى بْن أَكْثَم باللواط هَكَذَا قَالَ: فاللِّوَاط مصدر لاوط يلاوط ومصدره لواطٌ ومُلاوطة فِي الْقيَاس، مثل زانى يزاني مُزاناةً وزِناءً، وَقَاتل يُقَاتل قِتالا ومُقاتلة، فِي نَظَائِر ذَلِكَ من بَاب الْفِعال والمفاعلة، وأتى بِالْمَصْدَرِ فِيهِ صَحِيحا بِالْوَاو لصِحَّة فعله، وَذَلِكَ لاوط يلاوط وَلَو كَانَ مصدر لَا يلوط لأُعِلَّ إعلال فعله فَقِيل لَاطَ لياطًا، وقُلبت واوه يَاء لانكسار مَا قبلهَا، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ: قَامَ قيَاما فِي مصدر قَامَ يقوم، وقوام فِي مصدر قاوم يُقَاوم، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم لِوَاذًا " فلواذًا مصدر لاوذ يلاوذ، فَأَما مصدر لَاذَ يلوذ يُقَال فِيهِ:

أيهما الأصل الفعل أم المصدر

لَاذَ لياذ، قَالَ حَسَّان بْن ثَابِت فِي مصدر " لاوذ ": وقريشٌ تفِرُّ مِنْهُم لِوَاذًا ... لَمْ يُقيمُوا وخَفَّ مِنْهَا الْحُلُومُ وقَالَ ذُو الرمة فِي مصدر " لَاذَ ": تَلُوذُ من الشَّمْس أطْلاؤُهَا ... لِيَاذَ الغَرِيم من الطَّالِبِ وَفِي استقصاء تصريف هَذَا الْجِنْس من الْأَفْعَال والمصادر، وذُكِر أُصُوله تَقْديرا وتقريرًا، وتمييز مقايسه تَفْصِيلًا وتحريراً، طولٌ، وَله مَوضِع وَهُوَ أولى بِهِ. أَيُّهُمَا الأَصْل الْفِعْل أم الْمصدر وَقَدْ تعلق نحاة الْكُوفِيّين عَلَى أَصْحَابنَا الْبَصرِيين بِأَنَّهُم قَد اتَّفقُوا عَلَى حمل الْمصدر فِي الإعتلال على الْفِعْل فأجروه مجْرى التَّابِع التَّالِي لَهُ، وَأَن هَذَا يدلُّ عَلَى صِحة قَوْلِ مَنْ قَدَّم الْفِعْل فَجعل المصدرَ مأخوذًا مِنْهُ، وَفَسَاد قَول الْبَصرِيين بِتَقْدِيم المصدرِ وَالْحكم بِأَنَّهُ أُخذ مِنْهُ الْفِعْل. وللبصريِّين جوابٌ عَنْ هَذَا وانفصال مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن كُره اخْتِلاف الْجُمْلَة واضطراب الْبَاب، وأوثر التَّوْفِيق بَيْنَ بعضه وَبَعض، فَلَمَّا حضر معنى أوْجَبَ اعتلال الْفِعْل اعَتَلَّ الْمصدر، عَلَى أَن المعتلَّ من المصادر مَا كَانَ متجاوزاً الأَصْل فَإِنَّهُ هُوَ أولٌ فِي الْحَقِيقَة لَهُ، أَلا ترى أَن أصل الْمصدر فِي الْقيام قَامَ قَوْمَةً وقَوْمًا عَلَى أصل الْقيَاس فِي التَّقْدِير، مثل: صَامَ صوما وعام عومًا ورام رومًا. وَمن فَائِدَة الاخْتِلاف فِي أبنية المصادر يحصل الْفرق بَين الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة، كَقَوْلِهِم: وِجْدانٌ فِي المَال، وَوُجُود فِي الإِدراك، ومَوْجِدَةٌ فِي الْغَضَب، ووجدٌ فِي الْغنى، وجدةٌ فِي المَال، ووجدٌ فِي الحبِّ وَالْغَضَب، وَالْفِعْل فِيهِ كُلُّه وَجَد يَجِد، وفَرَّع المولَّدُون من هَذَا قَوْلهم: وجادةٌ: مَا كَانَ من الْعلم أَخَذَ من صحيفَة من غَيْر سَماع وَلا إجَازَة وَلا مناولة. وَمثل هَذَا فِي الْأَسْمَاء الَّتِي حُفِظَتْ مصادِرُها يستفادُ بِهِ الْفرق فِي العَلاقَةِ بِالْفَتْح فِي الْمحبَّة وَالْخُصُومَة، والْعِلاقة بِالْكَسْرِ فِي السَّيْف وَالسَّوْط، وَلا خلاف فِي سبق هَذِهِ الْأَسْمَاء للأفعال وتقدمها عَلَيْهَا. وومما يبين إيثارهم توفيق الْمَفْضُول فِي الجلمة وَإِن كَانَ الْقيَاس يَقْتَضِي لشَيْء مِنْهَا دون غَيره من بَابه حكما، فيُسْتَتْبَع مَا سواهُ وَإِن لَمْ يَكُنْ فِيهِ من العلَّة مَا فِيهِ، قَوْلهم: آمن، وأبدلوا من الهزة مَدَّة كَرَاهِيَة لِاجْتِمَاع الهمزتين، ثُمّ حملُوا عَلَيْه يُومن وتُومن ونُومن للتوفيق والتسوية، وَإِن كَانُوا قَدْ يقرونه عَلَى أَصله، ويتركون إِلْحَاقه بِمَا الْعِلَّة خَاصَّة فِيهِ. وَفِي شرح هَذَا الْبَاب وَبسط القَوْل فِيهِ طول لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه، والفَرَّاء وَهُوَ مِنْ أَنْبَهِ مُخَالِفِي البَصْريَّين فِي هَذَا الفَضْل وأعلَمِهِم وأَنْظَرِهم فِي قِيَاسه واستدلاله قَد احْتج فِي اسْتِحْقَاق الْفِعْل الْمَاضِي الْفَتْح يحملهُ إِيَّاه عَلَى التَّثْنِيَة فِي قَوْلك: جَلَسَ وجَلَسَا، فألزم

علمته الحياة

الْوَاحِد وَهُوَ مُتَقَدم حُكْم الِاثْنَيْنِ وَهُوَ بَعْده، فأتْبَع الأول الثَّانِي وعَلّق عَلَيْه حُكمه كَأَنّ ثَانِيه أولٌ لَهُ، وَمن كَانَ هَذَا مذْهبه فحقيقٌ عَلَى أَن لَا يُنكر عَلَى خَصمه مثله، وَكَيف وَقَدْ أومأنا من مَذْهَب مخالفيه إِلَى مَا يوضِّح عَنْ حَقِيقَته، ويدلُّ عَلَى صِحَّته. عَلّمتْهُ الْحَيَاة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْل الْأَصْفَهَانِي، قَالَ: حَدَّثَنَا بنْدَار، عَنِ الأَصْمَعِيّ، قَالَ: مَثَلَ فَتًى بَيْنَ يَدَي الحَجَّاج، فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير، مَاتَ أَبِي وَأَنا حملٌ، وَمَاتَتْ أُمِّي وَأَنا رَضِيع، فكفلني الْغُرباء حَتَّى ترعرعتُ، فَوَثَبَ بعض أَهلِي عَلَى مَالِي فاجْتَاحَه، وَهُوَ هاربٌ مني وَمن عَدْلِ الْأَمِير. فَقَالَ الحَجَّاج: اللَّه! مَاتَ أبُوك وَأَنت حَمْلٌ وَمَاتَتْ أمُّك وَأَنت رضيعٌ وكفلك الغرباء، فَلم يمنعك ذَلِكَ من أَن فَصُح لسَانك، وأنبأت عَنْ إرادتك! اطْرُدُوا الْمُؤَدِّبين عَنْ أَوْلَادِي. كَيفَ تختارُ أصدقاؤك؟ حَدَّثَنَا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّد ابْن عُمَر الْبَزَّاز، يذكر عَنْ مُحَمَّد بْن عَبَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَان بن عيينةن قَالَ عَلْقَمَة بْن لبيد الْعُطَارِدي، لِابْنِهِ: يَا بُنيَّ! إِن نَزَعَتْكَ إِلَى صُحبةِ الرِّجَال حاجةٌ، فاصْحَبْ من إِن صحبتَه زَانَك، وَإِن خَدَمْتَه صانك، وَإِن عَرَكت بِهِ مانك. مَنْ إنْ قُلْتَ صَدَّق قَوْلك، وَإِن صُلْت سَدَّد صَوْلك، يزاوِلُ عَنْك مَنْ رَامَ ونَالَك. مَنْ إِن مَدَدْتَ يَدَك يصلُ مَدَّها، وَإِن بدرَتْ مِنْك ثلمةٌ سَدَّها، وَإِن رَأَى مِنْك حَسَنَة عَدَّها. مَنْ إِن سَأَلْتُهُ أَعْطَاك، وَإِن سَكَتَّ عَنْهُ ابتدأك. من إِن نزلَتْ بك إِحْدَى مُلِمَّات الزَّمَان آساك، من لَا تَأْتِيك مِنْهُ البوائق، وَلا تخْتَلف عَلَيْك من الطرائق، وَلا يخذلك عِنْد الْحَقَائِق. من إِن حاوَلْتَ حَوِيلا أمَرَك، وَإِن تَنَازَعْتُما مَنْفَسًا آثرك. قَوْله: إِن حاولت حويلا أَي رمت أمرا طَالبا ومنازعًا أَمرك، وَيتَّجه فِي قَوْله: أَمرك وَجْهَان، أَحَدهمَا: أَن يَأْمُرك بِالصَّوَابِ فِيهِ، وَيُشِير عَلَيْك بركوب الحزم فِيمَا تحاوله، ويرشدك إِلَى وَجه الرَّأْي فِي التأتي لَهُ. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يَكُون معنى قَوْله: أَمِرَك كَثَّرك فِيمَا تحاوله، وأيَّدك فِيمَا تجاذِبُهُ وَتُزَاوله، وأمدك بقُوَّته، ورَفَدَكَ بمعونته، من قَوْلهم: قَدْ أَمِرَ بَنو فُلان: أَي كَثُروا، كَمَا قَالَ لبيد: إِن يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وإنْ أَمِرُوا ... يَوْمًا يَصِيرُوا للذُّلِّ والعَارِ وقَالَ آخر: أُمُّ عيالٍ ضَنْؤُهَا أَمِرْ ... لَو نَحَرَتْ لضيْفِها عَشْرَ جُزُرْ

المجلس الرابع والأربعون

لأصبحتْ من لحمهنَّ تَعْتَذِرْ وَقَدْ تُأُوِّل قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ " أمرنَا مُتْرَفِيهَا " عَلَى وَجْهَيْن فِي قِرَاءَة الْجَمَاعَة، والوجهان: أمرنَا أَيّ أُمِرُوا بِالطَّاعَةِ ففسقوا، وَقيل: فِيهِ أكثرنا، وقرىء أمَّرنا من الْإِمَارَة، وأَمِرْنا بِمَعْنى أكثرنا، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ: أمِرنا بِكَسْر الْمِيم عَلَى معنى أكثرنا، وَأنكر الفَرَّاء هَذِهِ الْقِرَاءَة وذُكِر أَن أَمر لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول. وَحكى أَبُو زَيْد التَّعَدِّي فِي هَذَا الْفِعْل عَنِ الْعَرَب، فصحَّت قراءةُ الْحَسَنِ من جِهَة الْعَرَبيَّة، وَإِن شَذَّتْ عَمَّا نقلتْهُ الجماعةُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من الْقِرَاءَة. واستقصاءُ هَذَا الْفِعْل وتلخيصُه، فِي مَوْضِعه من كتبنَا فِي عُلُوم التَّنْزِيل والتأويل. المجلِسُ الرَّابِع وَالأربَعُونْ نعيمان الصَّحَابِيّ الظريف حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ - يَعْنِي ابْنَ بَكَّارٍ - قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو طُوَالَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمَانُ، يُصِيبُ الشَّرَابَ، فَكَانَ يُؤْتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فَيَضْرِبُونَهُ بِنِعَالِهِمْ، وَيَحْثُونَ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَكَ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طُرْفَةً إِلا اشْتَرَى مِنْهَا ثمَّ جَاءَ إِلَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا أَهْدَيْتُهُ لَكَ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهُ يُطَالِبُ نُعَيْمَانَ بِثَمَنِهِ جَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعْطِ هَذَا ثَمَنَ مَتَاعِهِ، فَيَقُولُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَمْ تُهْدِهِ إِلَيَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ - وَاللَّهِ - لَمْ يَكُنْ ثَمَنُهُ عِنْدِي، وَلَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَهُ، فَيَضْحَكُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ. وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا أبان فَضْلَ مَكَارِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنَ فُكَاهَتِهِ وَسَعَةَ خُلُقِهِ وَسَجَاحَتِهِ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ كَانَ من أَفْكه النّاس، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِنِّي لأَمْزَحُ وَلا أَقُولُ إِلا حَقًّا "، وَأَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُؤاخذ المَزَّاح الصَّادِق فِي مُزاحه ". ونعيمانٌ هَذَا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ كَثِيرَ الدُّعَابَةِ بَدِيعَ الْمُمَازَحَةِ، وَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ، وَكَانَتْ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاباتٌ اسْتَحْسَنَهَا النَّاسُ وَيُعْجَبُونَ بِهَا. مِنْهَا، مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْغَرِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

صفة الوليد بن يزيد وبعض شعره

الأَصْغَرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ قَرِيبَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْغَرِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَامٍ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بُصْرَى وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرو الأنصاي وَسَلِيطُ بْنُ حَرْمَلَةَ، وَهُمَا مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ سَلِيطُ بْنُ حَرْمَلَةَ عَلَى الزَّادِ، وَكَانَ نُعَيْمَانُ مَزَّاحًا، فَقَالَ لِسَلِيطٍ، أَطْعِمْنِي، فَقَالَ: لَا أُطْعِمُكَ حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ نُعَيْمَانُ لِسَلِيطٍ: لأُغِيظَنَّكَ. فَمَرُّوا بِقَوْمٍ فَقَالَ نُعَيْمَانُ لَهُمْ: أَتَشْتَرُونَ مِنِّي عَبْدًا لِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّهُ عَبْدٌ لَهُ كَلامٌ، وَهُوَ قَائِلٌ لَكُمْ لَسْتُ بِعَبْدِهِ وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، فَإِنْ كَانَ إِذَا قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ تَرَكْتُمُوهُ فَلا تَشْتَرُوهُ وَلا تُفْسِدُوا عَلَيَّ عَبْدِي، قَالُوا: لَا، بَلْ نَشْتَرِيهِ وَلا نَنَظْرُ فِي قَوْلِهِ. فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُ بِعَشْرِ قَلائِصَ، ثُمَّ جَاءُوا لِيَأْخُذُوهُ فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ، فَوَضَعُوا فِي عُنُقِهِ عِمَامَةً، فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ يَتَهَزَّأُ وَلَسْتُ بِعَبْدِهِ، فَقَالُوا: قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا كَلامَهُ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَأَتْبَعَ الْقَوْمَ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مزحٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْقَلائِصَ وَأَخَذَ سَلِيطًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَضَحِكَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ جَوْلا وَأَكْثَرَ. وَلِنعيمان أَخْبَار كَثِيرَة لَا يحْتَمل كتَابنَا هَذَا إحضارُ جَمِيعهَا، وَقَد اسْتدلَّ مُسْتَدِلُّون بِمَا أَتَى فِي الْخَبَر الأول من ثَنَاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نعيمان، وزجره لِلاعِنِه، ونظائره من الْأَخْبَار عَلَى فَسَاد مَذْهَب الْمُعْتَزلَة فِي وَعِيد أَهْل الصَّلاة وعَلى صِحَة تَجْوِيز الْعَفو عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ فِي مَشِيئَة اللَّه تَعَالَى. وللكلام فِي هَذَا الْبَاب مَوضِع آخر. صفة الْوَلِيد بْن يَزِيد وَبَعض شِعره حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ عَمه، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة، قَالَ: قَالَ لي هَارُون أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَلْ رَأَيْت الْوَلِيد بْن يَزِيد؟ قَالَ: قُلْتُ: نعم، قَالَ: صفه لي. قَالَ: فَذَهَبت أتحرَّجُ، فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين لَا يكره مَا تَقُولُ فَقل، فَقلت: كَانَ من أجمل النّاس وأشعرهم وأشدهم، قَالَ: أتروي من شعره شَيْئا؟ قلت: نعم، وَدخلت عَلَيْهِ مَعَ عمومتي وُلي جُمَّة فينانة. فَجعل يَقُولُ بالقضيبِ فِيهَا وَيَقُولُ: يَا غُلامُ! هَلْ وَلَدَتْكَ سُكّر؟ " أمُّ ولدٌ كَانَتْ لمروان بْن الْحَكَم، زوَّجها أَبَا حَفْصَة " فَقلت: نعم، فسمعتُه يقولُ أَنْشَدَ عمومتي: لَيْت هاشماً عاشَ حَتَّى يرى ... مِحْلَبَهُ الأوْفَرَ قَدْ أتْرِعَا كِلْنَا لَهُ الصَّاع الَّتِي كالها ... وَمَا ظلمناه بهَا آصُعَا وَمَا أَتَيْنَا ذَاك عَنْ بدعةٍ ... أحَلَّها الْقُرْآن لي أجمعا قَالَ: فَأمر هَارُون بكتابتها فَكتبت.

الوليد يسافر ليشرب في حانة بالحيرة

قَالَ القَاضِي: جمةٌ فينانة مَعْنَاهَا الوافرة الجثلة، وَقَول الْوَلِيد فِي شعره: مِحْلبه الأوفر: يَعْنِي: الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ بِكَسْر ميمه، أجراه فِي بَابه الْأَعَمّ فِي الْأَوَانِي والأدوات، كالْمِخْرَف والْمِكْتل والْمِرْجل والمقطع والْمِحْيَط والْمِبْضَع، فَأَما المتَطَبَّبُ بِهِ الَّذِي تغلظ فِيهِ الْعَامَّة، فَيَقُولُونَ: الْمِحْلَب فَهُوَ المَحْلَبُ بِفَتْح الْمِيم مثل المَنْدل، وَهُوَ الْعود. الْوَلِيد يُسَافر ليشْرب فِي حانة بِالْحيرَةِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْفَضْل الرَّبَعِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاق الْمَوْصِلِيّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن مَنْصُور الأَزْدِيّ، حَدَّثَنِي شيخ من أهل الْكُوفَة، قَالَ: حَدَّثَنِي خمارٌ كَانَ بِالْحيرَةِ، قَالَ: مَا شعرتُ يَوْمًا وَقَدْ فتحت حانوتي إِذا فوارس ثَلَاثَة مُتَلثِّمُون بعمائم خَزٍّ قَدْ أَقبلُوا من طَرِيق السَّمَاوة فِي البَرِّيَّة، فَقَالَ لي أحدهم: أَنْت مَرُّ عَبْد الْخمار؟ قُلْتُ: نعم، وَكنت مَوْصُوفا بالنظافة وجودة الْخمر وَغسل الْأَوَانِي، فَقَالَ: اسْقِنِي رطلا، فَقُمْت فغسلت يَدي ثُمّ نقرت الدنان فنظرتُ إِلَى أصفاها فبزلته وَأخذت قدحًا نظيفًا فملأته ثُمّ أخذت منديلا جَدِيدا فناولته إِيَّاه فَشرب، وقَالَ: اسْقِنِي آخر. فغسلت يَدي وَتركت ذَلِكَ الدَّنّ وَذَلِكَ الْقدح وَذَلِكَ المنديل، ونقرت دنا آخر فبذلت مِنْهُ رطلا فِي قدح نظيف، وَأخذت منديلا جَدِيدا فسقيته فَشرب، وقَالَ: اسْقِنِي رطلا آخر، فسقيته فِي غَيْر ذَلِكَ الْقدح، وأعطيته غَيْر ذَلِكَ المنديل، فَشرب وقَالَ: بَارك اللَّه عَلَيْك، فَمَا أطيب شرابك وأنظفك! فَمَا كَانَ رَأْيِي أَن أشْرب أَكثر من ثَلَاثَة، فَلَمَّا رَأَيْت نظافَتَك دَعَتْني إِلَى شُرب آخر فهاته، فناولته إِيَّاه عَلَى تِلْكَ السَّبِيل، ثُمّ قَالَ: لَوْلَا أسبابٌ تمنعُ من بَيْتك لَكَانَ حبيبًا إِلَى أَن أَجْلِس فِيهِ بَقِيَّة يومي هَذَا. وولّي رَاجعا فِي الطَّرِيق الَّذِي بدا مِنْهُ، وقَالَ: اعذرنا، وَرمى إليّ أحدُ الرجلَيْن اللَّذين كَانَا مَعَه بِشَيْء فَنَظَرت فَإِذا صرة فِيهَا خمس مائَة دِينَار، وَإِذَا هُوَ الْوَلِيد بْن يَزِيد أقبل من دمشق حَتَّى شرب من شراب الْحيرَة وَانْصَرف. قَالَ القَاضِي: أَخْبَار الْوَلِيد بْن يَزِيد كَثِيرَة، وَقَدْ ذكرهَا الإِخباريون مَجْمُوعَة ومفرقة، ومعظمها يَأْتِي مُتَفَرقًا فِي مجَالِس كتَابنَا هَذَا. وَكنت جمعت شَيْئا مِنْهَا فِيهِ، من سَيِرِه وآثاره وَمن شعره الَّذِي ضمّنَه مَا فجر بِهِ من خُرْقة وسفاهته، وحُمْقه وخسارته، وهزله ومجونه، وركاكته وسخافة دينه، وَمَا صَرَّح بِهِ من الإِلحاد فِي الْقُرْآن، وَالْكفْر وباطله مِمَّنْ أنزلهُ وَأنزل عَلَيْه، وعارضت شعره السخيف بشعرٍ حَصِيف، وباطله بِحَق نبيهٍ شرِيف، وأتيت فِي هَذَا بِمَا توخيت بِهِ رضَا اللَّه تَعَالَى، واستيجاب مغفرته. خطْبَة يَزِيد بْن الْوَلِيد بعد عَزله لِابْن عمّه وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النَّحْويّ، قَالَ: خطب

من أجابني من أهل ولايتي

النّاس يَزِيد بْن الْوَلِيد، فَقَالَ: أما بعد، أَيهَا النّاس فَإِنِّي واللَّه مَا خرجت أشَرًا وَلا بَطرًا وَلا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَة فِي المَال، ومابي إطرء نَفسِي، إِنِّي لظلومٍ لَهَا إِلا أَن يرحَمَني رَبِّي، ولكنني خرجت غَضبا للَّه تَعَالَى ولدينه، وداعيًا إِلَى اللَّه جلّ ثناؤُه وَسنة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، لما هدمت معالم الْهدى، وأطفىء نورُ أَهْل التَّقْوَى، وَظهر الْجَبَّار العنيد المستحلُّ لكل حُرْمَة، الرَّاكِب كلَّ بِدعَة، يَعْنِي الْوَلِيدَ بْن يَزِيد، مَعَ أَنَّهُ واللَّه مَا كَانَ يُصَدِّق بِالْكتاب، وَلا يُؤمنُ بِيَوْم الْحساب، وَإِنَّهُ لابْن عمي فِي النّسَب، وكُفْئِي فِي الْحسب، فَلَمَّا رأيتُ ذَلِكَ استخرتُ اللَّه تَعَالَى فِي أمره، وَسَأَلته أَلا يَكِلَني إِلَى نَفسِي، ودعوتُ إِلَى ذَلِكَ. من أجابني من أَهْل ولايتي حَتَّى أراح اللَّه مِنْهُ الْعباد وطهر مِنْهُ الْبِلَاد بحول اللَّه وقوته لَا بحولي وقوتي أَيهَا النّاس! إِن لَكُمْ عليَّ أَلا أَضَع حجرا عَلَى حجر، وَلا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَة، وَلا أكْنِزَ مَالا، وَلا أحمل خراجًا من بلدٍ، إِلَى بلد، حَتَّى أَشد ثغر ذَلِكَ الْبَلَد وخصاصته، فَإِن فَضَلَ عَنْهُ شيءٌ نقلتُه إِلَى الْبَلَد الَّذِي يَلِيهِ، وَإِلَى من هُوَ أحْوج إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلا أُجَمِّرُكُمْ فِي نُفُوركم، فأفتنكم وأفتن أهاليكم، وَلا أغلقُ بَابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم، وَلا أَحْمَل أَهْل جزيتكم مَا يجليهم عَنْ بِلَادهمْ، وَيقطع نسلهم، وَإِن لَكُمْ عِنْدِي أُعطياتكم فِي كُلّ سنة، وأرزاقكم فِي كُلّ شهر، حَتَّى تستوي الْمَعيشَة بَيْنَ الْمُسْلِمِين، فَيكون أَقْصَاهُم كأدناهم، فَإِن أَنَا وفيت بِمَا قُلْتُ، فلي عَلَيْكُم السّمع وَالطَّاعَة، وَحسن المؤازرة، وَإِن أَنَا لَمْ أَفِ فلكم أَن تَسْتَتِيبوني فَإِن تُبْت وَإِلَّا فأنتُم فِي حلٍّ من بيعتي وَدمِي، وَإِن علمْتُم أحدا يُعرفُ بالصلاح يعطيكم مثل الَّذِي أَعطيتكُم فأردتم أَن تبايعوه فَأَنا أول من بَايعه وَدخل فِي طَاعَته. أَيهَا النّاس! إنَّه لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق، وَلا وَفَاء فِي نقض عهد اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا الطَّاعَة طَاعَة اللَّه تَعَالَى، فَمنْ أطَاع اللَّه عَزَّ وَجَلّ فأطيعوه بِطَاعَة اللَّه تَعَالَى، فَإِذا عصى اللَّه عَزَّ وَجَلّ، ودعا إِلَى مَعْصِيَته فَهُوَ أَهْل أَن يُعصى وَأَن يقتل. أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر اللَّه لي ولكُمْ. معنى التجمير قَالَ القَاضِي: قَوْله: وَلا أجمركم فِي ثغوركم، التجمير: أَن يُبْعث الرَّجُل إِلَى الثغر ثُمّ يتْرك فِيهِ فَلَا يَقْفِل إِلَى أَهله، ويُردَّ إِلَى وَطنه، فيضرُّ بِهِ ويُعَرَّض للفتنة فِي نَفسه وَأَهله، وَالْعدْل أَلا يُجَمّر الجندُ فِي الْبَعْث، وَأَن يُعقِّب بَينهم فِي كُلّ سِتَّة أشهر فِيمَا يختاره، وَقَدْ كَانَ بعض من تقدم من وُلَاة الْأَمر وَبِمَا عقب فِي كُلّ سنة، وَالْأَمر فِي هَذَا عندنَا أَن يَتَوخى فِيهِ الأئمَّة وأولو الْأَمر الْمصلحَة، ويحملوا النّاس عَلَى الرِّفْق بهم، ويجتهد فِي حسن النّظر لَهُم، ويتحرى فِي هَذَا الْبَاب من التَّدْبِير مَا هُوَ أبلغ فِي سياسة الرّعية، وتحصين الثغور، وَحفظ الْبَيْضَة، وحماية الْحَوْزَة، والتحرز من الْفساد والفتنة، وانتشار الْكَلِمَة، فالتجمير فِي هَذَا الْخَبَر مَعْنَاهُ مَا وَصفنَا.

الدار التي كان يقف فيها ابن أبي ربيعة

والتجمير: حضورُ الْجمار بمنى ورميها، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَلم أرى كالتّجْمِيرِ مَنْظَرَ ناظرٍ ... وَلَا كَلَيَالِي الْحَج أفْتَنَّ ذَا هوى والتجمير: مصدر جمرت النَّخْلَة إِذا نَزَعْتَ جُمَّارَها. الدَّار الَّتِي كَانَ يقف فِيهَا ابْن أَبِي رَبِيعَة حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد المهلبي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، قَالَ: أخبرنَا الزبير ابْن بَكَّار، قَالَ: كُنْت أرمي الجمارَ رَاجِلا فَإِذا أعْيَيْتُ جِئْت إِلَى دَار بكارٍ مَوْلَى الأخْنَسِ بْن شُرَيْق، وَهِي الدَّارُ الَّتِي عِنْد الْجَمْرَة، فَكنت مَعَ عمي مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه وَنحن نرمي الْجِمار، فَقلت: هَذِهِ دَار بكَّار، قَالَ: أَوْ مَا عنْدك من خَبَرهَا أَكثر من هَذَا؟ فَقلت: لَا، قَالَ: موضِعُها كَانَ عُمَر بْن أَبِي رَبِيعَة يقف عَلَيْه ينظر إِلَى النّساء إِذا خرجن يرمين الْجَمْرَة، وَكَانَ إِذا ذَاك دُكانًا، قَالَ: وَكَانَ بكارٌ لي صديقا فأنشدنا أَصْحَابنَا عَنْهُ يرثي الْمهْدي، وَكَانَ الْمهْدي أعطَاهُ بداره أَرْبَعَة آلَاف دِينَار فَأبى وقَالَ: مَا كُنْت لأبيع جوَار أَمِير الْمُؤْمِنِين بِشَيْء أبدا، فَقَالَ الْمهْدي: أَعْطوهُ أَرْبَعَة آلَاف دِينَار ودعُوهُ ودَارَه، فَلَمَّا مَاتَ الْمهْدي، قَالَ بكارٌ يرثيه: أَلا رحمةُ اللَّهِ فِي كُلّ ساعةٍ ... عَلَى رمةٍ أمْسَتْ بِمَا سَبْذَانِ لقَدْ غيَّبَ القبرُ ثُمّ سُؤْدُدًا ... وكفَّيْنِ بِالْمَعْرُوفِ يَبْتَدِرَانِ قَالَ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد: وَكَانَ الْمهْدي مَاتَ بِمَا سَبْذَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة. يتَمَنَّى كل يَوْم حجَّة أَو اعتمارًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَنْشَدَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ ابْتِكَارًا ... قَدْ قَضَى مِنْ تِهَامَةَ الأَوْطَارَا إِنْ يَكُنْ قَلْبُكَ الْغَدَاةَ خَلِيًّا ... فَفُؤَادِي بِالْخَيْفِ أَمْسَى مُعَارَا لَيْتَ ذَا الدَّهْرَ كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا ... كُلُّ يَوْمَيْنِ حِجَّةً وَاعْتِمَارَا وَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَ الْمُسْلِمِينَ شَطَطًا، فَقَالَ: فِي نَفْسِ الْجُمَلِ شيءٌ غَيْرُ مَا فِي نَفْسِ سَائِقِهِ. قَالَ: وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِعُمَرَ بْنِ أبي ربيعَة: يَا ابْن أَخِي! مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ حَيْثُ قُلْتَ: لَيْتَ ذَا الدَّهْرَ كَانَ حَتْمًا عَلَيْنَا ... كُلُّ يَوْمَيْنِ حِجَّةً وَاعْتِمَارَا فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! إِنِّي وَضَعْتُ لَيْتَ حَيْثُ لَا تَقَعُ، قَالَ: صَدَقْتَ.

بعض ما كان يلقاه أتباع البرامكة

بعض مَا كَانَ يلقاه أَتبَاع البرامكة حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي سَعْد، عَنْ هَاشِم بْن مُوسَى أَخِي مسرور الْكَبِير، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مسرور، قَالَ: لما أُصِيب يَحْيَى بْن خَالِد بْن بَرْمَك بَعَثَنِي هَارُون إِلَى جَارِيَة لَهُ كَانَتْ قَدْ ترهبت، مغنية يُقَالُ لَهَا قُرْب، وَكَانَت صاحبةَ أَمر يَحْيَى بْن خَالِد، فَقَالَ: ائْتِنِي بهَا، فدخلتُ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا لِبَاسُ الصُّوف، فَقلت: أجيبي أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَت: أَنَا أَعْلَم لِمَ يَدْعُوني، وَهَذَا أمرٌ قَدْ تركتُه لِلَّهِ تَعَالَى فأحبُّ أَن تحتال لي، فأعلمتُها أَلا حِيلَة فِي ذَلِكَ. قَالَ: فدعتْ بأثوابٍ فلبستْها ثُمّ تَقَنَّعت بسَبْعَةِ أخمرة، قَالَ: فَجئْت بهَا فدخلتُ بهَا عَلَيْه. فأقعدها ثُمّ قَالَ: هاتِ عُودًا، قَالَ: فجئتُه بِهِ، قَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَت: يَا أَمِير

ما أحسن الحق!

الْمُؤْمِنِين! هَذَا أمرٌ تركتُه لِلَّهِ تَعَالَى ونويتُ أَلا أَفعلهُ بعد يَحْيَى بْن خَالِد، قَالَ: فألحّ فأبَتْ، فَقَالَ: يَا مَسْرُور! خُذْ مَقْرَعة وقِفْ عَلَى رَأسهَا فَإِن أبَتْ فاضربْ رَأسهَا أبدا، قَالَ: فَأَبَتْ، فضربتُها، حَتَّى تقطَّعَت السَّبْعَةُ أَخْمرة، فنظرتُ إِلَى شَعْرِها والدَّمُ قَدْ خرج من رَأسهَا، فَقَالَت: أفعل، ثُمّ تناولت الْعُودَ، فغنَّتْ: لما رأيتُ الدِّيَارَ قَدْ دَرَسَتْ ... أيْقنتُ أَن النَّعِيمَ لَمْ يَعُدِ قَالَ: فواللَّهِ مَا فرغتُ حَتَّى نظرت إِلَى دموع هَارُون عَلَى لحيته، ثُمّ قَالَ: انصرفي فَقَامَتْ من بَيْنَ يَدَيْهِ وَهِي تبْكي، فَقَالَ لي: يَا مسرور! الحقها بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَقل لَهَا: يَقُولُ لَك أَمِير الْمُؤْمِنِين: اصرفيها فِيمَا تحتاجين إِلَيْهِ، واجعليني فِي حلٍّ، فَقَالَت: يَا مسرور لَا حَاجَة لي فِيهَا، وَهُوَ فِي حلٍّ. مَا أحسن الحقَّ! حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ بعض أشياخه، عَنِ الْعَلاء بْن الْمنْهَال، قَالَ: أَتَى خاقانَ رجلٌ من غَنِيٍّ فِي وَفد أَتَوْهُ من الْعَرَب، وبوَجْهِ الرَّجُل ضربةٌ مُنكرَة، فَقَالَ لَهُ خاقانُ: أَيّ يوْم ضُربت هَذِهِ الضَّرْبَة؟ وَهُوَ يرى أَنَّهَا ضربةُ سَيْف، فَقَالَ الرَّجُل: ضَرَبَنِي فرسٌ لي، فَقَالَ خاقانُ: لَصِدْقُهُ أعجبُ لي مِمَّا ظننتُ، مَا أحسنَ الحقّ! فأضْعف لَهُ الْجَائِزَة. كَيفَ تولى أَبُو الأحْوَص ولَايَة مصر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن إِسْحَاق السّرّاج بنَيْسَابور، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُد بْن رُشَيْد، عَنِ الْهَيْثَم بْن عَدِيّ، قَالَ: وَجه المهديُّ أَمِير الْمُؤْمِنِين إِلَى أَبِي الأحْوَص فأُقْدِم عَلَيْه ليوليِّه مصر وأعمالها، قَالَ: فَلَمَّا حضر عرض عَلَيْه ذَلِكَ فَامْتنعَ مِنْهُ امتناعًا شَدِيدا، فاغتاظ من ذَلِكَ الْمهْدي فهم بِضَرْب عُنقه، وَكَانَ بِحَضْرَة الْمهْدي مُحَمَّد بْن دَاوُد جليس خير، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! تمهل عَلَيْه ثَلَاثَة أَيَّام، فَفعل وَأمره بالانصراف، فَلَمَّا خرج من عِنْده اشْتَدَّ غيظه وقَالَ: أما ترى إِلَى هَذَا الشَّيْخ، قَدْ لبس خُفًّا أحمرَ وخُفَّا أسود ليوهمَ أَنَّهُ مُضْطَرب الْعقل! فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد الجليسُ الصَّالح: لَا تقل ذَلِكَ، لَعَلَّ الشَّيْخ أُخْرِج إِلَيْهِ مَا يَلْبَسُه فِي الظلمَة فَلم يعلم، فسَكَنَ. وَمضى مُحَمَّد بْن دَاوُد إِلَى الشَّيْخ أَبِي الأحْوَص فألفاه متشكيًا يبكي، فَقَالَ لَهُ: مَا شَأْنُك؟ فَقَالَ: إنَّه خرج لي من الظلمَة خُفٌّ أَحْمَر وخُفٌّ أسود، فلبستها وَلَم أَعْلَم، فَلَمَّا خرجتُ من عِنْد أَمِير أَمِير الْمُؤْمِنِين جعل الصّبيان يصيحون وَيضْحَكُونَ، فَلَمَّا تبينتُ ذَلِكَ نزعتُ الْخُفَّيْنِ ومشيتُ حافيًا فلحقني وجعٌ عَظِيم فِي رجليَّ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن دَاوُد: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين وَقع لَهُ غَيْر هَذَا فثنَيْتهُ عَمَّا كَانَ وَقع لَهُ، فَإِذا حضرتَ عِنْده فإياك أَن تأبَى أَوْ تَمْتنع، فَمضى إِلَى الْمهْدي فعرَّفه ذَلِكَ فسكن غضبُه، وَاشْتَدَّ حرصه عَلَى تَقْلِيد أَبِي الأحْوَص. فَلَمَّا حضر بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْيَوْم الرَّابِع دَعَا بسفطٍ فَأخْرج مِنْهُ كتابا فِيهِ عَهْدُهُ على مصر وأعمالها، ثمَّ دفع إِلَيْهِ كتابا ثَانِيًا إِلَى صَاحب الشرطة يَأْمُرهُ بالحضور مَجْلِسه وَألا يخلِّيَه، ثُمّ دفع إِلَيْهِ كتابا ثَالِثا، فَقَالَ: هَذَا تَبْيِين ٌ برزقك عَلَى الْعَامِل، وَهُوَ ألف دِينَار فِي كُلّ شهر، وَمِائَتَا دِينَار للمائدة، ثُمّ دَعَا بسفطٍ آخر فَأخْرج مِنْهُ ثيابًا وطِيبًا فَدفعهُ إِلَيْهِ، وَأمر لَهُ بثلثمائة دِينَار للنَّفَقَة، ثُمّ قَالَ لَهُ: الرزق تَأْخُذهُ معجلا هنيًّا تستعينُ بِهِ، وللمائدة مِائَتَا دِينَار وكُلِ الطَّيِّبَ لتُقَوِّي بِهِ نَفسك، وَلا تَمِل إِلَى شيءٍ بتَّةَ، لِأَن نَفسك غنية بالرزق، وَهَذِه الثلثمائة دِينَار تستعين بهَا عَلَى نَفَقَة الطَّرِيق، فَلَا تعترضن من أحد شَيْئا فتستحش مِنْهُ، وَهَذِه الثِّيَاب وَالطّيب تكون مَعَك، فَإِن - وعائذ بِاللَّه تَعَالَى - حدَّث حَادث عَلَيْك كَانَ هَذَا مُعّدًّا، فَانْظُر لنَفسك وأعزَّها فقد أعززناك وأمدَدْناك، وفَّقَك اللَّه تَعَالَى للصَّوَاب. فَخرج أَبُو الأحْوَص إِلَى مصر فَحكم بهَا سِنِين كَثِيرَة فحَسُن أَثَره وحُمِدَ أمره. مَا لهَذَا حَسَنَة وَلا لَكِ سَيِّئَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْمُغِيرَة، عَنْ هَارُون، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْملك بْن عَبْد الْعَزِيز الْمَاجشون، قَالَ: كُنَّا نأتي الْمُغِيرَة بْن عَبْد الرَّحْمَن فَجَاءَهُ يَوْمًا مَوْلى لَهُ يُقَالُ لَهُ كُبَّة، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَة: يَا كُبَّة! بِاللَّه حَدَّثَنَا بعض مَا كَانَ فِي شبابك، فَقَالَ: نعم، دَخَلنَا مرّة بَيت مغنية أَنَا وَثَلَاثَة من مَزَّاحِي الْمَدِينَة، فغنت صَوتا، فَقَالَ لَهَا أحدهم: أسأَل اللَّه تَعَالَى أَلا يُنزل لي حَسَنَة إِلا كتبهَا لَك، ثُمّ غنت صَوتا آخر، فَقَالَ لَهَا الآخر مِنْهُم: بِأبي أَنْت، غَرَّك واللَّهِ، لَا واللَّه مَا لَهُ حَسَنَة، وَلَكِن أسأَل اللَّه تَعَالَى أَلا ينزل لَك سَيِّئَة إِلا كتبهَا عَليّ، ثُمّ غنت صَوتا آخر، فَقَالَ لَهَا الثَّالِث: غَرَّاك واللَّه، لَا واللَّه مَا لهَذَا حَسَنَة وَلا كرامةَ لَهُ، وَلا لَك سَيِّئَة، وَلَكِن أسألُ اللَّه تَعَالَى أَلا يخْرجك من الدُّنْيَا حَتَّى تريه أعمى يُقَاد.

ولو كان هو القاضي

قَالَ القَاضِي: قَدْ قَالَ جميل فِي نَحْو هَذَا: أَلا لَيْتني أعمى أصَمُّ تَقُودُني ... بثينةُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ كَلامُها وَلَو كَانَ هُوَ القَاضِي حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَحْمَد الدقيقي، قَالَ: حَدَّثَنَا سهل بْن عَلِيّ الدفتري، قَالَ: حَدَّثَنِي فروةُ بْن عَبْد اللَّه المَدِينيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد الرَّحْمَن بشر بْن آدم، قَالَ: سَأَلَ الأغضف مَالك بْن أَنَس عَنْ مَسْأَلَة فَأَجَابَهُ، ثُمّ سألهُ فَأَجَابَهُ، وقَالَ الأغضف: لَمْ قُلْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالك: يَا غُلام! خُذْ بِيَدِهِ فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى السجْن، فَلَمَّا وَلَّى بِهِ الغلامُ قَالَ لَهُ الأغضفُ: إِنِّي قَاضِي أَمِير الْمُؤْمِنِين! قَالَ: ذَاك أَهْون لَك عَليّ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْد اللَّه لَا أَعُود، قَالَ: خَلِّ سبيلَه. المجلِسُ الخامِس والأربعُونْ لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت لضُرٍّ نزل بِهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عُثْمَانَ الْبَزَّازُ، أَخُو الزُّبَيْرِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكُم الْمَوْت لضُرٍّ نزل بِهِ إِمَّا مسيءٌ فَيُسْتَعْتَبُ، وَإِمَّا محسنٌ فَيَزْدَادُ ". وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرّبيع بن صبيح، قَالَ: أخبرنل حَبِيبُ بْنُ فَضَالَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَكَأَنَّهُ تَمَنَّاهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَكَيْفَ تَمَنَّى الْمَوْت بعض قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ لَا بَارًّا وَلا فَاجِرًا، أَمَّا بارٌ فَيَزْدَادُ، وَأَمَّا فَاجر فيستعيب "، قَالَ: وَكَيْفَ لَا أَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ تُدْرِكَنِي فِتْنَةُ الدَّهْمَاءِ، وَبَيْعُ الْحُكْمِ، وَتَقَاطُعُ الأَرْحَامِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ، ونشءٌ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ ". قَالَ القَاضِي: قَدْ وَرَدَ هَذَا الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِمَا بُيِّنَ فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى، وَجَاءَ فِي مَعْنَاهُ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ أَخْبَارٌ مِنْهَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْت لضلر نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أحدٌ إِلا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ بَرٍّ وَلا فَاجِرٍ، إِنْ كَانَ بَرًّا فقد قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: " وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خيرٌ لِلأَبْرَارِ " وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمًا ". قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الْخَبَرُ عَنِ ابْن عَبَّاس خَارج عَلَى معنى يواطىء مَا قَالَه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قدمنَا رِوَايَته، وَلا يُنَافِيهِ إِذا حُمل عَلَى الْوَجْه الصَّحِيح فِي الْمَعْنى. ذَلِكَ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَنْ تمني الْمَوْت عِنْد الضَّرَر ونزوله، وَوَقع الْبلَاء وحلوله، وأرشد إِلَى اسْتِقْبَال التَّوْبَة من الْإِسَاءَة والوزر، والازدياد من فعل الْخَيْر وأعمال الْبر، وَأَن

يَسْتَعتبَ المرءُ من فَرَطَاته، ويستكثر من طاعاته، فَأَما إِذا توفاه اللَّه جلّ جَلَاله من غَيْر تمن مِنْهُ للْمَوْت، وَهُوَ عَلَى غَيْر علم مِنْهُ بِحَالهِ فِيهِ، وَلا مُتَيَقن أَن إماتته خير لَهُ من تبقيه، فَإِن حَاله فِي هَذَا مُخَالفَة للمعنى الآخر الَّذِي قدمنَا بَيَانه، وَلكُل وجهٍ من هذَيْن المعنين حكمٌ جارٍ عَلَى طَرِيقَته، ومختصٌّ بحقيقته، وَقَدْ كَانَ أَعْلَام السّلف الأخيار، وصلحاؤهم الْأَبْرَار، يرغبون إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي الشَّهَادَة فِي سَبيله ويحرصون عَلَيْهَا ويتعرضون لَهَا ويأْسَوْن عَلَى فَوتهَا، ويغبطون من رُزِقَها، وأكرمُ بهَا لظُهُور فَضلهَا وَشرف أَهلهَا، وَهَذَا يُوَضِّح عَنْ إِجْرَاء كُلّ جِهَة من هَذِهِ الْجِهَات عَلَى حكمهَا، وإنزالها منزلتها، وَأَنا مَا ذكره أَبُو هُرَيْرَةَ من فِتْنَةُ الدَّهْمَاءِ وَبَيْعُ الْحُكْمِ وَتَقَاطُعُ الأَرْحَامِ وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ ونشءٍ يَتَّخِذُونَ الْقُرْآن مَزَامِير، فقد رَأينَا جُمَيْع مَا تخوفه، وأدركنا مَا خَافَ أَن يُدْرِكهُ، فَإلَى اللَّه عَزَّ وَجَلّ نجأر بالشكوى، وإياه نستعين عَلَى كُلّ بلوى. فَأَما قَوْله: فتْنَة الدَّهْماء، فَإنَّهُ أضَاف الْفِتْنَة إِلَى الدهماء، وللنحويين فِي هَذَا مذهبان: مِنْهُم من يَجْعَل الْفِتْنَة مُضَافَة إِلَى الدهماء ويجيز إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه ويُجري هَذَا فِي أشيئاء كَثِيرَة: لَحَقُّ الْيَقِين، ودَارُ الْآخِرَة، ةمسجد الْجَامِع، وَصَلَاة وَالْأولَى. وَكثير من محقِّقيهم ينكرُ هَذَا الْمَذْهَب، وَيُخَالف هَؤُلاءِ فِي تَأْوِيل هَذِه الْكَلِمَات، وَمَا أَتَى من نظائرها، ويحملُ حقَّ الْيَقِين عَلَى معنى حق الْعلم الْيَقِين، وَالْأَمر الْيَقِين عَلَى إِقَامَة الصّفة مقَام الْمَوْصُوف، وَيَقُولُ: معنى دَار الْآخِرَة أَيّ دَار الْمنزلَة الْآخِرَة أَو النشأة والمذمة، وَمعنى مَسْجِد الْجَامِع: الْوَقْت الْجَامِع، أَو الفَرْضُ الْجَامِع، وَصَلَاة الأولى صَلَاة الْمَكْتُوبَة الأولى، وَنَحْو هَذَا الْوَجْه من التَّأْوِيل الصَّحِيح فِي الْمَعْنى الْجَارِي عَلَى الْقيَاس. فَأَما الدهماء فِي هَذَا الْخَبَر فَفِيهِ وَجْهَان فِي التَّأْوِيل، أَحَدهمَا صفة الْفِتْنَة أَوْ مَا أضيفت إِلَيْهِ بالدهمة والسواد والظلمة، وَقَدْ قَالَ عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك فِي خبرٍ ضُمِّنَ شعرًا لَهُ: فَنَحْنُ فِي فتنةٍ عَشْوَاءَ مظلمةٍ ... نستغفرُ اللَّهَ من أهوالِ مَا فِيهَا وَالْوَجْه الآخر: غشيان الْفِتْنَة وهجومها وتراكمها وعُمومها، من قَوْلهم دهمت القومَ الْخَيل تدهمهم. وَقَوله: نشءٌ يتخذون الْقَوْم مَزَامِير، فَإنَّهُ عَنَى بِهِ من حَدَثَ ونَشَأ من الأشرار بعد من مَضَى من البررة الأخيار، قَالَ نُصَيْب: وَلَوْلَا أَن يقالَ صَبَا نصيبٌ ... لقُلْتُ: بِنَفْسِي النَّشْءُ الصِّغَارُ وَهَؤُلَاء الَّذِين عنوا بِهَذَا الْخَبَر هُمُ الَّذِين يرددون الْقُرْآن لبطونهم بالألحان غَيْر خاشعين وَلا مُتَّعِظِين وَلا مُعْتبرين وَلا مُتَفهّمين، وَأمر هَذَا النشءِ فِي زَمَاننَا فاشٍ، فهم من أشدِّ النّاس فتْنَة، وأعظمهم عَلَى أَهْل الدّين بلية، فقد جعلُوا اجتماعَهم عَلَى تِلَاوَة الْقُرْآن بمنكر الألحان، وَمَزَامِير الشَّيْطَان، وعَلى تُهَم القَيان وملاهيهم من المعازف والعيدان، وَالزِّيَادَة

الأذان بالألحان

فِي كتاب اللَّه تَعَالَى مَا لَيْسَ مِنْهُ بالإِيقاع والأوزان، وَحصل خَواص أَهْل الْعلم وَالْإِيمَان بِمَنْزِلَة إقصاء وهوان، وَمن عداهم من حَلِيف فتْنَة وأسير قينة، وَأكْثر من ترَاهُ فِي وقتنا مِمَّنْ أومىء إِلَيْهِ، إِمَّا واهي العزيمةِ ضعيفُ الْعقْدَة، قَدْ تأوَّل الْمُحكم غَيْر تَأْوِيله، وتشبَّثَ بجملةِ الْمُتَشَابه لعَجزه عَنْ معرفَة تَفْصِيله، وَإِمَّا ماجنٌ خليعٌ أَوْ مغرورٌ مخدوعٌ قَد استفزَّه الغَارُّ لَهُ بجرأته وجسارته، واستنزله الماكرُ بِهِ فورَّطه فِي خسارته، فأوهمه أَن الَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَحمله عَلَيْه، من أَعمال الْبر، والْقُرَبِ الكابسة لِلْأجرِ، وَأَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى هَذَا بِمَا ذكره من التَّغَنِّي بِالْقُرْآنِ، وتحسين التِّلَاوَة بالترنم والألحان، وَالَّذِي عناه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندنَا، قراءَةَ الْقُرْآن بالتحسين والخشوع وتحقيقه وترتيله، وتبيينه وتفصيله، وتحسين الصَّوْت بِهِ من غَيْر إِحْدَاث زِيَادَة فِي أضعافه بالزَّمزمة والنَّقَرات، والهَمْهَمة والنَّبَزَات. الْأَذَان بالألحان حَدثنَا المظفر بن يحيى ابْن الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن يَعْنِي ابْنَ عَبْد الْعَزِيز الهَرَويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِث بْن مِسْكين، عَنِ ابْن وَهْب، أَوْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم، عَنْ مَالك، أَنَّهُ قَالَ: لَهَمَمتُ أَوْ أردتُ أَن أُكَلِّم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الْأَذَان بألأحان أَن يَمْنَعَ من ذَلِكَ، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " فَمَاذَا بَعْدَ الْحق إِلَّا الضلال " أَفَمَن الْحق أَن يُؤذن بألحان. وَالْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يطول ويتسع، واستقصاؤه يتَعَذَّر وَيمْتَنع، وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب ولشيخنا أَبِي جَعْفَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَلَام كثير مرسوم فِي موَاضعه، من كتبنَا، وَقَدْ رسمنا من ذَلِكَ صَدرا صَالحا فِي كتَابنَا الْمُسَمّى " بتذكير العاقلين وتحذير الغافلين " فَمنْ أحبَّ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَينْظر فِيهِ، فَفِيهِ بَيَان وَفَائِدَة لمن نصح نَفسه وَنظر لدينِهِ، بِمَشِيئَة اللَّه وعونه. عَبْد الْملك يتوسم الْخلَافَة بِأُمُور فِي نَفسه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ الْعُتْبِي، عَنْ أَبِي عُبَيْدة، عَنْ عمَارَة الْعُقَيْليّ، أَوْ غَيْر رَجُل عَنْ عمَارَة، قَالَ: كُنَّا نجلس عِنْد الْكَعْبَة وَعبد الْملك بْن مَرْوَان يجالسنا من رَجُل عذب اللِّسَان لَا يَمَلُّ جليسُه حديثَه، فَقَالَ لي ذَات يوْم: يَا أَبَا إِسْحَاق! إِنَّك إِن عِشْت فسترى الْأَعْنَاق إليّ مادَّة، والآمال إِلَى سامية. ثُمّ قَامَ فَنَهَضَ من عندنَا، فَأَقْبَلت عَلَى جلسائي فَقلت: أَلا تعْجبُونَ من هَذَا الْقُرَشِيّ! يذهب بِنَفسِهِ إِلَى معالي الْأُمُور، وَإِلَى أَشْيَاء لَعَلَّه لَا ينالها، قَالَ: فَلَا واللَّهِ مَا ذَهَبَت الأيامُ حَتَّى قِيلَ لي: إنَّه قَدْ أفضيت إِلَيْهِ الْخلَافَة، فذكرتُ قَوْله، فتحمَّلتُ إِلَيْهِ فوافيت دمشق يَوْم الْجُمُعَة، فَدخلت الْمَقْصُورَة فَإِذا أَنَا بِهِ وَقَدْ خرج عَليّ من الخضراء، فَصَعدَ الْمِنْبَر فَحَمدَ الله جلّ وَعز وَأثْنى عَلَيْه، فَبَيْنَمَا هُوَ يخْطب إِذْ نظر إليّ ثُمّ أعرض عني، فساءني ذَلِكَ، وَنزل فصلَّى بِنَا وَدخل الخضراء.

متى تكون الشركة في الهدية

فَمَا جَلَست إِلَّا هنيهة حَتَّى خرج غُلَامه قَائِلا: أَيْنَ عمَارَة الْعُقَيْليّ؟ قُلْتُ: هأنذا، قَالَ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِين فَدخلت إِلَيْهِ فَسلمت عَلَيْه بالخلافة فَقَالَ لي: أَهلا وسهلاً، وناقةً ورحلاً، كَيفَ بَعْدِي كُنْت؟ وَكَيف كُنْت فِي سفرك؟ وَكَيف من خلقت؟ لَعَلَّك أنْكرت إعراضي عَنْك فَإِن ذَلِكَ مَوضِع لَا يَحْتمل إِلا مَا صنعت، يَا غُلَام! بوىء لَهُ بَيْتا معي فِي الدَّار، فأنزلني بَيْتا فَكنت آكل مَعَه وأسامره حَتَّى مَضَت لي عشرُون يَوْمًا، فَقَالَ لي: يَا أَبَا إِسْحَاق! قَدْ أمرنَا لَك بِعشْرين ألف دِينَار وأمرنا لَك بحُمْلان وَكِسْوَة فلعلك قَدْ أَحْبَبْت الْإِلْمَام بأهلك ثُمّ الْإِذْن فِي ذَلِكَ إِلَيْنَا، أَترَانِي حققت أملك يَا أَبَا إِسْحَاق؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَإِنَّكَ لذاكر لذَلِك؟!، قَالَ: إِي واللَّه، وَإِن تَمَادى بِهِ عهد، قُلْتُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! أَكَانَ عنْدك عهدٌ مَا قُلْتُ لي، أم مَاذَا؟ قَالَ: بِثَلَاث اجْتَمعْنَ فيِّ، مِنْهَا إنصافي جليسي فِي مجلسي، وَمِنْهَا أنِّي مَا خُيِّرتُ بَيْنَ أَمريْن قطّ إِلا اخترتُ أيْسَرَهُما، وَمِنْهَا: قِلَّةُ المراء. مَتَى تكون الشّركَة فِي الْهَدِيَّة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الدِّيبَاجِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْيُوسُفِيُّ. أَنَّ أُمَّ جَعْفَرٍ كَتَبَتْ إِلَى أَبِي يُوسُفَ: مَا تَرَى فِي كَذَا، وَأَحَبُّ الأَشْيَاءِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِيهِ كَذَا، فَأَفْتَاهَا بِمَا أَحَبَّتْ. فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ بِحَق فضَّة فِيهِ حقائق فِضَّةٍ مطبقاتٌ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ لَوْنٌ مِنَ الطِّيبِ، وَفِي جَامٍ دَرَاهِمُ وَسَطُهُ جامٌ فِيهِ دَنَانِيرُ، فَقَالَ لَهُ جليسٌ لَهُ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ هديةٌ فَجُلَسَاؤُهُ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا "، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ذَاكَ حِينَ كَانَتْ هَدَايَا النَّاس التَّمْر وَاللَّبن. شماتةالأعداء فِي الْعَزْل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن المزربان، قَالَ: حَدثنَا أَبُو يَعْقُوب النخبي، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن بشار، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: قِيلَ لِشَرِيك لما قلِّدَ القَضَاءَ: ليتك خَلَصت من هَذَا الأمرُ وَلَو بِالْمَوْتِ، فَقَالَ: أما بِالْمَوْتِ فَلَا، وَلَكِن بعورٍ أَوْ شَلَل. فَلَمَّا تَعَصَّبتْ عَلَيْه الْقَبَائِل وعُزِل عَنِ الْقَضَاء جعل يسْعَى فِي أَن يُرَدّ، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُل: ليتك أُعِدْتَ إِلَى الْحَكَم وَلَو بعورٍ أَوْ شَلَل، إِنَّك لتمنّى ذَلِكَ، فَقَالَ: نعم يَا ابْن أخي، وشماتة الْأَعْدَاء شَدِيدَة. قَالَ القَاضِي: نَظِير هَذَا قَول عُمَر لعمَّار: سَاءَكَ إِذْ عزلتك؟ فَقَالَ: واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين لقَدْ سَاءَنِي أَن وَلَّيْتَني، وَلَقَد سَاءَنِي أَن عزلتني. مَعْبَدٌ يتحدَّى الْغَرِيض حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن بشر المرثدي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله

من صفة الغريض

الطلحي، قَالَ: أَخْبرنِي أَحْمد بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، عَمَّن حدّثه، قَالَ: خرج معبدٌ - وَهُوَ يَوْمئِذٍ أحسن أَهْل الْمَدِينَة غناء - إِلَى مَكَّة يتحدَّى الغَرِيض، فَسَأَلَ عَنْ منزله فَدُلَّ عَلَيْه، فَأَتَاهُ فقرع الْبَاب فَقَالَت الْجَارِيَة: من هَذَا؟ فَقَالَ: قولي لأبي فُلان، هَذَا رجلٌ من أَهْل الْمَدِينَة من إخوانك، فَقَالَ: افتحي لَهُ، فَدخل فحياه وَسَأَلَهُ عَنْ حَاجته، فَقَالَ: أَنَا رجلٌ من أَهْل صناعتك، وَقَدْ أَحْبَبْت أَن أسمع مِنْك وأُسْمِعَك، فَقَالَ هَات على اسْم الله تَعَالَى، فغناه معبد، فَقَالَ: أَحْسَنت وَالله يَا أخي، حَتَّى انْتهى، ثمَّ انْدفع هُوَ يُغني، فَسمع معبد شَيْئا لم يسمع بِمثلِهِ قطّ، فَقَالَ لَهُ: أَنْت أحسن النَّاس غناء، فَقَالَ لَهُ: كَيفَ لَو سَمِعْتُ عجوزًا لنا فِي سَفْحِ أَبِي قُبَيْس، يَعْنِي ابْن سُرَيْج، فَقَالَ: كَيفَ لي - جعلت فدَاك - بِأَن أسمعهُ مِنْهُ؟ قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَيْهِ، قَالَ: فنهضنا حَتَّى أَتَيْنَا بَاب ابْن سُرَيْج فقرعه الْغَرِيض فعرفته الْجَارِيَة، فَقَالَت: ادخل فدخلا جَمِيعًا فَإِذا ابْن سُرَيْج نَائِم الصُّبحة، وَإِذَا عَلَيْه قرقرة أصفر. قَالَ القَاضِي: كَذَا قَالَ ابْن الشرابي، وَهَكَذَا رَأَيْته فِي أصل كِتَابه وَالصَّوَاب قرقل فِي قَول الْجُمْهُور، وَإِن كَانَ بَعضهم قَدْ رد هَذَا وصواب قَوْلهم قرقر، وَقَدْ خضب يَدَيْهِ وزراعيه إِلَى مرفقيه، فَقَالَ لَهُ الْغَرِيض: جعلت فدَاك، هَذَا رَجُل من إخوانك من أَهْل الْمَدِينَة يتَغَنَّى، وَقد أحب أَن يسمعك غناهُ وَيسمع مِنْك، قَالَ: هَات، فغناه مَعْبَد فَقَالَ لَهُ ابْن سُرَيْج: أَحْسَنت واللَّه ثمَّ استل ابْن سُرَيج دفاً مُربَّعًا وتغني: نظرتْ عَيْني فَلَا نَظَرَتْ ... بَعْدَه عَيْني إِلَى أحدٍ قَالَ مَعْبَد: فَسمِعت شَيْئا مَا سَمِعْتُ مثله قطّ، وَلا ظَنَنْت يَكُون، فأخذتُ أَئْتَمَّ بِهِ واخْتَلف إِلَيْهِ. من صفة الْغَرِيض وَحَدَّثَنَا المظفَّر، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد المرثدي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، قَالَ: وَأَخْبرنِي أَحْمَد، قَالَ: كَانَ الْغَرِيض مخنثًا وَكَانَ جميلا لَهُ شَعْر، وَكَانَ مَوْلَى الثُّرَيَّا بِنْت عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن أُمَيَّة الْأَصْغَر، وَكَانَ يتعلّم من ابْن سُرَيْج. من نَوَادِر طويس وَحدثنَا المظفر، قالك أَخْبَرَنِي أَحْمَد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: وخبرني أَحْمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: مر طُوَيْسٌ وَكَانَ مخنثًا أحسنَ الناسِ غناءٍ، وَمَعَهُ جمَاعَة من المخنثين، فَمر بنهر حمام يَكُون ذِرَاعا، فَرفع ثِيَابه ووضعها تَحت إبطه اعتزاءً وتجلُّدًا، ثُمّ قَالَ: أَنَا زَيْد الْخَيل، أَنَا عَامر بْن الطُّفَيْل، أَنَا دُرَيد بْن الصِّمة، ثُمّ قفز قفزة فَإِذا هُوَ مستنقعٌ فِي النَّهر، وَصَاح المخنَّثُون الغريقَ الغريقَ. من مخارج أَبِي يُوسُف حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن أَبُو شبيب،

سبب شدة المنصور على مخالفيه

قَالَ: حَدَّثَنَا عليّ بْن الْجَعْد، قَالَ: أرسل أميرُ الْمُؤْمِنِين الرشيدُ إِلَى قَاضِي الْقُضَاة أَبُو يُوسُف، فِي ساعةٍ لَمْ يَكُنْ يُرسل إِلَيْهِ فِي مثلهَا، قَالَ أَبُو يُوسُف: فتحنَّطْتُ وتكفَّنْتُ ولبست فَوق ذَلِكَ ثِيَابِي، وَدخلت عَليّ أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَأَلْفَيْته جَالِسا عَلَى طرف الْمُصَلَّى، وَإِذَا بَيْنَ يَدَيْهِ سيف مَسْلُول، فسلَّمْتُ فَرد عَليّ السَّلام وأدناني، فشم مني رَائِحَة الحنوط، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَة فَأَخْبَرته الْخَبَر فَاسْتَرْجع، ثُمّ أَمر بِذَلِك فنُزِعَ عَنِّي، وَجَاءَنِي بِثِيَاب فلبستُها، ثُمّ قَالَ لي: تَدْرِي من خَلْفَ هَذَا السّتْر؟ قُلْتُ: لَا، يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: إِن خَلفه أعز خلق اللَّه تَعَالَى عَليّ، قَالَ: فَظَنَنْت أَنَّهَا الخيزران، ثُمّ قَالَ: إِنِّي أودعتها عقودًا لَهَا مِقْدَار، وجوهرًا لَهُ خَطَر، وإنِّي فقدتُ مِنْهَا عِقدًا، فحلفتُ بأيمان البَيْعةِ وأكَّدْتُها عَلَى نَفسِي أَنَّهَا تَصْدُقُنِي عَنْ خَبَره، فَإِن لَمْ تصدقني ضَربْتُها بسيفي هَذَا حَتَّى أُبَضِّعَها قطعا، قَالَ أَبُو يُوسُف: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! قَدْ أخرجك اللَّه تَعَالَى من يَمِينك، فَمر بِالسَّيْفِ يُرَدُّ إِلَى غِمْده، فَأمر بِهِ فَرُدَّ إِلَى غِمده، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! سَلْها وعَرِّفْها يَمِينك، فَسَأَلَهَا وغَلَّظَ عَلَيْهَا الْأَمر، قَالَ: قُلْ لَها: لَا تُجِيبُك حَتَّى أقولَ لَهَا، ثُمّ قَالَ لَهَا أَبُو يُوسُف: أمسكي، ثُمّ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! فسلها ثَانِيَة، فَسَأَلَهَا وغَلَّظَ عَلَيْهَا مَا حلف بِهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو يُوسُف: قولي إِنِّي لَمْ آخذه، فَقَالَت: لَمْ آخذه. ثمَّ الْتفت إليّ أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ: قَدْ صَدَقَتْك فِي أحد الْقَوْلَيْنِ إِن كَانَتْ أخذتُه فقد صدقَتْ، وَإِن كَانَتْ لَمْ تَأْخُذهُ فقد صدقَتْك. فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، وقاما وخرجا من الْبَيْت الَّذِي كَانَا فِيهِ إِلَى خِزانة، فَأمر بهَا فَفُتِحَتْ وأُخرج إِلَيْهِ أسفاطٌ فَأمر بهَا فحُلتْ، فَإِذا فِيهَا جَوْهَر لَهُ خَطَر، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! مَا رَأَيْتُ أحسن من هَذَا، فَإِن رَأَيْت أَن تهبه لي؟ فَقَالَ: لَا واللَّه مَا نَفسِي بِذَلِك طَيِّبة، فَقَالَ: فهبه لأم جَعْفَر، فَقَالَ: لَا واللَّهِ، وَلا نَفْسِي بِهِ طَيِّبة، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! فَإِن لَمْ تفعل لَا هَذَا وَلا ذَا فتُعْلِمْ أمَّ جعفرٍ أَنِّي سأَلْتُك أَن تهب لَهَا هَذِهِ الْعُقُود فأبيت، قَالَ: أما ذَا فَنَعَم، فَأعْلم أم جعفرٍ بِذَاكَ فأنفذَتْ إِلَى أَبِي يُوسُف بِمِائَة ألف دِرْهَم. سَبَب شدَّة المَنْصُور عَلَى مخالفيه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْد الصَّمد بْن عَلِيّ للمنصور: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! لقَدْ هجمت بالعقوبة حَتَّى كَأَنَّك لَمْ تسمع بِالْعَفو، فَقَالَ: لأنَّ بني مَرْوَان لَمْ تَبْلَ رِمَمُهُم، وآلَ أَبِي طَالِب لَمْ تُغْمَدْ سُيُوفُهُم، وَنحن بَيْنَ قومٍ قَدْ رَأَوْنَا أمسِ سُوقَةً وَالْيَوْم خُلَفاءَ، فَلَيْس تتمهَّد هيبتُنا فِي صُدُورهم إِلا بنسيان العَفْو وَاسْتِعْمَال الْعقُوبَة، وَلَو لَمْ أفعل هَذَا لاحتجنا إِلَى مَا هُوَ أعظم مِنْهُ. من مُرُوءَة الْحَسَن الْبَصْرِيّ حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص

المجلس السادس والأربعون

النَّسائيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْن كثير، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن كثير بْن مَخْلَد بْن الْحُسَيْن، عَنْ هِشَام بْن حَسَّان، قَالَ: كَانَ الْحَسَن إِذا اشْترى لَهُ شَيْء بِكَذَا وَكَذَا وَنصف أتمه بِهِ، فَبَاعَ الْحَسَنُ بَغْلا لَهُ بِأَرْبَع مائَة دِرْهَم، فَقِيل لصَاحبه، لَو أَتَيْته فاستَحْطَطْتُه من ثمنه شَيْئا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيد! إِن رَأَيْت أَن تُخَفِّف عني من ثمن الْبَغْل! فَقَالَ لَهُ: خَمْسُونَ درهما أرضيت؟ قَالَ: نعم، يَا أَبَا سَعِيد، قَالَ: فلك خَمْسُونَ أُخْرَى أرضيت؟ قَالَ: نعم، رَضِيَ اللَّه عَنْك، قَالَ: فَلَمَّا أدبر الرَّجُل قَالَ: هَلُمَّ فَإنَّهُ بَلغنِي أَن من الْإِحْسَان أَن يَضَعَ الرَّجُل نصف حَقِّه، اذْهَبْ فلك مِائَتَان. المجلِسُ السَادِس وَالأربَعُونْ قصَّة مقتل أُمَيَّة بْن خَلَف حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن الْقَاسِم الأنباي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كُنْتُ أُعْرَفُ بِعَبْدِ عَمْرٍو فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا كَانَ يوْمُ بَدْرٍ سَلَبْتُ أَرْبَعَة ادرعٍ مِنْ دُرُوعِ الْمُشْرِكِينَ وَأَقْبَلْتُ بِهِنَّ، فَمَرَّ بِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَابْنُهُ عَلَيٌّ، فَنَادَانِي أُمَيَّةُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو! فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! قُلْتُ: وَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: أَنَا وَابْنِي خيرٌ لَك من هَذِه الأدرع، فَأَلْقَيْتُهُنَّ وَأَقْبَلْتُ بِهِمَا، فَبَصُرَ بِهِمَا بِلالٌ فَأَقْبَلَ بِسَيْفِهِ، وَقَالَ: أُمَيَّةُ رَأْسُ الْكُفْرِ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَنِي مِنْكَ، فَقُلْتُ: يَا بِلالُ! كَانَت معي وَالله أَرْبَعَة أدرع وَأَلْقَيْتُهُنَّ وَاعْتَمَدْتُ عَلَى هَذَيْنِ، فَلا تَفْجَعْنِي بِهِمَا. فَأَقْبَلَ يُرِيدُهُمَا فَقُلْتُ: تَنَح يَا ابْن السَّوْدَاءِ، وَقَامَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ! أُمَيَّةُ رَأْسُ الْكُفْرِ وَابْنُهُ، فَأَقْبَلُوا بِالسُّيُوفِ إِلَيْهِمَا، فَمَا مَلَّكُونِي مِنْ أَمْرِهِمَا شَيْئًا، فَضُرِبَ عَلَيَّ ضَرْبَةً فَطَنَّتْ سَاقَهُ، فَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، ثُمَّ حَمَلُوا فَذَفَّفُوا عَلَيْهِمَا. فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ بِلالا، فَجَعَنِي بِأَسِيرَيَّ وَذَهَبَتْ أَدْرَاعِي. مَعْنَى ذَفَّفُوا: أَجْهَزُوا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ أَبِي: قَالَ الْعَبَّاسُ: فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ابْنَ عَائِشَةَ، فَقَالَ لِي: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ شَاعِرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَدَحَ بِلالا لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَنِيئًا زَادَكَ الرَّحْمَنُ خَيْرًا ... فَقَدْ أَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ يَا بِلالُ فَمَا نِكْسًا وُجِدْتَ وَلا جَبَانًا ... غَدَاةَ تَنُوشُكَ الأَسَلُ الطِّوَالُ معنى التناوش مهموزاً وغير مَهْمُوز قَالَ القَاضِي: معنى تنوشك: تناولك، وَهُوَ من المناوشة، وَقيل: إِن التناوش: التَّنَاوُل من قريب بِغَيْر همز، والتناؤش بِالْهَمْز: التَّنَاوُل من بعيد، قَالَ الراجز: فَهِيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عَلا ... نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الفَلا

الوليد يتوله بجارية نصرانية

فَهَذَا غَيْر مَهْمُوز، وقَالَ نَهْشَلُ بن حري فِي الْهَمْز: تمنى نَئيشًا أَن يَكُون أَطَاعَنِي ... وَقَدْ حَدَثَتْ بعد الأُمُورِ أُمُورُ وَقَدْ قَرَأت القرأة: " وأنى لَهُم التناؤش " بِالْهَمْز وَتَركه، وَنسب الصلولي شَيخنَا أَبَا جَعْفَر رحِمَه اللَّه إِلَى التَّصْحِيف فِي بَيت نَهْشَل، وَذكر أَنه رَوَاهُ تمنى حبيشٌ، وَجَرت بَيْننَا وَبَينه فِي هَذَا مُخَاطبَة قمعته بِحَضْرَة جمَاعَة مِنْهُم أولو علم وَمَعْرِفَة، وَلنَا فِي هَذَا رِسَالَة أوضحنا فِيهَا سُقُوط مَا أوردهُ الصولي وَحَكَاهُ، وضمناها من خطأ الصولي وَتَصْحِيفه وتعاطيه مَا لَا يُحسنهُ فِي مَوَاضِع من تأليفه، وَمن نَظَر فِي ذَلِكَ أشرف مِنْهُ عَلَى علم مُسْتَفَاد، وَبَيَان مستجاد، إِن شَاءَ اللَّه. الْوَلِيد يتوله بِجَارِيَة نَصْرَانِيَّة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعُتْبِي، قَالَ: كَانَ الْوَلِيد بْن يَزِيد نظر إِلَى جَارِيَة نَصْرَانِيَّة من أهيأ النّاس يُقَالُ لَهَا سفرى، فجُنَّ بهَا وَجَعَل يراسلها وتأبى عَلَيْه، حَتَّى بلغه أَن عيدًا لِلنَّصَارَى قَدْ قرب، وَأَنَّهَا ستخرج فِيهِ وَكَانَ مَوضِع الْعِيد بستانٌ حَسَن، وَكَانَ النساءُ يَدْخُلْنه، فصانع الْوَلِيد صاحبَ الْبُسْتَان أَن يُدخله فَينْظر إِلَيْهَا فَتَابَعَهُ، وَحضر الْوَلِيد وَقَدْ تقشَّف وَغير حِلْيَته، ودخلتْ سَفْرى الْبُسْتَان فَجعلت تمشي حَتَّى انْتَهَت إِلَيْهِ، فَقَالَت لصَاحب الْبُسْتَان: من هَذَا؟ قَالَ لَهَا: رجلٌ مصابٌ، فَجعلت تمازحه وتضاحكه حَتَّى اشتفى من النّظر إِلَيْهَا وَمن حَدِيثهَا، فَقِيل لَهَا: وَيلك! تدرين من ذَلِكَ الرَّجُل؟ قَالَتْ: لَا، فَقِيل لَهَا: الْوَلِيد بْن يَزِيد فَإِنَّمَا تقشف حَتَّى ينظر إِلَيْك، فجُنَّتْ بِهِ بعد ذَلِكَ، وَكَانَت عَلَيْه أحرص مِنْهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْوَلِيد فِي ذَلِكَ: أَضْحَى فُؤَادُكَ يَا وليدُ عَمِيدَا ... صَبًّا قَدِيما للحسانِ صَيُودا من حُبِّ واضحةِ العَوَارِضِ طفلةٍ ... برزت لنا نَحْو الْكَنِيسَة عيدا مَا زلت أرمُقها بعينْي وامِق ... حَتَّى بَصُرْتُ بهَا تقبِّلُ عُودا عودَ الصَّلِيب فَوَيْح نفسِي من رَأَى ... مِنْكُم صَلِيبًا مِثله مَعْبُودا فسألتُ رَبِّي أَن أكونَ مكانَهُ ... وأكون فِي لَهب الْجَحِيم وقودا قَالَ القَاضِي: لَمْ يَبْلُغْ مُدْرِكُ الشَّيْبَانِيّ هَذَا الْحَد من الخلاعة فِيمَا قَالَ فِي عَمْرو النَّصْرانُّي: يَا لَيْتَني كنتُ لَهُ صَلِيبَا ... وكنتُ مِنْهُ أبَدًا قَرِيبا أَبْصِرُ حُسْنًا وأشُمُّ طيبا ... لَا واشِيًا أخْشَى وَلا رَقِيبا فَلَمَّا ظهر أمره وَعلمه النّاس، قَالَ: أَلا حَبَّذَا سَفْرِي وَإِن قِيلَ إِنَّنِي ... كَلِفْتُ بنصرانيةٍ تَشْرَبُ الخمرا

حكم الوادي يضطرب أمام الوليد

يهونُ عَلَينَا أَن نَظَلَّ نهَارَنا ... إِلَى اللَّيْل لَا أُولَى نُصَلِّي وَلا عَصْرا وللوليد فِي هَذَا النَّحْو من الخلاعة والمجون وسخافة الدّين مَا يطول ذكره، وَقَدْ ناقضناه فِي أَشْيَاء من منظوم شعره والمتضمن رَكِيك ضلاله وكفره، وَمَا لَعَلَّنَا نُورده فِيمَا نستقبله من مجَالِس فِي كتَابنَا هَذَا. حكم الْوَادي يضطرب أَمَام الْوَلِيد حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يحيى بن أَحْمد الْمَعْرُوف بَان الشرابي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المرثدي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الثَّلْجِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ حَكَم الْوَادي، قَالَ: قَالَ الْوَلِيد بْن يَزِيد بْن عَبْد الْملك لجلسائه من المغنيين: إِنِّي لأشتهي غناء أطول من أهزاجكم وأقصر من الْغناء الطَّوِيل، قَالُوا جَمِيعًا: قَدْ أصبته يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، بِالْمَدِينَةِ رَجُل يُقَالُ لَهُ: مَالك بْن أَبِي السَّمْح الطَّائِي حَلِيف لقريش وَهَذَا غناؤه، وَهُوَ أحسن النّاس خلقا وَأَحْسَنهمْ حَدِيثا، قَالَ: أرْسلُوا إِلَيْهِ، فَأرْسل إِلَيْهِ فشخص حَتَّى وافاه بِالشَّام بِدِمَشْق. قَالَ: فَلَمَّا دَخَلنَا فِي وَقت النَّبِيذ دخل مَعنا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: غَنِّه، فَانْدفع يضْرب فَلم يطاوعه حلقه وَلَم يصنع قَلِيلا وَلا كثيرا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: قُم فَاخْرُج. قَالَ: وَأَقْبل علينا يعنفنا، وَيَقُولُ: مَا تزالون تُغْرُوني بِالرجلِ وتزعمون أَن عِنْده بعض مَا أشتهيه حَتَّى أُدْخِلَه وأُطْلِعَه عَلَى مَا لَمْ أكن أُحِبَّ أَن يَطَّلِع عَلَيْه أحد، ثُمّ لَا أجد عِنْده مَا أُرِيد. فَقُلْنَا: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! واللَّه مَا كذبنَا وَلَكِن عَسى الرَّجُل قَدْ تغيَّر بَعدنَا، قَالَ: وَلَم نزل بِهِ حَتَّى استرسل وَطَابَتْ نَفسه وغنّيْناهُ حَتَّى نَام، ثُمّ انصرفنا فَجعلنَا طريقنا على مَالك، فافترينا عَلَيْهِ وكدنا نتناوله، قَالَ: فَقَالَ: وَيحكم! دخلتني لَهُ هيبةٌ منعتْني من الْغناء وَمن الْكَلَام لَو أردته، فأعيدوني إِلَيْهِ فَإِنِّي أَرْجُو أَن يرجع إليّ حلقي وغنائي. قَالَ: فكلمنا الْوَلِيد فَدَعَا بِهِ، فَكَانَ فِي الثَّانِيَة أَسْوَأ حَالا مِنْهُ فِي الأولى فصاح بِهِ أَيْضا فَخرج، وَفعلنَا كفعلنا، قَالَ: فَقَالَ: أعيدوني إِلَيْهِ فامْرَأَتُهُ طَالِق وَمَا يَمْلك فِي سَبِيل اللَّه إِن لَمْ أستنزله عَنْ سَرِيره إِن هُوَ أنصفني، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى الْوَلِيد، قَالَ: فَأَخْبَرنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ: وَعلي مثل يَمِينه إِن هُوَ لم يستنزلني أَن أُنَفِّذَ فِيهِ مَا حَلَف بِهِ فَهُوَ أَعْلَم. قَالَ: فأتيناه فَأَخْبَرنَاهُ بمقالة الْوَلِيد وَيَمِينه، قَالَ: قَدْ قبلت، قَالَ: فحضرنا مَعَه دَارا نَكُون فِيهَا إِلَى أَن يَدعِي بِنَا، فمرّ بِهِ صَاحب الشَّرَاب فَأعْطَاهُ دِينَارا عَلَى أَن يأتيَهُ بقدحٍ حَبَشَانِي مملوءٍ شرابًا من شراب الْوَلِيد، فَأَتَاهُ بقح ثمَّ بقدح ثُمّ بقدح، بِثَلَاثَة أقداح، فَأعْطَاهُ ثَلَاثَة دَنَانِير ثُمّ أدخلْنَاهُ عَلَيْه، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: هَات، فَقَالَ: لَا، وَالله أوترجع إِلَيّ نَفسِي وأضطرب وَأرى للغناء موضعا، قَالَ: فَذَاك لَك، قَالَ: فَاشْرَبْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَشرب وَجعل يشرب ويغني المغنون، حَتَّى إِذا ثمل الْوَلِيد وثمل هُوَ سل صَوتا فَأحْسن وَجَاء بِمَا يغرب، فطربنا وطرب الْوَلِيد وتحرك، وقَالَ: اسْقِنِي يَا غُلام فسُقِي

ألا أن تحج ثانية يا أمير المؤمنين

وتَغَنَّى مالكٌ صَوتا آخر فجَاء بالعجب، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: أَحْسَنت أَحْسَنت أحسن اللَّه إِلَيْك، فَقَالَ: الأَرْض الأَرْض يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: ذَاك لَهُ وَنزل فحياه وَأحسن إِلَيْهِ، وَلم يزل مَعَه، حَتَّى قتل الْوَلِيد. إِلَّا أَن تحج ثَانِيَة يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْجُرْجَانِيِّ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا أَنا بَين الْقَبْر والمنبر، إِذْ أَنَا عَنْ يَمِينِي بِرَجُلٍ حَسَنِ الْهَيْئَةِ خَاضِبٍ، مَعَهُ رجلٌ فِي مِثْلِ حَالِهِ، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ نَحْوَهُ فَإِذَا هُوَ يَكْسِرُ حَاجِبَهُ، وَيَفْتَحُ فَاهُ، وَيَلْوِي عُنُقَهُ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ، فَتَجَوَّزْتُ فِي صَلاتِي وَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: أَفِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَغَنَّى؟ قَالَ: قَنَّعَكَ اللَّهُ دَارَ مَخْرَمَةَ، مَا أَجْهَلَكَ! - قَالَ: وَدَارُ مَخْرَمَةَ صَخْرَةٌ - أَمَا فِي الْجَنَّةِ غِنَاءٌ؟ قُلْتُ: بَلَى، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ، قَالَ: فَأَنَا فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: وَاحْرَبَاهْ! أَتَرُدُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم قَوْلَهُ: " بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي روضةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ "، فَنَحْنُ فِي تِلْكَ الرَّوْضَةِ، فَقُلْتُ: قَبَّحَ اللَّهُ شَيْخًا وَشَارَةً، مَا أَسْفَهَكَ! فَقَالَ: بِالْقَبْرِ لَمَا أَنْصَتَّ إِلَيَّ، فَتَخَوَّفْتُ أَلا أُنْصِتَ إِلَيْهِ، فَانْدَفَعَ فَتَغَنَّى بصوتٍ يُخْفِيهِ: فَلَيْسَتْ عَشِيَّاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ ... عَلَيْكَ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَكَ تَدْمَعَا فَوَاللَّهِ إِنْ قُمْتُ لِلصَّلاةِ مِمَّا دخا عَليَّ، فَلَمَّا رَأَى مَا نَزَلَ بِي، قَالَ: يَا ابْن أُمِّي! أَرَى نَفْسَكَ قَدِ اسْتَجَابَتْ وَطَابَتْ، فَهَلْ لَكَ فِي زِيَادَةٍ؟ قُلْتُ: وَيْحَكَ! مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله وَسَلَّمَ، قَالَ: أَنَا أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْكَ، فَدَعْنَا مِنْ جَهْلِكَ، وَتَغَنَّى: فَلَوْ كَانَ واشٍ بِالْيَمَامَةِ دَارُهُ ... وَدَارِي بِأَعْلَى حَضْرَمَوْتَ اهْتَدَى لِيَا وَمَا بَالُهُمْ لَا أَحْسَنَ اللَّهُ حِفْظَهُمْ ... مِنَ الْحَظِّ هُمْ فِي نصر هم لَيْلَى حِيَالِيَا قَالَ: فَقَالَ لَهُ صَاحبه: يَا ابْن أَخِي! أَحْسَنْتَ وَاللَّهِ، عَتَقَ مَا يَمْلِكُ لَوْ أَنَّ هَذَا فِي مَوْضِعِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ لَخَلَعَ عَلَيْك ثِيَابه مشقومةً طَرَبًا، قَالَ: فَقُمْتُ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَنْ أَنَا، فَدَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ، فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: أَدْرِكْهُمَا لَا يَفُوتَانِكَ، فَوَجَّهْتُ مَنْ أَتَى بِهِمَا، فَلَمَّا دَخَلا عَلَيْهِ وَدَخَلا بوجوهٍ قَدْ ذَهَبَ مَاؤُهَا، وَأَنَا قائمٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! هَذَانِ هُمَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَنَظَرَ الْمُغَنِّي مِنْهُمَا إِلَيَّ وَقَالَ: سِعَايَةً فِي جوَار قبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَسُرِّيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُ غَضَبِهِ، فَقَالَ: مَا كُنْتُمَا فِيهِ؟ قَالا: خيرٌ، قَالَ: فَمَا من ذَلِك الْخَيْر؟ فسكتا، فَقَالَ لِلْمُغَنِّي مِنْهُمَا: مَنْ أَنْتَ؟ فَابْتَدَرَهُ جَمَاعَةٌ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! هَذَا ابْنُ جُرَيْجٍ فَقِيهُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: فَقِيهٌ يَتَغَنَّى فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالْقَصْدِ مني، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الْمَخْزُومِيِّ -

وصية أعرابية لولدها

يَعْنِي صَاحِبَهُ - صَوْتَيْنِ لَمْ يَزَالا فِي قَلْبِي حَتَّى الْتَقَيْنَا وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَأْخُذَهُمَا عَلَيَّ فَأَخَذَهُمَا عَلَيَّ، وَحلفت أَنِّي قَدْ أَحْسَنْتُ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَخَلَعَ عَلَيَّ، وَسَكَتَ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَرَكْتَ مِنَ الْحَدِيثِ شَيْئًا فَهَاتِهِ، فَقَالَ: مَا تَرَكْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا، قَالَ: وَاللَّهِ لَتَقُولَنَّ مَا قَالَ أَوْ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ: لَوْ كُنْتُ فِي مَوْضِعِهِ لَخَلَعْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَكَ مَشْقُوقَةً طَرَبًا، فَتَبَسَّمَ الرَّشِيدُ وَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَلا، وَلَكِنْ سَأَنْبِذُهَا لَكَ صَحِيحَةً فَهُوَ خيرٌ لَكَ، ثُمَّ دَعَا بثيابٍ وَنَبَذَ إِلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَلِصَاحِبِهِ بِخَمْسَةِ آلافِ دِرْهَم، وَقَالَ: لَا تعود لِمِثْلِ هَذَا. قَالَ: فَقَالَ صَاحِبُ ابْنِ جُرَيْجٍ: إِلا أَنْ تَحُجَّ ثَانِيَةً يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَضَحِكَ وَقَالَ: أَلْحِقُوهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْجَائِزَةِ. وَصِيَّة أعرابية لولدها حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن رستم، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عِيسَى النَّحْويّ، قَالَ: قَالَ أبان بْن تَغْلِب - وَكَانَ عابدًا من عبّاد الْبَصْرَة: شهِدت أعرابية وَهِي توصي ولدا لَهَا يُرِيد سفرا وَهِي تَقُولُ لَهُ: أَيّ بُنَيّ! اجْلِسْ أمنحْك وصيَّتي، وَبِاللَّهِ تَعَالَى توفيقُك، فإنَّ الْوَصِيَّة أجدى عَلَيْك من كثير عقلك. قَالَ أبان: فوقفتُ مُسْتَمِعًا لكلامها مستحسنًا لوصيتها فَإِذا هِيَ تَقُولُ: أَيّ بني! إياك والنميمة، فَإِنَّهَا تَزْرَع الضغينة وتفرِّقُ بَيْنَ المحبين، وَإِيَّاك والتغرض للعيوب، فتُتَّخذَ غَرَضًا، وخليق إلّا يثبت الغَرَض عَلَى كَثْرَة السِّهَام، وقلَّ مَا اعْتَوَرَتِ السِّهامُ هَدَفًا إِلا كَلَمَتْهُ حَتَّى يَهِي مَا اشتدَّ من قُوَّته، وَإِيَّاك والجودَ بِدينِك، وَالْبخل بِمَالك، وَإِذا هززت فاهزز كَرِيمًا يلين لهزتك، وَلَا تهزز اللّئيم فَإنَّهُ صَخْرَة لَا يتفجَّرُ ماؤُها، ومَثِّل لنَفسك أمثالَ مَا استحسنتَ من غَيْرك فاعمل بِهِ، وَمَا استقبحتَ من غَيْرك فاجْتَنِبْهُ، فَإِن الْمَرْء لَا يرى عيب نَفسه، وَمن كَانَتْ مودته بِشْرَه، وَخَالف ذَلِكَ فِعْلَه، كَانَ صديقُه مِنْهُ عَلَى مثل الرّيح فِي تصرُّفِّها، ثُمّ أمسكَتْ. فدنوتُ مِنْهَا فَقلت: بِاللَّهِ يَا أعرابية إِلا زِدْتيه فِي الْوَصِيَّة، قَالَتْ: أوقد أعْجبك كَلَام الْأَعْرَاب يَا عراقي؟ قُلْتُ: نعم، قَالَتْ: والغدر أقبح مَا تعامل بِهِ الناسُ بَينهم، وَمن جمع الْحلم والسخاء فقد أَجَاد الْحُلَّةَ رَيْطَتَها وسِرْبَالَها. عِنْدَمَا يسمع المحبُّ اسمَ حَبِيبه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عون بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنِي إِدْرِيس بْن بدر أَخُو الجَهْم بْن بدر، قَالَ: كَانَ أبي مُنْقَطِعًا إِلَى الْفَضْل بْن يَحْيَى، فَكَانَ مَعَه يَوْمًا فِي موكبه، فَقَالَ أَبِي: فرأيتُ من الْفضل حيرةً وجَوْلة، فَنظر إليّ فَفطن أَنِّي قَد استبنت مَا كَانَ فِيهِ، فَقَالَ: عَرِّفْني يَا بدر، كَيفَ قَالَ الْمَجْنُون: وداع دَعَا.......؟ فأنشده:

كتاب سوء الأدب

وداعٍ دَعَا إذْ نَحْنُ بالْخِيفِ من مِنًى ... فَهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ وَمَا يدْرِي دَعَا باسم ليلى غَيرهَا فَكَأَنَّمَا ... أطار بليلي طائرًا كَانَ فِي صَدْرِي قَالَ: هَذِهِ واللَّهِ قِصَّتي، كُنْت أَهْوى جَارِيَة يُقَال لَهَا خِشْف، فَكَانَ مني مَا رَأَيْت ونالني مثل مَا نَالَ الْمَجْنُون. كُتَّاب سُوء الْأَدَب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الشَّامي بهراة، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيّ بْن الجَعْد، قَالَ: كتب أَبُو يُوسُف القَاضِي يَوْمًا وَعَن يَمِينه إِنْسَان، فلاحظه يقرأُ مَا يكْتب، فَفطن بِهِ أَبُو يُوسُف، فَقَالَ لَهُ: وقفتَ عَلَى شيءٍ من خطأ؟ قَالَ: لَا، واللَّه، وَلا حرف. فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُف: جُزِيتَ خيرا كفيتنا مؤونة قِرَاءَته، ثمَّ أنشأ يَقُولُ: كأنَّهُ من سُوءِ تَأْدَابِهِ ... تَعَلَّم فِي كُتَّابِ سُوءِ الْأَدَب لَمْ يَدعه يسْأَل غَيره حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن مَنْصُور الْخُزَاعيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَريّ، عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن جَعْفَر الأَنْصَارِيّ، قَالَ: قدِم أعرابيٌّ الْمَدِينَة يطْلب فِي أَربع دياتٍ حنلها، فَقِيل لَهُ: عَلَيْك بِحسن ابْن عَليّ، وَعَلَيْك بِعَبْد بْن جَعْفَر، وَعَلَيْك بِسَعِيد بْن الْعَاصِ، وَعَلَيْك بِعَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس، فَدخل الْمَسْجِد فَرَأى رَجُلا يَخْرُج وَمَعَهُ جمَاعَة، فَقَالَ: من هَذَا؟ قِيلَ: سَعِيد بْن الْعَاصِ، قَالَ: هَذَا أحدُ أَصْحَابِي الَّذِين ذُكِرُوا لي، فَمشى مَعَه فَأَخْبَرَه بِالَّذِي قدِم لَهُ، وَمن ذكره وَأَنه أحدهم، وَهُوَ ساكتٌ لَا يجِيبه، فَلَمَّا بلغ بَاب منزله قَالَ لخازنه: قل لهَذَا الْأَعرَابِي فليأتِ بِمن يَحْمِلُ لَهُ، فَقِيل لَهُ: ائْتِ بِمن يحمل، قَالَ: عافي اللَّه سعيدًا، إِنَّمَا سِألناه ورِقًا وَلَم نَسْأَلهُ تَمرا، قَالَ: وَيحك ائتِ بِمن يحمل لَك، فَأخْرج إِلَيْهِ أَرْبَعِينَ ألفا، فاحتملها الأعرابيُّ فَمضى إِلَى الْبَادِيَة وَلَم يلق غَيره. كَيفَ خلصه اللَّه من الْغُلَام حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمد بن أبي الثلجن قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن فهم، قَالَ: حَدثنَا عمر بن شية، عَنْ فُلان من أَهْل الْبَصْرَة، قَالَ: مَرَرْت بالنخاسين بِبَغْدَاد فَإِذا أَنَا بِرَجُل يُنَادي عَلَى غُلام نظيف لَهُ هَيْئَة وجمال، وَهُوَ يَقُولُ: من يَشْتَرِي غُلَاما سَارِقا آبقًا قَتُولا لمواليه؟ فعد خِلالَ سُوء، قَالَ: فَقلت: يَا غُلام! مَا هَذِهِ الصفاتُ بك؟ قَالَ: فَقَالَ لي: امضِ إِلَى عَمَلك إِن أردْت أَن تَمْضي، فَإِنّ مولَايَ يريدُ أَن يستعيبَني بِهَذَا، قَالَ: فَرَغَّبني هَذَا الكلامُ فِيهِ، فقلتُ للمنادِي: بِعْنِيهِ، فَقَالَ: مَعَ كُلّ مَا وصفتُ من الْخلال المذمومة فِيهِ؟ قَالَ: فَقلت: ارْمِ بِثمن هَذَا فِي الْبَحْر. فاشتريته بسبعة عشر دِينَارا وصرت بِهِ إِلَى منزلي، فَمَكثَ شهورًا لَا أرى إِلا كُلّ خلة

رواية أخرى للخبر

ٍ جميلَة، حَيْطَة وشفقة ونُصْحًا حَتَّى أمِنْتُه وسلَّمتُ إِلَيْهِ، فَقبض عَلَى كيسٍ لي فِيهِ جملةٌ ثُمّ هرب، فَلم أعرف لَهُ خَبَرًا، وَلَم يَكُنْ لي عَلَى بَيْعه حجةٌ لما بيَّن من خِلاله. قَالَ: فَقلت: مَا أرى كُلّ مَا قِيلَ فِيهِ إِلا حقًّا، وحمدت اللَّه عَزَّ وَجَلّ إِذْ كَانَت النَّازِلَة بِمَالي وَلَم تكن بِي. قَالَ: ثُمّ اتَّصل بِي الْخَبَر أَنَّهُ بِالْكُوفَةِ قَد انْقَطع إِلَى صَيْرفيٍّ، قَالَ: فخرجتُ خَلفه فَأرَاهُ قَاعِدا فِي الصيارف فِي دُكَّان رَجُل نبيلٍ مِنْهُم، قَالَ: فقبضتُ عَلَيْه وَقلت: يَا عَدو اللَّه يَا آبق! قَالَ: فَقَالَ الصَّيْرفيّ: أهوَ مَمْلُوك؟ قَالَ: فَقلت: نعم، وَهُوَ عَبدِي، قَالَ: فَقَالَ الْغُلَام: نعم، هُوَ مولَايَ وَأَنا مَمْلوكه، فراعني تَمَاوُتُه، قَالَ: وخفتُ أَن ينالَني مَا قَالَ الْمُنَادِي، قَالَ: فجئتُ بِهِ إِلَى حدادٍ فَقلت لَهُ: ضَعْ بيَدي وَيَده مَصَكَّةً وَثِيقَة، قَالَ: وَقلت: واللَّه لَا نزال هَكَذَا إِلَى بَغْدَاد، وَخرجت من الْكُوفَة أَمْشِي وَيَمْشي لَا يتهيأ لنا الرّكُوب من أجل المصكة، حَتَّى وافينا برقيا، قَالَ: فنمنا فِي الخان عَلَى تَعَب، قَالَ: فَمَا شَعرت إِلا بوثبة الْأسد فَوق الْغُلَام، قَالَ: فَأَخذه يجره ويجرني مَعَه بالمصكةِ قَالَ: فذكرْتُ سكينًا فِي خُفِّي صَغِيرَة، فأخرجتها فحززت يَده فَبَقيت فِي المصكة، وَمضى بِهِ الْأسد، ثُمّ نزعت المصكة ودفنتُ يَده رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ بِنَحْوِ هَذَا عَنْ أَبِي الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، قَالَ: حكى بعض التُّجَّار أَن مَمْلُوكا سرق مِنْهُ كيسًا فِيهِ جملَة من الدَّنَانِير وهرب، قَالَ: فَخرجت فِي طلبه فأدركني الْمسَاء فِي مَوضِع حَدَّدَه وذُكِر لي أَنَّهُ مسبعٌ، فَرَأَيْت شَجَرَة عالية فتسنَّمتُها، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْل أقبل الْأسد وَالْأَرْض كَادَت تنشقُّ من زئيره، فَجَزِعت وجذبت غُصْنًا من الشَّجَرَة مُتَعَلقا بِهِ لأرتفع من مَكَاني وازداد بعدا من الأَرْض، فَسقط شخص من الشَّجَرَة سَمِعْتُ وجْبَتَه، فَوَثَبَ الْأسد عَلَيْه وَجَعَل يَلَغُ فِي دَمه، ويلتهم لَحْمه ثُمّ ولَّى، وأقمتُ بمكاني حَتَّى جَاءَ الصُّبْح وانتشر النّاس، فَنزلت فَإِذا رَأس غلامي ملقى وَإِلَى جنبه كيسي بِحَالهِ، فَأَخَذته وانصرفت. أَبَى إِلا الحقَّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بْن حَسَّان قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن دَاوُد التغلبي، عَنْ عَوَانَة بْن الْحَكَم، قَالَ: أَتَى الحَجَّاج برجلَيْن من الْخَوَارِج، فَقَالَ لأَحَدهمَا: مَا دِينُك؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا مُسْلمًا وَمَا أَنَا من الْمُشْركين، فَقَالَ: يَا حَرَسِيّ! اضْرِب عُنُقه، ثمَّ قَالَ للْآخر: أَنْت مَا دِينُك؟ قَالَ: دينُ الشَّيْخ يُوسُف بْن الْحَكَم - يَعْنِي أَبَا الحَجَّاج - قَالَ: وَيحك أَخَبَرْتُه؟ لقَدْ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، يَا حَرَسِيّ! خلِّ عَنْهُ، فَقَالَ: وَيحك يَا حَجّاج! أشقيتَ نَفسك وأثمت بربِّك، قتلتَ رَجُلا عَلَى دين إِبْرَاهِيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ

من طرائف القضاة

إِلَّا من سفه نَفسه ": فَقَالَ: أبَيْتَ، يَا حَرَسِيّ! اضْرِب عُنُقه، فَانْطَلق بِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: سُبحان ربٍّ قَدْ يَرَى ويَسْمَعُ ... وَقَدْ مَضَى فِي علمه مَا تَصْنعُ وَلَو يَشَا فِي ساعةٍ بل أسرعُ ... فيرسِلَنْ عَلَيْك نَارا تَسْطعُ فَيتْرك السَّرِير مِنْك بلقعُ فضُربت عُنُقه. من طرائف الْقُضَاة حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن جَعْفَر النهرواني، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَمَّن حدّثه، قَالَ: وُلّي يَحْيَى بْن أَكْثَم إِسْمَاعِيل بْن سَمَّاعَة الْقَضَاء بغربي بَغْدَاد، وَولى سوار بْن عَبْد اللَّهِ شرقيها، وَكَانَا أعورين، فَكتب فِيهِ مُحَمَّد بْن رَاشد الْكَاتِب: رأيتُ من الْعَجَائِب قاضيين ... هما أُحْدُوثةٌ فِي الْخَافِقين هما فَالُ الزَّمَان بهُلْكِ يَحيى ... إذِ افْتتح القضاءَ بأعورين فَلَو جُمع العَمَى يَوْمًا بأفقٍ ... لكانا للزمانة خلتين ةتحسب مِنْهُمَا من هز رَأْسا ... لينْظر بُزَالَهُ من فَرْدِ عَيْن وَكَانَ يَحْيَى بْن أَكْثَم أَعور. من رسائل العَتَّابِيّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن المزربان النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن صَدَقَة النَّحْويّ، قَالَ: كتب العَتَّابِيّ إِلَى دَاوُد بْن يَزِيد بْن الْمُهَلّب: أما بعد، فَإِنِّي امْرُؤ فيَّ خُلَّتَان: حصرٌ مُقَيَّدٌ بِالْحَيَاءِ، وعِزَّةُ نَفْسٍ شبيهةٌ بالجفاء، وَلَم أزل أرغبُ بنفسي فِي صُحْبَة غَطَارفة الرِّجَال، وَأَبْنَاء ذَوي الفعال، فوردت الْعَسْكَر فَرفع إليّ أَقوام مِنْهُم من يرتاشُ حَاله، وَلا يَشْرُفُ إِلا بِمَالِه، وَمِنْهُم من أنْحَلَ أديمه، وَلم يصل قديمه، فِي طبات شَتَّى يضيقُ عَنْهُمُ الْمَدْح، ويتسع فيهم الذَّم، وَرَأَيْت وُجُوه الْقَبَائِل تصدر عَنْك بأنواع الْفَضَائِل فِي حمل الدِّيَات، وَفضل الهبات، ورأيتُك من نبعةٍ أصلُها الكَرَم، وَأَغْصَانهَا الْهِمَم، تُثْمِرُ الْحَمد، وتَرْقَعُ الْمجد، فحطَطْتُ رَحْلي بفِنَائك وشددتُ عُراه بأطنابِ وفائك، وَقلت فِي ذَلِكَ دَاوُدُ خيرُ فَتًى يُعَاذُ برُكْنِهِ ... ملكٌ يُجيرُ من الزَّمانِ القَاسِي كم من يَد لَك أصبحتْ مَشهورةً ... بيضاءَ تَجْلُو ظلمَة الإبْلاسِ فلقلما تلقاهُ إِلا وَاقِفًا ... مُتَحرِّمًا بَيْنَ الندى والباس أثر الْهَدِيَّة فِي النُّفُوس حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْص - يَعْنِي النَّسَائيّ -

هل كذب ابن سيرين

قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن يَعْقُوب التَّمِيمِيّ، عَنْ عَليّ بْن مُحَمَّد الْقُرَشِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْص بْن عَمْرو بْن خاقَان، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُس بْن عُبَيْد، قَالَ: أتيت مُحَمَّد بْن سِيرِينَ، فَقلت: قُولُوا لَهُ: يُونُس بْن عُبَيْد بِالْبَابِ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: أَنَا نَائِم، فَقلت: قُولُوا لَهُ: إِن معي هَدِيَّة، فَقَالَ: كَمَا أَنْت إِذا. هَلْ كذب ابْن سِيرِينَ قَالَ القَاضِي: قَول ابْن سِيرِينَ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: إنَّه نَائِم وَلَيْسَ بنائم، أَرَادَ بِهِ - واللَّه أَعْلَم - أَنَّهُ نائمٌ بعد هَذَا الْوَقْت، كَقَوْل الرَّجُل: أَنَا قاتم غَدا، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " إِنَّك ميتٌ وَإِنَّهُم ميتون "، وَابْن سِيرِينَ مِمَّنْ تنزه عَنِ الْكَذِب لدينِهِ ووَرَعِه. وَقَدْ رُوِي عَنْهُ فِي ذمِّ الْكَذِب أشياءَ كَثِيرَة. لماذا يهدأ ولماذا يضْرب؟ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن السَّري التَّمِيمِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن قرج، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُمَر الدفتري، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْكسَائي يَقُولُ: كُنْت يَوْمًا أَقرَأ عَلَى حَمْزَة فَدخل سُلَيْم فاضطربت، فَقَالَ لي حَمْزَة: يَا هَذَا! تقْرَأ عَليّ وَأَنت مستمرٌّ حَتَّى إِذا دخل سُلَيْم اضْطَرَبَتْ؟ قُلْتُ: إِنِّي إِذا قرأتُ عَلَيْك فأخطأتُ قَوَّمْتَني، وَإِذَا أخطأتُ فسمعني سُلَيْم عَيَّرني. الْقِصَّة يَرْوِيهَا الْكسَائي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن مقسم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد المخرمي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْم، قَالَ: رَأَيْت الْكسَائي يقرأُ عَلَى حَمْزَة فجئتُه فاستندتُ إِلَى الْمِحْرَاب بِجنب حَمْزَة، فَجعل الْكسَائي يَرْعَد، فَقَالَ لَهُ حَمْزَة: كأَنَّه أهْيَبُ فِي عَيْنك مِنِّي؟ قَالَ: لَا، ولكنِّي إِذا أخطأتُ عَلَّمْتَني، وَهَذَا إِذا سمعني أخطىء شَنَّع عليَّ. أَلْفَاظ التَّلْبِيَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد، أَبُو عُمَر الْبَزَّاز، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْر، قَالَ: قَالَ ابْن إِسْحَاق لأخي: يَا رُجَيل! قَالَ: لَبَّيْك، قَالَ: لَبَّيْ يَديك. قَالَ القَاضِي: قَول الْقَائِل: لَبَّيْك، بِالْإِضَافَة فِيهِ إِلَى كَاف المخاطبة، وَلَيْسَت الإضافةُ فِيهِ إِلَى الْأَسْمَاء الظَّاهِرَة أعْلامها ومُبْهَمها، كَقَوْلِك: لَبَّى زَيْد، ولبى هَذَا الظَّاهِر الْمُسْتَعْمل فِي الْعَرَبيَّة، وَقَدْ أَتَى عَلَى شذوذه كَمَا أَتَى فِي هَذِهِ الْكَلِمَة، أَعنِي لَبَّيْ يَدَيْك، وَذَلِكَ أَن عددا من النَّحْوِيين أنشدوني هَذَا الْبَيْت: دَعَوْتُ لما نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسُوَرِ وللتلبية أَحْكَام قَدْ رسمنا فِيهَا رِسَالَة تحوي تَفْسِير مَعَانِيهَا، وَمَا اتّفق عَلَيْه وَاخْتلف فِيهِ مِنْهَا، من جِهَة النَّحْو وَالْإِعْرَاب، وأَبُواب الْفِقْه، وسببها ومجاريها فِي الْحَج وَالْعمْرَة،

الهموم تزيد مع النعم

وَمن نَظَر فِيهِ أَشْرَفَ عَلَى أنواعٍ من الْفَائِدَة. الهموم تزيد مَعَ النعم حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: وحَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو الضَّرِير بِالْكُوفَةِ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين: كُنْت أَنَا وَأحمد بْن حَنْبَل عِنْد عَبْد الرَّزَّاق، وَكنت أكتب الشّعْر والْحَدِيث، وَكَانَ أَحْمَد يكْتب الْحَدِيث وَحده، فَخرج إِلَيْنَا يَوْمًا عَبْد الرَّزَّاق، وَهُوَ يَقُولُ: كن مُوسِرًا إِن شئتَ أَوْ مُعْسِرًا ... لَا بُد فِي الدُّنْيَا من الهمَّ وَكلما زادك من نعمخ زا ... دك مَا زادكَ من غَمَّ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: كَيفَ قُلْتُ؟ كَيفَ قُلْتُ؟ فَأَعَادَهَا عَلَيْه فكتبها. رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر فِيهَا زِيَادَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ بعض أَصْحَابه، عَنْ أَبِي عَاصِم، عَنِ ابْن جُرَيْج. قَالَ: خرجت فِي السحر، فَرَأَيْت رُقْعةً تَضْربها الرِّيَاح فأخذتها فَلَمَّا أَضَاء الصُّبْح فتحتُها، فَإِذا فِيهَا: كن مُوسِرًا إِن شئتَ أَوْ مُعْسِرًا ... لَا بُد فِي الدُّنْيَا من الهمَّ وَكلما زادك من نعمةٍ ... زَادَكَ الَّذِي زادك فِي الغَمِّ إِنِّي رَأَيْت الناسَ فِي دَهْرنَا ... لَا يطْلبُونَ الْعلم للعلمِ إِلا مباهاةً لأصحابهم ... وعُدَّةً للغَشْمِ والظلمِ قَالَ ابْن جُرَيْج: واللَّه لقَدْ مَنَعَتْنِي هَذِهِ الأبيات عَنْ أَشْيَاء كَثِيرَة. المجلِسُ السَابع وَالأربَعُونْ تَأْكُل من فَم رَسُول اللَّه حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْن أبي الثَّلج، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ فَهْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَثَالِ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: " كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ امرأةٌ تُضْحِكُ الثَّكْلَى، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا وَهُوَ يَأْكُلُ قَدِيدًا، فَقَالَتْ: انْظُرُوا يَأْكُلُ وَلا يُطْعِمُنِي! قَالَ: فَنَاوَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَتْ: لَا آكُلُهُ إِلا مِنْ فِيكَ، فَأَخْرَجَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِيهِ فَأَكَلَتْ، فَمَا تَكَلَّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ ". تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القاضيك وَكَيف يُسْتَبْعَدُ هَذَا وَقَدْ أكَلَتْ من طعامٍ كَانَ فِي وعَاء الصدْق، وظَرْفِ الحقَّ، وَطَرِيق الْعلم، وَالْوَقار والحلم. وَفِي الْقِصَّة الَّتِي أَتَى هَذَا الْخَبَر بهَا مَا فِيهِ الْبَيَان عَنْ فضل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبركته، ويمن نقيبته،

اللحن في أذنه أوقع

ووضوح أَعْلَام نُبُوَّته، وَظُهُور جاهه عِنْد ربه، وَنحن نحمد اللَّه تَعَالَى عَلَى هدايتنا لتصديقه، وتوفيقنا للْإيمَان بِهِ، ونسأله أَن يثبتنا عَلَى التَّمَسُّك بملته، وَحفظ شَرِيعَته، ويعصمنا من مَعْصِيَته ويجعلنا من الفائزين يوْم الْحساب بولايته فيسعدنا بِرَفْع الدَّرَجَات بِشَفَاعَتِهِ إنَّه سميع الدُّعَاء، لطيف لما يَشَاء. اللّحن فِي أُذُنه أوقع حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَر، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَمِير عَلَى الْكُوفَة من بني هَاشِم، وَكَانَ لحَّانًا فَاشْترى دورًا من جِيرَانه ليزيدها فِي دَاره، فَاجْتمع إِلَيْهِ جِيرَانه فَقَالُوا لَهُ: أصلحك اللَّه، هَذَا الشِّتَاء قَدْ هجم علينا فتمهلنا إِن رَأَيْت حَتَّى يقبل الصَّيف ونتحول، فَقَالَ: لسنا بِخَارِجيكُم. قَالَ: ودعا يَوْمًا بِابْنِهِ وبمؤدبه، وَهُوَ عَلَى سطح فَمر ثوران فِي الطَّرِيق، فَقَالَ الْغُلَام: مَا أحسن هَذَانِ الثوران! فَلَمَّا نزلا من عِنْده قَالَ الْمُؤَدب للغلام: وَيحك! أهلكْتَني، فَقَالَ لَهُ الْغُلَام: هَذَا حمَار، وَلَو قُلْتُ هذَيْن الثورين مَا وَقع عِنْده موقعَا وستنظر مَا يَكُون؟ فَلم يلبث أَن جَاءَتْهُ خمس مائَة دِرْهَم وتَخْتُ ثيابٍ، فَقَالَ: كَيفَ رَأَيْت؟ تَخْرِيج قَوْلهم مَا أحسن هَذَانِ قَالَ القَاضِي: أما قَول هَذَا اللحان الْجَاهِل: لسنا بخارجيكم يُرِيد بمخرجيكم، فَمن النَّوَادِر المضحكة الدَّالَّة عَلَى انحطاط منزلَة الْمُتَكَلّم وركاكاته. وأمّا قَول ابْنه: مَا أحسن هَذَانِ الثوران، فَلَيْس بلحن، وَإِن كَانَ الفصيح الْمُخْتَارِ خِلَافه، وَقَدْ رسمنا من القَوْل فِي هَذَا مَا يُوضح عَنْ علله ووجوهه فِيمَا بَيناهُ فِي وَجه قِرَاءَة من قَرَأَ: " إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ "، وَلا حَاجَة بِنَا فِي هَذَا الْموضع إِلَى التشاغل بِهِ. حِيلَة عراقي فِي أَخَذَ جَارِيَة ابْن جَعْفَر حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد بْن حمدون النديم، عَنْ أَبِي بَكْر الْعِجْليّ، عَنْ جمَاعَة من مَشَايِخ قُرَيْش من أَهْل الْمَدِينَة، قَالُوا: كَانَتْ عِنْد عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر جاريةٌ مُغنية يُقَال لَهُ عمَارَة، وَكَانَ يَجِدُ بهَا وجدا شَدِيدا، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ مكانٌ لَمْ يَكُنْ لأحدٍ من جواريه، فَلَمَّا وَفد عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر عَلَى مُعَاوِيَة خرج بهَا مَعَه، فزاره يَزِيدُ ذَات يوْم فأخرجها إِلَيْهِ، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا وسَمِع غناءها وقعتْ فِي نَفسه، فأخذَهُ عَلَيْهَا مَا لَا يملكهُ، وَجَعَل لَا يمنعهُ من أَن يبوح بِمَا يجد بهَا إِلا مَكَان أَبِيهِ مَعَ يأسه من الظفر بهَا. وَلَم يزل يكاتمُ النّاس أمرهَا إِلَى أَن مَاتَ مُعَاوِيَة وأفضى الْأَمر إِلَيْهِ، فَاسْتَشَارَ بعض من قَدم عَلَيْه من أَهْل الْمَدِينَة وعامةَ من يَثِق بِهِ فِي أمرهَا وَكَيف الْحِيلَة فِيهَا، فَقِيل لَهُ: إِن أَمر عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر لَا يُرام، ومنزلته من الْخَاصَّة والعامة ومنك مَا قَدْ علمت، وَأَنت لَا تستجيزُ إكراهه، وَهُوَ لَا يَبِيعهَا بِشَيْء أبدا، وَلَيْسَ يُغني فِي هَذَا إِلا الْحِيلَة.

فَقَالَ: انْظُرُوا لي رَجُلا عراقيًّا لَهُ أدبٌ وظرفٌ وَمَعْرِفَة، فطلبوه فَأتوهُ بِهِ، فَلَمَّا دخل رَأَى بَيَانا وحلاوة وفَهْمًا، فَقَالَ يَزِيد: إِنِّي دعوتُك لأمر إِن ظَفرت بِهِ فَهُوَ حُظْوَتُك آخر الدَّهْر، ويدٌ أكافئك عَلَيْهَا إِن شَاءَ اللَّه، ثُمّ أخبرهُ بأَمْره فَقَالَ لَهُ: إِن عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر لَيْسَ يُرام مَا قِبَلَهُ إِلا بالخديعة، وَلنْ يقدر أحدٌ على مَا سُئِلت، وَأَرْجُو أَن أكونه وَالْقُوَّة بِاللَّه، فأَعِنِّي بِالْمَالِ، قَالَ: خُذْ مَا أَحْبَبْت، فَأخذ من طُرف الشَّام وَثيَاب مصر وَاشْترى مَتَاعا للتِّجَارَة من رقيقٍ ودواب وَغير ذَلِكَ، ثُمّ شخص إِلَى الْمَدِينَة فَأَنَاخَ بعَرْصَة عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، واكترى منزلا إِلَى جَانِبه ثُمّ توسل إِلَيْهِ، وقَالَ: رجلٌ من أَهْل الْعرَاق قدمتُ بِتِجَارَة وأحببت أَن أكون فِي عز جوارك وكنفك إِلَى أَن أبيع مَا جِئْت بِهِ. فَبعث عَبْد اللَّه إِلَى قهرمانه أَن أكْرم الرَّجُل ووسِّع عَلَيْه فِي نُزُله، فَلَمَّا اطْمَأَن العراقيُّ سلَّم عَلَيْه أَيَّامًا وعرفه نَفسه وهيّأ لَهُ بغلة فارهة وثيابًا من ثِيَاب الْعرَاق وألطافًا، فَبعث بهَا إِلَيْهِ وَكتب مَعهَا: إِنِّي يَا سيِّدي رجلٌ تَاجر ونعمة اللَّه تَعَالَى عليَّ سابغة، وَقَدْ بعثت إِلَيْك بِشَيْء من لطفٍ وَكَذَا وَكَذَا من الثِّيَاب والعطر، وَبعثت ببغلة خَفِيفَة الْعَنَان وطيئة الظّهْر فاتخذها لرجلك، فَأَنا أَسأَلك بقرابتك من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قبلت هديتي، وَلا توحشني بردهَا، فَإِنِّي أدين للَّه تَعَالَى بمحبتك وحبِّ أَهْل بَيْتك، فَإِن أعظم أملي فِي سفرتي هَذِهِ أَن أستفيد الْأنس بك والتحرم بمواصلتك. فَأمر عَبْد اللَّه بِقَبض هديته وَخرج إِلَى الصَّلاة، فَلَمَّا رَجَعَ مر بالعراقيّ فِي منزله فَقَامَ وقبَّل يَده واستكثر مِنْهُ، فَرَأى أدبًا وظَرفًا وفصاحةً فأعجب بِهِ وسُرَّ بنزوله عَلَيْه، فَجعل العراقيُّ فِي كُلّ يوْم يبْعَث إِلَى عَبْد اللَّه بلَطَف وطرفٍ، فَقَالَ عَبْد اللَّه: جزى اللَّه ضيفَنَا هَذَا خيرا، فقد مَلأَنا شكرا وَمَا نقدر عَلَى مكافأته، فَإنَّهُ لكذلك إِلَى أَن دَعَاهُ عَبْد اللَّه ودعا عمَارَة وجواريه، فَلَمَّا طَابَ لَهما الْمجْلس وسَمِع غناء عمَارَة تعجب وَجَعَل يَزِيد فِي عجبه، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّه سُرَّ بِهِ إِلَى أَن قَالَ لَهُ: هَلْ رَأَيْت مثل عمَارَة؟ قَالَ: لَا واللَّهِ يَا سَيِّدي، مَا رَأَيْت مثلهَا وَلا تصلح إِلا لَك، وَمَا ظَنَنْت أَنَّهُ يَكُون فِي الدُّنْيَا مثل هَذِهِ الْجَارِيَة حسن وَجه وَحسن غناء، قَالَ: وَكم تَسَاوِي عنْدك؟ قَالَ: مَا لَهَا ثمن إِلا الْخلَافَة، قَالَ: تَقُولُ هَذَا لتزين لي رَأْيِي فِيهَا وتجتلب سروري؟ قَالَ لَهُ: يَا سَيِّدي واللَّهِ إِنِّي لأحب سرورك، وَمَا قُلْتُ لَك إِلا الْجد، وَبعد فَإِنِّي تَاجر أجمع الدِّرْهَم إِلَى الدِّرْهَم طلبا للربح، وَلَو أعطيتهَا بِعشْرَة آلَاف دِينَار لأخذتها، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه عشرَة آلَاف دِينَار؟ قَالَ: نعم، وَلَم يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَان جَارِيَة تعرف بِهَذَا الثّمن، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: أَنَا أبيعكها بِعشْرَة آلَاف دِينَار، قَالَ: وَقَدْ أَخَذتهَا، قَالَ: هِيَ لَك، قَالَ: وَجب البيع، فَانْصَرف الْعِرَاقِيّ. فَلَمَّا أصبح عَبْد اللَّه لَمْ يشْعر إِلا بِالْمَالِ قَدْ وافى بِهِ، فَقِيل لعبد اللَّه: قَدْ بعث الْعِرَاقِيّ بِعشْرَة آلَاف دِينَار، وقَالَ: هَذَا ثمن عمَارَة فَردهَا وَكتب إِلَيْهِ: إِنَّمَا كُنْت أمزح مَعَك، وَمِمَّا

أعلمك أَن مثلي لَا يَبِيع مثلهَا، فَقَالَ لَهُ: جعلت فدَاك، إِن الْجِدَّ والهَزْل فِي البيع سَوَاء، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّه: وَيحك! مَا أَعْلَم جَارِيَة تَسَاوِي مَا بذلت، وَلَو كنتُ بَائِعهَا من أحدٍ لآثرتُك، وَلَكِنِّي كُنْت مازحًا، وَمَا أبيعها بِملك الدُّنْيَا لحُرْمتها بِي وموضعها من قلبِي، فَقَالَ الْعِرَاقِيّ: إِن كُنْت مازحًا فَإِنِّي كُنْت جادًّا، وَمَا اطَّلَعْتُ عَلَى مَا فِي نَفسك، وَقَدْ ملكت الْجَارِيَة وَبعثت إِلَيْك بِثمنِهَا، وَلَيْسَت تَحِلُّ لَك وَمَا لي من أَخذهَا من بُد. فمانعه إِيَّاهَا، فَقَالَ لَهُ: لَيست لي بيِّنة، وَلَكِنِّي أستحلفك عِنْد قبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنبره، فَلَمَّا رَأَى عَبْد اللَّه الْجِدَّ قَالَ: بئس الضَّيْف أَنْت، مَا طرقنا طارقٌ وَلا نَزَل بِنَا نازلٌ أعظمَ علينا بَلِيَّةً مِنْك، تحلِّفُني فَيَقُول النّاس اضطهد عَبْد اللَّه ضَيفه وقهره فألجأه إِلَى أَن أستحلفه، أما واللَّه ليعلمنّ اللَّه جلّ ذكره أَنِّي سائله فِي هَذَا الْأَمر الصَّبْر وَحسن العزاء، ثُمّ أَمر قهرمانه بِقَبض المَال مِنْهُ وتجهيز الْجَارِيَة بِمَا يشبهها من الثِّيَاب والخدم وَالطّيب، فجُهزت بِنَحْوِ من ثَلَاثَة آلَاف دِينَار، وقَالَ: هَذَا لَك وَلها عوضا مِمَّا ألطفتنا، واللَّه الْمُسْتَعَان. فَقبض الْعِرَاقِيّ الْجَارِيَة وَخرج بهَا، فَلَمَّا برز من الْمَدِينَة قَالَ لَهَا: يَا عمَارَة! إِنِّي واللَّه مَا ملكتُك قطّ، وَلا أَنْت لي، وَلا مثلي يَشْتَرِي جَارِيَة بِعشْرَة آلَاف دِينَار، وَمَا كُنْت لأقدم عَلَى ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأستلبه أحبَّ النّاس إِلَيْهِ لنَفْسي، ولكنني دسيسٌ من يَزِيد بْن مُعَاوِيَة وَأَنت لَهُ، وَفِي طَلَبك بعث بِي فاستترى منِّي، وَإِن داخلني الشَّيْطَان فِي أَمرك وتاقت نَفسِي إِلَيْك فامتنعي. ثُمّ مضى بهَا حَتَّى ورد دمشق فَتَلقاهُ النّاس بِجنَازَة يَزِيد، وَقَد استُخْلِف ابْنه مُعَاوِيَة بْن يَزِيد، فَأَقَامَ الرَّجُل أَيَّامًا ثُمّ تلطف للدخول عَلَيْه فشرح لَهُ الْقِصَّة - وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُن أحدٌ من بني أُمَيَّة يعدل بِمُعَاوِيَة بْن يَزِيد فِي زَمَانه نُبْلا ونُسكا - فَلَمَّا أخبرهُ قَالَ: هِيَ لَك، وكل مَا دَفعه إِلَيْك فِي أمرهَا فَهُوَ لَك، وارحل من يَوْمك فَلَا أسمع من خبرك فِي بِلَاد الشَّام، فَرَحل الْعِرَاقِيّ، ثُمّ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: إِنِّي قلت لَك حِين خرجتُ بك من الْمَدِينَة، وأخبرتُكِ أنَّكَ ليزِيد وَقَدْ صرت لي، وَأَنا أُشْهد اللَّه أنَّكَ لعبد اللَّه بْن جَعْفَر، فَإِنِّي قد رددتك إِلَيْهِ فاستتري مني، ثُمّ خرج بهَا حَتَّى قدِم الْمَدِينَة فَنزل قَرِيبا من عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر، فَدخل عَلَيْه بعض خدمه، فَقَالَ لَهُ: هَذَا الْعِرَاقِيّ، ضيفُك الَّذِي صنع بِنَا مَا صنع وَقَدْ نزل العَرْصَة لَا حَيَّاهُ اللَّه. فَقَالَ عَبْد اللَّه: مَه! أنزلوا الرَّجُل وأكرموه. فَلَمَّا اسْتَقر بِهِ، بعث إِلَى عَبْد اللَّه: جُعلتُ فِداك، إِن رَأَيْت أَن تأذَنَ لي أَذْنة خَفِيفَة لأُشَافهك بِشَيْء؟ فَقلت: فَأذن لَهُ، فَلَمَّا دخل سلم عَلَيْه وَقبل يَده وقربه عَبْد اللَّه ثُمّ اقْتصّ عَلَيْه الْقِصَّة حَتَّى فرغ، ثُمّ قَالَ: قَدْ - واللَّه - وهبتُها لَك قبل أَن أَرَاهَا أَوْ أَضَع يَدي عَلَيْهَا فَهِيَ لَك، ومَرْدُودة عَلَيْك، وَقَدْ علم اللَّه جلّ وَعز أَنِّي مَا رَأَيْت لَهَا وَجها إِلا عنْدك، وَبعث

الوليد وعطرد المغني

إِلَيْهَا فَجَاءَت وجاءتْ بِمَا جهزها بِهِ موفرًا، فَلَمَّا نظرت إِلَى عَبْد اللَّه خَرَّتْ مغشيًا عَلَيْهَا، وأهوى إِلَيْهَا عَبْد اللَّه وَضمّهَا إِلَيْهِ. وَخرج الْعِرَاقِيّ وتصايح أَهْل الدَّار: عمَارَة عمَارَة، فَجعل عَبْد اللَّه يَقُولُ ودموعه تجْرِي: أحُلْمٌ هَذَا؟ أحقٌ هَذَا؟ مَا أصدق هَذَا! فَقَالَ لَهُ الْعِرَاقِيّ: جعلت فداءك، ردهَا اللَّه عَلَيْك بإيثارك الْوَفَاء وصبرك عَلَى الْحق، وانقيادك لَهُ، فَقَالَ عَبْد اللَّه: الْحَمد لله، اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي صبرت عَنْهَا، وآثرتُ الْوَفَاء وسلمتُ لأمرك، فرددتها عليَّ بمنّك، وَلَك وَالْحَمْد. ثُمّ قَالَ: يَا أَخا الْعرَاق! مَا فِي الأَرْض أعظم مِنَّةً مِنْك، وسيجازيك اللَّه تَعَالَى. فَأَقَامَ العراقيُّ أَيَّامًا، وَبَاعَ عَبْد اللَّه غنما لَهُ بِثَلَاثَة عشر ألف دِينَار، وقَالَ لقهرمانة: احملها إِلَيْهِ، وَقل لَهُ: اعذر وَاعْلَم أَنِّي لَو وصلتكَ بكلِّ مَا أملك لرأيتك أَهلا لأكْثر مِنْهُ. فَرَحل العراقيّ مَحْمُودًا وافر الْعِرْض وَالْمَال. الْوَلِيد وعَطَرَّد الْمُغني حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عجلَان أَبُو بَكْر، قَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَبْد الْحَمِيد بْن إِسْمَاعِيل بْن عَبْد الْحَمِيد بْن يَحْيَى، عَنْ عمّه أَيُّوب بْن إِسْمَاعِيل، قَالَ: لما استُخْلِف الْوَلِيد كتب إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ: أَن أَشْخِص إليّ عَطَرَّدَ الْمُغنِي قَالَ عَطَرَّد: فَدفع إليّ الْعَامِل الْكتاب فَقَرَأته، وَقلت: سمعا وَطَاعَة. فَدخلت عَلَيْه فِي قصره وَهُوَ قاعدٌ عَلَى شَفير بِرْكة لَيست بالكبيرة، يَدُور فِيهَا الرَّجُل سباحة، فواللَّهِ مَا كلمني كلمة حَتَّى قَالَ: أعَطَرَّد؟ فَقلت: لبَّيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: غنني حَيِّ الْحُمُول. قَالَ عَطَرَّد: فغنيتُ: حَيّ الْحُمُولَ بِجَانِب العَزْلِ ... إذْ لَا يُناسِبُ شَكْلُها شَكْلِي اللَّهُ أنجحُ مَا طلبتَ بِهِ ... والْبِرُّ خيرُ حقيبة الرَّحْلِ إِنِّي بحبْلِك واصلٌ حَبْلِي ... وبِريش نبلك رائشٌ نَبْلِي وشَمَائِلي مَا قَدْ علمتَ وَمَا ... نَبَحَتْ كلابُك طَارِقًا مِثّلي قَالَ: فواللَّهِ مَا تكلم بِكَلِمَة حَتَّى شقّ بُرْدةً صنعانية عَلَيْه - مَا يدْرِي مَا ثمنهَا - نِصْفَيْنِ فَخرج مِنْهَا كَمَا وَلدته أُمّه، ثُمّ رمى بِنَفسِهِ فِي الْبركَة فنهل مِنْهَا حَتَّى تعرفت فِيهَا النُّقْصَان فَأخْرج مِنْهَا مَيتا سُكْرًا، فَضربت يَدي إِلَى الْبردَة فأخذتها فواللَّهِ مَا قَالَ لي الْخَادِم خُذْهَا وَلا دعها، وانصرفت إِلَى منزلي وَأَنا أفكِّر فِيهِ وَفِيمَا رَأَيْت مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ من الْغَد دَعَاني فِي مثل ذَلِك الْوَقْت، وَهُوَ قَاعد فِي مثل ذَلِكَ الْموضع، فَقَالَ: عَطَرَّد؟ قُلْتُ: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: غنني، فغنيته:

شعر لا يصدر من قلب سليم

أيَذْهَبُ عُمْرِي هَكَذَا لَمْ أَنَلْ مِنْهُ ... مَجَالِسَ تَشْفي قَرْحَ قَلبي من الوَجْدِ وَقَالُوا: تَدَاوَى إنَّ فِي الطبِّ رَاحَة ... فَعزّيتُ نَفسِي بالدوَّاءِ فَلم يُجْدِ فَلم يتَكَلَّم حَتَّى شقّ بردة كَانَتْ عَلَيْه مثل الْبردَة والأمسية فَخرج مِنْهَا وَرمى بِنَفسِهِ فِي الْبركَة فنهل وَالله حَتَّى تبينتُ النُّقصان، فأُخْرج ميِّتًا سُكْرًا، وضممت الْبردَة إليّ فَمَا قِيلَ لي خُذْ وَلا دَعْ، فانصرفتُ إِلَى منزلي، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث دَعَاني فَدخلت إِلَيْهِ وَهُوَ فِي بهوٍ قَدْ كُنَّت سُتُوره، فكلمني من وَرَاء السّتْر، فَقَالَ: أعطرد؟ فَقلت: لبيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: كَأَنَّني بك الْآن قَدْ أتيت الْمَدِينَة فَقلت: دَعَاني أَمِير الْمُؤْمِنِين فَدخلت إِلَيْهِ فَفعل وَفعل، قَالَ يَا ابْن الفاعلة لَئِن تَكَلَّمت - بِشَيْء مِمَّا كَانَ - شَفَتَاكَ، لأطرحن الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك، يَا غُلَام! أعْطه خَمْسمِائَة، الْحق بِالْمَدِينَةِ. قُلْتُ: أَفلا يَأْذَن لي أَمِير الْمُؤْمِنِين فَأَقْبَلَ يَده وأتزود نظرة إِلَى وَجهه، قَالَ: لَا، قَالَ عَطَرَّد: فَخرجت من عِنْده فَمَا تَكَلَّمت بِشَيْء من هَذَا حَتَّى دَخَلَت الهاشميَّة. قَوْله: وَقَالُوا: تداوى.....خرجه عَلَى الأَصْل لإِقَامَة الْوَزْن، وَقَدْ بَينا هَذَا فِيمَا مضى بشواهده. شعر لَا يصدر من قلب سليم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شبيب، عَنْ عَمْرو بْن عُثْمَان، قَالَ: مرت سُكَيْنَةُ بعُروة بْن أُذَيْنة، وَكَانَ يتنسَّك، فَقَالَت لَهُ: يَا أَبَا عَامر! أَلَسْت الْقَائِل: إِذا وَجَدْتُ أَذَى للحبِّ فِي كَبِدِي ... أقبلتُ نَحْو شِفَاء الحبِّ أبْتَردُ هَذَا بَرَدْتُ بِبرد الماءِ ظاهرَهُ ... فَمنْ لِحَرٍّ عَلَى الأحشاء يتّقِدُ أولست الْقَائِل: قَالَتْ وأبثثُتها سِرِّي فبحتُ بِهِ ... قَدْ كُنْت عهدي تُحِبُّ السِّتْر فاسْتَتِرِ ألستَ تبصرُ مَنْ حَوْلي فقلتُ لَهَا ... غطَّي هواكِ ومَا ألْقَى عَلَى بَصَري هَؤُلاءِ أَحْرَار - وأشارت إِلَى جواريها - إِن كَانَ هَذَا خرج من قلب سليم. قَالَ القَاضِي: وأنشدنا بَيْتِي عُرْوَة الْأَوَّلين من غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة. لما وجدتُ أُوَار الحبِّ فِي كَبِدي ... أقبلتُ نَحْو سجَال الْقَوْم أبْتَرِدُ هَذَا بَرَدْتُ بِبرد الماءِ ظاهرَهُ ... فَمنْ لنارٍ عَلَى الأحشاء تَتَّقِدُ والأُوار: مَا يجدُ من الْغُلَّةِ والحرارة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: والنارُ قَدْ تَشْفِي من الأُوَار وأمّا السِّجَالُ فَجمع سجلٍ، وَهُوَ الْكَبِير من الدِّلاء، قَالَ الراجز: لطالما حَلَّأْتُمَاهَا لَا تَرِدْ ... فَخَلِّيَاها والسِّجالَ تبتَرِدْ

الالتذاذ بالتلاقي بعد الفراق

وأمّا قَوْله: أبترد فَهُوَ افتعلُ من قَوْلهم: بَرّدَ الماءُ حرارةَ جوفي، قَالَ الشَّاعِر: ةعطل قَلْوصِي فِي الرِّكابِ فإنَّها ... سَتَبْرُدُ أكْبَادًا وتُبْكِي بواكيا وَرُوِيَ لنا قَوْله فِي الشّعْر الثَّانِي: وأبثثتُها وَجْدي مَكَان سِرِّي. الالتذاذ بالتلاقي بعد الْفِرَاق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمبرد، قَالَ: حَرَّم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه الْقِيَان، وَكتب إِلَيْهِ أَحْمَد بْن عَبْد السَّلام الْخُزَاعيّ رقْعَة وَلَم يُترجمها ودَسَّها فِي رقاع المتظلمين، فِيهَا: عَرَفَاتُ الْأَمِير أيَّده الل ... هـ بطول التَّوْفِيق والتَّسْديدِ فرقت بَيْننَا وبَيْنَ مُدِلٍّ ... وعجابٍ ومنصفٍ وفريد كم قُلُوب قَدْ أحرقت فِي صُدورٍ ... ودموعٍ قَدْ أُقْرِحَتْ من خُدودِ فَوَقع مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر فِي رقعته: حُسْنُ رَأْي الْأَمِير فِي الْعُشَّاق ... وفَّر الْحُبَّ بامتناعِ التلاق خَافَ أَن تُحْدِثَ المَلالُ سُلوًا ... فتلافي الهَوَى بِبَعْض الْفِرَاق وأغضُّ اللقاءِ مَا كَانَ مِنْهُ ... من تناءٍ وبَعْدَ طوُل اشتياق شجرٌ غَرْسُهُ كريهٌ ولكنْ ... يُجْتَنَى غِبُّهُ لذيذَ المذاق قَالَ القَاضِي: قَدْ قَالَ النّاس فِي تضاعيف الالتذاذ بالتلاقي بعد الْفِرَاق، وَفِي تسهيل الْفِرَاق، واستحبابه لوفور الِاسْتِمْتَاع بالأوبة والاتفاق، فَأَكْثرُوا، وَإِن كَانَ أَكْثَرهم يعلِّلُ نَفسه ويُرضيها بِمَا لَو خُلِّيَ وَمَا يختاره لَمْ يرضه لَهَا، لَمْ نَبْن كتَابنَا هَذَا عَلَى استقصاء أَنْوَاعه، وَاسْتِيفَاء الْأَبْوَاب فِيهِ، فنجمع ذَلِكَ ونستوعبه، وَهُوَ يَأْتِي فِي هَذِهِ الْمجَالِس مُتَفَرقًا بِحَسب مَا يحضرنا، وَيخرج لنا، وَبِاللَّهِ توفيقنا، وبمشيئته وَحسن مَعْرفَته نرجو أَن تَجْري مقاصدنا ومتصرفاتنا. أَبْيَات وجدت عَلَى سدّ مأرب حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا، قَالَ: لما هُدّمَتْ مَأْرِبُ سَبَأ أُصِيب فِي ركن من أَرْكَانهَا: ستأتي سنونُ هِيَ المعضلا ... ت تُرَجعُ مل الهَجْعةِ الأَجْدَل وفيهَا يُهينُ الصَّغيرُ الكبيرَ ... وذُو الْحلم يُسْكِتُه الأجهل ترى الشَّيْخ يُلْقِي الْعَصَا طَائِعا ... وَيَمْشي عَلَيْهَا الْفَتى الأَرْجَلُ وَفِي الرُّكْن الثَّانِي:

المجلس الثامن والأربعون

مَا يَكُنْ كَائِنا لَا شكّ فِيهِ ... يَزِدْهُ الصُّبْحُ وَاللَّيْل اقترابا وليسا زَائِدِي شَيْئا تَوَلَّى ... وحَالا دُونَهُ إِلا ذَهَابَا وَفِي الرُّكْن الثَّالِث: أيالك دَهْرًا قَدْ خَلا عَجَبُهْ ... دَهْرًا تحول رَأسه وذنبه دَهْرًا تَدَاوَلَهُ الإماءُ فَقَدْ ... تَرْضَى بماءِ بُطُونِهَا عَرَبُهْ وَفِي الرُّكْن الرَّابِع الْأَخير: الأخيرُ شَرُّ ... الأخيرُ شَرّ قَالَ القَاضِي: تُرْجع مِل الهَجْعة أَرَادَ من الهجعة، فَحذف النُّون، وَلَم يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلهَا لِئَلَّا ينكسر الشّعْر، وَهَذَا مذهبٌ مَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة إِذا كَانَتْ هَذِهِ اللَّام ظَاهِرَة كَقَوْلِهِم: بَلْعَنْبر وبَلْحَرث وبَلْقَيْن، فَإِذا كَانَت اللَّام لَا تظهر أخرج عَلَى أَصله كَقَوْلِك، بَنو الرحل وَيَقُولُونَ: بَلْمَرة لظُهُور اللَّام، قَالَ الشَّاعِر: غَدا بني علْبَاء بَكْر بْن وَائِل ... وعجا صُدُور الْخَيل نحر تَمِيم وَمن الْكثير الفاشي من هَذَا الْبَاب فِي كَلَامهم قَوْلهم: مَا أنْسَ مِلْ أَشْيَاء بِمَعْنى من الْأَشْيَاء، قَالَ الْأَعْشَى: فَمَا مل أَشْيَاء لأنس قَوْلهَا ... لَعَلَّ النَّوَى بعد التغرق تصقب فَمَا أنسى ملْ أشياءِ لَا أنسى قَوْلَها ... وأدمُعها يَغْسِلْن حَشْو المكاحِلِ وَهَذَا بَاب يَتَّسِع، ويتصل بِهِ الْبَيَان عَنْ قِرَاءَة أَبِي عَمْرو: " وأنَّهُ أَهْلَكَ عَادَلْ أُولَى "، وقَالَ الشَّمَاخُ بْن ضِرار يمدح عرابة الأوسي: رَأَيْت عرايتل أَوْسِيَّ يَسْمُو ... إِلَى الخيراتِ مُنْقَطِعَ القَرِين ولِشَرْح هَذَا الْمَعْنى مَوضِع من كتبنَا هُوَ أحقُّ بِهِ. المجلِسُ الثَامِن وَالأربَعوُنَ خَبَرُ بَنِي أُبَيْرِقٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَرَّانِيُّ بِبَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بيتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ " بَنُو أُبَيْرِقٍ ": بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلا مُنَافِقًا، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ يَنْحَلُهُ بَعْضَ الْعَرَبِ، ثُمّ يَقُولُ: قَالَ فُلانٌ كَذَا وَقَالَ فُلانٌ كَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْرَ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرُ إِلا الْخَبيث، فَقَالَ:

أوكلما قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَصَمَوْا وَقَالُوا ابْنُ الأُبَيْرِقِ قَالَهَا؟ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ فاقةٍ وحاجةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يسارٌ فَقَدِمَتْ ضافطةٌ مِنَ الشَّامِ، ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهِ نَفْسَهُ، فَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَقَدِمِتْ ضافطةٌ مِنَ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زيدٍ حِمْلا مِنَ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ، وَفِي المَشْرَبَةِ سلاحٌ لَهُ دِرْعَانِ وَسَيْفَاهُمَا وَمَا يُصْلِحُهُمَا، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ اللَّيْلِ فَنُقِبَتِ الْمَشْرَبَةُ فَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلاحُ، فَأَتَى عَمِّي رِفَاعَةَ، فَقَالَ: ابْنَ أَخٍ! أتَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا فَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَشَرَابِنَا وَسِلاحِنَا، قَالَ: فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقروا فِي هَذِه اليلة، وَلا نَرَى فِيمَا نَرَاهُ إِلا بَعْضَ طَعَامِكُمْ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ - قَالُوا وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحَبَكُمْ إِلا لِبِيدَ بْنَ سَهْلٍ - رجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاحٌ وَإِسْلامٌ - فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ لبيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَبَنِي أُبَيْرِقٍ! وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتَبِنْ هَذِهِ السَّرِقَةُ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ، حَتَّى لم نشك أَنهم أَصْحَابنَا، فَقَالَ: لي عمي: يَا ابْن أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: قَتَادَةَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَهْلَ بيتٍ مِنَّا أَهْلُ جفاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زيدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلاحَهُ وَطَعَامَهُ، فَلْيَرُدُّوا سِلاحَنَا فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ أَتَوْا رَجُلا مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: أُسَيْدُ بْن عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قومٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدُوا إِلَى بيتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلامٍ وَصَلاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بينةٍ وَلا تثبتٍ، قَالَ قَتَادَةَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بيتٍ ذُكِرَ فِيهِ إِسَلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ تثبتٍ وَلا بَيِّنَةٍ، قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَتَى عَمِّي رِفَاعَة، فَقَالَ يَا ابْن أَخٍ! مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَل الْقُرْآنُ " إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا - أَيْ بَنِي أُبَيْرِقٍ - وَأَنْتَ، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رحِيما - أَيْ مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ -، وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ - أَي بني بيرق - إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا، هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ

معنى الضافطة، والدرمك

الله غَفُورًا رحِيما - أَيْ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ - وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائفةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شيءٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا، لَا خَيْرَ فِي كثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بصدقةٍ أَوْ معروفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيما " إِلَى: وَمن يُشَاقق الرَّسُول. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ إِلَى رِفَاعَةَ، قَالَ: قَتَادَةُ: فَلَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلاحِ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أَرَى إِسْلامَهُ مَدْخُولا، فَلَمَّا أَتَيْته بِالسِّلَاحِ، قَالَ: يَا ابْن أَخِي! هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بشيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَنَزَلَ عَلَى سُلافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهدى وَيتبع غير سبل الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ " إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلافَةَ رَمَاهَا حَسَّانٌ بأبياتٍ مِنْ شِعْرٍ، فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْهُ فِي الأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أهدَيْتَ إِلَى شِعْرِ حَسَّانٍ، مَا كنت تَأتِينِي بِخَير. قَالَتْ: أهدَيْتَ إِلَى شِعْرِ حَسَّانٍ، مَا كُنْتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ. معنى الضافطة، والدرمك قَالَ القَاضِي: قَول الرَّاوِي فِي هَذَا الْخَبَر: ضافطة أَرَادَ عَيْرًا أَوْ رُفْقه فِيهَا ميرة، وَقَوله: الدَّرْمَكُ يُرِيد النَّقي، وَمِنْه الْخَبَر: " إِن الأَرْض بعد الْبَعْث درمكةٌ بَيْضَاء "، قَالَ: أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة: لَهُ دَرْمَكٌ فِي رَأْسِهِ ومشاربٌ ... وقدرٌ وخبازٌ وصاعٌ وَدَيْسَقُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: فِي تُرْبَةِ الْجَنَّةِ: إِنَّهَا الْخُبْزُ مِنَ الدَّرْمَكِ. وَقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: الدَّرْمَكُ خُبْزُ الحَوَّارَى، وَأنْشد: ذَهَب الَّذِين إِذا اسْتَجَعْتُ فَزُرْتُهُمْ ... خَبَزُوا الْفُؤَادَ بدرمكٍ وشَرَابِ حذف الْيَاء فِي مثل يَا ابْن أَخ وَيَا ابْن أمّ وَفِي الْخَبَر: يَا ابْن أَخ، بِحَذْف الْيَاء الْمُضَاف إِلَيْهَا وإبقاء الكسرة دلَالَة عَلَيْهَا، وَهَذَا وَجه مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب، غَيْر أَن مُعظم النَّحْوِيين زَعَمُوا أَن الَّذِي يكثر اسْتِعْمَاله فِي هَذَا الْبَاب موضعان: يَا ابْن أمَّ وَيَا ابْن عَم، عَلَى اخْتِلاف الْقِرَاءَة فِي فتح الْمِيم وَكسرهَا من قَوْله يَا ابْن أم، وعَلى مَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَة من لُغَات الْعَرَب، واعتل بَعضهم فِي اخْتِصَاص هذَيْن الاسمين لهَذَا الْمَعْنى بِابْن الرَّجُل يَقُولُ: يَا ابْن أمَّ وَيَا ابْن عَم، لمن لَيْسَ بأَخيه وَلا ابْن عمّه، وَهَذَا عِنْدِي لَازم فِي يَا أخي وَيَا ابْن أَخِي لِكَثْرَة قَوْلهم: يَا أَخِي وَيَا ابْن أخي

كتب بني أمية أقصر من كتب بني العباس

للْأَجْنَبِيّ، وَقد يَقُولُونَ يَا ابْن أُمِّي فِي الْإِضَافَة فِي يَا ابْن أُمِّي، ويُسَكِّنُونها تَارَة ويحركونها أُخْرَى، قَالَ الشَّاعِر: يَا ابْن أمِّي وَيَا شُقيّقَ نَفْسِي ... أَنْت خلَّيْتَنِي لدهرٍ شَدِيدِ وقَالَ أخر: يَا ابْن أمِّيَ وَلَو شَهِدْتُكَ إذْ ... تَدْعُو تميمًا وأنتَ غَيْرُ مُجَابِ وَقَوله: وَكَانَ شَيخا قَدْ عَسى، يَعْنِي أَن الْكِبَرَ قَدْ بلغ مِنْهُ وَأثر فِيهِ، وَقد قرىء " وقَدْ بَلَغْتُ من الْكِبَرِ عِسِيًّا " وعُسِيًّا عَلَى مَا بَيْنَ الْقُرَّاءِ من الاخْتِلاف فِي ضَمِّ الْعين عَلَى الأَصْل وَكسرهَا، قَالَ الشَّاعِر: لَوْلَا الحياءُ وَأَن رَأْسِيَ قَدْ عَسَا ... فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أمَّ الْقَاسِم ويروى: وَقَدْ بدا، ويُقَالُ: فِي هَذَا الْبَاب الْعُسُوُّ والْعُتُوّ كتب بني أُمَيَّة أقصر من كتب بني الْعَبَّاس حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ: سَمِعْتُ بعض أَصْحَابنَا يُحَدِّثُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن سَوَّار، قَالَ: كُنْت غُلَاما أكتب بَيْنَ يَدي يَحْيَى بْن خَالِد، فَدخل عَلَيْه شيخٌ ضخمٌ جميل الْهَيْئَة، فأعظمه يَحْيَى وَأَقْعَدَهُ إِلَى جانِبه وحَادَثَه ثُمّ قَالَ لَهُ: مَا بالكم كُنْتُم تكتبون الْكتب إِلَى عُمّالكم فِي سَائِر أُمُوركُم فَلَا تطبلون، وَإِنَّمَا الْكتاب بِقدر الْفَضْل من كتبنَا، وَنحن نطيل إطالة لَا يمكنّا غَيْر ذَلِكَ، فَقَالَ: اعْفِني، فَأبى عَلَيْه إِلَّا أَن يجِيبه، فَقَالَ وَأَنت غير ساخط؟ ٍ قَالَ: نعم، قَالَ: إِن بني أُمَيَّة كَانَتْ لَا تكْتب فِي الْبَاطِل أَنَّهُ حقٌ، وَلا فِي الْحق أَنَّهُ بَاطِل فَلَا تُعْقِب أمرا قَدْ نفذ بِخِلَافِهِ أمرٌ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الإطالة وَطلب المعاذير والتلبيس، وَأَنْتُم تكتبون فِي الشَّيْء الْحق أَنه بَاطِل وَالْبَاطِل أَنَّهُ حق، ثُمّ تُعْقبون ذَلِكَ بِخِلَافِهِ فَلَا بُد لَكُمْ من الإطالة. قَالَ عَبْد اللَّه بْن سَوَّار: فسالت عَنِ الشَّيْخ فَقِيل لي: هَذَا رجلٌ من كُتَّاب بني أُمَيَّة القدماء من أَهْل الشَّام. قَالَ القَاضِي: قَول يحيى لهَذَا الْكتاب فِي سَائِر أُمُوركُم، إِن كَانَ أَرَادَ فِيمَا يسير وينتشر من أُمُوركُم، فَهُوَ صَوَاب فِي اللَّفْظ، وَإِن كَانَ أَرَادَ بِهِ الْعُمُوم والإحاطة عَلَى معنى جَمِيع أُمُوركُم، فَهُوَ خطأ من جِهَة اللَّفْظ وَالْمعْنَى، إِذْ السائرُ فِي هَذَا الْمَعْنى تَأْوِيله الْبَاقِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ: فعلت فِي بَاب كَذَا كَيْتَ وَكَيْت وَفِي سَائِر الْأَبْوَاب لِمَعْنى الْفَاضِل والبقية، يُقَال: أسأرت فِي الْإِنَاء أسأر بِالْهَمْز قَالَ الشَّاعِر: أعطِ الْمُلَوُّحَ سُؤْرَ الكلبِ يشربُهُ ... إِن الْمُلَوِّحَ شرابٌ عَلَى الكَدَرِ وقَالَ الْأَعْشَى: بانَتْ وَقَدْ أسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتهَا ... بعد ائتلافٍ وخَيْرُ الودِّ مَا نَفَعَا

ما للشيطان ذنب في هذا

وقَالَ أَيْضا: فبانتْ وَقَدْ أسْأرَتْ فِي الفؤا ... د صَدْعًا عَلَى نأْيِهَا مُسْتَطِيرَا وقَالَ حُمَيد بْن ثَوْر الْهِلَالِي: أَلا إنَّ أُمِّي مَا يزالُ مِطَالُها ... شَدِيدا وفيهَا سؤرةٌ وَهِي قاعِدُ يَعْنِي بَقِيَّة من الشَّبَاب، وَهِي من الْقَوَاعِد، وَقَدْ رُوِيَ بَيت الأخطل عَلَى وَجْهَيْن: وشاربٌ مربحٌ بالكأسِ نَادَمَنِي ... لَا بالحَصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ بِالْهَمْز فِي سَوَّار وَغَيره فَمن رَوَاهُ مهموزاً قالمعنى أَنَّهُ لَا يُفْضِل فِي الكأس شَيْئا إِذْ أَن هَذَا عيبٌ عِنْدهم من وَجْهَيْن، أَحَدهمَا: أَنَّهُ يدلُّ عَلَى عَجزه عَنِ الشَّرَاب أَوْ كَرَاهِيَة الشَّرَاب والنَّدام، وَمن رَوَاهُ بِسوار غَيْر مَهْمُوز فَمَعْنَاه بوثاب من المساورة والمواثبة، فَهَذَا بَيَان الْخَطَأ فِي هَذَا من جِهَة اللَّفْظ، وَأما من جِهَة الْمَعْنى فلكثرة كتب بني أُمَيَّة فِي عَظِيم الآثام وجسيم الْإِحْرَام، وذميم الْجور وَالْأَحْكَام، ولكثرة الإطالة فِي كتبهمْ، وَالْعجب من يَحْيَى كَيفَ أمسك عَنْ جَوَاب هَذَا الْمُتَكَلّم من أَن يريَهُ من إطالة كتب بني أُمَيَّة وَخطأ مَعَانِيهَا، ونَقْضِها أَكثر مَا أصدرت من أَحْكَامهَا. مَا للشَّيْطَان ذَنْب فِي هَذَا صلّى رَجُل مِنْهُم خلف إِمَام فَلَمَّا قَرَأَ " الْحَمْد " أرتج عَلَيْه فَلم يدر مَا يَقُولُ، فَجعل يَقُولُ: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، ويردد ذَلِكَ مرَارًا، فَقَالَ الشَّاطر من خَلفه: مَا للشَّيْطَان ذنبٌ إِلا أنَّكَ أَنْت مَا تحسنُ تقْرَأ. مجّان الشُّعَرَاء يصفونَ صَلَاة أحدهم حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه، قَالَ: صلّى يَحْيَى بْن المعلي الْكَاتِب، وَكَانَ فِي مجلسٍ فِيهِ أَبُو نواس ووالبة بْن الْحُبَاب وعَلِيّ بْن الْخَلِيل والْحُسَيْن الخليع صَلَاة فَقَرَأَ فِيهَا: قُلْ هُوَ الله أحد، فغلظ فَسلم، فَقَالَ: أَبُو نواس: أكْثَرَ يحيى غلظاً ... فِي قُلْ هُو اللَّهُ أحَدٌ فَقَالَ والبةُ: قَامَ طَويلا سَاكِنًا ... حَتَّى إِذا أَعْيَ سَجَدْ فَقَالَ عَلِيّ بْن الْخَلِيل: يزحَرُ فِي محرابِهِ ... زحيرُ حُبْلى بِولد فَقَالَ الْحُسَيْن الخليع: كأنَّمَا لِسَانُهُ شُدّ ... بحبلٍ من مَسَدْ منزلَة أَبِي الْعَتَاهِيَة عِنْد العباسيين حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عون بْن مُحَمَّد، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن

المجلس التاسع والأربعون

الْحَسَن، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَتَاهِيَة ينشد الْمَأْمُون: مولَايَ أَعْلَمُ ذِي علمٍ بِمَا يَأْتِي ... يزيدُني كُلّ يومٍ فِي كراماتي لَمْ يأتِ شَيْئا من الْأَشْيَاء أعْلمُهُ ... إِلا تحرّى بِهِ برِّي ومرضاتي أُعْطِيتُ فَوق المنى من سيدٍ ملكٍ ... وخصني اللَّهُ مِنْهُ بالكراماتِ عَدُوُّهُ من جُمَيْع النّاس كلهم ... فَالْحَمْد للَّه من يَبْغِي معاداتي فَقل لحاسدِ هَذَا الحبِّ مُتْ كَمَدًا ... فَالْحُبُّ يَقْسِمُهُ ربُّ السَّموات إِن لَمْ يعاودُهُ شكري فِي مدائحِهِ ... فَلَا تملَّيْتُ مِنْهُ حُسْنَ عاداتي فَقَالَ الْمَأْمُون: أَنْت يَا أَبَا إِسْحَاق تمدحنا مُنْذُ خمسين سنة، لَو كُنْت تَذُمُّنا لكَانَتْ لَك حُرْمة، وكل مَا نفعلُه بك من استحقاقك. المجلِسُ التاسِع وَالأربَعُونَ الحبُّ فِي اللَّهِ وَمَنْزِلَتِهِ أَخْبَرَنَا الْمُعَافِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمُقْرِي أَبُو الْعَبَّاسِ الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ الرَّسِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي رجلٍ زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أُسَلِّمُ عَلَيْهِ، قَالَ: هَل لَهُ عَلَيْهِ قَرْضٌ؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ يُعْلِمُكَ أَنَّهُ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ ". تَعْلِيق الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: هَذَا خبرٌ مَعْرُوف قَدْ كتبناه عَنْ عددٍ من الشُّيُوخ من طرق شَتَّى، وأتى فِي مَعْنَاهُ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدةٌ من الْأَخْبَار، وَأَنه قَالَ فِي بَعْضهَا: إِن اللَّه تَعَالَى ذكره، قَالَ: " حَقتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَحَقَّتْ مُحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ، وَإِنَّ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ". مِمَّا أشبه هَذَا مِمَّا يرغب فِي التحابِّ فِي اللَّه والتواصُل فِيهِ، وَإِنَّمَا يُخْلص الْمَوَدَّة والمخالة فِي اللَّه وَلَهُ مَعَ التَّقْوَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثر: " أَنَّهُ مَا تحاب قطّ رجلَانِ فِي اللَّه إِلا كَانَ أحبُّهما إِلَى اللَّه أشدهما حبا لصَاحبه "، مَتى عَرِيَ المتحابَّان من تقوى اللَّه فَإلَى أشدِّ الْعَدَاوَة مآلهما، وأقبحُ التباغُض عَاقِبَة أَمرهمَا، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ جَلَاله: " الأَخِلاءُ يومئذٍ بَعْضُهُمْ لبعضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ " وَقَد اقْتصّ اللَّه من أَحْوَال الْكفَّار وإخوانهم وطَوَاغِيتهم وأذْنَابِهم، وَمن تَبَرُّؤ بَعضهم من بعض، ولَعْنِ بَعضهم بَعْضًا، مَا فِيهِ تنبيهٌ للناظرين، وعظةٌ للمعتبرين، واللَّه نسْأَل التَّوْفِيق لما يرضيه، والْعِصْمة من جُمَيْع معاصية.

من أعلام النبوة

من أَعْلَام النُّبُوَّة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم، عَنْ أبي عُبَيْدَةَ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ليثٍ: بَعَثَنِي قَوْمِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ لآتِيَهُمْ بِخَبَرِهِ، فَقَدِمْتُ فَبِتُّ فِي جَبَلِ آلِ خُوَيْلِدٍ، وَمَعِي فُلانُ ابْن فُلانٍ، فَلَمْ أَرَ كَرُعْبِهِ، فَقُلْتُ: أَبِهَذَا الْقَلْبِ تُقَاتِلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ نَفْسِي تُخْبِرُنِي أَنَّهُ إِنْ رَآنِي قَتَلَنِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لِيَ الرَّجُلُ: ائْتِنِي بِخَبَرِهِ وَلا يَعْلَمَنْ بِمَكَانِي، قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَجِدُهُ جَالِسًا بِالأَبْطَحِ فِي ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَعْكَانِ بَطْنِهِ، وبلالٌ قَائِمٌ يَقْرَأُ " يس، وَالْقُرْآن الْحَكِيمِ " فَقُلْتُ لَهُ: مُرْهُ فَلْيَزِدْنَا مِنْ هَذَا الْكَلامِ الطَّيِّبِ، فَقَالَ: زِدْهُ يَا بِلالُ، فَقَرَأَ " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الإِسْلامُ؟ قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله، وَتَفْعَلُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ وَتَنْهَى عَمَّا تُنْهَى عَنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عِنْدِي أَمَانَةً لرجلٍ أَفَأَكْتُمُهَا أَمْ أُحَدِّثُكَ بِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُمْهَا وَهُوَ فُلانُ ابْن فُلانٍ، بَاتَ مَعَكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِي جَبَلِ آلِ خُوَيْلِدٍ وَلِلظَّالِمِينَ مَصَارِعُ، اللَّهُ صَارِعُهُ فِيهَا؟ قَالَ: وَرَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَرَحَلْتُ مَعَهُ فَانْكَشَفَتْ هَوَازِنُ، وَوَقَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ صَرِيعًا يَرْكُضُ بِرِجْلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْعَدَكَ اللَّهُ فَإِنَّكَ كُنْتَ تُبْغِضُ قُرَيْشًا. قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر علمٌ من إِعْلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّالَّةِ عَلَى ثبوتُ رسَالَته، وصحةِ نُبُوّتِه، وَمَا أطلعهُ اللَّه عَلَيْه من غَيْبه، الَّذِي يُكرم من يَخُصُّهُ بِهِ، وعَلى منزلَة قُرَيْش قومِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسرته ورهطه الأدنين وعِزّته. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ، قَالَ: " من يُرِدْ هَوَانَ قُريش أهانَهُ اللَّه " وَكَيف يُبغِضُ ذُو حجًى قَبِيلا مِنْهُم رَسُول اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سيد أصفيائه، وَخَاتم أنبيائه. يستحيي من النَّهر حَدثنَا الْحُسَيْن بت الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بْن إِسْحَاق القَاضِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن صَالِح الوَحَاصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، عَنْ صَفْوَان بْن عَمْرو، عَن شُرَيْح بْن عُبَيْد الْحَضْرَمِيّ، عَنْ كَعْب الْأَحْبَار. أَن رَجُلا من بَنِي إِسْرَائِيل أَتَى فَاحِشَة فَدخل نَهرا يغْتَسل فِيهِ، فناداه الماءُ: يَا فُلان أَلا تَسْتَحي ألم تتب من هَذَا الذَّنب؟ فَقلت إِنَّك لَا تعود فِيهِ؟ فَخرج من المَاء فَزعًا وَهُوَ يَقُولُ: لَا أعصي اللَّهَ، فَأتى جبلا فِيهِ اثْنَا عشر رَجُلا يعْبدُونَ اللَّه فَلم يزل مَعَهم حَتَّى تَخَطَّوْا موضعهم فنزلوا يطْلبُونَ الكَلأَ، فمرُّوا عَلَى ذَلِكَ النَّهر، فَقَالَ الرَّجُل: أما أَنَا فلستُ بذاهب مَعكُمْ، قَالُوا لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لأنّ ثَمَّ من قَد اطَّلع مني عَلَى خطيئةٍ فَأَنا أستحيي مِنْهُ أَن يراني، فَتَرَكُوهُ ومَضَوْا، فناداهم النَّهر: يَا أَيهَا الْعُبَّاد! مَا فعل صَاحبكُم؟ قَالُوا: زَعَم لنا أَن هَاهُنَا من قَد اطلع مِنْهُ عَلَى خطيئةٍ

خطبة زياد البتراء، وتعليق بعض من سمعها

فَهُوَ يستحيي مِنْهُ أَن يرَاهُ، قَالَ: يَا سُبْحَانَ الله! إِن بَعْضكُم ليغضب على وَلَده أَو على قراباته، فَإِذا تَابَ وَرجع إِلَى مَا يحب أحبه، وَإِن صَاحبكُم قَدْ تَابَ وَرجع إِلَى مَا أُحِب فَأَنا أحبُّه، فأْتُوه فأخْبِرُوه، واعْبُدُوا اللَّه عَلَى شَاطِئِي. فأخبروه فجَاء مَعَهم فأقاموا يعْبدُونَ اللَّه زَمَانا، ثُمّ إِن صَاحب الْفَاحِشَة توفّي، فناداهم النَّهر: يَا أَيهَا الْعُبَّاد وَالْعَبِيد الزُّهاد! غَسِّلُوه من مائي وادْفُنُوه عَلَى شاطئي حَتَّى يبْعَث يوْم الْقِيَامَة من قُرْبِي، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، وَقَالُوا: نبيتُ ليلتنا هَذِهِ عَلَى قَبره نبْكي، فَإِذا أَصْبَحْنَا سِرنا، فَبَاتُوا عَلَى قَبره يَبْكُونَ، فَلَمَّا جَاءَ وَجْهُ السَّحَر غَشِيَهُم النُّعَاسُ، فأصْبحوا وَقَدْ أنبت اللَّه عَلَى قَبره اثْنَتَيْ عشرَة سروة، فَكَانَ أول سروٍ أنْبَتَهُ الله تَعَالَى عَلَى وَجه الأَرْض، فَقَالُوا: مَا أنبت هَذَا الشّجر فِي هَذَا الْمَكَان إِلا وَقَدْ أحبّ عبادتَنَا فِيهِ، فأقاموا يعْبدُونَ اللَّه عَلَى قَبره، كلما مَاتَ مِنْهُم رجلٌ دفنوه إِلَى جَانِبه حَتَّى مَاتُوا بأجمعهم، قَالَ كَعْب: فَكَانَت بَنو إِسْرَائِيل يحجون إِلَى قُبُورهم. خطْبَة زِيَاد البتراء، وَتَعْلِيق بعض من سَمعهَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أَبِي يَعْقُوب الدِّينَوَرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد الْفِرْيَابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْملك بْن عُمَير، قَالَ: شهدتُ زيادَ بْن أَبِي سُفْيَان وَقَدْ صعد الْمِنْبَر فسَلَّم تَسْلِيمًا خَفِيًّا، وانْحرف انحرافًا بطيًّا، وخطب خطْبَة بُتَيْرا، قَالَ ابْن الْفرْيَابِيّ: والبتيرا: الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ، ثُمّ قَالَ: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين قَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ، وَشهِدت الشُّهُود بِمَا قَدْ علمْتُم، وَإِنَّمَا كنتُ امْرأً حفظ اللَّه مني مَا ضيع النّاس، وَوصل مني مَا قطعُوا، أَلا إِنَّا قَدْ سُسْنا وساسنا السائِسُون، وجَرَّبْنا وجَرَّبَنَا المجرِّبُون، ووُلِّينا ووَلِيَ علينا الوالون، وَإِنَّا وجدنَا هَذَا الْأَمر لَا يصلحه إِلا شدةٌ فِي غَيْر عُنْف، ولينٌ فِي غَيْر ضَعف، وأيم اللَّه إِن لي فِيكُم صَرْعَى، فليحذر كُلّ رَجُل مِنْكُم أَن يَكُون من صَرْعاي، فواللَّهِ لآخُذَنَّ البريء بالقسيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حَتَّى تلين لي قناتكم، وَحَتَّى يَقُولُ الْقَائِل: " انْجُ سَعْد، فقد قُتِل سُعَيْد "، أَلا رُب فرحٍ بإمارتي لن تَنْفَعَه، ورُبَّ كارهٍ لَهَا لن تضره، وَقد كَانَت بيني وبَيْنَ أَقوام مِنْكُم إحَنٌ وأحْقَاد، وَقَدْ جعلتُ ذَلِكَ خلف ظَهْري وَتَحْت قدمي، وَلَو بَلغنِي عَنْ أحدكُم أَن الْبُغْضَ لي قَتَلَهُ مَا كَشفْتُ لَهُ قِناعًا، وَلا هَتكتُ لَهُ سِتْرًا، حَتَّى يُبْدِيَ لي صفْحَته، فَإِذا أبداها لَمْ أُقِلْه عَثْرته، أَلا وَلا كذبةَ أكثرُ شاهدٍ عَلَيْهَا من كَذِبَةِ إِمَام عَلَى مِنْبر، فَإِذا سمعتموها مني فاغتمزوها فِي، وَإِذَا وعدتكم خيرا أَوْ شرا فَلم أفِ بِهِ فَلَا طَاعَة لي فِي رِقَابكُمْ، أَلا وَأَيّمَا رَجُل مِنْكُم كَانَ مكتبه خُرَاسَان فأجَلُه سنَتَان ثمَّ هُوَ أَمِير نَفسه أَلا وَأَيّمَا رجلٍ مِنْكُم كَانَ مكتبه دون خُرَاسَان فَأَجله سِتَّةُ أشهر ثُمّ هُوَ أَمِير نَفسه، وأيُّما امرأةٍ احْتَاجَت فإننا نعطيها عطاءَ زَوجهَا ثُمّ نُقَاصُّهُ بِهِ، وَأَيّمَا عقال فَقَدْتُمُوه من مُقامِي هَذَا إِلَى خُرَاسَان فَأَنا لَهُ ضامنٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ

شريطة بشار

نُعيم بْن الْأَهْتَم الْمِنْقَرِيّ، فَقَالَ: أشهدُ قَدْ أُوتيت الْحِكْمَة وفَصْل الخَطَّاب، فَقَالَ: كذبت أَيهَا الرَّجُل ذَاك نَبِيَّ اللَّه دَاوُد عَلَيْه السَّلام، ثُمّ قَامَ إِلَيْهِ الْأَحْنَف بْن قَيْس، فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل إِنَّمَا الجوادُ بِشَدِّه، والسيفُ بِحَدِّه، والمرء بِجَدِّه، وَقَدْ بلَّغَك جَدُّك مَا ترى، وَإِنَّمَا الشُّكْر بعد الْعَطاء، والثناءُ بعد الْبلَاء، ولسنا نُثْنِي عَلَيْك حَتَّى نَبْتليَك، فَقَالَ: صدقت، ثُمّ قَامَ أَبُو بِلَال مرداس ابْن أُدَيَّة، فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل: قَدْ سَمِعت قَوْلك: وَالله لآخذن البريء بالسقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر، ولَعَمْرِي لقَدْ خَالَفت مَا حكم اللَّه فِي كِتَابه إِذْ يَقُولُ: " وَلا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخْرَى " فَقَالَ: إيهًا عني، فواللَّهِ مَا أجدُ السَّبيل إِلَى مَا تريدُ أَنْت وأصحابُك حَتَّى أخوض الْبَاطِل خوضاً. ثمَّ نزل. فَقَامَ مرداس بْن أدية، وَهُوَ يَقُول: يَا طَالِب الْخَيْر نهر الجَوْرِ معترضٌ ... طولُ التهجُّدِ أَوْ فتكٌ بجبار لَا كنت إِن لم أَصمّ عَنْ كُلّ غانيةٍ ... حَتَّى يكون بريق الْحور إفطاري فَقَالَ لَهُ رجلٌ: أَصْحَابك يَا أَبَا بِلَال شباب، فَقَالَ: شباب مكتهلون فِي شبابهم، ثُمّ قَالَ: إِذا مَا اللَّيْل أظْلم كَابَدُوهُ ... فيُسْفِرُ عَنْهُمُ وهُمُ سُجُودُ فسرى وانجفل النّاس مَعَه، فَكَانَ قَدْ ضيق الْكُوفَة عَلَى زِيَاد. شريطة بشار حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْف بْن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ دِعْبَل لإِبْرَاهِيم بْن الْعَبَّاس: أُرِيد أَن أصحبك إِلَى خُرَاسَان، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: حَبَّذَا أَنْت صاحبًا

من كنوز العلم

مصحوبًا إِن كُنَّا عَلَى شريطة بشار قَالَ: وَمَا شريطة بشار قَالَ: قَوْله: أخٌ خيرٌ من آخيتُ أحملُ ثِقْلَهُ ... ويحملُ عَني حينَ يَفْدَحُنِي ثِقَلِي أخٌ إِن نَبَا دهرٌ بِهِ كُنْتُ دُونَهُ ... وَإِن كانَ كونٌ كَانَ لي ثقةٌ مثْلي أخٌ مالُهُ لي لستُ أرهبُ بُخْلَهُ ... وَمَالِي لَهُ لَا يرهبُ الدهرَ من بُخْلِي قَالَ: ذَلِكَ لَك ومزية فاصطحبا. من كنوز الْعلم حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، قَالَ: مُحَمَّدٌ - يَعْنِي بْن زَكَرِيّا الغَلابِي -، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ: قَالَ: ابْنُ يَحْيَى الأَسْلَمِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ مَائِدَةً عَلَيْهَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيِّ بْن أَبِي طالبٍ، وَعبد اللَّه بن الْعَبَّاس، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، فَسَقَطَتْ جرادةٌ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ الحنيفة: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ عَلَى جَنَاحِ الْجَرَادَةِ مَكْتُوبٌ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأَتَكَلَّمُ بِحَضْرَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ - يَعْنِي الْحَسَنَ - فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ! مَا كَانَ أَبُوكَ يَقُولُ؟ قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ: عَلَى جَنَاحِ الْجَرَادَةِ مَكْتُوبٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْجَرَادَةِ وَخَالِقُهَا، فَإِذَا شِئْتُ أَنْ أَبْعَثَهَا رِزْقًا لِقَوْمٍ فَعَلْتُ، وَإِذَا شِئْت أَن أبعثها عزاباً عَلَى قومٍ فَعَلْتُ، فَقَامَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْحَسَنِ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ. سَبَب غضب بشار عَلَى سلم حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد الْبَزَّاز، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف بْن الْمَرْزُبَان، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن عَلِيّ بْن يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن صَالِح الْمُؤَدب وَكَانَ أحد الْعلمَاء، قَالَ: أَخْبَرَنِي جمَاعَة من أَهْل الْأَدَب أَن بشارًا غَضِبَ عَلَى سلمٍ الخاسر وَكَانَ من تلامذته ورُواته، فاستشفع عَلَيْه: بِجَمَاعَة من إخوانه فأتَوْه، فَقَالُوا: جئْنَاك فِي حَاجَة، قَالَ: كُلّ حاجةٍ لَكُمْ مَقْضِيَّة إِلا سَلْمًا، قَالُوا: مَا جئْنَاك إِلا فِي سَلْم فَلَا بُدَّ من أَن ترْضى عَنْهُ، قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هوذا فَقَامَ سلْمٌ فَقبل رَأْسَهُ ويَدَيْه، وقَالَ: يَا أَبَا مُعَاذ! خِرِّيجُكَ وأديبك، قَالَ: يَا سَلْم! من الَّذِي يَقُولُ: من رَاقَبَ النّاس لَمْ يَظْفَرْ بحاجَتِهِ ... وفاز بالطَّيباتِ الفاتكُ اللَّهِجُ قَالَ: أَنْت يَا أَبَا مُعَاذ، جعلني اللَّه فدَاك، قَالَ: فَمن الَّذِي يَقُولُ: مَنْ رَاقَب النَّاسَ مَاتَ غَمًّا ... وفاز باللَّذَّةِ الجَسُورُ قَالَ: خرِّيجُك يَقُولُ ذَلِك - يَعْنِي نَفسه - فَقَالَ: فتأخُذُ مَعَاني الَّتِي عنيتُ بهَا، وتَعِبْتُ فِي اسْتنباطها، فتكْسُوها ألفاظًا أخفَّ من لفاظي حَتَّى يُرْوَى مَا تَقُولُ: وَيذْهب شِعرِي، لَا

انتقام العنزي

أرْضَى عَنْك أبدا، قَالَ: فَمَا زَالَ يتَضَرَّع إِلَيْهِ ويتشفع لَهُ الْجَمَاعَة حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ. انتقام الْعَنزي حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يَحْيَى النَّحْويّ. قَالَ: كَانَ رَجُل من عَنْزَةَ دَعَا رؤبة بْن العَجَّاجِ فأطعمه وسقاه، وأنشده فَخْرَه عَلَى عَنزةَ، فسَاء ذَلِكَ العَنزِيَّ، فَقَالَ لغلامه سِرا: اركب فَرَسِي وجِئْني بِأبي النَّجْم، فَطَلَبه فجَاء وَعَلِيهِ جُبَّة حزوبت من غَيْر سَرَاوِيل، فَدخل وَأكل وَشرب، ثُمّ قَالَ: العَنْزَي: أنشدنا يَا أَبَا النَّجم ورؤبة لَا يعرفهُ، فانتحى فِي قَوْله: الحَمْدُ للَّهِ الوَهُوبِ المجْرِلِ حَتَّى بلغ: تبقلَتْ من أَوَّلِ التَّبَقُّلِ ... بَيْنَ رِمَاحَيْ مَالِكٍ ونَهْشَلِ قَالَ القَاضِي: ثَنَّى أَبُو النَّجْم فِي قَوْله بَيْنَ رماحي، لِأَن رماح الْفَرِيقَيْنِ وَإِن كَانَتْ جمعا جملتان كَمَا قَالَ الشَّاعِر: ألم يُحْزِنْكَ أَن جبَالَ قيسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعا وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجل: " هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا " وقَالَ جلّ ذكره: " سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيهَا الثَّقَلَان " فَثنى وَجمع عَلَى مَا فسرناه، فَقَالَ لَهُ رؤبة: إِن نَهْشَلَا ابْن مَالك يَرْحَمك اللَّه، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أَخِي إِن النّاس أشباه، إنَّه لَيْسَ مَالك بْن حَنْظَلة، إنَّه مَالك بْن ضُبَيْعة، قَالَ: فَخَزِيَ رُؤْبةُ وحَيِيَ من غَلَبَة أبي النَّجْم إِيَّاه، ثمَّ أنْشدهُ أَبُو النَّجْم فخره على تَمِيم، فَاغْتَمَّ رؤبة، وقَالَ لصَاحب الْبَيْت: لَا يحبُّك قلبِي أبدا. قَالَ القَاضِي: والبَتُّ: الكساء ويجمعُ بُتُوتًا. وَقَدْ ذكر أَن رؤبة ذوكر بالأراجيز، فَقَالَ: وَقَدْ ذكر أَبُو النَّجْم قصيدتَهُ تِلْكَ: لعنها اللَّه، يَعْنِي هَذِهِ اللامية لاستجادته إِيَّاهَا وغضبه مِنْهَا وحَسَدِه عَلَيْهَا. القصيدة أَيْضا حَدَّثَنَا المظفَّر بْن يَحْيَى بْن أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن بشر المرشدي، أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي، حَدَّثَنَا الْمَازِنِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَصْمَعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سُلَيْم الْعَلاء، قَالَ: قُلْتُ لرؤبة: كَيفَ رَجَزُ أَبِي النَّجْم عنْدكُمْ؟ قَالَ: لاميته تِلْكَ عَلَيْها لعنةُ اللَّه، قَالَ: فَإِذا هِيَ قَدْ غَاظَتْهُ وبلغتْ مِنْهُ. أَسْوَأ النّاس حَالا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سلم الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بَكَّار، قَالَ: قَالَ بَعضهم: أَسْوَأُ النّاس حَالا مَنْ قويتْ شَهْوَتُهُ، وَبَعُدَتْ هِمَّتُهُ، وَاتَّسَعَتْ معرفتُه وضاقتْ قدرته.

أين حدث الخرق

أَيْنَ حدث الْخرق قَالَ: وقَالَ: الزُّبَير: كَانَ بِالْبَصْرَةِ رَجُل بصيرٌ بِالْغنَاءِ، فَحَضَرَ مجْلِس بعض الْأَشْرَاف فحفظ عَنْهُ بعضُهم صَوتا أخل بِهِ بَعْدُ، فَلَقِيَهُ يَوْمًا بِبَاب بعض الْأُمَرَاء، فَقَالَ: يَا أَبَا فُلان! الثَّوْب الَّذِي أعْطَيتنا كَانَ فِيهِ خَرْق، فَقَالَ: عنْدكُمْ حدث ذَلِكَ. هَذِهِ الْأَحَادِيث الصغار حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن يُونُس، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِم وذُكِر هَذِهِ الْأَحَادِيث الصغار، فَقَالَ: هَذَا اللُّؤْلُؤ. شكر وردٌّ عَلَيْه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَليفَة قَالَ: أَخْبَرَنِي القَاضِي مُحَمَّد بْن الْفَتْح السِّيِّاري. قَالَ: اجْتَزْتُ بالكوفَةِ فِي بعض شوارعها، فأخَذَنِي بَطْني فَلم أدرِ مَا أصنع، إِذْ رَأَيْتُ خِصِيًّا عَلَى بَاب كَبِير، فَقلت: أصلحك اللَّه، هَلْ من موضعٍ أبولُ فِيهِ؟ فَقَالَ لي: ادخُل، فدخلتُ فَإِذا دَار كَبِيرَة قَوْراء، فِي وَسطهَا بُسْتان، فَرَأَيْت عينا من ثقبٍ فِي السِّتَارة، ووجهًا لَا يَنْبَغِي أَن يَكُون أحسن مِنْهُ، فَلَمَّا قضيتُ حَاجَتي، قُلْتُ فِي نَفسِي: إِن كَانَ مَعَ هَذَا الوجهِ الْحَسَنِ براعةُ لسانٍ فَهُوَ غَايَة، فَقلت وَأَنا خَارج لأُسْمِعَها: أحسن اللَّه لَكُمْ، وَبَارك عَلَيْكُم، وَتَوَلَّى مكافأتكم بالْحُسْنى، فَقَالَت مسرعةً: وَأَنت، فَبَارك اللَّه عَلَيْك وَأحسن إِلَيْك، فَمَا رَأينَا خَارِئًا أشكرَ مِنْك، فأفْحَمَتْنِي. لَا، وَلا العوراء حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد المطيقي، حَدَّثَنَا يُوسُف بْن مُوسَى المَرْوَزِيّ، قَالَ: قَالَ عَبْد اللَّه بْن خُبيق، سَمِعْتُ بعض أَصْحَابنَا، يَقُولُ: قِيلَ للفُضَيْلِ بْن عِياض مَاتَ حَمَّاد البربريُّ وَأوصى بِخَمْسَة أَفْرَاس، قَالَ فُضَيْل: وَأَصَابُوا من يَقْبَلُها؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: وإيش يَطْلُبُون عَلَيْها، قَالُوا: الْحَوْرَاء، قَالَ: لَا وَلا العوراء معنى الرِّفْه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن أبي خَيْثَمَة، قَالَ: أنشدت لسَعِيد بْن سُلَيْمَان المساحقي القَاضِي، فِي هَارُون بْن زَكَرِيّا كَاتب الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد: أزورك رِفهًا كلّ يومٍ وليلةٍ ... ودرُّك مخزونٌ عليّ قصير لأيّ زمانٍ أرتجيك وخلةٍ ... إِذَا أَنْت لَمْ تَنْفع وَأَنت وَزِيرُ فَإِن الْفَتى ذَا اللب يطْلب مَاله ... وَفِي وَجهه للطالبين بَشِيرُ قَالَ القَاضِي قَوْله: أزورك رِفْهًا، يَعْنِي كُلّ يوْم من غَيْر إغْبَابٍ، وَقَدْ أبان ذَلِكَ بقوله: كُلّ يوْم وَلَيْلَة، وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم فِي الْإِبِل: هِيَ تردُ المَاء رِفْهًا، إِذا اتَّصل وِرْدُها، ثُمّ يُقَالُ فِي إظمائها غبٌ وربعٌ وخِمس إِلَى عشر، وَهُوَ أقْصَى الإظماء، وَكنت بِحَضْرَة بعض

المجلس الخمسون

المجدُودين يَوْمًا مِمَّنْ حكمه زمانُ السُّوءِ فِينَا، وجَارَ بِبَسْطِ يَده وقَبْضِ أَيْدِينَا، وأشاع لَهُ فِي عَامَّة النّاس وعُشرائهم، وأغمارِهم وغوغائِهم، أَنَّهُ أوحدُ دهره، وقريعُ عصره، علما وذكاءً، وأدَبًا ومضاء، فتمثل بِبَيْت الْبُحْتُري من كَلمته السِّينيَّة الَّتِي يصفُ فِيهَا إيوانَ كِسْرى، وَهِي من جيد شعره وحَسَنِه، وأولها: صُنْتُ نَفْسِي عَمَّا يُدَنِّسُ نَفْسِي ... وترفَّعْتُ عَنْ جَدَا كُلّ جِبْس وَالْبَيْت الَّذِي تمثل بِهِ هَذَا الرَّجُل عَلَى قبح خطئِهِ فِيهِ: وبعيدٌ مَا بَيْنَ وَاردِ خمسٍ ... عللٍ شِرْبُهُ وَوَارِد سُدْسِ فَمَا رَأَيْت أحدا من حَاضِرِي مَجْلِسه يومئذٍ عَلَى كثْرتِهم قَدْ تبيَّن مِنْهُ إِنْكَار هَذَا اللَّفْظ وَلا لَحْظ، وَعَاد بعدُ بِمثل هَذَا فِي مجْلِس آخر، ثُمّ إِنَّنِي كُنْت أَنَا وَهُوَ يَوْمًا خَالِييْن، فَأَنْشد هَذَا الْبَيْت غَيْر مرةٍ عَلَى الْوَجْه الَّذِي أنكرتُه، فَقلت لَهُ: قَدْ سمعتُك تنشدُ هَذَا الْبَيْت غَيْر مرةٍ عَلَى مَا أنشدته فِي هَذَا الْوَقْت، ولَسْتُ أَدْرِي كَيفَ اتّفق لَك الْخَطَأ فِيهِ مَعَ ظُهُوره؟ وَكَيف لَمْ تتأمَّلْهُ فتعرفَ فسادَ الْمَعْنى الَّذِي إنشادك عبارَة عَنْهُ؟ قَالَ: فَكيف هُوَ؟ فَقلت لَهُ: وبعيدٌ مَا بَيْنَ وَارِد رفهٍ عللٍ شِرْبُهُ وواردِ خِمْسِ فَقَالَ: لَا، وَهُوَ عَلَى مَا رويتُه، فَقلت لَهُ: وأيّ بُعد بَيْنَ الْخُمْسِ والسُّدْس؟ هُوَ تاليه الْمُتَّصِل بِهِ الَّذِي يَلِيهِ، وبَيْنَ الرِّفْهِ وبَيْنَ الْخِمْس وَمَا دُونه بعد ظَاهر، وَفضل حَائِل، فَلم يَبِنْ لي مِنْهُ رُجُوع، وَقَدْ كَانَ كثيرا، مَا يرجعُ فِي أَشْيَاء كثيرةٍ إليّ، وَيرجع عَنْهَا عِنْد توقيفي إِيَّاه وتثبيتي لَهُ. المجلِسُ الخَمْسُونَ لَا نستعمل عَلَى عَملنَا من طلبه حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، حَدَّثَنَا مِنْدَلٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعِي رَجُلٌ، فَقَالَ: اسْتَعْمِلْنِي، فَقَالَ: إِنَّا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ طَلَبَهُ وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ ". شرح السَّبَب فِي ذَلِكَ قَالَ القَاضِي: تأملوا رحمنا اللَّه وَإِيَّاكُم، مَا ورد بِهِ هَذَا الْخَبَر عَنْ نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إخبارِهِ أَنَّهُ لَا يستعملُ عَلَى النّاس من طلب الْعَمَل عَلَيْهِم، وَلا من حَرَصَ عَلَى ولَايَة أُمُورهم، لِأَن من سَأَلَ هَذَا وحرص عَلَيْه لَمْ يُؤْمَنْ زَيْغُه عَنِ الْعدْل فِي من يلِي عَلَيْه، ومحاباته لمن يُواليه، وشفاءِ غيظه مِمَّنْ يُعاديه، والاستطالة بِمَا بُسط فِيهِ عَلَى من بُسط عَلَيْه، فيجورُ فِي حكمه، ويستعينُ بسلطانه عَلَى ظُلمه، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ، مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ وَكَلَهُ إِلَى نَفْسِهِ.

الشكوى من تولي الجهال الأمر

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ " أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مسألةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مسألةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ". وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْرِصَنَّ أحدٌ عَلَى الإِمَارَةِ فَيُعْزَلَ ". وَقَدْ كَانَ سُلَفَاؤُنَا مِنْ علماءِ الْمُسْلِمِين يَنْأون عَنِ الولايات ويمتنعون من ملابستها وَالدُّخُول فِيهَا، ويجانبون أَهلهَا مَعَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهَا وإكراههم عَلَيْهَا، حَتَّى إِن مِنْهُم من يتهيَّبُ الْفُتْيا فِي الدِّين، ويَكلُ مُسْتفْتيهِ إِلَى غَيره من الْمُفْتِين، وَلَو ذكرنَا مَا رُوِيَ فِي تَفْصِيل هَذِهِ الْجُمْلَة لأطلنا القَوْل وَالْوَصْف، وملأنا الأجلاد والصحف، وَقَدْ مضى فِي بعض مَا تقدم من مجَالِس كتَابنَا هَذَا من ذَلِكَ طرفٌ، ولعلنا نأتي بِكَثِير من هَذَا الْبَاب فِي المؤتنف، وَبِاللَّهِ نستعين، وَإِلَى اللَّه المشتكى مِمَّا يُرَاد فِي زَمَاننَا هَذَا، من تَقْلِيد السَّفَلَةِ والْجُهالِ السُّخَفاءِ الضُّلال للْأَحْكَام، وإجلاسهم مجَالِس الأئمَّة الْأَعْلَام، مَعَ عَظِيم جهالتهم، وسُقوط عدالتهم، وَفَسَاد أمانتهم، وقُبْح الظَّاهِر وَالْبَاطِن من أَمرهم، واللَّه وليُّ الانتقام مِمَّنْ يطوي فِي هَذَا الْبَاب بِصِحَّة الإِمَام، وَيسْعَى لما يُساق إِلَيْهِ من الْأَحْكَام، فِي هدم شَرِيعَة الإِسْلام، ونستعين اللَّه عَلَى تمكيننا من إِيضَاح هَذَا الْأَمر، وإنهائه إِلَى من إِلَيْهِ الْأَمر، ساسة الْأمة، ومُدَبِّرِي الملَّة، حَتَّى تنكشف لَهُ نصيحة المحقِّين، وفضيلة المحقِّقين، وَيظْهر لَهُ تمويه الْمُمَخْرقين، وَمَا تَنَحَّوْهُ ولبَّسُوه، وتبجحوا فِيهِ ودَنَّسوه، ويوفقه اللَّه جلَّ جَلَاله لتأمله حَقَّ تَأمله، والإصغاء إِلَيْهِ وتقبُّله، ويبسط فِيهِ لِسَانه وَيَده، ويُعلى فِيهِ أمره ونَهْيه، فَينزل كُلّ ذِي منزلةٍ مَنْزِلَته، وَيقف كل امرىءٍ عِنْد انْتِهَاء قدره، اللَّهُمَّ فِبِك نستعين، وَأَنت خير معِين، وَأَنت أرْضى بِمَا نُحِبه، وأكره لما نكرهه، وأقدر عَلَى نصْرَة الْحق وَأَهله، ومَحْق الْبَاطِل وحِزْبِه. الشكوى من تولي الْجُهَّال الْأَمر وَقَدْ حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْنِ جَعْفَرٍ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَعْرَابِيُّ، قَالَ: كَانَ مِنْ كَلامِ عَلِيِّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام وَكَثِيرًا مَا يَقُولُهُ فِي حُرُوبِهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَرْضَى لِلتَّرَضِيِّ، وَأَسْخَطُ لِلسُّخْطِ، وَأَقْدَرُ عَلَى أَنْ تُغَيِّرَ مَا كَرِهْتَ، وَأَعْلَمُ بِمَا تُقَدِّرُ، وَلا تُغْلَبُ عَلَى بَاطِلٍ، وَلا تَعْجَزُ عَنْ حَقٍّ، وَمَا أَنْتَ بغافلٍ عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ إِنِّي أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِي عَلَى الْوَسَائِطِ الْفُجَّارِ، وَالسُّفَرَاءِ الأَشْرَارِ، وَكُلِّ سَاخِطٍ خَامِلٍ، وَسَفِيهٍ جَاهِلٍ، مِمَّنْ قَدِمَ عَلَى نبيهٍ فَاضِلٍ، وَرُضِيَ بِهِ بَدَلا مِنْ كُلِّ عَالِمٍ عَاقِلٍ، فَهُوَ يَغُرُّ إِمَامَهُ، ويَفْجُرُ أَمَامَهُ وَتَأَمَّلُوا أَيُّهَا الأَلِبَّاءُ قُضَاةَ الْحَضْرَةِ، وَالْعِرَاقَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، بله أَطْرَاف الْبِلَاد ورسا تيق السَّوَادِ، أَيْنَ هُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ؟ وَأَيُّ حَظٍّ لَهُمْ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالْعَفَافِ وَالْأَمَانَة؟ وَقد كَانَ الْأَئِمَّة فِيمَا مَضَى رُبَّمَا دَلَّسَ عَلَيْهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ مَنْ هُوَ عَلَى بَعْضِ الصِّفَاتِ الَّتِي قَدَّمَنَا ذِكْرَهَا، فَيَنْتَبِهُ الرَّاقِدُ مِنْهُمْ

ما قيل في تقلد نوح بن دارج القضاء

مِنْ غَفْلَتِهِ، وَيَسْتَيْقِظُ الْوَسْنَانُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى سَوَامِ رَعِيَّتِهِ، فَيَبْنِي مَا انْهَدَمَ، وَيَسُدُّ مَا انْثَلَمَ، وَيَسْتَدْرِكُ الْفَاسِدَ بِإِصْلاحِهِ، وَيَتَلافَى التَّفْرِيطَ بِاسْتِصْلاحِهِ، وَكَانَتِ الرَّعَايَا تَمْتَعِضُ مِنْ مُنْكَرِ هَذَا النَّوْعِ، وَتَشْمَئِزُّ مِنْهُ فَلا تُقَارُّ عَلَيْهِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى رَفْضِ الأَرَاذِلِ، وَاجْتِبَاءِ الأَمَاثِلِ، وَتَقْدِيمِ الأَفَاضِلِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُقَلَّدُ شَيْئًا مِنْ شِعَبِ الدِّينِ وَالْمَمْلَكَةِ، إِلا بَعْدَ الابْتِلاءِ وَالْخِبْرَةِ، وَالامْتِحَانِ وَالتَّجْرِبَةِ. مَا قِيلَ فِي تقلد نوح بْن دارج الْقَضَاء وَقد حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَلِيّ أَبُو سَعِيد الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن رَاشد، قَالَ: قيل لِشَرِيك بْن عَبْد اللَّه: قَدْ تقلد الْقَضَاء نُوحُ بْن دَرَّاج، فَقَالَ: ذهبت العَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا إِذَا غضبوا كَفَرُوا، وَقَدْ كَانَ لنوح بْن دراج فِي الْعلم والمعرفة والفهم منزلَة مَعْرُوفَة، لَا ينكرها ذُو معرفَة، وَقَدْ كَانَ استدرك بعضَ مَا أغفله رجلٌ من عُلَمَاء الْقُضَاة، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ القَاضِي: كادتْ تَزِلُّ بِهِ من حالقٍ قدمٌ ... لَوْلَا تدارُكُها نوحُ بْن دَرَّاج تَصْحِيح رِوَايَة الْبَيْت قَالَ القَاضِي: رَأَيْت الْمُحدثين يَقُولُونَ فِي رِوَايَة هَذَا الْبَيْت: لَوْلَا تداركها بِفَتْح الرَّاء وَالْكَاف، وَهَذَا خطأ مِنْهُم، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عَلَى هَذَا كَانَت لَوْلَا فِيهِ بِمَعْنى التَّحْضِيض، كَقَوْلِك: يَا هَذَا فعلت كَذَا وَلَوْلَا مَا فعلت وَإِلَّا فعلت، وَلا معنى لذَلِك هَاهُنَا، وَإِنَّمَا المُرَاد لَوْلَا الَّتِي تُؤْذِن بامتناع الشَّيْء الْوُجُود غَيره، كَقَوْلِك لَوْلَا أَنْت للقيت زيدا، وَالصَّوَاب إِذا أَن تُروى لَوْلَا تَدَارُكُها بِضَم الرَّاء وَالْكَاف وعَلى إِعْمَال الْمصدر، وَالْمعْنَى لَوْلَا أَن تداركها، كَقَوْل اللَّه تَعَالَى: " لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نعمةٌ مِنْ رَبِّهِ " وَمن قصد هَذَا الْمَعْنى فقد أَخطَأ بحذفه الْمَوْصُول وإبقائه الصِّلَة. فهم الْقَضِيَّة، فولاه الْقَضَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بْنُ مُرِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْهَيْثَمِ بن عدي، عَن مجَالد، عَن الشّعبِيّ، قَالَ: أَتَت امْرَأَة عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ زَوْجِي، إِنَّهُ لَيَقُومُ اللَّيْلَ وَلا يَنَامُ، وَيَصُومَ النَّهَارَ مَا يُفْطُرُ، فَقَالَ عُمَرُ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، مِثْلُكِ أَثْنَى بِالْخَيْرِ، فَاسْتَحْيَتْ ثُمَّ وَلَّتْ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ الأَزْدِيُّ ثُمَّ أَحَدُ بَنِي لَقِيطِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمٍ حَاضِرًا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا أَعْدَيْتَ الْمَرْأَة إِذْ جَاءَت تَسْتَعْدِي؟ قَالَ: أَوَلَيْسَ إِنَّمَا جَاءَتْ تُثْنِي عَلَى زَوْجِهَا وَتَذْكُرُ خِصَالَ الْخَيْرِ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي أَعْظَمَ حَقَّكَ لَقَدْ جَاءَتْ تَسْتَعْدِي، فَقَالَ عُمَرُ: عَلَيَّ بِهَا، فَجَاءَتْ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: اصْدُقِينِي فَلا بَأْسَ بِالْحَقِّ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي لامْرَأَةٌ، وَإِنِّي لأَشْتَهِي كَمَا يَشْتَهِي النِّسَاءُ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ! فَقَالَ: يَا كَعْبُ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّكَ قَدْ فَهِمْتَ

السبب في زوال ملك بني أمية في رأي ملك النوبة

مِنْ أَمْرِهِمَا مَا لَمْ أَفْهَمْ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! تَحِلُّ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعٌ، فَلَهُ ثَلاثَةُ أَيَّام وَثَلَاث ليلالٍ يَتَعَبَّدُ فِيهِنَّ مَا شَاءَ، وَلَهَا يَوْمًا، وليلتها، فَقَالَ عمر: مَا لحق إِلا هَذَا، اذْهَبْ فَأَنْتَ قاضٍ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَلَمْ يَزَلْ قَاضِيًا بَقِيَّةَ خِلافَةِ عُمَرَ وَخِلافَةِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ تَقَلَّدَ مُصْحَفًا وَخَرَجَ يُصَلِّي بَيْنَ النَّاسِ فَأَتَاهُ سهمٌ غربٌ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ يومئذٍ أَخَوَانِ فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ بَعْدَمَا انْقَضَتِ الْحَرْبُ فَحَمَلَتْهُمْ وَهِيَ تَقُولُ: أَعَيْنَيَّ جُودَا بدمعٍ سَرِبْ ... فتيةٍ مِنْ خِيَارِ الْعَرَبْ وَمَا ضرهم غير حتف النفو ... س أَيَّ أَمِيرَيْ قريشٍ غَلَبْ قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي قَضَى بِهِ كَعْبُ بْنُ سُورٍ فِيمَا بَيْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ زَوْجِهَا هُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، وَعَلَيْهِ فُقَهَاءُ الْخَلَفِ وَبِهِ تَقُولُ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ كعبٌ فِيهِ صَحِيحٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ. السَّبَب فِي زَوَال ملك بني أُمَيَّة فِي رَأْي ملك النّوبَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْفَضْل بْن الْعَبَّاس الرَّبَعِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى بْن أَبِي جَعْفَر المَنْصُور، قَالَ: سمعتُ عمي سُلَيْمَان بْن أَبِي جَعْفَر يَقُولُ: كُنْت وَاقِفًا عَلَى رَأس المَنْصُور لَيْلَة وَعِنْده إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ، وَصَالح بْن عَلِيّ، وَسليمَان بْن عَلِيّ، وَعِيسَى بْن عَلِيّ، فتذاكروا زَوَال ملك بني أُمَيَّة وَمَا صنع بهم عَبْد اللَّه، وقُتِل من قُتِل مِنْهُم بنهر أَبِي فِطْرَس، فَقَالَ المَنْصُور: رَحْمَة اللَّه ورضوانه عَلَى عمي، أَلا مَنَّ عَلَيْهِم حَتَّى يرَوْا من دولتنا مَا رَأينَا من دولتهم، وَيرغبُوا إِلَيْنَا كَمَا رغبنا إِلَيْهِم، فَلَقَد لَعَمْرِي عاشوا سُعَداء وماتوا فُقَرَاء، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِن فِي حَبْسِك عَبْد اللَّه بْن مَرْوَان بْن مُحَمَّد، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ قصَّة عَجِيبَة مَعَ ملك النُّوبة، فَابْعَثْ فَسَلْهُ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا مُسَيب! عليَّ بِهِ، فأَخْرَجَ فَتًى مُقَيَّدًا بقيدٍ ثَقِيلٍ وَغُلٍّ ثَقِيلٍ فَمَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! رَدُّ السَّلامِ أمنٌ، وَلَمْ تَسْمَحْ لَكَ نَفْسِي بِذَلِكَ بَعْدُ، وَلَكِنِ اقْعُدْ، فَجَاءُوا بوسادةٍ فَثُنِّيَتْ فَقَعَدَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ: لقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَتْ لَكَ قصةٌ عجيبةٌ مَعَ مَلِكِ النُّوبَةِ فَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لَا وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالْخِلافَةِ، مَا أَقْدِرُ عَلَى النَّفَسِ مِنْ ثِقَلِ الْحَدِيدِ، وَلَقَد صدىء قَيْدي مِمَّا أُرَششُ عَلَيْه من البَوْل، وأصبُّ عَلَيْه المَاء فِي أَوْقَات الصَّلَوَات، فَقَالَ: يَا مسيِّب! أطلق عَنْهُ حَدِيدَه، ثُمّ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، لم قَصدَ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ إِلَيْنَا، كنتُ الْمَطْلُوب من بَيْنَ الْجَمَاعَة، لأنِّي كنتُ وليَّ عَهْدِ أبِي مِنْ بعده، فدخلتُ إِلَى خزانَة فاستخرجتُ مِنْهَا عشرَة آلَاف دِينَار، ثُمّ دعوتُ عشرَة من غلماني وحمَّلتُ كُلّ واحدٍ عَلَى دابَّة ودفعتُ إِلَى كُلّ غلامٍ ألف دِينَار وأوقرتُ خَمْسَة أبغلٍ فُرْشًا، وشَدَدْت فِي وسطي جوهرًا لَهُ قيمَة مَعَ ألف دِينَار، وَخرجت هَارِبا إِلَى بِلَاد النّوبَة فَسِرْتُ فِيهَا ثَلَاثًا،

فوقفت إِلَى مَدِينَة خراب فَأمرت الغلمان فعدلوا إِلَيْهَا وكشحُوا مِنْهَا مَا كَانَ قذرًا ثُمّ، بسطنا بعض تِلْكَ الْفُرُش، ودعوتُ غُلَاما لي كُنْت أَثِق بعقله، فَقلت: انْطلق إِلَى الْملك فأقْرِئِه مني السَّلام، وخُذ لي مِنْهُ الأمانَ وابْتَعْ لي مِيَرةً، قَالَ: فَأَبْطَأَ عليَّ حَتَّى سُؤْتُ بِهِ ظنًّا، ثُمّ أقبل وَمَعَهُ رَجُل آخر، فَلَمَّا أَن دخل كَفَرَ لي ثُمّ قعد بَيْنَ يَدي، فَقَالَ لي: الْملك يَقْرَأ عَلَيْكَ السّلام، وَيَقُول لَك: من أَنْت؟ وَمَا جَاءَ بك إِلَى بلادي؟ أمحارب أم رَاغِب إليّ أم مستجيرٌ بِي، قُلْتُ: ترد عَلَى الْملك السَّلام، وَتقول لَهُ: أما مُحَاربًا لَك فمعاذ اللَّه فَأَما رَاغِبًا فِي دينك فَمَا كُنْت أبغي بديني بَدَلا، وَأما مُستجيرٌ بك فَلَعَمْري، قَالَ: فَذهب ثُمّ رَجَعَ إليّ، فَقَالَ: إِن الْملك يقْرَأ عَلَيْك السَّلام، وَيَقُولُ لَك: أَنَا صائر إِلَيْك غَدا فَلَا تُحْدِثَنَّ فِي نَفسك حَدَثًا وَلا تَتَّخِذْ شَيْئا من ميرةٍ فَإِنَّهَا تَأْتِيك وَمَا تحْتَاج إِلَيْهِ، فَأَقْبَلت الميرةُ فأمرتُ غلماني ففرشوا ذَلِكَ الْفرش كُله وَأمرت بفرشٍ فنُصِبَت لَهُ وُلي مثله، وأقبلتُ من غدٍ أرْقُب مَجِيئه، فَبينا أَنَا كَذَلِك إِذْ أقبل غلماني يحْضرُون، قَالُوا: إِن الْملك قَدْ أقبل، فقمتُ بَيْنَ شُرْفتين من شُرَف القَصْر أنظر إِلَيْهِ، فَإِذا أَنَا برجلٍ قَدْ لَبِس بُرْدَيْن ائْتَزر بِأَحَدِهِمَا وارتدى الآخر، حافٍ راجلٍ وَإِذَا عشرَة مَعَهم الحراب ثَلَاثَة يقدمونه وَسَبْعَة خَلفه، وَإِذَا الرَّجُل الموجهُ إِلَى جَنْبة فاستصغرتُ أمره، وَهَان عَليّ لما رأيتهُ فِي تِلْكَ الْحَال، وسولَتْ لي نَفسِي قَتله، فَلَمَّا قَرُب من الدَّار إِذا أَنا بسواد عَظِيم، فَقلت: مَا هَذَا السوَاد؟ فَقِيل: الخيلُ، فَوَافى يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين زهاء عشرَة آلَاف عنان، وَكَانَ موافاة الْخَيل الدَّار فِي وَقت دُخُوله فأحد قوابها، فَدخل إليّ فَلَمَّا نظر إليّ، قَالَ: لِترْجُمَانِهِ: أَيْنَ الرَّجُل؟ فَأَوْمأ الترجمانُ إليّ، فَلَمَّا نظر إليّ، وَثَبت لَهُ فأعظم ذَلِكَ وَأخذ بيَدي فقبلها ووضعها عَلَى صَدره، وَجَعَل يدْفع مَا وَالِي الْفُسطاط بِرجلِهِ ويشوِّش الفَرْشَ، فظننتُ أَن ذَلِك شَيْئا يجلونه أَن يطؤوا عَلَى مثله حَتَّى انْتهى إِلَى الْفراش فَقلت لِترْجُمَانِهِ: سُبْحَانَ اللَّه لِمَ لَمْ يقْعد عَلَى الْموضع الَّذِي قد وطىء، فَقَالَ: قل لَهُ: إِنِّي ملكٌ، وحقُّ كُلّ ملك أَن يتواضع لعظمةِ اللَّه إِذْ رَفعه اللَّه، قَالَ: ثُمّ أقبل طَويلا ينكت بإصبعه فِي الأَرْض ثُمّ رفع رَأسه، فَقَالَ لي، كَيفَ سُلِبتم هَذَا الْمُلْك وأخِذ مِنْكُم وَأَنت أقرب النَّاس إِلَى نبيَّكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقلت: جَاءَ من كَانَ أقرب قرَابَة إِلَى نَبينَا صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فسلبنا وقتلنا فَطُرِدْنا، فَخرجت إِلَيْك مُستجيرًا بِاللَّه عَزَّ وَجَلّ ثُمّ بك، قَالَ: كُنْتُم تشربون الْخمر وَهِي محرمةٌ عَلَيْكُم فِي كتابكُمْ؟ فَقلت: فعل ذَلِكَ عبيدٌ وأتباعٌ وأعاجمُ دخلُوا فِي ملكنا، من غَيْر رَأينَا، قَالَ: فَلم كُنْتُم تَلْبَسُون الْحَرِير والدِّيباج، وعَلى دوابكم الذهبُ والْفِضة وَقَدْ حُرِّم ذَلِكَ عَلَيْكُم، قُلْتُ: عبيدٌ وأتباعٌ دَخَلُوا فِي مُلْكنا، قَالَ: قَالَ: فَلم كُنْتم أَنْتُم بأعيانكم إِذا خرجتُم إِلَى نُزَهِكُم وصَيْدكُم تَقَحَّمْتم عَلَى الْقُرى فكلَّفْتم أَهلهَا مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ، بالضَّرب الوجيع ثُمّ لَا يُقْنِعكُم ذَلِكَ حَتَّى تدوسُوا زُرُوعَكُم فتُفْسِدُوها فِي طلب دراجٍ قيمتُه نصف دِرْهَم، أَوْ فِي عُصْفُور قيمتهُ لَا شيءَ وَالْفساد محرَّمٌ عَلَيْكُم فِي دينكُمْ، قُلْتُ: عبيدٌ وَأَتْبَاع، قَالَ: لَا وَلَكِنَّكُمْ استحللتم مَا حَرَّم اللَّه عَلَيْكُم وأتَيْتُمْ مَا عَنْهُ نَهاكُم، فَسَلبَكُم اللَّه العزَّ وألبسكم الذُّل، وَللَّه فِيكُم نقمة لَمْ تبلغْ غايتها بعدُ، وَإِنِّي أتخوَّف أَن تنزل النِّقْمةُ وَهِي إِذا نزلت عَمَّتْ وشَمِلتْ، فاخْرُجْ بعد ثَلَاث، فَإِنِّي إِن وجدتُك بعْدهَا أخذْتُ جَمِيع مَا معلك وقتلتُك وقتلتُ جميعَ مَنْ مَعَك، ثُمّ وثب فَخرج. فأقمت ثَلَاثًا وَخرجت إِلَى مصر، فأخَذَني واليك فَبعث بِي إِلَيْك فها أنذا وَالْمَوْت أحبُّ إليّ من الْحَيَاة، قَالَ: فَهَمَّ أَبُو جَعْفَر بِإِطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ: فِي عُنُقي بيعةٌ لَهُ، قَالَ: فَمَاذَا ترى؟ قَالَ: ينزلُ فِي دارٍ من دُورنا ونُجْرِي عَلَيْه مَا يَجْري عَلَى مِثله، قَالَ: فَفُعِل ذَلِكَ بِهِ، فواللَّهِ مَا أَدْرِي أمات فِي حَبسه أَن أطلقهُ الْمهْدي. خرجتُم إِلَى نُزَهِكُم وصَيْدكُم تَقَحَّمْتم عَلَى الْقُرى فكلَّفْتم أَهلهَا مَا لَا طَاقَة لَهُم بِهِ، بالضَّرب الوجيع ثُمّ لَا يُقْنِعكُم ذَلِكَ حَتَّى تدوسُوا زُرُوعَكُم فتُفْسِدُوها فِي طلب دراجٍ قيمتُه نصف دِرْهَم، أَوْ فِي عُصْفُور قيمتهُ لَا شيءَ وَالْفساد محرَّمٌ عَلَيْكُم فِي دينكُمْ، قُلْتُ:

أبيات في تحذير بني العباس

عبيدٌ وَأَتْبَاع، قَالَ: لَا وَلَكِنَّكُمْ استحللتم مَا حَرَّم اللَّه عَلَيْكُم وأتَيْتُمْ مَا عَنْهُ نَهاكُم، فَسَلبَكُم اللَّه العزَّ وألبسكم الذُّل، وَللَّه فِيكُم نقمة لَمْ تبلغْ غايتها بعدُ، وَإِنِّي أتخوَّف أَن تنزل النِّقْمةُ وَهِي إِذا نزلت عَمَّتْ وشَمِلتْ، فاخْرُجْ بعد ثَلَاث، فَإِنِّي إِن وجدتُك بعْدهَا أخذْتُ جَمِيع مَا معلك وقتلتُك وقتلتُ جميعَ مَنْ مَعَك، ثُمّ وثب فَخرج. فأقمت ثَلَاثًا وَخرجت إِلَى مصر، فأخَذَني واليك فَبعث بِي إِلَيْك فها أنذا وَالْمَوْت أحبُّ إليّ من الْحَيَاة، قَالَ: فَهَمَّ أَبُو جَعْفَر بِإِطْلَاقِهِ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيل بْن عَلِيّ: فِي عُنُقي بيعةٌ لَهُ، قَالَ: فَمَاذَا ترى؟ قَالَ: ينزلُ فِي دارٍ من دُورنا ونُجْرِي عَلَيْه مَا يَجْري عَلَى مِثله، قَالَ: فَفُعِل ذَلِكَ بِهِ، فواللَّهِ مَا أَدْرِي أمات فِي حَبسه أَن أطلقهُ المهديُّ. قَالَ القَاضِي فِي هَذَا الْخَبَر اتعاظٌ ومعتبر وتحذيرٌ ومُزْدجر، واللَّه نسْأَل توفيقنا وعصمتنا مِمَّا يُوجب حُلُول الْغِيَر، ويُلْهمنا الشُّكْر، ويُيَسِّرُنا لأعمال الْبر، وَإِن يُحكم عقدَة الْأنس بَيْننَا وبَيْنَ نِعمه، حَتَّى يَأْلَفنا لشكرنا إِيَّاهَا، وتأدية حق رَبنَا الْمُنْعم علينا بهَا، ويُوَطِّنُها فَلَا نَنْأى عَنْهَا. أَبْيَات فِي تحذير بني الْعَبَّاس حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه الأَلْوسِيّ، قَالَ: لما صَار جَيش الدَّعِيِّ بِالْبَصْرَةِ إِلَى النعمانية طُرِحَتْ رُقْعة فِي دَار النَّاصِر مختومة، فجاءُوا بهَا إِلَى الموفَّق، فَقَالَ: فِيهَا عَقْربٌ لاشك، ففتوحها فَإِذا فِيهَا: أرى نَارا تأجَّجُ من بعيدٍ ... لَهَا فِي كُلّ ناحيةٍ شُعاعُ وَقَدْ نامَتْ بنوُ الْعَبَّاس عَنْهَا ... وأصبحتْ وَهِي غافلة رِتَاعُ كَمَا نَامَتْ أُمَيَّةُ ثُمّ هَبَّتْ ... لتدفع حِين لَيْس لَهَا دِفَاعُ فَأمر الموفَّق من سَاعَته بالارتحال إِلَى الْبَصْرَة. قَالَ القَاضِي: وَهَذَا الشّعْر مِمَّا يُجَابِهُ قائلُهُ قَول الْقَائِل فِي بني أُمَيَّة: أرى تَحت الرَّماد وَمِيضَ جمرٍ ... وأخْلِقْ أَن يكونَ لَهُ ضِرَامُ وَقَدْ غفلتْ أُمَيَّةُ عَنْ سَنَاها ... ويوشكُ أَن يَكُون لَهَا اضطرامُ أقولُ من التَّعَجُّبِ ليْتَ شِعْري ... أأيقاظٌ أُمَيَّة أم نِيَامُ مَرْوَان بْن مُحَمَّد حِين أحيط بِهِ وحَدَّثَنِي أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب، عَمَّن أخبرهُ: أَن مَرْوَان بْن مُحَمَّد جلس يَوْمًا وَقَدْ أُحيط بِهِ، وعَلى رَأسه خَادِم لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلا ترى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ لَهَفي عَلَى يدٍ مَا ذُكرتْ، ونعمةٍ مَا شُكرت، ودولةٍ مَا نُصِرَتْ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! من ترك الْقَلِيل حَتَّى يكثر، وَالصَّغِير حَتَّى يكبر، والخَفِيَّ حَتَّى يظْهر، وَأخر فعل

المهتدي يتشبه بعمر بن عبد العزيز

الْيَوْم لغدٍ، حل بِهِ أَكثر من هَذَا، فَقَالَ: هَذَا القَوْل أشدُّ عَليّ من فَقْدِ الْخلَافَة. قَالَ القَاضِي: وَنحن نلجأ إِلَى اللَّه جلّ جَلَاله راغبين إِلَيْهِ، خاضعين لَهُ، واثقين بِهِ، راجين لإحسانه، مستجيرين بعفوه وَكَرمه، فِي أَن يحفظ علينا الْخلَافَة الهاشمية والدولة الْعَبَّاسية، ونَعُوذ بِهِ أَن نَضْحَي بعد الاسْتِظْلال بِظِلِّها، والتَّقَلُّبِ فِي عَدْلِها، والْبِشْرِ بِخِدْمَة أَهلهَا، ونسأله سُؤال من وَجَّه رَغْبته إِلَيْهِ، وَاعْتمد فِي دينه ودنياه عَلَيْه، أَن يتمم نعْمَته، ويُهنِّي مَوْهِبَتَه، ويُوفِّر تشريفَه وتكْرِمتَه، لعَبْدِهِ القادرِ بِاللَّه أَمِير الْمُؤْمِنِين، ويعز نَصره، وَيرْفَع فِي الْمَلأ الْأَعْلَى ذكره، ويُنّفِّذ فِي شَرق الْبِلَاد وغربها أمْرَه، ويَبْسُطَ يَده فِي جُمَيْع الرعايا وَلسَانه، ويُديل من كُلّ مخالفٍ عَلَيْه سُلْطَانه، حَتَّى يَفِيض العدلُ فِينَا، ويُديل ظالمنا، ويُنيل مظلومنا، ويَظْهَرَ لَهُ مَا ستره المُنَافِقُونَ، ويمكِّنه من نقضِ مَا أبرمه المارقون، حَنى يُدنِي كُلّ أَمِين، ويُقْصِي كُلّ ظَنِين، ويَسْتَبْطِن أُولي النِّعَم من أهل الدِّين، ويصطنع ذَوي الْفِقْه والإمامة، ويَطرِح أهلَ الرِّيَبِ والخيانة، إنَّه لطيفٌ خَبِير. الْمُهْتَدِي يتشبه بعمر بْن عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنِي بعض الشُّيُوخ مِمَّنْ شَاهد جمَاعَة من الْعلمَاء، وخالط كثيرا من الرؤساء أَن هَاشِم بْن الْقَاسِم الْهَاشِمِي، حدّثه وَقَدْ حدَّث هَاشِم هَذَا حَدِيثا كثيرا، وكتبنا عَنْهُ الْآن هَذِهِ الْحِكَايَة، لَمْ أسمعْها مِنْهُ وحَدَّثَنِي بهَا هَذَا الشَّيْخ الَّذِي قدمت ذكره، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس هَاشِم بْن الْقَاسِم: كنتُ بِحَضْرَة الْمُهْتدي عَشِيَّةً من العَشَايَا، فَلَمَّا كَادَت الشمسُ تَغْرُب وَثَبْتُ لأنصرف، وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ: اجْلِسْ فجلستُ، ثُمّ إِن الشمسَ غَابَتْ، وَأذن المؤذنُ لصَلَاة الْمغرب وَأقَام، فتقدَّم الْمُهْتدي فصلى بِنَا ثُمّ ركع وركعْنَا، ودعا بِالطَّعَامِ فأُحْضِر طبقُ خلافٍ وَعَلِيهِ رغفٌ من الْخبز النقي، وَفِيه آنيةٌ فِي بَعْضهَا مِلْح وَفِي بَعْضهَا خَلٌّ، وَفِي بَعْضهَا زيتٌ، فدعاني إِلَى الْأكل فابتدأت آكل مِقْدَارًا أَنَّهُ سيُؤْتَى بطعامٍ لَهُ نيقةٌ وَفِيه سَعة، فَنظر إليّ وقَالَ لي: ألم تَكُ صَائِما؟ قُلْتُ: بلَى، قَالَ: أفَلَسْتَ عَازِمًا عَلَى صَوْم غدٍ، فَقلت: كَيفَ لَا وَهُوَ شهر رَمَضَان، فَقَالَ: فكُلْ وَاسْتَوْفِ غذاءك فَلَيْسَ هَاهُنَا من الطَّعَام غَيْر مَا ترى، فعجبتُ من قَوْله، ثُمّ قُلْتُ: واللَّه لأخاطبنه فِي هَذَا الْمَعْنى، فَقلت: وَلَم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين؟ وَقَدْ أوسع اللَّه نعْمَته وَبسط رزقه وَكثير الخَيْر من فَضله، فَقَالَ: إِن الْأَمر لعلى مَا وَصَفْتَ وَالْحَمْد للَّه، ولكنني فكرتُ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي بني أُمَيَّة عُمَر بن عبد الْعَزِيز، وَكَانَ من التَّقَلُّلِ والتَّقَشُّفِ عَلَى مَا بلغك، فَغِرْتُ عَلَى بني هَاشِم أَن لَا يَكُون فِي خلفائهم مثله، فَأخذت نَفسِي بِمَا رَأَيْت. قَالَ القَاضِي: وَلَم تزل المنافسة فِي أَعمال الْبر وأبواب الْخَيْر، فِي أثر الْمُتَّقِينَ وسبيل الصَّالِحين، وَقَدْ وفْق اللَّه الْمُهْتَدِي رضوَان اللَّه عَلَيْه من هَذَا لما يُرْجَى لَهُ المثوبة مِنْهُ والزلفى لَدَيْهِ، وفقنا اللَّه وَإِيَّاكُم لطاعته وَحسن عِبَادَته.

آراء لهشام بن عبد الملك

آراء لهِشَام بْن عَبْد الْملك حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَحْمَد بْن الْحَارِث، قَالَ: قَالَ: أَبُو الْحَسَن. قَالَ يَوْمًا هِشَام بْن عَبْد الْملك وَهُوَ يسير فِي موكبه: يَا لَك دُنْيَا مَا أحسنك! لَوْلَا أنَّكَ ميراثٌ لآخرك، وآخرك كأولك، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة نظر إِلَى وَلَده يَبْكُونَ حوله، فَقَالَ: جَادَ لَكُمْ هِشَام بالدنيا وجُدْتُم عَلَيْه بالبكاء، وَترك لَكُمْ مَا جمع، وتركتم عَلَيْه مَا كسب، مَا أعظم منْقَلَب هِشَام إِن لَمْ يغْفر اللَّه لَهُ! مَتَى أحصل عنْدك؟ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْر الحَرْبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر الْكُوفِي، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الْوَرَّاق، قَالَ: صَحِبْتُ رَجُلا فِي السَّفر وأنِسْتُ بِهِ لأدبه وَحسن أخلاقه، فصرنا إِلَى مصر، وَكنت أقصده وأبيتُ عِنْده اللَّيْلَة والليلتين فِي الْأُسْبُوع، وَقل مَا أُخِلُّ بزيارته فِي ليلةٍ كُلّ جُمُعَة، وَكَانَ ينزل غُرْفَةً من الْغُرَف فقصدْت فِي بعض العشايا زيارته فوجدتُ غرفته مغلوقة وَعَلَيْهَا مَكْتُوب: أبدا تحصلُ عِنْدِي ... فَمَتَى أحْصُلُ عندكْ إِن تناصَفْنا وإِلا ... أَنْت يَا ورَّاقُ وَحْدَكْ فانصرفتُ إِلَى منزلي ثُمّ لقيتُه من غدٍ فَضَحِك كُلّ واحدٍ مِنَّا إِلَى صَاحبه فِيمَا كَانَ من مداعبته فِيمَا كتبه، واستدعيتُ بعد ذَلِكَ زيارتَه إيَّايَ، وَكَانَ يبيت اللَّيَالِي عِنْدِي وأبيتُ عِنْده إِلَى أَن فرَّقَتْ بيْننا حوادثُ الْأَيَّام. تَأْخِير كُلّ وتقديمها قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذِهِ الْحِكَايَة: فِي لَيْلَة كُلّ جُمُعَة وَاللَّفْظ الْآتِي فِي هَذَا الْخَبَر صَحِيح يُؤَدِّي عَنْ هَذَا الْمَعْنى، وَقَدْ جَاءَ فِي بعض الْقُرْآن نحوُ هَذَا فِي مَوضِع من الْقُرْآن، وَهُوَ قَول اللَّه تَعَالَى " كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كل قلبٍ متكبرٍ جَبَّار " فَقَرَأَ جُمْهُور الْقُرَّاء من أَهل الحَرَمَيْن وَالشَّام والْعِرَاقَيْن عَلَى كُلّ قلبٍ متكبرٍ، بِإِضَافَة كُلّ إِلَى قلبٍ، عَلَى أَن قَوْله متكبر جَبَّار، من صفة ذِي الْقلب، وَإِن كَانَ الْقلب نَفسه قَدْ يُوصف بِذَلِك، وَنَحْو هَذَا قَوْلهم: فلانٌ سليمُ الْقلب، وقلبُ فلانٍ سُلَيْم، فيُجْرِي الصّفة عَلَى اللَّفْظ تَارَة أَيّ عَلَى الْقلب إِذْ كَانَت السَّلامةُ والتكبرُّ والجبرية فِيهِ، وَتارَة عَلَى صَاحبه وَيجْعَل صفة لجمْلَتِه لاستحقاقه الْوَصْف لَهَا، وَإِن كَانَتْ حَالَة فِي قلبه، وَقَدْ قَرَأَ بعض الْقُرَّاء عَلَى كُلِّ قلبٍ متكبرٍ بتنوين الْقلب، وَجَعَل الصّفة لَهُ إِذْ كَانَتْ فِيهِ، وَمِمَّنْ قَرَأَ هَكَذَا أَبُو عَمْرو بْن الْعَلاء من الْبَصْرَة، وذُكِر أَنَّهَا من قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود عَلَى كُلّ قلب متكبر، بِإِضَافَة قلب إِلَى كُلّ على الْوَجْه الَّذِي قدمنَا ذكره، وَهَذِه الْقِرَاءَة شاهدةٌ للإضافة موافقةٌ فِي الْمَعْنى قِرَاءَة من أضَاف عَلَى الْوَجْه الآخر، وَحكى الفَرَّاء أَنَّهُ سَمِع بعض الْعَرَب يَقُولُ: رَجُل سَفَرُه يوْم كُلّ جُمُعَة، يُرِيد كُلّ يوْم جمعه، قَالَ: وَالْمعْنَى وَاحِد.

المجلس الحادي والخمسون

قَالَ القَاضِي: وَلَفظ قراءتنا عَلَى مَا فِي مَصَاحِفنَا عَلَى الْإِضَافَة أولى بإبانة الْمَعْنى وَطَرِيق التَّحْقِيق دون التَّجَوُّز، لِأَن قراءتنا أَتَتْ بِإِضَافَة كُلّ إِلَى قلب، واستوعبت قُلُوب المنكرين، وَجَرت عَلَى إِضَافَة جمع إِلَى مَا دَلِيل الْجمع ظَاهر فِي لَفظه، وَقِرَاءَة عَبْد اللَّه أضيف فِيهَا وَاحِد إِلَى جمَاعَة تجوزًا وعني بِهِ معْنى الْجمع وَهُوَ بِمَنْزِلَة قَول الشَّاعِر: كلوا فِي نصف بَطْنِكُمُ تَعيشُوا ... فَإِن زَمَاننا زمنٌ خميصُ وَقَول الآخر: كأَنَّه وجهُ تركيين قَدْ عُصِبَا ... مستهدفٌ لِطِعان غير تذبيب وَقَول ابْن عَبْدة: بهَا جِيَفُ الحَسْرَى فأمَّا عِظامُها ... فبيضٌ وأمّا جلدُها فَصَلِيبُ وَقَول جرير: الوَارِدِينَ وتيمٌ فِي ذُرَا سبأٍ ... قَدْ عض أَعْنَاقهم جلدُ الجَوَامِيسِ وقَالَ الآخر: لَا تُنكِرُوا القَتْلَ وَقَدْ سُبِينَا ... فِي حَلْقِكُمْ عظمٌ وَقَدْ شَجِينَا عَلَى أَن وَجه قِرَاءَة عَبْد اللَّه فِي هَذَا الْمَعْنى أقوى مِمَّا فِي هَذِهِ الأبيات، لِأَن لكلّ لفظا يَقْتَضِي التَّوْحِيد، وَمعنى يَقْتَضِي الْجمع، وَقَدْ يُتَّجه فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه حملهَا عَلَى مَا لَا يتَغَيَّر الْمَعْنى بِهِ من التَّجَوُّز، الَّذِي يُسَميه النحويُّون الْقلب، وَقَدْ تَأَول عَلَيْه قومٌ من النَّحْوِيين كثيرا من آي الْقُرْآن وَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي بلغتين: أدخلتُ القَلَنْسُوَةَ رَأْسِي، وتَهَيَّبني الفلاة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَلا تَهَيَّبُنِي الموماةُ أرْكَبُها ... إِذا تجاوبتِ الأصْدَاءُ بالسَّحَرِ وَهَذَا بَاب قَد استقصيناه فِي كتبنَا، وأمللْنا مِنْهُ قدرا وَاسِعًا عَلَى شرحٍ وتفصيل فِيمَا أمللناه من النثر وَالنّظم، وَمن شرح مُخْتَصر أَبِي عَمْرو الْجرْمِي فِي النَّحْو، وأتينا فِيهِ بِمَا لَا نعلم أحدا سبقنَا إِلَيْهِ، وَمن نظر فِيمَا هُنَالك تبين مِنْهُ مَا وَصفنَا إِن شَاءَ اللَّه. المجلِسُ الحَادي والخمسُون أَيّ الْخلق أعجب إِيمَانًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن مُحَمَّد أَبُو عِيسَى الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مِنْهَالُ بْنُ بَحْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِيمَانًا؟ قَالُوا: الْمَلائِكَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ؟ قَالُوا: فَالنَّبِيُّونَ، قَالَ: كَيْفَ لَا يَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ، قَالَ: كَيْفَ لَا تَكُونُونَ مُؤْمِنِينَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَإِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِيمَانًا قومٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَجِدُونُ اسْمِي فِي ورقةٍ فَيُؤْمِنُونَ بِي وَيُصَدِّقُونِي ".

تعقيب المؤلف

تعقيب الْمُؤلف قَالَ القَاضِي: فَالْحَمْد للَّه الَّذِي هدَانَا لدينِهِ، وَالْإِيمَان بِنَبِيِّهِ، وَتَصْدِيقنَا بكتابه ووَحْيه، ووفقنا لموالاة من تقدمنا من السَّابِقين الْأَوَّلين، وتابعيهم بإحسانٍ من السّلف الصَّالِحين، وبصَّر بِأَفْضَل أَئِمَّتنَا الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين، الَّذِين سبقُونَا بِالْإِيمَان ولاتجعل فِي قُلُوبنَا غِلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رءوف رَحِيم، ونبرأ إِلَى الله تَعَالَى مِمَّن عادى الأئمَّة، وَسَب الأخيار من سلف الْأمة، وَكَانَ فِيمَا وجدته عَن عمر بن ذَر، ثمَّ وجدته عَن عبد الله بن عمر، ثمَّ وجدته عَنْ عَليّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْه السَّلام أَنَّهُ قَالَ - وَقَدْ ذُكر لَهُ أَن أُناسًا يَشْتمون أَصْحَابه -: قَاتلهم اللَّه أيَشْتُمون قوما - يَعْنِي الصَّحَابَة - أَسْلمُوا من مَخَافَة اللَّه عَزَّ وَجَلّ، وَأسلم النّاس من مَخَافَة أسيافهم؟ أطع كُلّ أَمِير وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعْدٍ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش، عَنْ جَمِيلِ بْنِ مَالِكٍ الْحِمْصِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاذُ! أَطِعْ كُلَّ أَمِيرٍ، وَصَلِّ خَلْفَ كُلِّ إمامٍ، وَلا تَسُبَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي ". قَالَ القَاضِي: وَمَا ورد فِي هَذَا الْبَاب من الأخيار وَنقل الرِّوَايَات والْآثَار مِمَّا لَا يَتَّسِع استقصاؤه، وَيمْتَنع عَلَى رُوَاته جمعه وإحصاؤه. كَيفَ يسب أحد أَصْحَاب النَّبِيّ وَقَدْ حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْن هَارُون، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بشر هَارُون بْن حَاتِم الْبَزَّاز، قَالَ: سمعتُ مُحَمَّد بن صبيح ابْن السماك، يَقُولُ: علمتُ أَن الْيَهُود لَا يَسُبُّون أَصْحَاب مُوسَى عَلَيْه السَّلام، وَأَن النَّصارى لَا يَسُبُّون أَصْحَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَمَا بالك يَا جَاهِل سببت أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ علمت من أَيْنَ أتيت، لَمْ يشغَلْكَ ذنبُك، أَمَا لَو شَغَلَك ذنُبك لخِفْتَ رَبك، لقَدْ كَانَ فِي ذنْبِك شُغُل عَنِ المسيئين، فَكيف لَمْ يشغَلْك عَنِ الْمُحْسِنِينَ، أما لَو كُنْت من الْمُحْسِنِينَ لما تناولتَ الْمُسِيئين، ولرجوْتَ لَهُمْ أرْحم الرَّاحِمِينَ، وَلَكِنَّك مِن المسيئين، فَمنْ ثَمَّ عِبْتَ الشُّهَدَاء والصَّالحين، أَيهَا العائِبُ لأَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَو نمت لَيْلَك وَأَفْطَرت نهارك لَكَانَ خيرا لَك من قيام ليلك وَصِيَام نَهارك، مَعَ سُوء قَوْلك فِي أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فويْحَك! لَا قيامَ ليلٍ وَلا صَوْم نهارٍ وَأَنت تتَنَاوَل الأخيار، فأبْشِر بِمَا لَيْسَ فِيهِ الْبُشرى إِن لَمْ تَتُب مِمَّا تسمع وَترى، وَيحك! هَؤلاءِ شرفوا فِي أُحُد، وهَؤُلاءِ جَاءَ الْعَفو عَنِ اللَّه تَعَالَى فيهم، فَقَالَ: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَنْزَلَهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفا الله عَنْهُم " فَمَا تَقُولُ فِيمَن عَفا اللَّه عَنْهُم؟ نَحْنُ نَحْتجُّ بخليل الرَّحْمَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي

القول في كلمة " خلف "

فَإنَّك غفورٌ رَحِيم " فقد عرض العاصِي للغُفْران فَلَو قَالَ: فإنَّك عزيزٌ حَكِيم، أَوْ عَذَابُك عذابٌ أَلِيم، فَبِمَ تحْتَجُّ يَا جَاهِل إِلا بالجاهلين، شَرُّ الْخلف خَلَف شَتَم السَّلَف، واللَّه لواحدٌ من السَّلَف خير من ألفٍ من الْخلف. القَوْل فِي كلمة " خلف " قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر قَدْ حَرَّك لَام الْخلف، وَقد اخْتلف أولو الْعلم باللغة والعربية فِي هَذَا، فَقَالَ معظمهم: يُقال: هَؤُلاءِ خَلَفُ صدقٍ بِالتَّحْرِيكِ، وخَلْف سوءٍ بالتسكين، وَمن أَمْثَال الْعَرَب فِي الَّذِي يُطِيل السُّكُوت ثُمّ يتَكَلَّم بالفاسد من الْكَلَام: " سكت ألْفًا ونَطَقَ خَلْفًا " وَمِنْه قَول لبيد: ذَهَبَ الَّذِين يُعَاشُ فِي أكْنَافِهِمْ ... وبقيتُ فِي خلفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ وذُكِر أَن أَعْرَابِيًا كَانَ مَعَ قومٍ فحَبِق فتَشَوَّر ثُمّ أَوْمى بِيَدِهِ إِلَى اسْتِه، فَقَالَ: خَلْفُ سوءٍ نَطَقتْ خَلْفًا، ويُقَالُ للمحال الْفَاسِد من الْمقَال: هَذَا خَلْف، وَذكر الْأَخْفَش أَنَّهُ يُقَالُ: خلفٌ للمتَّبعِ لمن سَلَف قَبْله، وخَلْف لمن أَتَى بعد من تقدمه من غَيْر تَفْرِيق مِنْهُ بَيْنَ الْمَدْح والذم فِيهِ، وَهَذَا قَول حسن غَيْر مستبعد، وَقَدْ يَكُون تَحْرِيك اللَّام فِي الْخلف فِي هَذَا الْخَبَر لاقترانه بالسلف كَمَا قَالَ من قَالَ: من العَيْر الخَيْر، كَمَا قَالُوا: الغدايا والعشايا، وَهَذَا بَاب يَتَّسِع منظومه ومنثوره، وَقَدْ أَتَيْنَا بِهِ أَوْ بمعظمه فِي مَوَاضِع من كتبنَا. وقَالَ الفَرَّاء: هُوَ خَلَف سوءٍ من أَبِيهِ، وَلَك عِنْدِي خلفٌ من مَالك، وَرُبمَا ثَقّلوا خَلف سوءٍ، وَهُوَ قَلِيل. وَصِيَّة مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِم، عَنِ الْعُتْبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمَّا اشْتَكَى مُعَاوِيَةُ مَشْكَاتَهُ الَّتِي هَلَكَ فِيهَا أَرْسَلَ إِلَى فاس مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَخَصَّ وَلَمْ يَعُمَّ، فَقَالَ: يَا بَنِي أُمَيَّةَ! إِنَّهُ لَمَّا قَرُبَ مَا لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا، وَخِفْتُ أَنْ يَسْبِقَكُمُ الْمَوْتُ إِلَيَّ سَبَقْتُهُ بِالْمَوْعِظَةِ إِلَيْكُمْ، لَا لأَرُدَّ قَدَرًا وَلَكِنْ لأُبَلِّغَ عُذْرًا، لَوْ وُزِنْتُ بِالدُّنْيَا لَرَجَحْتُ بِهَا، وَلَكِنِّي وُزِنْتُ بِالآخِرَةِ فَرَجَحَتْ بِي، إِنَّ الَّذِي أُخَلِّفُ لَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا أمرٌ سَتُشَارَكُونَ فِيهِ أَوْ تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي أُخَلِّفُ لَكُمْ مِنْ رأيٍ أَمْرٌ مَقْصُورٌ عَلَيْكُمْ نَفْعُهُ إِنْ فَعَلْتُمُوهُ، مخوفٌ عَلَيْكُمْ ضَرَرُهُ إِنْ ضَيَّعْتُمُوهُ، فَاجْعَلُوا مُكَافَأَتِي قَبُولَ وَصِيَّتِي، إِنَّ قُرَيْشًا شَارَكَتْكُمْ فِي نَسِبِكُمُ وَبِنْتُمْ مِنْهَا بفعالكم، فقدمكم مَا تقدتم فِيهِ، إِذْ أَخَّرَ غَيْرُكُمْ مَا تَأَخَّرُوا لَهُ، وَبِاللَّهِ لَقَدْ جُهِرَ لِي فَعَلِمْتُ، وَنُغِمَ لِي فَفَهِمْتُ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَبْنَائِكُمْ بَعْدَكُمْ نَظَرِي إِلَى آبَائِهِمْ قَبْلَهُمْ، إِنَّ دَوْلَتَكُمْ سَتَطُولُ، وَكُلُّ طَوِيلٍ مَمْلُولٌ مَخْذُولٌ، فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّتُكُمْ كَانَ أَوَّلُ تَجَادُلِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَاجْتِمَاعُ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْكُمْ، فَيُدَبَّرُ الأَمْرُ بِضِدِّ الْحُسْنِ الَّذِي أَقْبَلَ بِهِ، فَلَسْتُ أَذْكُرُ عَظِيمًا يُرْكَبُ مِنْكُمْ وَلا حُرْمَةً تُنْتَهَكُ، إِلا وَالَّذِي

سليمان بن عبد الملك وشرهه إلى الطعام

أَكُفُّ عَنْ ذِكْرِهِ أَعْظَمُ، فَلا مُعَوِّلٌ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّبْرِ، وَتَوَقُّعُ النَّصْرِ، وَاحْتِسَابُ الأَجْرِ، فَيُمَادُّكُمُ الْقَوْمُ دَوْلَتَهُمُ امْتِدَادَ الْعِنَانَيْنِ فِي عُنُقِ الْجَوَادِ، فَإِذَا بَلَغَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالأَمْرِ مَدَاهُ، وَجَاءَ الْوَقْتُ الْمَحْتُومُ، كَانَتِ الدَّوْلَةُ كَالإِنَاءِ الْمَكْفُوِّ، فَعِنْدَهَا أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّقِهِ غَيْرُكُمْ فِيكُمْ، فَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ فِيكُمْ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. سُلَيْمَان بْن عَبْد الْملك وشرهه إِلَى الطَّعَام حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه وَصله، قَالَ: قَالَ: لنا سُلَيْمَان يَوْمًا: إِنِّي قَدْ أمرت قيّم بستاني أَن يحبس عليّ الْفَاكِهَة وَلا يجني مِنْهَا شَيْئا حَتَّى تدْرك، فاغدوا عَلَيّ مَعَ الْفجْر - يَقُولُ: لأَصْحَابه الَّذِين كَانَ يأنس بهم: لنأكل الْفَاكِهَة فِي برد النَّهَار - فغدونا فِي ذَلِكَ الْوَقْت، فصلى الصُّبْح وصلينا، ثُمّ دخل ودخلنا مَعَه، فَإِذا الْفَاكِهَة متهدلةٌ عَلَى أَغْصَانهَا وَإِذَا كُلّ فَاكِهَة مختارة قَد أدْركْت كلهَا، فَقَالَ: كلوا، ثُمّ أقبل فأكلنا بِمِقْدَار الطَّاقَة، واقبلنا نقُول: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين: هَذَا العنقود، فيخرطه فِي فِيهِ، يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، هَذِهِ التفاحة، كلما رَأينَا شَيْئا نضيجًا أومأنا إِلَيْهِ فَيَأْخذهُ فيأكله ويَحْطِمُه، حطمًا، حَتَّى ارْتَفع الضُّحَى ومَتَع النَّهَار، ثُمّ أقبل عَلَى قيّم الْبُسْتَان، فَقَالَ: وَيحك يَا فُلان، إِنِّي قَد استجعتُ فَهَل عنْدك شَيْء تطعمنيه؟؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين عناقٌ حوليَّة حَمْرَاء، قَالَ: ائْتِنِي بهَا وَلَا تأتين مَعهَا بِخبْز، فجَاء بهَا عَلَى خوان لَا قَوَائِم لَهُ وَقَد انفخت وملأت الخوان، وَجَاء بهَا غلمةٌ يحملونها فأدنوها مِنْهُ وَهُوَ قَائِم، فَأقبل يَأْخُذ الْعُضْو فَيَجِيء مَعَه لنُضْجه فيطرحه فيخرطه فِي فِيهِ، ويلقي الْعظم حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا، ثُمّ عَاد لأكل الْفَاكِهَة فَأكل فَأكْثر ثُمّ قَالَ للقيّم: وَيحك! مَا عنْدك شَيْء تطعمنيه؟ قَالَ: بلَى يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، دجاجتان قَدْ عبئتا شحمًا، قَالَ: ائْتِنِي بهما، فَفعل بهما كَمَا فعل بالعناق، ثُمّ عَاد لأكل الْفَاكِهَة، فَأكل مَلِيًّا ثُمّ قَالَ للقيّم: هَلْ عنْدك شَيْء تطعمنيه، فَإِنِّي قَدْ جعت، قَالَ: عِنْدِي سويقٌ جَدِيدَة يَعْنِي الْحِنْطَة كأَنَّه قطع الأوتار وَسمن سلاء وسكر، قَالَ: أَفلا أعلمتني بِهَذَا قبل: ائْتِنِي وَأكْثر، فجَاء بقعبٍ يقْعد فِيهِ الرَّجُل، وَقَدْ ملأَهُ من السويق قَدْ خلطه بالسكر وصب عَلَيْه سمن سلاء، وأتى بجرة ماءٍ بَارِد وكوزٍ فَأخذ الْقَعْب عَلَى كَفه، وَأَقْبل القيّم يصب عَلَيْه المَاء فيحركه حَتَّى كفأه عَلَى وَجهه فَارغًا، ثُمّ عَاد لأكل الْفَاكِهَة فَأكل مَلِيا حَتَّى حرت عَلَيْه الشَّمْس، فَدخل وأمرنا أَن ندخل إِلَى مَجْلِسه فَدخل وَجَلَسْنَا، فَمَا مكث أَن خرج علينا فَلَمَّا جلس قَامَ كَبِير الطباخين حياله يُؤذنهُ بالغداء، فَأَوْمأ إِلَيْهِ أَن ائتِ بالغداء، فَوضع يَده فَأكل، فَمَا فَقَدْنا من أكله شَيْئا. أكفأه وكفأه قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر حَتَّى أكفأه عَلَى وَجهه بِمَعْنى قَلَبه وَهُوَ خطأ إِنَّمَا هُوَ كَفَأَهُ،

الأعرابي الذي استحمل ابن الزبير

فَروينَاهُ عَلَى الصَّوَاب، يُقَالُ: كفأت الْإِنَاء فَهُوَ مكفوءٌ، وَأَنا كافىء، وَأما أكفأ فَإِنَّهُ فِي الشّعْر، وَهُوَ من عُيُوب قوافيه، وَأهل هَذِهِ الصِّنَاعَة مُخْتَلفُونَ فِي ماهيته، وَله موضه هُوَ مَذْكُور فِيهِ عَلَى شرح لمعانيه وَقَدْ رُوِيَ لنا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر، وَفِيه أَن سُلَيْمَان بْن عَبْد الْملك بعد فَرَاغه من أكله هَذَا عرضت لَهُ حمى أدته إِلَى الْمَوْت. الْأَعرَابِي الَّذِي استحمل ابْن الزُّبَير حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَن، قَالَ أَبِي: أَتَى فَضَالَةُ بْنُ شَرِيكٍ الْكَاهِلِي الْأَسدي - أَسد بني خُزَيْمَةَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ نَفِدَتْ نَفَقَتِي وَنَقَبَتْ رَاحِلَتِي فَاحْمِلْنِي، فَقَالَ لَهُ: أَحْضِرْ رَاحِلَتَكَ، فَأَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ بِهَا أَدْبِرْ بِهَا فَفَعَلَ، فَقَالَ: ارقعها بسبتٍ واخفصها بلهبٍ، وَانْجُدْ بِهَا يَبْرُدْ خُفُّهَا وَسِرْ عَلَيْهَا البردين تصح، فَقَالَ ابْنُ فَضَالَةَ: إِنَّمَا أَتَيْتُكَ مُسْتَحْمِلا وَلَمْ آتِكَ مُسْتَوْصِفًا، لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ وَرَاكِبَهَا، يُرِيدُ نَعَمْ وَرَاكِبَهَا، فَانْصَرَفَ ابْنُ فَضَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَقُولُ لِغِلْمَتِي شُدُّوا رِكَابِي ... أُفَارِقُ بَطْنَ مَكَّةَ فِي سَوَادِ فَمَا لِي حِينَ أَقْطَعُ ذَاتَ عرقٍ ... إِلَى ابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ مِنْ مَعَادِ سَيُبْعِدُ بَيْنَنَا نَصُّ الْمَطَايَا ... وَتَعْلِيقُ الأَدَاوِي وَالْمَزَادِ وَكُلُّ معبدٍ قَدْ أَعْلَمَتْهُ ... مَنَاسِمُهُنَّ طَلاعُ النِّجَادِ أَرَى الْحَاجَاتِ عِنْدَ أَبِي خبيبٍ ... نَكِدْنَ وَلا أُمَيَّةَ بِالْبِلادِ من الأعياص أَوْ مِنْ آلِ حربٍ ... أَغَرَّ كَغُرَّةِ الْفَرَسِ الْجَوَادِ قَالَ: فَالْكَاهِلِيَّةُ إِحْدَى جَدَّاتِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: عَلِمَ أَنَّهَا أَلأَمُ جَدَّاتِي فَسَبَّنِي بِهَا قَالَ القَاضِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِن فِي قَول ابْن الزُّبَير إِن وراكبها مَعْنَاهَا نعم، وَهِي لغةٌ مَشْهُورَة يَمَانِية، وَقَدْ حمل قوم عَلَيْهَا إِن فِي قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " إِنَّ هَذَانِ لساحران " فَقَالُوا: الْمَعْنى نَعَمْ، وَجَاء فِي بعض فصيح الْخطب: إِن الحمدُ للَّه، بِرَفْع الْحَمد، بِمَعْنى نعم الْحَمد للَّه، وَمن ذَلِكَ قَول الشَّاعِر: بكرت عليّ عواذلي ... يلحونني وألومهنه وَيَقُلْنَ شيبٌ قد علا ... ك وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ يَعْنِي بقوله إنَّه: نعم، وَالْهَاء للسكْتِ وَالْوَقْف، كَقَوْلِهِم: تعاله، وَالْقَوْل مستقصي عَلَى شَرحه فِي إِن هَذِهِ وَفِيمَا أَتَى من الْقُرْآن والتلاوات فِي قَوْله: إِن هَذَانِ فِي موَاضعه من تآليفنا وإملائنا، وَقَول ابْن فَضَالَة فِي شعره هَذَا: نَص المطايا النَّص ضربٌ من السّير فِيهِ ظُهُور وارتفاع، وَمن هَذَا اشتق اسْم المنصة أعنى الِارْتفَاع والظهور، وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي قصَّة ذُكرت أَنَّهُ كَانَ يسير الْعُنُق فَإِذا وجد فجوة نَص، وَمِنْه: نصصتُ الْحَدِيث إِلَى صَاحبه أَيّ رفعته إِلَيْهِ، وقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: وجيدٍ كجيد الرئم لَيْسَ بفاحشٍ ... إِذا هِيَ نَصّته وَلا بِمُعَطِّلِ وَقَوله: وكل مَعْبَد: المعبد الْمُذَلل، قَالَ طرفَة: إِلَى أَن تحامتني الْعَشِيرَة كلهَا ... وأفردت إِفْرَاد الْبَعِير المعبد وأَبُو خُبَيْبٍ: هُوَ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير، كَانَ يكنى أَبَا خُبَيْبُ وَأَبا بَكْر. وقَالَ الشَّاعِر فِيهِ، وَفِي أَخِيهِ مُصْعَب: قدني من نصر الخبيبين قدي ... لَيْسَ أَمِيري بالشحيح الملحد يروي الخبيبين مثنى، يُرَاد هُوَ وَأَخُوهُ، ويروي الخبيبين عَلَى الْجمع، من بَاب الأشاعثة والمسامعة والمهالبة، يُرَاد هُوَ وذووه، وَقَوله: وَلا أُمَيَّة فِي الْبِلَاد نَصَبِ بِلَا النافية، وَإِنَّمَا تعْمل فِي النكرَة دون الْمعرفَة، لِأَنَّهُ أَرَادَ: وَلا مثل أُمِّيّه، كَمَا قَالَ الآخر: لَا هَيْثَم ... اللَّيْلَة للمطي أَيّ لَا مثل هَيْثَم، وَقَوله: من الأعياص، نسب بني أُمَيَّة مقسوم عَلَى الإضافتين الأعياص والعنابس والأعياص أعلاهما. قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: ابْن الزُّبَير حِين ذكر الكاهلية وَنسبَة ابْن فَضَالَة إِيَّاه إِلَيْهَا معنى لطيف، وتعريض بسبه أبلغ من التَّصْرِيح، إِذْ علم أَن الكاهلية ألأم أُمَّهَات ابْن الزُّبَير فَسَبهُ بهَا، فالسب راجعٌ عَلَيْه بأعظم من سبه من هجاه، إِذْ بَنو كَاهِل رَهْط ابْن فضَالة وعصبته. وَقَول ابْن الزبير: أرقعها بسبت، السبت: جلودٌ يُؤْتى بهَا من الْيمن تتَّخذ مِنْهَا النّعّال، وَهِي من جُلُود الْبَقر، وَكَانَت من ملابس الْمُلُوك، وروى أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لرجل رَآهُ يمشي فِي الْمقْبرَة لابسا شَيْئا مِنْهَا: يَا صَاحب السبتين: اخلع سِبْتَيْك. وقَالَ عنترة يصف رَجُلا بالنُّبل وَتَمام الْخلق: بطلٌ كأنّ ثيابَهُ فِي سرحةٍ ... يحذى نعال السبت لَيْسَ بتوأم وَقَوله: اخصفها بهلب: يَعْنِي مَا أَخَذَ من شعر الذَّنب، وَقَوله: وأنجد بهَا، يُرِيد: ائْتِ بهَا نجداً: أنجد الرجل إِذْ أَتَى نجدًا، وأغار إِذا أَتَى الْغَوْر، وَمن كَلَام الْعَرَب " أنجد من رَأَى حِصنًا " أَيّ شَارف نجدًا، وحصن جُبَيْل، قَالَ الْأَعْشَى: نَبيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَاد وأَنْجَدَا وَقَوله: وسِر عَلَيْهَا البَرْدَيْن: البَرْدَان: أولُ النَّهار وَآخره، ورُوي عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَل الْجَنَّةَ ". قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَار وَزلفًا من اللَّيْل " وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْبَرْدَيْنِ قَوْلُ حُمَيدِ بْن ثَوْر الهلاليّ: فَلا الظِّلُّ من بَرْدِ الضُّحَى نَسْتَطِيعُهُ ... وَلَا الفَيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ نَذُوقُ

ما رأيكم في صفعه

مَا رَأْيكُمْ فِي صفعه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: ثَنَا عبد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر، قَالَ: حَدَّثَنِي الْفضل بْن مُحَمَّد اليزيدي، قَالَ: كنتُ أختلف إِلَى مُحَمَّد بْن نصر وَيقْرَأ عَليّ وَأَوْلَاده الْأَشْعَار، وَكَذَلِكَ إِلَى وَلَدِ عَبْد اللَّه بْن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم، وَكَانَ مُحَمَّد بْن نصر وَعبد اللَّه بْن إِسْحَاق صِفْرَيْن من الْأَدَب، على جلالة مروءتهما وشرفهما وسَرْوِهما، فاجتمعا يَوْمًا فِي مجْلِس يشبه مجَالِس الْخُلَفَاء، وأُحضر طَعَام كطعامهم ثمَّ ضُرِبت ستارةٌ وجلسا وبَيْنَ أَيْدِيهِمَا أولادهما، فغنَّت السِّتارةُ بِشعر جرير: أَلا حَيِّ الدِّيارَ بِسُعْدَ إنِّي ... أُحِبُّ لحبِّ فَاطِمَة الدِّيَارَا فَقَالَ: عَبْد اللَّه بْن إِسْحَاق لمُحَمد بْن نصر: يَا أَخِي! لَوْلَا حُمْق الْعَرَب وجهلها مَا ذكر السُّعْدُ هَاهُنَا، فَقَالَ مُحَمَّد بْن نصر: لَا تفعل يَا أَخِي فَإِن فِيهِ مَنَافِع، يَشُدُّ اللَّثة ويُطيِّبُ النكهة ويُصلح الْمعدة، فَالْتَفت عَلِيّ بْن مُحَمَّد إِلَى أخوته وَإِلَى وُلِد عَبْد اللَّه فَقَالَ: أما أَنَا فقد أطلقت عَلَى هَذَا الْعلم أَن يُصْفَع أَبِي، فَمَا رَأْيكُمْ أَنْتُم؟ فَقَالُوا: مثل رَأْيك، وامتلأ الْمجْلس ضحكًا. الْمَأْمُون وكلب الجَنَّة حَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنِي بعضُ الهاشمين، قَالَ: خرج الْمَأْمُون يَوْمًا من الرُّصَافة يريدُ الشَّمَاسِيَّة فَدَنَوْنَا من ركابه فسلمنا عَلَيْه وَقَبلنَا يَده، قَالَ: وَكَانَ أَمَامِي رجلٌ من الطالبيين يُلَقَّب بكلب الجَنَّة، وَكَانَ طيبا ظريفًا، فَلَمَّا دنا من الْمَأْمُون قبَّل يَده، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون كالمسرِّ إِلَيْهِ: كَيفَ أَنْت يَا كلب الْجنَّة؟ قَالَ: أما الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم والزِّينة فلعمرو بن مسْعدَة وَأبي عباد، وَأما الطنز والتجمهر فلبني هَاشم، فَرد الْمَأْمُون كمه على فِيهِ، وقَالَ: وَيلك كُفّ لَا تَفْضَحَنِي، قَالَ: لَا وَالله أوتضمن لي شَيْئا تُعجِّلُه لي، قَالَ: العشية يَأْتِيك رَسُولي، فَأَتَاهُ عَمْرو بْن مِسْعِدَة بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. وَيخرج بأسلحته لنصرة الْمَأْمُون وَحَدَّثَنَا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدَّثَنِي هَذَا الْهَاشِمِي، قَالَ: ركب الْمَأْمُون يَوْمًا إِلَى المَطْبَق وَبلغ الْقُواد ركُوبه فتبعوه، قَالَ: فَكَانَ كَلبُ الجَنَّة مِمَّنْ ركب تِلْكَ العَشِيَّة، قَالَ: فَبَصُر بِهِ الْمَأْمُون وَفِي يَده خشبةٌ من حَطَب الوَقُود، وَفِي الْيَد الْأُخْرَى لِحَافه، فَقَالَ: يَا كلب الجَنَّة؟ قَالَ: نعم كَلْبُ الجَنَّة بلغه ركوبك فجَاء لنُصْرتك، واللَّه مَا وجدتُ سِلَاحا إِلا هَذِهِ المشقَّقة من حَطَب البَقَّال، وَلا تُرسًا إِلا لِحَافِي هَذَا، وعياشُ بْن الْقَاسِم فِي بَيته ألف ترس وَألف درع وَألف سيف قَائِم غَيْر مكترث فوصله بِثَلَاثِينَ ألفا وَجَاء عَيَّاش يرْكض، فشتمه الْمَأْمُون وناله بمكروه.

أول مكس وضع في الأرض

أوّلُ مكسٍ وضع فِي الأَرْض وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن عَبْد اللَّه الترفقي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يُوسُف القربان، عَنْ سُفْيَان، عَنْ أَبِي إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعْتُ هِشَام بْن الْحَارِث يَقُولُ: أوّلُ مكسٍ وُضع عَلَى وَجه الأَرْض، خرجت عجوزٌ على عهد سُلَيْمَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهَا دقيقٌ لَهَا فسكبتْهُ الرِّيحُ فَذَرّتْه، فأتَت سُلَيْمَان تَسْتَعدِي عَلَى الرّيح، فَقَالَ: انْظُرُوا من طابتْ لَهُ الرِّيحُ الْيَوْم فِي الْبَحْر فأغرموه دقيقها. قَالَ: القَاضِي رحِمَه اللَّه: الَّذِي أَتَتْ بِهِ شَرِيعَة النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا أَن لَا عِوَض مِمَّا تَذْرُوه الرّيح عَلَى من طابَتْ لَهُ وعَلى من لَمْ تَطِبْ لَهُ وشريعةُ نبيِّنا هِيَ المأخوذُ بهَا إِلَى يوْم الْقِيَامَة وَمَا خَالف شَيْئا مِنْهَا فِي الصُّورَةِ من شرائع الْأُمَم الخالية والقرون الْمَاضِيَة فَهُوَ مَنْسُوخ بِمَا أَتَتْ، وَهَذَا الْخَبَر لَمْ يَأْتِ من طَرِيق يَنْقَطِع الْعُذْر بِهِ وَيقطع عَلَى مغيّبة، وَلا عُزِي إِلَى من تجب الْحُجَّةُ بقوله، وَإِن ثَبت أَن نَبِيَّ اللَّه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قضى هَذِه الْقَضِيَّة، فَإِنَّهَا كَانَتْ هَكَذَا فِي شَرِيعَته إِذْ هُوَ نبيُّ معصومٌ وَلا يقْضِي بِغَيْر الْحق، وَلا يحكُم بِخِلَاف الْعدْل، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ ذكره: " لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أمةٌ وَاحِدَةً وَلَكِنْ ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم "، وقَالَ: جلّ ثَنَاؤُهُ: " تِلْكَ أمةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ ". قَالَ القَاضِي: وَلَم يَكُنْ من الصَّواب عِنْدِي أَن يُعَبَّر فِيمَا أَتَى بِهِ هَذَا الْخَبَر بالمكس، إِذْ المكسُ مَا يأخُذُ الظَّالِمُونَ من العَشَّارِين وَغَيْرُهُمْ من الْمُسْلِمِين قسراً بِغَيْر وَجه حق وَقَدْ رُوي عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض الزُّنَاةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: " لقَدْ تَابَ هَذَا تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مكسٍ لَغُفِرَ لَهُ "، وَفِي بعض الْمُحَرَّمات: " مَنْ فعل هَذَا كَانَ عَلَيْه من الْإِثْم مثل مَا عَلَيْه صَاحب مَكْس "، وكل هَذَا ينبىء عَنْ عَظِيمِ إِثْمِ الْمَكْسِ، وَفِي المكس قَول الشَّاعِر: وَفِي كُلّ أسْوَاقِ الْعرَاق إتاوةٌ ... وَفِي كُلّ مَا بَاعَ امْرُؤ مَكْسُ دِرْهَم المجلِسُ الثَّانِي والخمسُونْ مُكَافَأَةٌ قَيِّمَةٌ على تَصْحِيح كَلِمَةٍ مِنْ حَدِيثٍ شَرِيفٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ أَبِي الْأَزْهَر الخراعي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ: حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ بِمَرْوَ، وَعَلَيَّ أطمارٌ مُتَرَعْبِلَةٌ، فَقَالَ: لِي: يَا نَضْرُ أَتَدْخُلُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الثِّيَابِ؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ حَرَّ مَرْوَ لَا يُدْفَعُ إِلا بِمِثْلِ هَذِهِ الأَخْلاقِ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّكَ تَتَقَشَّفُ، قَالَ: فَتَجَاذَبْنَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ الْمَأْمُونُ: حَدَّثَنِي هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا كَانَ فِيهَا سدادٌ مِنْ عَوَزٍ ". قُلْتُ: صَدَقَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هُشَيْمٍ، حَدَّثَنِي عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنِ

الْحَسَنِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا كَانَ فِيهَا سدادٌ مِنْ عَوَزٍ " فَكَانَ الْمَأْمُون متكأً فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: السَّدَادُ لحنٌ يَا نضر؟ قلت: نعم هَاهُنَا، وَإِنَّمَا لَحَنَ هُشَيْمٌ وَكَانَ لَحَّانًا، فَقَالَ: مالفرق بَيْنَهُمَا، قُلْتُ: السَّدَادُ: الْقَصْدُ فِي السَّبِيلِ، وَالسِّدَادُ: الْبُلْغَةُ وَكُلُّ مَا سَدَدْتَ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ سِدَادٌ، قَالَ: أَفَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، هَذَا الْعَرْجِيُّ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ: أَضَاعُونِي وأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمٍ كريهةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ فَأَطْرَقَ الْمَأْمُونُ مَلِيًّا ثُمَّ، قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ لَا أَدَبَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشِدْنِي يَا نَضْرُ أَخْلَبَ بَيْتٍ لِلْعَرَبِ، قُلْتُ: قَوْلُ ابْنُ بيضٍ فِي الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ: تَقُولُ لِي وَالْعُيُونُ هاجعةٌ ... أَقِمْ عَلَيْنَا يَوْمًا فَلَمْ أَقُمْ أَيُّ الْوُجُوهِ انْتَجَعْتَ قُلْتُ لَهَا: ... لأَيِّ وَجْهٍ إِلا إِلَى الْحَكَمِ مَتَى يَقُلْ حَاجِبَا سُرَادِقِهِ ... هَذَا ابْنُ بيضٍ بِالْبَابِ، يَبْتَسِمِ قَدْ كُنْتُ أَسْلَمْتُ قَبْلُ مُقْتَبِلا ... هَيْهَاتَ أَدْخُلُ أَعْطِنِي سَلَمِي قَالَ القَاضِي: قَوْله: أسلمت مقتبلا، مَعْنَاهُ أسلفت وَأخذت قبل قبيلا يَعْنِي كَفِيلا، وَمن السَّلف من كَرِه الرَّهن والقبيل فِي السَّلَم، وَمِنْهُم من أجَازه، وقَالَ: استوثَقَ من حقّه، فَقَالَ الْمَأْمُون: للَّه دَرُّك! فَكَأَنَّمَا شُقَّ لَك عَنْ قلبِي، أَنْشدني أنصف بَيت قالته الْعَرَب، قُلْتُ: قَول ابْن أَبِي عَرُوبَةَ المَدِينيّ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين: إِنِّي وَإِن كَانَ ابنُ عمي عاتبًا ... لَمُزَاحِم من خَلْفه وورَائِهِ ومُفِيدُهُ نَصْرِي وَإِن كَانَ امْرَأً ... مترجْرِجًا فِي أرضه وسمائِه وأكون وَالِي سِره وأصونُهُ ... حَتَّى يحيز إليَّ وَقت أدائِه وَإِذَا الْحَوَادِث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحنا إِلَى جُرَبَائِهِ وَإِذَا أَتَى من وَجهه بطريفةٍ ... لَمْ أطَّلِعْ فِيمَا وَرَاء خبائِهِ وَإِذَا ارتدى ثوبا جميلاً لم أقل ... ياليت أنَّ عليَّ حُسْن رُوَائِهِ فَقَالَ: أَحْسَنت يَا نَضْر، أَنْشدني الْآن أقنع بيتٍ للْعَرَب، فَأَنْشَدته قَول ابْن عبدل: إِنِّي امرؤٌ لَمْ أَزَلْ وَذَاك من اللَّهِ أديبًا أُعَلِّم الأَدَبا أقُيمُ بالدَّارِ مَا اطمأنت بِي الد ... ار وَإِن كنتُ نَازحًا طَربا لَا أجْتَوِي خَلَّةَ الصَّديق وَلا ... أُتْبعُ نفسِي شَيْئا إِذا ذَهَبا أطلبُ مَا يطْلب الْكَرِيم من الر ... زق بنَفْسِي وأجملُ الطلبا

وأحْلِبُ الثَّرَّةَ الصَّفِيَّ وَلا ... أُجْهِدُ أخْلافَ غريبٍ حَلَبَا قَالَ ابْن أَبِي الْأَزْهَر: ويروي الضَّفِيّ، قَالَ أَبُو بَكْر: وسمعتُ بُنْدارًا الكَرْخِيّ، يَقُولُ: لَا أحبّ الضَّفيَّ بالضاد فِيمَا يرويهِ النّاس، لِأَن الضَّفِيَّ يَكُون للمَلِكِ دون السُّوقَة، والصَّفِيُّ بالصَّاد أبلغ فِي الْمَعْنى لِأَنَّهَا الغزيرة اللَّبن، قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: وَالَّذِي حُكِيَ فِي هَذَا عَنْ بُندار قريب، وجائزٌ أَن يَكُون الصَّفِيُّ بِمَعْنى الشَّيْء الَّذِي يُخْتار ويُصطَفى، وَإِن كَانَ مُصطفيه غَيْر ملكٍ، لِأَن صَفِيَّ المَال إِنَّمَا وُسِمَ بِهَذِهِ السِّمة لِأَن الْملك اصطفاه لنَفسِهِ، وجائزٌ أَن يصطفيه الْملك ثُمّ يصير لبَعض السوقة، وَجَائِز أَن يُقَالُ للشَّيْء الْكَرِيم صَفِيٌّ بِمَعْنى أَنَّهُ لنفاسته مِمَّا يصطفيه الْمُلُوك وَيصْلح أَن يصطفوه، فيعبَّر عَنْهُ بِذَلِك قبل أَن يُصْطَفى، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: " وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاء إِذا مَا دعوا " فسَمَّاهم شُهَدَاء قبل أَن يشْهدُوا، وَكَقَوْلِه: " إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا " وَكَانَت الملوكُ قبل الإِسْلام تَصْطفي من الغَنِيمة عِلْقًا مِنْهَا كَرِيمًا أَوْ غُرَّة مشتراة لأنفسها فَيَأْخذهُ دون الْجَيْش، وَفِي ذَلِك يَقُولُ الشَّاعِر: لَك الْمِرْباعُ مِنْها والصَّفَايَا ... وحكمك والنشيطة والفضول يَعْنِي بالمرباع: رُبْع الْغَنِيمَة، والصَّفايا: جمع صفِيَّة، وَهِي مَا ذكرنَا، وَقَوله: وحكمك أَيْ مَا تتحكُّم فِيهِ وتحكُم بِهِ، والنَّشِيطَةُ مَا تنشطه من الْمغنم فتأخذُه، والفضول مَا فضل عَنِ الْقِسْمَة أَوْ كَانَ القَسْمُ لَا يَحْتَمله، ثُمّ جعل اللَّه تبَارك وَتَعَالَى لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا غنمه الْمُسلمُونَ من الْمُشْركين الْخُمْس ولذوي الْقُربى من رَهْطِه وَمن سَمَّى مَعَهم، فحط مَا جعل لَهُ عَنْ قَدْر مَا كَانَت الْمُلُوك تَأْخُذهُ قبله، تَطْيِيبًا لنفوس أَصْحَابه، وتوكيدًا لما نَزَّهَهُ عَنْ أَخذ الْأجر عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " مَا لي فِي هَذَا الْمَالِ إِلا الْخُمْسُ، وَهُوَ مردودٌ فِيكُمْ "، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذ مِنْهُ حَاجته لمؤونته وَمُؤْونَةِ أَهْلِهِ، وَيصرف مَا بَقِيَ مِمَّا خلص لَهُ وَهُوَ خُمْس الْخُمسِ فِي الْكِراع والسِّلاح وَمَا كَانَ تأييدًا للدّين وعَتَادًا لنوائب الْمُسْلِمِين، وَكَانَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفِيُّ أَيْضا، فَكَانَ يَأْخُذهُ من أصل الْغَنِيمَة، وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغار عَلَى بني المصطلق وهم غَارونَ، فَقتل مقاتلهم وسبى زراريهم، وَاصْطفى مِنْهُم جُويرية ابْنة الْحَارِث. رَجعْنَا إِلَى تَمام الشّعْر، شعر ابْن عبدل وَبَقِيَّة الْخَبَر المتضمن لَهُ: إِنِّي رأيتُ الْفَتى الْكَرِيم إِذا ... رغَّبتَهُ فِي صنيعةٍ رَغِبَا والعَبْدُ لَا يطلُبُ الْعلَا وَلا ... يُعطيك شَيْئا إِلا إِذا ضُربا وَلَم أجد عُرْوَة الْخَلَائق إِلا الد ... ين لمَّا اخْتَبرْتُ والحَسَبَا قَدْ يُرْزَقُ الخافِضُ الْمُقِيم وَمَا ... شَدَّ بعنسٍ رَحْلا وَلا قَتَبَا ويُحْرمُ الرِّزْقَ ذُو المطية والر ... حل وَمن لَا يَزَالُ مُغْتَرِبَا

الرواية الأخرى

قَالَ: أحْسَنْتَ يَا نضر، أفعندك ضِدُّ هَذَا؟ قُلْتُ: نعم، أحسنُ مِنْهُ، قَالَ: هاته، فَأَنْشَدته: يدُ الْمَعْرُوف غنمٌ حيثُ كَانَتْ ... تَحَمَّلَها كفورٌ أَوْ شَكُور فَقَالَ: أحسنتَ يَا نضر، وَأخذ الْقِرطاسَ فَكتب شَيْئا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، ثُمّ قَالَ: كَيفَ تَقُولُ: أَفْعِلْ من التُّرَاب؟ قُلْتُ: أتْرِب، قَالَ: الطِّين؟ قُلْتُ: طِنْ، قَالَ: فالكتابُ مَاذَا؟ قُلْتُ: متربٌ مَطِين، قَالَ: هَذِهِ أحسن من الأولى، قَالَ: فَكتب لي بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، ثُمّ أَمر الْخَادِم أَن يوصِّله إِلَى الْفضل بن سهل ج فمضيتُ مَعَه، فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب قَالَ: يَا نَضْر! لَحَّنْتَ أَمِير الْمُؤْمِنِين؟ قُلْتُ: كلا، وَلَكِن هُشَيمًا لحانة، فَأمر لي بِثَلَاثِينَ ألفا، فَخرجت إِلَى منزلي بِثَمَانِينَ ألفا وقَالَ لي الْفَضْل: يَا نَضْرُ! حَدِّثْنِي عَنِ الْخَلِيل بْن أَحْمَد، قُلْتُ: حَدَّثَنِي الخليلُ بْن أَحْمَد، قَالَ: أتيتُ أَبَا رَبِيعَة الْأَعرَابِي وَكَانَ من أَعْلَم مَا رأيتُ، وَكَانَ عَلَى سطح أَوْ سُطَيح، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ أَشَرنَا إِلَيْهِ بالسَّلام، فَقَالَ: اسْتَوُوا، فَلَمَّا نَدْرِ مَا قَالَ، فَقَالَ لنا شيخٌ عِنْده: يَقُولُ لَكُمْ: ارْتَفِعُوا، فَقَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: هَذَا من قَول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دخانٌ "، ثُمّ ارْتَفع ثُمّ قَالَ: هَلْ لَكُمْ فِي خبزٍ فطيرٍ ولبنٍ هجيرٍ وماءٍ نمير، فَلَمَّا فارقناه، قَالَ: سَلاما، قُلْنَا: فسِّرْ قَوْلك هَذَا، فَقَالَ: مُتَارَكَة لَا خير وَلا شَرّ، فَقَالَ الْخَلِيل: هَذَا مثل قَول اللَّه جلّ وَعز " وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا " أَيّ مُتَاركةً. قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: قَوْله فِي الْخَبَر أطمارٌ مُتَرعْبِلَة، يُرِيد ثيابًا متقطعة، يُقَالُ: رَعْبَلْتُ الثوبَ وغيرَهُ إِذا قَطَّعْتُه، قَالَ الشَّاعِر: يَا من رَأَى ضَرْبًا يُرِعْبِلَ بعضُهُ ... بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ الأبَاء الْمُحْرَقِ الْآبَاء: الْقصب، قَالَ القَاضِي: خبر النَّضْرِ بْن شُمَيْل هَذَا قَدْ كتبناه من طرقٍ شَتى مُتَقَارِبَة الْأَلْفَاظ والمعاني، وَفِيه زِيَادَة لَيست فِي غَيره، والأشعار الَّتِي أنشدها النَّضْر المأمونَ فِيهِ لما استنشده غَيْر مَا فِي سَائِر مَا كتبناه من قِبَل الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة، وَهِي بليغة حَسَنَة، فَرَأَيْت إِحْضَار هَذِهِ الرِّوَايَة ليتكامل للنَّاظِر الْفَائِدَة فِي كتَابنَا، وَإِن تكَرر بعض أَلْفَاظ مَتْنِ الْخَبَر. الرِّوَايَة الْأُخْرَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: أَحْمَدُ بْن عُبَيْد بْن نَاصح، قَالَ: أَبُو زَيْدٍ، قَالَ: النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَأْمُونِ، وَعَلَيَّ أطمارٌ أخلاقٌ غسيلٌ، فَقَالَ لِي: يَا نَضْرُ! تَدْخُلُ عَلَيَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الأَخْلاقِ؟ ثُمَّ قَالَ: نَحْمِلُ مِنْكَ هَذَا عَلَى التَّقَشُّفِ، ثُمَّ تَجَاذَبْنَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: الْمَأْمُونُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا وَكَمَالِهَا كَانَ فِيهِ سَدَادٌ مِنْ عَوَزٍ "، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ

الْمَرْأَةَ لِدِينِهَا وَجَمَالِهَا وَكَمَالِهَا كَانَ فِيهِ سِدَادٌ مِنْ عَوَزٍ " وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ وَاسْتَوَى، وَقَالَ: يَا نَضْرُ! السَّدَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لحنٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينِ، وَإِنَّمَا لَحَنَ هُشَيْمٌ، فَقَالَ لي: ماالفرق بَيْنَ السَّدَادِ وَالسِّدَادِ، قُلْتُ: السَّدَادُ: الْقَصْدُ فِي الدِّينِ وَالسَّبِيلِ، وَالسِّدَادُ: الْبُلْغَةُ فِي الشَّيْءِ أَسُدُّ بِهِ الشَّيْءَ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، هَذَا الْعَرْجِيُّ مِنْ وَلَدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، يَقُولُ: أَضَاعُونِي وأَيَّ فَتًى أَضَاعُوا ... لِيَوْمِ كريهةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ فِيهِمْ وَسِيطًا ... وَلَمْ تَكُ نِسْبَتِي فِي آلِ عَمْرٍو فَأَطْرَقَ طَوِيلا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ لَا أَدَبَ لَهُ، ثُمَّ تَجَاذَبَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ اللَّحْنَ، قُلْتُ: مَا لَحَنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا لَحَنَ هُشَيْمٌ، وَكَانَ هُشَيْمٌ لَحَّانَةً، فَتَبِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلْفَاظَهُ، قَالَ: وَكَيْفَ رِوَايَتُكَ الشِّعْرَ، قُلْتُ: قَدْ رَوَيْتُ الْكَثِيرَ مِنْهُ، قَالَ: فَأَنْشِدْنِي فِي أَحْسَنِ مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْحِكَمِ، فَأَنْشَدْتُهُ: إِذَا كَانَ دُونِي مَنْ بُلِيتُ بِجَهْلِهِ ... أَبَيْتُ لِنَفْسِي أَنْ أُقَابِلَ بِالْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ مِثْلِي فِي مَحَلِّي مِنَ الْعُلا ... هَوَيْتُ إِذًا حِلْمًا وَصَفْحًا عَنِ الْمَثْلِ وَإِنْ كُنْتُ أَدْنَى مِنْهُ فِي الْفَضْلِ وَالْحِجَا ... فَإِنَّ لَهُ حَقَّ التَّقَدُّمِ وَالْفَضْلِ قَالَ: مَا أحسن مَا قَالَ! فَأَنْشِدْنِي أَحْسَنَ مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي الْحَزْمِ، فَأَنْشَدْتُهُ: عَلَى كُلِّ حالٍ فَاجْعَلِ الْحَزْمَ عُدَّةً ... لِمَا أَنْتَ بَاغِيهِ وَعَوْنًا عَلَى الدَّهْرِ فَإِنْ نِلْتَ أَمْرًا نِلْتَهُ عَنْ عزيمةٍ ... وَإِنْ قَصَّرَتْ عَنْهُ الْحُقُوقُ فَفِي عُذْرِ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ! فَأَنْشِدْنِي مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي إِصْلاحِ الْعَدُوِّ، حَتَّى يَكُونَ صَدِيقًا فَأَنْشَدْتُهُ: وَذِي غَيْلَةٍ سَالَمْتُهُ فَقَهَرْتُهُ ... فَأَوْقَرْتُهُ مِنِّي بِعِبْءِ التَّجَمُّلِ وَمَنْ لَا يُدَافِعُ سَيِّئَاتِ عَدُوِّهِ ... بِإِحْسَانَهِ لَمْ يَأْخُذِ الطُّولِ مِنْ عَلِ وَلَمْ أَرَ فِي الأَشْيَاءِ أَسْرَعَ مَهْلَكًا ... لضغنٍ قديمٍ من وادٍ مُعَجَّلِ قَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ! فَأَنْشِدْنِي أَحْسَنَ مَا قَالَتِ الْعَرَبُ فِي السُّكُوتِ، فَأَنْشَدْتُهُ: إِنِّي لَيَهْجُرُنِي الصَّدِيقُ تَجَنُّبًا ... فَأُرِيهِ أَنَّ لِهَجْرِهِ أَسْبَابَا وَأَرَاهُ إِنْ عَاقَبْتُهُ أَغْرَيْتُهُ ... فَيَكُونَ تَرْكِي لِلْعِتَابِ عِتَابَا وَإِذَا بُلِيتُ بجاهلٍ مُتَحَكِّمٍ ... يَجِدُ الْمُحَالَ مِنَ الأُمُورِ صَوَابَا أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا ... كَانَ السُّكُوتُ عَنِ الْجَوَابِ جَوَابَا ثُمَّ قَالَ: مَا مَالُكَ؟ قُلْتُ: أريضةٌ بِمَرْوِ الرُّوذِ أَتَمَزَّزُهَا، قَالَ: أَفَلا نُفِيدُكَ مَالا؟ قُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ، فَدَعَا بدواةٍ وقرطاسٍ وَكَتَبَ، وَلا أَدْرِي مَا كَتَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُتْرِبَ الْكِتَابَ كَيْفَ تَأْمُرُ، قُلْتُ: يَا غُلام أَتْرِبِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ:

تعقيب للمؤلف بشرح حال العلماء في زمنه

متربٌ، قَالَ: فَمِنَ السَّحَاةِ، قُلْتُ: يَا غُلامُ اسْحِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ: كِتَابٌ مُسْحًى، قَالَ: الطِّينُ، قُلْتُ: يَا غُلامُ طِنِ الْكِتَابَ، وَأَطِنِ الْكِتَابَ، قَالَ: فَهُوَ مَاذَا؟ قُلْتُ: مطينٌ وَمُطَانٌ، قَالَ: يَا غُلام أَتْرِبْ وَاسْحِ وَطن الْكتاب، ثُمَّ قَالَ امْضِ إِلَى الفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَمَضَيْتُ فَأَوْصَلْتُهُ، فَقَالَ: بِمَ اسْتَأْهَلْتَ أَنْ يَأْمُرَ لَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ؟ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ عَلَى جِهَتِهِ، فَقَالَ: لَحَّنْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قُلْتُ: مَا لُحِّنَ، وَإِنَّمَا لَحَّنَ هُشَيْمٌ، فَتَبِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَلْفَاظَهُ، فَأَمَرَ لِي بِأَرْبَعِينَ ألفٍ أُخْرَى مِنْ عِنْدِهِ، وَانْصَرَفْتُ بِكَلِمَةٍ أَفَادُوهَا بِتِسْعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. تعقيب للمؤلف بشرح حَال الْعلمَاء فِي زَمَنه قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: قَدْ كَانَ من مضى من الْعلمَاء وَأهل الْفَضْل من الأدباء، تَمَسُّهم الْفَاقَة، وتنالهم الْعسرَة وَالْإِضَافَة، ثُمّ يصلونَ من الْخُلَفَاء، والسادة الرؤساء، بِيَسِير مَا عِنْدهم من الْعلم وَالْحكمَة، وَالْأَدب والمعرفة، إِلَى الحَظِّ الخطير، والوفر الْكَبِير، والنَّضْرُ بْن شُمَيْل مِمَّن اتّفق لَهُ ذَلِكَ بعد شدَّة عَظِيمَة لحقته، وفاقة مُجْحِفة لَزِمته، وَكَانَ أحد الْأَعْلَام مِمَّنْ أَخَذَ عَنِ الْخَلِيل علم الْعَرَبيَّة، وَلَهُ من رِوَايَة السُّنَنِ والْآثَار، وَالْأَحَادِيث وَالْأَخْبَار، مَنْزِلَته وَلما أضَرَّ بِهِ إيطان البَصْرَةِ، ونَبَتْ بهَا عَنْهُ الْمَعيشَة، شرع فِي الظَّعْن عَنْهَا، فَذكر فِيمَا رُوِيَ لنا عَنْهُ من طَرِيق لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت، ولعلِّي أوردهُ إِذا عثرتُ عَلَيْهِ بعد، أَنَّهُ تَبِعَهُ سبع مائَة رَجُل أَو نحوهم من أَصْحَابه يشيعونه، وَجعلُوا يَبْكُونَ توجعًا لمفارقته إيَّاهُم، وَأظْهر لَهُم نَحْو هَذَا من استيحاشه وكراهته النأي عَلَيْهَا عَنْهُمْ، وقَالَ: لَو كَانَ لي فِي كُلّ يومٍ رُبْعٌ من الباقِلَّى أَتَقَوتُه لما ظَعَنْتُ، قَالَ الرَّاوِي: فعجبتُ من أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْجمع الْكثير من المتفجِّعين لفقده من يَكْفِيهِ هَذَا الْقدر، وَيقوم لَهُ بِهِ، ثُمّ إنَّه أَتَى خُرَاسَان فاستغنى وأثرى بِمَا أسدَى إِلَيْهِ الْمَأْمُون لما وصل إِلَيْهِ وسَمِع كَلَامه، ووقف عَلَى أدبه، وَلَقَد ظهر من الْمَأْمُون فِي هَذَا الْخَبَر من النُّبْل والإنصاف لأهل الْعلم والتواضع لمن تَجِيء لَهُ من قبله فَائِدَة، وَظهر لَهُ مِنْهُ علم وَمَعْرِفَة، مَا شكر اللَّه تَعَالَى لما أَرَادَهُ بِهِ، أَلا ترَوْنَ إِلَى مَا اقترحه من الْأَشْعَار فِي الْمعَانِي الَّتِي ذكر، وَإِلَى نَقده إِيَّاهَا، وَإِلَى نقد استحسانه لَهَا، وَلَقَد كَانَ فِي الشُّعَرَاء إِذا أنْشدهُ النقاد، وَالشعرَاء إِذا أنشدوه كَانَ من الأجواد، وَلَقَد رُوي لنا عَنْهُ من نقد الشّعْر وتبريزه فِي التَّمْيِيز بَيْنَ جيده ورديئه، وإبرازه عَلَى أَهْل هَذِهِ الصِّنَاعَة فِيهِ، وعُلُوُّهِ بالْحُجَّةِ عَلَيْهِم عِنْد مخالفتهم إِيَّاه مَا يطول ذكره، وسنأتي بِمَا يحضرنا مِنْهُ فِي مُسْتَأْنف مجالسنا هَذِهِ. صناعَة نقد الشّعْر وَنقد الشّعْر وَالتَّحْقِيق فِي مَعَانِيه من الصناعات الَّتِي أَكثر المضطلعين لَهَا قَدْ عُدِمُوا وَقَدْ قَلُّوا، وَقَدْ كَانَ بعض من يخْتَلف إليّ للأخذ عني، وَالْقِرَاءَة عليَّ من أَهْل بعض الْأَطْرَاف،

قَدْ قَرَأَ عليَّ شَيْئا مِمَّا صنفه ابنُ السِّكِّيت فِي هَذَا الْمَعْنى وَابْن قُتَيْبَة، وَمَا أَلفه أَبُو الْفرج قُدَامَةُ الْكَاتِب فِي نقد الشّعْر وَالْكتاب الْمَنْسُوب إِلَى أَبِي عُثْمَان الأُشْنَانْدَانِيّ عَلَّق عني صَدرا صَالحا من الزِّيَادَة فِي ذَلِكَ، وَشرح مستغلقه وإيضاح شكله، وَتَفْسِير مجمله، وتلخيص مُهْمله، وتَخْطئَةِ من أَخطَأ فِي تَأْوِيله، ثُمّ غَابَ عني فَانْقَطَعت عَنِ التفرغ لتتبع مَا بَقِيّ مِنْهُ، وَقَدْ وَقع إِلَيْنَا فِي هَذَا الْبَاب فقرٌ حَسَنَة عَنْ شَيْخَيْ هَذِهِ الصناعةِ فِي زمانهما وهما أَبُو الْعَبَّاس النحويان أَحْمَد بْن يَحْيَى، ومُحَمَّد بْن يَزِيد، وَكَانَ مُحَمَّد بْن يَحْيَى الصولي يتَكَلَّم كثيرا فِي هَذَا النَّوْع، ويَدَّعِي فِيهِ دَعَاوَى يَدْفعُهُ عَنِ التقدُّم فِيهَا، ظهورُ تَأَخره عَنْهَا، وتَفَاحُشُ خطئِهِ فِيمَا يُورِدهُ مِنْهَا، وَقَد أخرج قومٌ من هَذَا الْقَبِيل إعجابهم بِأَنْفسِهِم، وَفَسَاد تَخَيُّلهم، إِلَى تخطئَةِ الفحول من الشُّعَرَاء الجاهليين، ومَنْ بعدهمْ من المخضرمين، وَمن بَينهم من الإسلاميّين الَّذِين قَوْلهم حُجَّة عَلَى مَنْ بَعدهم، وَمن تَأَخّر عَنْهُمْ، فأحسنُ حَالاتِه فِي هَذَا الْبَاب أَن يَكُون تبعا لَهُم، فَمنْ ذَلِكَ أَن لُغْدَةَ الْأَصْبَهَانِيّ أقدم عَلَى تخطئة الطَّبَقَة الأولى، كامرىء الْقَيْس وَزُهَيْر والنابغة والأعشى وَمن يجْرِي مجراهم، فخطَّأَهم فِيمَا أَصَابُوا فِيهِ فتفاقم خَطَؤُه، وتعاظم خَطَله، وَقَدْ كُنْت أمللْتُ عَلَى بعض مَنْ حَضَرني مَا يتبيَّن فِيهِ قُصُور مَعْرفَته، وضَعْف بصيرته، ثُمّ رَأَيْت أَبَا حنيفَة أَحْمَد بْن دَاوُد الدِّينَوَرِيّ قَدْ صَمِد لكتاب لغدة هَذَا فنقضه، وَأورد أَشْيَاء صَحِيحَة تنبيء على إغفاله وَضعف تَأمله، وَمَعَ هَذَا فلسنا ننكر أَن يخطىء الرئيس فِي عمله، وَالسَّابِق فِي فهمه، فَلَا يضع ذَلِكَ من قدره، وَلا يحطُّه عَنْ مرتبته، إِذْ فَوق كُلّ ذِي علم عليم حَتَّى يَنْتَهِي الْعلم إِلَى رَبنَا عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيز الْحَكِيم. وَقَدْ كَانَ للمتوكل خَادِم يُعرف " بعرق الْمَوْت " قَدْ شدا أَشْيَاء من الْأَدَب، وَحفظ صَدرا من الشّعْر إِلا أَنَّهُ حَل بِقَلْبِه من النَّقْص نَحْو مَا حل بجسمه، فَظن أَنَّهُ قَد اضطلع بأفانين الْأَدَب، واطلع عَلَى بلاغات الْعَرَب، وَأخذ فِي نَحْو مَا كَانَ لُغْدة أَخَذَ فِيهِ، وَنسب امْرأ الْقَيْس إِلَى ذَهَابه فِي بعض شعره عَنْ صِحَة تَرْتِيب نظمه، ووَصْل الشَّكل بشكْله، وإلْحَاقِ الْمِثْل بِمِثْلِهِ، وحَمْلِ الفَرْع عَلَى أَصله، وتَوَهَّم عَلَيْه هَذَا الْبَاب من الْعَيْب، ونَعَاه عَلَيْه، وتكلف بإغفاله إِصْلَاحه عِنْد نَفسه، بخطأ أَتَى بِهِ من عِنْده، وذُكِر هَذَا فِي بَيْتَيْنِ من كلمة امرىء الْقَيْس الَّتِي أَولهَا: أَلا أنْعَمْ صَبَاحًا أيُّها الطَلَلُ البَالي ... وَهل يَعمنْ مَنْ كَانَ فِي الْعُصُر الخَالِي والبيتان: كأنِّي لَمْ أرْكَبْ جَوَادًا للذةٍ ... وَلَم أتبطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ وَلَم أسْبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَم أقُلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفَالِ فَظن أَن امْرأ الْقَيْس قلبَ وَجْهَ التَّرْتِيب، وعَدَل عَنْ مَحَجَّةِ التَّأْلِيف، وأتى بِذكر الْجواد

فِي صدر الْبَيْت وَقرن بِه تبطُّن الكاعب، ثُمّ صدر الْبَيْت الثَّانِي بسبئهِ الْخمر وَجَعَل عَجزه فِي حَثِّه الْخَيل عَلَى الْكر، وتوهم أَن هَذَا متنافرٌ غَيْر متشاكل، ومتخالف غَيْر متماثل، وَأَن الْوَجْه فِي هَذَا لَو تنبّه عَلَيْه هُوَ أَن يَقُولُ: كَأَنِّي لَمْ أركب جوادًا وَلَم أقلْ ... لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بعد إجْفَالِ وَلَم أسبأ الزِّق الرَّوِيَّ للذةٍ ... وَلَم أتبطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالِ قَالَ القَاضِي رحِمَه اللَّه: وَلَو ثاب إِلَى هَذَا الْخَادِم عَازِبُ لُبِّه، وفُتح لَهُ الْقُفْل الضَّاغط عَلَيْه، لتيقظ للوقوف عَلَى فَسَاد تَوهُّمِه، ولتجلَّى لَهُ الْخلَل فِيمَا آثره وَقدمه، وَتعلم أَن تَرْتِيب امرىء الْقَيْس فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ من أصح التَّرْتِيب وَأحسنه، وأوضح التَّأْلِيف وأبينه، وَأَنه متسقٌ مسْتَتِبّ، ومتفقٌ متلئب، وَلَا ستفاد علما جما لما يتبينُهُ من اطِّرادِهِ وتلاومه، وائتلافه وتقاومه، وَأَنه من أحسن الشُّعَرَاء، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن من الشِّعْر حِكْمَة " وَأَنا مُبين هَذَا بَيَانا كَافِيا، وملخِّصه تلخيصًا مُفِيدا شافيًا إِن شَاءَ اللَّه وَبِه التَّوْفِيق. إِن الْجواد يُركب لأغراضٍ شَتَّى، مِنْهَا الْمُحَاربَة وشّنُّ الْغَارة وإدْراك الْعَدو والهارب، وفوت الثائر الطَّالِب، وَطلب الأوتار وَأخذ الثأر، والتماس الْمَعيشَة والبرهان وزيارة الإخوان ومجاراة الأقران، والسبق والنِّضال، والتدرب بالفروسية والقتال، والركض والرياضة، والإسراع والمواشكة فِي الْحَاجة، فِي لواحق هَذِهِ الْأُمُور وتوابعها، أَو مَا يقاربها ويضارعها، كالمجازاة والمضاهاة والمباهاة، وَكَانُوا إِذا كَانَ لَهُم ذحلٌ يُحرِّمون الْخمر عَلَى أنفسهم حَتَّى يثأروا فحينئذٍ يَسْتحلُّونها، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: حَلَّتْ لِيَ الخَمْرُ وَكنت امْرأً ... عَنْ شُرْبِها فِي شُغُل شاغِلِ فاليوم أسْقَى غَيْر مستحقبٍ ... إِثْمًا من اللَّهِ وَلا وَاغِلِ وَمِنْهَا القصدُ لضروب اللَّهْو والْمُتعة، والنشاط والرَّتَعة، والالتذاذُ باخْتيَالِ الْجواد وقطعه الجدد، قالركوب الَّذِي قصد امْرُؤ الْقَيْس بقوله: كَأَنِّي لَمْ أركب جوادًا، إِنَّمَا عَنَى بِهِ بَعْضَ مَا فِيهِ التذاذ ومُتعة، وَلَهو ورَتَعَة، وَقَدْ أبان ذَلِكَ بقوله: للذة، فَكَانَ من أليق مَا يَلِيهِ، ويقرن بِهِ مَا جانسه فِي التَّمَتُّع وَاللَّهْو، إِذْ لَمْ يَكُنْ ركُوبه للغارة والغزو فَلذَلِك قَالَ: وَلَم أتبطَّنْ كاعبًا ذاتَ خلخال، وَلَو قَالَ بعد قَوْله: كأنِّي لَمْ أركب جوادًا للذة، حسب مَا اقترحه وقَالَ الْخَادِم وَأَشَارَ بِهِ، لَكَانَ قَد أَتَى بمجمع من القَوْل غَيْر متسق، ومضربٍ من التَّأْلِيف غَيْر مُتَّفق، وَلَم يُقْدم هَذَا الْخَادِم عَلَى هَذَا الرَّأْي الفَائِل، والتوهُّم الْبَاطِل، إِلا بعد حذفه من قَول امرىء الْقَيْس مَا ينْكَشف الْمَعْنى بإثباته، ويزداد وضوحه بإحضاره، وَذَلِكَ قَوْله: للذةٍ، وَلَو لَمْ يذكر اللَّذَّة لَمْ يُؤمن عَلَى مثل هَذَا اراد الشُّبْهَة وَإِن كَانَتْ من المتأمل النَّاظر، والنِّحْرير الماهر، مأمورٌ بِهِ لوُجُوب حسن الظَّن بامرىء الْقَيْس فِي نظمه، ونسبته إِلَى وصل بعض كَلَامه بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ، وَكَيف وَقَد أوضح الْمَعْنى وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، وأفصح

بِه وَنَصّ عَلَيْه، وأمّا قَوْله: " وَلَم أسبأ الرزق الروي فَإِنَّهُ قد يسبأ رزق الْخمر للنادم واللذَّة، والارتياح والنشوة، وَقَدْ يُسْبأ للْبيع وَالتِّجَارَة ولإِهدائه إِلَى ذِي الْمُرُوءَة لتحريك الطبائع بشُرْبه عَلَى تذكر الأضغان والغَمْر، وتهيج الْحِقْد وَطلب الْوتر، وَالْجد فِي الْقيام بالثأر، وتجرئة الجبان، وتنشيط الْجنان، والسماحة فِي إِدْرَاك الشّرف بالنفوس، وبذْل كُلّ عِلْقِ مضنةٍ نفيسٍ، وَأَرَادَ امْرُؤ الْقَيْس بِمَا سبأه من الْخمر هَذِهِ الْمعَانِي أَوْ مَا أَرَادَ مِنْهَا، فَكَانَ اللَّائِق بقوله: وَلَم أسبأ الزِّقَّ الرَّوِيَّ أَن يَكُون عجز بَيته هَذَا مَا وَصفه فِي قَوْله: وَلَم أقل لخيلي كُرِّي كَرَّةً بعد إجفال فاغفل هَذَا الْخَادِم المقصوص، والأَتّي المنقوص، هَذَا الْمَعْنى، وَأخذ من الْبَيْت الأول قَوْله للذة فألحقها بِالْبَيْتِ الثَّانِي، فَلم يتم لَهُ بِمَا غَيره مَا قدره، وَذهب عَنْهُ فهم مَا رتَّبه امْرُؤ الْقَيْس وقرّره، وَمَا ذكرنَا من تقسُّم الْمعَانِي الَّتِي وَصفنَا بهَا سَبَايَا الْخمر أشهر فِي عرف النّاس وَكَلَام الْعَرَب من أَن يحْتَاج إِلَى الاستشهاد عَلَيْه، وَقَدْ قَالَ اللَّه جلّ وَعز " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثمٌ كبيرٌ ومنافعٌ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ من نفعهما " وَهَذَا معنى بَيْنَ الصِّحَّة غَيْر مشكلٍ عَلَى ذِي بَصِيرَة، قَالَ: حَسَّان بْن ثَابِت: نُوَلِّيها الملامةَ إنْ أَلِمْنَا ... إِذا مَا كَانَ مغثٌ أَوْ لِحاءُ ونشربُها فتتركنا ملوكًا ... وأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللقاءُ وقَالَ الْأَعْشَى: لعمرك إِن الرّاحَ إِن كُنْت سَائِلًا ... لمختلف عَشيُها وغَدَاتُها لنا من صَحَاهَا خُبْثُ نفسٍ وكأبةٌ ... وذكرُ همومٍ مَا تَغِبُّ أذاتُها وَعند العَشِي طيبُ نفسٍ ولذةٌ ... وَمَال كثير غُدْوَةً نشواتُها وقَالَ المتنخِّل: وَلَقَد شربت من المدا ... مة بالكبير وبالصَّغير فَإِذا انتشيْتُ فإنني ... ربُّ الخَوَرْنقِ والسَّدِير وَإِذَا صحوتُ فإنني ... ربُّ الشويْهةِ وَالْبَعِير وَهَذَا كثير جدا، وَقَول امرىء الْقَيْس: لَمْ أقل لخيلي كُرِّي، أَرَادَ لفرسان خيلي، كَمَا قَالَت الْعَرَب: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي بِالْجنَّةِ، أَيّ: يَا فرسَان خيل اللَّه، وقَالَ: اللَّه جلّ ثَنَاؤُهُ، وَقَوله أصدق القَوْل وَأحسنه " واسأل الْقرْيَة " يَعْنِي أَهلهَا، وقَالَ: تَعَالَى ذكره: " فأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل " أَيّ حُبَّ الْعجل فِي قَوْلِ مُعظم أَهْل التَّأْوِيل، وذُكِر بَعضهم أَنَّهُ سُحِلَ وأُلْقِي فِي اليمِّ فشربوه، وَالْقَوْل الأول أولى بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي مَا شُرب ولُحِسَ من المَاء وَغَيره قَدْ أُشْرِبْتُه فِي قلبِي، وَإِنَّمَا يُقَالُ: أُشْرِبَ فُلان حُبّ فُلان فِي قلبه أَوْ عداوته وبغضه، وذكرتُ أبياتًا غَزِلَة لبَعض الْمُحدثين فأوردتها هَا هُنَا لِأَنِّي استحسنتُها

المجلس الثالث والخمسون

هَاهُنَا وَفِي بَيت مِنْهَا نَحْو هَذَا الْمَعْنى، وَهِي: وَقَدْ كُنْت أَرْجُو فِي مغيبك سلوةً ... وَلَم أدْرِ أَن الطيف إِن غبت طالبي وَوَاللَّه لَا ينكَى مُحبٌّ بِمِثْلِهَا ... وَإِن كَانَ مَكْرُوها فِرَاق الحبايب وأُشْرِبَ قلبِي حُبَّها وَمَشى بِهِ ... تَمَشِّي حميَّا الكأس فِي رَأس شَارِب يدبُّ هَواهَا فِي عِظَامي ولَحْمِها ... كَمَا دبَّ فِي الملْسُوعِ سمُّ العَقَارِبِ الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ من قَالَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ.. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْمُنَادِي، وَأَبُو الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ قَيْسٍ السُّكَّرِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الأَثَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَكَانَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا رَعِيَّةُ الإِبِلِ يَوْمًا، فَكَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَرْعَى فِيهِ، فَبَصُرْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حلقةٍ يُحَدِّثُهُمْ، فَسَعَيْتُ إِلَيْهِ فَأَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُرِيدُ فِيهِمَا إِلا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ قَبْلَهُمَا مِنْ ذَنْبٍ، فَكَبَّرْتُ فَإِذَا رَجُلٌ يَضْرِبُ عَلَى كَتِفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الَّتِي قَبْلَهَا يَا ابْن عَامِرٍ أَفْضَلُ مِنْهَا، قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا اللَّه يُصَدِّقُ لِسَانَهُ قَلْبُهُ دَخَلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ". رِوَايَة أُخْرَى للْحَدِيث حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنَادِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ النَّسَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا ونفرٌ مِنْ جُهَيْنَةَ فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ رَعْيَ الإِبِلِ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمٌ، فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَعَيْتُهَا ثُمَّ رَوَّحْتُ نَفْسِي فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وهويخطب، فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَدْرَكْتُ مِنْ كَلامِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى مُصَلاهُ فَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ فِيهَا، إِلَّا انقل كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مِنَ الْخَطَايَا "، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ قُلْتُ: بخٍ بخٍ، فَقَالَ: عُمَر - وَهُوَ إِلَى جَنْبِي قاعدٌ - قَالَ: أَجْوَدَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ، قُلْتُ: وَمَا هِيَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ فَقَالَ: قَالَ: " مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلا فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ.

معنى بخ بخ واللغات فيها

معنى بَخْ بَخْ واللغات فِيهَا قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله بَخْ بَخْ، هَذِهِ كلمة تَقُولهَا الْعَرَب عِنْد الشَّيْء تفضله وتمدحه وتعجب بِهِ، وفيهَا لُغَتَانِ: التسْكين وَالْكَسْر والتنوين، فَمنْ سكن فعلى الأَصْل فِيمَا يُبْنى وَلا يُعرب، وَالْكَسْر عَلَى الْبَاب فِي السَّاكِن إِذا حُرِّك، والتنوين فِي قَول مُحققي نُحاة الْبَصرِيين يُؤْذِن بالتنكير، وحذفُه يدُلّ عَلَى التَّعْرِيف، وَأكْثر مَا تسْتَعْمل هَذِهِ الْكَلِمَة بالتكرير وَلها نَظَائِر فِيمَا وَصفنَا من حكمهَا، قَالَ الشَّاعِر: بَيْنَ الأَشِجِّ وَبَيْنَ قيسٍ باذخٌ ... بخ بخ بوالده وبالمولود وَمثل هَذَا صهٍ صهٍ ومهٍ مهٍ. وَفِي الْقِصَّة الَّتِي رويناها بِهَذَيْنِ السَّنّدَيْن مَا يُرغب فِي الْعَمَل بِمَا أنبأت بفضله، وَيدل عَلَى سَعَة إِحْسَان اللَّه تَعَالَى وتفضله، وَقد روى لَنَا هَذَا الْخَبَر من وجهٍ فِيهِ عللٌ عارضته فِي سَنَده، وَأَنا ذاكره ليحصُل لمن وقف عَلَيْه الْفَائِدَة مِنْهُ إِن شَاءَ اللَّه. الْعِلَل الَّتِي فِي سَنَد الْحَدِيث حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ غَالِبٍ الْعَطَّارُ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ نَصْرَ بْنَ حَمَّادٍ، قَالَ: كُنَّا عَلَى بَابِ شُعْبَةَ نَتَذَاكَرُ، فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كُنَّا نَتَنَاوَبُ رَعِيَّةَ الإِبِلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى غَفَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ "، قُلْتُ: بَخٍ بَخٍ، فَحَدَّثَنِي رجلٌ مِنْ خَلْفِي فَإِذَا عُمَرُ، فَقَالَ: الَّذِي قَالَ قبل أحسن، قلت: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: " مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول الله قِيلَ لَهُ ادْخُلْ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتَ "، قَالَ: فَخَرَجَ شُعْبَةُ فَلَطَمَنِي ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: مَا لَهُ بَعْدُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ: إِنَّكَ أَسَأْتَ إِلَيْهِ، قَالَ شُعْبَةُ: انْظُرْ مَا يُحَدِّثُ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ لأَبِي إِسْحَاقَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قلت: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عُقْبَةَ، فَغَضِبَ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ حَاضِرٌ، فَقَالَ مِسْعَرٌ: أَغَضِبَ الشَّيْخ؟ قلت: يصححن هَذَا الْحَدِيثَ أَوْ لأَرْمِيَنَّ بِحَدِيثِهِ، فَقَالَ لِي مِسْعَرٌ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَطَاءٍ بِمَكَّةَ. قَالَ شُعْبَةُ: فَرَحَلْتُ إِلَى مَكَّةَ لَمْ أُرِدِ الْحَجَّ أَرَدْتُ الْحَدِيثَ، فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَطَاءٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدِّثْنِي، قَالَ شُعْبَة: فَلَقِيت مَالِكًا، قَالَ: سعدٌ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ، قَالَ شُعْبَةُ: فَرَحَلْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيتُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: الْحَدِيثُ مِنْ عِنْدِكُمْ زِيَادُ بْنُ مِخْرَاقٍ، قُلْتُ: إِيشِ هَذَا الْحَدِيثُ؟ بَيْنَمَا هُوَ كُوفِيٌّ إِذْ صَارَ مَكِّيًّا، إِذْ صَارَ مَدَنِيًّا، إِذْ صَارَ بَصْرِيًّا، قَالَ شُعْبَةُ: فَرَحَلْتُ

التدليس في الحديث

إِلَى الْبَصْرَةِ فَلَقِيتُ زِيَادَ بْنَ مِخْرَاق فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَبْغِي، قُلْتُ: حَدِّثْنِي بِهِ، قَالَ: لَا تَرُدْهُ، قُلْتُ: حَدِّثْنِي، فَقَالَ: حَدَّثَنِي شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي رَيَّحَانَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا ذَكَرَ شَهْرًا، قُلْتُ: دَمِّرْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لَوْ صَحَّ لِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَقَدْ حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَسَاقَ الْقِصَّةَ عَلَى اخْتِلافِ أَلْفَاظِهَا مَعَ تَقَارُبِ مَعَانِيهَا وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَعَنِّي حَدِيثَ أَبِي، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ - قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُغنِي بْنُ مُعَاذٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقُلْتُ لَهُ: عِنْدَكُمْ أَصْلٌ، قَالَ: نَعَمْ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بن الْمفضل، عَن شُعْبَة، كهذه الْقِصَّةُ، وَزَادَ فِيهَا حَرْفًا هُوَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ: لَمْ أَحْفَظْهُ. التَّدْلِيس فِي الْحَدِيث قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: والتدليس فِي الْحَدِيث كثير، والمدلِّسُون من أَهله كثير، وَكَذَلِكَ الْإِرْسَال وَكَانَ شعبةُ يُنكر التَّدْلِيس، وَيَقُولُ فِيهِ مَا يتَجَاوَز الْحَد مَعَ كَثْرَة رِوَايَته عَنِ المدلِّسين، وشاهدت من كَانَ مدلِّسًا من أعْلام أَهْل الْعلم الْمُحدثين كالأعمشِ وسُفْيَان الثَّوْرِي وسُفْيَان بْن عُيَيْنة وهُشَيْم بْن بَشِير وَغَيْرُهُمْ، والمدلِّس من هَؤُلاءِ لَيْسَ بِكَذَّابٍ فِي رِوَايَته، وَلا مَجْرُوح فِي عَدَالَته، وَلا مغموصٍ فِي أَمَانَته، وأعلام الْفُقَهَاء يحتجون فِي الدّين بنقله، وَكَانَ الشّافعيّ لَا يرى مَا يرويهِ المدلِّسُ حُجَّة، إِلا أَن يَقُولُ فِي رِوَايَته: حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ لشعبة مَعَ سوء قَوْله فِي التَّدْلِيس فِي عدَّة أَحَادِيث رَوَاهَا، وجمعنا ذَلِكَ فِي مَوضِع هُوَ أوْلَى بِهِ، قَالَ القَاضِي: وَفِي ظَاهر هَذِهِ الْحِكَايَة عَنْ شُعْبَة أَنَّهُ قَد انتهك من حُرْمة هَذَا الرَّجُل مَا هُوَ حِمًى مَحْظور، وَإِلَى اللَّه تصير الْأُمُور، وَفِي مَا يصلح إثباتُ مثله فِي هَذَا الْكتاب، من الْأَخْبَار المدلسة وأحوال المدلِّسين مَا يَتَّسِع، فلعنا نأتي مِنْهُ بجملة فِيمَا نستقبل إِن شَاءَ اللَّه. أحكم مَا قالته الْعَرَب وأوجزه حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن دُرَيد، قَالَ: أَبُو عُثْمَان الأُشْنَانْدَانِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعُتْبِي، قَالَ: دخل الشَّعْبِيّ عَلَى عَبْد الْملك، فَقَالَ: يَا شَعْبِي! أَنْشدني أحكم مَا قَالَت الْعَرَب وأوْجَزَه، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَول امرىء الْقَيْس: صُبَّتْ عَلَيْه وَمَا تنصبُّ من أممٍ ... إِن الشَّقَاء عَلَى الأشْقِين مَصْبُوبُ وَقَول زُهَيْر: وَمن يَجْعَل المعروفَ من دون عرضه ... يَفِرْهُ وَمن لَا يتقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ وَقَول النَّابِغَة: ولَسْتَ بمستبقٍ أَخا لَا تلمُّهُ ... عَلَى شعثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ

وَقَول عَدِيّ بْن زَيْد: عَنِ الْمَرْء لَا تسْأَل وَأبْصر قرينه ... إِن القرين بالمقارن يَقْتَدِي وَقَول طرفَة: سَتُبْدي لَك الأَيَّامُ مَا كُنْت جَاهِلا ... ويأتيك بالأخبار من لَمْ تُزَوِّدِ وَقَول عُبَيْد بْن الأبْرَص: وكلُّ ذِي غيبةٍ يَؤُوبُ ... وغائبُ الموتِ لَا يَؤُوبُ وَقَول لَبِيد: إِذَا المرءُ أسْرَى لَيْلَة ظنَّ أنَّهُ ... قضى أملا والمرءُ مَا عَاشَ عَاملُ وَقَول الْأَعْشَى: وَمن يَغْتربْ عَنْ قومه لَا يزل يرى ... مصَارِع مظلومٍ مجرًا ومَسْحَبَا وَقَول الْحُطَيْئة: من يفعل الْخَيْر لَا يَعْدِمْ جَوَازِيَهُ ... لَا يذهبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّه والنَّاسِ وَقَول الْحَارِث بْن عَمْرو: فَمنْ يَلْقَ خيرا يُحْمِد النّاس أمره ... وَمن يَغْوَ لَا يَعْدم عَلَى الغيِّ لائِمَا وَقَول الشماخ: وكلُّ خليلٍ غيرِ هَاضِمِ نَفسِهِ ... لوصْلِ خليلٍ، صارمٌ أَوْ مُعَارِزُ فَقَالَ عَبْد الْملك: حَجَجْتُكَ يَا شَعْبِي بقول طُفَيْل الغَنَوي: وَلا أُخَالِسُ جَاري فِي حليلته ... وَلا ابنَ عَمِّيَ غَالَتْنِي إِذا غُولُ حَتَّى يُقالَ إِذا دُلِّيتُ فِي جدثٍ ... أيْن ابنُ عوفٍ أَبُو قَرَّانَ مَجْعُولُ قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: بَيْتا طُفَيل اللَّذَان أنشدهما عَبْد الْملك وفَضَّلهما وزَعمَ أَنَّهُ حج الشَّعْبِيّ من أشعار الشُّعَرَاء غَيْر مقصِّر عَنْهُمَا، وَمن تَأمل مَا وَصفنَا وجَدّه عَلَى مَا ذكرنَا، من غَيْر أَن يحْتَاج إِلَى تكلّف تَفْسِير ذَلِكَ، وإطناب فِي الِاحْتِجَاج لَهُ، فَأَما بَيت الشماخ فَإِن معنى قَوْله: غَيْر هاضم نَفسه، أَيّ حَامِل عَلَيْهَا لخليله والهَضْم: النَّقْص، يُقَالُ: هضم فلانٌ فلَانا حَقه أَيّ نَقصه، قَالَ اللَّه جلّ جلالُه: " وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مؤمنٌ فَلا يخَاف ظلما وَلَا هضماً " وَأما قَوْله: أَوْ مُعَارِز، فالْمُعارز المتقبِّض، يُقَالُ: استعْرَزَ عليَّ فُلان إِذا انقبض، وألقيت الْبُضْعة عَلَى النَّار فَعَرزَتْ، وَكَأن الشماخ سلك سَبِيل النَّابِغَة فِي بَيته الَّذِي أنْشدهُ الشَّعْبِيّ فِي هَذَا الْخَبَر، وأصل الْغَرَض فِي هَذِهِ الْجُمْلَة، عَلَى مَا بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ مِمَّا لأَحَدهمَا من الشَّفِّ من تَنْقِيح أَلْفَاظ الشِّعْر، وَفضل اسْتغْنَاء أَجزَاء أحد الْبَيْتَيْنِ عَلَى أَجزَاء الآخر، وَأَنا قائلٌ فِي هَذَا قولا يُبين صِحَّته ويُوضح حَقِيقَته إِن شَاءَ اللَّه، وَأَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: إِن جملَة الْأَلْفَاظ للبيتين الَّتِي تجمعهما عَلَى معنى وَاحِد، هُوَ أَن الَّذِي

ثمامة وهو سكران ومحاورته للمأمون

يحفظ الْأُخوة بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ، ويحرس الْخلَّة بَيْنَ الخليلين أَن يَلمّ أَحَدهمَا صَاحبه عَلَى شَعَثِهِ ويَهْضِمَ لَهُ نَفسه، وَمَتى لَمْ يفعل هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَة من استبقائه وَكَانَ بِعرْض مُصارمته، وانقباضه عَنْهُ ومعارزته، وَبَيت النَّابِغَة فِي هَذَا الْبَاب أفحل وأوفى، وأجزل وأشفى، وَقَدْ كشف عَنِ الْعلَّة فِيمَا أَتَى بِهِ بقوله: أَيّ الرِّجَال المهذّب، فَأحْسن الْعبارَة عَنْ هَذَا الْمَعْنى: " مَنْ تَكُ يَوْمًا بأخيك كُلِّه "، وَقَدْ نَوَّه بَيت النَّابِغَة هَذَا رُواةُ الشّعْر ونَقَلَتِه، ونُقَّاده وجهابذته، واستحسنوا تكافُؤَ أَجْزَائِهِ، واستقلال أَرْكَانه، واشتماله عَلَى فِقَر قَائِمَة بأنفسها، كَافِيَة كُلّ وَاحِدَة مِنْهَا، وَهَذَا من النَّوْع الْمُسْتَفْصح، والفن المستعذب، من أَعلَى طَبَقَات البلاغة، وَقَدْ أَتَى الْقُرْآن مِنْهُ بالكثير الَّذِي يقل مَا أَتَى مِنْهُ فِي الشّعْر إِذا قَيْس إِلَيْهِ، فَتبين للمميزين كثير فضل مَا فِي الْقُرْآن عَلَيْه، فَمنْ ذَلِكَ قولُ اللَّهِ جلّ وعَزّ: " فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كتابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب رِسَالَة أبَنَّا فِيهَا رُجحان مَا فِي الْقُرْآن من هَذَا الْجِنْس عَلَى كثرته، عَلَى مَا أَتَى مِنْهُ فِي الشّعْر عَلَى قلته، فَلم نُطِلْ كتَابنَا هَذَا بإعادته، وَقَدْ ضممنا مَعَه شطرًا صَالحا كتَابنَا الْمُسَمَّى " الْبَيَان الْمُوجَزُ فِي عُلُوم الْقُرْآن المعجز " وَمن نظر فِيهِ أرشف عَلَى مَا يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بِتَوْفِيق اللَّه تَعَالَى وهدايته. ثُمَامَة وَهُوَ سَكرَان ومحاورته لِلْمَأْمُونِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدثنَا القربي، قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِح بْن سَعِيد الضبعيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قَالَ الْوَلِيد بْن عَيَّاش بْن زُفر، خرج ثُمَامَة من منزل مُحَمَّد بن نوح العمكري مَعَ الْمغرب وَهُوَ سَكرَان، وَإِذَا هُوَ بالمأمون قَدْ ركب فِي نَفَر، فَلَمَّا رَآهُ ثُمامةُ عدل عَنْ طَرِيقه، وبَصُر بِهِ الْمَأْمُون فَضرب كفَلَ دَابَّته وحاذاه، فَوقف ثُمَامَة فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: ثُمَامَة؟ قَالَ: إِي واللَّه، قَالَ: سَكرَان؟ قَالَ: لَا واللَّه، قَالَ: أفتعْرِفُني؟ قَالَ: إِي واللَّه، قَالَ: من أَنَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي واللَّه، فَضَحِك الْمَأْمُون حَتَّى تثنى عَلَيْهِ عَنْ دَابَّته، ثُمّ قَالَ: عَلَيْك لعائنُ اللَّه، قَالَ: تَتْرى يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: فَعَاد فِي الضحك، وَأمر لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم. مَتَى حلت لَهُ الْخمر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي مَزْيَد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن الْحُسَيْن، قَالَ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاك بْن عُثْمَان، قَالَ: أَتَى عَبْد الْملك بْن مَرْوَان بفتًى من قُرَيْش قَدْ شرب نبيذًا، فَقَالَ: لَهُ أَيْنَ شربت؟ فَقَالَ: شربتُ مَعَ الجوزاءِ كَأْسًا ريوةً ... وَأُخْرَى مَعَ الشِّعْرى إِذا مَا اسْتَقلَّتِ مُعَتَّقَةً كَانَتْ قريشٌ تصونُها ... فَلَمَّا استحلُّوا قتلَ عُثْمَان حَلّتِ

في أقل من هذا ما يحفظ لك

قَالَ: فَخَلاه، وَأَعْطَاهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم. فِي أقل من هَذَا مَا يُحفظ لَك حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد، عَنِ الْحِرْمَازِيِّ، قَالَ: أَتَى رجلٌ من الْأَنْصَار عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر التَّيْمِيّ بِفَارِس فتعرَّض لَهُ فَلم يُصِبْ مِنْهُ طائلا، فَانْصَرف وَهُوَ يَقُولُ: رَأَيْت أَبَا حَفْص تَجهَّمَ مَقْدَمِي ... فَلَطَّ بقولٍ عدره أَوْ مُوَاربَا فَلَا تحسبنّي إِن تجهمتَ مَقْدمي ... أرى ذَاك عارًا أَوْ أرى الْخَيْر ذاهبَا ومثلي إِذا مَا بَلْدَة لَمْ تُواتهِ ... تنكب عَنْهَا واسترم العَوَاقِبا قَالَ: فبلغت الأبياتُ عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه، فَقَالَ: عَليّ بِالرجلِ فَجَاءُوا بِهِ، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّه! مَا أخرج هَذَا مِنْك؟ أبيني وَبَيْنك قرَابَة؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَلَك عِنْدِي يدٌ أسْدَيْتها، قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا دعَاك إِلَى هَذَا؟ قَالَ: أفضل الْأَشْيَاء، كُنْت أدخلُ مَسْجِد المدينةَ أحْفَلُ مَا يَكُون فأتجاوزُ من الحَلَقِ إِلَى حَلَقَتِك فأجلس فِيهَا وأوُثرك، فَقَالَ: فِي أقل من هَذَا واللَّه مَا يُحفظ لَك، كم أَقمت؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَة، فَأمر لَهُ بِأَرْبَعِينَ ألفا وجهزه إِلَى أَهله. بيتان يلغيان قرارًا للأمير حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن خالويه النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنِي اليزيدي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى، عَنْ دَمَاذ، عَنِ الأَصْمَعِيّ، قَالَ: حَرَّم خالِدُ بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي الْغناء فَأَتَاهُ حُنَيْنُ بْن بَلْوَع مَعَ أَصْحَاب الْمَظَالِم ملتحفًا عَلَى عُود، فَقَالَ: أصلح اللَّه الْأَمِير شيخ كَبِير ذُو عِيَال، كَانَتْ لَهُ صناعَة حِلْتَ بَينه وَبَينهَا، قَالَ: وَمَا ذَاك؟ فَأخْرج عُودَه وغَنّى: أَيهَا الشامت الْمُعير بالشي ... ب أَقِلَنَّ بالشَّبابِ افْتِخَارَا قَدْ لبستُ الشبابَ قبلك حينا ... فوجدتُ الشَّبَاب ثوبا مُعَارَا فَبكى خَالِد، وقَالَ: صدق واللَّه، إِن الشَّبَاب لثوبٌ معار، عد إِلَى مَا كنت عَلَيْهِ، وَلَا تجَالس شَابًّا وَلَا معربدا. قل إِن شَاءَ اللَّه حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن زَكَرِيّا الْبَصْرِيّ، قَالَ: الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن رَاشد، قَالَ: سَمِعْتُ القَاضِي شريك بْن عَبْد اللَّه، يَقُولُ: كنتُ ذَات لَيْلَة أُصَلِّي فِي السَّطْح وَإِلَى جنب سطحي امْرَأَة تُطْلَق وَقَدْ عَسُر عَلَيْهَا ولادها، فَكَادَتْ تَمُوت فَشَغَلَتْ قلبِي، وزوجُها فِي نَاحيَة السَّطْح يسمع صراخها، فسمعتُه يَقُولُ: واللَّه يَا هَذِهِ لِئن خَلَّصكِ اللَّه تَعَالَى لَا أَعُود أُضَاجِعُك أبدا، فَقَالَت لَهُ مسرعة: قُل إِن شَاءَ اللَّه يَا مَشُوم، فأضحكني قَوْلهَا، وَمَا ذكرتها وَأَنا فِي الصَّلاة إِلا وضحكتُ من قَوْلهَا.

معلومات أبي حنيفة في التاريخ

مَعْلُومَات أَبِي حنيفَة فِي التَّارِيخ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد الْمُقْرِي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن خُزَيْمة بنَيْسابور، عَنِ الْمُزَني، عَنِ الشّافعيّ، قَالَ: مضى أَبُو يُوسُف القَاضِي ليسمع الْمَغَازِي من أَبِي إِسْحَاق أَوْ من غَيره فأخَلَّ مجْلِس أَبِي حنيفَة أَيَّامًا فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ لَهُ أَبُو حنيفَة: يَا أَبَا يُوسُف من كَانَ صَاحب راية طالوت؟ قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُف: إِنَّك إِمَام وَإِن لَمْ تُمْسِكْ عَنْ هَذَا سَأَلتك واللَّه عَلَى رُؤُوس الْمَلأ أَيّمَا كَانَتْ أولى بَدْرًا أَوْ أُحدًا، فَإنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ قبل، فَأمْسك عَنْهُ. بعض مَا رثى بِهِ البرامكة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير بْن بَكَّار، قَالَ: حَدَّثَنِي عمي مُصْعَب بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: لما قُتِل جَعْفَر بْن يَحْيَى وصُلِبَ بِبَاب الْحَسَن رأسُه فِي نَاحيَة وَجَسَده فِي نَاحيَة، مرت بِهِ امْرَأَة عَلَى حمارٍ فارهٍ فوقفت عَلَيْه، ثُمّ نظرت إِلَى الرَّأْس، فَقَالَت بِلِسَان فصيح: واللَّه لَئِن صرتَ الْيَوْم آيَة لقَدْ كُنْت فِي المكارم غَايَة، ثُمّ أنشأت تَقُولُ: بكيتُ عَلَى يَحْيَى وأيقنتُ أَنما ... قُصَارَى الفَتَى يَومًا مُفَارَقَةُ الدُّنْيَا وَلما رَأَيْتُ السَّيف خَالَطَ جعفرًا ... ونادى مُنَادِي للخليفةِ فِي يَحْيَى وَمَا هِيَ إِلا دولةٌ بعد دولةٍ ... تُخوِّلُ ذَا نُعْمى وتعقُبُ ذَا بَلْوَى إِذا أنزلتْ هَذَا منازلَ رِفْعةً ... من الْملك حَطّت ذَا إِلَى غَايَة سُفْلَى ثُمّ حركتِ الحمارَ فكَأَنَّها كانتْ رِيحًا لَمْ تُعرف. قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَدْ رَوَى لنا فِيمَا رُثي بِهِ البرمكيُّ بعض من وقف عَلَى خشبته غَيْر حِكَايَة، وَسَتَأْتِي بعد إِن شَاءَ اللَّه. أضمر الْملك لنا شرا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن كَامِل، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن حَمَّاد القَيْسيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي السرى، قَالَ هِشَام بْن مُحَمَّد بْن السّائب الْكَلْبِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خرج كسْرَى فِي بعض أَيَّامه للصَّيْد وَمَعَهُ أَصْحَابه، فَعَن لَهُ صيدٌ فَتَبِعَهُ حَتَّى انْقَطع عَنْ أَصْحَابه وأظلته سَحَابَة فأمطرت مَطَرا حَال بَين أَصْحَابه وَبَين اللحوق بِهِ فَمضى لَا يدْرِي أَيْنَ يقْصد، فرُفع لَهُ كوخٌ فقصده فَإِذا عجوزٌ بِبَاب الكوخ وَأدْخل فرسه وَأَقْبل اللَّيْل فَإِذا ابنةُ الْعَجُوز قَدْ جَاءَت مَعهَا بقرة قَدْ رعتها بِالنَّهَارِ، فأدخلتها الكوخ وكسرى ينظر، فَقَامَتْ الْعَجُوز إِلَى الْبَقَرَة وَمَعَهَا آنِية فاحتلبت الْبَقَرَة لَبَنًا صَالحا وكسرى ينظر، قَالَ: فَقَالَ فِي نَفسه: يَنْبَغِي أَن يَجْعَل عَلَى كُلِّ بقرة إتاوة، فَهَذَا حلابٌ كثيرٌ وَأقَام بمكانه، فَلَمَّا مضى أَكثر اللَّيْل، قَالَت الْعَجُوز: يَا فُلَانَة! قومِي إِلَى فُلَانَة فاحتلبيها، فَقَامَتْ إِلَى الْبَقَرَة فَوَجَدتهَا حَائِلا لَا لبن فِيهَا، فنادت أُمَّها: يَا أُمَّتاه قَدْ واللَّه أضمر لنا المَلِكُ شَرًّا، قَالَتْ: وَمَا ذَاك؟ قَالَتْ: هَذِهِ فُلَانَة حائلٌ مَا تُبِسُّ بقَطْرة، قَالَ: فَقَالَت لَهَا أمهَا: امكُثي عيها قَلِيلا، قَالَ: فَقَالَ

المجلس الرابع والخمسون

كسْرَى فِي نَفسه: من أَيْنَ عَلِمَتْ مَا أضْمرتُ فِي نَفسِي؟ أما إِنِّي لَا أفعل ذَلِكَ، قَالَ: فَمَكثت ثُمّ نادتها، يَا بُنّية! قُومي إِلَى فُلَانَة، قَالَ: فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَوَجَدتهَا جَافلا، فنادت أُمَّها: يَا أُمَّتاه! قَدْ واللَّه ذهب مَا كَانَ فِي نفس الْملك من الشَّرِّ هَذِهِ فُلَانَة جافل فاحتلبتُها، وَأَقْبل الصُّبْح وتتبَّع الرِّجَال إِثْر كِسْرى حَتَّى أَتَوْهُ، فَركب وَأمر بِحمْل الْعَجُوز وابنتها إِلَيْهِ فحملتا، فَأحْسن إِلَيْهِمَا، وقَالَ: كَيفَ علمت أَن الْملك قَدْ أضمر شَرًّا، وَأَن الشَّرّ الَّذِي أضمره قَدْ عَدَل عَنْهُ، قَالَت الْعَجُوز: أَنَا بِهَذَا الْمَكَان من كَذَا وَكَذَا مَا عُمل فِينَا بعدلٍ إِلا خَصْبَ بلدُنا واتسع عيشُنا، وَمَا عمل فِينَا بجورٍ إِلا ضَاقَ عيشُنا وانقطعت موادُّ النَّفْع عنّا. قَالَ القَاضِي: قَول الْمَرْأَة فِي هَذَا الْخَبَر فُلَانَة يَعْنِي الْبَقَرَة، قَالَ كثير من أَهْل اللُّغَة: إِنَّمَا يُقَالُ فُلَانَة فِي الْمَرْأَة، فَأَما مَا عَداهَا من الْبَهَائِم وَغَيرهَا فَوجْهُ الْكَلَام أَن يُقَالُ: الفلانة، وَالْوَجْه الآخر عِنْدِي غير مستنكرٍ، إِذْ قَدْ كَانُوا يخصُّون كلَّ واحدٍ مِنْهُ التلقيب والتَّسْمية. المجلِسُ الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ من أدب المؤاكلة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ الصَّيْدَانِيَّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلْيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَلِيهِ، وَلا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَلِي جَلِيسَهُ، وَلا يَأْكُلُ مِنْ ذِرْوَةِ الْقَصْعَةِ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَأْتِيهَا مِنْ أَعْلاهَا، وَلا يَرْفَعِ الرَّجُلُ يَدَهُ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ فَيَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَاجَة ". تَعْلِيق للمؤلف قَالَ القَاضِي: وَفِي هَذَا الْخَبَر من أدب الطَّعَام وَحسن الْأكل والمؤاكلة، مَا يحِق عَلَى كُلّ ذِي لُبٍّ وحِجًى الْأَخْذ بِهِ، وَالله تَعَالَى يجازي نَبينَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَعْلِيمه إيانا أَوْلَى الْأُمُور فِي دِيننا ودُنيانا، أفضلَ مَا جَزَى نَبيا عَنْ أمته. سَوف يبْحَث عَنْهُ سنة كَامِلَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَسَن بْن الخَضِر، قَالَ: أَبُو بَكْر - أَظن عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كتب الْحَسَن بْن سهل إِلَى مُحَمَّد بْن سَمَّاعَة القَاضِي: أما بعد فَإِنِّي قَد احْتجتُ فِي أموري إِلَى رجلٍ جامعٍ لخصال الْخَيْر، ذِي عفةٍ ونزاهةٍ طُعمة، قَدْ هذبته الْآدَاب، وأحكمتْه التجارب، لَيْسَ بظنين فِي رَأْيه، وَلا بمطعون فِي حَسبه، إِن أُؤْتمِن عَلَى الْأَسْرَار قَامَ بهَا، وَإِن قُلِّد مُهِمًّا من الْأُمُور أدّى قبولَهُ، لَهُ سِنٌّ مَعَ أدبٍ ولسانٍ، تُقْعده الرَّزانة، ويسكته الْحلم، قَدْ فُرَّ عَنْ ذكاء وفطنة، وعض عَن قارحةٍ من الْكَمَال، تكفيه اللحظة، وتُرشده السَّكْتة، قَدْ أبْصر خدمَة الْمُلُوك وأحكمها، وَقَامَ بأمورهم فحذقها، لَهُ

لا آمن أن يكون معه حديدة

أَنَاة الوزراء، وصولة الْأُمَرَاء، وتواضع الْعلمَاء، وَفهم الْفُقَهَاء، وَجَوَاب الْحُكَمَاء، لَا يبيعُ نصيب يَوْمه بحرمان غده، يكَاد يسترق قلوبَ الرِّجَال بحلاوة لِسَانه، وَحسن لَفظه، دَلَائِل الْفَضْل عَلَيْه لائحة، وأمارات الْعلم لَهُ شاهدة، مُضطلع بِمَا استُنْهض، مُسْتَقِلا بِمَا حُمّل، وَقَدْ آثرتُك بِطَلَبِهِ وحبوتك بارتياده، ثِقَة بِفضل اختيارك، وَمَعْرِفَة بِحسن تَأَتِّيك، فَكتب إِلَيْهِ: إِنِّي عازم عَلَى أَن أَرغب إِلَى اللَّه حَوْلا كَامِلا فِي ارتياد هَذِهِ الصّفة، وأفرِّق الرُّسُلَ الثقاتِ إِلَى الْآفَاق لالتماسه، وَأَرْجُو أَن يَمُنَّ اللَّه تَعَالَى بالإجابة، وأفوز لديك بِقَضَاء حَاجَتك إِن شَاءَ اللَّه. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَوْله: فِي هَذَا الْخَبَر: ونزاهة طِعمة بِكَسْر الطَّاء الطاعم وَهُوَ هَيْئَة عَلَى فِعلة للتَّطعم مثل الرِّكبة والْجِلسة، والطُّعمةُ بِالضَّمِّ الشيءُ المطعوم وَمَا جُعل للْإنْسَان من ضد الطعمة، قَالَ الشَّاعِر: وَمَا أَن طبنا جبنٌولكنمنايانا وطُعْمَةُ آخرينا ويُقَالُ: قَدْ جُعِلتْ هَذِهِ الأَرْض لفُلَان طُعمة أَيّ جعلهَا لطُعْمه، والطَّعْمة بِالْفَتْح الْمرة فِي الْقيَاس من طَعِمْتُ طَعْمَةً وَاحِدَة مثل الرَّكبة والجَلْسَة. لَا آمن أَن يَكُون مَعَه حَدِيدَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيّا يَحْيَى بْن الْحَسَن بْن عَبْد الْخَالِق، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْقَاسِم. قَالَ: دخل الرَّبِيع عَلَى الْمهْدي وأَبُو عُبَيْد اللَّه جالسٌ يَعْرض كُتُبًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْد اللَّه: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين يتَنَحَّى هَذَا، يَعْنِي الرَّبِيع، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: تَنَح، قَالَ: لَا أفعل، قَالَ: كَأَنَّك تراني بِالْعينِ الأولى، قَالَ: بل أَرَاك بِالْعينِ الَّتِي أَنْت بهَا، قَالَ: فَلم لَا تتنحى إِذْ أَمرتك؟ قَالَ: لَا آمن أَن يَكُون مَعَه حَدِيدَة ينالُك بهَا وَأَنت سعرة الْمُسْلِمِين وَقَدْ قَتَلْتَ ابْنه، فَقَامَ الْمهْدي مذعُورًا وَأمر بتفتيشه، فوجدوا بَيْنَ جَوْربه وخُفِّه سِكِّينًا، فَرُدَّت الأشياءُ إِلَى الرَّبِيع، فَجعل كَاتبه يَعْقُوب بْن دَاوُد مَكَانَهُ، فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِر: أدخلته فعلا عَليّ ... ك كَذَاك شُؤْمُ النَّاصِيَهْ يَعْقُوبُ يحكمُ فِي الأمو ... ر وَأَنت تنظرُ ناحيَهْ مُحَمَّد البيدق ينْتَقم من النَّمرِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَير، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد البيدَق - وَكَانَ أحسن الشُّعَرَاء إنشادًا كَانَ إنشاده أحسن من الْغناء - قَالَ: دَعَاني هَارُون الرشيد فِي عشي يوْم وبَيْنَ يَدَيْهِ طبقٌ وَهُوَ يَأْكُل مِمَّا فِيهِ وَمَعَهُ الْفَضْل بْن الرَّبِيع، فَقَالَ لي الْفَضْل: يَا مُحَمَّد! أنْشد أَمِير الْمُؤْمِنِين مَا يُسْتَحْسَنُ من مديحه، فَأَنْشَدته للنمري، فَلَمَّا بلغت إِلَى هَذَا الْموضع. أَي امرىءٍ بَات من هَارُون فِي سخطٍ ... فَلَيْس بالصَّلَواتِ الخَمْس ينتفعُ

من المفاخرة بين المدن

إِن المكارمَ وَالْمَعْرُوف أوديةٌ ... أحَلَّكَ اللَّه مِنْهَا حَيْثُ تَجْتَمِع إِذا رفعْت امْرأً فاللَّهُ رافِعُه ... وَمن وضَعْتَ من الأقوام مُتَّضِعُ نَفسِي فداؤك والأبطال معلمةٌ ... يوْم الوغي والمنايا بَينهم قُرَعُ قَالَ: فَأمر بِرَفْع الطَّعَام، وقَالَ: هَذَا واللَّه أطيب من كل الطَّعَام وَمن كُلّ شَيْء، وَأَجَازَ النَّمرِيّ بجائزة سنية، قَالَ مُحَمَّد البيدق: فأتيتُ النَّمرِيّ فعرفتُه أنِّي كنتُ سببَ الْجَائِزَة فَلم يُعْطِنِي شَيْئا، وشخص إِلَى رَأس عين فأحفظني وأغاظني، ثُمّ دَعَاني الرشيد يَوْمًا آخر، فَقَالَ: أنْشِدْني يَا مُحَمَّد، فَأَنْشَدته: شاءٌ من الناسِ راتعٌ هامِلْ ... يُعَلِّلُون النفوسِ بالبَاطِلْ فَلَمَّا بلغتُ إِلَى قَوْله: إِلا مَساعِيرُ يَغْضَبُون لَهَا ... بِسَلَّةِ الْبِيضِ والقَنَا الذَّابِلْ قَالَ: أرَاهُ يُحرِّض عليَّ، ابْعَثُوا إِلَيْهِ من يجيئني بِرَأْسِهِ، فَتكلم الْفَضْل بْن الرَّبِيع فَلم يُغْنِ كَلَامه شَيْئا، فَوجه الرَّسُول إِلَيْهِ فوافاه فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَقَدْ دُفن، فَأَرَادَ نبشه وصَلْبه فكُلِّم فِي ذَلِكَ فَأمْسك عَنْهُ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: النَّمرِيّ مَنْسُوب إِلَى النَّمِرِ بْن قاسط وَالْمِيم من النمر مَكْسُورَة إِلَّا أَنَّهَا فتحت فِي الغضافة استثقالاً للكسرتين واليائين، وَقَدْ أَتَى ذَلِكَ عَنِ الْعَرَب مستفيضًا مطردًا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، قَالُوا: النمري والشقري فِي النّسَب إِلَى شقرة بن تَمِيم، والسلمي فِي النّسَب إِلَى بني سَلَمَة من الْأَنْصَار، وَقد يَأْتِي النّسَب كثيرا على غير الْقيَاس، وَقد قَالُوا الدُّهَرِيِّ فِي النّسَب إِلَى الدَّهْر إِذا وصفوا الرَّجُل بطول الْعُمر، وَهُوَ كثير جدا وعِلله وشواهده مَذْكُورَة فِي موَاضعهَا. من الْمُفَاخَرَة بَيْنَ المدن حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَد، حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَلِيّ بْن بَحر بْن كثير السَّقَّا، مَوْلَى باهلة أَبُو حَفْص، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عُبَاد المهلبي، عَنْ أَبِي بَكْر الْهُذلي، قَالَ: كتب بِبَاب أَبِي الْعَبَّاس حِين وُلّي الْخلَافَة فَخرج آذِنُه فَأدْخل من كَانَ بِالْبَابِ من أَهْل الْكُوفَة، فَدخل عَلَيْه مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى، والحَجَّاج بن أَرْطَأَة، وَالْحسن ابْن زِيَاد، وَأدْخل من كَانَ من أهل الْبَصْرَة، فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى: نَحْنُ أكثرُ من أَهْل الْبَصْرَة خَراجًا وأوسعُ مِنْهُم أَنهَارًا، فَقَالَ لي: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قَالَ: قُلْتُ: مَعَاذ اللَّه من ذَلِكَ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَكَيف يكونُونَ كَذَلِك وَلنَا كِرْمان ومُكْرَان وَفَارِس والأهواز والسِّنْد والهند والقَرْصُ والْقُرْص، افتتحناها بالبيض القواضب، حَتَّى ربطنا أعنه الْخَيل بأُصول القنا بِأَرْض الْفُلفل، قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن: نَحْنُ أَكثر مِنْكُم علما وفقهًا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قَالَ: قُلْتُ: بل هُمْ

حكم نذر الكتابي إذا أسلم

أعظم كبرياء وَأَقل أتقياءً وَأكْثر أَنْبيَاء كَانَ مِنْهُم الْمُغِيرَة الْخَبيث السريرة، وَبَيَان وأَبُو بَيَان، واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، مَا رَأَيْتُ شَيْئا قطّ أَكثر بدنًا مصلوبًا وَلا رَأْسا مَنْصُوبًا من أهل الْكُوفَة، وَمَا لنا إِلا نَبِيّ وَاحِد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَتَبَسَّمَ أَبُو الْعَبَّاس، فَقَالَ الْحَسَن بْن زِيَاد: أتشتم أَصْحَاب عَليّ؟ وَقَدْ سِرتُم إِلَيْهِ لتقتلوه، فَإِن قُلْتُ: نَحْنُ واللَّه أَصْحَاب عَليّ سرنا إِلَيْهِ لنقتله فَكف اللَّه تَعَالَى شوكتنا وَسِلَاحنَا عَنْهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ من بَيْنَ أظهرنَا، فَقتله أَهْل الْكُوفَة من بَيْنَ أظْهركُم فأينا أعظم ذَنبا، فَقَالَ الحَجَّاج بْن أرْطَاة: بَلغنِي أَن أَهْل الْبَصْرَة كَانُوا يومئذٍ ثَلَاثِينَ ألفا وَأهل الْكُوفَة تِسْعَة آلَاف فَلَمَّا التقتْ حَلَقَنا الْبِطان، وتناهد النَّهدان، وَأخذت الرِّجَال أقرانها، مَا كَانُوا إِلا كرمادٍ اشْتدَّتْ بِهِ الريحُ فِي يوْم عاصف، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قُلْتُ: مَعَاذ اللَّه تَعَالَى من ذَلِكَ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَمن أَيْنَ كُنَّا ثَلَاثِينَ ألفا وَقَدْ خرجت رَبِيعَة تعين علينا، وَخرج الأحنفُ بْن قيسٍ فِي سعدٍ والرَّباب وهم الشَّام الْأَعْظَم وَالْجُمْهُور الْأَكْبَر، وَلَكِنْ سَلْهُم كم كَانَ عددُنا يوْم اسْتَغَاثُوا بِنَا؟ فَلَمَّا الْتفت حلقتا الْبِطان، وتناهد النَّهدان، وَأخذت الرِّجَال أقرانها، شدخ مِنْهُم فِي صعيدٍ وَاحِد تِسْعَة آلَاف وذُبحوا ذَبْح الْحُمْلان، قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين نَحْنُ أَكثر مِنْهُم أشرافًا، وَأكْرم مِنْهُم أسلافًا، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا بَكْر؟ قُلْتُ: مَعَاذ اللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، هَلْ كَانَ فِي تَمِيم الْكُوفَة مثل الْأَحْنَف بْن قَيْس الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِر: إِذا الأبصارُ أَبْصرت ابنَ قيسٍ ... ظَلَلْنَ مهابة مِنْهُ خُشُوعَا وَهل كَانَ فِي قَيْس عَيْلان الْكُوفَة مثل قُتَيْبَة بْن مُسْلِم الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر: كُلّ يومٍ يَحْوِي قُتَيْبَة نَهْبًا ... ويزيدُ الْأَمْوَال مَالا جَدِيدا بَاهِليُّ قَدْ عَصَبَ التَّاج حَتَّى ... شَاب مِنْهُ مفارقٌ كن سَواد ويُروَى: كُلّ يوْم يُجْرِي قُتَيْبَة نهبًا، وَهل كَانَ فِي بَكْر بن وَائِل الْكُوفَة مثل مَالك بْن مِسْمع الَّذِي يَقُولُ لَهُ الشَّاعِر إِذا مَا خَشِينَا من أميرٍ ظُلامةً ... دَعَوْنا أَبَا الْأَيْتَام يَوْمًا فعَسْكرا وَهل كَانَ فِي أزْد الْكُوفَة مثل الْمُهَلّب بْن أَبِي صُفْرة الَّذِي يَقُولُ لَهُ الشَّاعِر: إِذا كَانَ الْمُهَلَّبُ من ورائي ... هدا لَيْلِي وَقَرَّ لَهُ فؤادِي وَلَم أخشَ الدَّنِيَّة من أناسٍ ... وَلَو صَالُوا بقوةِ قومِ عادِ وَهل كَانَ فِي عَبْد قَيْس الْكُوفَة مثل الْحَكَم بْن الْمُنْذر بْن الْجَارُود، الَّذِي يَقُولُ لَهُ الشَّاعِر: يَا حَكَمَ بنَ الْمُنْذِرِ بْن الجارودُ ... أَنْت الجوادُ ابنُ الْجواد المحمودْ سُرَادِقُ المجدِ عَلَيْك مَمْدُودْ حكم نذر الْكِتَابِيّ إِذا أسلم قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس مَا رَأَيْتُ مثل هَذِهِ الْغَلَبَة.

قَالَ: وقَالَ أَبُو حَفْصٍ: حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْر الْهُذلي، قَالَ: سَأَلْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ عَنْ يهوديةٍ مَرِضَتْ فَنَذَرَتْ فِي مَرَضِهَا إِنِ اللَّهُ سَلَّمَهَا لتسرحن فِي كنيسةٍ مِنْ كَنَائِسِ الْيَهُودِ، وَلَتُطْعِمَنَّ مَسَاكِينَ مِنْ مَسَاكِينِهِمْ، فَقَامَتْ مِنْ مَرَضِهَا وَقَدْ أَسْلَمَتْ، قَالَ: فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلْتُ عَنْهَا الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ، فَقَالَ: تُسْرِجُ فِي مَسْجِدِ مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَتُطْعِمُ مَسَاكِينَ مِنْ مَسَاكِينِهِمْ، وَسَأَلْتُ قَتَادَةَ وَهُوَ إِلَى جَانِبِهِ، فَقَالَ لِي: مِثْلَ مَقَالَةِ الْحَسَنِ، فَلَقِيتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ، هَدَمَ الإِسْلامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، فَلَقِيتُ الشَّعْبِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، فَقَالَ لِي: فَأَيْنَ أَنْتَ عَنِ الأَصَمِّ ابْنِ سِيرِينَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ هَدَمَ الإِسْلامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ الأَصَمُّ وَأَخْطَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ: يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، قَالَ: كُنْتُ أَتَغَدَّى مَعَ الْمُتَوَكِّلِ فَسَأَلْتُ عَنْ نَصْرَانِيٍّ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَنَذَرَ نَذْرًا ثمَّ أسلم، هِيَ يَجِبُ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى حَلَفْتَ بِعَدَدِ أُولاءِ، وَجَمَعَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ، عَلَى أَنْ لَا آتِيكَ وَلا آتِيَ دِينَكَ، فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِسْلامَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةِ يَمِينِهِ. قَالَ القَاضِي أَبُو الفر: قَد اخْتلف أهل الْعلم فِي الْكَافِر يُنذرُ نذرا فِي هَذِهِ أَو يخلف يَمِينا ثُمّ يسلم، فأسقط عَنْهُ الكفارةَ والإتيانَ بِمَا نَذَره كثيرٌ من فُقهاءِ الحجازِ وَالْعراق، وَأوجب ذَلِكَ عَلَيْه عددٌ مِنْهُم، واحتجُّوا بِأَن الإِسْلام يَجُبُّ مَا قبله، وَأَن الْكَافِر فِي كفره لَا تصحُّ مِنْهُ قُربة إِلَى ربه قبل إِسْلَامه، وَأَن الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى وجوب أَسبَاب الطَّاعَات تجْرِي مجْرى مَوَاقِيت الْفُروض والنوافل فِي خُصُوصِيَّة الْمُسْلِمِين بهَا، ومفارقة أَهْل الْكفْر لَهُم فِيهَا، واعتل فِي ذَلِكَ بَعضهم بقول اللَّه عَزَّ وَجَلّ: " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف " وَاحْتج مخالفوهم بِأَن الْعِبَادَات الَّتِي أَتَتْ شريعةُ الإِسْلام بهَا لَازِمَة لكل ذِي مرةٍ سَوِيٍّ فِعلها وَالرُّجُوع إِلَيْهَا وَالْأَخْذ بهَا، وَمَا أسقط اللَّه عَنْهُمْ بعد الإِسْلام أداءه وقصاءه سقط دون غَيره مِمَّا لَمْ يَنْصِبْ دلَالَة عَلَى إسْقاطه، إِذْ الْوَاجِب إِقْرَاره عَلَى أَصله، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: نذرت أَن أعتكف لَيْلَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا أسلمتُ سألتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أوفِ بِنَذْرِك "، ورأيتُ شَيخنَا أَبَا جَعْفَر ذكر فِي الْكَافِر يحلفُ فِي حَال كُفرة ثُمّ يَحْنَث فِيهَا بعد إِسْلَامه أَنَّهُ لَا كَفَّارَة عَلَيْه، واعْتَلَّ بِأَن الْكَافِر يحلف بإلاهه الَّذِي يعبُده، وَمن مذْهبه أَنَّهُ من حلف بِغَيْر اللَّه تَعَالَى ثُمّ حنث فَلَا كَفَّارَة عَلَيْه، فَكَأَنَّهُ أسقط الْكَفَّارَة عَمَّن حلف بِغَيْر اللَّه من الْكفَّار، وقَالَ فِي حَدِيث عمر، لما رَوَاهُ. أَنَّهُ يدلُّ عَلَى وجوب النَّذْر فِيمَا وَرَدَ خبرُ عُمَر فِيهِ، وَقَدْ شرحتُ مذْهبه فِي هَذَا وأتيت بِمَا حضرني فِيهِ فِيمَا صنفتُه من كتب الْفِقْه، وكرهتُ الإطالة فِي هَذَا الْموضع

هل يتلازم الجود والشجاعة

بإعادته، وأمّا مَا أفتى فِيهِ الْحَسَن وقَتَادَة من الإسراج فِي مَسْجِد من مَسَاجِد الْمُسْلِمِين مَكَان نذر الناذرة فِي كفرها أَن تُسْرِج فِي كَنِيسَة من كنائس الْيَهُود فَإِن إبِْطَال نَذْرها فِي الْكَنِيسَة صَوَاب إِذْ هُوَ مَعْصِيّة، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِي اللَّهَ فَلا يَعْصِهِ "، وَقَالَ: " وَلا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَالْكَفَّارَةُ فِي هَذَا عندنَا غير وَاجِبَةٍ، وَقَدْ ضعف شَيخنَا سَنَد هَذَا الْخَبَر الْآتِي بهَا وَجُمْهُور فُقَهَاء الْكُوفِيّين يوجبونها ويوجبون مَعهَا كَفَّارَة يَمِين، إِذا كَانَ النَّاذِرُ يمينَا والإسراج فِي مَسْجِد من مَسَاجِد الْمُسْلِمِين غَيْر وَاجِب عندنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة إِذْ لَمْ يَكُنْ نَذْرُه وَلا أَتَتْ حجةٌ بِوُجُوبِهِ وَمن أوجبه فَقَوله: مضَارِعُ لمن أوجب عَلَى النَّاذِر أَن ينحرَ وَلَده ذبح شاةٍ من الْغنم أَوْ نَحْر شيءٍ من الْإِبِل، وَأما مَا أفْتيا بِهِ من إطعامِ مساكينَ من الْمُسْلِمِين مَكَان من منذرت إطعامه من مَسَاكِين الْيَهُود فَإِن إطْعَام مَسَاكِين الْيَهُود يجزىء فِي النّذر إِذا جُعِل لَهُم، وَفِيه قربةٌ إِلَى اللَّه جلّ وَعز، وَقَدْ أجَاز كثيرٌ من فُقَهَاء الْمُسْلِمِين صرف صَدَقَة الْفطر وَكَفَّارَة الأَيْمَان وَالْجهَاد إِلَى أَهْل الذِّمَّة، وَمن أجَاز إطْعَام مَسَاكِين الْمُسْلِمِين مَا نَذَرَ إطعامه مَسَاكِين أَهْل الذِّمَّة، فَشاهِدُه من الْقيَاس جوازُ صَلَاة الْقَادِر أَن يُصَلِّي فِي مَسْجِد سَمَّاهُ وعينه إِذا صلّى فِي مسجدٍ غَيره هُوَ مثله أَوْ أفضلُ مِنْهُ، فَأَما إبِْطَال نَذرِ إطْعَام مَسَاكِين أَهْل الذِّمة وَإِيجَاب نَقله إِلَى مَسَاكِين أَهْل الْمُسْلِمِين فَلَا وَجه لَهُ فِي الصِّحَّة، وأمّا فُتْيا الشَّعْبِيّ وَابْن سِيرِينَ فَهِيَ جاريةٌ عَلَى أصل مَذْهَب من قدمنَا حِكَايَة مذْهبه، مِمَّنْ يبطل أصل نذر الْكَافِر فِي أصل كفره، وَأما الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَر بْن عَبْد الْوَاحِد للمتوكل فَلَا حجَّة لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَن جد بهزر بْن حَكِيم الْقُشَيْريّ وَهُوَ مُعَاوِيَة بن حيدة للنَّبِي صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُ حلف، وقَالَ لَهُ: حلفتُ وَلَم يذكر الَّذِي حلف بِهِ، وَجَائِز أَن يَكُون حلف بِغَيْر اللَّه تَعَالَى فَلَا كَفَّارة عَلَيْه عندنَا بعد حِنْثه، وَأَيْضًا فَإنَّهُ قَالَ: حلفْتُ، وَمن قَالَ حلفتُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، أَوْ لَا أفعل كَذَا فَلَيْس عَلَيْه عندنَا مَا عَلَى الْقَائِل: أَحْلف بِاللَّه من الْكَفَّارَة إِذا حنث، حَتَّى يَقُولُ: أَحْلف بِاللَّه وَأقسم بِاللَّه أَوْ أولِي بِاللَّه أَوْ أَشْهَدُ بِاللَّه، وَإِن كَانَ من أَهْل الْعلم من يَجْعَل قَول الْقَائِل: أشهد وأحلفُ وأولي وَأقسم يَمِينا، ويسوِّي بَيْنَ هَذَا وبَيْنَ مَا وَصله باسم اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّه وأحلف بِاللَّه وأُولي بِاللَّه وَأقسم بِاللَّه. هَلْ يتلازم الْجُود والشجاعة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ حَدَّثَنَا الْبَرْبَرِي، قَالَ: من كَلَام أَحْمَد بْن أَبِي خَالِد: لَا يُعَدَّنَّ شجاعًا من لَمْ يَكُنْ جَوادًا، فَإِن من لَمْ يقدرْ عَلَى نَفسه بالبذل لَمْ يقدر عَلَى عدوِّه بِالْقَتْلِ. قَالَ القَاضِي: ذكر عَنْ بعض أَهْل الْعلم أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النّاس يَقُولُونَ إِن الشجاع لَا يَكُون بَخِيلًا، وَإِن الشجَاعَة وَالْبخل لَا يَجْتَمِعَانِ، وَذَلِكَ أَن من جاد بِنَفسِهِ كَانَ بِمَالِه أَجود، حَتَّى

خليفة يأمر ابنه بكتابة بيتين

نَشأ عَبْد اللَّه بْن الزُّبَير فَكَانَ من الشجَاعَة بِحَيْثُ لَا يدانيه كبيرُ أحد، وَكَانَ من الْبُخْل عَلَى مثل هَذَا الْحَد، وَنَحْو قَول من استنكر اجْتِمَاع الشجَاعَة وَالْبخل، قَول الشَّاعِر: يَجَودُ بالنَّفْس إذْ ضَنَّ الجوادُ بهَا ... والجودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غَايَة الْجُودِ خَليفَة يَأْمر ابْنه بِكِتَابَة بَيْتَيْنِ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَر بْن عَبْد اللَّه الإِخباري، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُهْتَدِي يَقُولُ: كُنْت أَمْشِي خلف أَبيّ الواثق عَلَى ميدان من الْبُسْتَان فِي الهارُونِي فَالْتَفت إليّ، فَقَالَ: اكْتُبْ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ واحفظهما: تَنَح عَنِ الْقَبِيح وَلا تُرِدْهُ ... وَمن أوليتَهُ حَسَنًا فَزِدْهُ ستلقى من عدوِّك كُلّ كيدٍ ... إِذا كادَ العدوُّ وَلَم تَكدْهُ لَا يفرح إِلا بِمَا تَحت يَده حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الْجراح، قَالَ: الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد الْهَاشِمِي مَوْلَى لَهُم، قَالَ: عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي البَخْتَرِيّ الدَّلال الْكُوفِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْن آدم يَقُولُ لأبي بَكْر بْن عَيَّاش: يَا أَبَا بَكْر! مَا أصبحتَ تفرحُ بشيءٍ من الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: مَا أفرح إِلا بدرهمٍ فِي كميٍّ مَصْرُور، وقدرٍ قَدْ جعلتْها الجاريةُ فِي التَّنُّور. رب نصح خير من مَال حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِم الْحِمصِي، عَنْ عَبْد الغافر بْن سَلامَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُمَيد، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حبوة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُتْبَة، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سبأ عُتْبَة بْن تَمِيم التّنُوخيّ، عَنْ أَبِي عُمَير الصُّورِي، قَالَ: كلمةٌ لَك فِي أَخِيك خيرٌ لَك من مالٍ يُعْطيك، لِأَن كَلمته تُحيِيك، وَالْمَال يُطغيك. من نَوَادِر المعلمين حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي شَيْبَة، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو يَعْلَى الْمَعْرُوف بالبربري، قَالَ: جَاءَنِي رجلٌ، فَقَالَ أشغلني فِي موضعٍ أؤدب فِيهِ، قُلْتُ: مَا تحسن حَتَّى أطلب لَك عَلَى قدر ذَلِكَ؟ قَالَ: أحْفَظُ الْقُرْآن ولَيْسَ عِنْدِي من الْعَرَبيَّة شيءٌ، فشغَّلْتُه عِنْد رَجُل فأنشده: من يَذُقِ الحرْبَ يجدْ طَعْمَها ... مُرًّا وتَتركْهُ بِجَعْجَاعِ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ الْآيَة فِي أَيّ سُورةٍ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ فِي: " حم عسق ". المجلِسُ الخامِس وَالخمسُونْ من جَوَامِع الْكَلم حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاقِدُ، بِسُرَّ مَنْ رأى، سنة ثَلَاث وَعشْرين وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلاءِ الزُّبَيْدِيُّ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا مُطْعَمُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ نُصَيْحٍ الْقَيْسِيِّ،

رواية أخرى للحديث

عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ ". رِوَايَة أُخْرَى للْحَدِيث حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْدَوَيْهِ الدَّهَّانُ الْمَرْوَزِيُّ، بِالنَّهْرَوَانِ، قَدِمَ لِلْحَجِّ سنة تسع عشرَة وثلثمائة، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَلْمَانَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثُمَيْلَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَهْقَهَةً عِنْدَ الْقُبُورِ، فَقَالَ: مَا يُؤْمِنُ هَذَا بِيَوْمِ الْحِسَابِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! كَأَنَّ الْمَوْتَ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ نُشَيِّعُ مِنَ الْمَوْتَى يَعْنِي فِي نفرٍ وَهُمْ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ، وَكَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وخالط أهل الْفِقْه وَالْحكمَة، طُوبَى لِمَنْ ذَلَّ فِي نَفْسِهِ، وَطَابَ كَسبه، وصلحت سبريرته، وَحَسُنَتْ عَلانِيَتُهُ، وَاعْتَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرُّهُ، طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ، وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَتَعَدَّهَا إِلَى بِدْعَةٍ. قَالَ: القَاضِي: لقَدْ أبلغ رسولُ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الموعظة، وضمَّنها أصولا من الْحِكْمَة، وأرشد فِيهَا إِلَى مَا يكْسب النجَاة والْعِصمة، ويأمنَ العاملُ بِهِ المتقبِّلُ لَهُ العطبَ والهَلَكة. وَقَدْ رُوي أَن عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود سَمِع رَجُلا ضحك فِي الْمقْبرَة، فَقَالَ لَهُ: لَا أكلِّمك أبدا. وحُكِيَ لنا عَن بشر بْن الْحَارِث مثلُه، ولَعَمْري إِن الْمقْبرَة لمحلَّةٌ يدعُو حضورُها ذَا اللُّبِّ وسلامة الصَّدْر وَالْقلب، إِلَى الرَّهبة وَالدُّعَاء، والتذكر والبكاء، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذن ربَّه فِي زِيَارَة قبر أُمّه، فَأذن لَهُ وَأَنه زارها فِي ألف مُقَنَّع، فَلم يُرَ باكٍ وَلا باكية أَكثر من يَوْمئِذٍ. مجاهدٌ تلفظه الأَرْض حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، قَالَ: حَدَّثَنَا العكلي، قَالَ: أَخْبَرَنِي رجلٌ من أهل الْبَصْرَة، قَالَ: رَأَيْت رَجُلا لَهُ هَيْئَة وسمتٌ وَعَلِيهِ الصُّوف، فَسَأَلته عَنِ اسْمه، فَقَالَ: اسْمِي عليُّ بْن مُحَمَّد فَجَلَست إِلَيْهِ فَحَدَّثته فخبرني أَنَّهُ مضى إِلَى المصِّيصة غازيًا، فَرَأى فِي مَسْجِدهَا شَيخا جميلا هَيِّبًا، وَحَوله قومٌ يسمعُونَ من حَدِيثه، قَالَ: فجلستُ إِلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْ حالتي، فَقلت: رجلٌ من أَهْل الْعرَاق قدِمتُ أريدُ وجْهَ اللَّه تَعَالَى والدَّار الْآخِرَة، فَقَالَ: رَزَقَك اللَّهُ حَيَاة طيِّبة ومنقلبًا كَرِيمًا، ثُمّ قَالَ لي: إِن لي إِلَيْك حَاجَة لَا تردَّني عَنْهَا، قُلْتُ: نعم، قَالَ: تتحول إليّ وتنزل عَليّ فَمَا كَانَ إِلا سَاعَة، ثُمّ نزلتُ برجلٍ قَدْ وَهْب اللَّه لَهُ قُوَّة

ابن صفوان ينصح السفاح بالاستمتاع بالنساء

عَلَى الصيِّام وَالْقِيَام وَطلب الْخَيْر، فأقمتُ عِنْده حَتَّى تهَيَّأ لصَاحب الثغر الغَزْوُ، وخَفّ مَعَه عشرَة آلَاف من الْمُطَوِّعَة، فَقدم ابْنه وَكَانَ حَدَثًا، وَكَانَ ربُّ منزلي فِيمَن خرج فخرجتُ بِخُرُوجِهِ، فَلَمَّا أوغلنا فِي بِلَاد الْعَدو دَلَف إِلَيْنَا جمعٌ عظيمٌ فوقفنا لَهُم وَأَقْبل الْفَتى يحرِّض الناسَ ثُمّ برز الشَّيْخ فَتكلم، وقَالَ: هَذِهِ أَبْوَاب الجَنَّة فافتحوها بسيوفكم، فَحمل الْفَتى فأصيب، وَحمل الشيخُ ربُّ منزلي فأصيب رحمهمَا اللَّه، ثُمّ إِن اللَّه تَعَالَى منحنا أكتاف العَدُوِّ فَقَتَلْنَا وأسرنا ورجعنا إِلَى مواضعنا، فخفرنا لمن أكْرمهم اللَّه بِالشَّهَادَةِ فدفناهم، ودفنا الشَّيْخ، وسوينا عَلَيْه لحده، فارْتَجَّت الأرضُ ورجَفَتْ بِنَا، ثُمّ لَفَظَت الشَّيْخ فَوَقع عَلَى عشرَة أَذْرع من قَبره، فَقُلْنَا: رَجْفَة أَوْ زَلْزَلة، فَحَفَرْنَا لَهُ قبرًا آخر وسَوَيَّنا عَلَيْه، فسمعنا مَا هُوَ أهول وأفظع، ولَفَظَتْ بِهِ الأَرْض أبعد من ذَلِكَ الْموضع، فَحَفَرْنَا لَهُ قبرًا ثَالِثا ودفناه، فجاءتُ هدةٌ طاشت مِنْهَا عقولنا ولفظته الأَرْض، وَسَمعنَا هاتفًا يَقُولُ: أيتها الْعِصَابَة! إِن هَذَا الرَّجُل لَمْ يزل يَدْعُو اللَّه أَن يَجْعَل مَحْشَرَهُ مِن بُطون السِّباع وحواصل الطير، فدعُوه إِن اللَّه جلّ جَلَاله قَدْ سَمِع نداه، فتركناه وانصرفنا. ابْن صَفْوَان ينصح السفاح بالاستمتاع بِالنسَاء حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم بْن جَعْفَر الكوكبي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ، قَالَ: قَالَ: إِسْحَاق يَعْنِي ابْن إِبْرَاهِيم الْمَوْصِلِيّ، قَالَ شبيبُ بْن شَيْبَة: دخل خَالِد بْن صَفْوَان التَّميْميّ عَلَى أَبِي الْعَبَّاس وَلَيْسَ عِنْده أحد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين! إِنِّي واللَّه مَا زلتُ منذُ قلَّدك اللَّه تَعَالَى خلَافَة الْمُسْلِمِين إِلا وَأَنا أحبّ أَن أصير إِلَى مثل هَذَا الْموقف فِي الْخلْوَة، فَإِن رَأَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْمر بإمساك الْبَاب حَتَّى أفرغ فعل، قَالَ: فَأمر الحاجبَ بِذَلِك، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! إِنِّي فَكرت فِي أَمرك، وأَجَلْتُ الْفِكر فِيك فَلم أر أحدا لَهُ مثل قَدْرِك، وَلا أقل استمتاعًا فِي الِاسْتِمْتَاع بِالنسَاء مِنْك، وَلا أضيق فِيهِنَّ عَيْشًا، إِنَّك ملكتَ نَفسك امْرَأَة من نسَاء الْعَالمين واقتصرت عَلَيْهَا، فَإِن مَرضَتْ مَرِضْتَ، وَإِن غابتْ غبت، وَإِن عَرَكَتْ عَرَكْتَ، وحَرَمْتَ نَفسك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين التلذُّذ باستطراف الجَوَارِي وبمعرفة اخْتِلاف أحوالهن، والتلذُّذ بِمَا يُشتهى مِنْهُنَّ؟ إِن مِنْهُنَّ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الطَّوِيلَة الَّتِي تشْتَهى لجسمها، والبيضاء الَّتِي تحب لروعتها، والسَّمْراء اللَّعْسَاء، والصَّفراءُ العجزاءُ، ومولدات الْمَدِينَة والطائف واليمامة ذَوَات الألسن العذبة وَالْجَوَاب الْحَاضِر، وَبَنَات سَائِر الْمُلُوك، وَمَا يشتهى من نظافتهن وَحسن هندامهن، وتخلل بِلِسَانِهِ فأطنب فِي صِفَات ضُروب الجَوَارِي وشَوَّقَهُ إلَيْهِنَّ، فَلَمَّا فرغ خَالِد، قَالَ: وَيحك! مَا سلك مسامعي واللَّه كلامٌ قطّ أحسنَ من هَذَا، فأعدْ عليَّ كلامك فقد وَقع مني موقعًا، فَأَعَادَ عَلَيْه خَالِد كَلَامه بِأَحْسَن مِمَّا ابتدأه، ثُمّ قَالَ: انْصَرف، وَبَقِي أَبُو الْعَبَّاس مُفكِّرًا فِيمَا سَمِع من خَالِد يُقَسّم أمره، فَبينا هُوَ يفكِّر إِذْ دخلت عَلَيْه أم سَلَمَة، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاس

حَلَفَ أَن لَا يتَّخذ عَلَيْهَا ووَفَّى لَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُ مفكرًا مُتغيِّرًا، قَالَتْ لَهُ: إِنِّي لأنكرك يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَهَل حدَّث أَمر تكرههُ أَوْ أَتَاك خبرٌ ارْتَعْتَ لَهُ؟ فَقَالَ: لَا، وَالْحَمْد للَّه، ثُمّ لَمْ تزل تستخبره حَتَّى أخْبرهَا بمقالة خَالِد، قَالَتْ: فَمَا قُلْتُ لابْن الفاعلة؟ فَقَالَ: ينصحني وتشتمينه! فَخرجت إليّ مواليها من البخارية فَأَمَرتهمْ بِضَرْب خَالِد، قَالَ خَالِد: فخرجتُ إِلَى الدَّار مَسْرُورا بِمَا ألقيتُ إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِين، وَلَم أَشك فِي الصِّلَة، فَبينا أَنا مَعَ الصَّحَابَة وَاقِفًا إِذْ أَقبلت البخارية تسْأَل عني، فحققتُ الْجَائِزَة والصلة، فَقلت لَهُم: هأنذا، فاسْتَبَقَ إِلَى أحدُهم بخشبةٍ فَلَمَّا أَهْوى إليّ غمزتُ بِرْذَوني ولحقني فَضرب كفله، وتنادى إليّ الْبَاقُونَ وغمزتُ البرذون فأسرع، ثُمّ راكضتهم فَفُتُّهم، واختفيتُ فِي منزلي أَيَّامًا - قَالَ القَاضِي: الصَّوَاب: اسْتخفيتُ - وَوَقع فِي قلبِي أَنِّي أُتِيت من قِبَل أم سَلَمَة، فطلبني أَبُو الْعَبَّاس فَلم يجدني، فَلم أشعر إِلا بِقوم قَدْ هجموا عَليّ، فَقَالُوا: اجب أَمِير الْمُؤْمِنِين، فَسبق إِلَى قلبِي أَنَّهُ الْمَوْت، فَقلت: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، لَمْ أَرَ دَمَ شيخٍ أضْيع، فركبتُ إِلَى دَار أَمِير الْمُؤْمِنِين، ثُمّ لَمْ ألبث أَن أَذن لي فَأَصَبْته خَالِيا فَرجع إليّ عَقْلِي، ونظرتُ فِي الْمجْلس ببيتٍ عَلَيْه ستورٌ رِقاق، فَقَالَ: يَا خَالِد لم أرك! قُلْتُ: كنتُ عليلا، قَالَ: وَيحك! إِنَّك وَصَفْتِ لأمير الْمُؤْمِنِين فِي آخر دخلةٍ دَخَلتهَا عليَّ من أُمُور النّساء والجواري صفة لَمْ يخرق مسامعي قطّ كَلَام أحسن مِنْهُ، فأعِدْهُ عَليّ، قَالَ: وسَمِعْتُ حِسًّا خلف السِّتْر - فَقَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، أعلمتك أَن الْعَرَب إِنَّمَا اشْتَقَّت اسْم الضُّرَّتين من الضُّر، وَأَن أحدا لَمْ يَكُنْ عِنْده من النّساء أَكثر من وَاحِدَة إِلا كَانَ فِي ضُرٍّ وتنغيص، قَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْحَدِيث، قَالَ: بلَى واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، قَالَ: فأُنْسيت إِذا، فأَتمم الْحَدِيث، قَالَ: وأخبرتُك أَن الثَّلَاث من النِّسَاء كأثا فِي الْقِدْرِ يُغْلى عَلَيْهِنَّ، قَالَ: برئتُ من قَرَابَتي من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ كُنْت سَمِعْتُ هَذَا مِنْك وَلا مرَّ فِي حَدِيثك، قَالَ: وأخبرتك أَن الْأَرْبَع من النّساء شَرٌّ مَجْمُوع لصاحبهن يُشَيِّبْنَهُ ويهْرِمْنه ويحقرنه ويقسمنه، قَالَ: لَا وَالله مَا سَمِعْتُ هَذَا مِنْك وَلا من غَيْرك، قُلْتُ: بلَى وَالله، قَالَ: أفتكذِّبُني؟ قُلْتُ: أفَتَقْتُلُني! نعم واللَّه يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين وأخبرتك أَن أبكار الْإِمَاء رجال إِلا أَنَّهُنَّ لَيست لَهُنَّ خُصًى، قَالَ خَالِد: فَسمِعت ضحِكًا من خلف السِّتر، ثمَّ قلت: نعم، وأخبرتك أَن عنْدك رَيْحَانَة قُرَيْش، وَأَنَّك تطمح بِعَيْنَيْك إِلَى النّساء والجواري، قَالَ: فَقِيل لي من وَرَاء السّتْر: صَدَقْتَ واللَّه يَا عمّاه، بِهَذَا حدثته وَلكنه غَيْر حَدِيثك ونطق عَنْ لسَانك، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَالك قَاتلك اللَّه، وَفعل بك وَفعل؟ قَالَ: وانسللت، قَالَ: فَبعثت إِلَى أم سَلَمَة بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وبرذون وتَختْ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: السَّمراء اللَّعْساء الَّتِي فِي شفتها سُمرة وَسَوَاد، وَمن ذَلِكَ قَول ذِي الرُّمَّة:

أأزرع أنا ويحصد يوشع

لمياءُ فِي شَفَتَيْها حوةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللَّثَاتِ وَفِي أنْيابِها شَنَبُ اللَّما مَقْصُور: سَمُرَة الشّفة، والحوة: الْحمرَة إِلَى السوَاد شَبيه بِهِ، واللعس مثل ذَلِكَ، والشنب برد وعذوبة فِي الأسفان، ويُقَالُ: امْرَأَة لمياء وَرجل ألمى، وذُكِر عَنِ الأَصْمَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: اللَّعس السَّواد الْخَالِص، ويُقَالُ: ليل ألعس، وَلا أَدْرِي يُقَالُ: لعسٌ أم لَا؟ ويُقَالُ: حَوِي يَحْوَى وَقِيَاسه فِي اللَّمالَمِيَ يَلْمي، وَقَوله: ينصحني وتشتمينه الْكَلَام الفصيح السائر: وَينْصَح لي، قَالَ اللَّه تَعَالَى: " إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أنصح لكم " ويُقَالُ: فنصحت لَكُمْ، ونصحتُ فلَانا: لُغة قَدْ حُكِيَت، وَهِي دون هَذِهِ فِي الفصاحة من ذَلِكَ قَول الشَّاعِر: نصحتُ بني عَوْف فَلم يتقبلوا ... لديهم رسَائِلي وأصل النصح: الْإِخْلَاص والمناصحة المخالصة ويُقَالُ: هَذَا شيءٌ نَاصح أَيّ خَالص، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: تركْتَ بِنَا لَوْحًا وَلَو شئتَ جادنا ... بعيدُ الْكرَى ثلجٌ بكِرْمان نَاصِحُ أأزرع أَنا ويحصد يُوشَع حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي سَعْد، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَصْبَغ، قَالَ: حَدَّثَنَا ضَمْرَة، عَنِ ابْن عَطَاء، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أوحى اللَّه إِلَى مُوسَى بْن عمرَان أَن يُوشَع هُوَ الْقَائِم على النَّاس بعْدك، فَقَالَ: يارب أأزرعُ أَنَا ويحصد يُوشَع أأرعى أَنَا الْغنم حَتَّى إِذا صلحت واستوت صَارَت إِلَى يُوشَع، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى: إِن أَيَّام يُوشَع مخرجتك من الدُّنْيَا، فَقَالَ: يارب فَأَنا أكون من قبل يُوشَع، فَقِيل لَهُ: فَاصْنَعْ بِهِ كَمَا كَانَ يصنعُ بك، فَقَالَ: نعم، وَكَانَ من رسْمِ يُوشَع إِن يُنَبِّه مُوسَى للصَّلاةِ، فجَاء مُوسَى إِلَى بَاب يُوشع، فَقَالَ: يَا يُوشَع! فَضرب اللَّه عَلَى أُذُنه فَلم يَنْتبِه، وَجَعَل بَنو إِسْرَائِيل يمرُّون على مُوسَى، فَقَالَ: يارب مائةُ موتةٍ أَهْون من ذُلِّ سَاعَة، وانتبه يُوشع فَلَمَّا رَأَى مُوسَى فَزِع، وقَالَ: يَا نَبِيّ الله أَنْت واقفٌ هَاهُنَا، وَمضى مُوسَى إِلَى الجَبَل واتَّبعه يُوشَع فَجعل مُوسَى يُوصيه: اصْنع ببني إِسْرَائِيل كَذَا وَافْعل كَذَا، ثُمّ قَالَ لَهُ: ارْجع فَأبى فَخلع مُوسَى نَعْلَيْه وَرمى بهما، وقَالَ: جئني بنعلي، فَذهب ليجيء بهما فَأرْسل اللَّه نورا حَال بَيْنَ يُوشَع ومُوسَى فَلم يصل إِلَيْهِ فَرجع يُوشَع إِلَى بني إِسْرَائِيل فَأخْبرهُم فَجَاءُوا إِلَى الْموضع من الجَبَل فَإِذا مُوسَى قَدْ قُبض، ورصفت الْحِجَارَة عَلَيْه. قَدْ قاربتك جهدي حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر بْن درسْتوَيْه النَّحْويّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد، عَنِ الْمَازِنِيّ، قَالَ: اجْتمعت مَعَ يَعْقُوب بْن السّكيت، عَن مُحَمَّد بْن عبد الْملك الزَّيَّات، فَقَالَ لي مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك: سَلْ أَبَا يُوسُف عَنْ مَسْأَلَة، فكرهتُ ذَلِكَ وجعلتُ أتبطأ وأدافع، مخافةَ أَن أُوحشه لِأَنَّهُ كَانَ لي صديقا، فألحَّ عليَّ مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك، فَقَالَ لي: لَمْ

لَا تسأله؟ فاجتهدتُ فِي اخْتِيَار مسألةٍ سهلة لأقارب يَعْقُوب، فَقلت لَهُ: مَا وزن " نكتل " من الْفِعْل من قَول اللَّه تَعَالَى: " فَأرْسل مَعنا أخانا نكتل " فَقَالَ لي: نَفْعل، فَقلت: يَنْبَغِي أَن يَكُون ماضيه كتل، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا وَزنه إِنَّمَا هُوَ نفتعل، فَقلت لَهُ: نفتعل كم هُوَ حرفٌ؟ قَالَ: خَمْسَة أحرف، فَقلت لَهُ: فنكتل كم حرفٌ هُوَ؟ قَالَ: أَرْبَعَة أحرف، فَقلت: لَهُ أَيكُون أَرْبَعَة أحرف بِوَزْن خَمْسَة أحرف، فَانْقَطع وخجل وَسكت، فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَبْد الْملك: فَإِنَّمَا تَأْخُذ كُلّ شهر ألفي دِرْهَم عَلَى أنَّكَ لَا تحسن مَا وزن نكتل؟ فَلَمَّا خَرَجْنَا، قَالَ لي يَعْقُوب: يَا أَبَا عُثْمَان! هَلْ تَدْرِي مَا صنعت؟ فَقلت لَهُ: واللَّه لقَدْ قاربتُك جهدي، وَمَا لي فِي هَذَا ذنبٌ قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: نكتل فِي هَذَا الْموضع هُوَ فِي أوَّليته وابتدائيته فِي ماضيه ومستقبله: كال يَكِيل عَلَى فَعَلَ يَفعِل، مثل مَال يمِيل وَقِيَاسه فِي أصل تَقْدِيره كيل يَكْيِلُ، نَظِيره من الصَّحِيح ضَرَب يَضْرِبُ، إِلا أَن الْيَاء فِي كيل انقلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَالْألف لَا تكون إِلا سَاكِنة إِلا أَنَّهَا فِي نِيَّة حَرَكَة ونقلت كسرة الْيَاء فِي الْمُضَارع ونقلتْ كسرتُها إِلَى الْكَاف وَكَانَت سَاكِنة، فَكسرت إِذْ لَمْ يستقم التقاءُ الساكنين فَصَارَ نكتل، وَقيل فِي الْجمع: كِلْنا نكتل، ثُمّ لما زيدت التَّاء دلَالَة عَلَى الافتعال قِيلَ: اكتال نكتال وَأَصله اكتيل يكتيل، نَحْو افتعل يفتعل نَظِيره من الصَّحِيح: اكتتب يكتتب واكترث يكترث واستبق يستبقُ ثُمّ قلبت الْيَاء من اكتيل ألفا لتحركها وانفتاح مَا قيلها، فَصَارَ اكتال ومضارعه يكتال، وَأَصله يكتيل، وَفِي الْجمع نكتيل وَزنه نفتعل، فَلَمَّا قِيلَ نكتل فأعرب بِالْجَزْمِ إِذْ هُوَ جوابُ الْأَمر اقْتضى الْجَزْم سُكُون اللَّام، فَالتقى ساكنان اللَّام وَالْألف المنقلبة من الْيَاء فَأسْقطت الْألف لذَلِك فَبَقيَ نكتل، ووزنه فِي الأَصْل نفتعل ثُمّ لما حُذفت الْألف المنقلبة من الْيَاء وَهِي عين الْفِعْل صَار نكتل فوزنه نفتل، عَلَى طَريقَة التَّحْرِير وتمييز الزَّوَائِد من الْأُصُول بالعبارة عَنِ الأصليات بِالْفَاءِ وَالْعين وَاللَّام وَتَسْمِيَة الزَّوَائِد بأنفسها، أَلا ترى أَنَا نقُول فِي وزن جهور أَنَّهُ فعول فيعبر عَنِ الْجِيم وَالْهَاء وَالرَّاء الأصليّات بِالْفَاءِ وَالْعين وَاللَّام، وَتَأْتِي باسمها الْوَاو فَهِيَ الزِّيَادَة إِذْ لَيست من الْفِعْل فَاء وَلا عينا وَلا لامًا، وَيَعْقُوب لما رَأَى نكتل مُوَافقا لوزن نَفْعل تسرع إِلَى مَا أجَاب بِهِ مَعَ ذُعْر المحنة وإزعاج البديهة وهيبة الحاثِّ لسائله عَلَى شراسة خلقه وإشفاقه من تَشَعُّثِ مَنْزِلَته عِنْده، وَقطع مَادَّة الْمَعيشَة من جِهَته. وَوزن أَلْفَاظ الْكَلم تَأتي عَلَى جِهَات مُخْتَلفَة بِحَسب أغراض الوازنين، وعَلى قدر تَرْتِيب الصِّنَاعَة من المقابلين، والنحويون يزنون الْحُرُوف عَلَى أخْصَر من وزن العروضيِّن، لأَنهم يقابلون فِي الزِّنَة الْحَرَكَة بجِنْسها من التحريك الَّذِي هُوَ خلاف السّكُون ونوعها إِن ضَمًّا وَإِن فَتْحًا وَإِن كَسْرًا، عَلَى اخْتِصَاص كُلّ وَاحِد من هَذِه الأنحاء دون صَاحبه، والعناية بِذَات الْحَرْف دون الإِعراب والتنوين وَمَا يُزَاد ويحذف خَطًّا ولفظًا، والعروضيُّون

بنو الأحرار تهجي وتمدح

يراعون ذَلِكَ كُلَّه ويَسُوقُونه ويبنون وزنَهُم عَلَى اللَّفْظ، ويُجْرون وزنهم عَلَى مُقَابلَة الْحَرَكَة جِنْسا لَا نوعا، فيسوون فِيهَا بَيْنَ الضَّمِّ وَالْفَتْح وَالْكَسْر، وَلما تَسَاوِي نكتال واكتال فِي عدد الْحُرُوف وسبيل حرف المضارعة أَن تجْرِي بِهِ الزِّيَادَة عَلَى حُرُوف الْمَاضِي، فَلِأَن همزَة اكتال زَائِدَة للوصل تذْهب إِذا تحركت فَاء الْفِعْل وَلَيْسَت بلازمة للكلمة، وَقَد اخْتلف فِيمَا زَاد من الْأَسْمَاء من الثلاثي الَّذِي هُوَ فاءٌ وعينٌ وَلَام فَأتى رباعيًّا أَوْ خماسيًّا من غَيْر أَن يَكُون فِيهِ شيءٌ من حُرُوف الزِّيَادَة كَقَوْلِك جَعْفَر وفرزدق، فَحكم بعضُهم عَلَى هَذَا بِأَن الْحَرْف والحرفين مِنْهُ مِمَّا أَتَى بعد الْفَاء وَالْعين وَاللَّام مَجْهُول، وَقضى بِأَن الطّرف أوْلَى مِنْهُ بِبَاب الزِّيَادَة، وَذهب آخَرُونَ إِلَى مثل هَذَا فِي الْعين، وميزوا بَيْنَ تجانس الحرفين فِي آخِره، وَذَلِكَ كفَعْلَل الَّذِي هُوَ وزن قَرْدَد، وبَيْنَ مَا اخْتلفَا فِيهِ نَحْو جَعْفَر، وَهَذَا بَاب لَا يحْتَمل كتَابنَا هَذَا الاتساع فِيهِ، وَلَهُ مَوضِع هُوَ أوْلى بِهِ. وَمِمَّا اتّفق فِي هَذِهِ الْقِصَّة مَعَ مَا ذكرنَا من الْأَحْوَال الْعَارِضَة أَن يَعْقُوب كَانَ فِي صناعَة النَّحْو ذَا بضَاعَة مزجاةٍ نَزِرة، وَقَدْ صنف مَعَ هَذَا فِي النَّحْو كتابا مُخْتَصرا لم يعد فِيهِ القَدْرَ الَّذِي تناله يدُه، وَإِن كَانَ إِمَامًا علما فِي اللُّغَة، وقدوة سَابِقًا مُبرزًا فِي اخْتِلاف أَهلهَا من البصريِّين والكوفيّين، وَلَهُ فِيهَا كتبٌ مؤلفة حَسَنَة، وأنواع مصنفة مفيدة، وأَبُو عُثْمَان الْمَازِنِيّ وَإِن كَانَ قَدْ قصد الْجَمِيل من مقاربته وتسهيل مناظرته فَإِنَّمَا أَتَى بِمَا هُوَ متيسر لَهُ دونه، وَقَدْ كَانَ الأَوْلى بِمَا قَصده تنكُّب مَا فِيهِ اعتلالٌ وقلب، والْعُدول بِهِ عَنِ التصريف الكادِّ للقلب الشاق عَلَى اللُّب، وَقَدْ رد الْمَازِنِيّ عَلَى سِيبوَيْه مسَائِل فِي بَعْضهَا حججٌ وَفِي بَعْضهَا شبهٌ، وَسَأَلَ الأخْفَش عَنْ مسَائِل نسبه إِلَى التَّقْصِير والانقطاع فِي بَعْضهَا، وَحكي أَن الْأَخْفَش رَجَعَ عِنْد أول تَوْقِيف مِنْهُ عَلَيْهَا فِي الْبَعْض مِنْهَا، وَقَدْ ذكرنَا من هَذَا طرفا فِي مَوْضِعه. بَنو الْأَحْرَار تهجي وتمدح حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الضَّبِّيّ، قَالَ: سَمِعَ أَعْرَابِي رجلا يَقُول: " الْأَعْرَاب كفرا ونفاقاً " ثُمّ سَمعه يَقُولُ: " وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " الْآيَة، فَقَالَ: هجا ومدح، لَا بَأْس، ثُمّ أنْشد: هجوتُ بُحَيْرًا ثُمّ إِنِّي مدحتُهُ ... كَذَاك بَنو الأحْرار تَهْجُو وتمدحُ كَيفَ يفعل مَعَ هَذَا الْأنف؟ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود، قَالَ: رَأَيْت قَاضِي الْقُضَاة يَحْيَى بْن أَكْثَم بِمَكَّة وَقَدْ وقف يُلَاحظ حجّامًا عَلَيْه أنف كأَنَّه أزجٌ، فَقلت لَهُ: أَيهَا القَاضِي! مَا هَذَا الْوُقُوف، فَقَالَ لي: ذَرْني فَإِنِّي أُرِيد أنظر إِلَى هَذَا كَيفَ يَسْتَوِي لَهُ مَصُّ المحجمة مَعَ هَذَا الْأنف؟ وَقَدْ كَانَ رجلٌ جالسٌ بَيْنَ يَدي الْحجام فَفطن بِهِ الْحجام، فَقَالَ لَهُ: مَالك قَائِم تنظر إليّ؟ لَيْسَ ونورِ اللَّهِ أضْرب فِي قفا هَذَا بمعولي وَأَنت وَاقِف،

شعر مكتوب على حائط

فتوارينا عَنْهُ فَإِذا هُوَ يعْطف أَنفه بِيَدِهِ الْيُسْرَى ويمسك المحجمة بِيَدِهِ الْيُمْنَى ويَمُصُّ بِفِيهِ، فَقَالَ يَحْيَى: أما هَكَذَا فَنعم، قَالَ عَبْد اللَّه: وَكَانَ يَحْيَى بْن أَكْثَم أَعور. شعر مَكْتُوب عَلَى حَائِط حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي أَبُو بَكْر، حَدَّثَنَا أَبُو عَليّ العَنَزِي الْحَسَن بْن عليل، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن الْحُسَيْن الدِّرْهمي، قَالَ: كُنَّا عِنْد مُحَمَّد بْن عُبَيْد الطَّنافسيّ، فَقَالَ: قَرَأت عَلَى حائطٍ بالْحِيرة مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة: إِن البلية أَن تحبَّ ... وَلا يحبُّك من تُحبُّهْ فَيَصُدَّ عَنْك بِوَجْهِهِ ... وتلح أَنْت فَلَا تغبه أقلل زيارتك الصدي ... ق يراك كَالثَّوْبِ اسْتَجدَّه إِن الصِّدِّيق يُمله ... أَلا يزَال يراك عندَه قَالَ أَبُو بَكْر: هَذَا مِمَّا لَا يُعاب فِيهِ الشَّاعِر. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: فِي هَذَا الشّعْر موضعان فيهمَا قَوْله " يراك "، وَذَاكَ أَن وَجه الْكَلَام يَرَكْ بِالْجَزْمِ، لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَهُوَ قَوْله: أَقْلِل، وَلَو أنْشد يَرَاك عَلَى من يَقُولُ هُوَ يراني كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أُرِي عَيْنَيَّ مَا لَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلانَا عالمٌ بالتُّرَّهات لَكَانَ جيدا وزحَافه جَائِزا، وَمَا " يزَال " فَإنَّهُ لَمْ يَحْذِف فِيهِ الْألف، عَلَى ردِّه إِلَى الأَصْل فِي التَّقْدِير، وَلَهُ نَظَائِر فِي الْكَلَام وَقَدْ قَرَأَ بعضُ الْقُرّاء فِي غَيْر مَوضِع من الْقُرْآن عَلَى هَذِهِ اللُّغَة، وَقَدْ ذكرنَا فِي بعض مجَالِس كتَابنَا من هَذَا الْبَاب، وَمَا أَتَى فِيهِ من شَوَاهِد الشّعْر مَا لَا طائل فِي إِعَادَته، وروينا هَذَا لأبياتٍ عَمَّن ذكر أَن الشّافعيّ تمثل بهَا، وأمّا الْوَجْه الآخر فَإِن مِنْهُ مَا قَدْ جَاءَ مثله، وَهُوَ من عُيُوب الشّعْر الْمَعْرُوفَة وَمِنْه مَا لَا يجوز الْبَتَّةَ. 1 12 - /الْمَجْلِسُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ فَضْلُ رَسُولِ الله وَبَنِي هَاشِمٍ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد بن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنَادِي حَدَّثَنَا أَبُو بكرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ الرِّيَاحِيُّ حَدَّثَنَا بُهْلُولُ بْنُ الْمُوَرِّقِ أَبُو غَسَّانَ الشَّامي حَدثنَا مُوسَى بن عبيد ة حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: قلبتُ الأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلا أَفْضَلَ مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَلَّبْتُ الأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: فَالْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي فَضَّلَ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ، وَفَضَّلَ بَنِي أَبِيهِ عَلَى سَائِرِ بَنِي الآبَاءِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أُمَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أمةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

نجا إبراهيم بن عبد الله بحيلة عجيبة

وَهَدَانَا لِتَصْدِيقِهِ وَالإِيمَانِ بِهِ، وَوَفَّقَنَا لاتِّبَاعِهِ، وَأَبَانَنَا مِمَّنْ عَانَدَهُ وَجَحَدَهُ، وَبَغَى عَلَيْهِ وَحَسَدَهُ، وَعَصَمَنَا مِنْ أَنْ نَنْفُسَ عَلَى رَهْطِهِ وَأُسْرَتِهِ وَأَقْرَبِيهِ وَعِتْرَتِهِ، بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَحَبَاهُمْ بِهِ مِنْ شَرِيفِ نِعْمَتِهِ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ توفيقه وَجَمِيل عصمته، وفضلناب عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَنْسِبَائِهِ الرَّاصِدِينَ لِمُحَارَبَتِهِ، وَالْجَادِّينَ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَقَدْ هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمُشَاقَّتِهِ؛ أَلا تَسْمَعُونَ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَبِي لَهَبٍ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَإِلَى قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنَ الْعَجَمِ الأَجْنَبِيِّينَ إِذْ قَالَ: سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ " آل عمرَان:86 ". نجا إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه بحيلة عَجِيبَة حَدثنَا أَحْمَد بْن أَبِي الْعَلَاء الْأَضَاحِي الْمَعْرُوف بحرمي قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه يَعْنِي ابْن شبيب قَالَ أَخْبرنِي جَعْفَر بْن مُحَمَّد قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن ريَاح قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن حَيَّان أَبُو عَبد اللَّه الْحَرَّانِي قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه بْن حسن بْن حسن قد صَار إِلَى مَدِينَة الْموصل فِي تواريه، وَصَحَّ ذَلِك عِنْد أَبِي جَعْفَر فَكتب إِلَى الْوَالِي هُنَاكَ يُعلمهُ أَنه قد صَحَّ عِنْده أبن إِبْرَاهِيم فِي مَدِينَة الْموصل، ويأمره إِذا ورد عَلَيْهِ كِتَابه أَن يتحفظ فِي بَقِيَّة يَوْمه فَإِذا هُوَ أَمْسَى غلقت أَبْوَاب الْمَدِينَة فَلم يخرج مِنْهَا أحد وَلم يدْخل، ثُمَّ اسْتقْبل التفتيش لغد فَإنَّك ستجده. وَكَانَ مَعَ إِبْرَاهِيم يَوْمئِذٍ من أهل الجزيرة وَمن الزيدية قوم لَهُم بصائر وأموال وغناء عناية بِهِ، وَكَانَت لَهُم عُيُون قد أذكوها على السُّلْطَان، فَبَلغهُمْ خبر الْكتاب وَمَا عزم عَلَيْهِ الْوَالِي فاشتروا بغلين وحذفوهما كَمَا يعْمل ببغال الْبَرِيد، عملت لَهما لجم وأداة على حسب مَا يعْمل بدواب الْبَرِيد، وَخرج أحدهم إِلَى بعض الْقرى الَّتِي تقرب من الْموصل، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعشَاء الْآخِرَة وأغلقت الْأَبْوَاب ركب إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه أحد البغلين، وَركب الآخر رجل بتشبه با لفرانق، وَخرج الرجل على الْبَغْل يَصِيح كَمَا يَصِيح الفرانق، وَمَعَهُ خريطة، وَاتبعهُ إِبْرَاهِيم حَتَّى إِذا صَار إِلَى الْبَاب صَاح فَفتح لَهُ الْبَاب على أَنه من قبل الْوَالِي ثُمَّ مضيًا فَانْتَهَيَا إِلَى الرجل ومضيا. وَصَحَّ الْخَبَر على هَذِه الْحِكَايَة عِنْد الْمَنْصُور فَكثر مِنْهُ تعجبه وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ تأسفه. وَصِيَّة حَكِيم لِابْنِهِ حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الأَصْمَعِيّ قَالَ، قَالَ بعض الْحُكَمَاء لِابْنِهِ: يَا بني أقبل عهدي ووصيتي: إِن سرعَة ائتلاف قُلُوب الْأَبْرَار حِين يلتقون كسرعة اخْتِلَاط قطر الْمَطَر بِمَاء الْأَنْهَار، وَبعد الْفجار من الائتلاف وَإِن طَال تعاشرهم كبعد الْبَهَائِم من التعاطف وَإِن طَال اعتلافها على آري وَاحِد. كن يَا بني بِصَالح الوزراء أعنى مِنْك بِكَثْرَة عَددهمْ، فَإِن اللؤلؤة خَفِيف محملها كثير ثمنهَا، وَالْحجر فادح حمله قَلِيل غناؤه عَنْك.

علي يرسل إلى معاوية في أمر البيعة

عَليّ يُرْسل إِلَى مُعَاوِيَة فِي أَمر الْبيعَة حجثنا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى قَالَ حَدَّثَنِي عمرَان عبد الْعَزِيز بْن عُمَر بْن عبد الرَّحْمَن بن عون قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ قَالَ: بَعَثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُبَايِعَ هُوَ وَمَنْ قَبْلَهُ؛ قَالَ: فَخَرَجْتُ لَا أَرَى أَحَدًا سَبَقَنِي إِلَيْهِ، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا هُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُمْ حَوْلَهُ يَبْكُونَ حَوْلَ قَمِيصِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُعَلَّقٌ فِي رُمْحٍ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ عَلِيٍّ، وَمَثَلَ رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي كَانَ يَسِيرُ بِمَسِيرِي وَيُقِيمُ بِمُقَامِي لَا أَشْعُرُ بِهِ، فَقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ بَنِي عَمِّكَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ... هُمْ قَتَلُوا شَيْخَكُمْ غَيْرَ كَذِبْ وَأَنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْوَثْبِ فَثِبْ ... وَاغْضَبْ مُعَاوِيَ لِلإِلَهِ وَارْتَقِبْ بَادِرْ بِخَيْلِ الأُمَّةِ الْغَابِ النَّشِبْ ... بِجَمْعِ أَهْلِ الشَّامِ تَرْشُدُ وَتَصِبْ وَسِرْ مَسِيرَ الْمُحْزَئِلِّ الْمُتْلَئِبْ ... وَهَزْهِزِ الصَّعْدَةَ لِلشَّأْسِ الشَّغِبْ قَالَ: ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابًا مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَخِي عُثْمَانَ لأُمِّهِ، فَإِذَا فِيهِ: معاويَ إِنَّ الْمُلْكَ قَدْ جُبَّ غاربُهْ ... وَأَنْتَ بِمَا فِي كفَّكّ اليومَ صاحبُهْ أَتَاكَ كتابٌ مِنْ علّيٍ بِخَصْلةٍ ... هِيَ الفصلُ فاخترْ سَلْمَهُ أَو تحاربُهُ وَإِن كنتَ تَنْوِي أَنْ تجيبَ كتابهُ ... فقبحَ ممليهِ وقبحَ كاتبهْ وَإِنْ كُنْتَ تَنْوِي تَرْكَ رَجْعِ جَوَابِهِ ... فَأَنْتَ بأمرٍ لَا مَحَالَةَ راكبهْ فألق إِلَى الْحَيّ اليمانين كَلِمَةً ... تنالُ بِهَا الأَمْرَ الَّذِي أَنْتَ طالبهْ تقولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَصَابَهُ ... عَدُوٌّ وَمَالا هُمْ عَلَيْهِ أَقَارِبُهُ وَكُنْتَ أَمِيرًا قبلُ بِالشَّامِ فيكمُ ... وَحَسْبِي مِنَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ اجبهْ يُجِيبُوا وَمَنْ أُرْسِي ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... تُدَافِعُ بِحَرٍّ لَا تُرَدُّ غَوَارِبُهُ فَأَكْثِرْ أَوْ أَقْلِلْ مَالَهَا الدَّهْرُ صَاحِبٌ ... سِوَاكَ فَصَرِّحْ لَسْتَ مِمَّنْ تُوَارِبُهُ قَالَ، فَقَالَ: أَقِمْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ نَفَرُوا عَنْهُ لِمَقْتَلِ عُثْمَانَ حَتَّى يَسْكُنُوا؛ قَالَ: فأقمتُ أَرْبَعَةَ أشهرٍ، ثُمَّ جَاءَهُ كتابٌ آخَرُ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِيهِ: أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ ... فَإِنَّكَ مِنْ أَخِي ثقةٍ مُليمُ قطعتَ الدهرَ كالسَّدِمِ المعَّنى ... تُهَدَّرُ فِي دمشقَ وَمَا تَريم فَإِنَّكَ والكتابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كدابغةٍ وَقَدْ حَلَمَ الأديمُ

فَلَوْ كنتَ القتيلَ وَكَانَ حَيًّا ... لَشَمَّرَ لَا أَلفُّ وَلَا سؤومُ فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُهُ وَصَلَ مَا بَيْنَ طُومَارَيْنِ ثمَّ طَوَاهُمَا أَبْيَضَيْنِ وَكَتَبَ عُنْوَانَهُمَا: مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَدَفَعَهُمَا إليَّ وَبَعَثَ مَعِي رَجُلا مِنْ عبسٍ وَلا أَدْرِي مَا مَعَ الْعَبْسِيِّ؛ قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا الْكُوفَةَ، فَاجْتَمَعَ الناسُ إِلَى عَلِيٍّ فِي الْمَسْجِدِ وَلا يَشُكُّونَ أَنَّهَا بيعةُ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا فُتِحَ الْكِتَابُ لَمْ يُوجد فِيهِ بِشَيْء، وَقَامَ الْعَبْسِي فَقَالَ: من هَاهُنَا مِنْ أَفْنَاءِ قَيْسٍ؟ إِنِّي أَخُصُّ مِنْ قيسٍ غَطَفَانَ وَأَخُصُّ مِنْ غَطَفَانَ عَبْسًا، وَإِنِّي أحلفُ بِاللَّهِ لَقَدْ تركتُ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ شَيْخٍ خَاضِبِينَ لِحَاهُمْ بِدُمُوعِ أَعْيُنِهِمْ، مُتَعَاقِدِينَ مُتَحَالِفِينَ لَيَقْتُلُنَّ قَتَلَتَهُ، وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَقْتَحِمَنَّهَا عَلَيْكُمُ ابنُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلافٍ مِنْ خِصْيَانِ الْخَيْلِ فَمَا ظَنُّكُمْ بَعْدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْفُحُولِ؟ فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سعدٍ: يَا أَخَا عبسٍ لَا نُبَالِي بِخِصْيَانِ خَيْلِكَ وَلا بِبُكَاءِ كُهُولِكَ، وَلا يَكُونُ بُكَاؤُهُمْ بُكَاءَ يَعْقُوبَ عَلَى يُوسُفَ. ثُمَّ دَفَعَ الْعَبْسِيُّ كِتَابًا مِنْ مُعَاوِيَةَ فِيهِ: أَتَانِي أَمْرٌ فِيهِ للنَّاس غمَّة ... وفيهب اجْتِدَاعٌ للأنوفٍ أَصِيلُ مُصَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَدَّةٌ ... تكادُ لَهَا صمُّ الجبالٍ تزولُ فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مثلَ هالكٍ ... أُصيبَ بِلا ذنبٍ وَذَاكَ جليلُ دعاهم فَضَمُّوا عَنْهُ عِنْدَ دُعَائِهِ ... وَذَاكَ عَلَى مَا فِي النفوسِ دَلِيلُ ندمتُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ تَبَع الْهَوَى ... وحسبيَ مِنْهُ حسرةُ وعويلُ سأنعَى أَبا عمروٍ بكلَّ مهنَّدٍ ... وبيضٍ لَهَا فِي الدَّارعين صليلُ فأَمَّا الَّتِي فِيهَا المودةُ بَيْنَنَا ... فَلَيْسَ إِلَيْهَا مَا حييتُ سبيلُ سأُلْقحُها حَرْبًا عَواناً مُلِحَّةً ... وَإِنِّي بِهَا مِنْ عَامِهَا لكفيلُ قَالَ: فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ يُجِيبَهُ عَنْ كِتَابِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ قَيْسٌ: مُعَاوِيَ لَا تعجلْ عَلَيْنَا مُعَاوِيَا ... فَقَدْ هجتَ بِالرَّأْيِ السفيهِ الأَفَاعِيَا وحرّكتَ مِنَّا كلَّ شيءٍ كَرِهْتَهُ ... وأبقيتَ حَزَّاتِ النفوسِ كَمَا هِيَا بعثتَ بِقِرْطَاسَيْنِ صفْرين ضَلَّةَ ... إِلَى خَيْرِ مَنْ يَمْشِي بنعلٍ وَحَافيَا مَضَى أَبُو بَقى بَعْدَ النَّبِيِّ محمدٍ ... عَلَيْهِ سلامُ اللَّهِ عَوْداً وَبَادِيًا أَلا لَيْتَ شِعْرِي والأمانُّي ضلَّةٌ ... عَلَى أيِّ مَا تَنْوِي أردتَ الأَمَانِيَا أَلا لَيْتَ شِعْرِي والأمانُّي ضلَّةٌ ... عَلَى أيِّ مَا تَنْوِي أردتَ الأَمَانِيَا عَلَى أَنَّ فِينَا لِلْمَوَارِبِ مَطْمَعًا ... وَإِنَّكَ متروكٌ بِشَامِكَ عَاصِيَا أَبَى اللَّهُ إِلا أَنَّ ذَا غَيْرُ كَائِنٍ ... فَدَعْ عَنْكَ مَا مَنَّتْك نفسُكَ خَالِيَا

أبو الأسود يعوذ من جماله

وأكثرْ وأقللُ إِنَّ شامَكَ شحمةٌ ... تَعَجَّلها طاهٍ يبادِرُ شَاوِيَا مِنَ الْعَامِ أَوْ مِنْ قابلٍ كلُ كائنٍ ... قريبٌ، وأبْعدْ بِالَّذْيِ لَيْسَ جَائِيَا شُرُوح وتعليقات قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج قَوْله: الغابُ النشب؛ الغابُ جمع غابةٍ وَهِي الغيضة، والنشب المشتبك الَّذِي قد انتشب، يُقَال: قد نشبت الخصومةُ بَين فلانٍ وفلانٍ، ويروى الأشب، وَأرَاهُ أصح فِي الرِّوَايَة، وَهُوَ الِاخْتِلَاط، والأشابة: الأخلاط؛ قَالَ الشَّاعِر: أُولَئِكَ قومِي لم يَكُونُوا أشابة ... وَهل يعظ الضليلَ إِلَّا أولئكا وَقَوله: المحزئل المتلئب: المحزئل: المنحاز الناهض الْمُجْتَمع، قَالَ الشَّاعِر: واستطربت ظعنهم لما احزأل بهم ... مَعَ الضُّحَى ناشط من داعيات والمتلئب: الْمُسْتَقيم المستتب، وَقَوله: وهزهز الصعدة يَعْنِي هز الْقَنَاة، واستثقل الْإِدْغَام فأظهر التَّضْعِيف وَكرر كَمَا قَالُوا قد كركر كَلَامه وكمكم قَالَ الله تَعَالَى: " فَكُبْكِبُوا فِيهَا " الشُّعَرَاء: 94 أَي كبوا. وَهَذَا كثيرٌ فِي الْعَرَبيَّة جدا. والشأس: الشديدُ المستصعب الشرس. وَقَول قيس بْن سعدٍ فِي شعره مضى أَو بقى يُقَال: إِن بقى وَلَقي بِمَعْنى بَقِي وَلَقي لُغَة طَيء، قَالَ الشَّاعِر: لعمرك مَا أخْشَى التصعلك مَا بقى ... على الأَرْض قيسي يسوقُ الأباعرا وَقَالَ آخر: حَتَّى لقى الله على بغيه ... وَالله من ذِي الْبَغي قد ينصف وَقد ذكر عَن الْحسن أَنه قَرَأَ: " وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ " يُونُس: 16 بِمَعْنى أدريتكم، فَحَمله بَعضهم على هَذِه اللُّغَة. وطيء تنحو هَذَا النحوَ فِي الْأَسْمَاء فَتَقول فِي جَارِيَة: جاراة، وَيَقُولُونَ فِي نَاصِيَة: ناصاة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَلا أَذِنت أهل الْيَمَامَة طَيء ... بحربٍ كناصاة الْأَغَر المشقر وَقد زعم بعضُ الْمُحَقِّقين فِي علل النَّحْو واللغة فِي قَوْلهم أَبِي يَأْبَى من هَذِه اللُّغَة، وَذَاكَ أَنه أنكر أَن يكون فِي الْعَرَبيَّة فعل يفعل مِمَّا لَيست عينه وَلَا لامه من حُرُوف الْحلق، وَأَن سِيبَوَيْهٍ لم يحك غير هَذِه الْكَلِمَة، وَإِن كَانَ غَيره قد حكى فِي هَذَا الْبَاب حروفًا عدَّة. وَزعم من حكينا قَوْله أَن أصل يابى يَأْبَى ثُمَّ اسْتعْمل على هَذِه اللُّغَة، وَمن الفاشي فِي رِوَايَة الْكُوفِيّين قلى يقلى وَقد حكى قلي يقلي والأفصح قلى يقلي. أَبُو الْأسود يعوذ من جماله حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَم الغنوي قَالَ حَدَّثَنَا الرياشي عَنِ الأَصْمَعِيّ عَنْ أَبِي مهدية قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عفير الدؤَلِي وَكَانَ شَاعِرًا قَالَ: كنت عِنْد عبد الْملك بْن مَرْوَان إِذْ دخل أَبُو الْأسود الدؤَلِي وَكَانَ أَحول دميمًا قَبِيح

يحرض على بيعة القاسم بن الرشيد

المنظر، فَقَالَ لَهُ عبد الْملك يمازحه: يَا أَبَا الْأسود لَو علقت عَلَيْك عوذة تدفع عَنْك الْعين، فَقَالَ: إِن لَك جَوَابا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأنْشد: أفنى الْجَدِيد الَّذِي فارقتُ جدتهُ ... كرُّ الجديدين من آتٍ ومنطلق لم يتركا ليَ فِي طولِ اخْتِلَافهمَا ... شَيْئا يخافُ عَلَيْهِ لذعةُ الحدق أما وَالله لَئِن كَانَت أبلتني السنون، وأسرعتْ إِلَيّ الْمنون، لما أبلت ذَلِك إِلَّا فِي مَوْضِعه، ولرب يَوْم كنتُ فِيهِ إِلَى الآنسات الْبيض أشهى مِنْك إلَيْهِنَّ فِي يَوْمك هَذَا على عجبك بِنَفْسِك، وَإِنِّي الْيَوْم لَكمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: أراهن لَا يحببن من قل مَاله ... وَلَا من رأين الشيب فِيهِ وقوسًا وَلَقَد كنت كَمَا قَالَ أَيْضا: يرعن إِلَى صوتي إِذا مَا سمعنه ... كَمَا ترعوي عيط إِلَى صَوت أعيسا قَالَ لَهُ عبد الْملك: قَاتلك الله من شيخٍ مَا أعظم همتك. شرح قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: العيط: جمع عيطاء، وَهِي النَّاقة الطَّوِيلَة الْعُنُق والأعيس: فَحل أَبيض تعلوه شقرة؛ وَمن العيط قَول ذِي الرمة: وعيطٍ كأسراب الحدوج تشوفت ... معاصيرها والعاتقات العوانس يحرض على بيعَة الْقَاسِم بْن الرشيد حَدثنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سعد قَالَ حَدَّثَنِي عمر بْن مُحَمَّد بْن حَمْزَة الْكُوفِي قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن سعد قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بْن صَالح بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه، وَكَانَ انْقِطَاعه إِلَى الرشيد، قَالَ: دخلتُ على الرشيد وَقد عهد إِلَى مُحَمَّد والمأمون فِي من يهنئه من ولد صَالح بْن عَليّ، فأنشأت أَقُول: يَا أَيهَا الْملك الَّذِي ... لَو كَانَ نجمًا كَانَ سَعْدا اعقد لقاسم بيعَة ... واقدح لَهُ فِي الْملك زندا الله فَرد وَاحِد ... فَاجْعَلْ وُلَاة الْعَهْد فَردا قَالَ: فاستضحك هَارُون، وَبعثت إِلَى أم جَعْفَر: كَيفَ تحبنا وَأَنت شام؟ وَبعثت إِلَى أم الْمَأْمُون: كَيفَ تحبنا وَأَنت أَخُو عبد الْملك بْن صَالح؟ وَبعثت إِلَى أم الْقَاسِم بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم، فاشتريت بهَا ضيعتي بأرتاح. يحيى بْن أَكْثَم وقاعة فِي النَّاس حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي عَليّ بْن يحيى قَالَ: كَانَ يحيى بْن أَكْثَم وقاعة فِي النَّاس وَكَانَ شريرًا، وَكَانَ يغري الْمَأْمُون بِالنَّاسِ وَيَقَع فيهم عِنْده، وَكَانَ يثني على عَمْرو بْن مسْعدَة ويقرظه عِنْده، وَلَا يزَال يذكر

كيف يسمي يحيى بن أكثم الثقلاء

فراهته ونصيحته وَحسن صناعته؛ فَبلغ ذَلِك عمرا فَدخل على الْمَأْمُون فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بَلغنِي أَن يحيى بْن أَكْثَم يثني عَليّ عنْدك، وَأَنا أَسأَلك بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تريه أَنَّك قبلت شَيْئا من قَوْله فِي، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قدم الثَّنَاء عَليّ لوقيعةٍ يُرِيد أَن يوقعها بِي لديك لتصدقه فِيمَا يَقُول، قَالَ: فَضَحِك الْمَأْمُون مِنْهُ وَقَالَ: قد أمنت من ذَلِك فَلَا تخفه مني. كَيفَ يُسَمِّي يحيى بْن أَكْثَم الثُّقَلَاء حَدثنَا مُحَمَّد بن السحن بْن زِيَاد الْمقري قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَالِيَة الشَّامي مؤدب ولد الْمَأْمُون قَالَ، قَالَ الْمَأْمُون ذَات يَوْم ليحيى بْن أَكْثَم القَاضِي: أُرِيد مِنْك أَن تسمى لي ثقلاء أهل عسكري وحاشيتي، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اعفني فَإِنِّي لست أذكر أحدا مِنْهُم وهم لي على مَا تعلم، فَكيف إِن جرى مثل هَذَا؟ قَالَ لَهُ: فَإِن كنت لَا تفعل فاضطجع حَتَّى أفتل لَك مخراقًا دبيقيًا وأضربك بِهِ وأسمى مَعَ كل ضَرْبَة رجلا، فَإِن كَانَ ثقيلا تأوهت، وَإِن يَك غير ذَلِك سكت، فَأَكُون أَنا على معرفَة مِنْهُم ويقين من ثقلائهم. فاضطجع لَهُ يحيى وَقَالَ: أَرَأَيْت قَاضِي قُضَاة وأميراً ووزيرًا يعْمل بِهِ مثل ذَا؟ فلف لَهُ مخراقاً دبيقياً وضربه بِهِ ضربه وَذكر لَهُ رجلا ثقيلا فصاح يحيى: آه أه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي المخراق آجرة، فَضَحِك الْمَأْمُون مِنْهُ حَتَّى كَاد يغشى عَلَيْهِ وأعفاه من البَاقِينَ. من أكْرم النَّاس أَبَا وَأما وجده وحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عليّ بْن الْمَرْزُبَان النَّحْويّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ النَّحْوِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيَّ يَقُولُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَافِ: من أكْرم النَّاس أَبَا وَأما وجدا وَجدّة وخالاً وَخَالَة وعماص وعمةً؟ فَقَامَ النُّعْمَان بن العجلان الزُّرَقِيُّ فَأَخَذَ بِيَدِ الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: هَذَا، أَبُوهُ عَلِيٌّ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ، وَجَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَعَمُّهُ جَعْفَرٌ، وَعَمَّتُهُ أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طالبٍ، وَخَالُهُ الْقَاسِمُ، وَخَالَتُهُ زَيْنَبُ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فَحُبُّ بَنِي هاشمٍ دَعَاكَ إِلَى مَا عَمِلْتَ؟ فَقَالَ ابْن العجلان: يَا ابْن الْعَاصِ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَنِ التمس رضى مخلوقٍ بِسَخَطِ الْخَالِقِ حَرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُمْنِيَّتَهُ وَخَتَمَ لَهُ بِالشَّقَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ؟ بَنُو هَاشِمٍ أَنْضَرُ قريشٍ عُودًا، وَأَقْعَدُهَا سَلَفًا، وَأَفْضَلُ أَحْلامًا. يشْتم عمر بْن ذَر حَدثنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن هَارُون العسكري قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه ابْن عبد الحميد قَالَ حَدَّثَنِي رجل قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى عمر بْن ذرٍ وَهُوَ فِي مَجْلِسه فشتمه، فَلَمَّا سكت أقبل عمر على أَصْحَابه فَقَالَ: مَا علم الله فَستر، أكثرُ مِمَّا قَالَ هَذَا وَأظْهر. حِين عَفا الْمَنْصُور عَن أهل الشَّام حَدثنَا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن خلف السكرِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو

ابن الرومي يجود بنفسه

يعلي زَكَرِيَّاء بْن يحيى بْن خَلاد الْمنْقري الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي عَمَّن أخبرهُ أَن أَبَا جَعْفَر المَنْصُور حِين عَفَا عَنْ أَهْل الشَّام قَالَ لَهُ رجلٌ: يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين، الانتقامُ عَدْلٌ، والتجاوزُ فَضْل، والْمُتفضِّلُ قَدْ جَاوز حَدَّ الْمُنْصِف، فَنحْن نُعِيذُ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِاللَّه من أَن يرضى لنَفسِهِ بأوكس النَّصِيبَيْنِ وَأَن لَا يرْتَفع إِلَى أَعلَى الدرجتين. ابْن الرُّومِي يجود بِنَفسِهِ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الْأَزْدِيّ قَالَ: رَأَيْت عَليّ بْن الْعَبَّاس بْن جريج الرُّومِي يجود بِنَفسِهِ فَقلت لَهُ: مَا حالك؟ فَأَنْشد: غلطَ الطبيبُ عليَّ مُوردٍ ... عجزتْ مواردُهُ عَن الإصدارِ والناسُ يَلْحَوْنَ الطبيبَ وَإِنَّمَا ... غَلَطُ الطبيبِ إصابةُ المقدارِ فِي من صرف عَن عمله قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: جرت بيني وَبَين بعضُ إِخْوَاننَا من أَهْل الْأَدَب مذاكرة جرى فِيهَا قِطْعَة مِمَّا مدح بِهِ من صرف عَن عمل كَانَ يَتَوَلَّاهُ، وَمَا رُوِيَ عَن بعض أهل الْأَدَب أَنه قَالَ: شيعوا الْمَعْزُول واستقبلوا الْوَالِي؛ وذكرتُ مَا فِي هَذَا من الْحِكْمَة وإرهاص الْمنزلَة والاحتراس من الظنة وإيثار حسن المحالفة وتمكين الْمَوَدَّة، فأنشدني هَذَا الْأَخ أبياتًا ذكر أَنَّهَا لجعيفران فِي إِبْرَاهِيم بْن الْمُدبر وَقد عزل عَن الْبَصْرَة، ثُمَّ أَخْبرنِي صديقنا أَبُو الْحسن بْن حوزان أَنه وجدهَا فِي شعر سوار بْن أَبِي شراعة وَأَن الْأَخْفَش أنْشدهُ إِيَّاهَا لسوار أَيْضا وَهِي هَذِه: يَا أَبَا إسحاقَ سِرْ فِي دعةٍ ... وامضِ مصحوبًا فَمَا منكَ خَلَفْ لَيْت شعري أيَّ أرضٍ أجدبت ... فأغيثتْ بك من هَذَا العجفْ نزل الرحمُ من الله لَهُم ... وَحُرمْناكَ لذنبٍ قد سلف إِنَّمَا أَنْت ربيعٌ باكرٌ ... حَيْثُ مَا صرَّفَهُ الله انْصَرف الْأَحْنَف يتستر على مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زيدٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ شَبَّةَ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ الأَحْنَفَ بْنَ قيسٍ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ، فَغَنَّتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِي مُعَاوِيَةَ فِي جَانِبِ الدَّارِ، فَأَقْبَلَ عَلَى الأَحْنَفِ فَقَالَ: يَا أَبَا بحرٍ لَا تَرُمْ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ، إِنِّي لأَطْلُبُ خَلْوَةَ هَذِهِ الْجَارِيَةِ فَلا أَكَادُ أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فِي أَثَرِهَا فَكَأَنَّمَا كَانَتْ لابْنَةِ قَرَظَةَ امْرَأَةِ مُعَاوِيَةَ عَيْنٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَقْبَلَتْ بِهِ فلبيته، فَقُلْتُ لَهَا: أَكْرِمِي أَسْرَاكُمْ فَقَالَتْ: اسْكُتْ يَا قَوَّادُ. وَصِيَّة الْمُهلب لِابْنِهِ يزِيد حَدثنَا عَبد اللَّه بْن أَحْمَد الْمَعْرُوف بِابْن النَّحْوِيّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن

ما بين نعم ولا

الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ وحَدثني مُحَمَّد بْن الْحسن الْأَحول قَالَ حَدثنَا الْمَدَائِنِي قَالَ: أوصى الْمُهلب ابْنه يزِيد فَقَالَ: إياك يَا بني والسرعة عِنْد مسألةٍ بنعم، فَإِن أَولهَا سهل وَآخِرهَا ثقيل فِي فعلهَا، واعمل أَن لَا وَإِن قبحت فَرُبمَا روحت، فَإِن كنت من أمرٍ تسأله على ثِقَة فأطمع وَلَا توجب، ثُمَّ افْعَل، وَإِن علمت أَن لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَاعْتَذر، فَإِنَّهُ من لَا يعْتَذر بالعذر فنفسه ظلم. مَا بَين نعم وَلَا قَالَ أَبُو عَبد اللَّه وأنشدنا ثَعْلَب قَالَ، أَنْشدني ابْن الْأَعرَابِي: لَا تتبعن نعم لَا طَائِعا أبدا ... فَإِن لَا أفسدت من بعْدهَا نعم إِن قلت يَوْمًا نعم بدءًا فتم بهَا ... فَإِن إمضاءها صنف من الْكَرم قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قد أنشدنا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ جمَاعَة من شُيُوخنَا عَن ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي، قَالَ وأنشدنا أَبُو الْحسن عَليّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش لرجل من طيءٍ هَذِه الأبيات: وَالله وَالله لَوْلَا أنني فرق ... من الْأَمِير لعاتبت ابْن نبراس فِي موعدٍ قَالَه لي ثمَّ أخلفني ... غَدا غَدا ضرب أَخْمَاس لأسداس حَتَّى إِذا نَحن ألجأنا مواعده ... إِلَى الطبيعة فِي حفز وإبساس أجلت مخيلته عَن لَا فَقلت لَهُ ... لَو مَا بدأت بهَا مَا كَانَ من باس وَلَيْسَ يرجع فِي لَا بَعْدَمَا سلفت ... مِنْهُ نعم طَائِعا حر من النَّاس قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: وَقد روينَا فِي جِهَات نعم وَلَا أَشْيَاء كَثِيرَة من ملح الْأَخْبَار ولطيف الْأَشْعَار وَمن فنون الْآدَاب الغريبة وفوائد الْعلم النبيهة مِمَّا يطول وَلَا يَتَّسِع مجْلِس من مجَالِس كتَابنَا لَهُ، وَلَكنَّا نذْكر فِيمَا هَاهُنَا طرفا مِنْهُ وَفِيمَا نستأنفه من مجالسنا هَذِه مَا نعثر أَولا أَولا عَلَيْهِ. وحضرني فِي بَاب نعم وَلَا شَيْء كنت نظمته وَهُوَ: لَا فِي مُقَدّمَة اللأواء مؤذنة ... بالجحد وَالنَّفْي والحرمان والعدم وَقد رَأينَا نعم فِي أصل بنيتها ... صيغت مُنَاسبَة النعماء وَالنعَم وَمِمَّا أنشدوناه فِي ذمّ لَا قَول الَّذِي قَالَ: قبحت لَا فَإِنَّهَا ... خلقت خلقَة الجلم تذْهب الْعرف والجمي؟ ... ل وَتَأْتِي على الْكَرم اللُّغَات فِي نعم وَفِي نعم لُغَتَانِ مشهورتان ولغة شَاذَّة، فأشهر المشهورتين مِنْهُمَا نعَم بِفَتْح الْعين، وَعَلَيْهَا قِرَاءَة الْجُمْهُور من أهل الحجار وَالشَّام والعراقيين؛ وَقَرَأَ باللغة الثَّانِيَة عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ وَهِي نعِم، بِكَسْر الْعين، وَهِي قِرَاءَة أَبِي وَائِل

المجلس السابع والخمسون

شَقِيق بْن سَلمَة، واختارها الْكسَائي فَقَرَأَ بهَا فِي الْقُرْآن كُله كَقَوْلِه " قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " الْأَعْرَاف: 114و " قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذن لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ " الشُّعَرَاء:42 واللغة الشاذة نعام وبالقراءة الأولى نَقْرَأ لاستفاضتها فِي الْخَاصَّة والعامة لُغَة وتلاوة. وَقد ذكر عَن أَبِي وَائِل أَنه كَانَ إِذا سمع قَارِئًا يقْرَأ نعم بِالْفَتْح قَالَ لَهُ: نعم وَشاء، يَعْنِي إبِلا وَغنما؛ كَمَا قَالَ زُهَيْر. فَيوم مِنْك خيرٌ من أنَاس ... كثيرٍ حَولهمْ نعم وَشاء وَيُقَال لِلْإِبِلِ وَالْبَقر وَالْغنم نعم وأنعام. وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة يُقَال لِلْإِبِلِ على انفرادها نعم، وَلَا يُقَال ذَلِك للبقر وَالْغنم إِلَّا إِذْ كَانَت مَعَ الْإِبِل. وَأما الْأَنْعَام فيستوي كل نوع من ذَلِك فِي التَّسْمِيَة بِهِ نعم، قَالَ ذَلِك الْأَصْمَعِي. وَقَالَ بَعضهم أَنا عيم لجَماعَة الْإِبِل، يُقَال: نعم ثُمَّ أنعام ثمَّ أَنا عيم قَالَ ذُو الرمة: داني لَهُ القيدُ فِي ديمومةٍ قذفٍ ... قينيه وانحسرتْ عَنْهُ الأناعيمُ نعم وَلَا فِيمَا يتَّصل بالفقه وَمِمَّا فِي نعم وَلَا مِمَّا يتَّصل بِعلم الْفِقْه قَول الرجل للأخر: اعطني سرج بغلي هَذَا أَو لجام دَابَّتي هَذِه فَقَالَ: نعم أَولا، وَلم يصله بأعطيكه، فَإِن شَيخنَا أَبَا جَعْفَر ذهب إِلَى أَن هَذَا إِقْرَار مِنْهُ بالسرج واللجام. وَحكى هَذَا عَن أَبِي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَاحْتج بِأَن قَوْله نعم إنعام بِالْفِعْلِ، لَا إباء لَهُ، وَهَذَا عِنْدِي كَمَا قَالَ. وَحكى عَن أَبِي ثَوْر أَنه قَالَ: قَوْله نعم إِقْرَار وَقَوله لَا لَيْسَ بِإِقْرَار، وَبَين فَسَاد قَوْله بِنَحْوِ مَا قدما بَيَانه. الْمجْلس السَّابِع وَالْخَمْسُونَ رَسُول الله يعرض نَفسه على الْقَبَائِل أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوفُ بِحَرَمِيٍّ الأَضَاحِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن شبيبٍ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نصرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنِي عليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بكرٍ، فَدَفَعَنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلا نَسَّابَةً فَسَلَّمَ فَرَدُّوا السَّلامَ فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ، قَالَ: مِنْ هَامَتِهَا أَوْ مِنْ لَهَازِمِهَا، قَالُوا: بَلْ مِنْ هَامَتِهَا الْعُظْمَى قَالَ: وَأَيُّ هَامَتِهَا الْعُظْمَى؟ قَالُوا: ذُهَلُ الأَكْبَرُ، قَالَ: فَمِنْكُمْ عَوْفٌ الَّذِي كَانَ يُقَالُ: لَا حُرَّ بِوَادِي عوفٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ بِسْطَامُ أَبُو اللِّوَاءِ وَمُنْتَهَى الأَحْيَاءِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ حَسَّانُ بْنُ رَبِيعَةَ حَامِي الذِّمَارِ وَمَانِعُ الْجَارِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمُ الْحَوْفَزَانُ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا أَنْفُسَهَا؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمُ الْمُزْدَلِفُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الْفَرْدَةِ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ:

فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَأَنْتُمْ أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لخمٍ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَلَسْتُمْ أَنْتُمْ ذُهَلُ الأَكْبَرُ أَنْتُمْ ذُهَلُ الأَصْغَرُ. فَقَامَ إِلَيْهِ غُلامٌ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ يُقَالُ لَهُ دعفل حِينَ بَقَلَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: إِنَّ عَلَى سَائِلِنَا أَنْ نَسْأَلَهْ ... وَالْعِبْءُ لَا تَعْرِفُهُ أَوْ تَحْمِلُهْ يَا هَذَا إِنَّكَ قَدْ سَأَلْتَنَا فَلَمْ نَكْتُمْكَ شَيْئًا، فَمِمَّنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ، قَالَ: بخٍ بخٍ أَهْلُ الشَّرَفِ وَالرِّئَاسَةِ، فَمِنْ أَيِّ قريشٍ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ صَفَا الثَّغْرَةِ، فَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلابٍ الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ بِهِ الْقَبَائِلَ مِنْ فهرٍ فَكَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ هَاشِمٌ الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمِنْكُمْ شَيْبَةُ الْحَمْدِ مُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يُضِيءُ لَيْلَةَ الظَّلامِ الدَّاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَمِنَ الْمُفِيضِينَ بِالنَّاسِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ النَّدْوَةِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْتَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فاجتذب أبنو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زِمَامَ نَاقَتِهِ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ دَغْفَلٌ: صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ دَرْءًا يَدْفَعُهُ ... يَهْضِبُهُ يَرْفَعُهُ أَوْ يَصْدَعُهُ وَايْم الله لَو بثت لأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمَعَاتِ قُرَيْشٍ أَوْ مَا أَنَا بِدَغْفَلٍ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَلِيٌّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بكرٍ وَقَعْتَ مِنَ الأَعْرَابِيِّ عَلَى باقعةٍ، قَالَ: أَجَلْ. إِنَّ فَوْقَ كُلِّ ذِي طامةٍ طَامَّةٌ وَالْبَلاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ. قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: ثُمَّ دَفَعَنَا إِلَى مجلسٍ آخَرَ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَسَلَّمَ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلامَ، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: مِنْ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلاءِ عِزٌّ فِي قومٍ. وَكَانَ فِي الْقَوْمِ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ وَالنُّعْمَانُ بْنُ يَزِيدَ. وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عمروٍ قَدْ عَلاهُمْ جَمَالا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى تَرِيبَتِهِ، وَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ؟ قَالَ: إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى ألفٍ وَلَنْ نُغْلَبَ عَنْ قِلَّةٍ، قَالَ: فَكَيْفَ الْمَنْعَةُ فِيكُمْ؟ قَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ حَدٌّ، قَالَ: فَكَيْفَ الحربُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ؟ قَالَ: إِنَّا أَشَدُّ مَا نَكُونُ غَضَبًا حِينَ نَلْقَى وَأَشَدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا نُؤْثِرُ جِيَادَنَا عَلَى أَوْلادِنَا، وَالسِّلاحَ على اللقَاح، النَّصْر مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُدِيلُنَا لَنَا وَعَلَيْنَا، لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ أَنَّهُ رَسُول الله فها هوذا فِي الرَّحْلِ، قَالَ: قَدْ بَلَغَنَا أَنه يَقُول ذَلِك. قَالُوا: فَإلَى مَا تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟ فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ تُؤْوُونِي وَتَنْصُرُونِي، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَاسْتَغْنَوْا بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَهُوَ اللَّهُ الْغَنِيّ الحميد، قَالَ فَإلَى مَا تَدْعُو أَيْضًا؟ قَالَ: (فَتَلا عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحساناً " إِلَى قَوْله: " ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ " " الْأَنْعَام:151 " قَالُوا: وَإِلَى مَا تَدْعُو أيضاص؟ قَالَ: فَتَلا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكر وَالْبَغي " النَّحْل: 90 الْآيَة. فَقَالَ مَفْرُوقُ بْنُ عمروٍ: دَعَوْتَ وَاللَّهِ إِلَى مَحَاسِنِ الأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَلَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ ظَاهَرُوا عَلَيْكَ وَكَذَّبُوكَ. وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي الْكَلامِ هَانِئَ بْنَ قَبِيصَةَ فَقَالَ وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قبيضة، وَهُوَ شَيخنَا وَصَاحب حبنا، فَتَكَلَّمَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ فَقَالَ: يَا أَخَا قُرَيْشٍ قَدْ سمعتُ مَقَالَتك، وَإِن لَنَرَى تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا دِينَكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ مِنَّا لَمْ نَنْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَلَمْ نَتَثَبَّتْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَلَهًا فِي الرَّأْيِ وَإِعْجَالا فِي النَّظَرِ، وَالْوَلَهُ يَكُونُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَمِنْ وَرَائِنَا قوم نكره أَن تعقد عَلَيْهِمْ عَقْدًا، وَلَكِنْ نَرْجِعُ وَتَرْجِعُ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُ. وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي الْكَلامِ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ فَقَالَ: وَهَذَا شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا، فَتَكَلَّمَ الْمُثَنَّى فَقَالَ: يَا أَخَا قُرَيْشٍ قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ، فَأَمَّا الْجَوَابُ فَهُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَأَمَّا أَنْ نُؤْوِيَكَ وَنَنْصُرَكَ فَإِنَّا نَزَلْنَا بَيْنَ صيرين: الْيَمَامَة السمامة. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا هَذَانِ الصِّيرَانِ؟ فَقَالَ: مِيَاهُ الْعَرَبِ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَا يَلِي أَنْهَارَ كِسْرَى فَذَنْبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَلَسْنَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الأَمْرُ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُ الْمُلُوكُ، فَإِن أَحْبَبْت أَن تؤويك مِمَّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ آوَيْنَاكَ وَنَصَرْنَاكَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، وَلَيْسَ يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلا قَلِيلا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمْوَالهم ويفرشكم نِسَاءَهُمْ يورثكم دِيَارَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَتُقَدِّسُونَهُ؟ فَقَالَ النُّعْمَانُ: هَذَا لَكَ، فَتَلا

تعليقات على الخبر

عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا " الْبَقَرَة: 119 " وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا " الْأَحْزَاب: 46 وَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَقَالَ: يَا عَلِيُّ، أَيُّ أحلامٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِهَا يَكُفُّ اللَّهُ بَأْسَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا؟! تعليقات على الْخَبَر قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول أَبِي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من لهازمها، اللهازم: نواحي الْعُنُق وجوانبه، قَالَ الراجز: يَا خاز باز أرسل اللهازما وَقَوله: من صفا الثغرة: الصَّفَا الْحجر الأملس وَمِنْه " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ " الْبَقَرَة: 158 قَالَ جرير:

هَبّتْ شَمَالا فذِكْرَى مَا ذَكَرْتُكُمُ ... إِلَى الصَّفَاةِ الَّتِي شَرْقِيَّ حَوْرَانَا وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْب: حَتَّى كَأَنِّي للحوادث صَخْرَة ... بصفا المشقر كل يومٍ تقرع ويروى بقفا المشقر، ويروى الْمشرق؛ وَذكرت أبياتًا عَن لي فِي بَعْضهَا ذكر الصَّفَا وقرعها وَهِي: حَلَفت يَمِينا برة وشفعتها ... فَهَل أَنْت مني باليمينين قَانِع فَمَا نازعت نَفسِي إِلَى مَا كرهته ... وَلَا خلتها يَوْمًا إِلَيْهِ تنَازع وَلَا حل من قلبِي هَوَاك محلّة ... من النَّاس مِمَّن أصطفي وأشايع لقد قرع الواشي بِأَهْوَن سَعْيه ... صفاة قَدِيما أخطأتها القوارع فأزعجني فِي ضعفه وَهُوَ سَاكن ... وشرد عَن عَيْني الْكرَى وَهُوَ هاجع وَأما الثغرة فَهِيَ اللبة، قَالَ عنترة: مَا زلتُ أرْميهم بثُغْرةِ نَحْره ... ولِبَانِهِ حَتَّى تسربل بِالدَّمِ وَرُوِيَ ثغرة وَجهه. وَقَالَ ثَابت: الثغرة: الهزمة الَّتِي بَين الترقوتين. وَقَوله: الهضبة: الدفعة من الْمَطَر تجمع هضبًا، قَالَ ذُو الرمة: فَبَاتَ يشئزه ثأد ويسهره ... تذوب الرّيح والوسواس والهضب وَأما قَول هاني بْن قبيصَة: وَله فِي الرَّأْي الوله: الْحيرَة القلق، وَلَعَلَّه قَالَ: وَهل، فَمن هَا هُنَا اشْتبهَ. والوهل: الْخَطَأ والغلط والزلل. وَأما قَول الْمثنى بْن حَارِثَة: فَإنَّا نزلنَا بَين صيرين فَإِن الصير: الْجَانِب والناحية وَالْحَد. قَالَ زُهَيْر: وَقد كنتُ من سلمى سنينَ ثَمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ مَا يمر وَلَا يحلو شاهك يَا أَبَا مُسلم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كنت أطلب الْعلم فر آتِي مَوْضِعًا إِلا وَجَدْتُ أَبَا مسلمٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ، فَأَلِفَنِي فَدَعَانِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَدَعَا بِمَا حَضَرَ فَأَكَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ لَعِبُكَ بِالشِّطْرَنْجِ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي لاعِبٌ بِهَا، فَدَعَا بِشِطْرَنْجِهِ، فَتَنَاوَلْتُ السَّوَادَ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَتَنَاوَلَهَا مِنْ بَين يَدي وَأَعْطَانِي الْبيَاض، فأشفت شَاهُهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَدَاخَلَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَاغْتَمَمْتُ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِي: الْعَبْ فَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ، فَخَلَّصَ شَاهَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ: ذَرُونِي ذَرُونِي مَا قَدَرْتُ فَإِنَّنِي ... مَتَّى مَا أُهِجْ حَرْبًا تَضِقْ بِكُمْ أَرْضِي وَأَبْعَثُ فِي سُودِ الْحَدِيدِ إِلَيْكُمْ ... كَتَائِبَ سُودًا طَالَمَا انْتَظَرَتْ نَهْضِي قَالَ: فَكُنْتُ أُلاعِبُهُ وَيَلْهُو بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ حَتَّى بَلَغَنِي خُرُوجَهُ.

وُجُوه الْإِعْرَاب فِي وأبعث قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج وأبعث فِيهِ من جِهَة الْأَعْرَاب ثَلَاثَة أوجه: الْجَزْم على الْعَطف إِلَّا أَنه لَا يسْتَعْمل فِي هَذَا الْموضع لإِقَامَة وزن الْبَيْت، وَالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف، وَالنّصب بإضمار أَن وَالتَّقْدِير: يكون مني هيج فأبعث، فَلَا يعْطف أبْعث على هيج لِأَن هيج مصدر وأبعث فعل فتقدر أَن إِذْ هِيَ وَالْفِعْل مصدر، فَيصح حِينَئِذٍ عطف الثَّانِي على الأول لِأَنَّهُ عطف اسمٍ على اسمٍ، ويسمي الْكُوفِيُّونَ هَذَا الْوَجْه الصّرْف لِأَنَّهُ صرف عَن الْجَزْم؛ وَقد جَاءَ هَذَا كثيرا فِي الْقُرْآن وَالشعر؛ قَالَ الله تَعَالَى: " إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " مُحَمَّد: 7 فَجزم الثَّانِي على الْعَطف. قَالَ تَعَالَى: " وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ من يَشَاء " الْبَقَرَة: 284 فقرىء فَيغْفر ويعذب جزما ورفعًا ونصبًا، وَقَرَأَ القرأة: " أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ " الشورى: 34، 35 بِالرَّفْع وَالنّصب فِي يعلم. وقرىء: " وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " آل عمرَان:142 على النصب والجزم. وَقَوْلهمْ لَا تَأْكُل السّمك وتشرب اللَّبن بِالنّصب إِذْ أُرِيد بِهِ النَّهْي عَن الْجمع بَينهمَا دون الْإِفْرَاد، وَإِن أُرِيد النَّهْي عَن كل واحدٍ مِنْهُمَا فالجزم هُوَ الْكَلَام. وَقد أَتَى كثير من هَذَا فِي الشّعْر، قَالَ الشَّاعِر: فَإِن لم أصدق ظنكم بتيقن ... فَلَا سقت الأوصال مني الرواعد وَيعلم أكفائي من النَّاس أنني ... أَنا الْحَافِظ الحامي الذمار المداود وَقَالَ الْأَعْشَى: وَمن يَغْتربْ عَنْ قومه لَا يزلْ يرى ... مصَارِع مظلومٍ مجرًا ومسحبًا وتدفن مِنْهُ الصَّالِحَات وَإِن يسئ ... يكن مَا أَسَاءَ النَّار فِي رَأس كبكبا وَقَالَ النَّابِغَة: فَإِن يهْلك أَبُو قَابُوس يهْلك ... ربيع النَّاس والبلد الْحَرَام ونمسك بعده بذناب عَيْش ... أجب الظّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَام ويروى بذناب دهر. الْجَزْم فِي نمسك وَالرَّفْع وَالنّصب وُجُوه جَائِزَة، وَجَاز فِي هَذَا الْبَيْت الْجَزْم الَّذِي لَا يجوز فِيمَا أنشدناه، قيل لعلةٍ أَنا ذاكرها إِن شَاءَ الله. وَأَقُول مستعينًا بِاللَّه: إِن بَيت النَّابِغَة من النَّوْع الَّذِي يُسَمِّيه العروضيون الوافر وَهُوَ أول أَنْوَاعه عِنْد جمهورهم، وَإِذا رُوِيَ بِالرَّفْع وَالنّصب فَلَا زحاف فِيهِ، وَيُسمى سالما لسلامته من الزحاف، وَإِذا رُوِيَ بِالْجَزْمِ سكنت لَام مفاعلتن فَصَارَ مفاعلتن فنقلت إِلَى مفاعيلن وَيُسمى معصوبًا. وَبَيت النَّابِغَة يرْوى على وَجْهَيْن: أجب الظّهْر بِالْإِضَافَة، وَيصرف أجب فيكسر لِإِضَافَتِهِ، ويروى أجب الظّهْر فَيفتح وَهُوَ فِي مَوضِع جرٍ إِذْ هُوَ صفة لعيشٍ أَو دهر لِأَنَّهُ لَا ينْصَرف والتنوين مُقَدّر فِي أَصله. وَمن هَذَا الْبَاب زيد حسن

الْوَجْه. قَالَ زُهَيْر: أَهْوى لَهَا أسفع الْخَدين مطرق ... ريش القوادم لم ينصب لَهُ الشّرك فالنصب فِي ريش القوادم كالنصب فِي زيد الْحسن الْوَجْه، وَالْحسن الْوَجْه أقوى عِنْد الْبَصرِيين من حسن الْوَجْه وهما عِنْد الْكُوفِيّين سَوَاء. قَالَ الْحَارِث بْن ظَالِم: فَمَا قومِي بِثَعْلَبَة بْن سعدٍ ... وَلَا بفزارة الشّعْر الرقابا وَقَالَ عدي بْن زيدٍ: من وليٍ أَو أخي ثقةٍ ... والبعيد الشاحط الدارا وَهَذَا بَاب من النَّحْو لَهُ شعب وفروع وَلَا ستقصائه مَوضِع هُوَ أولى بِهِ. بَين عريب وعلويه حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا الْفضل بْن الْعَبَّاس أَبُو الْفضل الربعِي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى الْهَاشِمِي قَالَ، قَالَ علوِيَّة: أَمرنِي الْمَأْمُون وأصحابي أَن نغدو عَلَيْهِ لنصطبح، فَغَدَوْت فلقيني عَبد اللَّه بْن إِسْمَاعِيل صَاحب المراكب فَقَالَ: يَا أَيهَا الرجل الظَّالِم المعتدي، أما ترحم وَلَا ترق وَلَا تَسْتَحي من عريب، هِيَ هائمة بك وتحتلم عَلَيْك فِي كل لَيْلَة ثَلَاث مَرَّات؟ قَالَ علوِيَّة: وَكَانَت عريب أحسن النَّاس وَجها وأظرف النَّاس وأفكه، وَأحسن غناء مني وَمن صَاحِبي مُخَارق؛ فَقلت لَهُ: مر حَتَّى أجيء مَعَك. فحين دخلت قلت لَهُ: استوثق من الْأَبْوَاب فَإِنِّي أعرف النَّاس بِفُضُول الْحجاب. فَأمر بالأبواب فأغلقت، وَدخلت فَإِذا عريب جالسة على كرْسِي بَين يَديهَا ثَلَاث قدور زجاج، فَلَمَّا رأتني قَامَت إِلَى فعانقتني وقبلتني وأدخلت لسانها فِي فمي، ثُمَّ قَالَت: مَا تشْتَهي تَأْكُل؟ قلت: قدرا من هَذِه الْقُدُور، فأفرغت قدرا مِنْهَا بيني وَبَينهَا فأكلنا ثُمَّ دعت بالنبيذ فصبت رطلا فَشَرِبت نصفه وسقتني نصفه، فَمَا زلنا نشر حَتَّى سكرنا. ثُمَّ قَالَت يَا أَبَا الْحسن، أخرجت البارحة شعر أَبِي الْعَتَاهِيَة فاخترت مِنْهُ شعرًا، وَقلت: مَا هُوَ؟ قَالَت:؟ وَإِنِّي لمشتاق إِلَى ظلّ صَاحب ... يروق ويصفو إِن كدرت عَلَيْهِ عذيري من الْإِنْسَان لَا إِن جفوته ... صفا لي وَلَا إِن كنت طوع يَدَيْهِ فصيرناه مَجْلِسنَا، فَقَالَت: بَقِي عَليّ فِيهِ شَيْء فأصلحه، قلت: مَا فِيهِ شَيْء، قَالَت: بلَى فِي مَوضِع كَذَا، فَقلت: أَنْت أعلم، فصححناه جَمِيعًا. ثُمَّ جَاءَ الْحجاب فكسروا الْبَاب واستخرجت فأدخلت على الْمَأْمُون، فَأَقْبَلت أرقص من أقْصَى الصحن وأصفق بيَدي وَأغْنِي الصَّوْت، فَسمع وسمعوا مالم يعرفوه فاستظرفوه. فَقَالَ الْمَأْمُون: أدن يَا عُلْوِيَّهُ، فدنوت فَقَالَ: رد الصَّوْت، فرددته سبع مَرَّات، فَقَالَ: أَنْت الَّذِي تشتاق إِلَى ظلّ صَاحب يروق ويصفوا إِن كدرت عَلَيْهِ؟ فَقلت: نعم، فَقَالَ: خُذ مني الْخلَافَة وَأَعْطِنِي هَذَا الصاحب بدلهَا. وسألني عَن خَبره فَأَخْبَرته فَقَالَ: قاتلها الله فَهِيَ أجل أبزارٍ من أَبَا زير الدُّنْيَا.

من الحكم السياسية

من الحكم السياسية أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الأزْهَرِ الْبُوشَنْجِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُبَارَكٌ الطَّبَريّ قَالَ: سَمِعت أَبَا عُبَيْد اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورَ يَقُولُ: الْخَلِيفَة لَا يصلحه إِلَّا التَّقْوَى، وَالسُّلْطَان لَا يصلحه إِلَّا الطَّاعَة، والرعية لَا يصلحها إِلَّا الْعدْل، وَأولى النَّاس بِالْعَفو أقدرهم على الْعقُوبَة، وأنقص النَّاس عقلا من ظلم من هُوَ دونه. فِي وصف الأحمق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عبيد قَالَ، قَالَ الْهَيْثَم بْن عدي قَالَ وهب بْن مُنَبّه: الأحمق إِذا تكلم فضحه حمقه، وَإِذا سكت فضحه عيه، وَإِذا عمل أفسد وَإِذا ترك أضاع. لَا علمه يُغْنِيه، وَلَا علم غَيره يَنْفَعهُ، تود أمه لَو أَنَّهَا ثكلته، وتود امْرَأَته لَو أَنَّهَا عدمته، ويتمنى جَاره مِنْهُ الْوحدَة، وَتَأْخُذ جليسه مِنْهُ الوحشة؛ وَأنْشد لمسكين الدَّارمِيّ فِي ذَلِك: اتَّقِ الأحمق أَن تصحبه ... إِنَّمَا الأحمق كَالثَّوْبِ الْخلق كلما رقعت مِنْهُ جانبًا ... حركته الرّيح وَهنا فانخرق أَو كصدع فِي زجاج فَاحش ... هَل ترى صدع زجاج يتَّفق وَإِذا جالسته فِي مجْلِس ... أفسد الْمجْلس مِنْهُ بالخرق وَإِذا نهنهته كي يرعوي ... زَاد جهلا وَتَمَادَى فِي الْحمق من جاد بِمَالِه وبنفسه فقد جاد بنفسيه قَالَ الْمُعَافَى: وحَدثني أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أبي طَاهِر قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو تَمام حبيب بْن أَوْس الطَّائِي قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن خَالِد الشَّيْبَانِيّ قَالَ، قَالَ يزِيد بن أبي يزِيد الغساني: من جاد بِنَفسِهِ عِنْد اللِّقَاء، وبماله عِنْد الْعَطاء، فقد جاد بنفسيه كليهمَا. طوق بْن مَالك يستزير العتابي حَدثنَا عَبد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أَبِي طَاهِر قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دعامة الشَّاعِر قَالَ: كتب طوق بْن مَالك إِلَى العتابي يستزيره ويدعوه إِلَى أَن يصل الْقَرَابَة بَينه وَبَينه، فَرد عَلَيْهِ: إِن قريبك من قرب مِنْك خَيره، وَإِن عمك من عمك نَفعه، وَإِن عشيرتك من أحسن عشرتك، وَإِن أحب النَّاس إِلَيْك أجداهم بِالْمَنْفَعَةِ عَلَيْك، وَلذَلِك أَقُول: وَلَقَد بلوت النَّاس ثُمَّ سبرتهم ... وخبرت مَا وصلوا من الْأَسْبَاب فَإِذا الْقَرَابَة لَا تقرب قَاطعا ... وَإِذا الْمَوَدَّة أقرب الْأَنْسَاب ويدوى أكبر

المجلس الثامن والخمسون

الْمجْلس الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ خطْبَة لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْن زَكَرِيّا قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي دَاوُدَ عَبدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتَّ عشرَة وَثَمَانمِائَة إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ بِتَلْقِينِ ابْنِهِ أَبِي مَعْمَرٍ إِيَّاهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن سيعدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي فِرَاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِذْ يُنَبِّئُنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَخْبَارِكُمْ، أَلا فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَإِنَّمَا نَعْرِفُكُمْ بِمَا نَقُولُ لَكُمْ: مَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَظْهَرَ مِنْكُمْ شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ. أَسْرَارُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أَرَى أَحَدًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ إِلا مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ أُنَاسًا يقرأون الْقُرْآنَ يُرِيدُونَ بِهِ مَا عِنْدَ النَّاسِ، أَلا فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِقِرَاءَتِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ أَلا وَإِنِّي لَمْ أَبْعَثْ عَلَيْكُمْ عُمَّالا لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ وَلا ليأكلوا أَمْوَالكُم. وَلَكِن بعثتم لِيَحْجُزُوا بَيْنَكُمْ وَيَقْسِمُوا فِيكُمْ فَيْئَكُمْ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَ أحدٍ مِنْهُمْ مَظْلَمَةٌ فَلْيَقُمْ. فَمَا قَامَ أَحَدٌ غَيْرُ رَجُلٍ واحدٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ عَامِلَكَ ضَرَبَنِي مِائَةَ سوطٍ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ لِمَ ضَرَبَهُ فَاعْتَلَّ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُمْ فَاسْتَقِدْ مِنْهُ، فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْ هَذَا عَلَى عُمَّالِكَ كَبُرَ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ سُنَّةً يَأْخُذُ بِهَا من بعْدك، فَقَالَ عمر: أَن رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ، قُمْ فَاسْتَقْدِ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَوْ فَدَعْنَا إِذَنْ فَلْنُرْضِهِ، قَالَ: دُونَكُمْ فَأَرْضَوْهُ. فافتدوا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ قُلْنَا لعطاء يعين ابْنَ عَجْلانَ: وَكَيْفَ أَقَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ؟ قَالَ: أَقْبَلَ مِنْ مِنًى يَزُورُ الْبَيْتَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ عَرَضَ لَهُ إِنْسَانٌ، فَكَرِهَ أَنْ يُوطِئَهُ فَضَرَبَهُ بِمِخْصَرَتِهِ، فَلَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ وَصلى قَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ إِنِّي أَقْبَلْتُ مِنْ مِنًى فَعَرَضَ لِي إِنْسَانٌ فَضَرْبُتُه بِمِخْصَرَتِي، فَإِنْ كَانَ فِي النَّاسِ فَلْيَقُمْ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: أَنَا، فَقَالَ لَهُ رَسُول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَقِدْ فَقَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا رَسُولَ اللَّهِ. تَعْلِيق الْمُؤلف على خطْبَة عمر قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد ضمن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خطبَته هَذِه من الحكم الَّتِي تتقبلها الْعُقُول وَيشْهد بِصِحَّتِهَا الْمَعْقُول مَا فِيهِ أَكثر النَّفْع لمن اسْتمع إِلَيْهِ، وأجرى أمره فِي دينه عَلَيْهِ، وَذكر أَنه يحمل النَّاس فِي مُوَالَاتهمْ ومعاداتهم على مَا أبدوه ويكلهم إِلَى رَبهم عز وَجل فِيمَا أخفوه، ونصح النَّاس فِي مَا أَمرهم بِهِ من أَن يُرِيدُوا الله تَعَالَى بِتِلَاوَة كِتَابه كَمَا كَانَ السّلف الَّذين نزل الْوَحْي بَينهم، وَأخْبر أَنه سَيَأْتِي من يُرِيد بتلاوته النَّاس وحطام الدُّنْيَا، وَيَأْتِي بالتلاوة للسمعة والرياء، وَذكر مَا لم يكن عِنْد أحد مِمَّن سَمعه رد لَهُ وَلَا مرية

تعال فاستقد

فِيهِ من إِنْفَاذه عماله على النَّاس للعدل فيهم وَأَدَاء حُقُوقهم إِلَيْهِم، وَأَنه حكم بِالْقصاصِ مِمَّن جنى مِنْهُم، وبإنصاف مظلومهم من ظالمهم، وَهَا نَحن فِي زمانٍ الْجور فِيهِ ظَاهر غامر، والظالم قاهر، والمظلوم حائر؛ وَأما تِلَاوَة الْقُرْآن فِي زَمَاننَا فَإِن من يتلوه فِيهِ تقربًا إِلَى ربه واعتبارًا بِهِ، وتفكرًا فِي حكمه، وتدبرًا فِي آيَاته، وتفقهًا فِي دينه، فَإِنَّهُ فِي قلته ومهانته وذلته على حد عَظِيم فِي مَنْزِلَته، وَهُوَ بِمَنْزِلَة الكبريت الْحمر فِي عزته، وبمنزلة الشامة الْبَيْضَاء فِي الثور الْأسود، إِذا نظر فِي أمره فِي عدد أَهله، ومعظم من يتلوه فِي وقتنا إِمَّا مباهٍ لأمثاله مفاخر، أَو مبارٍ لأشكاله مُكَاثِر، أَو مستميحًا للحطام والسحت الْحَرَام من ذَوي الْبَغي والضلالة، وَاللَّهْو والبطالة، بالتغني لَهُم بِهِ على الْوَجْه الَّذِي زجر الله تَعَالَى عَنْهُ وَرَسُوله من ألحان اللاهين وترجيع اللعابين، قد جعل ذَلِك لَهُ طعمه واتخذه لنَفسِهِ معيشة، وَدرت عَلَيْهِ الهبات، والعطايا والصلات، من المغرورين، المسحورين مِنْهُم والمفتونين، المطبوع على قُلُوبهم، وتعلقوا عِنْد الْعَامَّة بادعاء التَّأْوِيل فِي الْخَبَر الْوَارِد عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ، وَبِقَوْلِهِ: لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ، فَحَمَلُوهُ على غير وَجهه ووجهوه إِلَى خلاف مَا قصد لَهُ بِهِ، فَكَانُوا فِي تلاوتهم لِلْقُرْآنِ من الَّذين ذكر النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهم يتعجلونه وَلَا يتأجلونه، وَضَلُّوا عَن سَوَاء السَّبِيل فِي مَا يتأولونه. وَقد أَتَيْنَا من الْكَلَام فِي هَذَا الْمَعْنى بِمَا ينْتَفع بِهِ النَّاظر فِيهِ، إِذا وقف على مَعَانِيه، ناصحًا لنَفسِهِ، مشفقًا من خشيَة ربه، فِي كتَابنَا الْمُسَمّى: التَّذْكِير والتحذير وَفِي بعض مَا مضى من مجَالِس كتَابنَا هَذَا وَفِي غَيرهمَا. تعال فاستقد وَمِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْقَصَاصِ الَّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ فِي خُطْبَتِهِ مَا حَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبي حبيب بن بُكَيْرِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ مُسَافِعٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ شَيْئًا إِذَا أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَطَعَنَهُ بِعُرْجُونٍ كَانَ فِي يَدِهِ، فَصَاحَ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاسْتَقِدْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَدْ عَفَوْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا النَّحْوِ كَثِيرٌ، وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَانِ السُّوءِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفَرُّ وَالْمَلْجَأُ، وَغَوْثُهُ الْمَأْمُولُ الْمُرْتَجَى، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. اضْرِب ضربا تقوى عَلَيْهِ حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد الْأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ: ضرب رجل من ذَوي السُّلْطَان رجلا فأوجعه فَقَالَ لَهُ: أصلحك الله اضربني ضربا تقوى عَلَيْهِ فَإِن الْقصاص أمامك.

الأشتر وجيداء

الأشتر وجيداء حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن مُوسَى الْقرشِي ابْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن صَالح الحسني قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن نمير بْن قحيف الْهِلَالِي قَالَ: كَانَ فِي بني هِلَال فَتى يُقَال لَهُ بشر وَيعرف بالأشتر، وَكَانَ سيدًا حسن الْوَجْه شَدِيد الْقلب سخي النَّفس، وَكَانَ معجبًا بِجَارِيَة من قومه تسمى جيداء، وَكَانَت الْجَارِيَة بارعة الْجمال، فاشتهر أمره وأمرها، وَوَقع الشَّرّ بَينه وَبَين أَهلهَا حَتَّى قتلت بَينهم الْقَتْلَى وَكَثُرت الْجِرَاحَات، ثُمَّ افْتَرَقُوا واصطلحوا على أَلا ينزل أحد مِنْهُم بِقرب الآخر، قَالَ نمير بْن قحيف: فَلَمَّا طَال على الأشتر الْبلَاء والهجر جَاءَنِي فِي ذَات يَوْم فَقَالَ: يَا نمير، هَل فِيك من خير؟ قلت: عِنْدِي كل مَا أَحْبَبْت، قَالَ: أسعدني على زِيَارَة جيداء، فقد ذهب الشوق إِلَيْهَا بروحي وتنغصت عَليّ حَياتِي، قلت: بالحب والكرامة، فانهض إِذا شِئْت؛ فَركب وركبتُ مَعَه. فسرنا يَوْمنَا وليلتنا والغد، حَتَّى إِذا أَن قريب من مغرب الشَّمْس نَظرنَا إِلَى مَنَازِلهمْ ودخلنا شعبًا خفِيا فأنخنا راحلتينا وجلين، فَجَلَسَ عِنْد الراحلتين وَقَالَ: يَا نمير اذْهَبْ بِأبي أَنْت وَأمي فَأدْخل الْحَيّ، وَاذْكُر لمن لقيك أَنَّك طَالب ضالةٍ، وَلَا تعرضن بذكري بينب شفةٍ ولسان، فَإِن لقِيت جاريتها فُلَانَة الراعية فأقرها مني السَّلَام، وسلها عَن الْخَبَر وأعلمها بمكاني. فَخرجت لَا أعذر فِي أَمْرِي حَتَّى لقِيت الْجَارِيَة فأبلغتها الرسَالَة وأعلمتها بمكانه وسألتها عَن الْخَبَر، فَقَالَت: هِيَ وَالله مشدد عَلَيْهَا متحفظ مِنْهَا، وعَلى ذَلِك فموعد كَمَا اللَّيْلَة عِنْد تِلْكَ الشجرات اللواتي عِنْد أعقاب الْبيُوت، فَانْصَرَفت إِلَى صَاحِبي فَأَخْبَرته الْخَبَر، ثُمَّ نهضنا نقود راحلتينا حَتَّى جِئْنَا الْموعد، فَلم نَلْبَث إِلَّا قَلِيلا إِذا جيداء قد جَاءَت تمشي حَتَّى دنت منا، فَوَثَبَ إِلَيْهَا الأشتر فصافحها وَسلم عَلَيْهَا وَقمت موليا عَنْهُمَا، فَقَالَا: إِنَّا نقسم عَلَيْك إِلَّا مَا رجعت، فو الله مَا بَيْننَا رِيبَة وَلَا قَبِيح نخلو بِهِ دُونك، فَانْصَرَفت رَاجعا إِلَيْهِمَا حَتَّى جَلَست مَعَهُمَا، فتحدثا سَاعَة، ثُمَّ أَرَادَت الِانْصِرَاف فَقَالَ لَهَا الأشتر: أما فِيك حِيلَة يَا جيداء، فنتحدث ليلتنا ويشكو بَعْضنَا إِلَى بعض؟ قَالَت: وَالله مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل إِلَّا أَن نعود إِلَى الشَّرّ الَّذِي تعلم، قَالَ لَهَا الأشتر: لَا بُد من ذَلِك وَلَو وَقعت السَّمَاء على الأَرْض، قَالَت: هَل فِي صديقك هَذَا من خير أَو مَعَه مساعدة لنا؟ قَالَ: الْخَيْر كُله، قَالَت: يَا فَتى هَل فِيك من خير؟ قلت: سَلِي مَا بدا لَك فَإِنِّي منتهٍ إِلَى رَأْيك وَلَو كَانَ فِي ذَلِك ذهَاب روحي، فَقَامَتْ فنزعت ثِيَابهَا فجعلتها على فلبستها، ثُمَّ قَالَت: انْزعْ ثِيَابك، فخلعتها فلبستها ثُمَّ قَالَت: اذْهَبْ إِلَى بَيْتِي فَادْخُلْ إِلَى خبائي فَإِن زَوجي سيأتيك بعد سَاعَة أَو ساعتين فيطلب إِلَى بَيْتِي فَادْخُلْ إِلَى خبائي فَإِن زَوجي سيأتيك بعد سَاعَة أَو ساعتين فيطلب مِنْك الْقدح ليحلب فِيهِ الْإِبِل فَلَا تعطه إِيَّاه حَتَّى يُطِيل طلبه ثُمَّ ارمه بِهِ رميًا وَلَا تعطه إِيَّاه من يدك فَإِنِّي كَذَلِك كنت أفعل بِهِ، فَيذْهب فيحلب، ثُمَّ يَأْتِيك عِنْد فَرَاغه من الْحَلب والقدح ملآن لَبَنًا فَيَقُول: هاك غبوقك، فَلَا تَأْخُذ

هذا فزدي أنه

مِنْهُ حَتَّى يُطِيل، نكدًا عَلَيْهِ، ثُمَّ خُذْهُ أَو دَعه حَتَّى يَضَعهُ، ثُمَّ لست ترَاهُ حَتَّى يصبح إِن شَاءَ الله، قَالَ: فَذَهَبت فَفعلت مَا أَمرتنِي بِهِ حَتَّى إِذا جَاءَ بالقدح الَّذِي فِيهِ اللَّبن أَمرنِي أَن آخذه فَلم آخذه حَتَّى طَال نكدي عَلَيْهِ، ثُمَّ أهويت لأَخذه وأهوى ليضعه وَاخْتلفت يَدي وَيَده، فانكفأ الْقدح واندفق مَا فِيهِ، فَقَالَ: إِن هَذَا طماح مفرط، وَضرب بِيَدِهِ إِلَى مقدم الْبَيْت فاستخرج مِنْهُ سَوْطًا مفتولا كمتن الثعبان المطوق ثُمَّ دخل عَليّ فهتك السّتْر عني وَقبض بشعري ثُمَّ أتبع ذَلِك السَّوْط متني، فضربني تَمام ثَلَاثِينَ، ثُمَّ جَاءَت أمه وأخوته وَأُخْت لَهُ فانتزعوني من يَده، وَلَا وَالله مَا أقلع حَتَّى زايلني روحي وهممت أَن أوجرة السكين وَإِن كَانَ فِيهِ الْمَوْت فَلَمَّا. خَرجُوا عني وَهُوَ مَعَهم شددت ستري وَقَعَدت كَمَا كنت، فَلم ألبث إِلَّا قَلِيلا حَتَّى إِذا أم جيداء قد دخلت عَليّ تكلمني، فكلمتني وَهِي تحسبني ابْنَتهَا، فأتقيها بالسكات والبكاء، وتغطيت بثوبي دونهَا، فَقَالَت: يَا بنية اتقِي الله رَبك وَلَا تعرضي لمكروه زَوجك، فَذَاك أولى بك، فَأَما الأشتر فَلَا أشتر لَك آخر الدَّهْر. ثُمَّ خرجت من عِنْدِي وَقَالَت: سأرسل إِلَيْك أختك تونسك وتبيت عنْدك اللَّيْلَة، فَلَبثت غير مَا كثير، فَإِذا الْجَارِيَة قد جَاءَت فَجعلت بتكي وَتَدْعُو على من ضَرَبَنِي، وَجعلت لَا أكلمها، ثُمَّ اضطجعت إِلَى جَانِبي، فَلَمَّا اسْتَمْكَنت مِنْهَا شددت بيَدي على فمها وَقلت: يَا هَذِه تِلْكَ أختك مَعَ الأشتر، وَقد قطع ظَهْري اللَّيْلَة فِي سَببهَا، وَأَنت أولى بالستر عَلَيْهَا، فاختاري لنَفسك وَلها، فو الله لَئِن تَكَلَّمت بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شَامِلَة. ثُمَّ رفعت يَدي عَنْهَا فاهتزت الْجَارِيَة كَمَا تهتز القصبة من الزَّرْع، ثُمَّ بَات معي مِنْهَا أَمْلَح رَفِيق رافقته وأعفه وَأحسنه حَدِيثا فَلم تزل تَتَحَدَّث وتضحك مني وَمِمَّا بليت بِهِ من الضَّرْب حَتَّى برق النُّور وَإِذا جيداء قد دخلت علينا من آخر الْبَيْت، فَلَمَّا رأتنا ارتاعت وفزعت وَقَالَت: وَيلك من هَذَا عنْدك؟ قلت: أختك، قَالَت: وَمَا السَّبَب؟ قلت: هِيَ تخبرك، ولعمر الله إِنَّهَا لعالمة بِمَا نزل بِي، وَأخذت ثِيَابِي مِنْهَا ومضيت إِلَى صَاحِبي فَرَكبْنَا وَنحن خائفان فَلَمَّا أطمأننا حدثته بِمَا أصابني وكشفت عَن ظَهْري فَإِذا فِيهِ مَا غرس الله من ضربةٍ إِلَى جَانب أُخْرَى، كل ضَرْبَة تخرج الدَّم وَحدهَا، فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: لقد عظمت صنيعتك وَوَجَب شكرك إِذْ خاطرت بِنَفْسِك فبلغني الله مكافأتك. بكلمةٍ لأصيحن بجهدي حى تكون الفضيحة شَامِلَة. ثُمَّ رفعت يَدي عَنْهَا فاهتزت الْجَارِيَة كَمَا تهتز القصبة من الزَّرْع، ثُمَّ بَات معي مِنْهَا أَمْلَح رَفِيق رافقته وأعفه وَأحسنه حَدِيثا فَلم تزل تَتَحَدَّث وتضحك مني وَمِمَّا بليت بِهِ من الضَّرْب حَتَّى برق النُّور وَإِذا جيداء قد دخلت علينا من آخر الْبَيْت، فَلَمَّا رأتنا ارتاعت وفزعت وَقَالَت: وَيلك من هَذَا عنْدك؟ قلت: أختك، قَالَت: وَمَا السَّبَب؟ قلت: هِيَ تخبرك، ولعمر الله إِنَّهَا لعالمة بِمَا نزل بِي، وَأخذت ثِيَابِي مِنْهَا ومضيت إِلَى صَاحِبي فَرَكبْنَا وَنحن خائفان فَلَمَّا أطمأننا حدثته بِمَا أصابني وكشفت عَن ظَهْري فَإِذا فِيهِ مَا غرس الله من ضربةٍ إِلَى جَانب أُخْرَى، كل ضَرْبَة تخرج الدَّم وَحدهَا، فَلَمَّا رأى ذَلِك قَالَ: لقد عظمت صنيعتك وَوَجَب شكرك إِذْ خاطرت بِنَفْسِك فبلغني الله مكافأتك. قَالَ الكوكبي وحَدثني أَحْمَد بْن جَعْفَر الْمُسْتَمْلِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يُونُس مُحَمَّد بْن نعيم الْوراق حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن صَالح مثله سَوَاء. هَذَا فزدي أَنه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْحَارِث قَالَ، قَالَ أَبُو عبد الله ابْن الْأَعرَابِي: كَانَ حَاتِم الطَّائِي أَسِيرًا فِي عنزة فَقَالَت لَهُ امْرَأَة مِنْهُم يَوْمًا: قُم فافصد لنا هَذِه النَّاقة، وَكَانَ الفصد عِنْدهم أَن يقطع عرق من عروق النَّاقة ثُمَّ يجمع الدَّم

اللغات في أنا

فيشوى، فَقَامَ حَاتِم إِلَى النَّاقة فنحرها فلطمته الْمَرْأَة، فَقَالَ حَاتِم: لَو غير ذَات سوارٍ لطمتني. فَذهب قَوْله مثلا. وَقَالَت لَهُ النسْوَة: إِنَّمَا قُلْنَا لَهُ افصدها، فَقَالَ: هَكَذَا فصدي أَنه. قَالَ أَبُو بكر: يُرِيد أَنا وَهِي لُغَة طَيء. اللُّغَات فِي أَنا قَالَ أَبُو بكر وَبِغير هَذَا الْإِسْنَاد: فِي أَنا أَربع لُغَات: أَنا قَائِم بِإِثْبَات الْألف فِي الْوَصْل، وَأَنا قَائِم بِإِسْقَاط الْألف فِي الْوَصْل، وَأَنا قَائِم بِإِثْبَات الآلن فِي الْوَصْل. وَأَنه بِإِدْخَال هَاء السكت، وَالرَّابِعَة أَخْبَرَنَا بهَا أَبُو الْعَبَّاس عَن بعض النَّحْوِيين عَن الْعَرَب أَن قَائِم بِإِسْكَان النُّون، يُرَاد بهَا أَنا قَائِم، قَالَ الشَّاعِر: أنَا شَيْخ العَشِيرةِ فاعْرِفُونِي ... حميدا قد تذريت السناما فنصب حميدا على الْمَدْح؛ وتذريت مَعْنَاهُ ارْتَفَعت إِلَى ذرْوَة الْحسب، وَذكر السنام مثلا. تعليقات وتوضيحات قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة فِيمَا ذكر يشوون الدَّم مخلوطًا بالوبر ويأكلونه ويسمونه العلهز. وَلما قَالَ حَاتِم: لَو غير ذَات سوارٍ لطمتني فأرسلها مثلا صَارَت كلمة يَقُولهَا الْقَائِل عِنْد عَدو الدَّقِيق الْحسب على من هُوَ فَوْقه، وَحين يهتضم الرفيع ذَا الْقدر من هُوَ دونه. ويروى أَن حاتمًا قَالَ فِي هَذَا الْخَبَر: هَكَذَا فزدي أَنه، وإشمام الصَّاد الساكنة الزَّاي إِذا ولتيها الدَّال لُغَة للْعَرَب مَعْرُوفَة جَيِّدَة قد قَرَأَ بهَا فِي الْقُرْآن عدد من القرأة كَقَوْلِه: يصدفون، ويصدر النَّاس، ويصدر الرعاء. وَالَّذِي رَوَاهُ لنا أَبُو بكر ابْن الْأَنْبَارِي من اللُّغَات فِي أَنا كَمَا رُوِيَ، وَقد قَرَأَهُ بِإِثْبَات الْألف فِي الْوَصْل وَالْوَقْف بعض قرأة الْمَدِينَة فِي مَوَاضِع عدَّة. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا نَافِع بْن عبد الرَّحْمَن. خَالِد بْن صَفْوَان يرد على مفاخر اليمنية حَدثنَا أبحمد بنب الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سعدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو جعفرٍ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن يَعْقُوب بْن دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بْن عديٍ قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس يُعجبهُ السمر ومنازعة الرِّجَال، فحضره ذَات ليلةٍ فِي سمره إِبْرَاهِيم بْن مخرمَة الْكِنْدِيّ وناس من بني الْحَارِث بْن كَعْب، وهم أَخْوَاله، وخَالِد بْن صَفْوَان بْن إِبْرَاهِيم التَّمِيمِي فخاضوا فِي الحَدِيث وتذاكروا مُضر واليمن، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الْيمن هم الْعَرَب الَّذين دَانَتْ لَهُم الدُّنْيَا، وَكَانَت لَهُم الْقرى، وَلم يزَالُوا ملوكًا أَرْبَابًا، ورثوا ذَلِك كَابِرًا عَن كابرٍ وأولا عَن آخر، مِنْهُم النعمانيات والمنذريات والقابوسيات والتبابعة، وَمِنْهُم من حمت لَحْمه الدبر، وَمِنْهُم غسيل الْمَلَائِكَة، وَمِنْهُم من اهتز لمَوْته الْعَرْش، وَمِنْهُم مُكَلم الذِّئْب، وَمِنْهُم الَّذِي كَانَ يَأْخُذ كل سفينة غصبا، وَلَيْسَ شَيْء لَهُ خطر إِلَّا وإليهم ينْسب: من فرس رائع، أَو سيفٍ قَاطع، أَو درعٍ حصينةٍ، أَو حلةٍ مصونةٍ، أَو درةٍ مكنونةٍ،

إِن سئلوا أعْطوا، وَإِن سيموا أَبَوا، وَإِن نزل بهم ضيف قروا، لَا يبلغهم مُكَاثِر، وَلَا ينالهم مفاخر، هم الْعَرَب العاربة وَغَيرهم المتعربة. قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَا أَظن التَّمِيمِي يرضى بِقَوْلِك، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقول يَا خَالِد؟ قَالَ: إِن أَنْت أَذِنت لي فِي الْكَلَام وأمنتني من الموجدة تَكَلَّمت، قَالَ: قد أَذِنت لَك فَتكلم وَلَا تهب أحدا، فَقَالَ: أَخطَأ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ المتقحم بِغَيْر علمٍ، ونطق بِغَيْر صَوَاب، فَكيف يكون مَا قَالَ؟ الْقَوْم لَيست لَهُم ألسن فصيحة، وَلَا لُغَة صَحِيحَة، وَلَا حجَّة نزل بهَا كتاب، وَلَا جَاءَت بهَا سنة، وهم منا على منزلتين: إِن جاروا عَن قصدنا أكلُوا، وَإِن جازوا حكمنَا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات والمنذريات وَغير ذَلِك مِمَّا سنأتي عَلَيْهِ، ونفخر عَلَيْهِم بِخَير الْأَنَام، وَأكْرم الْكِرَام، مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام، وَللَّه عز جلّ علينا الْمِنَّة بِهِ وَعَلَيْهِم، لقد كَانُوا أَتْبَاعه فبه عزوا وَله أكْرمُوا، فمنا النَّبِي المصطفي، وَمنا الْخَلِيفَة المرتضى، وَلنَا الْبَيْت الْمَعْمُور والمسعى وزمزم وَالْمقَام والمنبر والركن والحطيم والمشاعر والحجابة والبطحاء، مَعَ مَالا يخفى من المآثر، وَلَا يدْرك من المفاخر، وَلَيْسَ يعدل بِنَا عَادل، وَلَا يبلغ فضلنَا قَول قَائِل. وَمنا الصّديق والفاروق وَالْوَصِيّ وَأسد الله سيد الشُّهَدَاء، وَذُو الجناحين وَسيف الله، عرفُوا الدَّين وأتاهم الْيَقِين، فتمن زاحمنا زحمناه، وَمن عَادَانَا اصطلمناه. ثُمَّ الْتفت فَقَالَ: أعالم أَنْت بلغَة قَوْمك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَمَا اسْم الْعين؟ قَالَ: الجحمة قَالَ: فَمَا اسْم السن؟ قَالَ: الميزم. قَالَ: فَمَا اسْم الْأذن؟ قَالَ: الصنارة، قَالَ: فَمَا اسْم الْأَصَابِع؟ قَالَ الشناتر، قَالَ: فَمَا اسْم الْأذن؟ قَالَ: الزب، قَالَ: فَمَا اسْم الذِّئْب؟ قَالَ: الكتع، قَالَ فَقَالَ لَهُ: أفمؤمن أَنْت بِكِتَاب الله تَعَالَى؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فَإِن الله تَعَالَى يَقُول: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " يُوسُف: 2 وَقَالَ: " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " الشُّعَرَاء:195 وَقَالَ: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ " إِبْرَاهِيم:4 فَنحْن الْعَرَب وَالْقُرْآن بلساننا نزل؛ ألم تَرَ أَن الله عز وَجل قَالَ: " وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ " الْمَائِدَة:45 وَلم يقل: الجحمة بالجحمة. وَقَالَ: " وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ " الْمَائِدَة: 45 وَلم يقلك الميزم بالميزم وَقَالَ جلّ اسْمه " وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ " الْمَائِدَة:45 وَلم يقل الصنارة بالصنارة. وَقَالَ: " يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ " الْبَقَرَة:19 وَلم يقل شناترهم فِي صناراتهم وَقَالَ تَعَالَى: " لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي " طه: 94 وَلم يقل لَا تَأْخُذ بزبي. وَقَالَ: " فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ " يُوسُف: 17 وَلم يقل فَأَكله الكتع. ثُمَّ قَالَ: أَسأَلك عَن أَربع إِن أَنْت أَقرَرت بِهن قهرت وَإِن جحدتهن كفرت. قَالَ: وَمَا هن؟ قَالَ: الرَّسُول منا أَو مِنْكُم؟ قَالَ: مِنْكُم، قَالَ: وَالْقُرْآن نزل علينا أَو عَلَيْكُم؟ قَالَ: عَلَيْكُم، قَالَ: فالبيت الْحَرَام لنا أَبُو لكم؟ قَالَ: لكم، قَالَ: فالخلافة فِينَا أَو فِيكُم؟ قَالَ فِيكُم. قَالَ خَالِد فَمَا كَانَ بعد هَذِه الْأَرْبَع فلكم.

المجلس التاسع والخمسون

الْمجْلس التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ رَائِحَة عتبَة بْن فرقد أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى الْحُلْوَانِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبَّادٍ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَاصِمٍ امْرَأَةُ عُتْبَةَ بْنِ فرقدٍ قَالَتْ: كُنَّا عِنْدَ عُتْبَةَ نِسْوَةً نَتَطَيَّبُ فَيَخْرُجُ وَهُوَ أَطْيَبُنَا رِيحًا، مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَدَّهِنَ، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: أَخَذَنِي الشَّرَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَلْبَسَ عَلَيَّ ثَوْبًا، قَالَ: يَعْنِي يُغَطِّي فَرْجَهُ، ثُمَّ تَفَلَ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرِي وَبَطْنِي. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَهَذَا مِمَّا أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ فَضَائِلِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَآيَاتِهِ وَخَصَائِصِهِ وَبَرَكَاتِهِ، وَنَحْنُ نَرْجُو إِذْ هَدَانَا إِلَى الإِيمَانِ بِهِ أَنْ نَصِلَ إِلَى شَرِيفِ الْمَنْزِلَةِ بَعْدَ الْبَعْثِ بِبَرَكَتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ. بَين مُعَاوِيَة وَابْن الزبير حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ حبيبٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: آدِنِي عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَدْ تَزَايَدَ خَطَلُهُ، وَذَهَبَ بِهِ جَهْلُهُ إِلَى غايةٍ تَقْصُرُ عَنْهَا الأَنْوُقُ، وَدُونَ قَرَارِهَا الْعَيُّوقُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَأْتِينِي يَغْلِي جَوْفُهُ غَلْيَ الْمِرْجَلِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَاكَ عَنْ فرارٍ مِنْهُ وَلا جبنٍ عَنْهُ، وَلَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي لَسْتُ بِالْفَهِّ الْكَهَامِ وَلا بِالْهِلْبَاجَةِ النَّثِرِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِنَّكَ لَتُهَدِّدُنِي وَقَدْ عَجَزْتَ عَنْ غلامٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ يُبِرْ فِي سباقٍ وَلا ضَرَبَ فِي سِيَاقٍ، وَإِنْ شِئْتَ خَلَّيْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا مِثْلِي يُهَارَشُ بِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَكَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ وَمِنْ سَاكِنِي الْحَجُونِ وَالآطَامِ مَنْ إِنْ سَأَلْتَ حَمَلَكَ عَلَى محجةٍ أَبْيَنَ مِنْ ظَهْرِ الْجَفِيرِ، قَالَ: وَمَنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: هَذَا، يَعْنِي أَبَا الْجَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمْ يَا أَبَا الْجَهْمِ. فَقَالَ: أَعْفِنِي، قَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَقُولَنَّ، قَالَ: نِعْمَ أُمُّكَ هِنْدٌ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بكرٍ، وَأَسْمَاءُ خَيْرٌ مِنْ هِنْدٍ، وَأَبُوكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ أَبُو سُفْيَانَ مِثْلَ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَكَ وَأَمَّا الآخِرَةُ فَلَهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. شرح النَّص السَّابِق قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول ابْن الزُّبَيْر لمعاوية: آدني على الْوَلِيد مَعْنَاهُ أعدني، وَزعم بَعضهم أَن فلَانا يستأدي على فلَان أفْصح من يَسْتَعْدِي، وهما عِنْدِي سَوَاء. وَقد رُوِيَ أَن رجلا قَالَ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعدني على رجل من أَصْحَابك، وَقَوله: يقصر عَنْهَا الأنوق، يَعْنِي الرخم وَهُوَ يرتاد لبيضه شوامخ الْجبَال وَحَيْثُ يبعد متناوله وَيخْفى مَكَانَهُ، فَلَا يكَاد إِنْسَان يجده أَو يصل إِلَيْهِ، وَالْعرب تضرب الْمثل فِي من طلب مَا يعز وجوده ويتعذر إِدْرَاكه ونيله فَيَقُولُونَ:

إِنَّه يطْلب بيض الأنوق. وَقد رُوِيَ لنا أَن رجلا سَأَلَ مُعَاوِيَة حَاجَة معتاصة مستثقلة فَرده عَنْهَا، فَسَأَلَهُ حَاجَة هِيَ أيسر مِنْهَا إِلَّا أَن فِيهَا استصعابًا، فَقَالَ مُعَاوِيَة: طلب الأبلق العقوق فَلَمَّا ... لم ينله أَرَادَ بيض الأنوق والأبلق: الْفرس، والعقوق: ذَات الْحمل، وَذَلِكَ فِي الذّكر مُسْتَحِيل. وبيض الأنوق مَا فسرنا؛ فَلَمَّا طلب هَذَا الرجل أمرا مستبعدًا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، ثُمَّ طلب مَا ينَال على صعوبةٍ لما منع مَا لَا مطمع لَهُ فِيهِ، ضرب مُعَاوِيَة هَذَا الْبَيْت مثلا لَهُ. وَهَذَا من الْمِثَال الْقَرِيب والتشبيه الْمُصِيب. وَأما العيوق فنجم عالٍ مَعْرُوف. وَأما قَوْله: لست بالفه: فَمَعْنَى الفهاهة فِي الْكَلَام مَا يَأْتِي على غير استقامةٍ، وَيُقَال: أَتَى فلَان فِي قَوْله بفهةٍ، أَي بقولٍ ساقطٍ فِي لَفظه وَمَعْنَاهُ. وَأما الكهام فالكليل، يُقَال: سيف كهام إِذا كَانَ نابيًا كليلا. وَأما الهلباجة فالأحمق. وَأما النثر فذو الرَّأْي السخيف واللب الضَّعِيف. كَمَا قَالَ الشَّاعِر: هذريان هذر هذاءة ... موشك السقطة ذولب نثر وَأما قَول مُعَاوِيَة: لم يبر فِي سباق: أَي لم يسْبق مجاريًا فيفضله وَيظْهر غلبته إِيَّاه، يُقَال: أبر فلَان على فلانٍ إِذا غَلبه وَزَاد فِي الْفضل عَلَيْهِ، يبر إبرارًا فَهُوَ مبر، كَمَا قَالَ ذُو الرمة يمدح بِلَال بْن أَبِي بردة: أبر على الْخُصُوم فَلَيْسَ خصم ... وَلَا خصمان يغلبه جدالا وَلبس بَين أقوامٍ فَكل ... أعد لَهُ الشغازب والمحالا قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: الشغازب: جمع شغزبةٍ وَأَصله أَن يدْخل الرجل رجله بَين رجْلي الرجل فيصرعه، يُقَال: صرعه شغزبية. والمحال الكيد وَالْمَكْر، من قَول الله تَعَالَى: " وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ " الرَّعْد:13 وَأما قَوْله: وَلَا ضرب فِي سِيَاق فَمَعْنَاه أَنه لم يرض فيحتنك وَلم يُؤْخَذ بالتثقيف ولذع التَّأْدِيب فتستحكم عزيمته وتستحصد مرته. وَأما قَول ابْن الزُّبَيْر: " من سَاكِني الْحجُون والآطام ": فَإِن الْحجُون مَوضِع بِمَكَّة مَعْرُوف وإياه عني الشَّاعِر بقوله: كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصَّفَا ... أنيس وَلم يسمر بِمَكَّة سامر وَقَالَ آخر: هيجتني إِلَى الْحجُون شجون ... ليته قد بدا لعَيْنِي الْحجُون وَأما الْآطَام فَإِنَّهَا جمع أَطَم، وَالْعرب تسمي مَا كَانَ من الْبيُوت مربعًا كَعبه، وَمَا كَانَ مدورًا أطمًا. وَأما الجفير فَإِنَّهُ الكنانة، وَجمعه جفر، قَالَ الشماخ: وَخفت نَوَاهَا من جنوبٍ عنيزةٍ ... كَمَا خف من نبل المرامي جفيرها وَحكى أَبُو عُبَيْدَة عَن أَبِي عَمْرو: الكنانة جعبة السِّهَام، والكنانة هِيَ الوفضة وَجَمعهَا وفاض؛ الْكسَائي مثله؛ الْأَحْمَر: الجفير والجشير جَمِيعًا الوفضة أَيْضا.

ابن أبي دواد يخرج عينا على المعتصم

ابْن أبي دواد يخرج عينا على المعتصم حَدثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات قَالَ: كُنَّا لَيْلَة فِي دَار أَبِي الصَّقْر إِسْمَاعِيل بْن بلبل فَوَافى يَعْقُوب بْن إِسْحَاق الصَّائِغ برسالةٍ من أَبِي الْقَاسِم عُبَيْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان فِي حاجةٍ لَهُ، فَجَلَسَ مَعنا إِلَى أَن يُؤذن لَهُ على أَبِي الصَّقْر، فَجرى ذكر أَحْمَد بن أبي دوادٍ فَكل حدث عَنْهُ وَعَن أَيَّامه بِشَيْء. فحدثنا يَعْقُوب بْن الصَّائِغ قَالَ: لما وَجه الْمَأْمُون بِأبي إِسْحَاق المعتصم إِلَى مصر وَعقد لَهُ من بَاب الأنبار إِلَى أقْصَى الْمغرب قَالَ ليحيى بْن أَكْثَم: يَنْبَغِي أَن ترتاد لي رجلا حصيفًا لبيبًا لَهُ علم وَأَمَانَة وثقة أنفذه مَعَ أَبِي إِسْحَاق، وأوليه الْمَظَالِم فِي أَعماله، وأتقدم إِلَيْهِ سرا بمكاتبتي سرا بأخباره وَمَا تجْرِي عَلَيْهِ أُمُوره، وَبِمَا يظْهر ويبطن، وَمَا يرى من أَمر قواده وخاصته، وَكَيف تَدْبيره فِي الْأَمْوَال وَغَيرهَا، فَإِنِّي لست أَثِق بأحدٍ مِمَّن يتَوَلَّى الْبَرِيد، وَمَا أحب أَن أجشمه بتقليد صَاحب الْبَرِيد عَلَيْهِ فَيكون معتمدي عَلَيْهِ وَتَكون كتبه سَرِيَّة إِلَيْك لتقرئني إِيَّاهَا إِذا وَردت، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْدِي رجل من أَصْحَابِي أَثِق بعقله وَدينه ورأيه وأمانته وَصدقه ونزاهته. فَقَالَ: جئني بِهِ فِي يَوْم كَذَا وَكَذَا، فَصَارَ يحيى بْن أَكْثَم بأَحْمَد بْن أبي دوادٍ إِلَى الْمَأْمُون فِي الْيَوْم الَّذِي حَده لَهُ. فَكَلمهُ الْمَأْمُون فَوَجَدَهُ فهما راحجاً، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيد إنفاذك مَعَ أخي أَبِي إِسْحَاق، وَأُرِيد أَن تكْتب بأخباره سرا، وتتفقد أَحْوَاله ومجاري أُمُوره وتدبيراته وَخبر خاصته وخلواته، وتنفذ كتبك بذلك إِلَى يحيى بْن أَكْثَم مَعَ ثقاتك وَمن تأمنه على دمك، فَإِنِّي أشهر أَمرك بتقليد الْمَظَالِم فِي عسكره، وأتقدم إِلَيْهِ بمشورتك والأنس بك. فَقَالَ لَهُ أَحْمَد: أبلغ لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي ذَلِك فَوق مَا قدرته عِنْدِي وَبِي، وأنتهي إِلَى مَا يُرْضِي أَمِير الْمُؤمنِينَ ويزلف عِنْده. فَجمع الْمَأْمُون بَين أَحْمَد بْن أبي دوادٍ وَبَين المعتصم وَقَالَ لَهُ: إِنَّك تشخص فِي هَذَا الْعَسْكَر وَفِيه أوباش النَّاس وجند وعجم وأخلاط من الرّعية، وَلَا بُد لعسكرك من صَاحب مظالم يكون فِيهِ لينْظر فِي أُمُور النَّاس، وَقد اخْتَرْت لَك هَذَا الرجل فضمه إِلَيْك وَأحسن صحبته وعشرته؛ فَأَخذه المعتصم مَعَه، فَلَمَّا بلغُوا الأنبار وافت كتب أَصْحَاب الْبَرِيد بموافاة المعتصم الأنبار، فَقَالَ الْمَأْمُون ليحيى: ترى مَا كَانَ من بَغْدَاد إِلَى الأنبار خبر يكْتب بِهِ صَاحبك إِلَيْك؟ قَالَ فَقَالَ يحيى: لَعَلَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يحدث خبر تحسن الْمُكَاتبَة بِهِ؛ وَكتب يحيى إِلَى أَحْمد يعنفه ويستبطئه ويخبره أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أنكر تَأَخّر كِتَابه. فَلَمَّا ورد الْكتاب على أَحْمَد ووقف على مَا فِيهِ احتفظ بِهِ وَلم يجب عَنْهُ؛ وشخص المعتصم حَتَّى وافي الرحبة وَلم يكْتب أَحْمَد بِحرف واحدٍ من أَخْبَار المعتصم الَّتِي تقدم إِلَيْهِ فِيهَا. وَكتب أَصْحَاب الْبَرِيد بموافاة المعتصم الرحبة وأخبار عسكره، فَدَعَا الْمَأْمُون يحيى بْن أَكْثَم فَقَالَ: يَا أسخن الله عَيْنك، عجبت أَن تخْتَار إِلَّا من

هَذِه سَبيله، تخْتَار لي وَيحك رجلا تصفه بِكُل الصِّفَات فأتقدم إِلَيْهِ بِمَا كنت حاضره، فَلَا يكْتب من بَغْدَاد إِلَى أَن يوافى الرحبة إِلَيْك كتابا فِي معنى مَا أعْتَمد عَلَيْهِ فِيهِ:؟! قَالَ: فَكتب يحيى إِلَى أَحْمَد كتابا أغْلظ لَهُ المخاطبة وأسمعه فِيهِ الْمَكْرُوه وَيَقُول لَهُ: إِنَّمَا أشخصناك لما تقدمنا بِهِ إِلَيْك، وَأَنا إِنَّمَا أظهرنَا تقليدك الْمَظَالِم ليتيسر مَا أمرت بِهِ، فَمَا هَذِه الْغَفْلَة وَمَا هَذَا الْجَهْل بِمَا يُرَاد مِنْك؟ فورد الْكتاب على أَحْمَد فقرأه واحتفظ بِهِ، وَسَار المعتصم من الرحبة حَتَّى وافى الرقة، فَدَعَا الْمَأْمُون بِيَحْيَى فَقَالَ لَهُ: يَا سخين الْعين، هَذَا مِقْدَار رَأْيك وعقلك؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون غررتني مُعْتَمدًا، وأوطأتني العشوة قصدا أَولا فتجيئني بِرَجُل تعلم موقعه عنْدك وتطلعني على الْوُقُوف عَلَيْهِ فتصفه وتقرظه حَتَّى أودعته سرا من أسراري وأمرًا أقدمه على كل أموري، فَمضى من مَدِينَة السَّلَام إِلَى ديار مصر فَلم يكْتب يحرفٍ مِمَّا أَمر بِالْكتاب بِهِ؟! فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من يعْمل بِغَيْر مَا يُؤَدِّي إِلَى محبتك ويقود إِلَى إرادتك فأذاقه الله بأسك، وَألبسهُ نكالك، وصب عَلَيْهِ عذابك. وَكتب إِلَى أَحْمَد كتابا يشْتَمل على كل إيعاد وإرهابٍ وتخويف وتحذير، وخاطبه بأوحش مخاطبةٍ وأنكلها، فورد الْكتاب على أَحْمَد فقرأه واحتفظ بِهِ. وَأمر الْمَأْمُون عَمْرو بْن مسْعدَة أَن يكْتب إِلَى أَبِي إِسْحَاق المعتصم كتابا يَأْمُرهُ فِيهِ بالبعثه بأَحْمَد بْن أبي دواد مشدودة يَده إِلَى عُنُقه، مُثقلًا بالحديد، مَحْمُولا على غير وطاء. فورد الْكتاب على المعتصم، وَدخل أَحْمد بن أبي دواد إِلَيْهِ وَهُوَ بالرقة مَا جاوزها، فَرَأى المعتصم كئيبًا مغمومًا، فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير أَرَاك متغيرًا وَأرى لونك حَائِلا، فَقَالَ: نعم لكتابٍ ورد عَليّ من أَجلك، ونبذ إِلَيْهِ بِالْكتاب فقرأه أَحْمَد، فَقَالَ لَهُ المعتصم: تعرف لَك ذَنبا يُوجب مَا كتب بِهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: مَا اجترمت ذَنبا، إِلَّا أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يسْتَحل هَذَا مني إِلَّا بحجةٍ، فَمَا الَّذِي عِنْد الْأَمِير فِيمَا كتب بِهِ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يُخَالف لكني أعفيك من الغل وَالْحَدِيد، أحملك إِلَيْهِ على حَال لَا توهنك وَلَا تؤلمك وأوجه بك مَعَ غلامٍ من غلماني أتقدم إِلَيْهِ فِي ترفيهك وَأَن لَا يعسفك، فَقَالَ: جَزَاك الله أَيهَا الْأَمِير أفضل مَا جازى منعمًا، فَإِن رأى الْأَمِير أَن يَأْذَن لي فِي الْمصير إِلَى منزلي وَمَعِي من يراعيني إِلَى أَن يردني إِلَى مجْلِس الْأَمِير فيأمر بأَمْره فعل، فَقَالَ لَهُ: امْضِ؛ وَوجه مَعَه خَادِمًا من خدمه، فَصَارَ أَحْمَد إِلَى منزله واستخرج الْكتب الثَّلَاثَة الَّتِي كَاتبه بهَا يحيى بْن أَكْثَم وهم بالأنبار، وَالْكتاب الَّذِي ورد وهم بالرحبة، وَالْكتاب الَّذِي ورد وهم بالرقة، وَرجع إِلَى المعتصم فَأَقْرَأهُ الْكتاب الأول ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِث وَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بعثت لأكتب بأخبارك وأتفقد أحوالك وأكاتب يحيى بذلك ليقرأه على أَمِير الْمُؤمنِينَ فخالفت ذَلِك لما رجوته من الحظوة عنْدك وَلما أملته فِي غدك. فاستشاط المعتصم غَضبا وَكَاد يخرج من ثِيَابه غيظاً وَتكلم فِي يحيى بِكُل مَكْرُوه وتوعده بِكُل بلاءٍ وَقَالَ: ويلي على

لا ينقص الكامل نفع عياله

البقار البليد السَّرَاوِيل، وَقَالَ لأَحْمَد: يَا هَذَا لقد رعيت لنا رِعَايَة لم يتقدمها إحساننا إِلَيْك وحفظت علينا مَا نرجو أَن نَتَّسِع، لمكافأتك عَلَيْهِ ومعاذ الله أَن أسلمك أَو أفرج عَنْك أَو تنالك يَد ولي قدرَة على منعهَا مِنْك، أَو أوثر خَاصَّة وحميمًا عَلَيْك مَا أمتد بِي عمر أَو تراخي بِي أجل، فَكُن معي فأمرك نَافِذ فِي كل مَا ينفذ فِيهِ أَمْرِي؛ وَلم يجب الْمَأْمُون على كِتَابه، فَلم يزل مَعَه إِلَى أَن ولي الْخلَافَة وَإِلَى أَن ولي الواثق وَإِلَى أَيَّام المتَوَكل، فأوقع بِهِ. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول الْمَأْمُون ليحيى: أوطأتني العشوة يُقَال فِيهَا: العشوة والعشوة. وَقَالَ بعض عُلَمَاء اللُّغَة: الضَّم فِيهَا أفْصح اللُّغَات. لَا ينقص الْكَامِل نفع عِيَاله حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن مُحَمَّد قَالَ: رأى رجل مُحَمَّد بْن كناسَة يحمل بِيَدِهِ بطن شاه فَقَالَ لَهُ: أَنا أحملهُ لَك فَقَالَ: لَا نقص الْكَامِل من كَمَاله ... مَا جر من نفع إِلَى عِيَاله شعر لعريب حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو العيناء قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن حَامِد قَالَ: لما توفّي عمي مُحَمَّد بْن حَامِد وَهُوَ الَّذِي كَانَت عريب تحبه صَار أَبِي إِلَى منزله لينْظر إِلَى تركته فَأخْرج إِلَيْهِ سفط مختوم، فَإِذا فِيهِ رقاع عريب، فَجعل يتصفحها ويضحك، فَأخذت مِنْهَا رقْعَة فَإِذا فِيهَا شعر لَهَا: ويلي عَلَيْك ومنكا ... أوقعت فِي الْقلب شكا زعمت أَنِّي خؤون ... جورا عَليّ وإفكا وَلم يكن ذَاك مني ... إِلَّا مجونًا وفتكا إِن كَانَ مَا قلت حَقًا ... أَو كنت حاولت تركا فأبدل الله قلبِي ... بفتكة الْحبّ نسكا الرشيد وَلحم الْجَزُور حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن زِيَاد والمقري قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَة الشَّامي عَن إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي أَنه كَانَ يتغدى مَعَ الرشيد فِي يَوْم شاتٍ، وَأَن الرشيد سَأَلَ صَاحب المطبخ: هَل عِنْده برمة من لحم الْجَزُور؟ فَأعلمهُ أَن عِنْده عدَّة ألوان مِنْهُ، فَأمر بإحضار مَا عِنْده مِنْهُ، فَقدمت إِلَيْهِ صَحْفَة وَمد يَده إِلَى لقْمَة مِنْهَا فَأدْخلهَا فِي فِيهِ، فَلَمَّا حرك لحييْهِ عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ ضحك جَعْفَر بْن يحيى، فَسَأَلَهُ الرشيد عَن سَبَب ضحكه، وَأمْسك عَن المضغ، فَقَالَ: ذكرت كلَاما دَار بيني وَبَين جاريتي البارحة فَضَحكت مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الرشيد: هَذَا محَال، فَأَخْبرنِي عَن السَّبَب بحقي عَلَيْك، فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: إِذا ابتلع أَمِير الْمُؤمنِينَ لقمته حدثته السَّبَب، فَأخْرج لقمته من فِيهِ وَأَلْقَاهَا تَحت

الْمَائِدَة، فَلَمَّا فعل ذَلِك قَالَ لَهُ جَعْفَر بكم يتَوَهَّم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَلْقَاهَا تَحت الْمَائِدَة، فَلَمَّا فعل ذَلِك قَالَ لَهُ جَعْفَر: بكم يتَوَهَّم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن هَذَا اللَّوْن يقوم عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لَهُ الرشيد: أتوهمه يقوم عَليّ بأَرْبعَة آلَاف دِرْهَم، فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: وَالله إِن هَذَا اللَّوْن ليقوم عَلَيْك بِأَرْبَع مائَة ألف دِرْهَم، فَقَالَ: وَكَيف وَيحك؟ فَقَالَ جَعْفَر: سَأَلَ أَمِير الْمُؤمنِينَ صَاحب المطبخ مُنْذُ أَكثر من أَربع سِنِين عَن برمةٍ من لحم الْجَزُور فَأخْبرهُ أَنه لم يتخذها، فَأنْكر ذَلِك على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقَالَ: لَا يفت مطبخي لون يتَّخذ من لحم الْجَزُور فِي كل يَوْم، فَأَنا مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم أنحر جزورًا فِي كل يومٍ لِأَن الْخُلَفَاء لَا يبْتَاع لَهُم لحم الْجَزُور من السُّوق، وَلم يدع أَمِير الْمُؤمنِينَ بشيءٍ من لَحمهَا إِلَى يَوْمه هَذَا. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانَ الرشيد فِي أول طَعَامه وَلم يكن أكل إِلَّا ملهوجة وَاحِدَة، وَكَانَ أَشد خلق الله تقززاً، فَصعِقَ حِين قَالَ لَهُ جَعْفَر مَا قَالَ، وَضرب بِيَدِهِ الْيُمْنَى وفيهَا الْغمر وَجهه وَمد بهَا لحيته ثُمَّ قَالَ: هَلَكت وَيلك يَا هَارُون، واندفع يبكي، وَأمر بِرَفْع الْمَائِدَة وطفق يبكي حَتَّى أُذُنه المؤذنون بِصَلَاة الظّهْر، ألف ألف دِرْهَم وَأَن يفرق فِي كل جَانب من جانبٍ من جَانِبي بَغْدَاد خَمْسمِائَة ألف دِرْهَم وَأَن يفرق فِي كل مدينةٍ من الْكُوفَة وَالْبَصْرَة خَمْسمِائَة ألف درهمٍ، وَقَالَ: لَعَلَّ الله تَعَالَى أَن يغْفر لي هَذَا الذَّنب. وَقَامَ يُصَلِّي الظّهْر، ثُمَّ عَاد فِي مَكَانَهُ فَلم يزل باكيًا حَتَّى أُذُنه المؤذنون بِصَلَاة الْعَصْر وَقَامَ فصلى: وَعَاد لمكانه إِلَى أَن قرب مَا بَين صَلَاة الْعَصْر وَالْمغْرب، فَأخْبرهُ الْقَاسِم بن الرّبيع مَوْلَاهُ أَن أَبَاهُ يُوسُف القَاضِي بِالْبَابِ فَأمره بإدخاله، فَدخل وَسلم فَلم يرد عَلَيْهِ وَأَقْبل يَقُول: يَا يَعْقُوب هلك هَارُون، فَسَأَلَهُ يَعْقُوب عَن الْقِصَّة فَقَالَ: يُخْبِرك جَعْفَر بهان وَعَاد لبكائه. وَحضر جَعْفَر فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُف عَن الْقِصَّة فَقَالَ: يُخْبِرك جَعْفَر بهَا، وَعَاد لبكائه. وَحضر جَعْفَر فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُف عَن الْقِصَّة وَالسَّبَب الْمخْرج للرشيد إِلَيّ مَا خرج إِلَيْهِ، فحدثه جَعْفَر عَن الْجَزُور الَّتِي كَانَت تنحر فِي كل يَوْم طول تِلْكَ الْمدَّة ومبلغ مَا أنْفق فِي أثمانها من الْأَمْوَال، فَقَالَ لَهُ أَبُو يُوسُف: أَخْبرنِي عَن هَذِه الْإِبِل الَّتِي كَانَت تبْتَاع بِهَذِهِ الدَّرَاهِم هَل كَانَت تتْرك إِذا نحرت حَتَّى تفْسد، وَلَا تُؤْكَل لحومها حَتَّى تنتن فَيرمى بهَا؟ قَالَ جَعْفَر: اللَّهُمَّ لَا، قَالَ أَبُو يُوسُف: فَكَانَ يصنع بهَا مَاذَا؟ قَالَ: يأكلها الحشم والموالي وعيال أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: الله أكبر الله أكبر، أبشر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بالثواب الجزيل من الله عز وَجل على نَفَقَتك، وأبشر بِثَوَاب الله تَعَالَى على مَا فتح لَك من الصَّدَقَة فِي يَوْمك هَذَا، وَمن الْبكاء للتقية من رَبك، فَإِنِّي لأرجو يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن لَا يُرْضِي الله تَعَالَى من ثَوَابه على مَا قد داخلك من الْخَوْف من سخطه عَلَيْك إِلَّا الْجنَّة، فَإِنَّهُ يَقُول تَعَالَى: " وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ " الرَّحْمَن: 46 وَأَنا أشهد بِاللَّه تَعَالَى أَنَّك خفت مقَام رَبك، فَسرِّي عَن الرشيد وَطَابَتْ نَفسه وَوصل أَبَا يُوسُف بأربعمائة ألف دِرْهَم، ثُمَّ صلى الْمغرب ودعا بطعامه فَأكل، فَكَانَ غداؤه فِي الْيَوْم عشاءه.

المجلس الستون

الْمجْلس السِّتُّونَ بَايعنَا الرَّسُول على السّمع وَالطَّاعَة حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الْبَزَّازُ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي مذعورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن إِدْرِيس، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَجْلانَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عُبَادَةُ أَنَّهُمْ بَايَعُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ وَالْمُبَايَعَةِ عَلَيْهِ، فَأَدَّاهُ عَنْ رَبِّهِ وَقَامَ للَّهِ تَعَالَى فِيهِ بِحَقِّهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا وَيُعِينَنَا عَلَيْهِ، وَيَعْصِمَنَا مِنَ الزَّيْغِ عَنْهُ وَالتَّفْرِيطِ فِيهِ، ونرجوا إِجَابَتَهُ دُعَاءَنَا إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. بَين الْعَبَّاس بْن مرداس وخفاف حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ذَكَرَتْ بَنو سليم أَن الْعَبَّاس يعين ابْنَ مِرْدَاسٍ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي خفافٍ، قَالَ فَقَالَ فِي مجمعٍ مِنْ قَوْمِهِ: جَزَى اللَّهُ خُفَافًا وَالرَّحِمَ عَنِّي شراٍ، كُنْتُ أَخَفَّ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ دِمَائِهِمْ ظَهْرًا، وَأَخْمَصَهُمْ مِنْ أَذَاهَا بَطْنًا، فَأَصْبَحْتُ ثَقِيلَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَائِهَا، مُنْفَضِجَ الْبَطْنِ مِنْ أَذَاهَا وَأَصْبَحَتِ الْعَرَبُ تُعَيِّرُنِي بِمَا كَانَ مِنِّي، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ أَصَمَّ عَنْ هِجَائِهِ، أَخْرَسَ عَنْ جَوَابِهِ وَلَمْ أَبْلُغْ مِنْ قَوْمِي مَا بَلَغْتُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي كَرِهْتُ الْحُرُوبَ ... وَأَنِّي نَدِمْتُ عَلَى مَا مَضَى نَدَامَةَ زارٍ عَلَى نَفْسِهِ ... وَتِلْكَ الَّتِي عَارُهَا يُتَّقَى وَأَيْقَنْتُ أَنِّي بِمَا جِئْتُهُ ... مِنَ الأَمْرِ لابس ثوبي خَزًّا حَيَاءً وَمِثْلِي حَقِيقٌ بِهِ ... وَلَمْ يَلْبَسِ النَّاسُ مِثْلَ الْحَيَا وَكَانَتْ سُلَيْمٌ إِذَا قَدَّمَتْ ... فَتًى لِلْحَوَادِثِ كُنْتُ الْفَتى وَكُنْتُ أَفِيءُ عَلَيْهَا النِّهَابَ ... وَأُبْلِي عَلَيْهَا وَأَحْمِي الْحِمَى وَلَمْ أُوقِدِ الْحَرْبَ حَتَّى رَمَى ... خُفَافٌ بِأَسْهُمِهِ مَنْ رَمَى فَأَلْهَبْتُ حَرْبًا بِأَصْبَارِهَا ... وَلَمْ أَكُ فِيهَا ضَعِيفَ الْقُوَى قَالَ الْقَاضِي: الأَصْبَارُ: النَّوَاحِي. فَإِنْ تَعْطِفِ الْيَوْمَ أَحْلامُهَا ... وَيَرْجِعْ مِنْ وُدِّهَا مَا نَأَى فَلَسْتُ فَقِيرًا إِلَى حَرْبِهَا ... وَلا بِي عَنْ سَلْمِهَا مِنْ غَنَى

شرح النص

فَلَمَّا بَلَغَتْ خُفَافًا قَالَ: عَرَفَ وَاللَّهِ الْعَبَّاسُ خَطَأَ مَا رَكِبَ، الآنَ لَمَّا فَدَحَتْهُ الْحَرْبُ وَاحْتَمَلَ ثِقَلَ الدِّمَاءِ أَنْشَأَ يُظْهِرُ النَّدَامَةَ، لَا وَاللَّهِ مَا اخْتَلَفَتِ الدُّرَّةُ وَالْجَرَّةُ حَتَّى يَبُوءَ بعذرٍ أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبَ ذلٍ، وَقَالَ: أَعَبَّاسُ إِمَّا كَرِهْتَ الْحُرُوبَ ... فَقَدْ ذُقْتَ مِنْ حَرِّهَا مَا كَفَى وَأَلْقَحْتَ حَرْبًا لَهَا دُرَّةً ... زبَوُنًا تَسَعُّرُهَا بِاللَّظَى وَلَمَّا تَرَقَّيْتَ فِي غَيِّهَا ... دُحِضْتَ وَزَلَّ بِكَ الْمُرْتَقى وَأَصْبَحْتَ تَبْكِي عَلَى زلةٍ ... وَمَاذَا يَرُدُّ عَلَيْكَ الْبُكَا فَإِنْ كُنْتَ أَخْطَأْتَ فِي حَرْبِنَا ... فَلَسْنَا مُقِيلِيكَ ذَاكَ الْخَطَا وَإِنْ كُنْتَ تَطْمَعُ فِي صُلْحِنَا ... فَحَاوِلْ ثَبِيرًا وَرُكْنَيْ حِرَا شرح النَّص قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قَول الْعَبَّاس بْن مرداس: وأخمصهم من أذاها بَطنا: من المخمصة، وَهِي المجاعة، وخمص الْبَطن اضطماره، يُقَال: بطن خميص، قَالَ الله تَعَالَى: " فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مخمصةٍ " الْمَائِدَة:3 وَمن الخمص قَول أعشى بني قَيْس بْن ثَعْلَبَة: تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ ... وجاراتكم غبر يبتن خمائصا ويروى غرثى أَي جياعًا. وَيُقَال: امْرَأَة خمصانة إِذا دق خصرها. وَقَالَ الشَّاعِر: خمصانة قلق موشحها ... رَود الشَّبَاب غلابها عظم وَقَوله: منفضج الْبَطن أَرَادَ خلوه من أذاها. وَقَوله: أفيء عَلَيْهَا النهاب أَي أرده وَيتَّجه فِي مدحه نَفسه برده النهاب على قومه وَجْهَان: أَحدهمَا أَن يستعيد مَا انتهب من أَمْوَالهم فَيردهُ عَلَيْهِم، وَالْآخر أَنه يعف عَن غنائمهم وَلَا يستأثر بهَا فيحويها لنَفسِهِ دونهم، كَمَا قَالَ عنترة: يُخْبِرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغي وأعف عِنْد الْمغنم وَيُقَال: فَاء الشَّيْء إِذا رَجَعَ. وأفاء الرجل الشَّيْء على غَيره أَي رده عَلَيْهِ، قَالَ الله تَعَالَى: " مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى " الْحَشْر: 7 أَي مَا رده؛ وَمن الْفَيْء قَول امْرِئ الْقَيْس: تيممت الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الظل عرمضها طامي والفيئة الرّجْعَة. وَقَوله: وَيرجع من ودها مَا نأى، قد عطفه على قَوْله: فَإِن تعطف الْيَوْم، وَوجه الْإِعْرَاب فِيهِ الْجَزْم، إِذْ هُوَ مَعْطُوف على المجزوم على مَا يجب فِي بَاب الْجَزَاء إِلَّا أَنه لما لم يجد بدا من الْحَرَكَة لتَمام وزن الْبَيْت نوى النُّون الْخَفِيفَة كَمَا قَالَ الشَّاعِر: اضْرِب عَنْك الهموم طارقهاضربك بِالسَّيْفِ قونس الْفرس

كيف بدأت نقمة المأمون على يحيى بن أكثم

وَقد يحمل على إِرَادَة أَن وَبِمَعْنى الْجمع " وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " آل عمرَان:142 على مَا بَيناهُ فِي مَا مضى من الْمجَالِس. وَأما قَول خفاف: الْآن لما فدحته الْحَرْب مَعْنَاهُ أثقلته، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: إِذا لم تزل يَوْمًا تُؤدِّي أَمَانَة ... وَتحمل أُخْرَى أفدحتك المغارم وَجَاء فِي الْأَثر: لَا يتْرك فِي الْإِسْلَام مفدح، فَقيل: مَعْنَاهُ الَّذِي قد فدحه الدَّين وأثقله. وَقَالَ بَعضهم فِي الرِّوَايَة لَا يتْرك مفدج بِالْجِيم وَقيل فِي تَفْسِيره قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه لَا أحد يُؤَدِّي عَنْهُ من أَهله، وَالْآخر أَنه الْجَانِي الَّذِي لَا عشيرة لَهُ وَلَا عَاقِلَة تعقله وَتُؤَدِّي عَنْهُ عقل جِنَايَته وَأرش جريرته. والدرة مَا يحتلب، والجرة مَا يجتر. وَقَوله: ألقحت حَربًا لَهَا درة أَنَّهَا تدر وتتصل وَيتبع بعض مكروهها بَعْضًا. وَقَوله: " زبونًا " أَي تدفع ببأسها من أَصَابَته، يُقَال: حَرْب زبون، والزبن: الدّفع، وَيُقَال زبنه أَي دَفعه، وَمِنْه الزَّبَانِيَة، سموا بذلك لأَنهم يزبنون أَي يدْفَعُونَ أهل النَّار فِيهَا. قَالَ الله تَعَالَى: " يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا " الطّور:13 أَي يدْفَعُونَ فِيهَا دفعا. وَيُقَال: نَاقَة زبون أَي تدفع الْجمال، قَالَ الشَّاعِر: ومستعجب مِمَّا يرى من أناتنا ... وَلَو زبنته الْحَرْب لم يترمرم وَنهي النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْمُزَابَنَة من هَذَا، وَهُوَ بيع الرطب فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ كَيْلا، وَكَذَلِكَ بيع الْعِنَب بالزبيب، هُوَ من دفع كل وَاحِد من المتزابنين مَا يَبِيعهُ إِلَى صَاحبه. كَيفَ بدأت نقمة الْمَأْمُون على يحيى بْن أَكْثَم حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا عَليّ بْن يحيى المنجم أَن الْمَأْمُون كَانَ احتظى يحيى بْن أَكْثَم وَرفع مَنْزِلَته وَخص بِهِ خَاصَّة باطنة، فَدخل عَلَيْهِ يَوْمًا وَهُوَ يتغدى وَعبد الْوَهَّاب بْن عَليّ إِلَى جَانب الْمَأْمُون، فَسلم فَرد عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ قَالَ: هَلُمَّ يَا أَبَا مُحَمَّد؛ يَا غُلَام وضئه، قَالَ: فَخرج يحيى والطويلة على رَأسه يتَوَضَّأ، فَقَالَ الْمَأْمُون: أوسع لأبي محمدٍ، فأوسع لَهُ عبد الْوَهَّاب بَينه وَبَين الْمَأْمُون فَغسل يَده وَدخل فَوضع طويلته من غير إِذْنه، فَقَالَ الْمَأْمُون لعبد الْوَهَّاب: عد إِلَى مَكَانك، وأقعد يحيى بَين يَدَيْهِ، وَكَانَ ذَلِك بَدْء مَا نقمه عَلَيْهِ. لماذا كَانَ عمر بْن عبد الْعَزِيز كَذَلِك حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس، قَالَ حَدَّثَنَا عمر أبن شبة قَالَ حَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة، قَالَ سَمِعت أَبِي يَقُول: قيل ليحيى بْن الحكم بْن أَبِي الْعَاصِ: مَا بَال عمر بْن عبد الْعَزِيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جَاءَ على مَا قد رَأَيْت؟ فَقَالَ: إِن أَبَاهُ أرْسلهُ إِلَى الْحجاز سوقة فَكَانَ يغْضب النَّاس ويغضبونه، ويمخضهم ويمخضونه، وَلَقَد كَانَ

حول أبي العتاهية وهو ينشد

الْحجَّاج بْن يُوسُف لَا يعرف عَرَبِيّ أحسن مِنْهُ أدبًا فطالت ولَايَته، فَكَانَ لَا يسمع إِلَّا مَا يحب، فَمَاتَ وَإنَّهُ لأحمق وسيئ الْأَدَب. حول أَبِي الْعَتَاهِيَة وَهُوَ ينشد حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاك قَالَ: رَأَيْت النَّاس فِي النَّفر وَقد اجْتَمعُوا على رجلٍ وَهُوَ ينشد، فدنوت فَقلت: من هَذَا؟ فَقيل: أَبُو الْعَتَاهِيَة، وَكَانَ ينشد: أجَاب الله داعيك ... وعادى من يعاديك كَأَن الشَّمْس والبدر ... جَمِيعًا فِي تراقيك وَفِي فِيك جنى النَّحْل ... وَمَا أحلاه من فِيك وَقد شاع بِأَن الخ؟ ... ز يُؤْذِيك ويدميك وَمَا يدْريك من ذل؟ ... ك أَسمَاء جواريك وَلَا فَاخِتَة النّخل ... من الطاووس والديك تَعَالَى الله مَا أحس؟ ... ن مَا براك باريك فَقَالَ لَهُ رجل: يَا شيخ أَفِي مثل هَذَا الْموضع؟ قَالَ: وَمَا على من قضى حجه أَن يشكو بثه ويصف من هويه. حسد إِسْحَاق الْموصِلِي للأصمعي حَدثنَا أَحْمَد بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سعدٍ، قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عَليّ بْن أَبِي نعيم قَالَ: كَانَ الرشيد يحب الْوحدَة، فَكَانَ إِذا ركب حِمَاره عادله الْفضل بْن الرّبيع، وَكَانَ الْأَصْمَعِي يسير قَرِيبا مِنْهُ بِحَيْثُ يحادثه، وَإِسْحَاق الْموصِلِي على دابةٍ يسير قَرِيبا من الْفضل. فَأقبل الْأَصْمَعِي لَا يحدث الرشيد شَيْئا إِلَّا سر بِهِ وَضحك مِنْهُ، فحسده إِسْحَاق. وَكَانَ فِيمَا حَدثهُ الْأَصْمَعِي قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَرَرْت على رجلٍ زانكي جَالس على بَابه قَالَ: وَيحك فَمَا الزانكي؟ فوصفه لَهُ قَالَ العسكري: هُوَ الشارط قَالَ: فَقلت لَهُ: يَا فَتى أَيَسُرُّك أَنَّك أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: لَا، قلت: وَلم؟ قَالَ: لَا يدعوني أذهب حَيْثُ شِئْت، قَالَ فَقَالَ الرشيد: صدق وَالله مَا يَدْعُونَا نَذْهَب حَيْثُ شِئْنَا. قَالَ: فاستضحك الرشيد. قَالَ فَقَالَ إسحالق للفضل: مَا يَقُول كذب، فَقَالَ الرشيد: أَي شَيْء قَالَ؟ فَأخْبرهُ فَغَضب فَقَالَ: وَالله إِن كَانَ مَا يَقُول كذبا إِنَّه لأظرف النَّاس، وَإِن كَانَ حَقًا إِنَّه لأعْلم النَّاس فَمَكثَ بَينهمَا شَرّ دهراً من الدَّهْر، فَقَالَ إِسْحَاق:

أصيمع باهلي يستطيل النخار ومعاوية

أُصيمع باهلي يستطيل النخار وَمُعَاوِيَة حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ، قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّهِ اليزيدي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حبيبٍ عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: دخل النخار العذري النسابة على مُعَاوِيَة وَعَلِيهِ عباءة فَكَلمهُ فَأَعْرض عَنْهُ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَة إِن العباءة لَا تكلمك، إِنَّمَا يكلمك من فِيهَا، فَأقبل عَلَيْهِ. رؤبة والنسابة الْبكْرِيّ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفضل بْن مُحَمَّد اليزيدي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِني بكر بْن محمدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي عَن الْعَلَاء بْن أسلم قَالَ: سَمِعت رؤبة بْن العجاج يَقُول: أتيت النسابة الْبكْرِيّ فَقَالَ لي: من أَنْت؟ قلت: رؤبة بْن العجاج، فَقَالَ لي: قصرت وَعرفت، لَعَلَّك من قوم عِنْدِي إِن سكت عَنْهُم لم يَسْأَلُونِي وَإِن حدثتهم لم يعوا عني، قَالَ قلت: أَرْجُو أَن لَا أكون كَذَلِك، قَالَ: فَمَا أَعدَاء الْمَرْء؟ قَالَ قلت: لَا أَدْرِي فَأَخْبرنِي، قَالَ بَنو عَم السوء إِن رَأَوْا قبيحًا أذاعوه وَإِن رَأَوْا حسنا دفنوه. ثُمَّ قَالَ لي: إِن للْعلم آفَة ونكدًا وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الْكَذِب فِيهِ، وهجنته نشره عِنْد غير أَهله. عَافِيَة بْن يزِيد القَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن زيادٍ الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ وَسِيمٍ الْبُوشَنْجِيُّ بِبُوشَنْجَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمِّهِ عَبْدُ الْملك بْن قُرَيْب الْأَصْمَعِي أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ يَوْمًا فَرُفِعَ إِلَيْهِ فِي قاضٍ كَانَ اسْتَقْضَاهُ هُوَ يُقَالُ لَهُ عَافِيَةُ، فَكَثُرَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ فَأُحْضِرَ، وَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، فَجَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُخَاطِبُهُ وَيُوقِفُهُ عَلَى مَا رُفِعَ فِيهِ، وَطَالَ الْمَجْلِسُ، ثُمَّ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ مَنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ مِنْ قُرْبٍ مِنْهُ سِوَاهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُشَمِّتْهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: مَا بَالُكَ لَمْ تُشَمِّتْنِي كَمَا فَعَل الْقَوْمُ، فَقَالَ لَهُ عَافِيةُ لأَنَّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلِذَلِكَ لَمْ أُشَمِّتْكَ هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلانِ فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُكَ شَمَّتَّ ذَاكَ وَلم تشمتني؟ فَقَالَ: إِن هَذَا حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فَشَمَّتْنَاهُ، وَأَنْتَ فَلَمْ تَحْمَدْهُ فَلَمْ أُشَمِّتْكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: ارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ، أَنْتَ لَمْ تُسَامِحْ فِي عطسةٍ، تُسَامِحُ فِي غَيْرِهَا؟ وَصَرَفَهُ مُنْصَرَفًا جَمِيلا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا عَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ الأَوْدِيُّ قَلَّدَهُ الْمَهْدِيُّ الْقَضَاءَ وَأَشْرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثَةَ الْكِلابِيِّ، قَالَ أَبُو بكرٍ فَأَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَعَافِيَةَ بْنِ يَزِيدَ وَقَدْ أَشْرَكَ الْمَهْدِيُّ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ يَقْضِيَانِ جَمِيعًا. التشميت والتسميت قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: يُقَال لما يدعى بِهِ للعاطس سمت وشمت، وَهُوَ بالشين الْمُعْجَمَة

المجلس الحادي والستون

أفْصح فِي اللُّغَة وَأشهر فِي الرِّوَايَة، وَقيل إِنَّه مَأْخُوذ من قَوْلهم: استأشمت الْمَاشِيَة فِي الرَّعْي بِمَعْنى أَنَّهَا انبسطت فِيهِ. وَأما التسميت بِالسِّين الْمُهْملَة فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرِّفْق والتسكين. وَأخذ من السمت وَمن الْقَصْد وَمثله: رفوت فلَانا إِذا رفقت بِهِ ولاينته كَمَا قَالَ الْهُذلِيّ: رفوني وَقَالُوا يَا خويلد لَا ترع ... فَقلت وَأنْكرت الْوُجُوه هم هم وَقَالَ بَعضهم: التشميت مبادرة الْعَاطِس بِالدُّعَاءِ لَهُ، والمبادرة إِلَى تشميته كسرعة الشامت بالشماتة إِلَى من يشمت بِهِ. وَقد ذكر أَن بعض جلساء الرشيد شمت الرشيد وَقد عطس، فَقَالَ لَهُ بعض الْحَاضِرين: لَا يَنْبَغِي أَن تفعل مثل هَذَا، وَلَا تخاطب أَمِير الْمُؤمنِينَ بِمَا يَقْتَضِي مِنْهُ تكلّف الرَّد، وَإِن بَعضهم قَالَ: أصَاب المشمت السّنة وَأصَاب الْمُعْتَرض عَلَيْهِ أدب المجالسة للسُّلْطَان. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد أصَاب المشمت فِي هَذِه الْقِصَّة إِصَابَة مُطلقَة لَا خطأ فِيهَا وَلَا شريطة، وَأَخْطَأ الرَّاد عَلَيْهِ والمعتذر لمن نَهَاهُ والموبخ لَهُ، وَلَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكره لَكَانَ يَنْبَغِي للنَّاس ترك السَّلَام على أئمتهم إِذا دخلُوا عَلَيْهِم والكف عَن تعزيتهم وتهنئتهم، وأحق من شمت ودعي فِي مَوَاطِن الدُّعَاء لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأولى من سارع إِلَى تَحِيَّة الْمُسلم بِأَحْسَن مِنْهُ تحيته أَو مثلهَا كَمَا أَمر الله عز وَجل وبادر بتأدية الْفَرْض فِيهِ وَفِي مَا جرى مجْرَاه من التشميت وَغَيره أَئِمَّة الدَّين. وَقد كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرد على من شمته من أمته وَأهل ذمَّته ويشمت من عطس من الْمُسلمين بِحَضْرَتِهِ، وَرُوِيَ أَن الْيَهُود كَانُوا يتعاطسون عِنْده رَجَاء أَن يَدْعُو لَهُم. وعَلى نَحْو مَا وَصفنَا مَضَت الْأَئِمَّة الراشدون وَالسَّلَف الصالحون وَالْخُلَفَاء المهديون. وَذكر أَن الْحجَّاج بْن يُوسُف قَالَ للنَّاس يَوْمًا: بَلغنِي أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عبد الْملك عطس فشمته من حوله فَرد عَلَيْهِم، فيا لَيْتَني كنت مَعَهم فأفوز فوزاً عَظِيما. وروى بَعضهم أَنه كتب بِهَذَا القَوْل والأمنية إِلَى عبد الْملك. وَأكْثر من يُشِير فِي هَذِه الْأُمُور بِغَيْر الْحق من لَا رَأْي لَهُ وَلَا أَمَانَة وَلَا للأئمة عِنْده مُوالَاة وَلَا نصيحة. وَقد تجاوزوا هَذَا الْحَد إِلَى السَّعْي فِيمَا يقْدَح فِي المملكة ويشعث أَسبَاب الْخلَافَة، وَلَكِن مَا الْحِيلَة إِذا كَانَ الرَّأْي فِي يَد من يملكهُ ويتمكن من تصريفه على هَوَاهُ فِيهِ دون من يعرفهُ ويضطلع فِي ترتيبه مرتبته وإنزاله مَنْزِلَته ويؤثر الْحق على نَفسه وأقربيه وَلَا يخَاف لومة لاثم. قَالَ القَاضِي: وَمَا أَتَى فِي سنة العطاس وَمَا ندب فِيهِ الْعَاطِس وأرشد إِلَيْهِ وَصفَة التشميت وَالرَّدّ على المشمت من الْآثَار وَالرِّوَايَة وَالْأَخْبَار ومنظوم الْأَشْعَار أَكثر من أَن يُحِيط امْرُؤ بِهِ فِي مثل هَذَا الْموضع. الْمجْلس الْحَادِي وَالسِّتُّونَ حَدِيث فِي أَشْرَاط السَّاعَة أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْحَسَنِ

التِّرْمِذِيُّ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعَ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أبي شُعَيْبٍ الْخَوَاتِيمِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمٍ الْخَشَّابِ مَوْلًى لِبَنِي شَيْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حَجَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَخَذَ بِحَلْقَتَيْ بَابِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاس فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ فَقَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَتْكَ آبَاؤُنَا وَأُمَّهَاتُنَا، ثُمَّ بَكَى حَتَّى عَلا انْتِحَابُهُ فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِأَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ، إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ الْقِيَامَةِ إِمَاتَةَ الصَّلَوَاتِ وَاتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ وَالْمَيْلَ مَعَ الْهَوَى وَتَعْظِيمَ رَبِّ الْمَالِ، قَالَ فَوَثَبَ سَلْمَانُ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ مِمَّا يَرَى، وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ ليمشي بَينهم يؤمئذٍ بِالْمَخَافَةِ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَكُونُ الْمَطَرُ قَيْظًا وَالْوَلَدُ غَيْظًا، تفيض اللئام فيضاً، يغيض الْكِرَامُ غَيْضًا، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلْمُؤْمِنُ يومئذٍ أَذَلُّ مِنَ الأَمَةِ، فَعِنْدَهَا يَكُونُ الْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا وَالْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ الأَمِينُ، وَيُصَدَّقُ الْكَذَّابُ، وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَكُونُ أُمَرَاءُ جَوَرَةً، وَوُزَرَاءُ فَسَقَةً، وَأُمَنَاءُ خَوَنَةً، وَإِمَارَةُ النِّسَاءِ وَمُشَاوَرَةُ الإِمَاءِ، وَصُعُودُ الصِّبْيَانِ الْمَنَابِرَ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، عِنْدَهَا يليهم أَقْوَامٌ إِنْ تَكَلَّمُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ سكتوا استباحوهم، ويستأثرون بفيئهم يطأون حَرِيمَهُمْ وَيُجَارُ فِي حُكْمِهِمْ يَلِيهِمْ أَقوام جثاهم جثا النّاس، قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: هُوَ هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَالصَّوَابُ جثثهم جُثَثُ النَّاسِ وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ لَا يُوَقِّرُونَ كَبِيرًا وَلا يَرْحَمُونَ صَغِيرًا قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، يَا سلما، عِنْدَهَا تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ وَالْبِيَعُ، وَتُحَلَّى الْمَصَاحِفُ، وَيُطِيلُونَ الْمَنَابِرَ، وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ، قُلُوبُهُمْ مُتَبَاغِضَةٌ وأهواؤهم جَمَّةٌ وَأَلْسِنَتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَأْتِي سَبْيٌ مِنَ الْمَشْرِقِ يَلُونَ أُمَّتِي فَوَيْلٌ لِلضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ، وَوَيْلٌ لَهْمُ مِنَ اللَّهِ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَكُونُ الْكَذِبُ ظُرْفًا وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَتَظْهَرُ الرُّشَا، وَيَكْثُرُ الرِّبَا، وَيَتَعَامَلُونَ بِالْعِينَةِ، وَيَتَّخِذُونَ الْمَسَاجِدَ طُرُقًا، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، عِنْدَهَا تُتَّخَذُ جُلُودُ النُّمُورِ صِفَاقًا، وَتَتَحَلَّى ذُكُورُ أُمَّتِي بِالذَّهَبِ وَيَلْبَسُونَ الْحَرِيرَ، وَيَتَهَاوَنُونَ بِالدِّمَاءِ، وَتَظْهَرُ الْخُمُورُ وَالْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ،

ابن عباس يتوقع أشراط الساعة

وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ يَا سَلْمَانُ، عِنْدَهَا يَطْلُعُ كَوْكَبُ الذَّنَبِ وَتَكْثُرُ السِّيجَانُ وَيَتَكَلَّمُ الرُّوَيْبِضَةُ، قَالَ سَلْمَانُ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ يَتَكَلَّمُ فِي الْعَامَّةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّمُ، وَيَحْتَضِنُ الرَّجُلُ للسُّمْنَةِ، وَيُتَغَنَّى بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُتَّخَذُ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ، وَتُبَاعُ الْحكمُ وَتَكْثُرُ الشُّرَطُ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَحُجُّ أُمَرَاءُ النَّاسِ لَهْوًا وَتَنَزُّهًا، وَأَوْسَاطُ النَّاسِ لِلتِّجَارَةِ، وَفُقَرَاءُ النَّاسِ لِلْمَسْأَلَةِ، وَقُرَّاءُ النَّاسِ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يُغَارُ عَلَى الْغُلامِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، وَيُخْطَبُ الْغُلامُ كَمَا تُخْطَبُ الْمَرْأَةُ، وَيُهَيَّأُ كَمَا تُهَيَّأُ الْمَرْأَةُ، وَتَتَشَبَّهُ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ وَتَتَشَبَّهُ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَيَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَتَرْكَبُ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ فَعَلَيْهِنِّ مِنْ أُمَّتِي لَعْنَةُ اللَّهِ، قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَظْهَرُ قُرَّاءٌ عِبَادَتُهُمُ التَّلاوُمُ بَيْنَهُمْ، أُولَئِكَ يُسَمَّوْنَ فِي ملكوت السَّمَاء الأنجاس والأرجاس؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، تَتَشَبَّبُ الْمَشْيَخَةُ، قَالَ قُلْتُ: وَمَا تَشَبُّبُ الْمَشْيَخَةِ؟ قَالَ: أَحْسبهُ ذهب من كِتَابِي إِنَّ الْحُمْرَةَ هَذَا الْحَرْفُ وَحْدَهُ خِضَابُ الإِسْلامِ وَالصُّفْرَةُ خِضَابُ الإِيمَانِ وَالسَّوَادُ خِضَابُ الشَّيْطَانِ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يُوضَعُ الدِّينُ وَتُرْفَعُ الدُّنْيَا وَيُشَيَّدُ الْبِنَاءُ وَتُعَطَّلُ الْحُدُودُ وَيُمِيتُونَ سُنَّتِي، فَعِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ لَا تَرَى إِلا ذَامًّا وَلا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ كَيفَ لَا ينْصرُونَ؟ قَالَ: يَا سَلْمَانُ إِنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ النكر، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَذُمُّونَ اللَّهَ تَعَالَى وَمَذَمَّتُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَشْكُوهُ وَذَلِكَ عِنْدَ تَقَارُبِ الأَسْوَاقِ، قَالَ: وَمَا تَقَارُبُ الأَسْوَاقِ؟ قَالَ عِنْدَ كَسَادِهَا كُلٌّ يَقُولُ: مَا أَبِيعُ وَلا أَشْتَرِي وَلا أَرْبَحُ، وَلا رَازِقَ إِلا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَعُقُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ وَيَجْفُو صَدِيقَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ وَيَتَحَالَفُونَ بِالطَّلاقِ، يَا سَلْمَانُ لَا يَحْلِفُ بِهَا إِلا فَاسِقٌ، وَيَفْشُو الْمَوْتُ مَوْتُ الْفُجَاءَةَ وَيُحَدِّثُ الرَّجُلَ سَوْطُهُ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا تَخْرُجُ الدَّابَّةُ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ وَرِيحٌ حَمْرَاءُ، وَيَكُونُ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ، وَتَمُورُ الأَرْضُ، وَإِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ رُؤِيَ. ت: وَمَا تَشَبُّبُ الْمَشْيَخَةِ؟ قَالَ: أَحْسَبُهُ ذهب من كِتَابِي إِنَّ الْحُمْرَةَ هَذَا الْحَرْفُ وَحْدَهُ خِضَابُ الإِسْلامِ وَالصُّفْرَةُ خِضَابُ الإِيمَانِ وَالسَّوَادُ خِضَابُ الشَّيْطَانِ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يُوضَعُ الدِّينُ وَتُرْفَعُ الدُّنْيَا وَيُشَيَّدُ الْبِنَاءُ وَتُعَطَّلُ الْحُدُودُ وَيُمِيتُونَ سُنَّتِي، فَعِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ لَا تَرَى إِلا ذَامًّا وَلا يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَهُمْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ كَيفَ لَا ينْصرُونَ؟ قَالَ: يَا سَلْمَانُ إِنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ النكر، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَذُمُّونَ اللَّهَ تَعَالَى وَمَذَمَّتُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَشْكُوهُ وَذَلِكَ عِنْدَ تَقَارُبِ الأَسْوَاقِ، قَالَ: وَمَا تَقَارُبُ الأَسْوَاقِ؟ قَالَ عِنْدَ كَسَادِهَا كُلٌّ يَقُولُ: مَا أَبِيعُ وَلا أَشْتَرِي وَلا أَرْبَحُ، وَلا رَازِقَ إِلا اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا يَعُقُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ وَيَجْفُو صَدِيقَهُ، وَيَتَحَالَفُونَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَيَحْلِفُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَحْلَفَ وَيَتَحَالَفُونَ بِالطَّلاقِ، يَا سَلْمَانُ لَا يَحْلِفُ بِهَا إِلا فَاسِقٌ، وَيَفْشُو الْمَوْتُ مَوْتُ الْفُجَاءَةَ وَيُحَدِّثُ الرَّجُلَ سَوْطُهُ؛ قَالَ سَلْمَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَإِنَّ هَذَا لَكَائِنٌ؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَهَا تَخْرُجُ الدَّابَّةُ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَيَخْرُجُ الدَّجَّالُ وَرِيحٌ حَمْرَاءُ، وَيَكُونُ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهَدْمُ الْكَعْبَةِ، وَتَمُورُ الأَرْضُ، وَإِذَا ذُكِرَ الرَّجُلُ رُؤِيَ. ابْن عَبَّاس يتَوَقَّع أَشْرَاط السَّاعَة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا

مادة ش ر ط

هَوْذَة بْن خَليفَة قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: غَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نِمْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ، قَالَ قُلْتُ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: قَالُوا طَلَعَ الْكَوْكَبُ ذُو الذَّنَبِ، خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الدَّجَّالُ قَدْ طَرَقَ، فَوَاللَّهِ مَا نِمْتُ حَتَّى أَصبَحت. مَادَّة ش ر ط قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: قَوْله: أَشْرَاط الْقِيَامَة يَعْنِي أعلامها وأماراتها قَالَ الله تَعَالَى: " فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا " مُحَمَّد:18 يَعْنِي علاماتها، يُقَال أشرط الرجل نَفسه أَي وسمها بسيما وَجعل لَهَا عَلامَة تعرف بهَا، قَالَ أَوْس بْن حجر فأشرط فِيهَا نَفسه وَهُوَ معلم ... وَألقى بأسبابٍ لَهُ وتوكلا وَالْوَاحد من الأشراط، وَشرط المَال رذاله، قَالَ الشَّاعِر: وَفِي شَرط المعزى لَهُنَّ مُهُور وَقَوله: يكثر السيجان وَهِي الطيالسة وَاحِدهَا سَاج، وَمثله تَاج وتيجان ونار ونيران وجار وجيران، وَقَالَ بعض اللغويين: هِيَ الْخضر مِنْهَا خَاصَّة. الْمُؤلف يرى كثيرا من أَشْرَاط السَّاعَة قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: وَقد رَأينَا كثيرا من أَشْرَاط الْقِيَامَة وأدركنا مِنْهَا مَا فِيهِ عظة وكأنا بباقيها قد ردف مَا فرط من مَا ضيها، وحقيق على كل ذِي مرّة سوى وَأخي دين رَضِي أَن يُبَادر مَا قد أظلهُ بِالتَّوْبَةِ وَبِحسن الإقلاع والإنابة، ويتأهب لما هُوَ لاقيه لَا محَالة، وَلَا يضيع مَا أنعم الله تَعَالَى عَلَيْهِ من المهلة، وَلَا يغتر بالأماني الكاذبة، فَإِن أجل الله إِذا جَاءَ لَا يُؤَخر، والغار نَفسه بالتسويف بعد الزّجر والتخويف لَا يعْذر، وفقنا الله وَإِيَّاكُم للْجدّ فِيمَا يرضيه، وعصمنا من ركُوب مَعَاصيه، وأعاننا على عدوه القاصد بكيده لضلالتنا، والحريص على غوايتنا واستزلالنا، برأفته. خطْبَة عتبَة فِي حجَّته حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دُرَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنِ الْعُتْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدٍ الْقَصِيرِ قَالَ: حَجَّ عُتْبَةُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَالنَّاسُ قَرِيبٌ عَهْدُهُمْ بِالْفِتْنَةِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ وُلِّينَا هَذَا الْمَقَامُ الَّذِي يُضَاعَفُ لِلْمُحْسِنِ فِيهِ الأَجْرُ وَعَلَى الْمُسِيءِ فِيهِ الْوِزْرُ، وَنَحْنُ عَلَى طَرِيقِ مَا قَصَدْنَا، فَلا تَمُدُّوا الأَعْنَاقَ إِلَى غَيْرِنَا فَإِنَّهَا تَنْقَطِعُ دُونَنَا، وَرُبَّ مُتَمَنٍّ حَتْفُهُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَاقْبَلُوا الْعَافِيَةَ مَا قَبِلْنَاهَا فِيكُمْ وَقَبِلْنَاهَا مِنْكُمْ. وَإِيَّاكُمْ وَلَوْ فَإِنَّهَا أَتْعَبَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَلَنْ تُرِيحَ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِينَ كُلا عَلَى كُلٍّ؛ قَالَ فَصَاحَ بِهِ أَعْرَابِيٌّ: أَيُّهَا الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ وَلَمْ تُبْعِدْ، فَقَالَ: يَا أَخَاهُ، فَقَالَ: قد أَسْمَعْتَ فَقُلْ، فَقَالَ: تَاللَّهِ إِنْ تُحْسِنُوا وَقَدْ أَسَأْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُسِيئُوا وَقَدْ أَحْسَنَّا، فَإِنْ كَانَ الإِحْسَانُ لَكُمْ دُونَنَا فَمَا أَحَقَّكُمْ

قد بلغ السيل الزبى

بِاسْتِتْمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَّا فَمَا أَوْلاكُمْ بِمُكَافَأَتِنَا، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَلْقَاكُمْ بِالْعُمُومَةِ، وَيقرب إِلَيْكُم بالخؤولة، قَدْ كَثَّرَهُ الْعِيَالُ وَوَطِئَهُ الزَّمَانُ، وَبِهِ فَقْرٌ وَعِنْدَهُ شُكْرٌ، فَقَالَ عُتْبَةُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْكُمْ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَيْكُمْ، قَدْ أُمِرْتُ لَكَ بِغِنَاكَ فَلَيْتَ إِسْرَاعَنَا إِلَيْكَ يَقُومُ بِإِبْطَائِنَا عَنْكَ. قد بلغ السَّيْل الزبى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا كَثُرَ الطَّعْنُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَنَحَّى عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى مَالِهِ بِيَنْبُعَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى وَجَاوَزَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ وَبَلَغَ الأَمْرُ فَوْقَ قَدْرِهِ، وَطَمِعَ فِيَّ مَنْ لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ. فَإِنْ كنت مَأْكُولا فَكُن خيرا آكلٍ ... وَإِلا فَأَدْرَكْنِي وَلَمَّا أُمَزِّقُ قَالَ ابْنُ مَزْيَدٍ حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ الْخَزَّازُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيِّ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. ظلم آل عَليّ أحب إِلَى الزبير حَدَّثَنَا ابْنُ مَزْيَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: كَانَ الزُّبَيْرُ إِذَا جَاءَهُ مِنْ نَاحِيَةِ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَذًى وَجَاءَهُ مِنْ نَاحِيَةِ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُ قَالَ: وَاللَّهِ لأَنْ يَظْلِمَنِي آلُ عَلِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ وَيُنْشِدُ: وَإِنْ كُنْتُ مَقْتُولا فَكُنْ أَنْتَ قَاتِلِي ... فَبَعْضُ مَنَايَا الْقَوْمِ أَكْرَمُ مِنْ بَعْضِ تَفْسِير مَا تقدم قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَوْله: بلغ السَّيْل الزبى فَإِنَّهَا زبى الْأسد الَّتِي تحفر لَهُ، وَإِنَّمَا جعلت مثلا فِي بُلُوغ السَّيْل إِلَيْهَا لِأَنَّهَا إِنَّمَا تجْعَل فِي الروابي من الأَرْض، وَلَا تكون فِي المنحدر، وَلَيْسَ يبلغهَا إِلَّا سيل عَظِيم. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج رَحمَه الله: وَقَوله: وَجَاوَزَ الحزام الطبيين يَعْنِي قد اضْطربَ من شدَّة السّير حَتَّى خلف الطبيين من اضطرابه، يضْرب هَذَا الْمثل لِلْأَمْرِ الفظيع الفادح الْجَلِيل: وَأما قَوْله: فَإِن كنت مَأْكُولا فَكُنْ خَيْرَ آكلٍ ... وَإِلا فأدركني وَلما أمزق فَإِن هَذَا بَيت تمثل بِهِ لشاعر من عبد الْقَيْس جاهلي يُقَال لَهُ الممزق، وَإِنَّمَا سمي ممزقًا لبيته هَذَا، وَقَالَ الْفراء الممزق. قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: وَمن الزبية الَّتِي هِيَ مصيدة الْأسد قَول الطرماح بن حَكِيم: يَا طَيء السهل والأجبال مَوْعدكُمْ ... كبمتغي الصَّيْد أَعلَى زبية الْأسد وَقَالَ الراجز:

عتاب بين علي وعثمان

قد كنت فِي الْأَمر الَّذِي قد كيدا ... كاللذ تزبى زبية فاصطيدا اللذ: لُغَة فِي الَّذِي. وَمن الْعَرَب من يَقُول اللذ بِكَسْر الذَّال من غير إِثْبَات يَاء كَمَا قَالَ الشَّاعِر: واللذ لَو يكنى لكَانَتْ برا ... أوجبلاً أَشمّ مشمخرا وَيُقَال من هَذِه اللُّغَة يَعْنِي الذ مسكنة الذَّال، فِي الْمُؤَنَّث اللت، قَالَ الشَّاعِر: فَقل للت تلومك إِن نَفسِي ... أَرَاهَا لَا تعلل بالنمير والزبية على مَا بَينا لَا تتَّخذ إِلَّا فِي قلَّة رابيةٍ أَو رَأس قلعةٍ أَو هضبة، قَالَ العجاج: وَقد علا السَّيْل الزبى فَلَا غير أَي جلّ الْأَمر عَن التلافي والإصلاح للتغيير، وَقيل إِن الْغَيْر هَاهُنَا الدِّيات، وَالْمعْنَى لِكَثْرَة الْقَتْل. وَمن الْغَيْر بِمَعْنى الدِّيات قَول هدبة بن الخشرم: لنجد عَن أنوفاً من أنوفكم ... بني أُميَّة أنْ لَا تقبلُوا الغيرا وَالْعرب تَقول فِي شدَّة الْأَمر تفاقمه واستشراء الشَّرّ وتعاظمه: قد علا المَاء الزبى، وانقد فِي الْبَطن السلى، وبرح الخفا، وحلت الحبا، وَبلغ السكين الْعَظِيم، والتقت حلقتان البطان، وَهُوَ مضارع لقَولهم: بلغ الحزام الطبيين، قَالَ أَوْس بْن حجر: وازدحمت حلقتا البطان بأق؟ ... وام وطارت نُفُوسهم جزعًا وَمن أفْصح مَا أَتَى فِي هَذَا الْمَعْنى مَا جَاءَ الْقُرْآن بِهِ وَذَلِكَ قَوْله عز وَجل: " وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ " الْقِيَامَة:29 وَقَالَ الشَّاعِر: وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق والطبيان تَثْنِيَة طبي وَجمعه أطباء، وَيَقُولُونَ: الْتَقت حلقتا البطان والحقب، وَمِنْه: اشْدُد بمثنى حقبٍ حقواها وَيُقَال حقب الْبَعِير إِذا صَار الحزام فِي الحقب، قَالَ الشَّاعِر: إِذا مَا حقب جال ... شددناه بتصدير والأطباء مَوضِع الثدي من السبَاع، وَيُقَال لذَلِك الْموضع من ذَوَات الْخُف والظلف أخلاف وَالْوَاحد خلف، قَالَ ابْن عبدل: وأحلب الثرة الصفي وَلَا ... أجهد أخلاف غَيرهَا حَلبًا عتاب بَين عَليّ وَعُثْمَان وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد الأَزْدِيُّ قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ قَنْبَرٍ مَوْلَى عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ فَأَحَبَّا الْخَلْوَةَ فَأَوْمَى إِلَيَّ عَلِيٌّ بِالتَّنَحِّي فَتَنَحَّيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَجَعَلَ عُثْمَانُ يُعَاتِبُ عَلِيًّا وَعَلِيٌّ مُطْرِقٌ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عُثْمَان فَقَالَ: مَالك لَا تَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ قُلْتُ لَمْ أَقُلْ إِلا مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إِلا مَا تُحِبُّ؛ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنِّي إِنْ تَكَلَّمْتُ اعْتَدَدْتُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَدْتَ

تأويل المؤلف لمعنى العتاب

بِهِ عَلَيَّ فَلَذَّعَكَ عِتَابِي، وَعَقْدِي أَنْ لَا أَفْعَلَ وَإِنْ كُنْتُ عَاتِبًا إِلا مَا تُحِبُّ. تَأْوِيل الْمُؤلف لِمَعْنى العتاب قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: هَذَا الَّذِي تَأَوَّلَه أَبُو الْعَبَّاس وَجه مَفْهُوم، وَفِي هَذَا القَوْل تَأْوِيل آخر، وَهُوَ أَن يكون أَرَادَ أَنه إِن شرع فِي مخاطبته بِمَا استدعي أَن يخاطبه فِيهِ ذكر لَهُ أَنه أَتَى بِخِلَاف الأصوب عِنْده، وَترك مَا كَانَ الأولى بِهِ أَن يَفْعَله، إِلَّا أَنه لإشفاقه عَلَيْهِ مَعَ إيثاره النَّصِيحَة لَهُ آثر محبته وَكره إِظْهَار مَا فِيهِ تَثْرِيب عَلَيْهِ أَو لائمة لَهُ، وَهَذَا التَّأْوِيل عِنْدِي أصح من تَأْوِيل أَبِي الْعَبَّاس، وَقد ورد فِي مَعْنَاهُ مَا يشْهد لما وصفناه فِي الْقِصَّة الَّتِي ذكرنَا. عُثْمَان يشكو عليا إِلَى ابْن عَبَّاس حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَحْصُورٌ عِنْدَهُ مَرْوَانُ بْنُ الحكم، فَقَالَ عُثْمَان: يَا ابْن عَبَّاسٍ أَمَا تَرَى إِلَى ابْنِ عَمه عَمِّكَ كَانَ الأَمْرُ فِي بَنِي يتم وَعَدِيٍّ فَرَضِيَ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا صَارَ الأَمْرُ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ بَغَاهُ الْغَوَائِلُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ عَمِّي مَا زَالَ عَنِ الْحَقِّ وَلا يَزُولُ، وَلَوْ أَنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا بَغَيَا فِي دِينِ اللَّهِ الْغَوَائِلَ لَجَاهَدَهُمَا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَوْ كُنْتَ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لَكَانَ لَكَ كَمَا كَانَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَلْ كَانَ لَكَ أَفْضَلُ لِقَرَابَتِكَ وَرَحِمِكَ وَسِنِّكَ، وَلَكِنَّك ركبت المر وَهَابَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاعْتَرَضَنِي مَرْوَانُ فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ تَخْطِئَتِكَ يَا ابْن عَبَّاسٍ فَأَنْتَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَوْتُكَ لِلْعِتَابِ وَلَسْتُ أَدْرِي ... أَمِنْ خَلْفِي الْمَنِيَّةُ أَمْ أَمَامِي فَشَقَقْتُ الْكَلامَ رَخِيَّ بالٍ ... وَقَدْ جَلَّ الْفِعَالُ عَنِ الْكَلامِ إِنْ يَكُنْ عنْدك لهَذَا الرَّجُلِ غِيَاثٌ فَأَغِثْهُ، وَإِلا فَمَا أَشْغَلَهُ عَنِ التَّفَهُّمِ لِكَلامِكَ وَالْفِكْرِ فِي جَوَابِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ لَهُ: هُوَ وَاللَّهِ كَانَ عَنْكَ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِكَ أَشْغَلُ إِذْ أَوْرَدْتُمُوهُ وَلَمْ تُصْدِرُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: جَعَلْتَ شِعَارَ جَلَدِكَ قَوْمَ سوءٍ ... وَقَدْ يُجْزَى الْمُقَارَنُ بِالْقَرِينِ فَمَا نَظَرُوا لِدُنْيَا أَنْتَ فِيهَا ... بإصلاحٍ وَمَا نَظَرُوا لِدِينِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ وَاللَّهِ غَيْرُ قَابِلِينَ إِلا قَتْلَكَ أَوْ خَلْعَكَ، فَإِنْ قُتِلْتَ عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَعَمِلْتَ، وَإِنْ تُرِكْتَ فَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: فَقَدْ أَنْبَأَ هَذَا الْخَبَرُ أَنَّ أَصَحَّ التَّأْوِيلَيْنِ فِي مَا قَالَهُ عَلِيٌّ لِعُثْمَانَ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ هُوَ مَا وَصَفْنَا. حق الْعَالم على غَيره حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ وَسَهْلُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، قَالَ عَلِيُّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام: مِنْ حَقِّ الْعَالِمِ أَنْ لَا

ليلة قر

تُكْثِرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَلا تُعْنِتَهُ فِي الْجَوَابِ، وَلا تُلِحَّ عَلَيْهِ إِذَا كَسِلَ، وَلا تَأْخُذَ بِثَوْبِهِ إِذا نَهَضَ، وَلَا نفشي لَهُ سِرًّا، وَلا تَغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَأَنْ تَجْلِسَ أَمَامَهُ، وَإِذَا أَتَيْتَهُ خَصَصْتَهُ بِالتَّحِيَّةِ وَسَلَّمْتَ عَلَى الْقَوْمِ كَافَّةً، وَأَنْ تَحْفَظَ سِرَّهُ وَمَغِيبَهُ مَا حَفِظَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّمَا الْعَالِمُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلَةِ تَنْتَظِرُ مَتَى يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَالْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ شَيَّعَهُ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مُقَرَّبِي السَّمَاءِ وَإِذَا مَاتَ الْعَالِمُ انْثَلَمَ بِمَوْتِهِ فِي الإِسْلامِ ثَلْمَةٌ لَا تُسَدُّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَيْلَة قر حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سعيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ عَن أَبِيه قَالَ: أدخلت إِلَى الرشيد يَوْمًا فَقَالَ لي: أَنْشدني فِي شدَّة الْبرد فَأَنْشَدته لِابْنِ محكان السَّعْدِيّ: فِي لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أنديةٍ ... لَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها الطنبا مَا ينبح الْكَلْب فِيهَا غير واحدةٍ ... حَتَّى يلف على خرطومه الذنبا قَالَ القَاضِي: وَقد رُوِيَ على خيشومه. فَقَالَ هَات غير هَذَا، فَأَنْشَدته: وَلَيْلَة قرٍ يصطلي الْقوس رَبهَا ... وأقدحه اللائي بهَا يتنبل فَقَالَ لي مَا بعد هَذَا شَيْء. قَالَ الصولي وأنشدني عَبد اللَّه بْن المعتز لنَفسِهِ: وليلٍ يود المصطلون بناره ... لَو أَنهم حَتَّى الصَّباح وقودها رفعت لَهَا نَارِي لمن يَبْتَغِي الْقرى ... على شرفٍ حَتَّى أتتها وفودها شرح وتوضيح قَالَ القَاضِي: قَول انب محكان ذَات أندية: ذكر جُمْهُور أهل الْعلم أَن جمع الندى، أنداء على أَفعَال وَأَنه الْبَاب فِي هَذَا النَّوْع من الْمَقْصُور، وَأَن الْبَاب فِي الْمَمْدُود من جنسه على أَفعلهُ وَمِنْه حَشا وأحشاء وطلا وأطلاء وَأما الْمَمْدُود فَمِنْهُ عَطاء وأعطية وخلاء وأخلية وقباء وأقبية، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ هوى فِي هوى النَّفس مَقْصُور ويجمعونه أهواء، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ " مُحَمَّد: 14، 16 وَقَالُوا فِي جمع هَوَاء الجو الْمَمْدُود أهوية، وَأَن أندية فِي بَيت ابْن محكان شَذَّ عَن الْقيَاس. وَزعم بَعضهم أَن أندية فِي هَذَا الْبَيْت جمع نادٍ وَهُوَ الْمجْلس، وَأَن الْمَعْنى أَنهم كَانُوا يَجْلِسُونَ فِي النادي يصطلون عِنْد شدَّة الْبرد، وَأَن ذَلِك بِمَنْزِلَة قَوْلهم وادٍ وأودية، وَقيل إِنَّه جمع ندي وَهُوَ مثل النادي، وَأنكر هَؤُلَاءِ جمع الندى الَّذِي هُوَ فِي معنى الطل أندية. وَقد زعم الْفراء فِي قَول الله تَعَالَى: " وَأَحْسَنُ نَدِيًّا " مَرْيَم: 73 أَن الندي تجمع أندية والنادي نوادي الْقَوْم، وَقَالَ: وَلَو جمعت الندى نوادي والنادي أندية كَانَ صَوَابا لِأَن مَعْنَاهُمَا وَاحِد.

المجلس الثاني والستون

قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: يتَّجه صرف الأندية فِي بَيت ابْن محكان إِلَى وَجه يطرد فِي الْقيَاس جمعه على أَفعلهُ لَكِن الْمَعْنى الظَّاهِر أَنه عني بِهِ يبطل أَو يتشعث، وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا أَنهم جمعُوا الندى بِمَعْنى الطل أنداء على أَصله وَقِيَاسه ذُو أندية على الشذوذ وإدخاله فِي غير بَابه، كَمَا قَالُوا فِي جمع رحي أرحاء على الْقيَاس وأرحية على الشذوذ، وَالْبَاب فِي الْجمع أحد الْأَبْوَاب الَّتِي أخرج على الْقيَاس وأرحية على الشذوذ، وَالْبَاب فِي الْجمع أحد الْأَبْوَاب الَّتِي أخرج كثير مِنْهَا عَن أصل قِيَاسه وَالْحق بِغَيْر بَابه. وَمن الأندية بِمَعْنى الْمجَالِس قَول الشَّاعِر: يَوْمَانِ يَوْم مقامات وأنديةٍ ... وَيَوْم سيرٍ إِلَى الْأَعْدَاء تأويب التأويب: سير النَّهَار، والسرى: سير اللَّيْل، والإساد: سير اللَّيْل وَالنَّهَار، هَذَا قَول محققي أهل اللُّغَة فِي هَذِه الْفُصُول الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي هَذَا الْبَاب من الْجمع. وَقد استقصينا القَوْل فِيهَا وَفِيمَا يضارعها وَفِي الْبَيْت الَّذِي أنشدناه فِي بَيت ابْن محكان فِي مَوضِع غير هَذَا، وأتينا فيهمَا بِمَا لم نر لإعادته فِي هَذَا الْموضع وَجها، وَقد روينَا خَبرا فِي هَذِه الْقِصَّة وفيهَا أَبْيَات لِابْنِ محكان عدَّة وَفِي أَولهَا: يَا ربة الْبَيْت قومِي غير صاغرةٍ ... ضمي إِلَيْك رجال الْقَوْم والقربا ولعلنا أَن نورد هَذِه الرِّوَايَة فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الْمجْلس الثَّانِي وَالسِّتُّونَ يَا عبَادي كلكُمْ مذنب إِلَّا من عافيت أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحلْوانِي سنة سبع عشرَة وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْكُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الأَشْعَرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ قَالَ: إِنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَا عِبَادِي كلكُمْ مذنب إِلَّا من عافيت، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، وَمَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ فَاسْتَغْفَرَنِي بِقُدْرَتِي غَفَرْتُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَكُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُ فَسَلُونِي أَهْدِكُمْ، وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلا مَنْ أَغْنَيْتُ فَسَلُونِي أَرْزُقْكُمْ، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى إِشْقَاءِ قَلْبِ عبدٍ مِنْ عِبَادِي لم ينقص مُلْكِي جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَلَوْ أَنَّ حَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَأَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فَسَأَلَ كُلُّ سَائِلٍ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مَا سَأَلَ لَمْ يَنْقُصْ مُلْكِي إِلا كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ عَلَى شَفَةِ الْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ انْتَزَعَهَا، وَذَلِكَ بِأَنِّي جواد وَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، عَطَائِي كَلامٌ، وَعَذَابِي كَلامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. تَعْلِيق على الحَدِيث قَالَ القَاضِي أَبُو الفَرَج: فِي هَذَا الْخَبَر مَا يبْعَث على التفكر فِي عَظمَة الله ورأفته

وصية عبد الملك لأبنائه

وَرَحمته وسعة ملكه وجوده وَكَرمه، وَيَدْعُو إِلَى تَوْجِيه كل رَاغِب إِلَيْهِ رغبته ومسألته ومغفرته وإنزاله كل حَاجَة بِهِ ثِقَة بتفضله وإيمانًا بِأَنَّهُ الْملك الْأَعَز الأكرم وَحده الَّذِي بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء، وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ، وَأَنه لَا ملْجأ وَلَا منجى مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَأَن الْفضل كُله بِيَدِهِ، اللَّهُمَّ فَاغْفِر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وطهر قُلُوبنَا فقد فرطنا فِي أمورنا وظلمنا أَنْفُسنَا، وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللَّهُمَّ وأجرنا من سخطك واعصمنا من معصيتك ووفقنا لطاعتك وأعنا على عبادتك وأوزعنا شكر نِعْمَتك وألهمنا ذكرك، وَيسر لنا الْحَلَال الطّيب من رزقك وألبسنا عافيتك وَافْتَحْ لنا أَبْوَاب فضلك وأحينا متقلبين فِي نعمك منعمين بخيرك وَاخْتِمْ لنا خير خَاتِمَة وَأَكْرمنَا بِحسن المنقلب، وَاجعَل قبضك إيانا رَاحَة لنا من فتن الدُّنْيَا ومهالكها ومفضيًا بِنَا إِلَى روح الْجنَّة وممالكها، إِنَّك جواد كريم رؤوف رَحِيم. وَصِيَّة عبد الْملك لأبنائه حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الْعُتْبِي قَالَ: لما حضرت عبد الْملك بْن مَرْوَان الْوَفَاة جمع وَلَده وَفِيهِمْ مسلمة وَكَانَ سيدهم فَقَالَ: أوصيكم بتقوى الله تَعَالَى فَإِنَّهَا عصمَة بَاقِيَة وجنة واقية، وَهِي أحصن كهفٍ وأزين حلية، وليعطف الْكَبِير مِنْكُم على الصَّغِير، وليعرف الصَّغِير مِنْكُم حق الْكَبِير، مَعَ سَلامَة الصُّدُور، وَالْأَخْذ بجميل الْأُمُور، وَإِيَّاكُم الْفرْقَة وَالْخلاف فبهما هلك الْأَولونَ، وذل ذَوُو الْعِزَّة المعظمون. انْظُرُوا مسلمة فاصدروا عَن رَأْيه فَإِنَّهُ نابكم الَّذِي عَنْهُ تفترون ومجنكم الَّذِي بِهِ تستجنون، وأكرموا الْحجَّاج فَإِنَّهُ وطأ لكم المنابر وَأثبت لكم الْملك، وَكُونُوا بني أم بَرزَة وَإِلَّا دبت بَيْنكُم العقارب، كونُوا فِي الْحَرْب أحرارًا وللمعروف منارًا، واحلولوا فِي مرارةٍ، ولينوا فِي شدَّة، وضعُوا الذَّخَائِر عِنْد ذَوي الْحساب والألباب، فَإِنَّهُ أصون لأحسابهم وأشكر لما يسدى إِلَيْهِم. ثُمَّ أقبل على ابْنه الْوَلِيد فَقَالَ: لَا ألفينك إِذا مت تجْلِس تعصر عَيْنَيْك وتحن حنين الْأمة، وَلَكِن شمر وائتزر والبس جلدَة نمر ودلني فِي حفرتي وخلني وشأني وَعَلَيْك وشأنك، ثُمَّ ادْع النَّاس إِلَى الْبيعَة فَمن قَالَ هَكَذَا فَقل بِالسَّيْفِ هَكَذَا. ثُمَّ أرسل إِلَى عَبد اللَّه ابْن يزِيد بْن مُعَاوِيَة وخَالِد بْن أسيد فَقَالَ: هَل تدريان لم بعثت إلَيْكُمَا؟ قَالَا: نعم لترينا أثر عَافِيَة الله تَعَالَى إياك، قَالَ: لَا، وَلَكِن قد حضر من الْأَمر مَا تريان، فَهَل فِي أنفسكما من بيعَة الْوَلِيد شَيْء؛ فَقَالَا: لَا، وَالله مَا نرى أحدا أَحَق بهَا مِنْهُ بعْدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ: أولى لَكمَا، أما وَالله وَلَو غير ذَلِك قلتما لضَرَبْت الَّذِي فِيهِ أعينكما، ثُمَّ رفع فرَاشه فَإِذا السَّيْف مَشْهُور، وَلم يزل بَين مقالتين حَتَّى فاظ، مقَالَته الأولى: فَهَل من خالدٍ إِمَّا هلكنا ... وَهل بِالْمَوْتِ يَا للنَّاس عَار ومقالته الثَّانِيَة: الْحَمد لله الَّذِي لَا يُبَالِي من أَخذ من خلقه أَو ترك، صَغِيرا أَو كَبِيرا،

شروح وتعليقات

حتي مَاتَ، فسجاه الْوَلِيد، وَكَانَ هِشَام أَصْغَر وَلَده فَقَالَ: وَمَا كَانَ قيس هلكه هلك واحدٍ ... وَلكنه بُنيان قومٍ تهدما فَلَطَمَهُ الْوَلِيد ثُمَّ قَالَ لَهُ: اسْكُتْ يَا ابْن إِلَّا شجعية فَإنَّك أَحول أكشف، تنطق بِلِسَان شَيْطَان، أَلا قلت: إِذا مقرم منا ذرى حد نابه ... تخمط منا نَاب آخر مقرم فَقَالَ مسلمة: إيَّاكُمْ والضجاج فَإِنَّكُم إِن صلحتم صلح النَّاس، وَإِن فسدتم كَانَ الْفساد أسْرع، ثُمَّ قَالَ: لقد أفسد الْمَوْت الْحَيَاة وَقد أَتَى ... على شخصه يَوْم عَليّ عصيب فَإِن تكن الْأَيَّام أحسن مرّة ... إِلَى فقد عَادَتْ لَهُنَّ ذنُوب أَتَى دون حُلْو الْعَيْش حَتَّى أمره ... نكوب على آثارهن نكوب فَقَالَ سُلَيْمَان: مَاتَ وَالله أَمِير الْمُؤمنِينَ وَصَارَ فِي منزلَة هُوَ فِيهَا والذليل الضَّعِيف سَوَاء. ثُمَّ صعد الْمِنْبَر الْوَلِيد فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَصلى على النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون يَا لَهَا مُصِيبَة مَا أعظمها وأفظعها، وأخصها وأعمها وأوجعها، موت أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَيَا لَهَا نعْمَة مَا أعظمها وأجسمها وَأوجب الشُّكْر عَليّ لله فِيهَا: خِلَافَته الَّتِي سربلنيها. فَكَانَ أول من عزى نَفسه وهنأها بالخلافة. ثُمَّ قَالَ: انهضوا رحمكم الله فَبَايعُوا على بركَة الله. فَلَمَّا بَايعه النَّاس جلس مجْلِس عبد الْملك وَجمع أهل بَيته ثُمَّ قَالَ: القوا الضغائن والتحاسد بَيْنكُم ... عِنْد المغيب وَفِي الْحُضُور الشهد بصلاح ذَات الْبَين طول بقائكم ... إِن مد فِي عمري وَإِن لم يمدد فلمثل ريب الدَّهْر ألف بَيْنكُم ... بتواصلٍ وتراحمٍ وتودد وانفوا الضغائن والتخاذل عَنْكُم ... بتكرمٍ وتوازرٍ وتغمد حَتَّى تلين جلودكم وقلوبكم ... لمسودٍ مِنْكُم وَغير مسود إِن القداح إِذا اجْتَمعْنَ فرامها ... بِالْكَسْرِ ذُو حنقٍ وبطش أيد عزت فَلم تكسر وَإِن هِيَ بددت ... فالوهن والتكسير للمتبدد شُرُوح وتعليقات قَالَ القَاضِي: قَوْله: تحن حنين الْأمة، الحنين: الْبكاء، وَقيل صَوت الْبكاء، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَلَا تبكوا عَليّ وَلَا تحنوا ... بقول الْإِثْم إِن الْإِثْم حوب وَأما تمثل هِشَام بِالْبَيْتِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِنَّهُ لعبدة بْن الطَّبِيب قَالَه فِي قيس ابْن عَاصِم يرثيه فِي شعرٍ لَهُ وَهُوَ: عَلَيْك سَلام الله قيس بْن عاصمٍ ... وَرَحمته مَا شَاءَ أَن يترحما

حوار بين ابن الزبير وابن عباس

تَحِيَّة من أسديته مِنْك نعْمَة ... إِذا زار عَن شحط بلادك سلما فَمَا كَانَ قيس هلكه هلك واحدٍ ... وَلكنه بُنيان قومٍ تهدما ويروى: هلك واحدٍ، رفعا ونصبًا، فَمن نصب فعلى أَنه خبر كَانَ، وَجعل قَوْله هلكه بَدَلا من قيس، الْبَدَل الْمَعْرُوف بالاشتمال لاشْتِمَاله على الْمَعْنى، كَقَوْلِك أعجبني عَبد اللَّه علمه؛ الْمَعْنى: أعجبني علم عَبد اللَّه. قَالَ الله تَعَالَى: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قتالٍ فِيهِ " الْبَقَرَة: 217 الْمَعْنى: يَسْأَلُونَك عَن قتال فِي الشَّهْر الْحَرَام. وَمن هَذَا النَّوْع قَول الْأَعْشَى بهجو الْحَارِث بْن وَعلة: لعمرك مَا أشبهت وَعلة فِي الندى ... شمائله وَلَا أَبَاهُ المجالدا الْمَعْنى: شمائل وَعلة؛ وَالْبدل فِي الْكَلَام لَهُ أَقسَام وفروع وَأَحْكَام، والكوفيون يعبرون عَن هَذَا الْبَاب بالتكرير والترجمة والإتباع، ولبسطه وَشَرحه مَوضِع هُوَ أولى بِهِ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي غير مَوضِع من كتبنَا وضمنا طرفا مِنْهُ فِي كتَابنَا الْمُسَمّى الشافي فِي طَهَارَة الرجلَيْن. حوار بَين ابْن الزُّبَيْر وَابْن عَبَّاس حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عِكْرِمَةَ الضَّبِّيُّ عَامِرُ بْنُ عِمْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ إِلَى الْكُوفَةِ اجْتَمَعَ ابْنُ عباسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَضَرَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى جَنْبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَتَمَثَّلَ: يَا لَكِ مِنْ قبرةٍ بِمَعْمَرٍ ... خَلا لَكَ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفُرِي وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي خلا وَالله يَا ابْن الزُّبَيْرِ الْحِجَازُ وَصَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْعِرَاقِ؛ قَالَ فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ مَا تَرَوْنَ إِلا أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا يَرَى مَنْ كَانَ فِي شكٍ، فَأَمَّا نَحْنُ فَمِنْ ذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ، وَلَكِنْ أَخْبِرْنِي عَنْ نَفْسِكَ: لِمَ زَعَمْتَ أَنَّكَ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ؟ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لِشَرَفِي عَلَيْهِمْ قَدِيمًا لَا يُنْكِرُونَهُ، قَالَ: فَأَيُّمَا أَشْرَفُ أَنْتَ أَمْ مَنْ شَرُفْتَ بِهِ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي شَرُفْتُ بِهِ زَادَنِي شَرَفًا. قَالَ: وَعَلَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَقَالَ ابْنُ أَخٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: يَا ابْن عَبَّاس دَعْنَا من قَوْلك فو الله لَا تُحِبُّونَا يَا بَنِي هَاشِمٍ أَبَدًا، قَالَ: فَخَفَقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِالنَّعْلِ وَقَالَ: أَتَتَكَلَّمُ وَأَنَا حَاضِرٌ؟، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ ضَرَبْتَ الْغُلامَ وَمَا اسْتَحَقَّ الضَّرْبَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ من مرق ومذق؟ قَالَ: يَا ابْن عَبَّاسٍ أَمَا تُرِيدُ أَنْ تَعْفُوَ عَنْ كَلِمَةٍ وأحدةٍ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَعْفُو عَنْ مَنْ أَقَرَّ فَأَمَّا مَنْ هَرَّ فَلا؛ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَيْنَ الْفَضْلُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ لَا نَضَعُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَنَنْدَمَ، وَلا نَزْوِيهِ عَنْ أَهْلِهِ فَنَظْلِمَ، قَالَ: أَوَلَسْتُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلَى إِنْ نَبَذْتَ الْحَسَدَ وَلَزِمْتَ الْجَدَدَ؛ قَالَ: فَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَسْكَتُوهُمَا.

قصة جحدر اللص والحجاج والأسد

قصَّة جحدر اللص وَالْحجاج والأسد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ أَخْبرنِي أَحْمَد بْن عبيدٍ عَنْ أبي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَعرَابِي قَالَ: بَلغنِي أَنه كَانَ رجل من بني حنيفَة يُقَال لَهُ جحدر بْن مَالك فتاكًا شجاعًا قد أغار على أهل حجرٍ وناحيتها، فَبلغ ذَلِك الْحجَّاج بْن يُوسُف، فَكتب إِلَى عَامله بِالْيَمَامَةِ يوبخه بتلاعب جحدر بِهِ، ويأمره بالإجداد فِي طلبه والتجرد فِي أمره؛ فَلَمَّا وصل الْكتاب إِلَيْهِ أرسل إِلَى فتيةٍ من بني يَرْبُوع من بني حَنْظَلَة فَجعل لَهُم جعلا عَظِيما إِن هم قتلوا جحدرًا أَو أَتَوا بِهِ أَسِيرًا، فَانْطَلق الْفتية حَتَّى إِذا كَانُوا قَرِيبا مِنْهُ أرْسلُوا إِلَيْهِ أَنهم يُرِيدُونَ الِانْقِطَاع إِلَيْهِ والتحرز بِهِ، فاطمأن إِلَيْهِم ووثق بهم، فَلَمَّا أَصَابُوا مِنْهُ غرَّة شدوه كتافًا وَقدمُوا بِهِ على الْعَامِل، فَوجه بِهِ مَعَهم إِلَى الْحجَّاج وَكتب يثني عَلَيْهِم خيرا، فَلَمَّا أَدخل على الْحجَّاج قَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا جحدر بْن مَالك، قَالَ: مَا حملك على مَا كَانَ مِنْك؟ قَالَ: جرْأَة الْجنان، وجفاء السُّلْطَان، وكلب الزَّمَان، فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: وَمَا الَّذِي بلغ مِنْك فيجترى جنانك ويجفوك سلطانك ويكلب زَمَانك؟ قَالَ: لَو بلاني الْأَمِير أكْرمه الله لوجدني من صَالح الأعوان وبهم والفرسان، ولوجدني من أنصح رَعيته، وَذَلِكَ أَنِّي مالقيت فَارِسًا قطّ إِلَّا كنت عَلَيْهِ فِي نَفسِي مقتدرًا، قَالَ لَهُ الْحجَّاج: إِنَّا قاذفون بك فِي حائرٍ فِيهِ أَسد عَاقِر ضارٍ فَإِن هُوَ قَتلك كفانا مؤونتك، وَإِن أَنْت قتلته خلينا سَبِيلك؛ قَالَ: أصلح الله الْأَمِير، عظمت الْمِنَّة، وَأعْطيت الْمنية، وقويت المحنة، فَقَالَ الْحجَّاج: فَإنَّا لسنا بتاركيك لتقاتله إِلَّا وَأَنت مكبل بالحديد، فَأمر بِهِ الْحجَّاج فغلت يَمِينه إِلَى عُنُقه وَأرْسل بِهِ إِلَى السجْن. فَقَالَ جحدر لبَعض من يخرج إِلَى الْيَمَامَة: تحمل عني شعرًا، وَأَنْشَأَ يَقُول: أَلا قد هاجني فازددت شوقًا ... بكاء حَمَامَتَيْنِ تجاوبان تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غُصْنَيْنِ من غربٍ وَبَان فَقلت لصاحبي وَكنت أحزو ... بِبَعْض الطير مَاذَا تحزوان فَقَالَا الدَّار جَامِعَة قريب ... فَقلت بل أَنْتُمَا متمنيان فَكَانَ البان أَن بَانَتْ سليمي ... وَفِي الغرب اغتراب غير داني أَلَيْسَ اللَّيْل يجمع أم عَمْرو ... وإيانا فَذَاك بِنَا تداني بلَى وَترى الْهلَال كَمَا نرَاهُ ... ويعلوها النَّهَار إِذا علاني إِذا جاوزتما نخلات حجرٍ ... وأودية الْيَمَامَة فانعياني وقولا جحدر أَمْسَى رهينًا ... يحاذر وَقع مصقول يماني

المأمون يترحم على ابن أبي خالد

قَالَ: وَكتب الْحجَّاج إِلَى عَامله بكسكر أَن يُوَجه إِلَيْهِ بأسدٍ ضارٍ عاتٍ ويجر على عجل؛ فَلَمَّا ورد كِتَابه على الْعَامِل امتثل أمره، فَلَمَّا ورد الْأسد على الْحجَّاج أَمر بِهِ فَجعل فِي حائرٍ وأجيع ثَلَاثَة أَيَّام، وَأرْسل إِلَى جحدر فَأتي بِهِ من السجْن وَيَده الْيُمْنَى مغلولة إِلَى عُنُقه، وَأعْطِي سَيْفا وَالْحجاج وجلساؤه فِي منظرةٍ لَهُم، فَلَمَّا نظر جحدر إِلَى الْأسد أنشأ يَقُول: لَيْث وَلَيْث فِي محلٍ ضنك ... كِلَاهُمَا ذُو أنفٍ ومحك وشدةٍ فِي نَفسه وفتك ... إِن يكْشف الله قناع الشَّك أَو ظفر بحاجتي ودركي ... فَهُوَ أَحَق منزل بترك فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ الْأسد زأر زأرة شَدِيدَة وتمطى وَأَقْبل نَحوه، فَلَمَّا صَار مِنْهُ على قدر رمح وثب وثبة شَدِيدَة، فَتَلقاهُ جحدر بِالسَّيْفِ فَضَربهُ ضَرْبَة حَتَّى خالط ذُبَاب السَّيْف لهواته، فَخر الْأسد كَأَنَّهُ خيمة قد صرعتها الرّيح، وَسقط جحدر على ظَهره من شدَّة وثبة الْأسد وَمَوْضِع الكبول، فَكبر الْحجَّاج وَالنَّاس جَمِيعًا، وَأَنْشَأَ جحدر يَقُول: يَا جمل إِنَّك لَو رَأَيْت كريهتي ... فِي يَوْم هولٍ مسدف وعجاج وتقدمي لليث أرسف موثقًا ... كَيْمَا أثاوره على الإحراج شثن براثنه كَأَن نيوبه ... زرق المعاول أَو شباة زجاج يسمو بناظرتين تحسب فيهمَا ... لما أَحدهمَا شُعَاع سراج وكأنما خيطت عَلَيْهِ عباءة ... برقاء أَو خرق من الديباج لعَلِمت أَنِّي ذُو حفاظٍ ماجد ... من نسل أَقوام ذَوي أبراج ثمَّ الْتفت إِلَى الْحجَّاج فَقَالَ: وَلَئِن قصدت بِي الْمنية عَامِدًا ... إِنِّي بخيرك بعد ذَاك لراجي ويروى: إِنِّي لخيرك يَا ابْن يُوسُف راج. علم النِّسَاء بأنني لَا أنثني ... إِذْ لَا يثقن بغيرة الْأزْوَاج وَعلمت أَنِّي إِن كرهت نزاله ... أَنِّي من الْحجَّاج لست بناج فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: إِن شِئْت أسنينا عطيتك، وَإِن شِئْت خلينا سَبِيلك، قَالَ: لَا، بل اخْتَار مجاورة الْأَمِير، أكْرمه الله. فَفرض لَهُ وَلأَهل بَيته وَأحسن جائزته. قَالَ القَاضِي: مسدف: مظلم من السدفة، والرسف: مشي الْمُقَيد، والبرائن: مخالب الْأسد. والشبا والشباة: حد الأسنة، قَالَ أَبُو بكرٍ: البرقاء الَّتِي فِيهَا سَواد وَبَيَاض. الْمَأْمُون يترحم على ابْن أَبِي خَالِد حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ: سَمِعت جرير بن أَحْمد بن أبي دواد يَحْكِي عَن أَبِيه أَن أَحْمَد بن أبي خالدٍ وَزِير الْمَأْمُون توفّي فِي آخر سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَأَن الْمَأْمُون صلى

سعة علم المأمون

عَلَيْهِ ووقف على قَبره فَلَمَّا دُلي فِي قَبره قَالَ: رَحِمك الله، أَنْت وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَخُو الْجد إِن جد الرِّجَال وشمروا ... وَذُو باطلٍ إِن كَانَ فِي الْقَوْم بَاطِل سَعَة علم الْمَأْمُون حَدثنَا عبد الْبَاقِي بْن قانعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَان بْن عمرَان العجيفي عَن مُحَمَّد بْن سعدٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حَفْص الْأنمَاطِي قَالَ: تغدينا مَعَ الْمَأْمُون فِي يَوْم عيدٍ، قَالَ: وَأَظنهُ وضع على مائدته أَكثر من ثَلَاثمِائَة لونٍ، قَالَ: فَكلما وضع لون نظر الْمَأْمُون إِلَيْهِ فَقَالَ: هَذَا نَافِع لكذا ضار لكذا، فَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب بلغم فليجتنب هَذَا، وَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب بلغم فليجتنب هَذَا، وَمن كَانَ مِنْكُم صَاحب صفراء فَليَأْكُل من هَذَا، وَمن غلبت عَلَيْهِ السَّوْدَاء فَلَا يعرض لهَذَا، وَمن قصد قلَّة الْغذَاء فليقتصر على هَذَا. قَالَ: فو الله إِن زَالَت تِلْكَ حَاله فِي كل لونٍ يقدم إِلَيْهِ حَتَّى رفعت الموائد، فَقَالَ لَهُ يحيى بْن أَكْثَم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن خضنا فِي الطِّبّ كنت جالينوس فِي مَعْرفَته، أَو فِي النُّجُوم كنت هرمس فِي حسابه، أَو فِي الْفِقْه كنت عَليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام فِي علمه، أَو ذكر السخاء كنت حَاتِم طَيء فِي صفته، أَو صدق الحَدِيث فَأَنت أَبُو ذرٍ فِي لهجته، أَو الْكَرم فَأَنت كَعْب بْن مامة فِي فعاله، أَو الْوَفَاء فَأَنت السموأل ابْن عاديا فِي وفائه. فسر بِهَذَا الْكَلَام وَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد إِن الْإِنْسَان إِنَّمَا فضل بعقله، وَلَوْلَا ذَلِك لم يكن لحم أطيب من لحمٍ وَلَا دم أطيب من دمٍ. ميل الْمَأْمُون إِلَى التَّوَاضُع قَالَ: وَنظر يَوْمًا إِلَى رُؤُوس آنيته محشوة بقطنٍ وَكَانَت قبل ذَلِك بأطباق فضةٍ، فَقَالَ لصَاحب الشَّرَاب: أَحْسَنت يَا بني إِنَّمَا يباهي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة من قلا عِنْده، وَأما نَحن فَيَنْبَغِي أَن نباهي بالأفعال الجميلة والأخلاق الْكَرِيمَة، فإياك أَن تحشو رُؤُوس أوانيك إِلَّا بالقطن فَذَاك بالملوك أهيأ وأبهى. ولد لأبي دلامة ابْنة حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سعدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بن خَليفَة بن الجهم الدَّارِمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَفْص المعجلي قَالَ: ولد لأبي دلامة ابْنة فغدا على أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه ولد لي اللَّيْلَة ابْنة، قَالَ: فَمَا سميتها؟ قَالَ: أم دلامٍ. قَالَ: وَأي شَيْء تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيد أَن يُعِيننِي عَلَيْهَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ أنْشدهُ: لَو كَانَ يقْعد فَوق الشَّمْس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يَا آل عَبَّاس ثمَّ ارْتَقَوْا فِي شُعَاع الشَّمْس كلكُمْ ... إِلَى السَّمَاء فَأنْتم أكْرم النَّاس قَالَ: فَهَل قلت فِيهَا شَيْئا؟ قَالَ: نعم، قلت: فَمَا وَلدتك مَرْيَم أم عِيسَى ... وَلم يكفلك لُقْمَان الْحَكِيم وَلَكِن قد تضمك أم سوءٍ ... إِلَى لباتها وَأب لئيم

إياس دخل الشام وهو غلام

قَالَ: فَضَحِك أَبُو جَعْفَر، ثُمَّ أخرج أَبُو دلامة خريطة من خرق فَقَالَ: مَا هَذِه؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أجعَل فِيهَا مَا تحبوني بِهِ، فَقَالَ: املؤوها لَهُ دَرَاهِم فوسعت ألفي دِرْهَم. إِيَاس دخل الشَّام وَهُوَ غُلَام حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زيادٍ الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا مسبح بْن حَاتِم بِالْبَصْرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن عَائِشَة عَن أَبِيه قَالَ: دخل إِيَاس بْن مُعَاوِيَة الشَّام وَهُوَ غُلَام، فَقدم خصما لَهُ إِلَى قَاض لعبد الْملك بْن مَرْوَان، وَكَانَ خَصمه شَيخا صديقا للْقَاضِي، فَقَالَ لَهُ القَاضِي: يَا غُلَام أما تَسْتَحي أَن تقدم شَيخا كَبِيرا؟! قَالَ إِيَاس: الْحق أكبر مِنْهُ، قَالَ لَهُ: أسكت، قَالَ لَهُ: فَمن ينْطق بحجتي إِذا سكت؟ قَالَ: مَا أحسبك تَقول حَقًا حَتَّى تقوم، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا الله، قَالَ: مَا أَظُنك إِلَّا ظَالِما، قَالَ: مَا على ظن القَاضِي خرجت من منزلي. فَدخل القَاضِي على عبد الْملك فاخبره الْخَبَر فَقَالَ لَهُ: اقْضِ حَاجته واصرفه عَن الشَّام لَا يفْسد النَّاس علينا. كرم إِبْرَاهِيم بْن عَاصِم الْعقيلِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عَليّ الإسكافي حَدَّثَنِي جدي قَالَ وحَدثني أَبُو محلم قَالَ: كَانَ هِشَام بْن عبد الْملك ولى سجستان إِبْرَاهِيم بْن عَاصِم الْعقيلِيّ، وَكَانَ من كرماء النَّاس، فَقَالَ فِيهِ علكم بْن مهير الْعقيلِيّ: أما قبيحات النِّسَاء فإننا ... أَبينَا، وَأما منجبات الكرائم فيمنعني مِنْهُنَّ أَن لَيْسَ عندنَا ... لَهُنَّ مُهُور أَو يزار ابْن عَاصِم قَالَ: فَحمل إِلَيْهِ من سجستان قبل أَن ينْزع إِلَيْهِ مائَة ألف درهمٍ. أَنْوَاع المفاتيح حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحسن النقاش قَالَ حَدَّثَنَا السراج قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُد بْن رشيد قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مسلمٍ قَالَ حَدَّثَنِي خُلَيْد بْن دعْلج عَن قَتَادَة قَالَ: مَفَاتِيح الْبَحْر السفن، ومفاتيح الأَرْض الطّرق، ومفاتيح السَّمَاء الدُّعَاء. ضوال الْكَلَام وضوال الْإِبِل حَدثنَا عَلِيّ بْن سُلَيْمَان الْأَخْفَش قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يزِيد قَالَ، قَالَ بعض الْحُكَمَاء: ضوال الْكَلَام أحب إِلَيّ من ضوال الْإِبِل، قيل لَهُ: نَحْو مَاذَا؟ قَالَ: نَحْو قَول الشَّاعِر: وَإِنِّي لأرجو الله حَتَّى كَأَنَّمَا ... أرى بجميل الظَّن مَا الله صانع وصف دَعْوَة مظلوم حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ أنشدنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بْن الْمُدبر قَالَ أَنْشدني مُحَمَّد بْن عمر الْجِرْجَانِيّ قَالَ أَنْشدني إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، قَالَ الصولي: وأنشدنا

المؤتمن يتعلم النحو

أَحْمَد بْن يحيى وَلكنه قَالَ: أنْشد إِسْحَاق لأعرابي يصف دَعْوَة دَعَا بهَا مظلوم: وساريةٍ لم تسر فِي الأَرْض تبتغي محلا ... وَلم يقطع بهَا الْبعد قَاطع سرت حَيْثُ لم تحد الركاب وَلم تنخ ... لوردٍ وَلم يقصر لَهَا الْقَيْد مَانع تمر مُرُور اللَّيْل وَاللَّيْل ضَارب ... بجثمانه فِيهِ سمير وهاجع إِذا وَردت لم يردد الله وفدها ... على أَهلهَا وَالله رَاء وسامع تفتح أَبْوَاب السَّمَوَات دونهَا ... إِذا قرع الْأَبْوَاب مِنْهُنَّ قارع وَإِنِّي لأرجو الله حَتَّى كَأَنَّمَا ... أرى بجميل الظَّن مَا الله صانع المؤتمن يتَعَلَّم النَّحْو حَدثنَا الْعَبَّاس بْن الْعَبَّاس بْن الْمُغيرَة أَبُو الْحُسَيْن الْجَوْهَرِي حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى الوَاسِطِيّ الفراقي قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: الفراقي هَذَا كَانَ نَظِير ثَعْلَب، قَالَ حَدَّثَنِي سَلمَة أَو الطوَال شكّ أَبُو الْحُسَيْن قَالَ حَدَّثَنِي الْفراء أَنه دخل على المؤتمن وَكَانَ قُرَيْش مؤدبة فَقَالَ لَهُ الْفراء: أَيْن بلغ الْأَمِير؟ يَعْنِي من الْعَرَبيَّة فَقَالَ: سَله، فَقَالَ لَهُ الْفراء: كَيفَ تَقول: إِن مَا ضربت زيد؟ فَقَالَ لَهُ المؤتمن: إِنَّمَا ضربت زيد، فَقَالَ الْفراء: يجمل بالأمير النّظر فِيهَا، وَلم يقل لَهُ أَخْطَأت، فَقَالَ: قد أصبت، فَقَالَ لَهُ الْفراء: وَأَيْنَ تُوجد مَا فِي معنى الَّذِي؟ قَالَ: فِي كتاب الله تَعَالَى، قَالَ: أَيْن؟ قَالَ: قَول الله تَعَالَى: " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " النِّسَاء:3 مَعْنَاهُ الَّذِي ملكت أَيْمَانكُم، قَالَ الْفراء: فَقُمْت وَقد حممت. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وَكَانَ الْكسَائي يُؤَدب المؤتمن، فَظهر بِهِ فِي كَفه بَيَاض، فَبلغ ذَلِك أمه فَخَشِيت أَن يُؤْذِيه الْكسَائي وَجِيء بقريشٍ يؤدبه. مَا وَمن قَالَ القَاضِي: قد ذهب قوم إِلَى أَن مَا تَأتي بِمَعْنى الَّذِي وَمن، وَالْأَصْل الظَّاهِر اخْتِصَاص من يعلم وَمن يعقل ب؟ من وَأَن مَا لما لَا يعقل ولجنس مَا يعقل، وان الَّذِي لَهما جَمِيعًا، وَمن أَحْكَام مَا أَنَّهَا قد تكون هِيَ وصلتها بِمَعْنى الْمصدر، وَقد حكى عَن بعض الْعَرَب: سُبْحَانَ مَا سبحت لَهُ، يعنون الرَّعْد، فَذهب بِهِ بَعضهم إِلَى معنى من وَكَذَلِكَ قَوْله: " وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا " الشَّمْس:5 7 وَقَالَ منكروه من محققي النُّحَاة: هَذَا كُله بِمَعْنى الْمصدر وَالْمعْنَى وبنائها وطحوها وتسويتها، وَقَالُوا: معنى " وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " النِّسَاء: 36 وَأَيْمَانهمْ أَي ملك أَيْمَانكُم وَأَيْمَانهمْ كَقَوْلِك: أعجبني مَا صنعت أَي صنيعك. وَقيل فِي قَوْله: " وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى " اللَّيْل:3 أَنه بِمَعْنى: وخلقه الذّكر وَالْأُنْثَى، وَقيل غير ذَلِك. وَيُقَال: مَا زيد؟ فَيُقَال: إِنْسَان فَهَذَا صَحِيح فِي جنس مَا يعقل. وَالْعجب من استخذاء الْفراء عِنْدَمَا احْتج عَلَيْهِ المؤتمن بِهِ وَكَيف لم يُورد شَيْئا مِمَّا

المجلس الثالث والستون

تعلق بِهِ الموافقون لَهُ فِي مذْهبه، وَقد كَانَت رتبته تجل عَن أَن يذهب هَذَا الْمَعْنى عَلَيْهِ، وَأَن يَنْفَكّ عَن نصْرَة قَوْله وَالْقِيَام بِهِ، وَلَكِن رُبمَا ارتبك النحرير والبليغ المزير عِنْد شَيْء يفجؤه أَو عَارض يفدحه. كتاب من عَمْرو بْن مسْعدَة إِلَى ابْن الزيات حَدثنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالب الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي عَبد اللَّه ابْن هَارُون قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن مُوسَى البيمار ستاني، قَالَ أَبُو طَالب: أَحْسبهُ سَمعه من أبي عبد الله البيمار ستاني، هُوَ البرطني، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَفْص الْكرْمَانِي، وَكَانَ من كتاب عَمْرو بْن مسْعدَة، أَنه كتب إِلَى مُحَمَّد بْن عبد الْملك الزيات: أما بعد فَإنَّك مِمَّن إِذا غرس سقى وَإِذا أسس بنى، ليستتم بِنَاء أسه، يجتني ثَمَر غرسه، وبناؤك فِي ودي قد وهى وشارف الدُّرُوس، وغرسك عِنْدِي قد عَطش وأشفى على اليبوس. فتدارك بِنَاء مَا أسست، وغرس مَا زرعت. قَالَ أَبُو عبد الله البيمار ستاني: فَحدثت بذلك أَبَا عبد الرَّحْمَن العطوي فَقَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى أبياتًا يمدح بهَا مُحَمَّد بْن عمرَان بْن مُوسَى بْن يحيى بْن خَالِد بْن برمك: إِن البرامكة الْكِرَام تعلمُوا ... فعل الْكِرَام فعلموه الناسا كَانُوا إِذا غرسوا سقوا وَإِذا بنوا ... لم يهدموا لبنائهم أساسًا وَإِذا هم صَنَعُوا الصَّنَائِع فِي الورى ... جعلُوا لَهَا طول الْبَقَاء لباسا فعلا تسقيني وَأَنت سقيتني ... كأس الْمَوَدَّة من جفاتك كاسا آنستني متفضلا أَفلا ترى ... أَن القطيغة توحش الإيناسا منامان حَدثنَا عَبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن الْفرج الوَاسِطِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن عَبد اللَّه الْمقدمِي قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّد بْن عُمَر بْن عَليّ يحدث عَن هَارُون بْن رَحِيم قَالَ: رَأَيْت الْحسن بْن حبيب بْن ندبة فِي النّوم فَقلت: مَا صنع بك رَبك؟ قَالَ: مَا ترَاهُ صنع بِي؟ رحمني وأكرمني وَغفر لي وطيبني وَقَالَ: هَكَذَا أفعل بأبناء ثَلَاث وَثَمَانِينَ. حَدثنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَليّ الديباجي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يُونُس، قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: رأى رجل فِي الْمَنَام جرير بْن الخطفى فَقَالَ: مَا فعل بك رَبك؟ قَالَ: غفر لي، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بتكبيرةٍ كَبرت الله تَعَالَى فِي الْمقر قَالَ الْأَصْمَعِي: مَاء بالبادية قلت: فَمَا فعل أَخُوك الفرزدق؟ قَالَ: هَيْهَات أهلكه قذف الْمُحْصنَات، قَالَ الْأَصْمَعِي: لم يَدعه فِي الْحَيَاة وَلَا فِي الْمَمَات. الْمجْلس الثَّالِث وَالسِّتُّونَ عَليّ بْن الجهم وَحَدِيث الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو محمدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ

تعليق الجريري

عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ الشَّافِعِيِّ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحٍ الشِّيَرازِيُّ قَالَ: نَزَلَ عَلَيَّ بْنُ الْجَهْمِ بِشِيرَازَ فَقَالَ لِي: أَخُصُّكَ بِحَدِيثٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: افْعَلْ، فَقَالَ: قَالَ لِيَ الْمُتَوَكِّلُ يَوْمًا: يَا عَلِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشَرَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْجَنَّةِ، أَيُّ حَدِيثٍ هُوَ؟ قَالَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَصَحُّ حديثٍ، قَالَ: فَمَنْ رَوَاهُ؟ قَالَ قُلْتُ: رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ منصورٍ عَنْ هِلالِ بْنِ يسافٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَالِمٍ عَنْ سعيدٍ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشَرَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ فَقَالَ لِي: مَا أَحْسَنَهُ مِنْ حَدِيثٍ!! قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ حَضَرَنِي شَيْءٌ فَأَقُولُهُ؟ قَالَ: قل، قُلْتُ: مُحَمَّدٌ خَيْرُ بَنِي النَّضْرِ ... حَكَاهُ بِالْعَدْلِ أَبُو بَكْرِ صَدِيقُ خَيْرِ الْخَلْقِ لَا وَانِيَ ... يَنْصُرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَثَالِثُ الْقَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ ... يَخْلُفُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ذَاكَ أَبُو حَفْصٍ فَمَا مِثْلُهُ ... يَكُونُ حَتَّى آخِرِ الدَّهْرِ سُبْحَانَ مَنْ أَكْرَمَهُمْ بِالتُّقَى ... وَصَيَّرَ الأَبْرَارَ فِي قَبْرِ هَذَا هُوَ الْفَخْرُ فَلا غَيْرُهُ ... مَا بَعْدَ ذَاكَ الرَّمْسِ مِنْ فَخْرِ وَرَابِعُ الْقَوْمِ إِمَامُ الْهُدَى ... عُثْمَانُ ذُو النُّورِ أَبُو عَمْرِو كَفَى رَسُولُ اللَّهِ مَا هَمَّهُ ... وَجَهَّزَ الْجَيْشَ لَدَى الْعُسْرِ يَخْمِسُهُمُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ... إِمَامُ عدلٍ ظَاهِرُ النَّصْرِ صَاحِبُ صِفِّينَ فَمَا قَبْلَهَا ... إِلَى حُنَيْنٍ وَإِلَى بَدْرِ وَطَلْحَةُ الْخَيْرِ لَهُمْ سَادِسٌ ... أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْكفْر وَسبع الْقَوْمِ الزُّبَيْرُ الَّذِي ... كَانَ حَلِيفَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ هَذَا وَسَعْدٌ لَهُمْ ثَامِنٌ ... وَابْنُ عوفٍ طَيِّبُ النَّشْرِ وَحَمْزَةُ السَّيِّدُ فِي قَوْمِهِ ... عَلَى وُجُوهِ الْقَوْمِ كَالْبَدْرِ وَعَمُّ خَيْرِ الْخَلْقِ لَا يُمْتَرَى ... أَبُو الْمُلُوكِ السَّادَةُ الزَّهْرِ فَالْمُلْكُ فِيهِمْ أَبَدًا ثَابِتٌ ... مِنْ أَوَّلِ الدَّهْرِ إِلَى الْحَشْرِ قَالَ: فَضَحِكَ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَالا عَظِيمًا وَقَسَّمَهُ عَلَى بني هَاشم وقريشٍ وَالْأَنْصَار وَبَين الْمُهَاجِرِينَ وَأَعْطَانِي مِنْهُ صَدْرًا صَالِحًا. تَعْلِيق الْجريرِي قَالَ القَاضِي: الْخَبَر الْوَارِد عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَتِهِ للعشرة من أَصْحَابه بِالْجنَّةِ خبر

صَحِيح، وَقد أَتَت الرِّوَايَة بِهِ من طرقٍ عدَّة، وَفِي بَعْضهَا أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر نَفسه وَتِسْعَة مَعَه، وَفِي بَعْضهَا أَنه ذكر من صحابته عشرَة، وَالْأَخْبَار بِكُل واحدٍ من الْوَجْهَيْنِ ثَابِتَة. وَقَول عَليّ بْن الجهم فِي شعره لَا واني أَتَى بِهِ على الأَصْل، وَهَذَا مِمَّا يسوغ للشاعر لإِقَامَة الْوَزْن، قَالَ الشَّاعِر: كمشتريٍ بِالْحَمْد أحمرة تترى وَقَالَ آخر: لَا بَارك الله فِي الغواني هَل ... يصبحن إِلَّا لَهُنَّ مطلب وَقَوله: كَفَى رَسُولُ اللَّهِ مَا هَمَّهُ الْعَرَب تَقول: همك مَا أهمك أَي أذابك مَا يعذبك، وَيُقَال: هَمَمْت الشَّحْم أَي أذبته، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا كرثه ولذعه بمضضه، وَقَوله: يخمسهم ابْن أَبِي طَالب يُقَال: خمست الْقَوْم أخمسهم إِذا صرت خَامِسًا لَهُم، وَمثله ثلثتهم أثلثهم وسدستهم أسدسهم، وَمثله ثمنتهم وعشرتهم، فَإِذا قلت أخمسهم بِالضَّمِّ فمعنا أخذت خمس أَمْوَالهم، وَمثله أثلثهم وأسدسهم وأثمنهم وأعشرهم إِذا أخذت هَذِه الْأَجْزَاء مِنْهُم، فَإِذا قلت: ربعتهم وسبعتهم وتسعتهم قلت فِي الْوَجْهَيْنِ أربعهم وأتسعهم، ففتحت عين الْفِعْل من أجل حرف الْحلق. وَقَوله: ابْن أَبِي طالبٍ وابْن عوفٍ بِالْقطعِ وَالْألف فِيهِ للوصل لضَرُورَة الشّعْر وَتَصْحِيح الْوَزْن، وَقد أَتَى مثل هَذَا كثيرا فِي أشعار الْعَرَب، وَذكرنَا مِنْهُ فِيمَا مضى من كتَابنَا هَذَا أبياتًا عدَّة، من ذَلِك قَول الشَّاعِر: إلّا لَا أرى إثنين أكرمَ شِيمَةً ... عَلَى حِدْثان الدَّهْر مِنِّي وَمن جمل وَقَالَ آخر: فَأَي امْرِئ ألشامُ بيني وَبَينه ... أَتَتْنِي ببشرى برده ورسائله ولاستقصاء القَوْل فِي هَذَا بَين يَدي هِشَام حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالَ: صعد رجل إِلَى هِشَام بْن عبد الْملك فِي خضراء مُعَاوِيَة، فَمثل بَين يَدَيْهِ لَا يتَكَلَّم، فَقَالَ لَهُ هِشَام: مَالك لَا تَتَكَلَّم؟ قَالَ: هَيْبَة الْملك وبهر الدرج؛ فَلَمَّا رجعت نَفسه إِلَيْهِ قَالَ لَهُ هِشَام: تكلم وَإِيَّاك ومدحنا، فَقَالَ: لست أحمدك إِنَّمَا أَحْمَد الله تَعَالَى فِيك. ثُمَّ قَالَ: إِن الدُّنْيَا ذمت بأعمال الْعباد إِذا أساءوا، وَلم تحمد بأعمالهم فِيهَا إِذا أَحْسنُوا، وَإِن الدُّنْيَا لم تكْتم بِمَا فِيهَا فتذم وَلَكِن إِنَّمَا جهرت بِهِ، فَأَخذهَا من أَخذهَا بذلك وَهِي عَلَيْهِ، وَتركهَا من تَركهَا لذَلِك وَهِي لَهُ. وَإِن الدُّنْيَا نادت أَهلهَا بِأَنَّهَا تاركة من أَخذهَا، ومفارقة من صحبها، ومخربة عمرَان من عمرها، فَمن زرع فِيهَا شرورًا حصد حزنا، وَمن أبر فِيهَا هوى اجتنى ندامة، وَإِنَّمَا هِيَ لمن زهد فِيهَا الْيَوْم وَأعْرض عَنْهَا وآثر الْحق عَلَيْهَا؛ وَأَخذهَا من أَخذهَا بعد الْبَيَان مِنْهَا والإخبار عَن نَفسهَا، فغر نَفسه وسماها غرارة، وَكذب نَفسه وسماها كذابة، وزهد فِيهَا

شرح غريب النص

آخَرُونَ فصدقوا مقالتها، وَرَأَوا آثارها فِي فعلهَا فَأخذُوا مِنْهَا قَلِيلا، وَقدمُوا فِيهَا كثيرا، وسلموا من الْبَاطِل، وَصَارَت لَهُم عونًا على الْحق فِي غَيرهَا، فَلم تحمد بِإِحْسَان من أحسن فِيهَا وَهِي لَهُ، وذمت بإساءة من أَسَاءَ فِيهَا وَهِي عَلَيْهِ، فَأَنت أَحَق بإساءتك فِيهَا إِذْ كَانَ الْإِحْسَان لَك دونهَا. فَأَطْرَقَ هِشَام يفكر فِي كَلَامه وأملس الرجل فَلم يره. شرح غَرِيب النَّص قَالَ القَاضِي: وَمن أبر فِيهَا هوى أَي لقح يُقَال: أبرت النّخل وأبرته إِذا ألقحته، وَمِنْه قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بَاعَ نخلا مؤبرًا، وَقَوله: سكَّة مأبورة، وَقَالَ الشَّاعِر: لَا تأمنن قوما وترتهم ... وبدأتهم بالغشم وَالظُّلم أَن يأبروا نخلا لغَيرهم ... وَالشَّيْء تحقره وَقد ينمي وَقَوله: فأملس مَعْنَاهُ زَالَ عَن مَوْضِعه بسهولةٍ، وَهُوَ مَأْخُوذ من الملاسة، يُقَال: أملس من كَذَا وتملس أَي زَالَ بسرعةٍ لملاسة مَوْضِعه وَأَنه لَيْسَ فِيهِ أَجزَاء لَهَا نتوء ونبو وتضريس. وَيُقَال فِي هَذَا الْمَعْنى املص وتملص فَكَأَنَّهُ من الدحض والزلق، وَيُقَال إِن هَذَا الْوَجْه أفْصح الْكَلَامَيْنِ، وَمِنْه أملصت الْمَرْأَة فأزلقت إِذا أسقطت جَنِينهَا، وَمِنْه الْخَبَر الْوَارِد أَن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فِي إملاص امْرَأَة بغرةٍ: عبدٍ أَو أمةٍ وَذَلِكَ إِذا ضربت فَأسْقطت جَنِينا مَيتا. وَهَذَا الْخَبَر مِمَّا يُنَبه على الحذر من غرور الدُّنْيَا، وَقَالَ الله تَعَالَى ذكره: " يَا أَيهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ " فاطر:5. شعوانة تبْكي وتبكي حَدثنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يحيى قَالَ: كَانَت شعوانة تردد هَذَا الْبَيْت فتبكي وتبكي النِّسَاء مَعهَا: لقد أَمن الْمَغْرُور دَار إقامةٍ ... ويوشك يَوْمًا أَن يخَاف كَمَا أَمن مَا أنْفق يَوْم تحذيق المعتز حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن الْفُرَات قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي وَجَمَاعَة من شُيُوخنَا قَالَ: لما حذق المعتز الْقُرْآن دَعَا المتَوَكل شَفِيعًا الْخَادِم بِحَضْرَة الْفَتْح بْن خاقَان فَقَالَ: إِنِّي عزمت على تحذيق أَبِي عَبد اللَّه فِي يَوْم كَذَا وَتَكون خطبَته عَليّ وحذاقة ببركوارا، فَأخْرج من خزانَة الْجَوْهَر جوهرًا بِقِيمَة مائَة ألف دينارٍ فِي عشر صواني فضَّة للنثار على من يقرب من القواد مثل مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه ووصيف وبغا وجعفر الْخياط ورجاء الحصاري وَنَحْو هَؤُلَاءِ من قادة الْعَسْكَر، وَأخرج مائَة ألف دينارٍ عددا للنثار على القواد الَّذين دون هَؤُلَاءِ فِي الرواق بَين يَدي الْأَبْوَاب، وَأخرج ألف ألف درهمٍ بيضًا صحاحًا للنثار على من فِي الصحن من خلفاء القواد والنقباء.

دافع عن أبي هريرة في مجلس الرشيد

قَالَ شَفِيع: فوجهت إِلَى أَحْمَد بْن حباب الْجَوْهَرِي فَأَقَامَ مَعنا حَتَّى صنفنا فِي عشر صواني من الْجَوْهَر الْأَبْيَض والأحمر والأزرق والأخضر بِقِيمَة مائَة ألف دينارٍ وَوزن كل صينية ثَلَاثَة أُلَّاف دِرْهَم؛ وَقَالَ شَفِيع لِابْنِ حباب: اجْعَل فِي صينيةٍ من هَذِه الصواني جوهرًا يكون قِيمَته خَمْسَة آلَاف دِينَار وانتقصه من بَاقِي الصواني حَتَّى يكون فِي كل وَاحِدَة تِسْعَة آلَاف دِينَار وانتقصه من بَاقِي الصواني حَتَّى يكون فِي كل وَاحِدَة تِسْعَة آلَاف وَخَمْسمِائة دِينَار فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمرنِي أَن أدفَع هَذِه الصينية إِلَى مُحَمَّد بْن عمرَان مؤدب الْأَمِير أَبِي عَبد اللَّه إِذا فرغ من خطبَته، فَفعل ذَلِك، وشدوا كل صينية فِي منديلٍ، وختمت بِخَاتم شَفِيع، وَتقدم شَفِيع إِلَى من كَانَ مَعَه من الخدم أَن ينثروا الْعين فِي الرواق، وَالْوَرق فِي الصحن، وأوعز إِلَى النَّاس من الأكابر ووجوه الموَالِي والشاكرية بِحُضُور بركوارا فِي يومٍ سمي لَهُم ليشهدوا خطْبَة الْأَمِير المعتز، وَكتب إِلَى مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه وَهُوَ بِمَدِينَة السَّلَام بالقدوم إِلَى سر من رأى لحضور الحذاق. قَالَ: فتوافي النَّاس إِلَى بركوارا قبل ذَلِك بِثَلَاثَة أَيَّام، وَضربت الْمضَارب، وَانْحَدَرَ المتَوَكل غَدَاة ذَلِك الْيَوْم وَمَعَهُ قبيحة وَمن اخْتصّت من حرم المتَوَكل وَمن حشمها إِلَى بركوارا، وَجلسَ المتَوَكل فِي الإيوان على منصته وَأخرج مِنْبَر أبنوس مضببٍ بِالذَّهَب مرصعٍ بالجوهر مقابضة عاج، وَقَالَ بَعضهم: عود هندي، فنصب تجاه المنصة وسط الإيوان، ثُمَّ أَمر بِإِدْخَال مُحَمَّد بْن عمرَان الْمُؤَدب، فَدخل فَسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ بالخلافة ودعا لَهُ، فَجعل أَمِير الْمُؤمنِينَ يستدنيه حَتَّى جلس بَين يَدي الْمِنْبَر، وَخرج المعتز من بابٍ فِي جنبة الإيوان حَتَّى صعد الْمِنْبَر، فَسلم على أَمِير الْمُؤمنِينَ وعَلى من حضر، ثُمَّ خطب، فَلَمَّا فرغ من خطبَته دفعت الصينية إِلَى مُحَمَّد بْن عمرَان، ونثر شَفِيع صواني الْجَوْهَر على من فِي الإيوان، ونثر الخدم الَّذين كَانُوا فِي الرواق والصحن مَا كَانَ مَعَهم من الْعين وَالْوَرق، وَأقَام المتَوَكل ببركوار أَيَّامًا فِي يومٍ مِنْهَا دَعَتْهُ قبيحة، فَيُقَال إِنَّه يَوْم لم ير مثله سُرُورًا وحسنا وَكَثْرَة نفقةٍ، وَإِن الشمع كُله كَانَ عنبرًا إِلَّا الشمعة الَّتِي فِي الصحن فَإِنَّهُ كَانَ وَزنهَا ألف من فَكَادَتْ تحرق الْقصر، وَوجد حرهَا من كَانَ فِي الْجَانِب الغربي من دجلة. وَقد كَانَ أَمر المتَوَكل أَن يصاغ لَهُ سريران: أَحدهمَا ذهب وَالْآخر فضَّة، ويفرش السرير الْفضة ببساط حبٍ وبرذعة حبٍ ووسادي حب ومخدتي حبٍ ومسند حبٍ منظوم على ديباج أسود، وَكَانَ طول السرير تِسْعَة أذرعٍ، قَالَ: فَأخْرج من خزانَة الْجَوْهَر حب عمل لَهُ ذَلِك فَكَانَ أرفع قيمَة الْحبَّة دِينَارا، وَأَقل الْقيمَة درهما، فأتخذ لَهُ ذَلِك وَأمر بفرش السرير الذَّهَب بِمثل فرش السرير الْفضة مَنْقُوشًا بأنواع الْجَوْهَر الْأَحْمَر والأخضر والأصفر والأنواع، ففرشا فَقعدَ عَلَيْهِمَا هُوَ وقبيحة ثُمَّ وهبهما لَهَا. دَافع عَن أَبِي هُرَيْرَة فِي مجْلِس الرشيد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِي قَالَ حَدَّثَنَا

تقبل السواد في أيام المأمون فربح كثيرا

يزِيد بْن مرّة الدّباغ قَالَ حَدَّثَنَا عمر بْن حبيب قَالَ: كُنَّا عِنْد هَارُون أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَبَين يَدَيْهِ قوم تيناظرون، فَذكرُوا حَدِيثا فَقَالُوا: رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكذب أَبُو هُرَيْرَة، وَارْتَفَعت أَصْوَاتهم بتكذيب أَبِي هُرَيْرَة، فَرَأَيْت هَارُون قد نحا نحوهم وَمَال إِلَى قَوْلهم، فَقلت أَنا: صدق أَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو هُرَيْرَة الصَّادِق فِي رِوَايَته عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقمت فَانْصَرَفت. فَلَمَّا دخلت منزلي وافيى بريد فأدخلته فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤمنِينَ إِجَابَة مقتول لِأَنَّك لَا ترجع، فَقلت فِي نَفسِي: الله يعلم إِنِّي قُمْت بحقٍ، ونصرت صَاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومضيت إِلَى هَارُون فَدخلت عَلَيْهِ وَهُوَ جَالس على كرْسِي من ذهب حاسرًا عَن ذِرَاعَيْهِ، بِيَدِهِ سيف، فَقَالَ: يَا عمر بْن حبيب، تقبل عَليّ بِالرَّدِّ بِمَا أَقبلت بِهِ؟! فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، الَّذِي قلته إزراء على رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَّابين فَأمر الْإِسْلَام كُله بَاطِل، وَالصَّلَاة الصَّوْم وَالطَّلَاق وَالْحُدُود. قَالَ: صدقت يَا عمر بْن حبيب، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله. قَالَ القَاضِي: الفصيح زريت على الرجل زراية وأزريت بِهِ إزراء. تقبل السوَاد فِي أَيَّام الْمَأْمُون فربح كثيرا حَدثنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب، قَالَ حَدَّثَنِي الْقَاسِم ابْن أَحْمَد الْكَاتِب، قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مدبرٍ، قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم بْن مصعبٍ قَالَ: تَضَمَّنت السوَاد من الْمَأْمُون لسنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ بأربعمائة ألف كرّ شَعِيرًا مصرفًا بالفالج حَاصِلا، وَثَمَانِية آلَاف ألف درهمٍ سوى مُؤَن الْعَمَل وأرزاق الْعمَّال وَغير ذَلِك، فارتفع لي فِيهِ من الْفضل بعد الْمُؤَن والأرزاق الْجَارِيَة عشرُون ألف ألف دِرْهَم، قَالَ: فَأتيت الْمَأْمُون، فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي قد استفضلت فِي ضَمَان السوَاد عشْرين ألف ألف دِرْهَم، قَالَ: قد سررتني وَقد سوغتها، وَلَكِن اكْتُبْ إِلَى عَبد اللَّه بْن طاهرٍ فَعرفهُ أَنِّي إِنَّمَا ضمنتك السوَاد لَهُ وسوغتك هَذَا الْفضل لمكانه وَمحله مني، فَفعلت، قَالَ: فَكتب إِلَى عَبد اللَّه بْن طَاهِر: قد سرني مَا كتبت بِهِ من ربحك عشْرين ألف ألف دِرْهَم وتسويغ أَمِير الْمُؤمنِينَ إياك ذَلِك، وأمير الْمُؤمنِينَ أجل قدرا وَأعظم خطرًا من أَن يستكثر هَذَا من فعله، إِذْ كَانَ أَهلا لما هُوَ أَكثر مِنْهُ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن نقنع لَك بِهَذَا دون أَن أضيف إِلَيْهِ شَيْئا آخر من مَالِي فاقبض من غلَّة ضياعي مائَة ألف ألف دِرْهَم. بَين بني هَاشم وَبني أُميَّة حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَائِشَة عَن جوَيْرِية قَالَ، قَالَ عمر بْن عبد الْعَزِيز: مَا زلنا نَحن وَبَنُو عمنَا من بني هَاشم مرّة لنا وَمرَّة علينا، نلجأ إِلَيْهِم ويلجأون إِلَيْنَا حَتَّى طلعت شمس الرسَالَة فأكسدت كل

جرير يحكم بتفوق الأخطل

نَافق وأخرست كل نَاطِق. جرير يحكم بتفوق الأخطل حَدثنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بْن يحيى قَالَ حَدَّثَنَا ابْن الْأَعرَابِي قَالَ، قيل لجرير: أَيّمَا أشعر أَنْت فِي قَوْلك. حَيّ الْغَدَاة برامة الأطلال ... رسما تحمل أَهله فأحالا أم الأخطل فِي جوابها: كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسط ... غلس الظلام من الربَاب خيالا قَالَ: هُوَ أشعر مني، إِلَّا أَنِّي قد قلت فِي قصيدتي بَيْتا لَو أَن الأفاعي نهشتهم فِي أستاههم مَا حكوها حَيْثُ أَقُول: والتغلبي إِذا تنحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا تعليقات للمعافى بْن زَكَرِيَّا قَالَ القَاضِي: من فضل جرير تفضيله الأخطل فِي الشّعْر واعترافه بِأَن شعره يفضل شعر نَفسه، على مَا بَينهمَا من الْعَدَاوَة والملاحاة والمقارعة والمهاجاة والمفاخرة والمباراة، مَعَ أَن جَرِيرًا قد أَتَى فِي قصيدته هَذِه بِمَا لَيْسَ فِي قصيدة الأخطل وَلَا غَيرهَا من شعره مَا يدانيه وَيُقَارب مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ قَوْله: مَا زلت تحسب كل شَيْء بعدهمْ ... خيلاص تكر عَلَيْكُم ورجالا وَهَذَا من أخصر كَلَام وأفصحه، وأبلغ نظامٍ وأروضحه. وَقد رُوِيَ أَن الأخطل لما أنْشد هَذَا الْبَيْت بهت عِنْده وَكثر تعجبه مِنْهُ وَقَالَ: من أَيْن لِابْنِ المراغة هَذَا؟ فَقيل لَهُ: إِن هَذَا الْمَعْنى فِي الْقُرْآن وتلي عَلَيْهِ قَول الله جلّ وَعز: " يَحْسَبُونَ كُلَّ صيحةٍ عَلَيْهِم هم الْعَدو " والمنافقون: 4 فَقَالَ الأخطل: أَنا من أَيْن لي مثل كتاب محمدٍ آخذ مِنْهُ وأستعين بِهِ؟! وَالَّذِي أَتَى الْقُرْآن بِهِ فِي هَذَا مبر على مَا قَالَه الشُّعَرَاء فِيهِ لأمرٍ متفاوت فِي قلَّة عدد حُرُوفه وَقرب مأخذه ووضوح مَعْنَاهُ. وَمِمَّا يشبه قَول جرير فِي هَذَا الْمَعْنى قَول الَّذِي قَالَ: وَلَو أَنَّهَا عصفورة لحسبتها ... مسومة تَدْعُو عبيدا وأزنما وَنَحْو هَذَا قَول الآخر كَأَن بِلَاد الله وَهِي عريضة ... على الْخَائِف الْمَطْلُوب كفة حابل تُؤدِّي إِلَيْهِ أَن كل ثنيةٍ ... تطلعها ترمي إِلَيْهِ بِقَاتِل ويروى تسنمها. قَالَ القَاضِي: قَوْله: كَفه حابل يَعْنِي حبالة الصَّائِد، وَقَالَ اللغويون: الكفة مَا كَانَ مستديرًا ككفة الْمِيزَان، والكفة بِالضَّمِّ مَا كَانَ مستطيلا ككفة الثَّوْب، والوجهان يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ الْكَفّ والحصر وَالْحَبْس وإحاطة النهايات بالحواشي المتوسطات؛

هفوة من سوارح العقل الباطن

وَمِنْه حَاجَة لَهَا كفة، وحاجات لَهَا كفف أَي نِهَايَة تجمعها وتحيط بهَا وتكفها عَن التشذب والانتشار. وَمن ذَلِك قَول الْأَعْشَى مَيْمُون بن قيسٍ: كَانَت وصاة وحاجات لَهَا كفف ... وَأَن صحبك إِن ناديتهم وقفُوا هفوة من سوارح الْعقل الْبَاطِن حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعْدَان قَالَ حَدَّثَنَا ا؟ لأصمعي عَن عَبد اللَّه بْن صَالح قَالَ، قَالَ لي رجل من حَارِثَة بْن لَام: أضافني رجل من بني تغلب فَأحْسن ضيافتي فَأَفلَت من لساني هَذَا الْبَيْت: والتغلبي إِذا تنحنح للقرى ... حك آسته وتمثل الأمثالا فَلَمَّا قلته خجلت وَسقط فِي يَدي، فَقَالَ لي: يَا عَبد اللَّه انبسط، فَإِنَّمَا قلت كلمة مقولة. أحلى قولٍ للمستملي حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زيادٍ الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود بمرو قَالَ، سَمِعت يحيى بْن أَكْثَم يَقُول: كنت قَاضِيا وأميراً ووزيرا وقاضيا عَليّ الْقُضَاة مَا ولج سَمْعِي أحلى من قَول الْمُسْتَمْلِي: من ذكرت رَضِيَ اللَّهُ عَنْك؟ مَجْمُوعَة حكم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه السليطي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُنْذر الْهَرَوِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن شكر، قَالَ حَدَّثَنِي حطَّان بْن عبد الرَّحْمَن الجندي، قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن سُلَيْمَان الجندي قَالَ، قَالُوا: دعامة الْعقل الْحلم وَجَمَاعَة الصَّبْر. وَأعلم أَن هَذِه الدُّنْيَا دوَل، فَمَا كَانَ مِنْهَا للْإنْسَان أَتَاهُ على ضعفه، وَمَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْهِ لم يَدْفَعهُ بقوته. وَقَالُوا: الشَّرّ مخوف من كل وجهٍ، والنفع مرجو من كل ناحيةٍ، وَمَا أَكثر مَا يَأْتِي الْخَيْر من وُجُوه الْخَوْف وَيَأْتِي الشَّرّ من نَاحيَة الرَّجَاء. حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَليّ القَاضِي النَّيْسَابُورِي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمسيب الأرغياني، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خبيق، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَبد اللَّه الْحلَبِي، قَالَ سَمِعت أَبَا إِسْحَاق الْفَزارِيّ يَقُول: إِن للحوئج فُرْسَانًا كفرسان الْحَرْب. وَقَالَ لي أَبُو إسحاقك إِن الرجل ليسألني عَن حَالي وَلَو أخْبرته لشمت بِي. عَمْرو بْن عبيد يعظ الْمَنْصُور حَدثنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَارِث بْن أَبِي أُسَامَة، قَالَ حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِي، قَالَ: دخل عَمْرو بْن عبيد على الْمَنْصُور فَقَالَ: إِن الله تَعَالَى أَعْطَاك الدُّنْيَا بأسرها، فاشتر نَفسك مِنْهُ بِبَعْضِهَا، وَاحْذَرْ لَيْلَة تمخض عَن يومٍ لَا لَيْلَة بعده. قَالَ: فَبكى أَبُو جَعْفَر، قَالَ عَمْرو: انبذ عَنْك الْبكاء واترك مَا تنكر إِلَى مَا تعرف، وَاعْلَم أَن رَبك لبالمرصارد، وَالسَّلَام.

شعر إسحاق الموصلي

شعر إِسْحَاق الْموصِلِي حِين أبل صباح بْن خاقَان حَدثنَا مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه بْن إِبْرَاهِيم الشَّافِعِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن عمار قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْقَاسِم بْن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان بْن عَليّ قَالَ حَدَّثَنَا صباح بْن خاقَان قَالَ: اعتللت عِلّة أشفيت مِنْهَا، فَبلغ ذَلِك إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي فَاغْتَمَّ مِنْهَا، ثُمَّ ورد عَلَيْهِ الْخَبَر بإفاقتي فَكتب إِلَيّ: حمدت الله إِذْ عافى صباحا ... وأعقبه السَّلامَة والصلاحا وَكُنَّا خَائِفين على صباح ... من الْخَبَر الَّذِي قد كَانَ باحا وخوفني من الْحدثَان أَنِّي ... رَأَيْت الْمَوْت إِن لم يغد رَاحا الأخطل يسرق معنى للأعشى حَدثنَا المظفر بْن يحيى بْن أَحْمَد الشرابي، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المرثدي، قَالَ أَخْبرنِي طَلْحَة بن عبد الله الطلحي، قَالَ أَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بْن سَعْدَان، قَالَ حَدَّثَنَا ابْن بشير الْمَدِينِيّ قَالَ: وفدت إِلَى بعض مُلُوك بني أُميَّة فمررت بقريةٍ فَإِذا رجل مرنح من الشَّرَاب قَائِم يَبُول، فَسَأَلته عَن الطَّرِيق فَقَالَ: أمامك، ثُمَّ لَحِقَنِي فَقَالَ: أنزل، فَنزلت، فَقَالَ: ادن دُونك وَعَلَيْك الحانة، فَدخلت، فأحضر سفرة واستل سلة فَأخْرج مِنْهَا رغفًا ووذرًا من لحمٍ فَقَالَ: أصب، ثُمَّ سقاني خمرًا، فَإِذا أَبُو مَالك. ثُمَّ قَالَ لي: كَيفَ علمك بالشعر؟ قلت: قد رويت، فأنشدني قصيدته: صرمت حبالك زَيْنَب ورعوم فَلَمَّا انْتهى حبالك زَيْنَب ورعوم فَلَمَّا انْتهى إِلَى قَوْله: حَتَّى إِذا أَخذ الزّجاج أكفنا ... نفحت فَأدْرك رِيحهَا المزكوم قَالَ: أَلَسْت تزْعم أَنَّك تبصر الشّعْر؟ قلت: بلَى، قَالَ: فَكيف لم تشقق بَطْنك فضلا عَن ثَوْبك عِنْد هَذَا الْبَيْت؟! قَالَ: قلت: قد فعلت عِنْد الْبَيْت الَّذِي سرقت هَذَا مِنْهُ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قلت: بَيت الْأَعْشَى: من خمر عانة قد أَتَى لختامها ... حول، تفض غمامة المزكوم قَالَ: أَنْت تبصر الشّعْر، فَلَمَّا صرتُ إِلَى سُلَيْمَان سمرت مَعَه بِهَذَا أول بدأتي. تَعْلِيق الْجريرِي قَالَ القَاضِي: للأعشى فِي هَذَا الْمَعْنى بَيت هُوَ أبلغ من هَذَا الْبَيْت فِي كلمةٍ لَهُ أُخْرَى وَهُوَ. من اللَّاتِي حملن على الروايا ... كريح الْمسك تستل الزكاما واستلال الزُّكَام أبلغ من فضه لِأَن استلاله نَزعه وإخراجه، وفضه نشره وتفريقه وكسره كفض الْخَاتم، وَفِي فضه مَعَ هَذَا إِزَالَته وتنحيته كَمَا يَزُول الْخَاتم عِنْد فضه وَيُفَارق

ما يقوله الحسن إذا أصبح وإذا أمسى

مَا كَانَ حَالا فِيهِ ولازمًا لَهُ. وَفِي قَول الأخطل: فَأدْرك رِيحهَا المزكوم من البلاغة أَنه إِنَّمَا يفوتهُ إِدْرَاك المشمول لحلول الزُّكَام بِهِ وغلبته إِيَّاه، فَإِذا أدْرك ريح الْخمر الَّتِي كَانَ الزُّكَام حَائِلا بَينه وَبَينهَا عندنفحتها فَإِنَّمَا ذَلِك لزوَال الزُّكَام وَزَوَال بعضه وَإِن لم يزل بكليته، فَمن هَاهُنَا كَانَ الفض والاستلال أبلغ وَأبين فِي الْمَعْنى. مَا يَقُوله الْحسن إِذا أصبح وَإِذا أَمْسَى حَدثنَا طَلْحَة بْن مُحَمَّد بْن إِسْرَائِيل الْجَوْهَرِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن أَحْمَد ابْن عَبْد الرَّحْمَن الجوهريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَة قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حُصَيْن الْأَسدي قَالَ: كَانَ الْحسن إِذا أصبح قَالَ: يسر الْفَتى مَا كَانَ قدم من تقى ... إِذا عرف الدَّاء الَّذِي هُوَ قَاتله وَإِذا أَمْسَى قَالَ: فَمَا الدُّنْيَا بباقيةٍ لحي ... وَلَا حَيّ على الدُّنْيَا بَاقٍ من أول من قَالَ شعرًا يَعْقُوب أم آدم حَدثنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر بْن مُحَمَّد الْمُنَادِي، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن يُونُس أَبُو إِسْمَاعِيل إملاء، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالح سهل بْن خاقَان، وَكَانَ من خِيَار النَّاس، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْمُوَرِّع يَقُول: أول من قَالَ بَيت شعر يَعْقُوب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما جَاءُوهُ فأخبروه عَن يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام بِالَّذِي أَخْبرُوهُ بِهِ فَقَالَ: فَصَبر جميل بِالَّذِي جئْتُمْ بِهِ ... وحسبي إلهي فِي الْمُهِمَّات كَافِيا قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: قد أَتَت هَذِه الرِّوَايَة بِمَا وصفناه، وَقد رُوِيَ لنا أَن أول من قَالَ الشّعْر آدم عَلَيْهِ السَّلَام لما قتل قابيل أَخَاهُ هابيل، وَأَن إِبْلِيس لَعنه الله أجَاب آدم عَلَيْهِ السَّلَام عَن شعره ذَلِك، وَهِي رِوَايَة مَعْرُوفَة، ولعلنا نأتي بهَا فِيمَا بعد إِذا خرجت لنا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. مُعَاوِيَة يغري ابْن عمر بِالْمَالِ ليبايع ليزِيد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ مِنْ كِتَابِ أَبِيهِ يُلَقَّنُ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ لِيَزِيدَ أَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ بِمِائَةِ ألفٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَنْ بَايِعْ لِيَزِيدَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كَانَ ذَاكَ لِذَلِكَ إِنَّ دِينِي عِنْدِي إِذَنْ لَرَخِيصٌ. لماذا يخْتَلف إِلَى النَّاس حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ الدِّينَوَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نُعَيْمٍ الدِّينَوَرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ الْوَاسِطِيُّ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فِي سَنَةِ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ بَهْرَامَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَا يُؤْتَى الرَّجُلُ إِلا لخصلةٍ مِنْ أَرْبَعِ خصالٍ: لشرفٍ، أَوْ

ما في جيب ابن الجهم حين قتل

لِشُكْرِ معروفٍ سَلَفَ، أَوْ لأمرٍ يُؤْتَنَفُ، أَوْ لِحَدِيثٍ يُطَّرَفُ. حَدثنَا مُحَمَّد بْن زيادٍ الْمقري قَالَ سَمِعت أَحْمَد بْن صَالح النَّحْوِيّ السَّرخسِيّ قَالَ، سَمِعت المَسْعُودِيّ يَقُول، قَالَ الْمَأْمُون: يخْتَلف إِلَى النَّاس لأربعة أَشْيَاء: لصِحَّة شرفٍ، أَو لعلمٍ مطرف، أَو لأمرٍ مؤتنفٍ، أَو لمعروفٍ قد سلف. مَا فِي جيب ابْن الجهم حِين قتل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن أستاذ الْهَرَوِيّ، قَالَ سَمِعت عَبد اللَّه بْن عُرْوَة يَقُول، سَمِعت أَبَا عشانة يَقُول: لما قتل عَليّ بْن الجهم وجد فِي جيبه رقْعَة فِيهَا: يَا وحشتا للغريب فِي الْبَلَد لنا ... زح مَاذَا بِنَفسِهِ صنعا فَارق أحبابه فَمَا انتفعوا ... بالعيش من بعده وَلَا انتفعا أُفٍّ للدنيا وتف حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْحَسَن بْن محمدٍ الْبَزَّاز قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَلَف قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوق الْعَتكِي عَن عبد الْوَاحِد بْن غياث أَو آخر غَيره ذهب عني اسْمه الْعَتكِي يَقُول هَذَا قَالَ: قد دخلت دَار المورياني لَيْلًا فَسمِعت قَائِلا يَقُول: أُفٍّ للدنيا وتف ... كل من فِيهَا يلف فَأَجَابَهُ آخر: لم تقل وَالله شَيْئا ... إِن فِيهَا من يعف مِنْهُم القَاضِي وَيحيى ... والهجيمي المخف توضيح قَالَ القَاضِي أَبُو الْفرج: القَاضِي معَاذ بْن معَاذ، وَيحيى بْن سعيد الْقطَّان، وخَالِد بْن الْحَارِث الهُجَيْمِي. قَالَ القَاضِي: أُفٍّ عِنْد جُمْهُور أهل الْعلم كلمة يَقُولهَا الْمَرْء عِنْد الشَّيْء يضجره أَو يتبرم مِنْهُ ويتقذره، وتف بمعناها، وَقيل إِنَّهَا إتباع لأفٍ مثل حسن بسن وعطشان نطشان. وَقيل هِيَ بِمَعْنى النتن، وَقيل التف الشَّيْء الحقير نَحْو الشظية تُؤْخَذ من الأَرْض. وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين فِي علم الْعَرَبيَّة الأف وسخ الظفر، والتف وسخ الْأذن. وَقَالَ الله تَعَالَى: " فَلا تَقُلْ لَهُمَا أفٍ " الْإِسْرَاء:23 وَأَتَتْ هَذِه اللَّفْظَة فِي مَوَاضِع عدةٍ من الْقُرْآن وفيا لُغَات عدَّة وقراءات مُخْتَلفَة، وَقد ذكرنَا هَذَا مستقصى فِي مَوَاضِع من كتبنَا. الْمجْلس الرَّابِع وَالسِّتُّونَ كَيفَ تولى عمر بْن حبيب الْقَضَاء حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ بْنِ يَحْيَى إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ سَنَةَ تِسْعِينَ وثلاثمائةٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُدَيْمِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا

مدح حسن العفو

عُمَرُ بْنُ حبيبٍ الْعَدَوِيُّ الْقَاضِي قَالَ: قَدِمْتُ مَعَ وفدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونِ، فَجَلَسْنَا وَكُنْتُ أَصْغَرَهُمْ سِنًّا، فَطَلَبَ قَاضِيًا يُوَلَّى عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ جِيءَ بِرَجُلٍ مقيدٍ بِالْحَدِيدِ مفولةٍ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَحُلَّتْ يَدُهُ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ جِيءَ بنطعٍ فَوُضِعَ فِي وَسَطِهِ وَمُدَّتْ عُنُقُهُ، وَقَامَ السَّيَّافُ شَاهِرًا السَّيْفَ، فَاسْتَأْذَنَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ضَرْبِ عُنُقِهِ فَأَذِنَ لَهُ، فَرَأَيْتُ أَمْرًا فَظِيعًا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ لأَتَكَلَّمَنَّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْجُوَ، فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَعْ مَقَالَتِي. فَقَالَ لِي: قُلْ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّكَ عَنِ ابْنِ عباسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُنَادِي منادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ لِيَقُمْ مَنْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَجْرُهُ، فَلا يَقُومُ إِلا مَنْ عَفَا عَنْ ذَنْبِ أَخِيهِ. فَاعْفُ عَنْهُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لِي: أَللَّهِ إِنَّ أَبِي حَدَّثَكَ عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا؟ فَقُلْتُ: أَللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عباسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ جَدِّي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا، يَا غُلامُ أَطْلِقْ سَبِيلَهُ، فَأَطْلَقَ سَبِيلَهُ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ أُولَّى الْقَضَاءَ ثُمَّ قَالَ لِي: عَنْ مَنْ كَتَبْتَ؟ قُلْتُ: أَقْدَمُ مَنْ كَتَبْتُ عَنْهُ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هندٍ، قَالَ: فَحَدِّثْ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: بَلَى فَحَدِّثْ، فَإِنَّ نَفْسِي مَا طَلَبَتْ مِنِّي شَيْئًا إِلا وَقَدْ نَالَتْهُ مَا خَلا هَذَا الْحَدِيثَ فَإِنِّي كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَقْعُدَ عَلَى كُرْسِيٍّ وَيُقَالَ لِي مَنْ حَدَّثَكَ.؟ فَأَقُولَ: حَدَّثَنِي فُلانٌ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلِمَ لَا تُحَدِّثُ؟ قَالَ: لَا يَصْلُحُ الْمُلْكُ وَالْخِلافَةُ مَعَ الْحَدِيثِ لِلنَّاسِ. مدح حسن الْعَفو قَالَ القَاضِي: مَا قَرَّرَهُ الله عز وَجل فِي الْعُقُول من حسن الْعَفو وتفضيل أَهله وَمَا أنزلهُ فِيهِ وأحكمه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُول الله أَكثر من أَن نأتي على ذكر جَمِيعه وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " الشورى:40 وَقَالَ جلّ ذكره: " وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ " الْبَقَرَة: 237 وكل هَذَا مُؤَكد لما مكنه الله جلّ وَعلا فِي الْعُقُول وَشَاهد لما تَوَاتر من الْأَخْبَار عَن الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. العائف اللهبي حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عمّه عَن يُونُس عَن شيخ من عنزة قَالَ: خرج رجل من لَهب، وهم حَيّ من الأزد، وهم أعيف الْعَرَب، وَمَعَهُ سقاء لبن، فَسَار صدر يَوْمه ثُمَّ عَطش فَأَنَاخَ ليشْرب فَإِذا غراب ينعب، فأثار رَاحِلَته وَمضى؛ فَلَمَّا أجهده الْعَطش أَنَاخَ ليشْرب فنعب الْغُرَاب، فأثار رَاحِلَته وَمضى؛ فَلَمَّا أجهده الْعَطش أَنَاخَ ليشْرب فنعب الْغُرَاب، فأثار رَاحِلَته فَمضى، ثُمَّ أَنَاخَ ليشْرب فنعب الْغُرَاب وتمرغ فِي التُّرَاب، فَضرب الرجل السقاء بِسَيْفِهِ فَإِذا فِيهِ أسود سالخ. ثُمَّ مضى لوجهه فَإِذا غراب وَاقع على سدرةٍ، فصاح بِهِ فَوَقع على سلمةٍ، فصاح بِهِ فَوَقع على صخرةٍ، فَإِذا تَحت الصَّخْرَة كنز ذهبٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَبِيه قَالَ لَهُ: مَا صنعت؟ قَالَ: سرت صدر يومي، ثُمَّ أنخت لأشرب فنعب غراب، فَقَالَ:

معنى أحذى

أَثَره وَإِلَّا لست بِابْني، قَالَ: فأثرته ثُمَّ أنخت لأشرب فنعب غراب قَالَ: أَثَره وَإِلَّا لست بِابْني، قَالَ: أثرته، ثُمَّ أنخت الثَّالِثَة لأشرب فنعب غراب وتمرغ فِي التُّرَاب فَقَالَ: اضْرِب السقاء بِالسَّيْفِ وَإِلَّا لست بِابْني، قَالَ: فضربته فَإِذا فِيهِ أسود سالخ. قَالَ: ثُمَّ مَه، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْت غرابًا وَاقعا على سدرةٍ قَالَ: أطره وَإِلَّا فلست بِابْني، قَالَ: أطرته فَوَقع على صخرةٍ، قَالَ: أحذني يَا بني، قَالَ: فأحذاه. معنى أحذى قَالَ القَاضِي: قَوْله أحذني أَي أَعْطِنِي فَأعْطَاهُ، يُقَال: أحذى فلَان فلَانا شَيْئا من مَاله إِذا رضخ لَهُ؛ قَالَ رجل من بني سعدٍ لرؤبة بْن العجاج: أحذ أَبَا الجحاف إِذْ حبينا أعرابية ترثي قوما هَلَكُوا حَدثنَا عَليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم الْكَاتِب أَبُو طَالب، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْن الْحسن بْن عَمْرو السبيعِي، قَالَ حَدَّثَنِي رجل من الْأَعْرَاب وَفد إِلَى ابْن البعيث، قَالَ حَدَّثَنِي عَم لي قَالَ: نزلت مَاء لبني فَزَارَة ثُمَّ ارتحلت عَنْهُ وأتيته فِي الْعَام الْمقبل فَإِذا لَيْسَ من الْحَيّ أحد خلا عَجُوز فِي سفح جبلٍ تبْكي، فَقلت: مَا يبكيك يَا عَجُوز؟ قَالَت: على أثر الْحَيّ، قلت لَهَا: أعسى حييًا نزلت بِهِ عَام أول؟ قَالَت: أقلت حييًا؟ وَالله لقد كَانَ حَيّ ربحل، إِذا ارتحلوا على ألف فَحل، لقد كَانَ فيهم مليل، وَمَا مليل؟ سَحَاب ذيلٍ على ذيلٍ عطاؤه سيل، وغضبه ويل، لم تحمل مثله إبل وَلَا خيل، وَلَقَد كَانَ فيهم مَالك وَمَا مَالك؟ خير من هُنَالك. وَلَقَد كَانَ فيهم مهجعة وَمَا مهجعة؟ فَارس كأربعة، يكر وَالْخَيْل مَعَه، وَلَقَد كَانَ فيهم عمار وَمَا عمار؟ يَوْم الْفَخر فخار، وَيَوْم الْجَرّ جرار، لم تخمد لَهُ نَار طلاب بأوتار، وَلَقَد كَانَ فيهم هجين لَهُم يُقَال لَهُ حممة، وَمَا حممة؟ لَهُ ألف نَاقَة مسنمة، وَألف مهرَة مسومة، وَألف نعجةٍ مزنمةٍ، وَألف عبد وَأمة، قعد ذَات يومٍ قعدة لَهُ حَسَنَة فأنهبها كلهَا فِي ساعةٍ لم يقْض نهمه، قَالَ: فَكَأَنَّمَا ألقمتني عَنْهَا وَعَن قَومهَا حجرا. شرح الْغَرِيب فِي حَدِيث الأعرابية قَالَ القَاضِي: قَوْلهَا حَيّ ربحل أَي حَيّ قيلٍ كريم نبيه، وَاسع عطاؤه، رحبٍ فناؤه، وَمِنْه قَول الْقَائِل: مرْحَبًا وَأهلا، وناقة ورحلا، وملكًا ربحلا، يُعْطي عَطاء جزالاً. وَأما قَوْلهَا: وَلَقَد كَانَ فيهم هجين لَهُم فالهجين الَّذِي أمه أمة، وَمِنْه قَول عنترة قبل أَن يحرره أَبوهُ: أَنا الهجين عنترة وَجمع الهجين هجناء مثل أَمِين وأمناء، وقرين وقرناء، وكمين وكمناء. وَمن الهجين قَول الشَّاعِر: أَلا ضربت تِلْكَ الفتاة هجينها ... الا قضب الرَّحْمَن رَبِّي يَمِينهَا وَقَول الشماخ:

رؤيا المأمون وما قال أرسطاطاليس

إِذا بَركت على نشزٍ وَأَلْقَتْ ... عسيب جِرَانهَا كعصا الهجين والمسنمة من الْإِبِل: الْعَظِيمَة الأسنمة؛ والمسومة من الْخَيل: المحسنة المهيأة. وَقيل فِي قَول اللَّه عز وَجل: " واتلخيل المسومة " آل عمرا:14 هِيَ المطهمة، أَي الَّتِي يَعْنِي بهَا ويقام عَلَيْهَا، وَالْغنم المزنمة: ذَوَات الزنمات الَّتِي تَحت ألحيها الزنمات. وعسيب الجران: الْحُلْقُوم، والجران: بَاطِن الْعُنُق. رُؤْيا الْمَأْمُون وَمَا قَالَ أرسطاطاليس حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي، قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سعدٍ قَالَ أَخْبرنِي مُحَمَّد بْن يحيى بْن خَالِد بْن يزِيد بْن مثنى الْمروزِي، قَالَ حَدَّثَنِي مَنْصُور بْن طَلْحَة بْن طاهرٍ بْن الْحُسَيْن، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر قَالَ: عجبني أَمِير الْمُؤمنِينَ من رُؤْيا رَآهَا، فَسَأَلته عَنْهَا فَذكر أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَن رجلا جلس مجْلِس الْحُكَمَاء فَقلت لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا أرسطاطاليس الْحَكِيم، فَقلت لَهُ: أَيهَا الحك مَا أحسن الْكَلَام؟ قَالَ: مَا يَسْتَقِيم فِي الرَّأْي قلت: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: مَا يستحسنه سامعه، قلت: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: مَا لَا تخشى عاقبته، قلت: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ لَا ثُمَّ. قَالَ الْمَأْمُون: لَو كَانَ حَيا مَا كَانَ يتَكَلَّم بِأَكْثَرَ مِمَّا تكلم بِهِ. الْكِنْدِيّ رَأْي جالينوس فِي الْمَنَام وَحدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحسن الْأَشَج قَالَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوب الْكِنْدِيّ قَالَ: رَأَيْت جالينوس فِيمَا يرى النَّائِم فَقلت بِأبي أَنْت، رجل من الْمُلُوك اعتل لَا يُبرئهُ إِلَّا فتح الباسليق وَلَيْسَ يُوجد لَهُ فَمَا ترى؟ قَالَ: افْتَحْ لَهُ عرقًا بَين الْخِنْصر والبنصر يُقَال لَهُ الأسيلم، قَالَ الْكِنْدِيّ: فَأَنا أول من فصد الأسيلم. أَعْرَابِي يسْأَل حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا أحم بْن عبيدٍ عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: قدم أَعْرَابِي من الْبَادِيَة فَوقف على النَّاس فَقَالَ: أَنا عكاب بْن عدينة أبوت عشرَة وأخوت عشرَة، وَكنت مفزعًا للجمة، مقنعا للهمة، أهنأ الْفَقِير، وأفك الْأَسير، وأذيل العسير، فانباق عَليّ الدَّهْر متخوفًا لإخوتي وبنيه يوديهم وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى اخترم ظهرتي، وأفنى عمارتي، وأساف ماليه، وأباد رجاليه، وَكنت أورد إبلي سحرًا، وأصدرها طفْلا، عكرًا دثرًا، ومالا وفرًا، قَليلَة الْفرش والإفال، حَسَنَة الْحِلْية والفحال، فانتسفها الزَّمَان، واجتملها الْحدثَان، حبجًا وغدة، فقرع مراحي، وفنت أوضاحي، فَهَل من راحمٍ أَخا جهدٍ ولأواء وشصاصاء، شملكم الله بإسباغ الرزق. تَفْسِير حَدِيث الْأَعرَابِي قَالَ أَبُو بكر ابْن الْأَنْبَارِي قَوْلهم: أبوت وأخوت مَعْنَاهُ كنت أَبَا لعشرة وأخا لعشرة. وَقَوله: أهنأ الْفَقِير: أصلح شَأْنه؛ قَالَ القَاضِي: وَأَصله من الهناء الَّذِي تطلى بِهِ الْإِبِل من

الجرب، قَالَ زُهَيْر: فأبرى موضحات الرَّأْس مِنْهُ ... وَقد يشفي من الجرب الهناء وَمِنْه قَول الآخر: مَا إِن رَأَيْت وَلَا سَمِعت بِهِ ... كَالْيَوْمِ طالي أينقٍ جرب متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مَوَاضِع النقب ثمَّ استعير هَذَا فِي كل من رفد غَيره لسد فقرٍ أَو إصْلَاح أَمر، وَهُوَ من حسن التَّشْبِيه وقريبه؛ قَالَ أَبُو بكرٍ: وأذيل العسيرة مَعْنَاهُ: أَلين النَّاقة الصعبة لأحمل عَلَيْهَا الضَّعِيف والمجتدي. وَقَوله: فانباق عَليّ الدَّهْر مَعْنَاهُ: قصدني ببائقةٍ، وَهِي البلية والداهية، ومتخوفا: متنقصا قَالَ الله عز وَجل: " أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تخوفٍ " النَّحْل: 47 قَالَ القَاضِي: يُقَال تخوفه إِذا انتقصه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: تخوف السّير مِنْهَا تامكًا قردًا ... كَمَا تخوف عود النبعة السفن يَعْنِي نَاقَة تنقص سَيرهَا من سنامها بعد تمكنه واكتنازه. والنبع شجر مَعْرُوف وَقَالَ الْأَعْشَى: ونَحْنُ أُنَاسٌ عُودُنا عود نبعةٍ ... إِذا افتحر اليحان بكر وتغلب والسفن: الفأس، وَهُوَ يتنقص الْعود وينحته حَتَّى يصنع مِنْهُ سفينة، وَمِنْه سميت سفينة بِمَعْنى مسفونة أَي منحوتة منجورة منتقصة الأعواد بالسفن. وَقد قرئَ على تخوف بِمَعْنى الانتقاص من الحافات والجوانب. قَالَ أَبُو بكرٍ: والجمة: الْقَوْم يسْأَلُون فِي الدِّيَة وَيُقَال أَيْضا للدية جمة. قَالَ الشَّاعِر: وجمةٍ تسالني أَعْطَيْت ... وَسَائِل عَن خبري لويت فَقلت لَا أَدْرِي وَقد دَريت وَقَوله: حَتَّى اخترم ظهرتي فِي الظهرة قَولَانِ: الظهرة قَولَانِ: الظهرة عشيرة الرجل. وَقَالَ لي أَبِي قَالَ أَحْمَد بْن عبيد: الظهرة والأهرة مَتَاع الْبَيْت وَمَا يصونه الرجل مِمَّا يودعه منزله من الْآنِية وأفنى عمارتي الْعِمَارَة: الْقَبِيلَة. وأساف ماليه مَعْنَاهُ أَو قع السواف فِي إبلي. وأصدرها طفْلا مَعْنَاهُ عِنْد غيبوبة الشَّمْس، يُقَال ظفلت الشَّمْس إِذا تهيأت للغروب. وَفِي السواف لُغَتَانِ: السواف والسواف بِضَم السِّين وَفتحهَا وَهُوَ دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فيقتلها. قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: السواف من أدواء الْإِبِل بِالْفَتْح، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: السواف مضموم من الأدواء بِمَنْزِلَة الكباد والسعال والنخار. عكرًا دثرًا العكر جمع عكرة وَهِي سَبْعُونَ من الْإِبِل إِلَى الْمِائَة، والدثر هُوَ المَال الْكثير وَجمعه دثور. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: لعمري لقوم قد نرى فِي دِيَارهمْ ... مرابط للأمهار والعكر الدثر

يُرِيد العكر الدثر، فَكسر الثَّاء لكسرة الرَّاء على لُغَة من يَقُول قَامَ بكر ومررت ببكرٍ. وَقَالَ أَبُو ذرٍ: يَا رَسُول اللَّهِ ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ، يَعْنِي أَصْحَاب الْأَمْوَال الْكَثِيرَة. قَالَ القَاضِي: وَالْوَقْف فِي بكر على حَرَكَة إِعْرَاب طرفه لُغَة مَعْرُوفَة للْعَرَب، وَقد روى عَنْ أبي عَمْرو أَنَّهُ قَرَأَ: " وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ " الْبَلَد: 17 فِي بِالْوَقْفِ بِكَسْر الْبَاء، وَمن هَذِه اللُّغَة قَول الشَّاعِر: علمنَا إِخْوَاننَا بَنو عجل ... شرب النَّبِيذ واعتقالا بِالرجلِ وَقد شرحنا عِلّة هَذِه اللُّغَة فِي موضعهَا. وَالْعرب أَيْضا تَقول مَال دثر وأموال دثر. قَالَ أَبُو بكر: قَليلَة الْفرش والإفال الْفرش: الصغار من الْإِبِل الَّتِي لَا تطِيق أَن يحمل عَلَيْهَا، والإفال: الصغار من الْإِبِل وَاحِدهَا أفيل. قَالَ القَاضِي: قد قيل إِن الْفرش الْغنم، والحمولة الْإِبِل وَالْبَقر وَالْبِغَال وَالْحمير، فَأَما الإفال فَهِيَ الصغار عِنْد اللغويين، قَالَ الفرزدق: وَجَاء قريع الشول قبل إفالها ... يزف وَجَاءَت خَلفه وَهِي زفف ويروى يرف، وَهِي رفف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَهُوَ الْمَشْي السَّرِيع. قَالَ الله عز ذكره: " فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ " الصافات: 94 وَمن القرأة من يقْرَأ يرفون. قَالَ أَبُو بكرٍ واجتملها الْحدثَان ذهب بجملتها وَلم يبْق مِنْهَا شَيْئا. حبجًا وغدة الغدة: من أدواء الْإِبِل، الحبج: أَن تَأْكُل الْإِبِل النَّبَات فتنتفخ بطونها حَتَّى تَمُوت. وَقَالَ الزُّبَيْر بْن بَكَّار: لما ورد نعي مُصعب بْن الزُّبَيْر على أهل مَكَّة صعد عَبد اللَّه بْن الزُّبَيْر الْمِنْبَر فَقَالَ: الْحَمد لله الَّذِي لَهُ الْخلق وَالْأَمر يُؤْتِي الْملك من يَشَاء وَينْزع الْملك مِمَّن يَشَاء، ويعز من يَشَاء ويذل من يَشَاء؛ أَلا وَإنَّهُ لم يذلل الله تَعَالَى من كَانَ الْحق مَعَه وَلَو كَانَ فَردا، وَلم يعزز من كَانَ الشَّيْطَان وليه وَحزبه وَلَو كَانَ الْأَنَام كلهم مَعَه، أَلا وَإنَّهُ أَتَانَا خبر من الْعرَاق أحزنا وأفرحنا، أَتَانَا قتل المصعب بْن الزُّبَيْر رَحمَه الله، فَأَما الَّذِي أحزننا فَإِن لفراق الْحَمِيم لذعة يجدهَا حميمه عِنْد الْمُصِيبَة ثُمَّ يرعوي من بعْدهَا ذَوُو الْعَزْم إِلَى جميل الصَّبْر وكرم العزاء، وَأما الَّذِي أفرحنا فَإِن الْقَتْل كَانَ لَهُ شَهَادَة، وَإِن الله عز وَجل جعل ذَلِك لنا وَله خيرة. أَلا وَإِن أهل الْعرَاق أهل الْغدر والنفاق أسلموه وباعوه بِأَقَلّ الثّمن، فَإِن يقتل فَإنَّا وَالله مَا نموت حبجًا كَمَا يَمُوت بَنو أَبِي الْعَاصِ، وَمَا نموت إِلَّا قتلا قعصًا بِالرِّمَاحِ وموتًا تَحت ظلال السيوف، أَلا وَإِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِية من الْملك الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُول ملكه وَلَا يبيد، فَإِن تقبل على الدُّنْيَا لَا آخذها أَخذ الأشر البطر، وَإِن تدبر عني لَا أبك عَلَيْهَا كالخرف المهتر. قَالَ أبوب بكر: فقرع مراحي المراح: مَوضِع الْإِبِل الَّذِي تراح إِلَيْهِ، يَعْنِي أَن إبِله مَاتَت وَتَلفت وَبَقِي مراحها أَقرع، وَالْعرب تَقول قد قرع مراح الرجل إِذا ذهب مَاله، قَالَ الشَّاعِر: إِذا آداك مَالك فانتهبه ... لجاديه وَإِن قرع المراح

فَإِن أعيا عَلَيْك فَلم تَجدهُ ... فنبت الأَرْض وَالْمَاء القراح فَإِن الْفقر إلْف فنَاء قوم ... وَإِن أسوك وَالْمَوْت الرواح وفنت وضاحي مَعْنَاهُ: فنيت دراهمي، فنت بلغَة طَيء، يَقُولُونَ فِي فني فنى وَفِي رَضِي رضى وَفِي بَقِي بقى، قَالَ الشَّاعِر: لعمرك مَا أخْشَى التصعلك مَا بقى ... على الأَرْض قيسي يَسُوق الأباعرا واللأواء والشصاصاء: الشدَّة وكلب الزَّمَان. قَالَ القَاضِي: الَّذِي ذكره أَبُو بكرٍ فِي نفى ورضى وبقى أَنه لُغَة طَيء هُوَ على مَا ذكر، وَقد ذكرنَا من هَذِه اللُّغَة وحكايتها صَدرا فِي مَا مضى من مجَالِس كتَابنَا هَذَا، وَقد تتداخل لُغَات الْعَرَب وَيَأْخُذ بَعضهم من لُغَة بعض، قَالَ زُهَيْر: تربع صارةً حَتَّى إِذا إِذا ... فنى الدحلان عَنْهُ والأضاء يُرِيد فني.. إِسْمَاعِيل بْن صَالح يُغني الرشيد حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد الطَّالقَانِي قَالَ حَدَّثَنِي فضل اليزيدي عَن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن صبيحٍ قَالَ: قَالَ الرشيد للفضل بن يحيى وَهُوَ بالقرقة: قد قدم إِسْمَاعِيل بْن صَالح بْن عَليّ وَهُوَ صديقك، وَأُرِيد أَن أرَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إِن أَخَاهُ عبد الْملك فِي حَبسك، وَقد نَهَاهُ أَن يجيئك، قَالَ الرشيد: فَإِنِّي أتعلل حَتَّى يجيئني عَائِدًا، فتعلل، فَقَالَ الْفضل لإسماعيل: أَلا تعود أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: بلَى، فَجَاءَهُ عَائِدًا، فأجلسه ثُمَّ دَعَا بالغداء فَأكل، وَأكل إِسْمَاعِيل بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الرشيد: كَأَنِّي قد نشطت برؤيتك إِلَى شرب قدح، فَشرب وسقاه، ثُمَّ أَمر فَأخْرج جوارٍ يغنين وَضربت ستارة وَأمر بسقيه، فَلَمَّا شرب أَخذ الرشيد الْعود من يَد جاريةٍ وَوَضعه فِي حجر إِسْمَاعِيل، وَجعل فِي عنق الْعود سبْحَة فِيهَا عشر درات اشْتَرَاهَا بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَقَالَ: غنني يَا إِسْمَاعِيل وَكفر عَن يَمِينك بِثمن هَذِه السبحة فَانْدفع يُغني بِشعر الْوَلِيد بن يزِيد فِي غلية أُخْت عمر بْن عبد الْعَزِيز وَكَانَت تَحْتَهُ، وَهِي الَّتِي ينْسب إِلَيْهَا سوق غَالِيَة بِدِمَشْق: فأقسم مَا أدنيت كفي لريبةٍ ... وَلَا حَملتنِي نَحْو فاحشةٍ رجْلي وَلَا قادني سَمْعِي وَلَا بَصرِي لَهَا ... وَلَا دلَّنِي رَأْيِي عَلَيْهَا وَلَا عَقْلِي أعلم أَنِّي لم تصبني مُصِيبَة ... من الدَّهْر إِلَّا قد أَصَابَت فَتى قبلي فَسمع الرشيد أحسن غناءٍ من أحسن صوتٍ، فَقَالَ: الرمْح يَا غُلَام، فجيء بِالرُّمْحِ، فعقد لَهُ لِوَاء على إِمَارَة مصر، قَالَ إِسْمَاعِيل: فَوليتهَا سِتّ سِنِين، أَو سعتهم عدلا وانصرفت بِخَمْسِمِائَة ألف دينارٍ، قَالَ: بلغت عبد الْملك أَخَاهُ ولَايَته فَقَالَ: غنى وَالله الْخَبيث لَهُم، لَيْسَ هُوَ لصالح بابنٍ.

أعرابية تمثل نموذجا للصبر

إِذا قصر من يؤاكل الْمَأْمُون حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمُقْرِي قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن أَكْثَم قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون إِذا قصر بعض من يَأْكُل مَعَه أَمر بإقامته عَن الْمَائِدَة وَلَقَد رَأَيْته يَوْمًا وَقد أَمر أَن يُقَام بِابْنِهِ الْعَبَّاس عَن الْمَائِدَة لتقصيرٍ كَانَ مِنْهُ، وَقَالَ: إِذا قصرت احتشم غَيْرك لتقصيرك، فَقَالَ الْعَبَّاس: لم أقصر وَلَكِنِّي وجدت عِلّة، قَالَ: هلا ذكرتها قبل جلوسك على الطَّعَام، فإمَّا احتملناك على التَّقْصِير وَإِمَّا أعفيناك من الْأكل مَعنا. أعرابية تمثل نموذجًا للصبر حَدثنَا عبد الْبَاقِي بن قانعٍ قَالَ تحدثنا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاء قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن عَمْرو بنب حبيب قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: خرجت أَنا وصديق لي إِلَى الْبَادِيَة فضللنا الطَّرِيق، فَإِذا نَحن بخيمةٍ عَن يَمِين الطَّرِيق، فقصدنا نَحْوهَا فسلمنا، فَإِذا امْرَأَة ترد علينا السَّلَام، ثُمّ قَالَت: مَا أَنْتُم؟ فَقُلْنَا: قوم ضالون رأيناكم فأنسنا بكم، فَقَالَت: يَا هَؤُلَاءِ ولوا وُجُوهكُم عين حَتَّى أَقْْضِي من حقكم مَا أَنْتُم لَهُ أهل، فَفَعَلْنَا، فَأَلْقَت لنا مسحًا فَقَالَت: اجلسوا عَلَيْهِ إِلَى أَن يَأْتِي ابْني، ثُمَّ جعلت ترفع طرف الْخَيْمَة وتردها إِلَى أَن رفعتها فَقَالَت: أسأَل الله بركَة الْمقبل، أما الْبَعِير فبعير ابْني وَأما الرَّاكِب فَلَيْسَ بِابْني، فَوقف الرَّاكِب عَلَيْهَا فَقَالَ: يَا أم عقيل، عظم الله أجرك فِي عقيل، قَالَت: وَيحك مَاتَ ابْني "؟ قَالَ نعم، قَالَت: وَمَا سَبَب مَوته؟ قَالَ: ازدحمت عَلَيْهِ الْإِبِل فرمت بِهِ فِي الْبِئْر، فَقَالَت: انْزِلْ فَاقْض ذمام الْقَوْم، وَدفعت إِلَيْهِ كَبْشًا فذبحه وَأَصْلحهُ وَقرب إِلَيْنَا الطَّعَام، فَجعلنَا نَأْكُل ونتعجب من صبرها، فَلَمَّا فَرغْنَا خرجت إِلَيْنَا وَقد تكورت فَقَالَت: يَا هَؤُلَاءِ، هَل فِيكُم أحد يحسن من كتاب الله تَعَالَى شَيْئا؟ قلت: نعم أَنا، قَالَت: اقْرَأ على آياتٍ من كتاب الله عز جلّ أتعزى بهَا، قلت: يَقُول الله تَعَالَى وَجل جَلَاله: " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ " الْبَقَرَة: 155 157 قَالَت: الله إِنَّهَا لفي كتاب الله عز وَجل هَكَذَا؟ فَقلت: آللَّهُ لفي كتاب الله تَعَالَى هَكَذَا. قَالَت: السَّلَام عَلَيْكُم، ثُمَّ صفت قدميها وصلت رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَت: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَعند الله تَعَالَى أحتسب عقيلا، تَقول ذَلِك ثَلَاثًا، اللَّهُمَّ إِنِّي فعلت مَا أَمرتنِي فأنجز لي مَا وَعَدتنِي. لأي عِلّة خلق الله الذُّبَاب حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْص الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُون قَالَ حَدَّثَنِي وزيرة بْن مُحَمَّد بِمصْر قَالَ حَدَّثَنِي معمر بْن شبيب بْن شيبَة قَالَ: سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول لمُحَمد بْن إِدْرِيس: يَا مُحَمَّد لأي علةٍ خلق الله تَعَالَى الذُّبَاب؟ فَسكت ثُمَّ قَالَ: مذلة للملوك، فَضَحِك الْمَأْمُون ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّد رَأَيْت الذبابة وَقد سَقَطت على خدي؟

ذباب وذبان

قَالَ: نعم وَلَقَد سَأَلت عَنْهَا وَمَا عِنْدِي فِيهَا جَوَاب، فأخذني من ذَلِك الزمع، فَلَمَّا رَأَيْت الذبابة قد سَقَطت مِنْك بِموضع لَا يَنَالهُ من مَعَه عشرَة آلَاف سيف وَعشرَة آلَاف رمح انْفَتح لي فِيهَا الْجَواب، فَقَالَ: لله دَرك يَا مُحَمَّد. ذُبَاب وذبان قَالَ القَاضِي: قيل فِي هَذَا الْخَبَر الذبابة على لغةٍ حكيت ضَعِيفَة، يُقَال فِيهَا ذُبَابَة فِي التَّوْحِيد وذباب فِي الْجمع، مثل رقاقة ورقاق، وثمامة وثمام، وجزارة وجزار فَمَا أشبه هَذَا مِمَّا سبق جمعه واحده وَكَانَت الْهَاء فارقة بَين واحده وَجمعه، فَأَما اللُّغَة الفصيحة فِي الْعَرَبيَّة الفاشية عِنْد أهل اللُّغَة فَهُوَ أَن الذُّبَاب وَاحِد. قَالَ الله عز وَجل: " إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ " الْحَج:73 وَيجمع الذُّبَاب فِي القة أذبة، وَفِي الْكَثْرَة ذبان، مثل غراب وأغربة وغربان. الْمَأْمُون يمْتَحن مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس حَدثنَا ابْن مخلد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحسن، قَالَ حَدَّثَنَا وزيرة، قَالَ حَدَّثَنَا معمر بْن شبيب، قَالَ سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول: قد امتحنت مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس فِي كل شَيْء فَوَجَدته كَامِلا، وَقد بقيت خصْلَة وَهُوَ أَن أسقيه من النَّبِيذ مَا يغلب على الرجل الْجيد الشّرْب، قَالَ فَحَدثني ثَابت الْخَادِم وَقد دَعَا بِهِ فَأعْطَاهُ رطلا فَقَالَ: اشرب يَا مُحَمَّد، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا شربت قطّ، قَالَ: عزمت عَلَيْك لتشربن، فشربه، ثُمَّ والى عَلَيْهِ بالأرطال حَتَّى سقَاهُ عشْرين رطلا، فَمَا تغير وَلَا زَالَ عَن حجَّة. قولة طبع ووثاقة بنية قَالَ القَاضِي: وَهَذَا مِمَّن لم يعْتد شربه وَلم يأنس بِهِ مزاجه وطباعه أبلغ فِي الأعجوبة وأدل على اعْتِدَال التَّرْكِيب وَقُوَّة الطَّبْع ووثاقة البنية، وَالله أعلم بِصِحَّة هَذِه الْحِكَايَة وثبوتها من جِهَة الرِّوَايَة. مُحَمَّد بْن الْحسن وَالشَّافِعِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن الْحَسَن الصَّواف قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أَبِي الصَّلْت الْحمانِي قَالَ، سَمِعت أَبَا عبيدٍ يَقُول: رَأَيْت الشَّافِعِي عِنْد مُحَمَّد بْن الْحسن وَقد دفع إِلَيْهِ خمسين دِينَارا، وَقد كَانَ دفع إِلَيْهِ قبل هَذَا خمسين درهما وَقَالَ: إِن اشْتهيت الْعلم فَالْزَمْ، ثُمَّ دفع إِلَيْهِ هَذِه الدَّنَانِير وَلَزِمَه الشَّافِعِي؛ قَالَ أَبُو عبيد: فَسمِعت الشَّافِعِي يَقُول: كتبت عَن مُحَمَّد بْن الْحسن وقر بعير؛ وسمعته يَقُول لمُحَمد بْن الْحسن وَقد دفع إِلَيْهِ الدَّنَانِير بعد الْخمسين درهما وَقَالَ لَهُ: لَا تحتشم، فَقَالَ: مَا أَنْت عِنْدِي فِي مَوضِع أحتشمك. وَجرى ذكر الشَّرَاب فَقَالَ الشَّافِعِي: الْحَمد الله لَو علمت أَن المَاء الْبَارِد يضر مرؤءتي فِي ديني لما شربت إِلَّا المَاء الْحَار ألْقى الله تَعَالَى، وَلَو كنت عِنْدِي مِمَّن أحتشمك مَا قبلت برك.

المجلس الخامس والستون

الْمجْلس الْخَامِس وَالسِّتُّونَ معنى النعم الظَّاهِرَة والباطنة أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمْدَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخُتُلِّيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْن محمدٍ بْن مَيْمُون، قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً " لُقْمَان: 20 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ مِمَّا سَأَلْتُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ظَهَرَ فَالإِسْلامُ وَمَا سَوَّاهُ مِنْ خَلْقِكَ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ، وَأَمَّا مَا بَطَنَ فَمَا سَتَرَ عَلَيْكَ مِنْ مَسَاوِئِ عَمَلِكَ، يَا ابْن عَبَّاس إِبْنِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ثَلاثٌ جَعَلْتُهُنَّ لِلْمُؤْمِنِ: صَلاةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَجَعَلْتُ لَهُ ثُلُثَ مَالِهِ يُكَفِّرُ عَنْهُ مِنْ خَطَايَاهُ، وَسَتَرْتُ مَسَاوِئَ عَمَلِهِ أَنْ أَفْضَحَهُ بشيءٍ مِنْهَا وَلَوْ أُبْدِيهَا لَنَبَذَهُ أَهْلُهُ فَمَنْ سِوَاهُمْ. آراء فِي تَفْسِير الْآيَة قَالَ القَاضِي: جَاءَ هَذَا الْخَبَر بِتِلَاوَة هَذِه الْآيَة وتأويلها ووردت بتلاوتها فِيهِ على قِرَاءَة من قَرَأَ: " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُم نعْمَة " بِلَفْظ التَّوْحِيد وَهِي قِرَاءَة كثيرٍ من المكيين والكوفيي، وَقد قَرَأَهَا كثير من الْمَدَنِيين والشاميين والبصريين " وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ " على لفظ الْجمع وهما قراءتان مشهورتان قد استفاض نقلهما، وقرأت الْأَئِمَّة بهما وراثة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومعناهما يرجع إِلَى معنى واحدٍ لِأَن قَائِلا لَو قَالَ: مَا يتقلب فِيهِ فلَان من المَال وَالْولد وَالصِّحَّة والأمن وأنواع الْخَيْر وَجَمِيل السّتْر نعْمَة أسداها الله تَعَالَى إِلَيْهِ، أَو قَالَ هَذِه نعم من الله تَعَالَى تفضل بهَا عَلَيْهِ، لَكَانَ الْقَوْلَانِ صَحِيحَيْنِ، وَكَذَلِكَ تقَارب الْمَعْنى فِي قِرَاءَة من قَرَأَ: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ " الرّوم: 50 وَمن قَرَأَ: أثر رَحْمَة الله " وَقِرَاءَة من قَرَأَ: " بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيئته " الْبَقَرَة: 81 وخطيئاته وَقد قيل إِن معنى قَوْله خطيئته فِي هَذَا الْموضع الشّرك، وَقيل بل كَبَائِر ذنُوبه الَّتِي مَاتَ وَلم يتب مِنْهَا. وَرُوِيَ عَن عَبد اللَّه بْن كثير أَنه قَالَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: وأسبغ عَلَيْكُم نعْمَة " هِيَ شَهَادَة أَن لَا إِلَيْهِ إِلَّا الله فِي مَا زَعَمُوا، وَقيل بل هُوَ عَام شَامِل للنعم؛ وَمثل هَذَا فِي الْقُرْآن كثير. وَقيل إِن هَذَا مِمَّا يُنبئ الْوَاحِد مِنْهُ عَن جملَة جنسه، كَقَوْلِهِم: هَلَكت الشَّاة وَالْبَعِير، وَكثر الدِّرْهَم الدِّينَار فِي أَيدي النَّاس، وَقَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خسرٍ " الْعَصْر: 1، 2 أَرَادَ الْجِنْس دون اخْتِصَاص إِنْسَان واحدٍ، أَلا ترى أَنه اسْتثْنى مِنْهُ جمعا فَقَالَ: " إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " الْعَصْر: 3 وَهَذَا بَاب مستقصى فِي مَا رسمناه من عُلُوم الْقُرْآن.

وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان

وَصِيَّة أَبِي بكر ليزِيد بْن أَبِي سُفْيَان حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ، قَالَ أَبُو بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى الشَّامِ: ابْدَأْ بِالصَّلاةِ إِذَا حَلَّ لَكَ وَقْتُهَا وَلا تَشَاغَلْ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَإِنَّ الإِمَامَ تَقْتَدِي بِهِ رَعِيَّتُهُ وَتَعْمَلُ بِعَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا وَعَظْتَ فَأَوْجِزْ، وَلا تُكْثِرِ الْكَلامَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ تُنْسِي بَعْضَهُ بَعْضًا، وَإِنَّمَا يُغْنِي مِنْهُ مَا وُعِيَ عَنْكَ. وَإِذَا اسْتَشَرْتَ فَاصْدُقِ الْحَدِيثَ تُصْدَقِ الْمَشُورَةَ، وَلا تَدَّخِرَنَّ عَنِ الْمُشِيرِ شَيْئًا فَتَكُونَ إِنَّمَا تُؤْتِي مِنْ نَفْسِكَ، وَلا تَلَجَّنْ فِي عقوبةٍ فَإِن أَدْنَاهَا وَجِيعٌ، وَلا تُسْرِعَنَّ إِلَيْهَا وَأَنْتَ مكتفٍ بِغَيْرِهَا، وَلا تَكْشِفِ النَّاسَ عَنْ أَسْرَارِهِمْ، وَاسْتَغْنِ بِعَلانِيَّتِهِمْ وَلا تَجَسَّسْ فِي عَسْكَرِكَ فَتَفْضَحَهُ، وَلا تُغْفِلْهُ فَتُفْسِدَهُ، وَلا تُقَاتِلَنَّ بِمَجْرُوحٍ فَإِنَّ بَعْضَهُ لَيْسَ مَعَهُ، واستشل النَّاس بالدينا فَإِنَّ ذَا النِّيَّةِ تَكْفِيكَ نِيَّتُهُ، وَمَنْ أَعْطَيْتَهُ شَيْئًا بشيءٍ فَفِ لَهُ، وَلا تَتَّخِذَنَّ حَشَمًا تَضَعُ عَنْهُمْ مَا تَحْمِلُهُ عَلَى غَيْرِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يُضْغِنُ النَّاسُ عَلَيْكَ وَيَسْتَحِلُّونَ بِهِ مَعْصِيَتَكَ. قَالَ القَاضِي: رَضِيَ اللَّهُ عَن أَبِي بكر فقد أبلغ فِي وَصيته، وَبَالغ فِي نصيحته، وَمن حفظ عَنْهُ مَا علمه، احتذى مَا أَشَارَ بِهِ ورسمه، كَانَ سالكًا محجة الرشاد، فِي الْمَعيشَة والمعاد، ونسأل الله التَّوْفِيق للسداد وَحسن الاستعداد. عَمْرو بْن معدي كرب الأكول الشجاج يغلبه ربيعَة بْن مكدم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مَزْيَد الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار، قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بكرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: دَخَلَ عَمْرو بن معد يكرب الزُّبَيْدِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُ الرَّبِيعُ بْنُ زيادٍ وَشَرِيكُ بْنُ الأَعْوَرِ الْحَارِثِيَّانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دَخَلْتُ عَلَى خَالِكَ أَبِي سُلَيْمَانَ يَعْنِي خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَأَتَى بثورٍ وقوسٍ وكعبٍ فَأَطْعَمَنِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَشُبْعَةً، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤمنِينَ لَك أولي؟ قَالَ: بَلْ لِي وَلَكَ، قَالَ كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي آكل الأَزْهَرِ: التِّبْنُ هُوَ الْقَدَحُ الْعَظِيمُ، وَالثَّوْرُ: الأَقْطُ، وَالْكَعْبُ الْقِطْعَةُ مِنَ التَّمْر رثيئةً وصريفاً. قَالَ الْقَاضِي: وَلَيْسَ فِي كِتَابِي عَنِ ابْنِ أَبِي الأزْهَرِ، تَفْسِيرُ الْقَوْسِ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ السَّمْنِ، وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الأَسْمَاءَ الثَّلاثَةَ هِيَ القية الفضلة مِنَ الأَنْوَاعِ الَّتِي وَصَفْنَا. قَالَ: فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَى الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ كَالْمُتَعَجِّبِ مِنْ قَوْلِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيعُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَكَذَلِكَ، وَإِنَّ الْخَيْلَ لَتُتَّقَى ذُرَاهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَانْتَعَلَتِ الْخَيْلُ الدِّمَاءَ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الإِلَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الأَزْهَرِ: الإِلُّ هُوَ الْعَهْدُ وَقطع أَو صرنا قَالَ ابْنُ أَبِي الأَزْهَرِ: الأَوَاصِرُ الأُصُولُ قَالَ عَمْرٌو: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَاوَرْتُ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي

الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عِشْرِينَ سَنَةً فَمَشَوْا إِلَى الضَّرَاءِ وَدَبُّوا إِلَى الْخَمَرِ. قَالَ الْقَاضِي: الضَّرَاءُ: مَا وَارَاكَ مِنْ شجرةٍ، وَالْخَمَرُ: مَا وَرَاك مِنْ شيءٍ، قَالَ زُهَيْرٌ فَمَهْلا آلَ عَبْدِ اللَّهِ عُدُّوا ... مَخَازِيَ لَا يُدَبُّ لَهَا الضَّرَاءُ وَقَالَ آخَرُ: أَلا يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرا ... فقد جَاوَزْتُما خَمْر الطّرِيقِ فَلَمَّا بَدَتْ لِي ضِبَابُ صُدُورِهِمْ وحسك قُلُوبهم أَو جرتهم أَمَرَّ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ. فَقَالَ شَرِيكُ بْنُ الأَعْوَرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا مَا أَعَجْزَنَا لِمَا أَخَذَتْهُ أَنْيَابُنَا وَكَلَمَتْهُ أَظْفَارُنَا، فَقَالَ عَمْرو: إِلَيْك يَا ابْن الأَعْوَرِ فَإِنِّي لَا أُغْمَزُ غَمْزَ التِّينِ وَلا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ؛ فَلَمَّا خَشِيَ عُمَرُ أَنْ يَتَفَاقَمَ الأَمْرُ بَيْنَهُمْ وَيَخْرُجُوا إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا قَالَ: إِيهًا عَنْكُمُ الآنَ، وَأَقْبَلَ عَلَى عمروٍ فَقَالَ: يَا أَبَا ثَوْرٍ لَقَدْ حَدَّثْتَ عَنْ نَفْسِكَ بمأكلٍ ومشرب، وَلَقَد لَقِيتَ النَّاسَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ فَأَخْبِرْنِي هَلْ صَدَفْتَ عَنْ فَارِسٍ قَطُّ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ الْكَذِبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ فَكَيْفَ إِذْ هَدَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى لِلإِسْلامِ؟ لَقَدْ قُلْتُ ذَاتَ يومٍ لِخَيْلٍ مِنْ بَنِي ذُهْلٍ: هَلْ لَكُمْ فِي الْغَارَةِ؟ قَالُوا: عَلَى مَنْ؟ قُلْتُ: عَلَى بَنِي الْبَكَّاءِ، قَالُوا: مَغَارٌ بَعِيدٌ عَلَى شِدَّةِ كَلْبٍ وَقِلَّةِ سَلْبٍ، قُلْتُ: فَعَلَى مَنْ؟ قَالُوا: عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ كِنَانَةَ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ رِجَالَهُمْ خُلُوفٌ. فَخَرَجْتُ فِي خَيْلٍ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى وادٍ مِنْ أَوْدِيَتِهِمْ فَدَفَعْتُ إِلَى قومٍ سراةٍ؛ قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهُمْ سَرَاةٌ؟ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى قبابٍ عظيمةٍ من أَدَم، وقدورٍ متأقةٍ وإبلٍ وَغَنَمٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا لعمري عَلامَة السرُور، قَالَ عَمْرٌو: فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَعْظَمِهَا قُبَّةً فَأَكْشِفُهَا عَنْ جاريةٍ مِثْلِ الْمَهَاةِ، فَلَمَّا رَأَتْنِي ضَرَبَتْ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا وَبَكَتْ، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: مَا أَبْكِي عَلَى نَفْسِي وَلا عَلَى الْمَالِ، فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شيءٍ تَبْكِينَ؟ قَالَتْ: عَلَى جوارٍ أترابٍ لِي قَدْ أَلِفْتُهُنَّ وَهُنَّ فِي هَذَا الْوَادِي، قَالَ: فَهَبَطْتُ الْوَادِي عَلَى فَرَسِي فَإِذَا أَنَا برجلٍ قاعدٍ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَإِلَى جَانِبِهِ سَيْفٌ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْجَارِيَةَ قد خدعتني وَمَا كرتني، فَلَمَّا رَآنِي الرَّجُلُ قَامَ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ، ثُمَّ عَلا رَابِيَةً، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قِبَابِ قَوْمِهِ مَطْرُوحَةٍ حَمَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ إِذْ مَنَحَتْنِي فَاهَا ... وَلَحَفَتْنِي بَكْرَةَ رِدَاهَا أَنِّي سَأَحْمِي الْيَوْمَ مَنْ حَمَاهَا ... يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي دَهَاهَا فَقُلْتُ مُجِيبًا لَهُ: عَمْرٌو عَلَى طُولِ السُّرَى دَهَاهَا ... بِالْخَيْلِ يُزْجِيهَا عَلَى وَجَاهَا حَتَّى إِذا جلّ بِهَا احْتَوَاهَا ثُمَّ حَمَلْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا أَقُولُ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَحْمُودُ الشِّيَمِ ... مُؤْتَمَنُ الْغَيْبِ وَفِيٌّ بِالذِّمَمِ

أتركه لحما على ظهر وضم

مِنْ خَيْرِ مَنْ يَمْشِي بساقٍ وَقَدَمِ قَالَ: فَحَمَلَ عَلَيَّ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ ذِي الأَقْيَالِ أَقْيَالِ الْبُهَمْ ... مَنْ يَلْقَنِي يُودَ كَمَا أُودَتْ إِرَمْ أَتْرُكْهُ لَحْمًا عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ قَالَ: وَاخْتَلَفْنَا ضَرْبَتَيْنِ، فَأَضْرِبُهُ أَحْذَرَ مِنَ الْعَقْعَقِ، وَيَضْرِبُنِي أَثْقَفَ مِنَ الْهِرِّ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِي قَرَبُوسِ سَرْجِي فَقَطَعَهُ، وَعَضَّ كَاثِبَةَ الْفَرَسِ، فَوَثَبْتُ عَلَى رِجْلِي قَائِمًا وَقُلْتُ: يَا هَذَا مَا كَانَ يَلْقَانِي مِنَ الْعَرَبِ إِلا ثَلاثَةٌ: الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ لِسِنِّهِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَعَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لِلشَّرَفِ وَالنَّجْدَةِ، وَرَبِيعَةُ بْنُ مُكَدَّمٍ لِلْحَيَاءِ وَالْبَأْسِ، فَمَنْ أَنْتَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ قَالَ: بَلْ مَنْ أَنْتَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ؟ قُلْتُ: أَنَا عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: وَأَنَا رَبِيعَةُ بْنُ مُكَدَّمٍ، قُلْتُ: اخْتَرْ مِنِّي إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ: إِمَّا أَنْ نَتَضَارَبَ بِسَيْفَيْنَا حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَزُ؛ وَإِمَّا أَنْ نَصْطَرِعَ فَأَيُّنَا صَرَعَ صَاحِبَهُ قَتَلَهُ، وَإِمَّا الْمُسَالَمَةَ، قَالَ: ذَاكَ إِلَيْكَ فَاخْتَرْ، قُلْتُ: إِنَّ بِقَوْمِكَ إِلَيْكَ حَاجَةً وَبِقَوْمِي إِلَيَّ حَاجَةً، وَالْمُسَالَمَةُ أَوْلَى وَخَيْرٌ لِلْجَمِيعِ. ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي وَقُلْتُ لَهُمْ: خَلُّوا مَا بِأَيْدِيكُمْ قَالُوا: يَا أَبَا ثَوْرٍ غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ بِأَيْدِينَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَتْرُكَهَا؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَخَلَّيْتُمْ وَزِدْتُمْ، خَلُّوا وَسَلُونِي عَنْ فَرَسِي مَا فَعَلَ؛ قَالَ: فَتَرَكْنَا مَا بِأَيْدِينَا وَانْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ. معنى الْغَنِيمَة الْبَارِدَة قَالَ القَاضِي: فِي قَوْله: غنيمَة بَارِدَة وَجْهَان: أَحدهمَا أَنَّهَا الْغَنِيمَة الَّتِي لم ينل غانمها حر السِّلَاح وحازوها سَالِمين ظَاهِرين موفورين غير مكلومين، وَقد يكون الْبرد فِي هَذَا القَوْل بِمَعْنى الطُّمَأْنِينَة والراحة كَمَا يُقَال: اللَّهُمَّ أذقنا برد عفوك، وَمِنْه برد الْيَقِين بِمَعْنى الطُّمَأْنِينَة والسكون، وَيَقُولُونَ برد الْمَيِّت أَي سكن. وَالْوَجْه الثَّانِي أَن الْغَنِيمَة الْبَارِدَة هِيَ المستقرة الْحَاصِلَة والمحوزة الثَّابِتَة من قَوْلهم: مَا برد بيَدي من هَذَا شَيْء، أَي مَا حصل وَلَا ثَبت، كَمَا قَالَ الراجز: الْيَوْم يَوْم بَارِد سمومه ... من عجز الْيَوْم فَلَا تلومه أَي ثَابت سمومه. وَقد أنشدنا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي: عافت الشّرْب فِي الشتَاء فَقُلْنَا ... برديه تصادفيه سخينا على وَجْهَيْن: برديه أَي أحبسيه وأقريه لينكسر برده، وَالْآخر بل رديه من الْورْد، فأدغم اللَّام فِي الرَّاء، وَهَذَا كثير فِي كَلَام الْعَرَب، والإظهار هَاهُنَا قَلِيل فِي السماع ضَعِيف فِي الْقيَاس، وَإِن كَانَ بَعضهم قد أظهر، وَقد رُوِيَ عَن حَفْص بْن سُلَيْمَان الْأَسدي عَن عَاصِم بْن أَبِي النجُود " بَلْ رَانَ " المطففين: 14 بالإظهار.

نصيحة وصيف وتردد ابن بلبل

نصيحة وصيف وَتردد ابْن بلبل حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَعْقُوب بْن بنان الْمنْقري قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات، وَقد جرى ذكر إِسْمَاعِيل بْن بلبل وأيامه، فَقَالَ: كنت يَوْمًا بَين يَدَيْهِ وَقد ورد عَلَيْهِ خبر النَّاصِر ودخوله قرماسنين، فرأيته قد أَطَالَ الْفِكر ثُمَّ قَالَ لِأَحْمَد الْحَاجِب: وَجه إِلَى أبي عَليّ وصيف إِلَى مُوسَى ابْن أُخْت مُفْلِح، فَلم نَلْبَث أَن حضرا ثُمَّ قَالَ: وَجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح، فَقَالَ لَهُ وصيف: أُرِيد أَن أَقُول شَيْئا قبل أَن توجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح، فَقَالَ لَهُ وصيف: أُرِيد أَن أَقُول شَيْئا قبل أَن توجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح، فَقَالَ: قل، فَكَأَنَّهُ كره أَن يَقُول بِسَبَب من حضر الْمجْلس، فَقَالَ أَبُو الصَّقْر: نحتاج أَن نخلو، وَلم يكن بالحضرة إِلَّا أَرْبَعَة أَنا خاسمهم: أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن خَالِد أَخُو أَبِي صَخْرَة، وَمَا شَاءَ الله الَّذِي كَانَ يكْتب للطائي وَإِسْمَاعِيل بْن ثَابت الزغل، وَابْن فراس وَقد كَانَ اسْتَكْتَبَهُ للعبدي، فقمنا، فَقَالَ: مَكَانك يَا أَحْمَد، فَجَلَست نَاحيَة وَبَين يَدي أَعمال أنظر فِيهَا، وَقَالَ لوصيف: قل، فَقَالَ لَهُ: إِن كنت توجه إِلَى عَبد اللَّه بْن الْفَتْح تشاوره فِي أمرٍ ورد عَلَيْك وتظن أَنه لَك مثل من حضر فَلَا تظن ذَاك، فَإِن عَبد اللَّه كَانَ بِمصْر يَقُول: لَيْسَ لي صَلَاة مَا دمت مَعَ ابْن طولون لِأَن النَّاصِر لَيْسَ براض عَنْهُ، وَهُوَ الْآن إِنَّمَا هُوَ مَعَك على أَن النَّاصِر يستنصحك ويرضى بك فِيمَا ولاك من أمره، فَإِن وقف على تدبيرٍ تدتبره على غير مَا يُوَافق النَّاصِر رأى أَن دمك حَلَال، فأفكر أَبُو الصَّقْر سَاعَة وَقَامُوا مَعَه فَدَخَلُوا مَجْلِسا وأسبلت الستور دونهم، وَمَعَهُمْ خَادِم لأبي الصَّقْر أسود يُقَال لَهُ صندل حسن الْفِكر؛ فَلَمَّا قدم النَّاصِر ونكب إِسْمَاعِيل وتخلصنا من النكبة واستخلفني أَبُو الْقَاسِم عُبَيْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان كَانَ الْخَادِم يجيئني كثيرا، فَسَأَلته عماجرى فِي تِلْكَ الْخلْوَة فَقَالَ لي: لَا تَلد النِّسَاء مثل وصيف الْخَادِم، وَلَا يرى فِي الدول مثله، قَالَ مولَايَ لَهما يعين يوصيفاً ومُوسَى: قد قرب هَذَا الرجل وَلم يبْق فِي بيُوت الْأَمْوَال شَيْء وَلَا وَالله مَا ورائي مَا أرضيه بِهِ، وَنحن فِي عدةٍ عظيمةٍ قد أنفقت الْأَمْوَال عَلَيْهَا لأدفع بهَا عَن نَفسِي، وَقد أفكرت فِي أَن أوجه وأقطع جسر النهروان وأوجه بِأَكْثَرَ الْجَيْش إِلَيْهِ مَعَ أَحْمَد بْن الْحسن المادرائي، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: الرَّأْي لسيدنا وَنحن بَين يَدَيْهِ فِي كل مَا نهضنا إِلَيْهِ، فَقَالَ لوصيفٍ: مَا تَقول يَا أَبَا عَليّ؟ فَقَالَ: أرى لَك رَأيا لَا يخلص لَك غَيره، أرى أَن تَأْخُذ ابْنه وَتَأْخُذ مَعَك من الْجَيْش من تعلم أَنه لَك نَاصح، وتقيد من تتهمه، وَتخرج فِي الْجُمْلَة الَّتِي تثق بهَا حَتَّى توافي الْمَدَائِن، فتأخذ الْمُعْتَمد وَأَوْلَاده وتخلفني بواسط وَتصير أَنْت إِلَى الصرة، والخليفة وَأَوْلَاده مَعَك، وَيكون أَبُو الْعَبَّاس وَمن قد قيدته مَعَك، فَإِن أهل الْبَصْرَة إِذا رَأَوْا الْخَلِيفَة حَارب دُونك رِجَالهمْ وخولهم وصبيانهم وَنِسَاؤُهُمْ، وَيكون مَا ل الأهواز وواسط وَالْبَصْرَة فِي يَديك، وتحدر مَعَك الشذاءات والحراقات والزلالات والطيارات، وتكاتب عَمْرو بْن اللَّيْث فَإِنَّهُ عدوه، فَإِن كفيت أمره بِهَذِهِ الْعلَّة الَّتِي يُقَال إِنَّه فِيهَا رجعت إِلَى بَغْدَاد

رأي معاوية في ما يستحسن من الشعر

وَأَنت أعز النَّاس، وَإِن عَاشَ كنت مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِمَام الْمُسلمين لم تخلع وَلم تحدث فِي أمره حَادِثَة تزيل إِمَامَته، ومعك ولي عهدٍ مقدم على أَخِيه وَلم تخرج من طاعةٍ، فَالنَّاس كلهم مَعَك، وقاتلناه أَشد قتال، ولعنته على المنابرن وَكَانَ ابْنه فِي يَديك وَأَنت مستظهر بِهِ وبابنه الآخر، وأولادك وحاشيتك مَعَك. وَإِذا نظر الْأَوْلِيَاء إِلَى جودك وبخله واستنقاذك خَليفَة مَظْلُوما وقيامك بنصرته ناصحوك وبذلوا مجهودهم لَك، وَإِن خَالَفت هَذَا فَأَنت وَالله مَأْخُوذ مقتول، وَأَنت أعلم. فَقَالَ لَهُ: القَوْل مَا قلت، وَهَذَا هُوَ التَّدْبِير، وَأَنا آخذ فِي هَذَا وأعمل بِهِ، وخرجا من عِنْده. فَبلغ وصيفًا أَن مولَايَ عرض دوابه وبغاله لاستقبال النَّاصِر، وَأَنه أنفذ كتابا إِلَى أَبِي بكر ابْن أُخْته، وَكَانَ مَعَ النَّاصِر، ليعرضه على النَّاصِر ليجد لَهُ موضعا فِي استقباله، وَورد الْكتاب بِدُخُول النَّاصِر حلوان، فَجَاءَهُ وصيف فَقَالَ: مَا عزم سيدنَا الْوَزير؟ قد كَاد مَا جرى أَن يفوت، فَقَالَ: اللَّيْلَة أنظر فِي هَذَا، فَقَالَ: فَإلَى أَن تنظر أتقدم أَنا إِلَى وَاسِط لأَكُون هُنَاكَ إِلَى أَن توافي، فَقَالَ: وَيحك، الرجل قد كتب إِلَى ابْن أُخْتِي أَنه لم يبْق فِيهِ من الرّوح مَا يدْخل بَغْدَاد، فَمَا معنى الانزعاج وتنبيه الْأَوْلِيَاء على الْمُطَالبَة بالشخوص؟ فَقَالَ: وَالله إِن دخل النَّاصِر بَغْدَاد فِي تابوتٍ ليخرجن الْمَحْبُوس من غير أَمرك، ليجتمعن النَّاس كلهم لَهُ، ولينقلبن عَنْك كل من اصطنعته، فَإِن كنت لَا تطيعني فِيمَا أَشرت بِهِ فَدَعْنِي حَتَّى أكبس الحسني كَأَنِّي قد عاصيتك، وَأخذ الْمَحْبُوس معي، وَأخذ الْمَحْبُوس معي، وآخذ الْخَلِيفَة من الْمَدَائِن معي كَأَنَّهُ عَن غير أَمرك، فَإِنَّهُ يتهيأ لَك إِن وَقعت على شيءٍ يُخَالف محبتك أَن تتخلص حَتَّى تلْحق بِي أَو تستتر إِلَى أَن تَجِد الفرصة بالتخلص، فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَن يقفل ذَاك من حلوان رُبمَا ينجلي المر، فَقَالَ لَهُ: أما أَنا فَمَا أقيم سَاعَة أخرج من عنْدك وَأَنا بواسطٍ إِلَى أَن يأتيني أَمرك إِن بَقِي لَك أَمر، وودعه وَخرج، فَخَلا بِهِ المادرائي وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمثل هَذَا فَلم يَفْعَله، وَدخل النَّاصِر، وَكَانَت الكائنة والجلاء الَّذِي لم ير مثله. رَأْي مُعَاوِيَة فِي مَا يستحسن من الشّعْر حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ: أَرَاكَ تُعْجَبُ بِالشِّعْرِ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِيَّاكَ وَالنَّسِيبَ بِالنِّسَاءِ فَإِنَّكَ تَعُرُّ بِهِ الشَّرِيفَةَ وَتَرْمِي بِهِ الْعَفِيفَةَ وَتُقِرُّ عَلَى نَفْسِكَ بِالْفَضِيحَةِ، وَإِيَّاكَ وَالْهِجَاءَ فَإِنَّكَ تُحْنِقُ بِهِ كَرِيمًا وَتَسْتَثِيرُ بِهِ لَئِيمًا، وَإِيَّاكَ وَالْمَدْحَ فَإِنَّهُ كَسْبُ الْوَقَاحِ وَطُعْمَةُ السُّؤَالِ، وَلِكِنِ افْخَرْ بِمَفَاخِرِ قَوْمِكَ، وَقُلْ مِنَ الأَمْثَالِ مَا تُزِيِّنُ بِهِ نَفْسَكَ وَشِعْرَكَ وَتَوَدَّدُ بِهِ إِلَى غَيْرِكَ. وَيُقَالُ الشِّعْرُ أَدْنَى مُرُوءَةِ السَّرِيِّ وَأَفْضَلُ مُرُوءَةِ الدَّنِيِّ.

نصيب الشاعر ورأيه في شعراء عصره

نصيب الشَّاعِر ورأيه فِي شعراء عصره أخبرنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد عَن مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه عَن معاذٍ صَاحب الْهَرَوِيّ قَالَ: دخلت مَسْجِد الْكُوفَة فَرَأَيْت رجلا لم أر قطّ أنقى ثيابًا مِنْهُ ولَا أَشد سوادًا، فَقلت لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا نصيب، فَقلت: أَخْبرنِي عَنْك وَعَن أَصْحَابك، فَقَالَ: جميل إمامنا، وَعمر أوصفنا لربات الحجال، وَكثير أبكانا على الأطلال والدمن، وَقد قلت مَا سَمِعت، قلت: فَإِن النَّاس يَزْعمُونَ أَنَّك لَا تحسن أَن تهجو، قَالَ: فأقروا لي أَنِّي أحسن المديح؟ قلت: نعم، قَالَ: أفترى لَا أحسن أَن أجعَل مَكَان عافك الله أخزاك الله؟ قلت: بلَى، قَالَ: وَلَكِنِّي رَأَيْت النَّاس رجلَيْنِ: رجلا لم أسأله فَلَا يَنْبَغِي أَن أهجوه فأظلمه، ورجلا سَأَلته فَمَنَعَنِي فَكَانَت نَفسِي أَحَق بالهجاء إِذْ سَوَّلت لي أَن أطلب مِنْهُ. شَاعِر يسترفد مكديًا حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ: قدم أَحْمَد أَو إِبْرَاهِيم بْن الْحسن بْن سهل الْبَصْرَة وَقد ولي شَيْئا من أَعمالهَا فَنزل طاحية، فَمضى إِلَيْهِ بعض شعراء الْبَصْرَة فامتدحه، فَوَقع إِلَيْهِ: شَاعِر يطْلب رفدًا ... من أخي شعرٍ مكدي إِن ذَا أعجب أمرٍ ... خَاضَ فِيهِ النَّاس بعدِي أَنا فِي أَخذ ثِيَاب الن؟ ... اس مذ كنت أسدي جلب الرّيح إلري؟ ... ح الَّذِي يطْلب رفدي قَالَ: فَأَرَدْت هجاءه فَلم أفعل، فلقيني يَوْمًا فَقَالَ لي: يَا هَذَا مازحناك فجددت فِي هجرنا، ثُمَّ قَالَ لغلامه: لَا تُفَارِقهُ، فَمضى بِي مَعَه فأقمت عِنْده يومي ووهب لي خَمْسمِائَة درهمٍ وَقَالَ: لَا تقطعني، فَكنت أمضي إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج من الْبَصْرَة أَمر لي بِجَمِيعِ مَا بقاه فِي الدَّار مِمَّا لم يحملهُ مَعَه، فَبِعْته بِمِائَة دِينَار، قَالَ أَبُو عبد لله: لَا أَدْرِي من حَدَّثَنِي بِهَذَا الجماز أَو الحمدوي أوغيرهما. ضروب من الْقبْح حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زيادٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَة، قَالَ سَمِعت الْمَأْمُون يَقُول: مَا أقبح اللجاجة بالسلطان، وأقبح وَالله من ذَلِك الضجر من الْقُضَاة قبل التفهم، وأقبح مِنْهُ سخافة الْفُقَهَاء بِالدّينِ، وأقبح مِنْهُ الْبُخْل بالأغنياء والمزاح بالشيوخ والكسل بالشباب والجبن بالمقاتل. لَا تغرق فِي شَتمنَا حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن شَاكر قَالَ حَدَّثَنَا ابْن إِسْحَاق بْن

لا تدع على أخيك

إِسْمَاعِيل الطَّالقَانِي قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَان بْن عُيَيْنَة قَالَ: كَانَ بَين عمر بْن ذَر وَبَين رجلٍ يُقَال لَهُ ابْن عَيَّاش شَحْنَاء، وَكَانَ يبلغ عمر بْن ذرٍ أَن ابْن عياشٍ يتَكَلَّم فِيهِ، قَالَ: فَخرج عمر ذَات يَوْم فلقي ابْن عَيَّاش فَوقف مَعَه، فَقَالَ لَهُ: لَا تغرق فِي شَتمنَا ودع للصلح موضعا فَإنَّا لَا نكافئ أحدا عصى الله تَعَالَى فِينَا بِأَكْثَرَ من أَن نطيع الله تَعَالَى فِيهِ. لَا تدع على أَخِيك حَدَّثَنَا ابْن الْمُنَادِي قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر الصَّائِغ أَيْضا قَالَ حَدَّثَنَا الْحسن بْن بشر، قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش عَن عبد الْعَزِيز بِهن عُبَيْد اللَّهِ قَالَ: سمع مُسلم بْن يسَار رجلا يَدْعُو على أخٍ لَهُ من أجل أَنه ظلمه، فَقَالَ لَهُ مُسلم: يَا أخي لَا تدع على أَخِيك وَلَا تقطع رَحمَه، وَكله إِلَى الله فَإِن خطيئته أَشد لَهُ طلبا من أعدى عَدو لَهُ. كَبْش من افريقية حَدثنَا عَبدِي اللَّهِ بْن مُسلم الْعَبْدي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن حبيب القَاضِي الْغلابِي قَالَ: رَأَيْت فِي دَار مُحَمَّد بْن زبيدة كَبْشًا قدم بِهِ من إفريقية أسود فِيهِ حلق مَكْتُوب ببياض: لَا إِلَه إِلَّا الله وَفِي الشق الآخر مُحَمَّد رَسُول الله. انْتقل من جوَار ابْن طَاهِر حَدثنَا أَحْمَد بْن أَبِي سهلٍ بْن عَاصِم الْحلْوانِي، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن عَليّ بْن هَارُون بْن عَليّ بْن يحيى بْن أَبِي مَنْصُور قَالَ: كَانَ أَبِي نازلا فِي جوَار عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد اللَّه بْن طَاهِر فانتقل عَنْهُ إِلَى دارٍ ابتاعها بنهر الْمهْدي وَهِي دَار إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي، فَكتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ مستوحشًا: يَا من تحول عَنَّا وَهُوَ يألفنا ... بَعدت جدا فلأيا صرت تلقانا فَاعْلَم بأنك إِذْ بدلت جيرتنا ... بدلت دَارا وَمَا بدلت إخْوَانًا فَأَجَابَهُ هَارُون بْن عَليّ: بَعدت عَنْكُم بداري دون خالصتي ... ومحض ودي وعهدي كَالَّذي كَانَا وَمَا تبدلت مذ فَارَقت قربكم ... إِلَّا همومًا أعانيها وأحزانا وَهل يسر بسكنى دَاره أحد ... وَلَيْسَ أحبابه للدَّار جيرانا غزل لهارون الرشيد حَدثنَا عمر بْن أَحْمَد بْن عَليّ الْمروزِي الْجَوْهَرِي إملاء من حفظه سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثلاثمائة قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد النَّيْسَابُورِي أَن هَذِه الأبيات كتبهَا هَارُون الرشيد إِلَى جاريةٍ لَهُ كَانَ يُحِبهَا وَكَانَت تبْغضهُ: إِن الَّتِي عذبت نَفسِي بِمَا قدرت ... كل الْعَذَاب فَمَا أبقت وَلَا تركت مازحتها فَبَكَتْ واستعبرت جزعًا ... عني فَلَمَّا رأتني باكيًا ضحِكت فعدت أضْحك مَسْرُورا بضحكتها ... حَتَّى إِذا مَا رأتني ضَاحِكا فَبَكَتْ تبغي خلافي كَمَا خبت براكبها ... يَوْمًا قلُوص فَلَمَّا حثها بَركت أَو لَعَلَّه لِابْنِ إِيَاس حَدثنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن نصير الخَوّاص، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس ابْن مَسْرُوق، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَحْمَد أَبُو الْحسن الْمَدَائِنِي، قَالَ حَدَّثَنِي عَبد اللَّه بْن يحيى بْن فرقد مولى الْمهْدي قَالَ: اشْترى مُحَمَّد بْن إِيَاس جَارِيَة مغنية فهويها وَكَانَ مستهترًا بحبها وعشقها فَأَعْرَضت بوجهها عَنْهُ يَوْمًا، فلقيني وَهُوَ كئيب حَزِين، فَقلت: مَا شَأْنك؟ فَأَنْشَأَ يَقُول: أَلَيْسَ من عجب بل زادني عجبا ... مَمْلُوكَة ملكت من بعد مَا ملكت هِيَ الَّتِي عذبتني فِي مودتها ... كل الْعَذَاب فَمَا أبقت وَلَا تركت أَو لشاعر آخر أنشدنا بعقوب بْن مُحَمَّد بْن صَالح الكريزي قَالَ أنشدنا عبد الْجَلِيل بْن الْحسن لذؤيب: هِيَ الَّتِي عذبتني فِي مودتها ... كل الْعَذَاب فَمَا أبقت وَلَا تركت عاتبتها فَبَكَتْ واستعبرت أسفا ... عني فَلَمَّا رأتني باكيًا ضحِكت

المجلس السادس والستون

فظلت أضْحك مَسْرُورا لضحكها ... فاستعبرت إِذْ رأتني ضَاحِكا فَبَكَتْ تبغي خلافي كَمَا خبت براكبها ... يَوْمًا قلُوص فَلَمَّا حثها بَركت كَأَنَّهَا درة قد كنت أذخرها ... ليَوْم عسرٍ فَلَمَّا رمتها هَلَكت الْمجْلس السَّادِس وَالسِّتُّونَ يذهب إِلَى دمشق ليسمع حَدِيثا من أَبِي الدَّرْدَاء أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قِرَاءَةً عَلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي، قَالَ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أبي بالدرداء وَهُوَ بِدِمَشْقَ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَا جِئْتَ لحاجةٍ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: مَا قَدِمْتَ لتجارةٍ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا فِي طَلَبِ هَذَا الْحَدِيثِ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعت رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي بِهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا إِرْضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا أروثوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وافرٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا خَبَرٌ قَدْ كَتَبْنَاهُ عَنْ عددٍ مِنَ الشُّيُوخِ، وَرُوِّينَا فِي مَعْنَاهُ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَاسْتِقْصَاءِ الْقَوْلِ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ، وَارْتِفَاعِ

الخليل يرى أن الرجال أربعة

مَنْزِلَتِهِ، وَعُلُوِّ شَأْنِ اقْتِبَاسِهِ وَحَمْلِهِ، وَجَلالَةِ الْقَائِمِينَ بِرِوَايَتِهِ وَنَقْلِهِ، مِمَّا يُصْعِبُ وَيُبْعِدُ وَيُتْعِبُ الْمُتَعَاطِي لَهُ وَلا يَتَيَسَّرُ، وَنَحْنُ نَأْتِي بِالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَيَسْهُلُ مَوْرِدُهُ، وَيَعْظُمُ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ الانْتِفَاعُ بِهِ، وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ فَإِنَّهُ خَيْرُ مُعِينٍ. الْخَلِيل يرى أَن الرِّجَال أَرْبَعَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَر عَنْ أَبِيه قَالَ حَدَّثَنَا النَّضر بْن شُمَيْل قَالَ، سمعتُ الْخَلِيل بْن أَحْمَد يَقُول: الرِّجَال أَرْبَعَة: رجل يدْرِي وَلَا يدْرِي أَنه يدْرِي فَذَاك غافل فنبهوه، وَرجل لَا يدْرِي ويدري أَنه لَا يدْرِي فَذَاك جَاهِل فعلموه، وَرجل يدْرِي ويدري أَنه يدْرِي فَذَاك عَاقل فَاتَّبعُوهُ، وَرجل لَا يدْرِي أَنه لَا يدْرِي فَذَاك مائق فَاحْذَرُوهُ. وأنشدت فِي بعض مَا يشْتَمل بعض الْحِكَايَة عَلَيْهِ: مَا زلت فِي تيه الظلام أجري ... حَتَّى دَريت أنني لَا أَدْرِي بَين الطاهري وَبَعض أهل الْأَدَب حَدثنَا الحسني بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن عَليّ بْن عصمَة الْأَوَانِي الشهراباني الشَّاعِر قَالَ حَدَّثَنِي بعض الْمَشَايِخ من أهل الْأَدَب قَالَ: كنت مُقيما بِالريِّ فدعاني ذَات يَوْم مُحَمَّد بْن عَليّ الطاهري، فَلَمَّا اسْتَوَى مجلسي عِنْده قَالَ لي: قد خطرت ببالي أَشْيَاء أَنا سَائِلك عَنْهَا فَقل فِيهَا بِمَا حضرك، قلت: يسْأَل الْأَمِير وأسمع، قَالَ: مَا أطيب الطَّعَام؟ قلت: طَعَام لَقِي جوعا ومطعم وَافق شَهْوَة، قَالَ: فَمَا ألذ الشَّرَاب؟ قلت: شربة ماءٍ باردٍ تبرد غليلك أَو كأس رَاح تعاطيها خَلِيلك، قَالَ: فَمَا أمتع الْغناء؟ قلت: أوتار أَرْبَعَة، وَجَارِيَة متربعة، غنَاؤُهَا مُصِيب، وضربها عَجِيب، قَالَ: فَمَا أذكى الطّيب؟ قلت: ريح بدن تحبه، أَو ولدٍ تربه، قَالَ: فَمَا أشهى النِّسَاء؟ قلت الَّتِي تخرج من عِنْدهَا كَارِهًا، وَترجع إِلَيْهَا والهًا، قَالَ: فَمَا أفره الْخَيل؟ قلت: الأسوق الْأَعْنَق الَّذِي إِذا طلب لم يسْبق، وَإِذا طلب لم يلْحق، إِذا صَهل أطربك، وَإِذا رَأَيْته أعْجبك، قَالَ: أَحْسَنت يَا غُلَام أعْطه مائَة دِينَار قلت: أعز الله الْأَمِير وَأَيْنَ تقع مني مائَة دِينَار؟ فَقَالَ لقد زِدْت نَفسك مائَة دِينَار قلت: أولست كَذَا؟ قَالَ الْأَمِير قَالَ: لَا، وَلَا كني أحقق ظَنك، يَا غُلَام أعْطه مِائَتي دِينَار. إهانة الْحجَّاج لأنس وَمَا نجم عَنْهَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عبيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّد بْن السّائب الْكَلْبِيّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ إِيهًا يَا أُنَيْسُ، يَوْمٌ لَكَ مَعَ عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ الشَّأْفَةُ، وَلأَقْلَعَنَّكَ كَمَا تُقْلَعُ الصَّمْغَةُ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِيَّايَ يَعْنِي الأَمِيرُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: إِيَّاكَ سَكَّ اللَّهُ سَمْعَكَ، قَالَ أَنَسٌ: إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، وَاللَّهِ لَوْلا الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا

بَالَيْتُ أَيَّ قتلةٍ قُتِلْتُ وَلا أَيَّ ميتةٍ مِتُّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدَ الْحَجَّاجِ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابَ أَنَسٍ اسْتَشَاطَ غَضَبًا وَصَفَّقَ عَجَبًا، وَتَعَاظَمَهُ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ كِتَابُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هَجْرًا، وَأَسْمَعَنِي نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لِذَلِكَ أَهْلا، فَخُذْ لِي عَلَى يَدَيْهِ فَإِنِّي أَمُتُّ بِخِدْمَتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَكَانَ مُصَادِقًا لِلْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ: دُونَكَ كِتَابِي هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَابْدَأْ بِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادْفَعْ كِتَابَهُ إِلَيْهِ وَأَبْلِغْهُ مِنِّي السَّلامَ وَقُلْ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَجَّاجِ الْمَلْعُونِ كِتَابًا إِذَا قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ. وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَكَاتِكَ لِلْحَجَّاجِ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ وَلا أَمَرْتُهُ بِالإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ أُنْزِلْ بِهِ عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتِي، وَالسَّلامُ، فَلَمَّا قَرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كِتَابَهُ وَأُخْبِرَ بِرِسَالَتِهِ قَالَ: جَزَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا وَعَافَاهُ وَكَافَأَهُ عَنِّي بِالْجَنَّةِ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِهِ وَالرَّجَاءَ مِنْهُ. فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لأَنَسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ الْحَجَّاجَ عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ بِكَ عَنْهُ غِنًى وَلا بِأَهْلِ بَيْتِكَ، وَلَوْ جُعِلَ لَكَ فِي جامعةٍ ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْكَ لِقَدَرٍ أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ، فَقَارِبْهُ وَدَارَهُ، فَقَالَ أَنَسٌ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا رَآهُ الْحَجَّاجُ قَالَ: مَرْحَبًا برجلٍ أُحِبُّهُ وَكُنْتُ أحبلقاءه، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: وَأَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ فِي غَيْرِ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: فَارَقْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكَ غَضَبًا وَمِنْكَ بُعْدًا، قَالَ: فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا مَرْعُوبًا فَرَمَى إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بِالطُّومَارِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَنْظُرُ فِيهِ مَرَّةً وَيَعْرِقُ وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فَلَمَّا نَفَضَهُ قَالَ: قُمْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَنَتَرَضَّاهُ، فَقَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ: لَا تَعْجَلْ، قَالَ: كَيْفَ لَا أَعْجَلُ وَقَدْ أَتَيْتَنِي بآبدةٍ؟ وَكَانَ فِي الطُّومَارِ: إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ عَبْدٌ طَمَتْ بِكَ الأُمُورُ فَسَمَوْتَ فِيهَا وَعَدَوْتَ طَوْرَكَ، وَجَاوَزْتَ قَدْرَكَ، وَرَكِبْتَ دَاهِيَةً إِدًّا، وَأَرَدْتَ أَنْ تَبُورَنِي، فَإِنْ سَوَّغْتَكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِن لم أسوغها رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى، فَلَعَنَكَ اللَّهُ عَبْدًا أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ مَنْقُوصَ الْجَاعِرَتَيْنِ، أَنَسِيتَ كاسب آبَائِكَ بِالطَّائِفِ وَحَفْرَهُمُ الآبَارِ وَنَقْلَهُمُ الصُّخُورِ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ يَا ابْن المستفرمة بعجم الزَّبِيب؟! وَاللَّهِ لأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَ اللَّيْثِ الثَّعْلَبِ وَالصَّقْرِ الأَرْنَبِ، وَثَبْتَ عَلَى

تفسير بعض المفرادات

رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ إِحْسَانَهُ وَلم تجَاوز لَهُ إساءته، جرْأَة مِنْكَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى رَأَتْ رَجُلا خَدَمَ عُزَيْرِ بْنِ عَزْرَةَ وَعِيسَى بن مَرْيَمَ لَعَظَّمَتْهُ وَشَرَّفَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، فَكَيْفَ وَهَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدَمَهُ ثَمَانِي سِنِينَ يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا أَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَكُنْ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ خُفِّهِ وَنَعْلِهِ، وَإِلا أَتَاكَ مِنِّي سَهْمٌ مُثْكِلٌ بحتفٍ قاضٍ وَ " لِكُلِّ نبأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تعلمُونَ " الْأَنْعَام:67. تَفْسِير بعض المفرادات قَالَ القَاضِي: قَول الْحجَّاج: سك الله سَمعك يُقَال: استكت الأذنان واصطكت الركبتان. وَقَوله للحجاج: يَا ابْن المستفرمة بعجم الزَّبِيب كَانَت الْمَرْأَة تسْتَعْمل عجم الزَّبِيب لتضيق قبلهَا فِي مَا ذكر بعض أهل الْعلم وَهُوَ حبه، والنوى كُله يُقَال لَهُ عجم واحدته عجمة، قَالَ الْأَعْشَى: مقادك بِالْخَيْلِ أَرض الْعَدو ... وجذعانها كلقيط الْعَجم قيل: صَارَت من صلابتها مثل النَّوَى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عجم عجمًا أَي ليك لِأَنَّهُ نوى الْفَم فَهُوَ أَصْلَب لَيْسَ بنوى خل وَلَا نبيذٍ فَهُوَ أَصْلَب وأملس، وَإِنَّمَا أرارد صلابتها وضمرها، ولقيط أَرَادَ ملقوط مثل جريح ومجروح، ويروى كلفيظ الْعَجم أَي ملفوظ ملقى. بَين دعبل وَالْمطلب الْخُزَاعِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن الصولي قَالَ حَدَّثَنِي عون بْن مُحَمَّد قَالَ لما هجا دعبل الْمطلب بْن عَبْد اللَّه بْن مَالك الْخُزَاعِيّ فَقَالَ: اضْرِب ندى طَلْحَة الطلحات متئدا ... ببخل مطلبٍ فِينَا وَكن حكما تخرج خُزَاعَة من لؤمٍ وَمن كرمٍ ... فَلَا تعد لَهَا لؤمًا وَلَا كرما ويروى تسلم خُزَاعَة. فَدَعَاهُ بعد ذَلِك الْمطلب، فَلَمَّا دخل إِلَيْهِ قَالَ: وَالله لأَقْتُلَنك لهجائك لي، فَقَالَ: لَهُ فأشبعني إِذن وَلَا تقتلني جائعًا، فَقَالَ: قبحك الله هَذَا أهجى من الأول، ثُمَّ وَصله فَحلف أَنه يمدحه مَا عَاشَ، فَقَالَ فِيهِ: سَالَتْ الندى لَا عدمت الندى ... وَقد كَانَ منا زَمَانا غرب فَقلت لَهُ طَال عهد اللِّقَاء ... فَهَل غبت بِاللَّه أم لم تغب فَقَالَ بلَى لم أزل غَائِبا ... وَلَكِن قدمت مَعَ الْمطلب قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا دلّ على دهاء دعبل ولطف حيلته وأنبأ عَن ذكاء الْمطلب ودقة فطنته. وَقد روى مثل هَذَا عَن معن بْن زَائِدَة وَأتي بجماعةٍ قد عاثوا فِي عمله فَأمر بِقَتْلِهِم، فَقَالَ لَهُ أحدهم: أُعِيذك بِاللَّه أَن تَقْتُلنَا عطاشا فَأمر بإحضار ماءٍ يسقونهم، فأحضر، فَلَمَّا شربوا قَالَ: أَيهَا الْأَمِير لَا تقتل أضيافك، فَقَالَ: أولى لَك، وَأمر بتخليتهم.

جمع فعلة

حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا عون قَالَ: أَنْشدني دعبل لنَفسِهِ يرثي الْمطلب: مَاتَ الثَّلَاثَة لما مَاتَ مطلب ... مَاتَ الْحيَاء وَمَات الرغب والرهب لله أَرْبَعَة قد ضمهَا كفن ... أضحى يعزى بهَا الْإِسْلَام وَالْعرب يَا يَوْم مطلب أصحبت أَعيننَا ... دمعًا يَدُوم لَهَا مَا دَامَت الحقب هذي خدود بني قحطان قد لصقت ... بالترب مُنْذُ اسْتَوَى من فَوْقك الترب جمع فعلة قَالَ القَاضِي: قَول دعبل فِي شعره فِي الْخَبَر الْمُتَقَدّم: اضْرِب ندى طَلْحَة الطلحات أسكن اللَّام فِي قَوْله الطلحات للضَّرُورَة وحقها التحريك، وَالْعرب تَقول طَلْحَة الطلحات، وَحَمْزَة وحمزات، وَتَمْرَة وتمرات، وجمرة وجمرات، وَمثله الرَّكْعَات والسجدات بِفَتْح عين الْفِعْل من فعلات فِي الْأَسْمَاء من هَذَا الْبَاب، مالم تكن الْعين واوا أَو يَاء أَو ألفا. وَقد أسكن الراجز الْعين من الِاسْم فِي الْبَاب الَّذِي وصفت فَقَالَ: عل صروف الدَّهْر أَو دولاتها ... تديلنا اللمة من لماتها فتستريح النَّفس من زفراتها هَكَذَا رُوِيَ عل صروف بِالْجَرِّ وَله عِلّة مُخْتَلف فِيهَا، فَمن النَّاس من زعم أَن إِحْدَى لامي عل الَّتِي فِي معنى لَعَلَّ حذفت وَأَن اللَّام الَّتِي فِي الظّرْف هِيَ اللَّام الخافضة فَفَتحهَا لُغَة، وَأكْثر أهل الْعلم يُنكرُونَ هَذَا التَّأْوِيل ويذهبون إِلَى أَن خفض مَا يَلِي لَعَلَّ لُغَة من لُغَات الْعَرَب. وَمَا كَانَ من الْأَسْمَاء فِي هَذَا الْبَاب عينه مدغمةً فِي لامه لتجانسهما مثل حبةٍ وحبات وعمة وعمات فَإِنَّهُ سَاكن، وَكَذَلِكَ الْألف مثل دارةٍ ودارات، وَتارَة وتاراتٍ، وبابةٍ وباباتٍ، لِأَن الْألف لَا تكون إِلَّا سَاكِنة، وَمَتى مَا ريم تحريكها انقلبت عَن جِنْسهَا إِلَى الْهمزَة. فَأَما الْوَاو وَالْيَاء كجوزةٍ ولوزةٍ وعورةًٍ وغيبةٍ وبيضةٍ وربطةٍ، فالمستفيض من لُغَة الْعَرَب فِيهِ الإسكان للتَّخْفِيف وَلِئَلَّا يلْزم الْقلب فِيهِ الْوَاو ولاياء لتحركهما وانفتاح مَا قبلهمَا وَيَقَع الالتباس، فَتكون عارة فِي عَورَة بِمَنْزِلَة دارةٍ، وهذيل بْن مدركة يحركون فَيَقُولُونَ عورات وبيضات. قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " ثَلاثُ عوراتٍ لَكُمْ " النُّور: 58 فَهَذِهِ الْقِرَاءَة السائرة بِنَقْل الْعَامَّة والخاصة، وَقد قَرَأَ بَعضهم عورات بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذِه قِرَاءَة شَاذَّة. وَأما فعلات إِذا كَانَت نعتًا فبابها التسكين تَخْفِيفًا مثل: ضخمةٍ وضخمات، وعبلةٍ وعبلاتٍ، وكما شَذَّ فِي الْأَسْمَاء قَول الراجز زفراتها على مَا قدمنَا ذكره، فقد شَذَّ فِي الْقيَاس واطرد فِي الِاسْتِعْمَال قَوْلهم: ربعات فِي جمع رجل ربعَة وَامْرَأَة ربعةٍ. وَقد زعم جمَاعَة من النُّحَاة أَن مِمَّا شَذَّ أَيْضا فِي هَذَا الْموضع قَوْلهم شَاة لجبة وشياه لجبات، وَهِي

في جحفل لجب

القليلة اللَّبن. وَأرى أَنه قيل على التفاؤل بالغزر كَمَا قيل للعطشان ناهل، وللضرير بَصِير، وللديغ سليم، فِي قَول كثير مِنْهُم. أَلا ترى إِلَى قَول الشَّاعِر: فِي جحفل لجب وَقد حُكيَ شَاة لجبة بِالْفَتْح، وَحكى الْكسَائي عَن الْعَرَب فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ لجبة ولجبة، فعلى هذَيْن الْوَجْهَيْنِ يكون لجبات جَارِيا على أَصله وَقِيَاسه وَغير خَارج عَن بَابه. وَأما قَوْلهم لقبيلة من قُرَيْش العبلات فَإِنَّهُ تقرر فِي أَصله اسْما وَخرج أَن يكون صفة ونعتًا. قَالَ الشَّاعِر فِي لُغَة هُذَيْل الَّتِي قدمنَا ذكرهَا: أَبُو بيضاتٍ رائح متأوب ... رَفِيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سبوح وَقد اخْتلف أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ فِي عِلّة تَحْرِيك عين فعلات بِحَيْثُ وَصفنَا وفعلة مِنْهُ سَاكِنة الْعين، فَقَالَ أَكْثَرهم: فعل هَذَا ليفرق بَين الْأَسْمَاء فِي هَذَا الْبَاب وَبَين النعوت، وَكَانَت الْأَسْمَاء لخفتها أحمل للحركة والنعوت أولى بالتسكين لثقلها وَأَنَّهَا تَأتي ثَانِيَة بعد الْأَسْمَاء. وَقَالَ بَعضهم: فعلات فِي هَذ1 الْبَاب فِيهَا تاءان فِي الأَصْل وَالتَّقْدِير، وإحداهما هَاء تنْقَلب فِي الْوَقْف تَاء كَقَوْلِك جَفْنَة وَكَانَ التَّقْدِير فِي جمعهَا جفنتات لِأَن التَّاء الأولى لَازِمَة فِي الْوَاحِدَة وَالتَّاء الثَّانِيَة أَتَت للْجمع، فاكتفي بِإِحْدَاهُمَا جعلت حَرَكَة الْعين عوضا مِمَّا حذف، وَكَانَت الْأَسْمَاء أَحَق بِهَذَا لسعتها وخفتها، وَلم يُؤْت بهَا فِي النعب للتَّخْفِيف. وَقد حكى امْرَأَة صعدة، كَأَنَّهَا صعدة تُوصَف بالطول تَشْبِيها بالقناة، يُقَال فِي يَد فلانٍ صعدة يَمَانِية، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فِي كَفه صعدةً يَمَانِية ... فيا سِنَان كشعلة القبس يَعْنِي وهجًا وَمثله: صعدة قد ثبتَتْ فِي حائرٍ ... أَيْنَمَا الرّيح تميلها تمل فأسكن هَاهُنَا المشبة والمشبه بِهِ وَهُوَ النَّعْت وَالِاسْم فِي الْوَاحِد، وَقَالُوا: نسْوَة صعدات فاسكنوا لِأَنَّهُ نعت، وكأنهن صعدات فحركوا لِأَنَّهُ اسْم. قَالَ القَاضِي: وَهَذَا بَاب تتصل بِهِ أَبْوَاب تشاركه فِي أُصُوله وَلها أَحْكَام وَعلل، وفيهَا لُغَات تتشعب وتتفرع، وَهِي مرسومة على حُدُودهَا مقرونة بعللها فِي أَو إِلَى الْمَوَاضِع بهَا. حِكْمَة لِلْحسنِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يُونُس بْن أبي اليسع أَبُو إِسْحَاق، قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن جَعْفَر بْن عَبد اللَّه بْن أَبِي طَالب، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الشَّامي، قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مُسلم وضمرة بْن ربيعَة عَن أَحْمَد بْن أَبِي حميدٍ عَن الْحسن قَالَ: مَا عرف الْخَيْر من لم يتبعهُ، وَلَا عرف الشَّرّ من لم يجتنبه، وَمَا أَيقَن عبد بِالْجنَّةِ وَالنَّار حق يقينهما إِلَّا رُؤِيَ ذَلِك فِي عمله، فَانْظُر مَا تجب أَن يكون مَعَك غَدا فقدمه الْيَوْم.

خسف بدركلتي ونجا أبو زبيبة

خسف بدركلتي وَنَجَا أَبُو زبيبة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَسد الْهَرَوِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سعد الْوراق قَالَ: كَانَ رجل يُقَال لَهُ أَبُو زبيبة متعبدًا يَجِيء إِلَى مَدِينَة من مَدَائِن الْيمن يُقَال لَهَا دركلتى قَالَ: فيقف عَلَيْهِم فينشد هَذِه الأبيات: غر جهولا أمله ... يَمُوت من جا أَجله فَمَا بَقَاء آخرٍ ... قد مَاتَ عَنْهُ أَوله قَالَ فَكَانَ هَذَا دأبه، وَكَانَ أهل الْقرْيَة ملحين فِي الْمعاصِي فَخسفَ بهم، فَمر بهَا رجل فَلَقِيَهُ آخر فَقَالَ: مَا فعلت دركلتى؟ قَالَ: خسف بهَا، قَالَ: فَأَبُو زبيبة؟ قَالَ: سلم. الْمَشْي إِلَى الصين أَهْون من تِلْكَ الخطوة حَدثنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم، قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: نظر الْأَحْنَف إِلَى سيفٍ مَعَ رجلٍ من بني تَمِيم فَقَالَ لَهُ: إِن فِيهِ لقصرًا وَإنَّهُ لجيد، فَقَالَ صَاحب السَّيْف: يَا أَبَا بَحر إِنَّهَا تطيله خطْوَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: نصل السيوف إِذا قصرن بخطونا ... قدما ونلحقها إِذا لم تلْحق قَالَ الْأَحْنَف: يَا ابْن أخي، الْمَشْي وَالله إِلَى الصين أَهْون من تِلْكَ الخطوة. لَا بُد من إنصاف الشُّعَرَاء حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا عسل بْن ذكْوَان، قَالَ حَدَّثَنَا الزيَادي قَالَ: كَانَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد صديقا لجَعْفَر بْن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي، فجَاء يَوْمًا ليدْخل عَلَيْهِ فَوجدَ على بَابه شعراء قد أنشدوه وَقبلت أشعارهم وتأخرت جوائزهم، فشكوا ذَلِك إِلَيْهِ وسألوه إذكاره، فَدخل إِلَيْهِ فأنشده: لَا تقبلن اشعر ثُمَّ تعقه ... فتنام وَالشعرَاء غير نيام وَاعْلَم بِأَنَّهُم إِذا لم ينصفوا ... حكمُوا لأَنْفُسِهِمْ على الْحُكَّام وَجِنَايَة الْجَانِي عَلَيْهِم تَنْقَضِي ... وعقابهم يبْقى على الْأَيَّام قَالَ القَاضِي: وَقد روينَا هَذِه الأبيات منسوبة إِلَى ابْن الرُّومِي فِي مَا رُوِيَ لنا من شعره، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر فِي ذَلِك. بَين الْحسن بْن عَليّ وَزِيَاد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْكَلْبِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاءَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ سرحٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ شِيعَةً لعي بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام، فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ وَالِيًا عَلَيْهَا أَخَافَهُ وَطَلَبَهُ زِيَادٌ، فَأَتَى الْحسن بِهن عَلِيٍّ، فَوَثَبَ زِيَادٌ عَلَى أَخِيهِ وَوَلَدِهِ وَامْرَأَتِهِ فَأَخَذَهُمْ وَحَبَسَهُمْ وَأَخَذَ مَالَهُ وَهَدَمَ دَارَهُ، فَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى زِيَادٍ: مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى زِيَادٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ

عَمَدْتَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَالهم وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ فَهَدَمْتَ دَارَهُ وَأَخَذْتَ مَالَهُ وَعِيَالَهُ فَحَبَسْتَهُمْ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَابْنِ لَهُ دَارَهُ وَارْدُدْ عَلَيْهِ عِيَالَهُ وَمَالَهُ، فَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: مِنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى الْحَسَنِ بن فَاطِمَةَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَبْدَأُ فِيهِ بِنَفْسِكَ قَبْلِي، وَأَنْتَ طَالِبُ حاجةٍ، وَأَنَا سُلْطَانٌ وَأَنت سوقة، كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي فاسقٍ لَا يُؤْوِيهِ إِلا مِثْلُهُ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ تُوَلِّيهِ أَبَاكَ وَإِيَّاكَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ أَوَيْتَهُ إِقَامَةً مِنْكَ عَلَى سُوءِ الرَّأْيِ وَرِضًى مِنْكَ بِذَلِكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَسْبِقُنِي بِهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ جِلْدِكَ وَلَحْمِكَ وَإِنْ نِلْتَ بَعْضَكَ غَيْرَ رفيقٍ بِكَ وَلا مرعٍ عَلَيْكَ، فَإِنَّ أَحَبَّ لحمٍ إِلَيَّ آكُلُهُ لَلَحْمُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُ، فَأَسْلِمْهُ بِجَرِيرَتِهِ إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ، فَإِنْ عَفَوْتُ عَنْهُ لَمْ أَكُنْ شَفَّعْتُكَ فِيهِ، وَإِنْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَقْتُلْهُ إِلا لِحُبِّهِ إِيَّاكَ. فَلمَّا قَرَأَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلامُ الْكِتَابَ تَبَسَّمَ وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَذْكُرُ لَهُ حَالَ ابْنِ سَرْحٍ وَكِتَابَهُ إِلَى زِيَادٍ فِيهِ وَإِجَابَةَ زيادٍ إِيَّاهُ، وَلَفَّ كِتَابَهُ فِي كِتَابِهِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَكَتَبَ الْحَسَنُ إِلَى زِيَاد: من الْحسن بن فَاطِمَةَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ إِلَى زِيَادِ بن سميَّة: الْوَلَد للْفراش واللعاهر الْحَجَرُ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الْحَسَنِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ الْكِتَابَ ضَاقَتْ بِهِ الشَّامُ، وَكَتَبَ إِلَى زيادٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ بَعَثَ بِكِتَابِكَ إِلَى جَوَابِ كِتَابِهِ إِلَيْكَ فِي ابْنِ سَرْحٍ، فَأَكْثَرْتُ التَّعَجُّبَ مِنْكَ، وَعَلِمْتُ أَنَّ لَكَ رَأْيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ وَالآخَرُ مِنْ سُمَيَّةَ، فَأَمَّا الَّذِي مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فَحِلْمٌ وَحَزْمٌ. وَأَمَّا رَأْيُكَ مِنْ سُمَيَّةَ فَمَا يَكُونُ رَأْيُ مِثْلِهَا؟ وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُكَ إِلَى الْحَسَنِ تَشْتُمُ أَبَاهُ وَتُعَرِّضُ لَهُ بِالْفِسْقِ، وَلَعَمْرِي لأَنْتَ أَوْلَى بِالْفِسْقِ مِنَ الْحَسَنِ، وَلأَبُوكَ إِذْ كُنْتَ تُنْسَبُ إِلَى عبيدٍ أَوْلَى بِالْفِسْقِ مِنْ أَبِيهِ، وَإِنَّ الْحَسَنَ بَدَأَ بِنَفْسِهِ ارْتِفَاعًا عَلَيْكَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَضَعْكَ. وَأَمَّا تَرْكُكَ تَشْفِيعِهِ فِيمَا شَفَعَ فِيهِ إِلَيْكَ فَحَظٌّ دَفَعْتَهُ عَن نَفسك إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ كِتَابِي هَذَا فَخَلِّ مَا فِي يَدَيْكَ لِسَعِيدِ بْنِ سَرْحٍ، وَابْنِ لَهُ دَارَهُ، وَلا تَعَرَّضْ لَهُ، وَارْدُدْ عَلَيْهِ مَالَهُ، فَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَسَنِ أَنْ يُخَيِّرَ صَاحِبَهُ إِنْ شَاءَ أَقَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَيْسَ لَكَ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ بيدٍ وَلا لسانٍ. وَأَمَّا كِتَابُكَ إِلَى الْحَسَنِ بِاسْمِهِ وَلا تَنْسُبُهُ إِلَى أَبِيهِ فَإِنَّ الْحَسَنَ وَيْلَكَ مِمَّنْ لَا يُرْمَى بِهِ الرَّجَوَانِ، أَفَإِلَى أُمِّهِ وَكَلْتَهُ لَا أُمَّ لَكَ، هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَفْخَرُ لَهُ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ؛ وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ: تَدَارَكْ مَا ضَيَّعْتَ مِنْ بَعْدِ جرأةٍ ... وَأَنْتَ أَرِيبٌ بِالأُمُورِ خَبِيرُ أَمَا حَسَنٌ بِابْنِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ... إِذَا سَارَ سَارَ الْمَوْتُ حَيْثُ يسير وَهل يلد الرِّئْبَالُ إِلا نَظِيرَهُ ... فَذَا حَسَنٌ شِبْهٌ لَهُ وَنَظِيرُ قَالَ الْقَاضِي: الرِّئْبَالُ وَلَدُ الأَسَدِ. وَلَكِنَّهُ لَوْ يُوزن الْحلم الحجى ... بِرَأْيٍ لَقَالُوا فَاعْلَمَنَّ ثَبِيرُ

تعليقات لغوية ونحوية

قَالَ الْغَلابِيُّ: قَرَأْتُ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى ابْنِ عَائِشَةَ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ حِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ الشِّعْرَ وَالْكَلامَ بَعْدَهُ. تعليقات لغوية ونحوية قَالَ القَاضِي: قَول مُعَاوِيَة: من لَا يرْمى بِهِ الرجوان يَعْنِي تَثْنِيَة الرجا وَهُوَ الْجَانِب والناحية جمعه أرجاء، قَالَ الله عز وَجل: " وَالْملك على أرجائها " الحلاقة:17 وَالْعرب تَقول: فلَان لَا يرْمى بِهِ الرجوان أَي لَا يستهان بِهِ وتستضعف مَنْزِلَته فيطرح بِهِ ويرمى بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَلَا يرْمى بِي الرجوان أَنِّي ... أقل الْقَوْم من يُغني مَكَاني وَأما قَوْله: تدارك مَا ضيعت فَإِنَّهُ حرك الْكَاف فِي الْأَمر لِأَنَّهُ أَرَادَ النُّون الْخَفِيفَة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: اضْرِب عَنْك الهموم طارقها ... ضربك بِالسَّيْفِ قونس الْفرس أَرَادَ: اضربن؛ وَالله تَعَالَى الْمُوفق للصَّوَاب. الْمجْلس السَّابِع وَالسِّتُّونَ معالجة محَارب بْن دثار لشهود الزُّور أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ بيزَوَيْهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيِّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر سنة تسع عشرَة وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ شَاذَانُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ الصَّلْتِ قَالَ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ الْجَهْمِ أَبُو الْجَهْمِ الْقُرَشِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ الْقِبْطِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دَثَّارٍ الذُّهْلِيِّ وَهُوَ فِي قَضَائِهِ حَتَّى تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلانِ، فَادَّعَى أَحدهمَا قبل الآخر حَقًا فأنتكره، فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فلَان. فَقَالَ لَهُ الرحل الْمُدَّعِي قَبْلَهُ: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ لَئِنْ شَهِدَ عَلَيَّ لَيَشْهَدَنَّ بزورٍ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي عَنْهُ لأُزَكِّيَنَّهُ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّاهِدُ قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دَثَّارٍ: حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ الطَّيْرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَتَضْرِبُ بِمَنَاقِيرِهَا وَتَقْذِفُ مَا فِي حَوَاصِلِهَا وَتُحَرِّكُ أَذْنَابَهَا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا يُكَلَّمُ شَاهِدُ الزُّورِ وَلا تَقَارُّ قَدَمَاهُ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى يُقْذَفَ بِهِ فِي النَّارِ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: بِمَ تَشْهَدُ؟ قَالَ كُنْتُ شَهِدْتُ عَلَى شهادةٍ وَقَدْ نَسِيتُهَا، أَرْجِعُ فَأَتَذَكَّرَهَا، فَرَجَعَ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ شَاذَانَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الْكِنْدِيُّ قَالَ: شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رجلٍ عِنْدَ مُحَارِبِ بْنِ دَثَّارٍ، وَكَانَ مُحَارِبٌ مُتَّكِئًا، فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ: وَاللَّهِ الَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ مَا شَهِدَ عَلَيَّ إِلا بزورٍ، وَمَا عَلِمْتُ إِلا خَيْرًا إِلا هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحِقْدٍ لَهُ عَلَيَّ، فَاسْتَوَى مُحَارِبٌ جَالِسًا ثُمَّ قَالَ: يَا هَذَا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ

فظاعة شهادة الزور

يَوْمٌ تَشِيبُ فِيهِ الْوِلْدَانُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَتَضَعُ الطَّيْرُ مَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَتَضْرِبُ بِأَذْنَابِهَا وَلا ذَنْبَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كُنْتَ شَهِدْتَ عَلَى حقٍ فَأَقِمْ عَلَى شَهَادَتِكَ، وَإِنْ كُنْتَ شَهِدْتَ عَلَى بَاطِلٍ فَاتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى وَغَطِّ رَأْسَكَ، وَاخْرُجْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَغَطَّى الرَّجُلُ رَأْسَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْبَابِ. فظاعة شَهَادَة الزُّور قَالَ القَاضِي: الْأَمر فِي عَظِيم جرم شَاهد الزُّور وجسيم إثمه وفظيع مَا تحمله وقبيح مَا ارْتَكَبهُ واقتحمه واحتقبه وأقدم عَلَيْهِ، وَمَا ورد من توعد الله جلّ جَلَاله إِيَّاه فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطول شَرحه ويتعب جمعه، وَمن بليغ مَا ورد فِيهِ هَذَا الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ؛ وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: شَاهد الزُّور لَا تَزُول قدماه حَتَّى يُؤمر بِهِ إِلَى لنار. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضا أَنه قَالَ: عدلت شَهَادَة الزُّور الشّرك. وَقَالَ الله جلّ وَعز: " فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ " الْحَج:30 وَقَالَ تَعَالَى جده: " إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ " النَّحْل:105 وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ فِي قَوْله جلّ ذكره: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ " الْأَعْرَاف: 152 هِيَ وَالله لكل مفترٍ كذبا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقد اخْتلف أهل الْعلم فِيمَا يَنْبَغِي أَن يعْمل بِشَاهِد الزُّور: فَذهب بَعضهم إِلَى تعزيره وتأديبه، وَرَأى آخَرُونَ إِظْهَار أمره والنداء عَلَيْهِ والتنكيل بِهِ وشهره وتحذير النَّاس مِنْهُ وَإِسْقَاط شَهَادَته إِلَى أَن يَتُوب وَتظهر تَوْبَته وتحسن إنابته أَو تَأتي عَلَيْهِ منيته، ونسال الله توفيقه وعصمته، وَأَن يجعلنا مِمَّن يُؤثر دينه على دُنْيَاهُ، ورضى ربه على هَوَاهُ، وَأَن لَا يجعلنا مِمَّن يَبِيع حَظه من ولَايَة الله تَعَالَى بشيءٍ من حطام الدُّنْيَا وَزينتهَا، وَلَا يشري صَالح مَا بَينه وَبَين ربه بمنازل الدُّنْيَا ومراتبها، إِنَّه سميع الدُّعَاء لطيف لما يَشَاء. اضربني ضربا تقوى عَلَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم، قَالَ ضرب رجل من خدم السُّلْطَان رجلا فأوجعه، فَقَالَ لَهُ: أصلحك الله، اضربني ضربا تقوى عَلَيْهِ فَإِن الْقصاص أمامك. كَيفَ تمّ اسْتِخْلَاف عمر بْن عبد الْعَزِيز حَدثنَا أَحْمَد بْن يحيى بْن الْمولى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكر بْن أَبِي خَيْثَمَة قَالَ حَدَّثَنَا عبد الْوَهَّاب بْن نجدة الحوطي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُبَارك الصُّورِي قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بْن مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن بْن حسان الْكِنَانِي قَالَ: لما مرض سُلَيْمَان بْن عبد الْملك الْمَرَض الَّذِي توفّي فِيهِ، وَكَانَ مَرضه بدابق، وَمَعَهُ رَجَاء بْن حَيْوَة، فَقَالَ لرجاء بْن حَيْوَة: يَا رَجَاء من لهَذَا الْأَمر من بعدِي؟ أستخلف ابْني؟ قَالَ: ابْنك غَائِب، قَالَ: فالآخر؟ قَالَ: ذَاك صَغِير، قَالَ: فَمن ترى، قَالَ: أرى أَن تسْتَخْلف عمر بْن عبد الْعَزِيز. قَالَ: أَتَخَوَّف بني عبد الْملك، أَن لَا يرْضوا، قَالَ: فول عمر بْن عبدب الْعَزِيز وَمن بعده يزِيد بْن عبد الْملك، وتكتب كتابا وتختم عَلَيْهِ وَتَدْعُوهُمْ إِلَى بيعَته مَخْتُومًا عَلَيْهَا، قَالَ: لقد رَأَيْت، إيتني بقرطاس، قَالَ: فَدَعَا

بقرطاسٍ فَكتب فِيهِ الْعَهْد لعمر بن عبد الْعَزِيز وَمن عَبده يزِيد بْن عبد الْملك ثُمَّ خَتمه وَدفعه إِلَى رَجَاء، قَالَ: اخْرُج إِلَى النَّاس فمرهم فليبايعوا على مَا فِي هَذَا الْكتاب مَخْتُومًا، قَالَ: فَخرج إِلَيْهِم رَجَاء فَجَمعهُمْ وَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُركُمْ أَن تبايعوا لمن فِي هَذَا الْكتاب من بعده، قَالُوا: وَمن فِيهِ؟ قَالَ: مختوم لَا تخبرون بِمن فِيهِ حَتَّى يَمُوت، قَالُوا: لَا نُبَايِع حَتَّى نعلم من فِيهِ، قَالَ: فَرجع رَجَاء إِلَى سُلَيْمَان، قَالَ: انْطلق إِلَى أَصْحَاب الشَّرْط والحرس وناد الصَّلَاة جَامِعَة، وَمر النَّاس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على مَا فِي هَذَا الْكتاب، فَمن أَبِي أَن يُبَايع مِنْهُم فَاضْرب عُنُقه، قَالَ: فَفعل، فَبَايعُوا على مَا فِيهِ، قَالَ رحاء: فَلَمَّا خَرجُوا خرجت إِلَى منزلي فَبينا أَنا أَسِير فِي الطَّرِيق إِذْ مسعت جلبة موكبٍ، فَالْتَفت فَإِذا هِشَام، فَقَالَ لي: يَا رَجَاء قد علمت موقعك منا وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد صنع شيئاًِ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَأَنا أَتَخَوَّف أَن يكون قد أزالها عني، فَإِن يكن عدلها عني فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمِير نفس حَتَّى أنظر فِي هَذَا الْأَمر قبل أَن يَمُوت، قَالَ قلت: سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أمرا أطلعك عَلَيْهِ؟ لَا يكون ذَلِك أبدا، فأدارني وَألا صني فأبيت عَلَيْهِ، قَالَ: فَانْصَرف. فَبينا أَنا أَسِير إِذْ سَمِعت جلبة خَلْفي، فَإِذا عمر بْن عبد الْعَزِيز فَقَالَ لي: يَا رَجَاء إِنَّه قد وَقع فِي نَفسِي أَمر كَبِير من هَذَا الرجل، أَتَخَوَّف أَن يكون قد جعلهَا إِلَيّ، وَلست أقوم بِهَذَا الشَّأْن فَأَعْلمنِي مَا دَامَ فِي الْأَمِير نفس لعَلي أتخلص مِنْهُ مَا دَامَ حَيا، قلت: سُبْحَانَ الله يستكتمني أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمِيرا أطلعك عَلَيْهِ؟، فأدراني وَألا صني فأبيت عَلَيْهِ، قَالَ رَجَاء وَثقل سُلَيْمَان، وحجب النَّاس عَنْهُ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ أجلسته وأسندته وهيأته وَخرجت إِلَى النَّاس فَقَالُوا: كَيفَ أصبح أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ فَقلت: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أصبح سَاكِنا، وَقد أحب أَن تسلموا عَلَيْهِ وتبايعوا على مَا فِي هَذَا الْكتاب، وَالْكتاب بَين يَدَيْهِ، قَالَ: فَأَذنت للنَّاس فَدَخَلُوا وَأَنا قَائِم عِنْده، فَلَمَّا دنوا قلت: إِن أميركم يَأْمُركُمْ بِالْوُقُوفِ، ثُمَّ أخذت الْكتاب من عِنْده، ثُمَّ تقدّمت إِلَيْهِم فَقلت: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يَأْمُركُمْ أَن تبايعوا على مَا فِي الْكتاب أَجْمَعِينَ وفرغت من بيعتهم قلت: لَهُم: آجركم الله فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالُوا: فَمن فافتح الْكتاب، فَإِذا فِيهِ الْعَهْد لعمر بْن عبد الْعَزِيز، فَلَمَّا نظرت بَنو عبد الْملك تَغَيَّرت وُجُوههم، فَلَمَّا قرأوا من بعده يزِيد بْن عبد الْملك كَأَنَّهُمْ تراجعوا، فَقَالُوا: أَيْن عمر بْن عبد الْعَزِيز؟ فطلبوه فَلم يُوجد فِي الْقَوْم، قَالَ: فنظروا فَإِذا هُوَ فِي مُؤخر الْمَسْجِد، قَالَ: فَأتوهُ فَسَلمُوا عَلَيْهِ بالخلافة فعقر فَلم يسْتَطع النهوض حَتَّى أخذُوا بضبعيه فرقوا بِهِ الْمِنْبَر، فَلم يقدر على الصعُود حَتَّى أصعدوه، فَجَلَسَ طَويلا لَا يتَكَلَّم، فَلَمَّا رَآهُمْ رَجَاء جُلُوسًا قَالَ: أَلا تقومون إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فتبايعوه؟ قَالَ: فَنَهَضَ الْقَوْم إِلَيْهِ فَبَايعُوهُ رجلا رجلا، قَالَ فَمد يَده إِلَيْهِم، قَالَ: فَصَعدَ إِلَيْهِ هِشَام فَلَمَّا مد يَده إِلَيْهِ قَالَ يَقُول هِشَام إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، فَقَالَ عمر: نعم إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون حِين صَار

هل تجوز الشهادة على الكتاب المختوم

يَلِي هَذَا الْأَمر أَنا وَأَنت. قَالَ: ثُمَّ قَامَ عمر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: أَيهَا النَّاس إِنِّي لست بقاضٍ وَلَكِنِّي منفذ، وَلست بِمُبْتَدعٍ وَلَكِنِّي مُتبع، وَإِن حَوْلكُمْ من الْأَمْصَار والمدن فَإِن هم أطاعوا كَمَا أطعتم فَأَنا وَلِيكُم، وَإِن هم نقموا فلست لكم بوالٍ. ثُمَّ نزل يمشي فَأَتَاهُ صَاحب المراكب فَقَالَ: مَا هَذَا؟ أقالك: مركب الْخَلِيفَة، قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، إيتوني بدابتي، فَأتوهُ بدابته فركبها ثُمَّ خرج يسير وَخَرجُوا مَعَه، فمالوا إِلَى طَرِيق، قَالَ: إِلَى أَيْن؟ قَالُوا: إِلَى الْبَيْت الَّذِي يهيأ للخليفة، قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، انْطَلقُوا بِي إِلَى منزلي، قَالَ رَجَاء: فَأتى منزله فَنزل عَن دَابَّته، ثمَّ دَعَا بدواةٍ وقرطاسٍ وَجعل يكْتب بِيَدِهِ إِلَى الْعمَّال فِي الْأَمْصَار ويمل على نَفسه، قَالَ رَجَاء: فَلَقَد كنت أَظن أَن سيضعف فَلَمَّا رَأَيْت صَنِيعه فِي الْكتاب علمت أَنه سيقوى بِهَذَا وَنَحْوه. فَأتى منزله فَنزل عَن دَابَّته، ثمَّ دَعَا بدواةٍ وقرطاسٍ وَجعل يكْتب بِيَدِهِ إِلَى الْعمَّال فِي الْأَمْصَار ويمل على نَفسه، قَالَ رَجَاء: فَلَقَد كنت أَظن أَن سيضعف فَلَمَّا رَأَيْت صَنِيعه فِي الْكتاب علمت أَنه سيقوى بِهَذَا وَنَحْوه. هَل تجوز الشَّهَادَة على الْكتاب الْمَخْتُوم قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قد اخْتلف أهل الْعلم فِي الشَّهَادَة على الْكتاب الْمَخْتُوم كَالَّذي جرى فِي هَذِه الْقِصَّة، وكالرجل يكْتب وَصيته فِي صحيفَة وَيخْتم عَلَيْهَا وَيشْهد قوما على نَفسه أَنَّهَا وَصيته من غير أَن يقرأوها عَلَيْهِ أَو يَقْرَأها عَلَيْهِم ويعاينوا كتبه إِيَّاهَا، وَمَا أشبه هَذَا مِمَّا يشْهد الْمَرْء فِيهِ على نَفسه وَإِن لم يقرأه الشَّاهِد أَو لم يقْرَأ عَلَيْهِ، فَأجَاز ذَلِك وأمضاه وأنفذ الحكم فِيهِ جُمْهُور أهل الْحجاز، وَرُوِيَ عَن سَالم بْن عَبد اللَّه، وَذهب إِلَى هَذَا مَالك بْن أنس وَمُحَمّد بْن سَلمَة المَخْزُومِي، وَأَجَازَ ذَلِك مَكْحُول ونمير بْن أَوْس وزرعة بن إِبْرَاهِيم وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز فِي من وافقهم من فُقَهَاء أهل الشَّام، وَحكى نَحْو ذَلِك خَالِد بْن يزِيد بْن أَبِي مَالك عَن أَبِيه وقضاة جنده، وَهُوَ قَول اللَّيْث بن سعد فِي من وَافقه من فُقَهَاء أهل مصر وَالْمغْرب، وَهُوَ قَول فُقَهَاء أهل الْبَصْرَة وقضاتهم، وَرُوِيَ عَن قَتَادَة وَعَن سوار بْن عَبد اللَّه وَعبيد الله بْن الْحسن ومعاذ بْن معَاذ العنبريين فِي من سلك سبيلهم، وَأخذ بِهَذَا عدد من متأخري أَصْحَاب الحَدِيث مِنْهُم أَبُو عبيد وَإِسْحَاق بْن رَاهَوَيْه. وَأبي ذَلِك جمَاعَة من فُقَهَاء أهل الْعرَاق مِنْهُم إِبْرَاهِيم وَحَمَّاد الْحسن، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَهُوَ قَول شَيخنَا أَبِي جَعْفَر رَحمَه الله عَلَيْهِ، وَكَانَ بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي بالعراق يذهب إِلَى القَوْل الأول لعلل ذكر أَنه حَاج بعض مخالفيه فِيهَا. قَالَ القَاضِي: وَإِلَى القَوْل الَّذِي قدمت حكايته عَن أهل الْحجاز وَالشَّام ومصر وَالْمغْرب وَالْبَصْرَة أذهب، وَلكُل ذِي قولٍ من هذهين الْقَوْلَيْنِ علل يعتل بهَا لقَوْله، ويحتج بهَا على خَصمه، وَلَيْسَ هَذَا الْموضع مِمَّا يحْتَمل إحضارها، وَهِي مشروحة مستقصاة فِي مَا رسمناه من كلامنا فِي كتب الْفِقْه ومسائله. وَقَوله: " أَلا صني " قريب من معنى قَوْله أدارني وَهُوَ ليه وفتله.

أشرف من حرب بن أمية من أكفا عليه إناءه

أشرف من حَرْب بْن أُميَّة من أكفأ عَلَيْهِ إناءه حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغَسَّانِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ يَزِيدُ ابْنُهُ، فَجَعَلَ يَزِيدُ يُعَرِّضُ بِعَبْدِ اللَّهِ فِي كَلامِهِ وَيَنْسُبُهُ إِلَى الإِسْرَافِ فِي غَيْرِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِيَزِيدَ: إِنِّي لأَرْفَعُ نَفْسِي عَنْ جَوَابِكَ، وَلَوْ صَاحِبُ السَّرِيرِ يُكَلِّمُنِي لأَجَبْتُهُ؛ قَالَ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ تَظُنُّ أَنَّكَ أَشْرَفُ مِنْهُ قَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَمِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ وَجَدِّكَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَصْرِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلَى وَاللَّهِ يَا مُعَاوِيَةَ، إِنَّ أشرف من حَرْب بْن أُميَّة مَنْ أَكْفَأَ عَلَيْهِ إِنَاءَهُ وَأَجَارَهُ بِرِدَائَهِ، قَالَ: صَدَقْتَ يَا أَبَا جَعْفَر، سل حَاجَتك فقتضى حَوَائِجَهُ وَخَرَجَ. قَالَ الشّعبِيّ: وَمعنى قَول عَبد اللَّه لمعاوية إِن أشرف من حَرْب من أكفأ عَلَيْهِ إناءه وَأَجَارَهُ بردائه، لِأَن حَرْب بْن أُميَّة كَانَ إِذا كَانَ فِي سفرٍ فعرضت لَهُ ثنية أَو عقبَة تنحنح فَلم يجترئ أحد أَن يرقاها حَتَّى يجوز حَرْب بْن أُميَّة، وَكَانَ فِي سفرٍ فعرضت لَهُ ثنية فتنحنح، فَوقف النَّاس ليجوز، فجَاء غُلَام من بني تميمٍ فَقَالَ: وَمن حَرْب؟ ثُمَّ تقدمه، فَنظر إِلَيْهِ حَرْب وتهدده وَقَالَ سيمكنني الله تَعَالَى مِنْك إِذا دخلت مَكَّة. فَضرب الدَّهْر من ضربه، ثُمَّ إِن التَّمِيمِي بَدَت لَهُ حَاجَة بِمَكَّة فَسَأَلَ عَن أعز أهل مَكَّة فَقيل لَهُ عبد الْمطلب بْن هَاشم، فَقَالَ: أردْت دون عبد الْمطلب، فقرع عَلَيْهِ بَابه، فَخرج إِلَيْهِ الزُّبَيْر فَقَالَ مَا أَنْت؟ إِن كنت مستجيرًا أجرناك، وَإِن كنت طَالب قرى قريناك، فَأَنْشَأَ التَّمِيمِي يَقُول: لاقيت حَربًا بالثنية مُقبلا ... وَالصُّبْح أَبْلَج ضوءه للساري قف لَا تصاعد واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوة معلن وشعار فتركته خَلْفي وسرت أَمَامه ... وكذاك كنت أكون فِي الْأَسْفَار فَمضى يهددني الْوَعيد ببلدةٍ ... فِيهَا الزُّبَيْر كَمثل ليثٍ ضار فتركته كَالْكَلْبِ ينبح وَحده ... وأتيت قرم مكارمٍ وفخارٍ قوما هزبراً يستجار بِقُرْبِهِ ... رحب المباءة مكرمًا للْجَار وَحلفت بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وركنه ... وبزمزمٍ وَالْحجر ذِي الأستار إِن لَا لزبير لمانعي بمهندٍ ... عضب المهزة صارمٍ بتار فَقَالَ لَهُ الزُّبَيْر: قد أجرتك، وَأَنا ابْن عبد الْمطلب، فسر أَمَامِي فَإنَّا معشر بني عبد الْمطلب إِذا أحرنا رجلا لم نتقدمه، فَمضى بَين يَدَيْهِ وَالزُّبَيْر فِي أَثَره، فَلَقِيَهُ حَرْب فَقَالَ: الميممي وَرب الْكَعْبَة، ثُمَّ شدّ عَلَيْهِ، ثُمَّ أخترط سَيْفه الزُّبَيْر ونادى فِي إخْوَته، وَمضى حَرْب يشْتَد وَالزُّبَيْر فِي أَثَره حَتَّى صَار إِلَى دَار عبد الْمطلب، فَلَقِيَهُ عبد الْمطلب خَارِجا من الدَّار

حذف القول وإضماره

فَقَالَ: مَهيم يَا حَرْب، قَالَ: ابْنك، قَالَ: ادخل الدَّار، فَدخل فأكفأ عَلَيْهِ جَفْنَة هاشمٍ الَّتِي كَانَ يهشم فِيهَا الثَّرِيد، وتلاحق بَنو عبد الْمطلب بَعضهم على أثر بعض فَلم يجترئوا أَن يدخلُوا دَار أَبِيهِم، فاحتبوا بحمائل سيوفهم وجلسوا على الْبَاب، فَخرج إِلَيْهِم عبد الْمطلب، فَلَمَّا نظر إِلَيْهِم سره مَا رأى مِنْهُم، فَقَالَ: يَا بني أَصْبَحْتُم أسود الْعَرَب. ثُمَّ دخل إِلَى حَرْب فَقَالَ لَهُ: قُم فَأخْرج، فَقَالَ: يَا بني أَصْبَحْتُم أسود الْعَرَب. ثُمَّ دخل إِلَى حَرْب فَقَالَ لَهُ: قُم فَأخْرج، فَقَالَ يَا بني أَصْبَحْتُم أسود الْعَرَب. ثُمَّ دخل إِلَى حَرْب فَقَالَ لَهُ: قُم فَأخْرج، فَقَالَ يَا أَبَا الْحَارِث هربت من واحدٍ وَأخرج إِلَى عشرَة؟ فَقَالَ: خُذ رِدَائي هَذَا فالبسه فَإِنَّهُم إِذا رَأَوْا رِدَائي عَلَيْك لم يهيجوك. فَلبس رِدَاءَهُ وَخرج فَرفعُوا رؤوسهم فَلَمَّا نظرُوا إِلَى الرِّدَاء عَلَيْهِ نكسوا رؤوسهم، وَمضى حَرْب، فَهُوَ قَوْله إِن أشرف من حَرْب، من أكفأ عَلَيْهِ إناءة وَأَجَارَهُ بردائه. حذف القَوْل وإضماره قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَول التَّمِيمِي جَار الزُّبَيْر فِي أول بَيته الثَّانِي من كَلمته قف لَا تصاعد بعد قَوْله فِي آخر بَيته الأول: وَالصُّبْح أَبْلَج ضوءه للساري مَعْنَاهُ: فَقَالَ قف، فاضمر القَوْل. وَحذف القَوْل وإضماره كثير فِي كَلَام الْعَرَب، قَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ " الرَّعْد:23، 24 الْمَعْنى يَقُولُونَ: سَلام عَلَيْكُم؛ وَقَالَ الله تَعَالَى: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " الزمر: 3 وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن وَسَائِر الْعَرَبيَّة وَمن ذَلِك قَول الشَّاعِر: مَا للجفان تخطاني كَأَنَّهُمْ ... لم يلف حول ذرى بَيْتِي مَسَاكِين أَرَادَ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ، وَقَالَ آخر: وقائلةٍ مَا بَال لونك شاحبًا ... كَأَنَّك يحميك الطَّعَام طَبِيب تتَابع أحداثٍ تخرمن منتي ... وأبلين جسمي فالفؤاد كئيب فأضمر القَوْل. وَفِي هَذَا الْخَبَر: " أكفأ عَلَيْهِ الْإِنَاء " أَي الْجَفْنَة والفصيح السائر فِي كَلَام الْعَرَب: كفأت الْإِنَاء، فَأَما أكفأت فَإِنَّمَا يُقَال فِي بعض عُيُوب الشّعْر، يُقَال: أكفأ الشَّاعِر يكفئ إكفاء. وَبَين أهل الْعلم بالقوافي خلاف فِي ماهيته، وَهُوَ مُبين فِي مَوْضِعه. حلف الفضول حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْعَطَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بكر الْعَدوي، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْعَدَوِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عُثْمَان ابْن الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ يَقُولُ: انْصَرَفَتْ قُرَيْشٌ مِنَ الْفِجَارِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ الْفِجَارُ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حلفٍ كَانَ قَطُّ وَأَعْظَمَهُ شَرَفًا، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ وَدَعَا إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ

يا للكهول وللشبان

الْمُطَّلِبِ، وَذَاكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَجَمِ، مِمَّنْ كَانَ يَقْدَمُ مَكَّةَ بِتِجَارَتِهِ رُبَّمَا ظَلَمُوا ثَمَنَهَا، وَكَانَ آخِرَ مَنْ ظُلِمَ رَجُلٌ مِنْ زُبَيْدٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَقَدِمَ بسلعةٍ لَهُ فَبَاعَهَا مِنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ شَرِيفًا عَظِيمَ الْقَدْرِ فَظَلَمَهُ ثَمَنَهَا، فَنَاشَدَهُ الزُّبَيْدِيُّ فِي حَقِّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَتَى الزُّبَيْدِيُّ الأَحْلافَ: عَبْدَ الدَّارِ وَمَخْزُومًا وَجُمَحَ وَسَهْمًا وَعَدِيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَزَبَرُوهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الزُّبَيْدِيُّ أَوْفَى عَلَى أَبِي قبيسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آلَ فِهْرٍ لمظلومٍ بِضَاعَتَهُ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِيَ الدَّارِ وَالنَّفَرِ ومحرمٍ أشعثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ ... يَا لِلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ هَلْ مُخْفَرٌ مِنْ بَنِي سهمٍ بِخَفْرَتِهِ ... فَعَادِلٌ أَمْ ضَلالٌ مَا لِمُعْتَمِرِ إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ حَرَامَتُهُ ... وَلا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: مَا لِهَذَا مَتْرَكٌ؛ فَاجْتَمَعَتْ هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَتَحَالَفُوا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فِي شهرٍ حَرَامٍ، وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا بِاللَّهِ الْقَائِمِ لَيَكُونُنَّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيْهِ حَقُّهُ، مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً، وَمَا رَسَا ثَبِيرٌ وَحِرَاءٌ مَكَانَهُمَا. فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَقَالُوا: لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلاءِ فِي فَضْلٍ مِنَ الأَمْرِ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَانْتَزَعُوا سِلْعَةَ الزُّبَيْدِيِّ مِنْهُ فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ؛ قَالَ ابْنُ مَخْلَدٍ: بَعْضُ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ أَفْهَمْهُ مِنَ ابْنِ شَبِيبٍ وَثَبَّتْنِي فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا. يَا للكهول وللشبان قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَوْله فِي الْبَيْت الثَّانِي يَا للرِّجَال بِفَتْح اللَّام وَهِي التييسميها النحويون لَام الاستغاثة، يُقَال يَا للْقَوْم للْمَاء فتفتح لَام الْمَدْعُو وتكسر اللَّام فِي المَاء لِأَنَّهُ الْمَدْعُو إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يَا للرِّجَال ليَوْم الْأَرْبَعَاء أما ... يَنْفَكّ يحدث لي بعد النَّهْي طَربا وَإِذا قَالُوا: يَا للْعَرَب وللموالي فتحت اللَّام الأولى وَكسرت الثَّانِيَة لِأَن الأولى فتحت لتفيد معنى الاستغاثة ثُمَّ كسرت الثَّانِيَة لما علم أَنَّهَا معطوفة عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يبكيك ناءٍ بعيد الدَّار مغترب ... يَا للكهول وللشبان للعجب وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الأَصْل فِي يَا لبكرٍ وَيَا لتميم: يَا آل بكر وَيَا آل تَمِيم، وَترك الْهَمْز فِيهِ تَخْفِيفًا، وَمِمَّنْ كَانَ يرى هَذَا الرياشي، وَأول أَبْيَات التَّمِيمِي فِي هَذَا الْخَبَر مِمَّا للرياشي فِيهِ مُتَعَلق، وَذَلِكَ قَوْله يَا آل فهر وللبصريين والكوفيين من النَّحْوِيين فِي الِاحْتِجَاج لقَولهم والمحاجة لمن خَالف مَا عَلَيْهِ جمهورهم كَلَام واستشهاد بِالْقِيَاسِ، وأتى فِيهِ من الشّعْر مَا تطول حكايته، وَله مَوضِع هُوَ أولى بِهِ.

الرسول يشهد حلف الفضول

الرَّسُول يشْهد حلف الفضول حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَمَا سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَعَنْ حِلْفِ الْفُضُولِ، فَأَعْلَمْتُهُ أَنَّ الْمَسْحَ جَائِزٌ، وَأَنَّ هَاشِمًا وَزُهْرَةَ وَتَيْمًا كَانُوا أَصْحَابَ حِلْفِ الْفُضُولِ، وَأَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: شَهِدْتُ حِلْفًا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بَيْنَ هَاشِمٍ وَزُهْرَةَ وَتَيْمٍ، وَأَنَا فِيهِمْ، وَلَوْ دُعِيتُ بِهِ لأَجَبْتُ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَخِيسُ بِهِ وَلِي حُمْرُ النَّعَمِ، وَكَانَ تَحَالُفُهُمْ عَلَى الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ لَا يَدَعُوا لأحدٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَضْلا إِلا أَخَذُوهُ وَبِذَلِكَ سُمِّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ هَذَا الْحِلْفُ حِلْفَ الْفُضُولِ، فَفِي الأَوَّلِ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا لِقَوْلِهِمْ لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلاءِ فِي فَضْلٍ مِنَ الأَمْرِ، وَفِي الْخَبَرِ الثَّانِي لَمَّا قَالُوا فِي حِلْفِهِمْ إِنَّهُمْ لَا يَدَعُونَ لأحدٍ عِنْدَ أَحَدٍ فَضْلا إِلا أَخَذُوهُ. رمي بسهام السحر حَدثنَا أَحْمَد بْن أَبِي سهل بْن عَاصِم أَبُو بكر الْحلْوانِي قَالَ أَبُو بكر ختن الْمبرد قَالَ: لَقِيَنِي الأسباطي على الجسر وَقد أَخذ إِسْمَاعِيل بْن بلبل دور أهل الْخلد فَقَالَ لي: بغى وللبغي سِهَام تنْتَظر ... أنفذ فِي الأكباد من وخز الإبر سِهَام أَيدي القانتين فِي السحر قَالَ فَمَا مَضَت الْأَيَّام حَتَّى كَانَ من أَمر إِسْمَاعِيل مَا كَانَ. أَصْحَاب الحَدِيث يُؤْذونَ ابْن عَيَّاش حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن خلف قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاء وَلَيْسَ بالغلابي قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن مُحَمَّد بْن عبد الرَّحْمَن الْعَرْزَمِي قَالَ: كنت عِنْد أَبِي بكر بْن عَيَّاش فَجَاءَهُ أَصْحَاب الحَدِيث فآذوه، فَبعث إِلَى صَاحب الرّبع فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: حَاجَتك يَا أَبَا بكر، قَالَ: أقِم هَؤُلَاءِ عني قَالَ: وَمَا حَالهم؟ قَالَ: أَصْحَاب يَا أَبَا بكر، قَالَ: أقِم هَؤُلَاءِ عني قَالَ: وَمَا حَالهم؟ قَالَ: أَصْحَاب الحَدِيث، قد آذوني وأضجروني، قَالَ: أرْفق بهم يَا أَبَا بكر فقد قصدوك وَلَهُم حق، فَغَضب وَقَالَ: انْظُرُوا إِلَيّ هَذَا البتيارك!! ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا البتيارك؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: كَانَت امْرَأَة بِالْكُوفَةِ لَهَا زوج قد عسر عَلَيْهِ المعاش، فَقَالَت لَهُ: لَو خرجت فَضربت فِي الْبِلَاد وَطلبت من فضل الله تَعَالَى، فَخرج إِلَى الشَّام فكسب ثَلَاثمِائَة دِرْهَم، فَاشْترى بهَا نَاقَة سَمِينَة فارهة، فركبها وَسَار عَلَيْهَا، فأضجرته فَحلف بِطَلَاق امْرَأَته ليبيعنها يَوْم يقدم الْكُوفَة بدرهم، فَقَالَت لَهُ امْرَأَته: مَا جِئْت بِهِ؟ قَالَ: أصبت ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فاشتريت هَذِه النَّاقة فأضجرتني، فَحَلَفت بطلاقك ثَلَاثًا أَن أبيعها أول يومٍ أقدم الْكُوفَة بدرهم، فَقَالَت: أَنا أحتال لَك فعلقت فِي عنث النَّاقة سنورًا وَقَالَت: أدخلها السُّوق فَنَادِ من يَشْتَرِي السنور

زلة العاقل وزلة الجاهل

بثلاثمائة دِرْهَم والناقة بدرهم، وَلَا أفرق بَينهمَا، قَالَ: فَفعل، فجَاء أَعْرَابِي فَجعل يَدُور حول النَّاقة وَيَقُول: مَا أسمنك مَا أفرهك مَا أرخصك لَوْلَا هَذَا البتيارك. زلَّة الْعَاقِل وزلة الْجَاهِل حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْقَزاز قَالَ حَدثنَا نصر بْن أَحْمَد قَالَ قَالَ الْخَلِيل بْن أَحْمَد: زلَّة الْعَاقِل يضْرب بهَا الطبل، وزلة الْجَاهِل تخفي فِي الْجَهْل. ابْن المنجم يستدين من بختيشوع فيعاتبه المتَوَكل حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد يحيى بْن عَليّ بْن يحيى المنجم، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خرجنَا مَعَ المتَوَكل إِلَى دمشق فلحقتنا ضيقَة بِسَبَب الْمُؤَن والنفقات الَّتِي كَانَت تلزمنا، قَالَ: فَبعثت إِلَى بختيشوع وَكَانَ لي صديقا أسأله أَن يقرضني عشْرين ألف دِرْهَم، قَالَ: فأقرضنيها، فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ دخلت مَعَ الجلساء إِلَى المتَوَكل، فَلَمَّا فأقرضنيها، فَلَمَّا كَانَ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ دخلت مَعَ الجلساء إِلَى المتَوَكل، فَلَمَّا جلسنا بَين يَدَيْهِ قَالَ: يَا عَليّ لَك عِنْدِي ذَنْب وَهُوَ عَظِيم، قلت: يَا سَيِّدي فَمَا هُوَ، فَإِنِّي لَا أعرف لي ذَنبا وَلَا جِنَايَة؟ قَالَ: بلَى، أضقت فاستقرضت من بختيشوع عشْرين ألف دِرْهَم، أَفلا أعلمتني؟ قَالَ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ صلات أَمِير الْمُؤمنِينَ عِنْدِي متواترة وأنزاله على دَاره، وَاسْتَحْيَيْت مَعَ مَا قد أنعم الله علينا بِهِ من هَذَا التفضل أَن أسأله شَيْئا، قَالَ: وَلم؟ إياك أَن تستحيي من مَسْأَلَتي والطلب مني وَأَن تعاود مثل مَا كَانَ مِنْك، ثُمَّ قَالَ: مائَة ألف دِرْهَم بِغَيْر صروف، فأحضرت عشر بدر فَقَالَ: خُذْهَا واتسع بهَا. تحول أَبِي الْعَتَاهِيَة من الْغَزل إِلَى الزّهْد حَدثنَا المظفرين يحيى بْن أَحْمَد الشرابي قَالَ حَدَّثَنَا حسن بْن عليل الغنوي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَالك اليمامي مُحَمَّد بْن مُوسَى بْن يحيى بْن يزِيد النجار، قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُد بْن يحيى بْن عِيسَى بْن النجار بْن زِيَاد بْن النجار، قَالَ: صَحِبت أَبَا الْعَتَاهِيَة فِي طَرِيق مَكَّة فترافقنا فَأَنْشَدته يَوْمًا بَيْتا فَضَحِك، وَالشعر: اخلع عذارك فِيمَا تستلذ بِهِ ... واجسر فَإِن أَخا اللَّذَّات من جِسْرًا واحفظ خَلِيلك لَا تغدر بِهِ أبدا ... لَا بَارك الله فِي من خَان أَو غدرا وَالشعر لأبي الْعَتَاهِيَة، فَقَالَ لي: يَا دَاوُد هَل مَعَك من شعري فِي عتبَة شَيْء؟ قلت: نعم، قَالَ: أرنيه، قَالَ: فَأَخْرَجته فَنظر إِلَيْهِ فَجعل يلوي رَأسه، فَلَمَّا مر هَذَا الْبَيْت: فالليل أطول من يَوْم الْحساب على ... عين الشجي إِذا مَا نَومه نَفرا قَالَ: فَجعل يُحَرك رَأسه وَيَقُول: يَا أَبَا الْعَتَاهِيَة لَيْسَ لَك وَالله علم بِيَوْم الْحساب، قَالَ ثُمَّ قَالَ: عَليّ بنارٍ، فَأخذ الْكتب فأحرقها وَقَالَ لي: عَلَيْك بِمَا هُوَ خير من هَذَا، فَأخْرج كتابا فِيهِ مَكْتُوب: أَلا هَل منيب إِلَى ربه ... فيستغفر الله من ذَنبه

المجلس الثامن والستون

على أَن فِي بعض أَحْوَاله ... حوادث يخبرن عَن قلبه فَلم أر كالميت فِي أَهله ... يحب ويهرب من قربه يحب محبوه إبعاده ... وهم مجمعون على حبه وَقَالَ لي: اكْتُبْ فَكتبت، وأملي عَليّ: لَا تكذبن فإنني ... لَك نَاصح لَا تكذبنه واعمل لنَفسك مَا استطع؟ ... ت فَإِنَّهَا نَار وجنه وَاعْلَم بأنك فِي زما ... ن مشبهاتٍ هن هنه صَار التَّوَاضُع بِدعَة ... فِيهِ وَصَارَ الْكبر سنه الْمجْلس الثَّامِن وَالسِّتُّونَ طُوبَى لمن رَآنِي وآمن بِي أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأَدَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا فَضْلٌ يَعْنِي ابْنَ سَهْلٍ، قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ قَالَ حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن دراجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِمَنْ رَآكَ وَآمَنَ بِكَ، فَقَالَ طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى ثُمَّ طُوبَى ثُمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا طُوبَى؟ قَالَ: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ مِائَةِ سنةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ وَرَدَتِ الأَخْبَارُ مِنْ طرقٍ شَتَّى بِأَنَّ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجنَّة، وَقَالَ أهل العربيةب طُوبَى فُعْلَى مِنَ الطِّيبِ وَأَصْلُهَا طِيبَى بِالْيَاءِ فَقُلِبَتْ وَاوًا لانْضِمَامِ الطَّاءِ، وَمِثْلُ هَذَا الْكُوسَى مِنَ الْكَيْسِ. هَذَا وَأَبِيك الشّرف حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَنِ الْعُتْبِي عَن أَبِيه قَالَ: ابتنى مُعَاوِيَة بِالْأَبْطح مَجْلِسا فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَمَعَهُ ابْنة قرظة، فَإِذا هُوَ بِجَمَاعَة على رحالٍ لَهُم، وَإِذا شَاب مِنْهُم قد رفع عقيرته يُغني: من يساجلني يساجل ماجدا ... أَخْضَر الْجلْدَة فِي بَيت الْعَرَب قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَبد اللَّه بْن جَعْفَر، قَالَ: خلوا لَهُ الطَّرِيق فليذهب. ثُمَّ إِذا هُوَ بِجَمَاعَة فيهم غُلَام يُغني: بَيْنَمَا يذكرنني أبصرنني ... عِنْد قيد الْميل يسْعَى بِي الْأَغَر قُلْنَ تعرفن الْفَتى قُلْنَ نعم ... قد عَرفْنَاهُ وَهل يخفى الْقَمَر قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عمر بْن أَبِي ربيعَة، قَالَ: خلوا لَهُ الطَّرِيق فليذهب. قَالَ: ثُمَّ إِذا هُوَ بِجَمَاعَة وَإِذا رجل مِنْهُم يسْأَل فَقَالَ: رميت قبل أَن أحلق، وحلقت قبل أَن أرمي، لِأَشْيَاء أشكلت عَلَيْهِم من مَنَاسِك الْحَج، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: عَبد اللَّه بْن عمر، فَالْتَفت

شعر لمجنون بني جعدة

إِلَى بنت قرظة فَقَالَ: هَذَا وَأَبِيك الشّرف، هَذَا وَالله شرف الدُّنْيَا وَشرف الْآخِرَة. تعليقات وفوائد قَالَ القَاضِي: وَقد رُوِيَ من طَرِيق آخر أَنه قَالَ هَذَا وَالله الشّرف لَا مَا نَحن فِيهِ، وَرُوِيَ أَنه قَالَ: كَاد الْعلمَاء يكونُونَ أَرْبَابًا. وَالشعر الْمُتَقَدّم فِي هَذَا الْخَبَر: الْمَشْهُور مِنْهُ أَنه للفضل بْن الْعَبَّاس بْن عتبَة بْن أَبِي لهبٍ وَرِوَايَته الْمَعْرُوفَة: وَأَنا الْأَخْضَر من يعرفنِي ... أَخْضَر الْجلْدَة فِي بَيت الْعَرَب من يساجلني يساجل ماجدا ... يمْلَأ الدَّلْو إِلَى عقد الكرب وَقد ذكر أَن الفرزدق قالن لما أنْشد هَذَا الْبَيْت: مَا يساجلك إِلَّا من عض بِهن أمه. وَأما تَعْظِيم مُعَاوِيَة شَأْن عَبد اللَّه بْن عمر من أجل الْعلم فقد أحسن القَوْل فِيهِ وأنصف، ومنزلة الْعلمَاء فِي الْمُسلمين وفقههم فِي الدَّين أَعلَى وَأظْهر وَأبين وَأشهر من أَن يحْتَاج فِيهَا إِلَى إطناب وإطالةٍ وإسهاب. شعر لمَجْنُون بني جعدة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ أنشدنا هَارُون بْن محمدٍ قَالَ أنشدنا الزُّبَيْر لمَجْنُون بني جعدة: يَا حبذا رَاكب كُنَّا نسر بِهِ ... يهدي لنا من أَرَاك الْمَوْسِم القضبا قَالَت لجارتها يَوْمًا تساجلها ... لما تعرت وَأَلْقَتْ عِنْدهَا السلبا ناشدتك الله أَلا قلت صَادِقَة ... أصادفت صفة الْمَجْنُون أم كذبا قَالَ فَقلت: ترَاهُ سَرقه من قَول عمر بْن أَبِي ربيعَة المَخْزُومِي؟: وَلَقَد قَالَت لجاراتٍ لَهَا ... وتعرت ذَات يَوْم تبترد أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لَا يقتصد فتضاحكن وَقد قُلْنَ لَهَا ... حسن فِي كل عين من تود حسدا مِنْهُنَّ قد حملنه ... وقديمًا كَانَ فِي النَّاس الْحَسَد أَبُو الْعَتَاهِيَة يسرق معنى لبشار حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّان رفيع بْن سَلمَة قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحجَّاج قَالَ قَالَ بشار لأبي الْعَتَاهِيَة أَنْشدني، فأنشده: كم من صديقٍ لي أسا ... رقّه الْبكاء من الْحيَاء فَإِذا تفطن لامني ... فَأَقُول مَا بِي من بكاء لَكِن ذهبت لأرتدي ... فطرفت عَيْني بالرداء قَالَ بشار: مَا أشعرك وَيحك، لَوْلَا أَنَّك سرقتني، قَالَ: وَمَا قلت يَا أَبَا معَاذ؟ قَالَ قلت:

معنى الطرب

وَقَالُوا قد بَكَيْت فَقلت كلا ... وَقد يبكي من الْجزع الجليد وَلَكِن قد أصَاب سَواد عَيْني ... عُوَيْد قذى لَهُ طرف حَدِيد فَقَالُوا مَا لدمعهما سَوَاء ... أكلتا مقلتيك أصَاب عود معنى الطَّرب قَالَ القَاضِي: بَين هَذِه الأبيات فِي الْخَبَرَيْنِ من التناسب والتقارب فِي معانيهما مَا يُمكن أَن يكون بعض من أنشأهما أَخذ من صَاحبه، وَجَائِز أَن يكون الِاتِّفَاق فيهمَا وَقع من غير شعورٍ، من كل ناظمٍ من الشاعرين بِمَا نظمه غَيره. وَقد رُوِيَ لنا بَيت بشارٍ الْمُتَقَدّم فِي أبياته هَذِه من طَرِيق آخر وعجزه وَهل يبكي من الطَّرب الجليد والطرب هُوَ استطارة تلْحق الرجل عِنْد غَلَبَة السرُور أَو الْحزن عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا تغلط فِيهِ الْعَامَّة وَتذهب فِيهِ عَن وَجه الصَّوَاب، فيظنون أَنه يُقَال فِي الْفَرح خَاصَّة دون الْغم، وَالْأَمر فِيهِ بِخِلَاف مَا يتوهمون، وَقد زعم بعض أَصْحَاب اللُّغَة أَنه من الأضداد، وَأنكر ذَلِك كثير مِنْهُم، فَقَالَ لنا ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ عِنْدِي خفَّة تلْحق الرجل عِنْد الشَّيْء يسره أَو يحزنهُ، وَقد قَالَ الْأَعْشَى: فهاجت شوق محزونٍ طروبٍ ... فاسبل دمعه فِيهَا سجاما وَقَالَ لبيد: وَأرَانِي طَربا فِي إثرهم ... طرب الواله أَو كالمختبل وَمِمَّا يدل على مَا وَصفنَا فِي الطَّرب قَول الْكُمَيْت بْن زيدٍ: طربت وَمَا شوقا إِلَى الْبيض أطرب ... وَلَا لعبًا مني وَذُو الشيب يلْعَب ثمَّ قَالَ فِي هَذِه الْكَلِمَة: وَلَكِن إِلَى أهل الْفَضَائِل وَالنَّهْي ... وَخير بني حَوَّاء وَالْخَيْر يطْلب بني هَاشم آل النَّبِي ورهطه ... بهم وَلَهُم ارضي مرَارًا وأغضب وَمَعْلُوم أَن الطَّرب إِلَى بني هَاشم الَّذِي عناه الْكُمَيْت إِنَّمَا هُوَ ارتياحه إِلَيْهِم وَمَا يستفزه ويزدهيه ويستخفه من غَلَبَة الْمُوَالَاة لَهُم وَالْإِخْلَاص فِي مَوَدَّتهمْ، وتوخي الْقرْبَة إِلَى الله تَعَالَى بمسالمة من سالمهم ومحاربة من حاربهم، وَهَذَا هُوَ الْحق الْوَاجِب فِي الدَّين وَاللَّازِم للْمُسلمين. الْفضل وَصَلَاح الإِمَام حَدثنَا أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا إِدْرِيس بْن عبد الْكَرِيم قَالَ سَمِعت مزدويه يَقُول، سَمِعت لافضيل يَقُول: لَو أَن لي دَعْوَة مستجابة لجعلتها للْإِمَام، فَإِن صَلَاحه صَلَاح الْعباد والبلاد. فَقَامَ إِلَيْهِ ابْن الْمُبَارك فَقبل وَجهه وَقَالَ: يَا معلم الْخَيْر من يحسن هَذَا غَيْرك؟ قَالَ القَاضِي: ولعمري إِن فِي صَلَاح الإِمَام أعظم صلاحٍ للْمُسلمين فِي دينهم ودنياهم، وَإِن دعاءهم لَهُ بذلك من أحسن مَا يأتونه، وَلَهُم فِيهِ من وفور الْحَظ فِي اتساق مَعَايشهمْ

عقبة بن سلم والشعراء

واستقامة متصرفاتهم مَا لَا يخيل على من كَانَ لَهُ قلب ذكي ولب رَضِي. وَقد أصَاب الفضيل فِي قَوْله، وَأحسن ابْن الْمُبَارك فِي فعله، وَنحن نسْأَل الله تَعَالَى أَن يرزقنا معدلة أَئِمَّتنَا وإحسانهم، ويعطف علينا قُلُوبهم، ويمدهم بأيده، ويشد سلطانهم بكيده، ويوفقنا لطاعتهم وتأدية حُقُوقهم، وإخلاص النَّصِيحَة لَهُم، ومظاهرة أَوْلِيَائِهِمْ، وَجِهَاد أعدائهم. عقبَة بْن سلم وَالشعرَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن أبي طَاهِر قَالَ، قَالَ أَحْمَد بْن بدر، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: مدح بشار عقبَة بن سلمٍ فَأعْطَاهُ عشرَة آلَاف دِرْهَم، ومدحه مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة بالقصيدة الَّتِي يَقُول فِيهَا: يَا وَاحِد الْعَرَب الَّذِي ... مَا فِي الْأَنَام لَهُ نَظِير لَو كَانَ مثلك وَاحِد ... مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا فَقير وَدخل أَبُو الشمقمق يَوْمًا على عقبَة بْن سلمٍ، وَهُوَ جَالس بَين بشار ومروان، فاستأذنه فِي الإنشاد فَأذن لَهُ فأنشده: يَا عقب يَا عقب وقيت الردى ... يَا قَاتل الْبُخْل ومحيي الندى إِن أَبَا عمْرَة قد زارني ... فشق سربالي وَقد الردا فالطمه يَا عقب لنا لطمة ... إِذا رَآنِي فِي طَرِيق عدا قَالَ: بِمَ ألطمه؟ قَالَ: بِخَمْسِمِائَة درهمٍ قَالَ: أَنا أَبُو الملد، ربحت عَلَيْك أَرْبَعَة آلَاف وَخَمْسمِائة دِرْهَم، ثمَّ قَالَ: أعْطوا شميمقاً خَمْسمِائَة دِرْهَم واحملوه على بقرة. قَالَ الْأَصْمَعِي: عقبَة بْن سلم يكني أَبَا الملد، وَهُوَ الَّذِي يَقُول لَهُ بشار: اسمل وحييت أَبَا الملد توجيهات نحوية قَالَ القَاضِي: قَول مَرْوَان بْن أَبِي حَفْصَة: لَو كَانَ مثلك وَاحِد بجوز فِيهِ مثلك وَمثلك بِالرَّفْع وَبِالنَّصبِ على الْحَال لِأَن صفة النكرَة إِذا قدمت عَلَيْهَا نصبت على الْحَال كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لخولة موحشًا طلل ... يلوح كَأَنَّهُ خلل وَقَالَ آخر: وَالشَّر منتشرًا يَأْتِيك عَن عرض ... والصالحات عَلَيْهَا مغلقًا بَاب الْعلَّة فِي نصب النكرَة إِذا قدمت أَن النَّعْت لَا يكون قبل المنعوت وَالْحَال مفعول فِيهَا، وَتقدم الْمَفْعُول وتأخره سائغان، وَقد يكون النصب بِأَن يَجْعَل خَبرا لَكَانَ. صور شعرية محورها الْبَرْق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا عونُ بْن مُحَمَّد الْكِنْدِيّ قَالَ: وَعَدَني سُلَيْمَان بْن وهب وَهُوَ يزر للمهدي أَن يُوقع لي بإيعاز ضَيْعَة أَبِي فَأَبْطَأَ فِي ذَلِك، فَقلت لَهُ:

يعوض على معاونيه بسخاء بالغ

قد تَأَخَّرت حَاجَتي، فَأَنت وَالله كَمَا قَالَ ابْن الْمولى: وَإِذا تبَاع كرمية أَو تشتري ... فسواك بَائِعهَا وَأَنت المُشْتَرِي وَإِذا تخيل من سحابك لامع ... سبقت مخايله يَد المستمطر فجذب الدواة وَقَالَ: مَا أخلب برقك وَلَا كذبت مخيلتك، وَوَقع لي بِمَا أردْت. قَالَ الصولي: أنشدت الْمبرد يَوْمًا قَول بشار: أبرقت لي حَتَّى إِذا قلت جَادَتْ ... أقشعت عَن سحائب تشفتر تَرَكتنِي وَمَا أومل مِنْهَا ... كالمرجي حلوبة مَا تدر فأنشدني: كَأَنَّك مزنة برقتْ بلَيْل ... لحيران يضيء لَهُ سناها فَلم تمطر عَلَيْهِ وجاوزته ... وَقد أرسى المنى لما رَآهَا فَسَأَلته عَن أرسى فَقَالَ: أَثْبَتَت المنى فِي قلبه، أما قَرَأت " وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا " النازعات:32. قَالَ القَاضِي: قَول بشار: أبرقت لي لُغَة قد أثبتها قوم وَمِنْهَا قَول الْكُمَيْت: أرعد وأبرق يَا يزي؟؟ ... د فَمَا وعيدك لي بضائر وَكَانَ الْأَصْمَعِي يُنكر هَذَا وَيَردهُ وَلَا يعرف إِلَّا رعد وبرق. يعوض على معاونيه بسخاء بَالغ حَدثنِي أَبُو النَّصْر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن بنان الْكَاتِب قَالَ، قَالَ لي أَبُو الْعَبَّاس ابْن الْفُرَات، حَدَّثَنِي كَاتب إبراهمي بْن سِيمَا قَالَ: لما صرنا إِلَى الْبَصْرَة لمحاربة الناجم بهَا وَقعت النَّار فِي عسكرنا فأحرقت كل مَا كَانَ لإِبْرَاهِيم من مضرب وَغَيره، قَالَ: فانصرفنا إِلَى سر من رأى وعملنا حِسَاب نفقات عسكرنا، ففضل فِي أَيْدِينَا من المَال الَّذِي تسبب لنا أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألف دِينَار، قَالَ فَقَالَ لي إِبْرَاهِيم: صر إِلَى أَبِي الْقَاسِم عُبَيْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان وأعلمه مَا نالنا فِي مضاربنا وآلتنا، وسله أَن يهب لنا من هَذَا المَال الَّذِي فضل قبلنَا مَا نرم بِهِ حَالنَا، فَلَعَلَّهُ يصفح لنا عَن خَمْسَة آلَاف دِينَار نصرفها فِي نفقتنا، قَالَ: فصرت إِلَيْهِ فَوَجَدته مستخليًا مُسْتَلْقِيا على مُصَلَّاهُ، فَسَأَلَنِي عَن إبراهم وحَدثني سَاعَة، ثُمَّ قَالَ لي: مَا جَاءَ بك فِي هَذَا الْوَقْت؟ إِلَيْهِ مَا قَالَ إِبْرَاهِيم فَقَالَ: وَكم بَقِي قبلك من المَال؟ قلت: أَرْبَعَة وَثَمَانُونَ ألف دِينَار، قَالَ: فَأدْخلهَا فِي حسابكم، وَقل لَهُ يَأْخُذهَا بَارك الله لَهُ فِيهَا قَالَ: فَفعلت ذَلِك وأخذنا المَال كُله، وَإِنَّمَا كَانَ تقديرنا أَن يتْرك لنا مِنْهُ خَمْسَة آلَاف دِينَار. الرَّسُول كَانَ يحب أَن يرى عنترة حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يزْدَاد الْمَرْوَزِيُّ الْكَاتِبُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِتِينَةَ، قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ عَائِشَةَ يَقُولُ: أَنْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَنْتَرَةَ:

عبسي شديد التعصب لعنترة

وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأَظَلُّهُ ... حَتَّى أُصِيبَ بِهِ كَرِيمَ الْمَأْكَلِ قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَحَدٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مَا خَلا عَنْتَرَةَ. عبسي شَدِيد التعصب لعنترة حَدثنَا يزْدَاد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى، قَالَ حَدَّثَنَا القحذمي عَن عَمه عَن ابْن دأب قَالَ: جَاءَنِي أَعْرَابِي منعبس مَا رَأَيْت قطّ أَشد عصيبةً مِنْهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيد مَا شَيْء بَلغنِي عَنْك؟ قَالَ قلت: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: بَلغنِي أَنَّك تَقول إِن عنترة فقئت عينه قبل أَن يَمُوت، قَالَ قلت: نعم، قَالَ: وَمن فقأها؟ قَالَ قلت: غُلَام من بني قبال، قَالَ: عنْدك فِي ذَلِك شَاهد؟ قلت: نعم، قَالَ: فأنشدنيه، فَأَنْشَدته: غزا ثُمَّ آب العَبْد خائب جده ... إِلَى ضخمة الْأُذُنَيْنِ والكف شهبره فَبَاتَ إِلَيْهَا كاسرا شقّ عينه ... فَقَالَت لَهُ من عَار عَيْنك عنترة فَقَالَ لَهَا لَا ضير إِن ملمة ... ألمت وَإِن الدَّهْر يقلب أعصره وَإِن غُلَاما من قبالٍ أَصَابَهُم ... وَمَا كَانَ عَن كف القبالي أهدره قَالَ فَقَالَ لي: أَمَعَك غير هَذَا؟ قَالَ قلت: نعم. أما بَنو عبس فَإِن دعيهم ... ولت فوارسه وأفلت أعورا سمع التذامر والتواصي بَينهم ... لَا يَفْلِتَنَّ العَبْد عنتر عنترا قَالَ فَقَالَ لي: يَا أَبَا الْوَلِيد قد صَحَّ هَذَا عنْدك؟ قَالَ قلت: قد حدثتك الحَدِيث وأنشدتك الشّعْر، قَالَ: وَالله ماتفقت عينه فِي قَبره، كَيفَ تزْعم أَنَّهَا تفقت قبل مَوته؟! تَعْلِيق على مَا جَاءَ فِي الْخَبَرَيْنِ السَّابِقين قَالَ القَاضِي: قد روينَا عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غير هَذَا الطَّرِيق فِي ذكر عنترة محبته رُؤْيَة عنترة وَأَنه قَالَ: لَو أَدْرَكته نفعته؛ وَقَول الشَّاعِر إِلَى ضخمة الْأُذُنَيْنِ والكف شهبرة الشهبرة: الْعَجُوز المولية، وَيُقَال شهورة وينشد فِي هَذَا: أم الْحُلَيْس لعجوز شهوره وَجَاء فِي بعض الْأَخْبَار أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لزيد بْن حارثه لَا تتَزَوَّج خمْسا، فَذكر فِيهِنَّ الشهبرة. وَيُقَال أَيْضا عَجُوز شهربة وأنشدوا فِي هَذَا: أم الْحُلَيْس لعجوز شهربه ... ترْضى من اللَّحْم بِعظم الرَّقَبَة وَقَوله: وَمَا كَانَ عَن كف القبالي أهدره يُقَال أهْدر دم فلَان إِذا طل وَلم يثأر بِهِ وَأسْقط الْقصاص وَالْعقل عَنْهُ. وَقَول الشَّاعِر فِي الشّعْر الثَّانِي: لَا يَفْلِتَنَّ العَبْد عنتر عنترا فِيهِ إغراء بِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيْك عنترة أَو اقْتُل عنترة، كَمَا تَقول: الطَّرِيق الطَّرِيق فأضمر الْفِعْل، وَمثله قَوْلك لمن رايته يضْرب رجلا أَو يتهيأ لضربه: رَأسه؛ وَهَذَا بَاب وَاسع مَعْرُوف فِي الْعَرَبيَّة يضمر الْفِعْل فِيهِ اكْتِفَاء بِمَا حضر أَو ظهر من الْأَحْوَال والأشياء الدَّالَّة على الْعَامِل

بيت شريف في امرأة خفرة

الْمَنوِي والمتروك. وَأما قَول الْعَبْسِي " تفقت عينه " فَإِنَّهُ ترك الْهَمْز فِي هَذِه الْكَلِمَة وَهُوَ أصل فِيهَا، قَالَ الشَّاعِر: تفقأ فَوْقه قلع السَّوَارِي ... وجن الخازباز بِهِ جنونا وَقد يتْرك الْهَمْز كثيرا وخاصة فِي الشّعْر كَقَوْل الشَّاعِر: وَكنت أَبَا ستةٍ كالبدور ... أفقي بهم أعين الحاسدينا بَيت شرِيف فِي امْرَأَة خفرة حَدثنَا عَبد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّاء الْغلابِي، قَالَ حَدَّثَنَا مهْدي بْن سابقٍ، قَالَ حَدَّثَنِي الهَيْثَم بْن عَدِيّ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْد صَالح بْن حسان فَقَالَ: أنشدوا بَيْتا شريفًا فِي امرأةٍ خفرة، قُلْنَا قَول حَاتِم الطَّائِي: يضيء لَهَا الْبَيْت الظليم خصَاصَة ... إِذا هِيَ يَوْمًا حاولت أَن تبسما فَقَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا الْبَيْت. قُلْنَا قَول الْأَعْشَى: كَأَن مشيتهَا من بَيت جارتها ... مر السحابة لَا ريث وَلَا عجل قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا. قُلْنَا بَيت ذِي الرمة: تنوء بأولاها فلأيا قِيَامهَا ... وتمشي الهوينا من قريب فتبهر قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا. قُلْنَا: مَا عندنَا شَيْء، قَالَ بَيت أَبِي قيس ابْن الأسلت: ويكرمنها جاراتها فيزرنها ... وتعتل عَن إتيانهن فَتعذر أحسن بَيت فِي وصف الثريا ثمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ أحسن بيتٍ وصفت بِهِ الثريا؟ قُلْنَا بَيت ابْن الزُّبَيْر: وَقد لَاحَ فِي الجو الثريا كَأَنَّهُ ... بِهِ راية بَيْضَاء تخفق لِلطَّعْنِ فَقَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا، قُلْنَا: بَيت امْرِئ الْقَيْس: إِذا مَا الثريا فِي السَّمَاء تعرضت ... تعرض أثْنَاء الوشاح الْمفصل قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا، قُلْنَا: بَيت ابْن الطثرية: إِذا مَا الثريا فِي السَّمَاء كَأَنَّهَا ... جمان وَهِي من سلكه فتسرعا قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا؛ قُلْنَا قَول ذِي الرمة: وردتاعتسافاً والثريا كَأَنَّهَا ... على قمة الرَّأْس ابْن مَاء محلق يدف على آثارها دبرانها ... فَلَا هُوَ مَسْبُوق وَلَا هُوَ يلْحق بِعشْرين من صغري النُّجُوم كَأَنَّهَا ... وإياه فِي الجرباء لَو كَانَ ينْطق قلاص حداها رَاكب متعمم ... هجائن قد كَادَت عَلَيْهِ تفرق قَالَ: أُرِيد أحسن من هَذَا؛ قُلْنَا: مَا عندنَا شيءن قَالَ بَيت أَبِي قيس ابْن الأسلت: وَقد لَاحَ فِي الجو الثريا لمن رأى ... كعنقود ملاحيةٍ حِين نورا

تعليقات للقاضي على ما تقدم

تعليقات للْقَاضِي على مَا تقدم قَالَ القَاضِي: قَول حَاتِم: الْبَيْت الظليم أَرَادَ: المظلم، ومفعل قد ينْصَرف إِلَى فعيل، وَمن ذَلِك عَذَاب أَلِيم أَي مؤلم، قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ " يُونُس:4 وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر: ونرفع من صُدُور شمردلاتٍ ... يصك وجوهها وهج أَلِيم وَمِنْه سميع بِمَعْنى مسمع، قَالَ الشَّاعِر: أَمن ريحانه الدَّاعِي السَّمِيع ... يؤرقني وأصحابي هجوع أَرَادَ المسمع. وَقد يُقَال سميع بِمَعْنى سامع، وَيَأْتِي على فعيل للْمُبَالَغَة مثل رَاحِم وَرَحِيم، وحافظ وحفيظ، وعالم وَعَلِيم، وقادر وقدير، وناصر ونصير، فِي نَظَائِر لهاذا كَثِيرَة جدا. وَقَول ذِي الرمة فلأياً قِيَامهَا أَي بطيء؛ وَقَالَ زُهَيْر: وقفت بهامن بعد عشْرين حجَّة ... فلأيا عرفت الدَّار بعد توهم وَقَول أبي قيس: " وكيرمنها جاراتها " هَكَذَا رُوِيَ لنا على لُغَة من يَأْتِي بعلامة الْجمع مَعَ تقدم الْفِعْل وفراغه من الضَّمِير، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وَلَكِن ديافي أَبوهُ وَأمه ... بحوران يعصرن السليط أَقَاربه الْأَفْصَح ويكرمها وَقد مضى فِي بعض مَا تقدم من مجالسنا هَذِه قَول لنا فِي هَذَا الْمَعْنى وتفريق بَين عَلامَة التَّثْنِيَة وَالْجمع فِي العلاقة، وَبَين عَلامَة التَّأْنِيث، ويستغنى بِهِ عَن إِعَادَته فِي هَذَا الْموضع. وَقَول أَبِي قيس بْن الأسلت " كعنقود ملاحية " رُوِيَ لنا فِي هَذَا الْخَبَر ملاحية بتَشْديد اللَّام، ولغة الْعَرَب الفصيحة السائرة ملاحية يَقُولُونَ عِنَب ملاحي، وَرَوَاهُ الحَدِيث وَالْأَخْبَار الَّذين لَا علم لَهُم بِكَلَام الْعَرَب يغلطون فِي هَذَا كثيرا وَفِي مَا أشبهه، وَأرى أَن الَّذِي أوقعهم فِي هَذَا أَنهم لما رَأَوْا هَذَا الْبَيْت رَأَوْا ظُهُور الزحاف فِيهِ إِذا رُوِيَ مخففًا على الْوَجْه الصَّحِيح وسلامته من ذَلِك إِذا شدد، ثُمَّ لم يعلمُوا جَوَاز الزحاف واطّراده وَظُهُور اسْتِعْمَاله وَأَن أَكثر الشّعْر مزاحف، وَمَا لَا زحاف فِيهِ قَلِيل نزر جدا؛ وَهَذَا الْبَيْت من الطَّوِيل والزحاف فِيهِ ذهَاب يَاء مفاعيلن ورده إِلَى مفاعلن، وَيُسمى هَذَا النَّوْع من الزحاف قبضا لذهاب خَامِس حُرُوف الْجُزْء، وَيُسمى الْجُزْء الَّذِي لحقه هَذَا الزحاف مَقْبُوضا، وَقد يسقطون نون مفاعيلن على معاقبة الْقَبْض فِيهِ وَهُوَ ذهَاب الْيَاء وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي السُّقُوط، وَيُسمى هَذَا الزحاف الْكَفّ لذهاب السَّابِع من حُرُوف جزئه، وَيُسمى الْجُزْء مكفوفًا. الْمجْلس التَّاسِع وَالسِّتُّونَ حَدِيث فِي الْخَطِيئَة أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ الْقَاضِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدِينِيُّ بِمَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا

تعليق الجريري على الحديث

أَحْمَد بْن يحيى، قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مِهْرَانَ الأَسَدِيُّ، قَالَ حَدثنَا أَبُو بكر ابْن عَيَّاشٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ زيادٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ عَنِ الْعُرْسِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي أَرْضٍ فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ كمن غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ رَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا. تَعْلِيق الْجريرِي على الحَدِيث قَالَ القَاضِي: قد ثَبت بِدَلِيل الْعقل والسمع أَن الراضي بِفعل المحسن شريك فِي إحسانه، والراضي بِفعل الْمُسِيء شريك فِي إساءته، من جِهَة الْمَدْح والذم، وَالْأَجْر والأثم. وَقد ذمّ الله تَعَالَى فِي كِتَابه من كَانَ من الْيَهُود فِي عصر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإضافته قتل أَنْبِيَائهمْ إِلَيْهِم، وَإِن كَانَ الْمُبَاشر لذَلِك من تقدم من آبَائِهِم لرضاهم بِهِ وموافقتهم إيَّاهُم فِي دينونتهم بِمَا ضلوا فِيهِ وَكَفرُوا بِفِعْلِهِ وعصوا بارتكابه. حسن سياسة ملك حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَن الْمَدَائِنِي قَالَ: بلغ بعض مُلُوك الطوائف حسن سياسة ملكٍ، قَالَ: فَكتب إِلَيْهِ يسْأَله أَن يفِيدهُ علم الَّذِي بلغ بِهِ ذَلِك، فَكتب إِلَيْهِ: لم أهزل فِي أَمر ولانهي، وَلَا وعدٍ وَلَا وعيدٍ، واستكفيت أهل الْكِفَايَة، وَأثبت على الْغناء لَا على الْهوى، وأودعت الْقُلُوب هَيْبَة لم يشنها مقت، وودا لم يشبه كذب، وعممت بالقوت ومنعت الْفضل. قَول لبَعض الْحُكَمَاء حَدثنَا أَبُو النَّصْر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحسن بْن رَاهْوَيْةِ الْكَاتِب قَالَ: بَلغنِي أَن بعض الْحُكَمَاء قَالَ: إِن الله تبَارك وَتَعَالَى جعل خَزَائِن نعْمَته عرضةً لمؤمليه، وَجعل مفايتحها صدق نيةٍ راجية. دفتر لِابْنِ دُرَيْد قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا أَنه قَرَأَ على دفترٍ لِابْنِ دُرَيْد بِخَطِّهِ: حسبي من خَزَائِن عطاياه مَفْتُوحَة لمؤمليه، وَمن جعل مفاتيحها صِحَة الطمع فِيهِ. قَالَ: وقرأت على هَذَا الدفتر أَيْضا: أفوض مَا تضيق بِهِ الصُّدُور ... إِلَى من لاتغالبه الْأُمُور محاورة بَين ابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَزْيَدٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الأَثْرَمُ عَنْ هِشَامِ بْنِ محمدٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَكْثَرَ غِشْيَانًا لِمُعَاوِيَةَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَوَفَدَ إِلَيْهِ مَرَّةً وَعِنْدَهُ وُفُودُ الْعَرَبِ فَأَقْعَدَهُ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: نشدتك الله يَا ابْن عباسٍ أَنْ لَوْ وَلَّيْتُمُونَا أَتَيْتُمْ إِلَيْنَا مَا أَتَيْنَا إِلَيْكُمْ مِنَ التَّرْحِيبِ وَالتَّقْرِيبِ وَعَطَائِكُمُ الْجَزِيلِ وَإِكْرَامِكُمْ عَنِ الْقَلِيلِ، وَصَبَرْتُمْ عَلَى مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْكُمْ؟ إِنِّي

رسالة من خالد القسري إلى أبان البجلي

لَا آتِي إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا إِلا صغر تموه: أُعْطِيكُم الْعَطِيَّةَ فِيهَا قَضَاءُ حُقُوقِكُمْ فَتَأْخُذُونَهَا مُتَكَارِهِينَ عَلَيْهَا، تَقُولُونَ: قَدْ نَقُصَ حَقُّنَا وَلَيْسَ هَذَا تَأْمِيلُنَا، فَأَيُّ أملٍ بَعْدَ أَلْفِ ألفٍ أُعْطِيهَا الرَّجُلَ مِنْكُمْ ثُمَّ أَكُونُ أَسَرَّ بِإِعْطَائِهَا مِنْهُ بِأَخْذِهَا؟ وَاللَّهِ لَقَدِ انْخَدَعْتُ لَكُمْ فِي مَالِي، وَذَلَلْتُ لَكُمْ فِي عِرْضِي، أَرَى انْخِدَاعِي تَكَرُّمًا، وَذُلِّي حِلْمًا، وَلَوْ وَلَّيْتُمُونَا رَضِينَا مِنْكُمْ بِالإِنْصَافِ ثُمَّ لَا نَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ، لِعِلْمِنَا بِحَالِنَا وَحَالِكُمْ، وَيَكُونُ أَبْغَضُ الأَمْوَالِ إِلَيْنَا أَحَبَّهَا إِلَيْكُمْ لأَنَّ أَبْغَضَهَا إِلَيْنَا أَحَبُّهَا إِلَيْكُم، قل يَا ابْن عباسٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ وُلِّينَا مِنْكُمْ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتُمْ مِنَّا اخْتَرْنَا الْمُوَاسَاةَ ثُمَّ لَمْ يَعَشِ الْحَيُّ بِشَتْمِ الْمَيِّتِ، وَلَمْ نَنْبُشِ الْمَيِّتَ بِعَدَاوَةِ الْحَيِّ، وَلأَعْطَيْنَا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَأَمَّا إِعْطَاؤُكُمُ الرَّجُلَ مِنَّا أَلْفَ أَلْفٍ فَلَسْتُمْ بِأَجْوَدَ مِنَّا أَكُفًّا، وَلا أَسْخَى مِنَّا أَنْفُسًا، وَلا أَصْوَنَ لأَعْرَاضِ الْمُرُوءَةِ وَأَهْدَافِ الْكَرَمِ؛ وَنَحْنُ وَاللَّهِ أَعْطَى فِي الْحَقِّ مِنْكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَعْطَى عَلَى التَّقْوَى مِنْكُمْ عَلَى الْهَوَى. فَأَمَّا رِضَاكُمْ مِنَّا بِالْكِفَافِ فَلَوْ رَضِيتُمْ بِهِ مِنَّا لَمْ نَرْضَ لأَنْفُسِنَا بِذَلِكَ والكفاف رضى من لَاحق لَهُ، فَلَوْ رَضِيتُمْ بِهِ مِنَّا الْيَوْمَ مَا قَتَلْتُمُونَا عَلَيْهِ أَمْسِ، فَلا تَسْتَعْجِلُونَا حَتَّى تَسْأَلُونَا، وَلا تَلْفِظُونَا حَتَّى تَذُوقُونَا. فَقَالَ الْفَضْلُ بْن الْعَبَّاس بْن عتبَة بْن أَبِي لهبٍ: وَقَالَ ابْنُ حربٍ قَوْلَةً أُمَوِيَّةً ... يُرِيدُ بِمَا قَدْ قَالَ تفتيش هَاشم أجب يَا ابْن عَبَّاسٍ تُرَاكُمْ لَوْ أَنَّكُمْ ... مَلَكْتُمْ رِقَابَ الأَقْرَبِينَ الأَكَارِمِ أَتَيْتُمْ إِلَيْنَا مَا أَتَيْنَا إِلَيْكُمْ ... مِنَ الْكَفِّ عَنْكُمْ وَاجْتِبَاءِ الدَّرَاهِمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَقَالا أُمْضِهِ ... وَلَمْ يَكُ عَنْ رَدِّ الْجَوَابِ بِنَائِمِ نَعَمْ لَوْ وَلَّيْنَاكُمْ عَدَلْنَا عَلَيْكُمْ ... وَلَمْ تَشْتَكُوا مِنَّا انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ وَلَمْ نَعْتَمِدْ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ غُمَّةً ... تُحْدِثُهَا الركْبَان أهل المواسم وَلم نُعْطِكُمْ إِلا الْحُقُوقَ الَّتِي لَكُمْ ... وَلَيْسَ الَّذِي يُعْطِي الْحُقُوقَ بِظَالِمِ وَمَا أَلَفُ ألفٍ تَسْتَمِيلُ ابْنَ جعفرٍ ... بهَا يَا ابْن حربٍ عِنْد حز الحلاقم فَأصْبح يَرْمِي مَنْ رَمَاكُمْ بِبُغْضِهِ ... عَدُوُّ الْمَعَادِي سَالِمًا لِلْمُسَالِمِ فَأَعْظِمْ بِمَا أَعْطَاكَ مِنْ نُصْحِ جَيْبِهِ ... وَمِنْ أَمْنِ غيبٍ لَيْسَ فِيهِ بِنَادِمِ رِسَالَة من خَالِد الْقَسرِي إِلَى أبان البَجلِيّ حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر أَحْمَد بْن عبيد بْن نَاصح قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمرَان عَن أَبِيه قَالَ: كتب خَالِد بْن عَبْد اللَّه الْقَسرِي إِلَى أبان بْن الْوَلِيد البَجلِيّ وَكَانَ قد ولاه الْمُبَارك: أما بعد فَإِن بالرعية من الْحَاجة إِلَى ولاتها مثل الَّذِي بالولاة من الْحَاجة إِلَى رعيتها، وَإِنَّمَا هم من الْوَالِي بِمَنْزِلَة جسده من رَأسه، وَهُوَ مِنْهُم بِمَنْزِلَة رَأسه من جسده فَأحْسن إِلَى رعيتك بالرفق بهم، وَإِلَى نَفسك بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، وَلَا يكونُونَ هم إِلَى صَلَاحهمْ أسْرع مِنْك إِلَيْهِ، وَلَا عَن فسادهم أدفَع مِنْك عَنْهُ، وَلَا يحملك فضل الْقُدْرَة على

أبو الأسود يوصي حارثة أن يستغل ولايته

شدَّة السطوة بِمن قل ذَنبه ورجوت مُرَاجعَته، وَلَا تطلب مِنْهُم إِلَّا مثل الَّذِي تبذل لَهُم، وَاتَّقِ الله تَعَالَى فِي الْعدْل عَلَيْهِم وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم، فَإِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون. اصرم فِيمَا علمت، وأكتب إِلَيْنَا فِيمَا جهلت يأتك أمرنَا فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله، وَالسَّلَام. أَبُو الْأسود يُوصي حَارِثَة أَن يستغل ولَايَته حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغيرَة بْن مُحَمَّد المهلبي قَالَ حَدَّثَنِي الْعُتْبِي قَالَ: كَانَ حَارِثَة بْن بدر الغداني صديقا لزياد بْن أَبِيه وَكَانَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي مؤاخيا لحارثة بْن بدرٍ، فقلد زِيَاد حَارِثَة بْن بدر سرق، فَكتب إِلَيْهِ أَبُو الْأسود: أحار بْن بدرٍ قد وليت إِمَارَة ... فَكُن جرذا فِيهَا تعق وتسرق وباه تميمًا بالغنى إِن للغنى ... لِسَانا بِهِ الْمَرْء الهيوبة ينْطق وَلَا تحقرن يَا حَار شَيْئا أصبته ... فحظك من ملك العراقين سرق فَإِنِّي رَأَيْت النَّاس إِمَّا مكذب ... يَقُول بِمَا يهوى وَإِمَّا مُصدق يَقُولُونَ أقوالا بِظَنّ وشبهةٍ ... فَإِن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا فَكتب إِلَيْهِ حَارِثَة بْن بدرٍ: لم يعم علينا الرَّأْي يَا أَبَا الْأسود، وَختم كِتَابه بِهَذَا الشّعْر: جَزَاك مليك النَّاس خير جَزَائِهِ ... فقد قلت مَعْرُوفا وأوصيت كَافِيا أمرت بحزمٍ لَو أمرت بِغَيْرِهِ ... لألفيتني فِيهِ لأمرك عَاصِيا ستلقى امْرَءًا يصفيك بالود مثله ... ويوليك حفظ الْغَيْب إِن كنت نَائِبا وَأقرب مَا عِنْدِي الْمُوَاسَاة مسمحًا ... إِذا لم يجد قوم صديقا مكافيًا تَفْسِير التَّرْخِيم وَشرح السماحة قَالَ القَاضِي: رخم أَبُو الْأسود حَارِثَة فِي شعره، فَحذف الْهَاء والثاء، وَبَعض النَّحْوِيين لَا يُجِيز هَذَا، وَيَقُول يَا حَارِث فِي ترخيم حَارِثَة فتحذف الْهَاء خَاصَّة فَيَقُول: أحارث وأحارث على لغتين للْعَرَب فِيهِ، أفصحهما إِقْرَار حَرَكَة الْحَرْف فِي التَّرْخِيم على مَا كَانَت عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَجْه الْمُخْتَار، وَالْأُخْرَى صمه على حكم النداء الْمُفْرد وَالْقَضَاء على مَا بَقِي بعد حذف الطّرف للترخيم بِأَنَّهُ اسْم قد قَامَ بِنَفسِهِ وَكفى من غَيره، وَلَا نجيز هَذَا التَّرْخِيم على هذَيْن الوجيهن إِلَّا فِي ترخيم حَارِث، وَقد احْتج بِشعر أَبِي الْأسود وَغَيره فِي إجَازَة هَذَا التَّرْخِيم من أجَازه. وَقَوله: وَأقرب مَا عِنْدِي الْمُوَاسَاة مسمحًا يُقَال من السماحة والسماح، سمعح فلَان بِمَالِه ومعروفه وسامح وتسمح وتسامح، وَيُقَال أسمح فلَان فَهُوَ مسمح إِذا انْقَادَ وأصحب وَلِأَن جَانِبه وقارب غير مستصعب، قَالَ تَمِيم بْن أَبِي بْن مُقْبل الْعجْلَاني: هَل الْقلب عَن دهماء سالٍ فمسمح ... فتاركه مِنْهَا الخيال المبرح

رواية أخرى عن

رِوَايَة أُخْرَى عَن تَوْلِيَة حَارِثَة وَوَصِيَّة أَبِي الْأسود حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْميُّ عَن أَبِيه قَالَ حَدَّثَنَا خَالِد بْن سعيدٍ عَن أَبِيه قَالَ: لما ولي زِيَاد حَارِثَة بْن بدرٍ الغداني سرق خرج مَعَه المشيعون، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْأسود الدؤَلِي مسيرًا إِلَيْهِ: أحار بْن بدرٍ وَذكر الشّعْر وَجَوَاب حَارِثَة عَنْهُ، والألفاظ فِيهِ وَفِي خبر ابْن الْأَنْبَارِي متقاربه الْمعَانِي، وَفِي هَذَا الْخَبَر زِيَادَة بَيت يَلِي قَول أَبِي الْأسود: يَقُولُونَ أقوالا بظنٍ وشبهةٍ. وَهُوَ: وَلَا تعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وَمَا كَانَ من يدعى إِلَى الرزق يرْزق سَمَّاهُ مَعْرُوفا وكناه أَبَا الْحسن حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الغَلابِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة قَالَ: سمى رجل ولدا لَهُ مَعْرُوفا وكناه بِأبي الْحسن، فَلَمَّا شب قَالَ لَهُ: يَا بني إِنَّمَا سميتك مَعْرُوفا وكنيتك بِأبي الْحسن لأحبب إِلَيْك مَا سميتك بِهِ وكنيتك بِهِ. قَالَ الصولي: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث وكيعًا فَقَالَ لي: يُقَال إِن قَائِل هَذَا أَبُو مَعْرُوف الْكَرْخِي لمعروف. نباذة عَن مَعْرُوف الْكَرْخِي قَالَ القَاضِي: العروف من كنية معروفٍ الْكَرْخِي أَبُو مَحْفُوظ، وَاسم أَبِيه الفيرزان، وَكَانَ من المعروفين بالصلاح فِي دينه مَشْهُورا بِالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَة والورع والزهادة، فَكَانَ النَّاس فِي زَمَانه وَبعد مضيه لسبيله يتحدثون أَنه مستجاب الدعْوَة، وَله أَخْبَار مستحسنة جمعهَا النَّاس تشْتَمل على أخلاقه وَسيرَته، وَقد رويت لنا عَنْهُ أَخْبَار مُسندَة وموقوفة. وَحدثت عَن عَبد اللَّه بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن حَنْبَل أَنه قَالَ، قلت لأبي: هَل كَانَ مَعَ مَعْرُوف الْكَرْخِي شَيْء من الْعلم؟ فَقَالَ لي: يَا بني كَانَ مَعَه راس الْعلم، خشيَة الله تبَارك وَتَعَالَى. قَالَ القَاضِي: ولعمري إِن خشيَة الله تَعَالَى وتقواه رَأس الْعلم. وَإِنَّمَا يكْتَسب الْعلم ليؤدي إِلَى خشيَة الله تَعَالَى ومراقبته، وَالسَّعْي إِلَى مَا يعود بثوابه والأمن من عِقَابه، وَقد قَالَ مُجَاهِد: إِنَّمَا الْفَقِيه من يخْشَى الله عز وَجل لِأَنَّهُ قَالَ عز ذكره: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " فاطر: 28 وَقد كَانَ نَبينَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بربه، وأفقههم فِي دينه، وأخشاهم لَهُ، وأحفظهم لحدوده. وَقد جَاءَ فِي الْأَثر: إِن رَأس الْحِكْمَة خشيَة الله تَعَالَى وَإِن حب الدُّنْيَا رَأس كل خَطِيئَة. نسْأَل الله الْكَرِيم إصلاحنا لَهُ حَتَّى نؤثر رِضَاهُ على هوانا، وَلَا نشتغل عَن الاستعداد لمعادنا إِلَيْهِ بغرور دُنْيَانَا، إِنَّه سميع الدُّعَاء لطيف لما يَشَاء. حَمْدَوَيْه صَاحب الزَّنَادِقَة والطويل الزنديق حَدثنَا مُحَمَّد بْن عبد الْوَاحِد أَبُو عمر الزَّاهِد قَالَ أَخْبرنِي أَبُو بكر الْمَلْطِي قَالَ أَخْبرنِي

من رأى حَمْدَوَيْه الزنديق النَّائِب، تائب الزَّنَادِقَة، قَالَ: فَأَخْبرنِي أَن الْخَلِيفَة رأى فِي مَنَامه كَأَن الْكَعْبَة قد مَالَتْ، وَكَأَنَّهُ أَقَامَهَا هُوَ وَآخر يعرف صورته إِذا رَآهُ فِي الْيَقَظَة، فاستوت الْكَعْبَة، قَالَ: فطلبوني فَقيل لي يَا حَمْدَوَيْه مَا نشك فِيك أَنَّك أَنْت صَاحب الْخَلِيفَة، قَالَ: فأدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: نعم هَذَا هُوَ، قَالَ: فَخلع عَليّ وحملني، ثُمَّ أَمر صَاحب الشرطة أَن يقبل مني كل شَيْء أقوله، وَقَالَ لَهُ: مر أَصْحَاب الأرباع والأعوان بِالطَّاعَةِ لَهُ، قَالَ: نعم، ثُمَّ قَالَ لي أنظر كل زنديق فارفعه إِلَيّ، قَالَ: وَأمر لي بسجن حَتَّى أحبس فِيهِ الزَّنَادِقَة، فَقَالَ لي ابْن مَسْرُوق الصُّوفِي: هِيَ الَّتِي يُقَال لَهَا دَار مُفْلِح قَالَ حَمْدَوَيْه: فالتقطت مِنْهُم جمَاعَة، فَمن أقرّ وَتَابَ خلاه السُّلْطَان وَمن جحد حَبسه، قَالَ، فمررت ذَات يومٍ على مَسْجِد الطَّوِيل وَهُوَ يَقُول فِي أَذَانه: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، قَالَ حَمْدَوَيْه: فَقلت زنديق وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، قَالَ: فَبعثت إِلَى صَاحب الرّبع فَركب، فَقلت: اقبض على ذَا، فرفعه إِلَى السُّلْطَان، قَالَ: وَكَانَ مقرئا قد علم ألوفا من النَّاس، قَالَ: فتسامع أهل الكرخ، قَالَ: فَاجْتمعُوا وهم ثَلَاثُونَ ألفا فَدَخَلُوا على السُّلْطَان الْأَعْظَم فَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ حَمْدَوَيْه نَبيا وَلَا صحابياً وَلَا تابيعاً حَتَّى يصدق فِي كل شيءٍ يَقُوله، وَنحن وُجُوه الرَّعْي نحلف للسُّلْطَان بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لقد أبطل حَمْدَوَيْه، قَالَ: وابتدأ قوم فَحَلَفُوا بِالطَّلَاق وأيمان الْبيعَة أَن حَمْدَوَيْه كذب على أستاذنا، قَالَ: وَخَرجُوا وَقد وعدهم أَن يتَوَقَّف فِي قَتله ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن خرج حَمْدَوَيْه بعذرٍ بَين قتل حَمْدَوَيْه وخلى الْمقري، قَالَ: فَخَلا بِي من بعد مَا خرج النَّاس فَقَالَ لي: يَا حَمْدَوَيْه، قد بلغك الْخَبَر وَرَأَيْت الْأمة قد اقبلت إِلَيّ وَزَعَمُوا أَنه أستاذهم وَقد حلفوا بِالطَّلَاق، وَقد أجلته ثَلَاثَة أَيَّام فَإِذا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع فإمَّا قتلته وَإِمَّا أَقْتلك، فَقلت: قد رضيت بِاللَّه رَبًّا وبمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبيا وَقد رضيت بِاللَّه كَافِيا ومعينا وَأَنا أَقمت مَعَك الْكَعْبَة لاهم، قَالَ: وَخرجت فأخذني الْمُقِيم المقعد وَلَا أجد أحدا إِلَّا وَهُوَ يثني عَلَيْهِ بالصيام وَالْقِيَام وَالْأَذَان والإمامة، قَالَ: فَدخلت فِي الْيَوْم الثَّالِث إِلَى سجني، قَالَ: وَكَانَ من الزَّنَادِقَة فِي حبسي غُلَام عَاقل نظيف، قَالَ فَقَالَ لي: مَالِي أَرَاك مهتما؟ قَالَ قلت: دَعْنِي لَيْسَ هَذِه السَّاعَة من ساعاتك، قَالَ: لَعَلَّ فرجك عِنْدِي، قَالَ قلت لَهُ: وَيحك الطَّوِيل المقرى، قَالَ قل لي: وَقعت عَلَيْهِ، قَالَ قلت: وَيحك فرج عني، قَالَ فَقَالَ لي: فَفرج عني حَتَّى أفرج عَنْك، قَالَ فَقلت: وَمَا صدقت عَلَيْك فِيهِ؟ قَالَ فَقَالَ لي: وَالله مَا كذبت عَليّ وَلَا على غَيْرِي، قَالَ قلت: تب حَتَّى أخليك، قَالَ فَقَالَ لي: قد تبت، قَالَ فَقلت: فَحَدثني بحدثني بِحَدِيث هَذَا الرجل وَأَنا أخرجك معي السَّاعَة من الْحَبْس لِأَنِّي مُطَاع عِنْد السُّلْطَان، قَالَ فَقَالَ لي: هَذَا أستاذي الْكَبِير فِي الزندقة، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا زنديق دَاعِيَة إِلَّا من قبل هَذَا الَّذِي يُقَال لَهُ الطَّوِيل، قَالَ قلت: صدقت، وَلَكِن السُّلْطَان لَا يجعلك أَنْت حجَّة على رجل لَهُ

ثَلَاثُونَ ألف نَاصِر، قَالَ فَقَالَ لي: أعرض عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء، فَإنَّك لَو قطعت الزنديق مَا فعلهَا، قَالَ قلت: مَا هِيَ؟ قَالَ: فِي إصبعه خَاتم يخْتم بهَا، عَلَيْهِ مَكْتُوب: أَنا زنديق فَإِذا وافى خَاتمه بعض الزَّنَادِقَة قضى حَاجَة الرجل وَلَو كَانَ فِيهَا فَقده وتلفه، قَالَ قلت: فَإِن خرج مِنْهَا؟ قَالَ فَقَالَ لي: ادْفَعْ إِلَيْهِ ديكًا نبطيًا قلطيًا أصفر المنقار دَقِيق السَّاقَيْن أبح الصَّوْت حَتَّى يذبحه، قَالَ قلت: فَإِن خرج مِنْهَا؟ قَالَ: بقيت وَاحِدَة لَا يَفْعَلهَا زنديق أبدا، فَإِن فعلهَا فقد سلم وَهَلَكت أَنْت، وَإِن لم يَفْعَلهَا وَلَيْسَ يَفْعَلهَا أبدا فقد نجوت أَنْت وَهلك هُوَ، وَأعلم أَنِّي قد آمَنت بِاللَّه وصدقت النَّبِي وَالْمُرْسلِينَ، وَآمَنت بِكُل كتاب نزل وكل نبيٍ مُرْسل، وَأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتم النَّبِيين وقائد الغر المحجلين إِلَى جنَّات النَّعيم، من صدقه نجا، وَمن كذبه هلك؛ قَالَ حَمْدَوَيْه: فَأخذت يَده وأخرجته حَتَّى أديته إِلَى منزله، ووهبت لَهُ دَنَانِير وَقلت لَهُ: أَنا آتِيك بالْخبر فِي غدٍ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فهات الْعَلامَة الثَّالِثَة، قَالَ: فَأخْرج إِلَيّ من جيبه خرقَة حريرٍ فِيهَا صُورَة سمجة جدا: حاجباها غليظان وأنفها مفلطح وفمها كَأَنَّهُ مشافر، قَالَ لي: قل لَهُ فليبزق على هَذِه الصُّورَة، قَالَ حَمْدَوَيْه فَقلت: وَمَا هَذِه الصُّورَة؟ قَالَ: هَذِه صُورَة ماني، قَالَ حَمْدَوَيْه: فَبت بليلةٍ كليلة الحبلى إِذا أَخذهَا الطلق، قَالَ: ثُمَّ غَدَوْت إِلَى السُّلْطَان، قَالَ: فَجَلَسَ على سَرِيره سَرِير الْخلَافَة قَالَ: وَغدا الكرخيون فَامْتَلَأَ الصحن، ثُمَّ قلت: يَا سَيِّدي إِن رَأَيْت أَن تحضر خصمي، قَالَ: فقوي قلب السُّلْطَان لقُوَّة كَلَامي، قَالَ فَقَالَ: الطَّوِيل الطَّوِيل، قَالَ: فَأتي بِهِ، قَالَ: فتشرف النَّاس، وَحَضَرت الْقُضَاة والعدول والمحدثون وَالْفُقَهَاء، قَالَ فَقَالَ لي الطَّوِيل: هَات مَا عنْدك يَا كَذَّاب، قَالَ قلت خاتمك، قَالَ: هَذَا خَاتمِي، قَالَ فَقلت لبَعض الْعُدُول: اقْرَأ مَا عَلَيْهِ، فَقَرَأَ ذَلِك أَنا ونديق، قَالَ فَقَالَ الطَّوِيل: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الْعدْل أبكم من هَذَا الْكذَّاب، وَأعلم أَن لي صديقا فِي ذَلِك الْجَانِب يكني أَبَا زيد فنقشت على خَاتمِي أَبَا زيد ثق وجعلتها عَلامَة بيني وَبَينه لقَضَاء حوائجي، وَهُوَ باقٍ، قَالَ: فَنظر إِلَى الْخَلِيفَة فَقلت: عَلامَة أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فأخرجت الديك وَقلت: فليذبح هَذَا، قَالَ فَقَالَ الْخَلِيفَة لَهُ: اذْبَحْ هَذَا، قَالَ فَقَالَ لَهُ الطَّوِيل: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذبحت شَيْئا قطّ بيَدي، وَمَا أمتنع من ذبحه إِلَّا من ارتعاشٍ فِي يَدي، قَالَ فَنظر إِلَى الْخَلِيفَة فَقلت: عَلامَة أُخْرَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فأخرجت الديك وَقلت: فليذبح هَذَا، قَالَ فَقَالَ الْخَلِيفَة لَهُ: اذْبَحْ هَذَا، قَالَ فَقَالَ لَهُ الطَّوِيل: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذبحت شَيْئا قطّ بيَدي، وَمَا أمتنع من ذبحه إِلَّا من ارتعاشٍ فِي يَدي، قَالَ فَنظر إِلَيّ الْخَلِيفَة وَقَالَ: يُمكن مَا قَالَ، فهات غَيرهَا، قَالَ: فأخرجت الصُّورَة قَالَ فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ: مره فليبزق على هَذِه الصُّورَة، قَالَ فَقَالَ لَهُ: أبصق على هَذِه الصُّورَة، قَالَ فَقَالَ: هَاتِهَا، قَالَ: فدفعتها إِلَيْهِ، قَالَ فَقَالَ: بِأبي هَذِه الصُّورَة، وَأمي هَذِه الصُّورَة، ثمَّ قبلهَا وَسجد لَهَا ووضعها على عَيْنَيْهِ وَبكى، قَالَ حَمْدَوَيْه: فَلَو طَار إِنْسَان فَرحا لطرت أَنا تِلْكَ السَّاعَة، قَالَ فَدَعَا الْخَلِيفَة بِصَاحِب الشرطة فَقَالَ: خُذْهُ وَاضْرِبْ عُنُقه فِي بَاب الطاق فِي رحبة الجسر، قَالَ: وَقَامَ السُّلْطَان، وَانْصَرف الْقَوْم والعامة تصيح بهم: رحم الله مُعَاوِيَة، رحم الله مُعَاوِيَة.

فضل في تاريخ الزندقة

حَدثنَا أَبُو عَمْرو قَالَ أَخْبرنِي أَبُو بكر الْمَلْطِي قَالَ أَخْبرنِي أَبُو عَبد اللَّه بْن أَبِي عَوْف الْبزورِي قَالَ أَخْبرنِي رُوَيْم الْمقري قَالَ: كنت ذَات يَوْم سلمت من صَلَاتي وَقَعَدت لآخذ على بعض غلماني، قَالَ: فجاءتن جاريتي فَقَالَت: يَا مولَايَ إِن أردْت أَن تنظر إِلَى الطَّوِيل الْمقري فَإِن النَّاس قد انجفلوا وَقَالُوا إِنَّه تضرب عُنُقه السَّاعَة فِي بَاب الطاق فِي رحبة الجسر لِأَنَّهُ قد صحت زندقته، قَالَ فَقلت لغلامي: أَسْرج الْحمار، قَالَ: فركبت، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي النَّاس قَالُوا لصَاحب الشرطة هَذَا أستاذ الْقُرَّاء، قَالَ: فأوسعوا لي قَالَ: فَجئْت فَرَأَيْت رَأسه قد شدّ وَقد مد رقبته، قَالَ فَقلت للسياف: أَصْبِر لي حَبَّة حَتَّى ُأكَلِّمهُ، قَالَ فصاح بِهِ السُّلْطَان: اقْضِ حَاجَة الشَّيْخ، قَالَ: فتقدمت إِلَى الطَّوِيل فَقلت: يَا طَوِيل، إِنَّمَا كَانَ بلغنَا عَنْك أَنَّك تَشْتُم أَبَا بكرٍ وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَخرجت زنديقًا؟! قَالَ فَقَالَ لي: يَا مبلغم أَي شَيْء كَانَ بَين وَبَين أَبِي بكر وَعمر؟ إِنَّمَا أردْت صَاحبهمَا وَإِنِّي لم أجد من يُعِيننِي على صَاحبهمَا، قَالَ فَقلت للسياف: اضْرِب رَقَبَة عَدو الله وعدو رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فَرمى بِرَأْسِهِ وانصرفت وَكبر النَّاس. فضل فِي تَارِيخ الزندقة قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قد كَانَت الزندقة فَشَتْ فِي عهد الْمهْدي، وأنتشر الدائنون بهَا، فوفقه الله تَعَالَى للفحص عَن أَهلهَا وَالسَّعْي فِي محوها وتعفية آثارها، وعني بِالنّظرِ فِي هَذَا، وَقتل جمَاعَة مِنْهُم وَأسلم آخَرُونَ خوفًا من الفناء وَآخَرُونَ لما أُقِيمَت حجَّة الْإِسْلَام ووضحت أَعْلَامه لَهُم، وَنصب للتنقير عَنْهُم وَالْجد فِي طَلَبهمْ حَمْدَوَيْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي هَذَا الْخَبَر. وَكَانَ مِنْهُم ذَوُو عددٍ يحامون عَن جهالتهم يَذبُّونَ عَن ضلالتهم، وَجَرت بَين بعض من بَقِي مِنْهُم مناظرات وَبَين بعض متكلمي أهل الْإِسْلَام بِحَضْرَة الرشيد والمأمون وَكَانَ فِي من يُجَادِل مِنْهُم يَزْدَان بخت ويزدا نفروخ وَغَيرهمَا، وَلَهُم أَخْبَار عدَّة، ولعلنا نأتي بِمَا يتَّفق خُرُوجه لنا من أخبارهم وأخبار ماني اللعين صَاحبهمْ الضال المضل لَهُم. بعض أَخْبَار الخناقين وَمن عَجِيب مَا بلغنَا من أخبارهم مَا حدّثنَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس الْهَرَوِيّ أَحْمَد بْن مُحَمَّد قَالَ أَخْبرنِي سهل بْن صَالح الْأَصْبَهَانِيّ الْكَاتِب قَالَ: أَخذ النخشبي بِالْبَصْرَةِ رجلا يخنق النَّاس وَلَا يسلبهم ثِيَابهمْ فَقَالَ لَهُ: وَيلك وَلم تفعل هَذَا؟ إِذا كنت لَا ترغب فِي ثِيَاب الرجل وَمَاله فَلم تقتله؟ فَقَالَ لَهُ: وَيلك أما أول ذَلِك فَإِنِّي الْحق الْمَخْلُوق بالخالق، وَالثَّانيَِة أَن هَذِه الْأَرْوَاح محتبسة فِي هَذِه الأجساد فأخلصها تلْحق بالهيولي والصفا، قَالَ: فَلم لَا تخلص نَفسك أَنْت؟ قَالَ: أخْلص مائَة نفسٍ أحب إِلَيّ من أَن أخْلص نفسا وَاحِدَة، على أَن نَفسِي لَا بُد لَهَا من مخلص، وَنَفْسِي نفس طَاهِرَة وأنفس هَؤُلَاءِ قذرة، وَأَيْضًا يخف عَنَّا السّفل وَلَا يزاحمونا فِي الْأُمُور، ويطيب الْهَوَاء وتتسع الديار وَيَنْقَطِع الْغُبَار. وَبعد فَكل من كَانَ من أهل الْخَيْر ألحقته بِالْخَيرِ الَّذِي لَهُ فِي الْآخِرَة، وَأَيْضًا

أبو شاكر الديصاني

إِن كَانَ الْإِنْسَان فِي هَذِه الدُّنْيَا فِي ضيق أرحته مِنْهُ، وَإِن كَانَ فَاسد الكيموس أرحته، وَإِن كَانَ سفلَة أرحت الْكِرَام من معاشرته، فَأمر بِضَرْب عُنُقه. قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: فِي هَذَا الْخَبَر السّفل وسفلة على كَلَام الْعَامَّة، وَالصَّوَاب: فلَان من السفلة. أَبُو شَاكر الديصاني وَقد حُكيَ لنا عَن أَبِي شَاكر الديصاني والديصانية ضرب من الثنوية أَنه اشْترى كارة دَقِيق وَحملهَا على رَأس رجل شيخ، فَلَمَّا صَار إِلَى دَاره سَأَلَ الْحمال عَن سنه وَرَأى ضعف جِسْمه، فَأخْبرهُ بسنٍ عاليةٍ، وَسَأَلَهُ عَن عِيَاله ومعيشته فَذكر لَهُ سوء حَاله وَكَثْرَة عِيَاله، فَقَالَ: لقد رحمتك ورققت لَك، وَأُرِيد أَن أذبحك وأميط الشَّقَاء عَنْك، فأضجعه فذبحه. وَنحن نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان ونسأله أَن يوفقنا لما وفْق لَهُ أولياءه من أهل الْإِيمَان. وَقد كَانَ من الْمهْدي مَا يجازيه الله تَعَالَى بِحسن نِيَّته فِيهِ ويجزل مثوبته عَلَيْهِ. الْمجْلس السبعون سُفْيَان يُدَلس فِي الحَدِيث أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مخلدٍ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حبيبٍ أَبُو رِفَاعَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبَيِّتُ مَالا وَلا يُقَيِّلُهُ. قَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا محمدٍ سَمَاعًا مِنْ عَمْرٍو؟ قَالَ: ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمَاعًا مِنَ ابْنِ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: وَيْحَكَ لِمَ تُفْسِدُهُ؟ قَالَ: سَمَاعًا من انب جُرَيْجٍ؛ قَالَ: أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَمَاعًا مِنْ أَبِي عَاصِمٍ؟ قَالَ: وَيْحَكَ لِمَ أَفْسَدْتَهُ؟ قَالَ: سَمَاعًا مِنْ أَبِي عَاصِمٍ؟ قَالَ: حَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَحَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ نَاجِيَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هَاشِمٍ يَقُولُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قُلْتُ لَهُ: سَمَاعًا مِنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ؟ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تُفْسِدْهُ، حَتَّى كَرَّرْتَ عَلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: وَهَذَا مِمَّا دلسه سُفْيَان بْن عُيَيْنَة. وَقد ذكرنَا فِي بعض مَا تقدم من مجالسنا هَذِه بعض مَا وَقع إِلَيْنَا فِيهِ من الْأَخْبَار تَدْلِيس، وَذكرنَا أَن خبر المدلس مَقْبُول غير مردودٍ إِذا كَانَ عدلا وَلم يكن فِي مَا يخبر بِهِ مَا يُوجب توهِينه، وَأَن الشَّافِعِي وَمن وَافقه كَانُوا لَا يرَوْنَ خبر المدلس حجَّة إِلَّا أَن يوقل حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا أَوْ سَمِعْتُ؛ وَقد حَدَّثَنَا اللَّيْث بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْث المَرْوَزِيّ قَالَ سَمِعت عبد الرَّزَّاق بْن مُحَمَّد الْمعدل الْفَارِسِي قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن زيد الطرسوسي يَقُول، سَمِعت أَبَا حَفْص الفلاس

أبو النشناش النهشلي

يَقُول، سَمِعت ابْن عُيَيْنَة يَقُول: نخطى ونصحف وندلس وَلَا نكذب. أَبُو النشناش النَّهْشَلِي حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ: كَانَ أَبُو النشناش النَّهْشَلِي من ولد مخربة بْن أبير بْن نهشل وَأم أَبِي جهل والْحَارث ابْني هِشَام أَسمَاء بنت مخربة وَكَانَ أَبُو النشناش يُصِيب الطَّرِيق، فَطلب فخاف وَأَنْشَأَ يَقُول: وسائلةٍ أَيْن ارتحالي وسائلٍ ... وَمن يسْأَل الصعلوك أَيْن مذاهبه ودويةٍ تيهاء يخْشَى بهَا الردى ... سرت بِأبي النشناش فِيهَا ركائبه ليدرك ثأرًا أَو ليكسب مغنمًا ... جزيلا وَهَذَا الدَّهْر جم عجائبه إِذا الْمَرْء لم يسرح سوامًا وَلم يرح ... سواما وَلم تعطف عَلَيْهِ أَقَاربه فللموت خير للفتى من قعوده ... عديمًا وَمن مولى تدب عقاربه وَلم أر مثل الْفقر ضاجعه الْفَتى ... وَلَا كسواد اللَّيْل أخفق صَاحبه فمت معدمًا أَو عش كَرِيمًا فإنني ... أرى الْمَوْت لَا ينجو من الْمَوْت هاربه ودع عَنْك مولى السوء والدهر إِنَّه ... ستكفيه أَيَّام لَهُ ونوائبه تلقى عدوا مرّة فَيردهُ ... إِلَيْك وتلقاه وَقد لَان جَانِبه فَأَنْشد عبد الْملك هَذِه القصيدة فَلَمَّا سمع قَوْله: وَلَا كسواد اللَّيْل أخفق صَاحبه قَالَ: لص وَرب الْكَعْبَة، وَأمر بِطَلَبِهِ فَطلب فأعجز. شرح لبَعض مَا جَاءَ فِي الأبيات قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَوْله يسرح سواما يَعْنِي الغدو بالماشية إِلَى المسرح إِلَى الرَّعْي. وَلم يرح يَعْنِي الرواح إِذا أراحت من المرعى قَالَ الله تَعَالَى وَذكر إنعامه على خلقه بِمَا سَخَّرَهُ لَهُم من الْأَنْعَام وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ النَّحْل: 6 وَقَوله: فإنني أرى الْمَوْت لَا ينجو من الْمَوْت هاربه فَأتى بِالْمَوْتِ ثَانِيًا بالإظهار فِي الْموضع الَّذِي بَابه الْإِضْمَار لتقدم اسْمه ظَاهرا، لإِقَامَة وزن الشّعْر، وَلَو أَتَى بِهِ فِي منثور الْكَلَام لَكَانَ أظهر، وَنَحْو هَذَا أَن تَقول: فإنني أرى الْمَوْت لَا ينجو مِنْهُ هاربه، وَقد أَتَى مثل هَذَا كثير فِي الشّعْر، من ذَلِك قَول الشَّاعِر: لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء ... نغص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا وَقَالَ آخر: إِذا الْوَحْش ضم الْوَحْش فِي ظللاتها ... سواقط من حرٍ وَقد كَانَ أظهرا وَقد قَالَ الله تَعَالَى ذكره " وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ " النُّور: 42 فَحَمله قوم على أَنه جَاءَ على هَذَا لِأَن الْإِظْهَار فِيهِ والإضمار وَاحِد، وَلَيْسَ الْأَمر على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَتَى الْإِظْهَار هَاهُنَا لتعظيم الْقِصَّة، وَلما فِي إِعَادَة ذكر

المعرفة تنفع عند الكلب العقور

الْمَوْت بِالِاسْمِ الظَّاهِر من التخويف والحض على الِاعْتِبَار والمراعاة والإذكار، وَقد قَالَ الله جلّ وَعز فِي مَوضِع آخر: " وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ " هود: 123 فَأَعَادَ على الأسم الظَّاهِر اسْما مضمرًا على أصل الْبَاب وَظَاهره؛ وَمن قَالَ لقِيت زيدا فأكرمت زيدا لم يقل لقِيت زيدا فأكرمت أَبَا عَبد اللَّه، وَهِي كنية زيد، لِأَنَّهُ مُشكل لَا دلَالَة لَهُ فِيهِ تَنْفِي اللّبْس عَنْهُ. الْمعرفَة تَنْفَع عِنْد الْكَلْب الْعَقُور حَدَّثَنَا يزْدَاد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزْدَادَ الْمَرْوَزِيُّ الْكَاتِبُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِتِينَةَ قَالَ حَدَّثَنِي التَّوَّزِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيْيَنَةَ قَالَ: عَرَضَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بِالْكُوفَةِ فَوَجَدَهُمْ أَرْبَعَةَ آلافٍ، فَمَرَّ بِهِ شَابٌّ مِنَ الْجُنْدِ فَقَالَ: يَا غُلامُ زِدْ هَذَا فِي عَطَائِهِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقَامَ شَابٌّ كَانَ إِلَى جَانِبِهِ فَقَالَ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ هَذَا ابْنُ عَمِّي لَحًّا لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ فَضِيلَةٌ فِي نسبٍ وَلا نجدةٍ فَأَلْحِقْنِي بِهِ، قَالَ: لَا، قَالَ فَمُرْ مَنْ يُحِطُّ مِنْ عَطَائِي لِيَظُنَّ مَنْ حَضَرَ أَنَّ بِكَ عَلَيَّ مَوْجِدَةً، قَالَ: لَا، إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وَكَانَ صَدِيقًا لِي وَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ تَنْفَعُ عِنْدَ الْجمل الصؤول وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَكَيْفَ بِالرَّجُلِ ذِي الْمُرُوءَة والحسب؟ الرّبيع بن خثيم وَصديقه العابد حَدثنَا عَليّ بن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يحيى السُّوسِي قَالَ حَدَّثَنَا عَليّ بْن عَاصِم عَن أَبِي الْأَصْبَغ قَالَ: كَانَ رجل من هَمدَان فِي الْكُوفَة يذكر بعبادةٍ، فَلَزِمَ بَيته وَترك النَّاس، وَكَانَ لَا يخرج من بَيته إِلَّا لصلاةٍ مَكْتُوبَة أَو حقٍ يلْزمه لَا يجد مِنْهُ بدا، وَكَانَ صديقا للربيع بن خثيم، وَالَّذِي بَينهمَا حسن، لَا يأتيان أحدا إِلَّا أَحدهمَا لصَاحبه، قَالَ: وَكَانَ الْهَمدَانِي لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا قليلاًن فَنَامَ سَاعَته الَّتِي كَانَ ينَام فِيهَا، فَأَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامه فمغثه شَدِيدا وَقَالَ لَهُ: إيت الرّبيع بن خثيم فَقل لَهُ: إِنَّك من أهل النَّار، ثُمَّ تنحى عَنْهُ فانتبه الْهَمدَانِي فتعاظمه ذَلِك وَقَالَ: الرّبيع بْن خثيم؟! قَالَ: فَلم يَأْته وَأَبْطَأ عَنْهُ، قَالَ ثُمَّ أَتَاهُ فِي اللَّيْلَة الْأُخْرَى وَهُوَ نَائِم فمغثه مغثًا شَدِيدا فَقَالَ: ألم أقل لَك أَن تَأتي الرّبيع بْن خثيم تَقول لَهُ إِنَّك من أهل النَّار؟ لَئِن لم تفعل لَأَفْعَلَنَّ بك وَلَأَفْعَلَن بك وَلَأَفْعَلَن، ثُمَّ تنحي عَنْهُ فانتبه الْهَمدَانِي وَقد تعاظمه ذَلِك، وَقَالَ: الرّبيع بْن خثيم؟! قَالَ: فَلم يَأْته وَأَبْطَأ عَن الرّبيع قَالَ: فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الثَّالِثَة أَتَاهُ فمغثه مغثًا شَدِيدا فَقَالَ: لَئِن لم تفعل لَأَفْعَلَنَّ بك وَلَأَفْعَلَن، وَتَنَحَّى عَنْهُ فانتبه الْهَمدَانِي وَقد تعاظمه ذَلِك، فَلَمَّا أصبح وَرَأى الرّبيع بْن خثيم أَنه قد أَبْطَأَ عَنْهُ أَتَاهُ فَدخل عَلَيْهِ فَسلم عَلَيْهِ فَرَآهُ متثاقلا عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أخي مَالك؟ قَالَ: خير، قَالَ: الرّبيع: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، يَا أخي، إِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَان، فأعيذك بِاللَّه وَنَفْسِي من الشَّيْطَان، وتفل الرّبيع عَن يسَاره ثَلَاث تفلاتٍ وتعوذ بِاللَّه من

معنى المغث

الشَّيْطَان، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى منزله، فَلَمَّا كَانَت اللَّيْلَة الْمُقبلَة قَامَ الْهَمدَانِي فِي سَاعَته الَّتِي كَانَ ينَام فِيهَا وَقد قوي بعض الْقُوَّة مِمَّا سمع من الرّبيع، فَإِذا هُوَ قد أَتَاهُ آتٍ فِي مَنَامه بِيَدِهِ ساجور كلبٍ أسود، فِي وَجه الْكَلْب ثَلَاث جراحاتٍ، قَالَ لَهُ: أَتَدْرِي من أَنا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَل تَدْرِي من هَذَا الْكَلْب؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَذَا الشَّيْطَان الَّذِي دخل بَيْنك وَبَين أَخِيك الرّبيع بْن خثيم، وَقد وكلت بكما وَبِهَذَا إِلَى أَن تموتا لَا ينفلت من هَذَا الساجور، تَدْرِي مَا هَذِه الْجِرَاحَات الَّتِي بِوَجْه الْكَلْب؟ قَالَ: لَا، قَالَ هِيَ بزقات الرّبيع بْن خثيم عَن يسَاره، قَالَ: فانتبه الْهَمدَانِي، فَلَمَّا أصبح غَدا على الرّبيع فَأخْبرهُ بِمَا رأى فَحَمدَ الله وَقَالَ: قد أَخْبَرتك أَنه من عمل الشَّيْطَان. معنى المغث قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَوْله فمغثه مغثًا شَدِيدا أَي ناله بمكروه من الجذب والمعصر وَمَا أشبهه، وَيُقَال بَين الْقَوْم مغث إِذا كَانَ بَينهم شَرّ ومكروه من الْأَمر، قَالَ حسان بْن ثَابت فِي صفة الْخمر: نوليها الْمَلَامَة إِن ألمت ... إِذا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحاءُ يحب عليا لثلاث حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدِّمَشْقِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْمُعَمَّرِ السَّدُوسِيِّ: إِن لَتُحِبُّ عَلِيًّا حُبًّا مُفْرِطًا، قَالَ: أُحِبُّهُ وَاللَّهِ لِحِلْمِهِ إِذَا غَضِبَ، وَعَدْلِهِ إِذَا حَكَمَ، وَوَفَائِهِ إِذَا وَعَدَ. قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: هَكَذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَقَدْ فَازَ مَنْ أَحَبَّهُ وَاهْتَدَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ وَسَلَكَ سَبِيلَهُ. سُلَيْمَان يقرع يزِيد بْن أَبِي مُسلم حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ أَخْبرنِي أَحْمَد بْن الْحَارِث قَالَ قَالَ الْمَدَائِنِي: دخل يزِيد بْن أَبِي مسلمٍ كَاتب الْحجَّاج على سُلَيْمَان بْن عبد الْملك، وَكَانَ مصفرًا، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: على رجل أجرك رسنك وسلطك على الْمُسلمين لعنة الله، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، رَأَيْتنِي وَالْأَمر عني مُدبر وَلَو رَأَيْتنِي وَالْأَمر عَليّ مقبل لَا ستعظمت مني مَا استصغرت الْيَوْم، قَالَ: فَأَيْنَ الْحجَّاج؟ قَالَ: يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة بَين أَبِيك وأخيك فاجعله حَيْثُ شِئْت. الْمَأْمُون يغرم يحيى بْن خاقَان حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن بنان قَالَ قَالَ أَبُو الْعَبَّاس انب الْفُرَات حَدَّثَنِي دِينَار بْن يزِيد بْن عَبد اللَّه قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن يحيى بْن خاقَان قَالَ: كنت كَاتب

في قدر وجهان

الْحسن بْن سهل، فَقدم الْمَأْمُون مَدِينَة السَّلَام فَقَالَ لي: يَا يحيى خلوت بِالسَّوَادِ ولعبت فِي أَمْوَالِي واحتجنتها واقتطعتها، قَالَ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا أَنا كَاتب لرجلٍ، والمناظرة فِي الْأَمْوَال والأعمال مَعَ صَاحِبي لامعي، قَالَ: مَا أطلب غَيْرك، وَلَا أعرف سواك، فصالحني على مائَة ألف ألف، قَالَ: فَضَحكت، فَقَالَ: يَا يحيى أجد وتهزل؟، قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا ضحِكت تَعَجبا، وَبِاللَّهِ مَا أملك إِلَّا سبعماة ألف دِرْهَم، فَكيف أصالحك على مائَة ألف ألف؟ قَالَ دع عَنْك وَأَعْطِنِي خمسين ألف ألف، قَالَ: فَمَا زلت أجاذبه ويجاذبني إِلَى أَن بلغ إِلَى اثْنَي عشر ألف ألف، فَلَمَّا بلغ إِلَيْهَا قَالَ: نفيت من الرشيد إِن نقصتك شَيْئا مِنْهَا، فَقلت: السّمع وَالطَّاعَة، قَالَ: أقِم لي ضمينا إِن لم تف طالبته بهَا، قلت: صَاحِبي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يضمنني، قَالَ: أَترَانِي إِن دافعت بِالْأَدَاءِ أطالب الْحسن بْن سهل بِمَا عَلَيْك؟ هَذَا مَا لَا يكون، قَالَ فَقلت: عَبد اللَّه بْن طَاهِر، فَقَالَ: عَبد اللَّه سَبيله سَبِيل صَاحبك، قلت: فحميد، قَالَ: وَهَذِه سَبيله، فَقلت: أتضمنه يَا فرج؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ: إِنِّي وَالله أحْرجهُ بالإلحاح عَلَيْهِ فِي الْمُطَالبَة حَتَّى يهرب أَو يسْتَتر ثُمَّ آخذك بِالْمَالِ فتؤديه لِأَنَّك ملي بِهِ، فَقَالَ فرج: صَاحِبي ثِقَة وَهُوَ لَا يخفرني إِن شَاءَ الله. قَالَ يحيى: فَكتبت إِلَى الْحسن بْن سهل وَعبد الله بْن طَاهِر وَحميد ودينار بْن عَبد اللَّه وغسان وَرِجَال الْمَأْمُون أسألهم إعانتي فِي هَذَا المَال، قَالَ: فَحَمَلُوهُ إِلَيّ كُله عَن آخِره، حمل كل إِنْسَان مِنْهُم على قدره، قَالَ يحيى: وكتبت رقْعَة إِلَى المأمن أعرفهُ أَن المَال قد حضر وأسأله أَن يَأْمر بِقَبْضِهِ. قَالَ: فأحضرني، فَلَمَّا وَقعت عينه عَليّ قَالَ لي: يَا خائن الْحَمد لله الَّذِي بَين خِيَانَتك وَأظْهر لي كَذبك، ألم تذكر أَنَّك لَا تملك إِلَّا سَبْعمِائة ألف دِرْهَم، فَكيف تهَيَّأ لَك أَن حملت فِي عشرَة أَيَّام اثْنَي عشر ألف ألف؟ قَالَ قلت: حملتها يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من هَذِه المجريدة، وَدفعت إِلَيْهِ الجريدة بأسماء من حمل المَال ومبلغ مَا حمل كل واحدٍ مِنْهُم، قَالَ: فَقَرَأَ الجريدة ثُمَّ أطرق مَلِيًّا وَرفع رَأسه فَقَالَ: لَا يكون أَصْحَابنَا أَجود منا بِهَذَا المَال، قد وهبناه لَك وأبرأنا ضمينك، قَالَ يحيى: فَانْصَرَفت ورددت المَال إِلَى أَصْحَابه فَأَبَوا أَن يقبلوه وَقَالُوا: قد وهبناه لَك فَاصْنَعْ بِهِ مَا أَحْبَبْت، قَالَ فَحَلَفت أَن لَا أقبل مِنْهُ درهما وَاحِدًا، وَقلت لَهُم: أَخَذته فِي وَقت حَاجَتي إِلَيْهِ، ورددته عِنْد استغنائي عَنْهُ، وقبولي إِيَّاه فِي هَذَا الْوَقْت ضرب من التغنم، فرددته عَلَيْهِم. فِي قدر وَجْهَان قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: حمل كل إِنْسَان مِنْهُم على قدره يجوز أَن يكون فِيهِ إسكان الدَّال وَفتحهَا، وهما لُغَتَانِ يرجعان إِلَى معنى وَاحِد، وَقد قَرَأت القرأة " وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ " الْبَقَرَة: 236 بِالتَّحْرِيكِ والإسكان وَقد أنْشد أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ هَذَا الْبَيْت:

أبو حرملة الحجام راوية للشعر

وَمَا صب رجْلي فِي حَدِيد مجاشع ... مَعَ الْقدر إِلَّا حَاجَة لي أريدها بِمَعْنى مَعَ الْقدر. أَبُو حَرْمَلَة الْحجام راوية للشعر حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن مَيْمُون الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي جدي أَبُو الْفضل مَيْمُون بْن هَارُون قَالَ: أَرَادَ سُلَيْمَان بْن وهب أَن يَأْخُذ من شعره فِي وقتٍ من الْأَوْقَات، فَطلب أَبَا حَرْمَلَة فَلم يجده، وَوجد غُلَام أَبِي حَرْمَلَة، فَأخذ من شعره، فَقبل أَن يفرغ جَاءَ أَبُو حَرْمَلَة فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: قُم يَا غُلَام، أعْط الْقوس باريها، فَقَالَ لَهُ أَبُو حَرْمَلَة: تعرف يَا سَيِّدي أول هَذَا الْبَيْت قَالَ: مَا أعرف فِيهِ غير هَذَا، فَقَالَ أَبُو حَرْمَلَة أنْشد ابْن الْأَعرَابِي: يَا ابري الْقوس بريًا لَيْسَ يحكمه ... لَا تفْسد الْقوس أعْط الْقوس باريها حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَحْمُود الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَليّ اسباط خَليفَة مُحَمَّد بْن يحيى قَالَ، قَالَ لي أَبُو حَرْمَلَة: حذفت عبيد الله بْن سُلَيْمَان فَلَمَّا فرغت قَالَ: أعْط الْقوس باريها، فَقلت: أتعرف صدر هَذَا الْبَيْت؟ قَالَ: لَا، فَأَنْشَدته إِيَّاه، فَضرب يَده إِلَى الدواة وَكتبه، وَهُوَ: يَا باري الْقوس بريا لَيْسَ يحكمه ... أفسدت قوسك أعْط الْقوس باريها تعليقات نحوية ولغوية قَالَ القَاضِي فِي الرِّوَايَة الأولى: تعرف من غير حرف اسْتِفْهَام فِي الْكَلَام أَو فِي مَا عطف بِهِ عَلَيْهَا، وَهَذَا عِنْد بعض الْمُحَقِّقين من النُّحَاة خطأ، وَقد أجَازه كثير مِنْهُم، وأنشدوا فِيهِ أبياتًا مِنْهَا قَول عمر بْن عُبَيْد الله بن أبي ربيع سامحه الله: ثمَّ قَالُوا تحبها قلت بَهْرًا ... عدد الرَّمْل والحصى وَالتُّرَاب وَقَالُوا أَرَادَ: أتحبها، وَأنكر هَذَا من قدمنَا الْحِكَايَة عَنْهُ، وَقَالَ: هُوَ خبر وَلَيْسَ باستفهام وَغير جَائِز الاشراك بَين الْخَبَر والاستخبار، لما فِيهِ من فَسَاد الْكَلَام فِي الْقيَاس، وَدخُول الْإِشْكَال والالتباس، وَقد عَابَ كثير من أهل الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ على امْرِئ الْقَيْس إيتانه بِمثل هَذَا فِي بَيت من شعره يَقُول فِيهِ: أصاح ترى برقًا أريك وميضه ... كَلمعِ الْيَدَيْنِ فِي حبي مكلل فَقَالَ: ترى وَالْمعْنَى أَتَرَى؛ فَأَما قَوْله: تروح من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... وماذا يَضرك لَو تنْتَظر فَإِنَّهُ جَائِز لِأَن قَوْله: أم تبتكر قد دلّ على الْمَعْنى، وَمثله كثير، من ذَلِك قَول الشَّاعِر: لعمرك مَا أَدْرِي وَإِن كنت داريًا ... بِسبع رَمَيْن الجَمْر أم بثمان وَأما قَول الشَّاعِر فِي الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ أَبُو حرملو: أعْط الْقوس باريها فَإِنَّهُ أنشدوناه

قولة لابن مسمع تضمنت معناها أبيات للبحتري

باريها بتسكين الْيَاء الَّتِي هِيَ مُدَّة، وَهِي الرِّوَايَة الْجَارِيَة على أَلْسِنَة خَاصَّة النَّاس وعامتهم، وَحَقِيقَة الْإِعْرَاب فِيهَا هَاهُنَا أَن تنصب فِي الْفِعْل، وَقد تسكن فِي الشّعْر تَخْفِيفًا كَمَا قَالَ الراجز: كَأَن أَيْدِيهنَّ بالقاع القرق وَقَالَ الْأَعْشَى: فَتى لَو يباري الشَّمْسُ ألقتْ قِنَاعها ... أَو القَمَر الساري لألقى المقالدا وَرُبمَا اسكنوها وحذفوها فِي النصب كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَلَو أَن واشٍ بالميمامة بَيته ... وداري بِأَعْلَى حضر موت اهْتَدَى ليا فَإِذا رُوِيَ هَذَا الْبَيْت على هَذَا كَانَ من الْبَسِيط الثَّانِي وبيته فِي الْعرُوض: قد أشهد الْغَارة الشعواء تحملنِي ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب عروضه فعلن وضربه فعل، وعروضه فِي مصرعه فعلن إِلْحَاقًا لَهُ بضربه؛ وَإِن رَوَاهُ راوٍ على أَصله فِي تَحْقِيق الْإِعْرَاب فتح الْيَاء فَقَالَ باريها وَكَانَ إِذا من الضَّرْب الأول من الْبَسِيط، وبيته فِي الْعرُوض: يَا حَار لَا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بداهيةٍ ... لَمْ يَلْقها سُوقَةٌ قبلي وَلَا ملك وَإِذا رُوِيَ هَكَذَا استقام إعرابه ووزنه، واستوى عروضه وضربه فَكَانَا مَعًا فعلن فِي إِطْلَاقه وتصريفه، إِذْ لَيْسَ بَينهمَا فِي الْمُطلق اخْتِلَاف فِي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فيغير الْعرُوض ليلحق الضَّرْب بِهِ. قولة لِابْنِ مسمع تَضَمَّنت مَعْنَاهَا أَبْيَات للبحتري حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ قَالَ قَالَ مَالك بْن مسمع للأحنف: يَا أَبَا بحرٍ مَا أنتفع بِالشَّاهِدِ إِذا غبت، وَلَا أفتقد غَائِبا إِذْ شهِدت. قَالَ القَاضِي: لكأن البحتري ألم بِهَذَا الْمَعْنى: رحلت فَلم نفرح بأوبة آيب ... وأبت فمل نجزع لغيبة غَائِب قدمت فأقدمت النَّهْي عمل الرضى ... إِلَى كل غَضْبَان على الدَّهْر عَاتب فَعَادَت بك الْأَيَّام زهرًا كَأَنَّمَا ... جلا الدَّهْر مِنْهَا عَن خدود الكواعب خطْبَة للمنصور فِي يَوْم عَرَفَة حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن يُونُس بن زُهَيْر ابْن الْمسيب قَالَ حدثت عَن إِسْمَاعِيل الفِهري قَالَ: سَمِعت الْمَنْصُور فِي يَوْم عَرَفَة، على مِنْبَر عَرَفَة يَقُول فِي خطبَته: أَيهَا النَّاس إِنَّمَا أَنا سُلْطَان الله فِي أرضه، أسومكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على فيئه بمشيئته أقسمه بإرادته وأعطيه بِإِذْنِهِ، وَقد جعلني الله تَعَالَى عَلَيْهِ قفلا إِذا شَاءَ أَن يفتحني لإعطائكم وَقسم أرزاقكم يسر لي، وَإِذا شَاءَ أَن يقفلني عَلَيْهِ أقفلني، فارغبوا إِلَى الله تَعَالَى أَيهَا النَّاس وَسَلُوهُ فِي هَذَا الْيَوْم الشريف الَّذِي وهب لكم فِيهِ من فَضله مَا أعلمكُم بِهِ فِي كِتَابه إِذْ يَقُول: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ

جعفر بن محمد يعلم نصر بن كثير والثوري

دِينًا " الْمَائِدَة:3 أَن يوفقني للصَّوَاب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم وَالْإِحْسَان إِلَيْكُم، ويفتحني لإعطائكم وَقسم أرزاقكم بِالْعَدْلِ عَلَيْكُم فَإِنَّهُ سميع مُجيب. جَعْفَر بْن مُحَمَّد يعلم نصر بْن كثير وَالثَّوْري مَا يَقُولُونَهُ فِي الْحَج حَدثنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن أَحْمَد بْن يزِيد الطَّبَرِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد جَعْفَر بْن مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ حَدَّثَنَا عبيد بْن إِسْحَاق الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا نصر بْن كثير قَالَ: دخلت على جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام أَنا وسُفْيَان الثَّوْريّ مُنْذُ سِتِّينَ سنة أَو سبعين سنة فَقلت لَهُ: إِنِّي أُرِيد الْبَيْت الْحَرَام فعلمني شَيْئا أَدْعُو بِهِ، قَالَ: إِذا بلغت الْبَيْت الْحَرَام فضع يدك على حَائِط الْبَيْت ثُمَّ قل: يَا سَابق الْفَوْت، وَيَا سامع الصَّوْت، وَيَا كاسي الْعِظَام لَحْمًا بعد الْمَوْت، ثُمَّ ادْع بعده با شِئْت؛ فَقَالَ لَهُ سُفْيَان شَيْئا لم أفهمهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: يَا سُفْيَان أَو يَا أَبَا عَبد اللَّه، إِذا جَاءَك مَا تحب فَأكْثر من الْحَمد لله وَإِذا جَاءَك مَا تكره فَأكْثر مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَإِذا اسْتَبْطَأَتْ الرزق فَأكْثر من الاسْتِغْفَار. دُعَاء جَعْفَر يردده الْجريرِي ويكتبه الطَّبَرِيّ قَالَ القَاضِي: كنت مُنْذُ سِنِين كَثِيرَة دَعَوْت الله عز وَجل وَقلت يَا سَابق الْفَوْت، وَقلت فِي وقتٍ آخر: يَا سَابق كل فوتٍ، وَكَانَ عِنْدِي أَنه شَيْء خطر لي وَلم أكن ذَاكِرًا لهَذِهِ الرِّوَايَة وَلَا عَالما بهَا فِي الْوَقْت، فاستحسنت هَذِه الدعْوَة ثُمَّ وَجدتهَا عِنْدِي فِي مَا سمعته وكتبته ورويته. وَحكى لي بعض بني الْفُرَات عَن رجلٍ مِنْهُم، أَو من غَيرهم، أَنه كَانَ بِحَضْرَة أَبِي جَعْفَر الطَّبَرِيّ رَحمَه الله قبل مَوته وَتُوفِّي بعد سَاعَة أَو أقل مِنْهَا، فَذكر لَهُ هَذَا الدُّعَاء عَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَلَيْهِمَا السَّلَام فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبها، فَقيل لَهُ أَفِي هَذِه الْحَال؟ فَقَالَ: يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن لَا يدع اقتباس الْعلم حَتَّى يَمُوت. الْمجْلس الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ حيونا نحييكم أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ أَبِي صَخْرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي الْوَاسِطِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ أَبِيه عَن السَّائِب ين يَزِيدَ قَالَ: لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَارِيَ يَتَغَنَّيْنَ يَقُلْنَ: حَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ فَوَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِنَّ ثُمَّ دَعَاهُنَّ فَقَالَ: لَا تَقُلْنَ هَكَذَا، قُلْنَ: حَيَّانَا اللَّهُ وَحَيَّاكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرَخِّصُ لِلنَّاسِ فِي هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ نِكَاحٌ لَا سِفَاحٌ، أَشِيدُوا بِالنِّكَاحِ. أَي غناء فِيهِ رخصَة قَالَ القَاضِي: وَقد ذكرنَا فِي غير مَوضِع من كتبنَا غناء النصب وماجاء فِيهِ من

خبر ابن جامع في مجلس الرشيد

الرُّخْصَة عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن الْأَئِمَّة بعده من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وحظر مَا فِيهِ تَرْجِيع وتمطيط، وَإِن ذَلِك مَنْهِيّ عَنْهُ فِي تِلَاوَة الْقُرْآن وَغَيرهَا، وَذكرنَا مَا أَمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الضَّرْب فِي النِّكَاح بالدف، وَأَنه قَالَ: أعْلنُوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالدف. وَرخّص فِي هَذَا فِي عرسات الْمُسلمين ومواطن مسارهم، وَأَنه فِي النِّكَاح سنة لَا يَنْبَغِي تَركهَا. وَقَوله: أشيدوا بِالنِّكَاحِ مَعْنَاهُ أظهروه وأعلنوه. وَقد ذهب مَالك فِي من وَافقه من أهل الْمَدِينَة إِلَى أَن نِكَاح السِّرّ بَاطِل؛ وحضرني بعد إثباتي هَذَا الْخَبَر خبر إِسْمَاعِيل بْن جَامع مَعَ الرشيد فرايت أَن أرسمه هَاهُنَا إِذْ هُوَ مِمَّا يستحسنه ويصغي إِلَى استماعه ذَوُو الْفضل من الأدباء، وينشك للوقوف عَلَيْهِ أولو الحجى من الرؤساء. خبر ابْن جَامع فِي مجْلِس الرشيد حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوب بْن نعيم الْكَاتِب، قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن ضوء التَّيْمِيّ قَالَ مسعت إِسْمَاعِيل بْن جَامع السَّهْمِي يَقُول: ضمني الدَّهْر ضمًا شَدِيدا بِمَكَّة، فانتقلت مِنْهَا بعيالي إِلَى الْمَدِينَة، فَأَصْبَحت يَوْمًا لَا أملك إِلَّا ثَلَاثَة دَرَاهِم، فَخرجت وَهِي فِي كمي، فَإِذا بجاريةٍ حميراء على رقبَتهَا جرة تُرِيدُ الركي، تمشي بَين يَدي وتترنم بصوتٍ شجيٍ تَقول فِيهِ: شَكَوْنَا إِلَى أحبانبا طول ليلنا ... فَقَالُوا لنا مَا أقصر اللَّيْل عندنَا وَذَلِكَ أَن النّوم يغشى عيونهم ... سرَاعًا وَمَا يغشى لنا النّوم أعينا إِذْ مَا دنا اللَّيْل المضر بِذِي الْهوى ... جزعنا وهم يستبشرون إِذا دنا فَلَو أَنهم كَانُوا يلاقون مثل مَا ... نلاقي لكانوا فِي الْمضَاجِع مثلنَا فو الله مَا دَار لي مِنْهُ حرف وَاحِد فَقلت لَهَا: يَا جَارِيَة مَا أَدْرِي أوجهك أحسن أم صَوْتك أم جرمك، فَإِن شِئْت أعدتيه عَليّ، فَقَالَت: حبا وكرامة، ثُمَّ أسندت ظهرهَا إِلَى جدارٍ كَانَ بِالْقربِ مِنْهَا وَرفعت إِحْدَى رِجْلَيْهَا فَوَضَعتهَا على ركبتها وحطت الجرة فَوَضَعتهَا على سَاقهَا واندفتعت تغني بِأَحْسَن صَوت، فو الله مَا دَار لي مِنْهُ حرف وَاحِد، فَقلت لَهَا: لقد أَحْسَنت وتفضلت فَلَو شِئْت أعذتيه مرّة أُخْرَى، فقطبت وكلحت وَقَالَت: مَا أعجب هَذَا، أحدكُم يَجِيء إِلَى الْجَارِيَة عَلَيْهَا ضريبة فَيَقُول لَهَا: أعيدي مرّة بعد أخرىن فَضربت يَدي إِلَى الثَّلَاثَة الدَّرَاهِم فدفعتها إِلَيْهَا وَقلت لَهَا: أقيمي بِهَذَا وَجهك الْيَوْم إِلَى أَن نَلْتَقِي، فأخذتهاشبه المتكرهة ثُمّ قَالَت: الْآن تُرِيدُ أَن تَأْخُذ عني صَوتا أحسبك تَأْخُذ عَلَيْهِ ألف دينارٍ، وَألف دينارٍ وَألف دينارٍ، ث3م انبعثت تغني وأعملت فكري فِي غنائها فدار لي الصَّوْت وفهمته، وانصرفت بِهِ مَسْرُورا إِلَى منزلي المكاري على بَاب المحول، فَدخلت لَا أَدْرِي أَيْن أتوجه وَلَا من أقصد، وانْتهى بِي النَّاس إِلَى الجسر، فعبرت فِي من عبر حَتَّى انْتَهوا بِي إِلَى شَارِع الميدان عِنْد دَار الْفضل بْن الرّبيع، فَرَأَيْت هُنَاكَ

مَسْجِدا مرتفعًا فَقلت: هَذَا مَسْجِد قوم سراةٍ، وَحَضَرت الْمغرب فَصَعدت الْمَسْجِد فَمَا لَبِثت أَن جَاءَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام وَصليت، وَانْصَرف النَّاس وأقمت مَكَاني إِلَى أَن رَجَعَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام، وَصليت وَانْصَرف النَّاس وأقمت مَكَاني إِلَى أَن رَجَعَ الْمُؤَذّن فَأذن وَأقَام، وَصليت مَعَ النَّاس على تعبٍ وجوع، وَانْصَرف النَّاس وَبَقِي رجل يُصَلِّي مَلِيًّا وَخَلفه جمَاعَة من الخدم والفحولة ينتظرونه، فَلَمَّا فرغ من صلَاته انْصَرف إِلَيّ بِبدنِهِ كُله فَقَالَ: أحسبك غَرِيبا، قلت: أجل، قَالَ: مَتى كنت بِهَذِهِ الْمَدِينَة؟ قلت: آنِفا دَخَلتهَا، وَلَيْسَ لي بهَا معرفَة، وَلَيْسَت صناعتي من الصَّنَائِع الَّتِي يمت بهَا إِلَى أهل الْخَيْر، قَالَ: وَمَا صناعتك؟ قلت: الْغناء، فَوَثَبَ مبادرًا ووكل بِي رجلا، فَقلت للْمُوكل بِي: من هَذَا؟ قَالَ: أوما تعرفه؟ هَذَا سَلام الأبرش قَالَ: وَإِذا رَسُول قد جَاءَ فِي طلبي ثُمَّ مشينا حَتَّى انْتهى بِي إِلَى قصرٍ من قُصُور الْخلَافَة وَجعل يُجَاوز بِي مَقْصُورَة بعد مقصورةٍ إِلَى أَن دَخَلنَا مَقْصُورَة فِي آخر الدهليز، فَدَعَا لي بِالطَّعَامِ، فَأتيت بمائدةٍ عَلَيْهَا من كل شَيْء، فَأَقْبَلت على أكلي حَتَّى تراجعت إِلَى نَفسِي، وَسمعت ركضًا فِي الدهليز، فَإِذا إِنْسَان يَقُول: أَيْن الرجل، أَيْن الرجل؟ فَقيل: هَا هُوَ ذَا، فَقَالَ يدعى لَهُ بغسول وَطيب وخلعةٍ، فغلفت وخلع عَليّ وَأخذ الرجل بيَدي فَحَمَلَنِي على دابةٍ وأتى بْن منزل الْخَلِيفَة فاستدللت على ذَلِك بالحرس وَالتَّكْبِير والنيران، فَمَا زَالَ يدخلني من دَار إِلَى دَار إِلَى أَن دخلت إِلَى دارٍ قوراء وَإِذا فِيهَا أسرة مُضَاف بَعْضهَا إِلَى بعض، فَلَمَّا انْتَهَيْت إِلَى الأسرة أَمرنِي بالصعود فَصَعدت، وَإِذا رجل جَالس على يَمِينه ثَلَاث جوارٍ فِي حجورهن العيدان، وَإِذا فِي حجر الرجل عود فَسلمت فَرَحَّبَ بِي وَأَمرَنِي بِالْجُلُوسِ فَجَلَست، وَإِذا مجَالِس خَالِيَة قد كَانَ فِيهَا قوم فَقَامُوا عَنْهَا، فَمَا لَبِثت أَن خرج خَادِم من وَرَاء السّتْر فَقَالَ للرجل: تغنه، فَانْدفع يُغني بصوتٍ لي يَقُول فِيهِ: لم تمش ميلًا وَلم تركب على جملٍ ... وَلم تَرَ الشَّمْس إِلَّا دونهَا الكلل تمشي الهوينا كَأَن الشوك يحبسها ... مشي اليعافير فِي جيئاتها الوجل فو الله مَا أحسن الْغناء، وَلَقَد غنى بِغَيْر إصابةٍ وأوتارٍ متنافرة ودساتين مختلفةٍ، ثمَّ عَاد ذَلِك الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تلِي الرجل فَقَالَ لَهَا: تغني فانبعثت تغني بِصَوْت لي كَانَت فِيهِ أحسن حَالا من الرجل تَقول فِيهِ: يَا دَار أضحت خلاء لَا أنيس بهَا ... إِلَّا الظباء وَإِلَّا الناشط الْفَرد أَيْن الَّذين إِذا مَا زرتهم جذلوا ... وطار عَن قلبِي التشواق والكمد ثمَّ عَاد الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الثَّانِي فَقَالَ لَهَا: تغني فانبعث تغني بِصَوْت حكم الْوَادي تَقول فِيهِ: فو الله مَا أَدْرِي أيغلبني الْهوى ... إِذا جد وَشك الْبَين أم أَنا غالبه فَإِن أستطع أغلب وَإِن يغلب الْهوى ... فَفِي دون مَا لاقيت يغلب صَاحبه

ثمَّ عَاد الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الثَّالِثَة فَقَالَ لَهَا: تغني فغنت بِصَوْت لحنين تَقول فِيهِ: مَرَرْنَا على قيسيةٍ عامريةٍ ... لَهَا بشر صافي الْأَدِيم هجان فَقَالَت وَأَلْقَتْ جَانب السجف دونهَا ... من آيَة حَيّ أَو من الرّجلَانِ فَقلت لَهَا أما تَمِيم فاسرتي ... هديت وَأما صَاحِبي فيماني رفيقان ضم السّفر بيني وَبَينه ... وَقد يلتقي الشتى فيأتلفان قَالَ فَعَاد الْخَادِم إِلَى الرجل فَقَالَ لَهُ: تغنه، فغنى بصوتٍ لي شبه فِيهِ، وَالشعر لعمر بن أبي ربيعَة الْغناء للغريض يَقُول فِيهِ: أمس بأسماء هَذَا الْقلب معمودا ... إِذا أَقُول صَحا يعتاده عيدا كَأَن أحور من غزلان شيهمةٍ ... أعارها شبها خديه والجيدا قَامَت ترَاءى وَقد جد الرحيل بِنَا ... لتنكأ الْقرح من قلبٍ قد اصطلدا بمشرق كشعاع الشَّمْس بهجته ... ومسبكر على لباتها سُودًا ثمَّ عاج الْخَادِم إِلَى الْجَارِيَة الَّتِي تليه فَقَالَ لَهَا: تغني، فغنت بصوتٍ لحكم الْوَادي يَقُول فِيهِ: تعيرنا أَنا قيل عديدنا ... فَقلت لَهَا إِن الْكِرَام قَلِيل وَمَا ضرنا أَنا قَلِيل وجارنا ... عَزِيز وجار الْأَكْثَرين ذليل وَإِنَّا لقوم مَا نرى الْقَتْل سبةً ... إِذا كرهته عَامر وسلول يقرب حب الْمَوْت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول وتغنت الْجَارِيَة الثَّانِيَة عِنْد قَول الْخَادِم لَهَا تغني: وددتك لما كَانَ ودك خَالِصا ... وأعرضت لما صَار نهبًا مقسمًا وَلنْ يلبث الْحَوْض الوثيق بناءه ... إذاكثر الوراد أَن يتهدما وتغنت الثَّالِثَة بِشعر الخنساء بنت عَمْرو بْن الْحَارِث فِي أَخِيهَا صَخْر: وَمَا كرّ إِلَّا كَانَ أول طَاعن ... وَلَا أبصرته الْعين إِلَّا اقشعرت فيدرك ثأرا ثُمَّ لم يخطه الْغنى ... فَمثل أخي يَوْمًا بِهِ الْعين قرت وَإِن طلبُوا وترا بدا بتراتهم ... ويضربهم شزرا إِذا الْخَيل ولت فلست أرزا بعده برزيةٍ ... فأذكره إِلَّا سلت وتجلت وَكَانَ غناء الرجل فِي الدّور الثَّالِث: لحا الله صعلوكا يبيت وهمه ... من الدَّهْر أَن يلقى لبوسا ومطعما ينَام الضُّحَى حَتَّى إِذا نَومه اسْتَوَى ... تنبه مسلوب الْفُؤَاد مورما

وَلَكِن صعلوكا يساور همه ... وَيَمْشي على الهيجاء ليثا مصمما فَذَلِك إِن يلق الْمنية تلقه ... كَرِيمًا وَإِن يسْتَغْن يَوْمًا فَرُبمَا وَكَانَ غناء الْجَارِيَة فِي الدّور الثَّالِث بِشعر لحاتم يَقُول فِيهِ: إِذا كنت رَبًّا للقلوص فَلَا تدع ... رفيقك بمشي خلفهَا غير رَاكب أنخها فأردفه فَإِن حملتكما ... فَذَاك وَإِن كَانَ الْعقَاب فعاقب وَكَانَ غناءالجارية الثَّانِيَة فِي الدّور بِشعر عَمْرو بْن معدي كرب: ألم تَرَ لما ضمني الْبَلَد القفر ... سَمِعت نِدَاء يصدع الْقلب يَا عَمْرو أغثنا فَإنَّا معشر مذحجية ... نزار على وفرٍ وَلَيْسَ لنا وفر وَكَانَ غناء الثَّالِثَة بشعرٍ لعمر بْن أَبِي ربيعَة والغناء فِيهِ للغريض: فَلَمَّا تلاقينا وسلمت أشرقت ... وُجُوه زهاها الْحسن أَن تتقنعا تبالهن بالعرفان لما رأينني ... وقلن امْرُؤ بَاغ أكل وأوضعا فَلَمَّا تواضعنا الْأَحَادِيث قُلْنَ لي ... أخفت علينا أَن نغر ونخدعا قَالَ فَقلت فِي نَفسِي: أَي شَيْء أنْتَظر؟ يَجِيء الْخَادِم السَّاعَة يطالبني بِمثل مَا طَالب بِهِ أَصْحَابِي، فَقلت للرجل: بِأبي أَنْت خُذ الْعود إِلَيْك وَشد وتر كَذَا وارفع الطَّبَقَة وَغير وتر كَذَا وَحط دستان كَذَا، فَعلم مَا أُرِيد فوزنه، فَلم البث أَن خرج الْخَادِم فَقَالَ لي تغنه، عافاك الله، فانبعثت أُغني بِصَوْت الرجل الأول على غير مَا غنى بِهِ فَإِذا بنحوٍ من خمسين أَو سِتِّينَ خَادِمًا يحْضرُون حَتَّى استندوا إِلَى الأسرة ثُمَّ قَالُوا: وَيحك لمن هَذَا الْغناء؟ قلت: لي، فانصرفوا عني بِتِلْكَ السرعة، فَخرج إِلَيّ الْخَادِم فَقَالَ: كذبت هَذَا الْغناء لِابْنِ جَامع، فَسكت، وَدَار الدّور فَلَمَّا انْتهى إِلَيّ خرج الْخَادِم فَقَالَ تغنه، فَقلت لِلْجَارِيَةِ الَّتِي تلِي الرجل: خذي الْعود فانبعثت أُغني صَوتهَا، فَخرجت الْجَمَاعَة من الخدم فَقَالُوا: وَيحك لمن هَذَا؟ فَقلت: لي، فَمَضَوْا وَرجع الْخَادِم فَقَالَ لي: كذبت، هَذَا لِابْنِ جَامع. فَأَمْسَكت عَنْهُ وَدَار الدّور، فَلَمَّا بلغ إِلَيّ خرج الْخَادِم فَقَالَ: تغنه، فَقلت فِي نَفسِي، وَقد شربت وقويت منتي: مَا أنْتَظر؟ فاندفعت أُغني بصوتٍ لَا يعرف إِلَّا بِي: عوجي عَليّ فسلمي جبر ... فيمَ الْوُقُوف وَأَنْتُم سفر مانلتقي إِلَّا ثَلَاث منى ... جتى يفرق بَيْننَا النَّفر قَالَ: فتزلزلت وَالله عَلَيْهِم الدَّار، وَخرج الْخَادِم فَقَالَ: وَيحك، لمن هَذَا؟ فَقلت: لي، قَالَ: فَرَجَعُوا فَقَالُوا: هَذَا لِابْنِ جَامع، فَقلت: أَنا إِسْمَاعِيل ابْن جَامع، قَالَ: فَمَا شَعرت إِلَّا وأمير الْمُؤمنِينَ وجعفر بْن يحيى قد أَقبلَا من وَرَاء السّتْر، فَلَمَّا صعدا السرير وَثَبت على قدمي، فابتدأني أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: ابْن جَامع؟ فَقلت: ابْن جَامع جعلني الله فدَاك يَا أَمِير

الْمُؤمنِينَ، قَالَ: وَيحك مَتى كنت فِي هَذِه الْمَدِينَة؟ قلت: آنِفا دَخَلتهَا فِي الْوَقْت الَّذِي علم بِي أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أَجْلِس وَيحك يَا ابْن جَامع، وَجلسَ أَمِير المؤمين وجعفر بْن يحيى فِي بعض تِلْكَ الْمجَالِس الفرغ وَقَالَ لي: يَا ابْن جَامع، أبشر وأبسط أملك، فدعوت لَهُ دعواتٍ ثُمَّ قَالَ: عَن يَا ابْن جَامع، قَالَ: فخطر بقلبي صَوت الْجَارِيَة المدينية، فَقلت للرجل: أصلح عودك وارفع طبقته، قَالَ: فَعلم مَا أُرِيد فوزن الْعود وزنا، وتعهدته حَتَّى استقامت الأوتار وَأخذت الدساتين موَاضعهَا، وانبعثت أُغني بصوتٍ الْجَارِيَة الْحُمَيْرَاء، فَنظر أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى جَعْفَر بْن يحيى فَقَالَ لَهُ: أسمعت كَذَا قطّ؟ قَالَ: لَا وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا سَمِعت وَلَا خرق سَمْعِي مثله قطّ، وَلَا ظَنَنْت أَن الله عز وَجل خلق على وَجه الأَرْض مثل مَا أسمع، قَالَ فَرفع الرشيد رَأسه إِلَى خَادِم بِالْقربِ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: كيس فِيهِ ألف دينارٍ قَالَ: فَمضى الْخَادِم فَلم يلبث أَن عَاد بكيسٍ فِيهِ ألف دينارٍ، فصيرته تَحت فَخذي ودعوت لأمير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ لي: يَا ابْن جَامع رد على أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الصَّوْت، فرددته وتزيدت فِي غنائي وأعانني على ذَلِك اسْتِوَاء الأوتار، قَالَ: فَنظر جَعْفَر إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ: يَا سَيِّدي أما تسمعه كَيفَ يتزايد فِي الْغناء؟ هَذَا خلاف الَّذِي سمعنَا أَولا، على أَن الْأَمر فِيهِ وَاحِد، قَالَ: فَرفع الرشيد رَأسه إِلَى الْخَادِم فَقَالَ: كيس فِيهِ ألف دِينَار، فَمضى الْخَادِم وَجَاء بكيس فِيهِ ألف دِينَار فَرمى بِهِ إِلَيّ فصيرته تَحت فَخذي، ثُمَّ قَالَ لي أَمِير الْمُؤمنِينَ: تغن مَا حضرك، فَأَقْبَلت أقصد إِلَى الصَّوْت بعد الصَّوْت مِمَّا كَانَ يبلغنِي أَنه يَشْتَرِي عَلَيْهِ الْجَوَارِي فأغنيه، فَلم أمزل أفعل ذَلِك إِلَى أَن عسعس اللَّيْل، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيل قد أتعبناك فِي هَذِه اللَّيْلَة لسروري بغنائك، فتعيد عَليّ الصَّوْت الَّذِي تَغَنَّيْت بِهِ أَولا يَعْنِي صَوت الْجَارِيَة فغنيته إِيَّاه، فَرفع رَأسه إِلَى الْخَادِم فَقَالَ: كيس فِيهِ ألف دِينَار، وَذكرت قَول الْجَارِيَة: إِنِّي أحسبك تَأْخُذ عَلَيْهِ ألف دِينَار وَألف دِينَار وَألف دينارٍ، فَكَانَ مني شبه التبسم، ولحظني من بَين الشمع فَقَالَ لي: مِم تبسمت؟ قَالَ: فجثوت على ركبتي ثُمَّ قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الصدْق منجاة، فَقَالَ لي بانتهار: قل، فَحَدَّثته حَدِيث الْجَارِيَة فَقَالَ: صدقت قد يكون هَذَا وأعجب مِنْهُ؛ ثُمَّ قَالَ لي: انْصَرف مودعًا، فَقُمْت لَا أَدْرِي إِلَى أَيْن انفذ ذَلِك الْوَقْت، فَمَا هُوَ إِلَّا أَن نزلت من الأسرة حَتَّى وثب إِلَيّ غفيران من الفراشين، فَأخذ أَحدهمَا بيَدي المينى وَالْآخر باليسرى ومضيا بِي لَا أَدْرِي أَيْن يتوجهان بِي، حَتَّى وَقفا بِي على بَاب دَاري هَذِه، فَإِذا أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمر سَلاما فَابْتَاعَ لي هَذِه الدَّار وحول أَهلهَا، وحشيت بالفرش والوصائف والوصفاء وَالطَّعَام وَالشرَاب، وَدفع إِلَيّ أَحدهمَا إضبارة مَفَاتِيح وَقَالَ لي: ادخل بَارك الله لَك فِيهَا، وَهَذَا مِفْتَاح بَيت كَذَا، وَهَذَا مِفْتَاح بَيت مَالك، وَهَذَا مِفْتَاح سُبْرَة الْجَوَارِي، وَهَذَا مِفْتَاح بَيت فرشك وآنتيك، وأوقفني على مَا أردْت، فَأَصْبَحت وَأَنا من مياسير أهل بَغْدَاد، ودخلتها وَأَنا أفقر أَهلهَا، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.

تعليقات على بعض ما جاء في هذا الخبر

تعليقات على بعض مَا جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَول الشَّاعِر فِي هَذَا الْخَبَر اليعافير اليعافير جمع يَعْفُور وَهِي الَّتِي يضْرب لَوْنهَا إِلَى الْحمرَة من الْوَحْش، وَهِي المعفرة، وَيُقَال للتراب أعفر كَمَا قَالَ أَبُو كَبِير الْهُذلِيّ: يَا لهف نَفسِي كَانَ جدة خالدٍ ... وَبَيَاض وَجهك للتراب الأعفر وَقَالَ الشَّاعِر: وبلدةٍ لَيْسَ بهَا أنيس ... إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس والعيس: الْبيض. وَقَوله فِي الشّعْر الَّذِي يَلِيهِ وَإِلَّا الناشط الْفَرد الناشط: الثور الوحشي قَالَ الشَّاعِر: واستقبلت ظعنهم لما احزأل بهم ... مَعَ الضُّحَى ناشط من داعيات دَد وَقَول عمر بْن أَبِي ربيعَة: وقلن امْرُؤ بَاغ أكل وأوضعا الْبَاغِي هَاهُنَا طَالب ضالةٍ وناشدها؛ أكل يَعْنِي أَن ركابه كلت من سيره عَلَيْهَا وَقَوله: أوضعا يعيني أَنه أسْرع بهَا قَالَ الله تَعَالَى: " ولأضعوا خِلالَكُمْ " التَّوْبَة:47 وَمن الإيضاع قَول دُرَيْد بْن الصمَّة: يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع الخبب والإيضاع ضَرْبَان من السّير السَّرِيع. وَقَول الرشيد لِابْنِ جَامع: أبن جَامع وَجه الْكَلَام فِيهِ فتح الْهمزَة، وَذَلِكَ أَن الْألف فِي ابْن جامعٍ ألف وصل وَإِنَّمَا جِيءَ بهَا فِي الْخَبَر لسكون الْبَاء وَأَنه لَا يبْدَأ بساكن فَإِذا دخلت عَلَيْهَا الْهمزَة للاستفهام سَقَطت كَمَا قَالَ ابْن قيس الرقيات: فَقَالَت ابْن قيسٍ ذَا ... وَبَعض الشيب يعجبها قَالَ الله عز وَجل: " افْتَرَى عَلَى الله كذبا " سبأ: 8 وَقَالَ عز ذكره: " أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ " الصافات: 153 وَقد رُوِيَ لنا بَيت ذِي الرمة على وَجْهَيْن: استحدث الركب من أشياعهم خَبرا ... أم رَاجع الْقلب من أطرابه طرب بالوصل وَالْقطع على مَا بَينا اكْتِفَاء بِدلَالَة قَوْله: أم رَاجع الْقلب من أطرابه طرب، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: تَرُوح من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... وماذا يَضرك لَو تنْتَظر وَقَول ابْن جَامع: إِلَى أَن عسعس اللَّيْل يُقَال عسعس اللَّيْل إِذا أقبل وعسعس إِذْ ولى، وَقيل هُوَ من الأضداد، وَقَالَ الله جلّ ذكره: " وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ " التكوير: 17 قيل فِيهِ الْقَوْلَانِ اللَّذَان ذكرنَا، وَقَالَ الشَّاعِر: عسعس حَتَّى لَو يَشَاء ادنى ... كَانَ لَهُ من ضوئه مقتبس قيل فِي قَوْله: ادنى قَولَانِ أَحدهمَا أَنه افتعل من الدنو، وَأَصله ادتنا، وَقيل بل هُوَ اذدنا

وفادة جرير على الحجاج

وَأَصله أَن يقطع فَيُقَال: لَو يَشَاء اذدنا، وَلكنه ترك الْهَمْز فِي الشّعْر لإِقَامَة وَزنه، وَقد جَاءَ مثله فِي الشّعْر كَقَوْل الطرماح بْن حَكِيم: أَلا أَيهَا اللَّيْل الطَّوِيل أَلا أصبح ... سَرِيعا وَمَا الإصباح فِيك بأصلح وَأَصله أَلا أصبح لِأَنَّهُ رباعي من أصبح يصبح، فعلى هَذَا الْوَجْه أَكثر مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَيْت، وَقد رَوَاهُ بَعضهم أَلا أَيهَا اللَّيْل الَّذِي طَال أصبح فَأتى بِهِ على أَصله. وفادة جرير على الْحجَّاج حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ أَخْبرنِي الزُّبَيْر قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَيُّوب الْيَرْبُوعي عَن أَبِي الذَّيَّال السَّلُولي قَالَ حَدَّثَنِي جرير قَالَ: وفدت على الْحجَّاج بْن يُوسُف فِي سفرةٍ تسمى سفرة الْأَرْبَعين، فَأَعْطَانِي أَرْبَعِينَ رَاحِلَة ورعاءها وحشو حقائبها القطائف والأكسية، كسْوَة لِعِيَالِي، وأوقرها حِنْطَة ثُمَّ خرجت فَلَمَّا شددت على رَاحِلَتي كورها وَأَنا أُرِيد الْمُضِيّ جائني خَادِم فَقَالَ: أجب الْأَمِير، فَرَجَعت مَعَه، فَدخلت على الْحجَّاج، فَإِذا هُوَ قَاعد على كرْسِي، وَإِذا جَارِيَة قَائِمَة تعممه بعمامة فَقلت: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا الْأَمِير فَقَالَ: هَات قل فِي هَذِه، فَقلت: بِأبي وَأمي تمنعني هَيْبَة الْأَمِير وإجلاله، وأفحمت فَمَا أَدْرِي مَا أَقُول، فَقَالَ: بل هَات قل فِيهَا، فَقلت: بِأبي وَأمي فَمَا اسْمهَا؟ قَالَ: أُمَامَة، فَلَمَّا أُمَامَة فتح عَليّ فَقلت: ودع أُمَامَة حَان مِنْك رحيل ... إِن الْوَدَاع لمن تحب قَلِيل تِلْكَ الْقُلُوب صواديا تيمتها ... وَأرى الشِّفَاء وَمَا إِلَيْهِ سَبِيل فَقَالَ: بل إِلَيْهِ سَبِيل، خُذ بِيَدِهَا فجبذبتها فتعلقت بالعمامة وجبذتها حَتَّى رَأَيْت عنق الْحجَّاج قد صغت ومالت مِمَّا جبذتها، وَتعلق بالعمامة، قَالَ: ويخطر ببالي بَيت من شعر فَقلت: إِن كَانَ طبكم الدَّلال فَإِنَّهُ ... حسن دلالك يَا أميم جميل فَقَالَ الْحجَّاج: إِنَّه وَالله مَا بهَا دلال وَلَكِن بهَا بغض وَجهك وَهُوَ أهل ذَلِك، خُذْهَا بِيَدِهَا جرها، فَلَمَّا سَمِعت ذَلِك مِنْهُ خلت الْعِمَامَة. وَخرجت بهَا فكنيتها أم حَكِيم وجعلتها تقوم على ودي لي وعمالي وتعطيهم نفقاتهم بقريةٍ يُقَال لَهَا الغنية من قرى الوشم حَتَّى نفد الودي. قَالَ طَلْحَة: فَأَخْبرنِي الزُّبَيْر قَالَ، قَالَ مُحَمَّد بْن أَيُّوب: وَسمعت حجناء بْن نوح يَقُول: كَانَت وَالله مباركة. شُرُوح وتعليقات قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: قَول جرير جبذتها وأجبذها بِمَعْنى جذبتها وأجذبها، تَقول جبذته أجبذه جبذًا، وجذبته أجذبه جذبا، وَمثله تبيغ بِهِ الدَّم وتبغي، وَمَا أيطبه وَمَا أطيبه، وَمثله كثير. وَأما الودي فَإِنَّهُ الفسيل كَمَا قَالَ الشَّاعِر: نَحن بغرس الودي أعلمنَا ... منا بركب الْجِيَاد فِي الْغَلَس

المجلس الثاني والسبعون

وَقَول جرير: إِن كَانَ طبكم الدَّلال يَعْنِي الْخلق والطبع، كَمَا قَالَ الشَّاعِر. وَمَا إِن طِبَّنا جُبْنٌ وَلَكِن ... مَنَايَانا وطُعْمَةُ آخرينا يجوز فِيهِ طبكم الدَّلال، وطبكم الدَّلال لِأَنَّهُمَا معرفتان كَمَا قَالَ الفرزدق: فقد شهِدت قيس فَمَا كَانَ نصرها ... قُتَيْبَة إِلَّا عضها بالأباهم ويروى فَمَا كَانَ نصرها إِلَّا عضها، وَقَالَ آخر: لقد علم الأقوام مَا كَانَ داؤها ... بثهلان إِلَّا الخزي مِمَّن يَقُودهَا ويروى داءها إِلَّا الخزي، وَقَالَ آخر: إِن يكن طبك الدَّلال فَهَلا ... ذَاك فِي الدَّهْر والسنين الخوالي الْمجْلس الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ وَفَاة أَبِي ذَر حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ الْجَرِيرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن محمدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذرٍ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يبكيك؟ فَقلت: وَمَالِي لَا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، وَلا يَدَ لِي بِدَفْنِكَ وَلَيْسَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَنًا لِي وَلا لَكَ؟ قَالَ: فَلَا تَبْكِي وَأَبْشِرِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لنفرٍ أَنَا فِيهِمْ: لَيَمُوتَنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ بفلاةٍ مِنَ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي قريةٍ وَجَمَاعَةٍ، وَأَنَا الَّذِي أَمُوتُ بفلاةٍ، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِّبْتُ، فَأَبْصِرِي إِلَى الطَّرِيقِ، قَالَتْ قُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُّ وَانْقَطَعَ الطَّرِيقُ؟ قَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي، قَالَتْ: فَكُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى كثيبٍ فَأَتَبَصَّرُ عَلَيْهِ وَأَرْجِعُ إِلَيْهِ فَأُمَرِّضُهُ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَنَا برجالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمُ الرَّخَمُ، فَأَلَحْتُ بِثَوْبِي، فَأَقْبَلُوا إِلَيّ حَتَّى وفقوا عَليّ فَقَالُوا: مَالك يَا أَمَةَ اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: امْرُؤٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ تُكَفِّنُونَهُ، قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذرٍ، قَالُوا: صَاحب رسلو اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَفَدَوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: لَيَمُوتَنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ بفلاةٍ مِنَ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي قريةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَأَنَا الَّذِي أَمُوتُ بِالْفَلاةِ، أَتَسْمَعُونَ؟ إِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ لِي يَسَعُنِي كفناً لي أَو لَا مرأتي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثوبٍ لي أَولهَا، أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ؟ إِنِّي أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَنْ يُكَفِّنَنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيرًا أَوْ عَرِيفًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ نَقِيبًا، وَلَيْسَ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَبَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا عَمُّ أَنَا أُكَفِّنُكَ لَمْ أُصِبْ مِمَّا ذَكَرْتَ شَيْئًا، أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ مِنْ عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي حَاكَتْهُمَا لِي، فَكَفَّنَهُ

يشكو والي السماوة إلى عبد الملك

الأَنْصَارِيُّ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ شَهِدُوهُ مِنْهُمْ حُجْرُ بْنُ الأَدْبَرِ وَمَالِكٌ الأَشْتَرُ فِي نفرٍ كُلِّهِمْ يَمَانٍ. للْخَبَر دلَالَة على نبوة الرَّسُول قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: فِي هَذَا الْخَبَر أكبر دليلٍ على نبوة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثُبُوت رسَالَته لإخباره من الْغَيْب بِمَا وجد على مَا وَصفه، وَهَذَا مِمَّا لم يُعلمهُ إِلَّا بِوَحْي من الله عز وَجل أَلْقَاهُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيه مَا ينبى عَن فضل النَّفر الَّذين ولوا أمرة، و " ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " الْمَائِدَة: 54. يشكو وَالِي السماوة إِلَى عبد الْملك حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دريدٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان الْمَازِني عَن التوزي عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ: ولي عبد الْملك بْن مَرْوَان صدقَات كلبٍ رجلا من بني أُميَّة، وَكَانَت الرّوم قد نَزَعته، وَكَانَ أشقر غضا، فَدخل أَعْرَابِي جلف جافٍ على عبد الْملك فِي جفة النَّاس، فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ يَا إِنْسَان إِنَّك مُدبر مربوب، قَالَ: أجل فَمَا تشاءء؟ قَالَ: قد احْتَجَبت بِهَذِهِ المدرة وَوليت خطابنا أصهب غضا كالقرعوش طمطمانيًا أطومًا كَأَن وَجهه جهوة قردٍ قد قشر بصرها، وَكَأن فَاه سرم أتانٍ، قد قاشها عير فَهِيَ ترمز، إِن كشرت بسر، وَإِن خاطبت نهر، وَإِن تألفت زبر، فَلَا الْكَلَام مَدْفُوع، وَلَا القَوْل مسموع، وَلَا الْحق متبوع، وَلَا الْجور مردوع، وَلنَا وَلَك مقَام فِيهِ ينص الْخِصَام، وترجف الْأَقْدَام، وينتصف الْمَظْلُوم، وينعش المهضوم؛ هَا إِن ملكك هُنَاكَ زائل، وعزك حَائِل، وناصرك خاذل، وَالْحَاكِم عَلَيْك عَادل؛ فاكبأن عبد الْملك وتضاءلت أقطاره وترادت عبراته فِي صَدره، ثُمَّ قَالَ: لله أَبوك، أَي ظلم نالك منا حَتَّى أجاءك إِلَى هَذَا الْمقَال؟ قَالَ: ساعيك فِي السماوة، نَهَاره لَهو، ومقاله لَغْو، وغضبه سطو، يجمع المباقط ويحتجن المشائط ويستنجد العمارط، فَأمر عبد الْملك بِصَرْف الْعَامِل. تَفْسِير أَلْفَاظ وَردت فِي الْخَبَر السَّابِق قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: الغضا الغتم، وَقَالَ ابْن دريدٍ القرعوش ولد البختيه وَهُوَ لَا ينجب وَلَا ينفع، والطمطاني: الْأَعْجَم، والأطوم: الَّذِي لَا يفهم وَلَا يفهم. وَإِنَّمَا أَخذ من جلد الأطوم وَهِي دَابَّة من دَوَاب الْبَحْر صلبة الْجلد، وَقَالَ قوم: هِيَ السلحفاة. قَالَ القَاضِي: فِي السلحفاة لُغَتَانِ سلحفاة وسلحفية. وَقَوله: جهوة قرد: يُرِيد دبره وَمَا وَالَاهُ، وَكَذَلِكَ هُوَ لَك ذِي أَربع، وَرُبمَا اسْتعْمل فِي النَّاس. وَقَوله: قشر بصرها فالبصر قشر أَعلَى كل شَيْء. وَقَوله: قاشها أَي نزا عَلَيْهَا، والترمز التحرك، والمشائط: الْوَاحِد مشياط وَهُوَ الَّذِي يسْرع إِلَيْهِ السّمن، والمباقط المتفرقة، يُقَال بقط هَذَا أَي فرقه، والعمارط الْوَاحِد عمروط وَهُوَ الَّذِي لَا يرى شَيْئا إِلَّا اختلسه وَهُوَ اللص، والوأي: الْوَعْد، والترمز: التحرك؛ رُوِيَ عَن أَبِي حَاتِم عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: كَأَن رجل من بني تَمِيم خليعًا يُقَال لَهُ عُمَيْر بْن مَالك فَمَرض فَحَضَرَ نسَاء الْحَيّ يعدنه، فأطلن الْجُلُوس فَقَالَ:

ابن الزيات يتفجع على دابة أخذها المعتصم

لقل غناء عَن عُمَيْر بْن مالكٍ ... ترمز استاه النِّسَاء العوائد فقمن وقلن: لَا شفَاه الله. وَقَوله: فاكبأن عبد الْملك أَي تدَاخل بعضه فِي بعض، قَالَ الشَّاعِر. فَلم يكبئنوا إِذْ رأوني وَأَقْبَلت ... عَليّ وُجُوه كالسيوف تهلل وَقَوله: تضاءلت أَي تصاغرت، والأقطار: النواحي، وَقَوله: أجاءك أَي اضطرك وَأَصله من الْمَجِيء تَقول جَاءَ زيد وأجاءه غَيره مثل صَار وأصار إِلَيْهِ غَيره. وَمِنْه " فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ " مَرْيَم: 23 كَأَنَّهُ جَاءَ بهَا إِلَيْهِ. قَالَ القَاضِي: وَفِي تَفْسِير ابْن دُرَيْد غَرِيب هَذَا الْخَبَر فِي مَوضِع آخر: المباقط أَي المتفرق من الْمَاشِيَة، وَهُوَ مِمَّا نهى عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابه لأكيدر لَا تعد فاردتكم، وَلَا ترد قاصيتكم، والمشائط: واحدتها مشياط وَهِي النَّاقة السريعة السّمن، يُرِيد أَنه يَأْخُذ المشائط فِي الصَّدَقَة، وَهَذَا مِمَّا نهي عَنْهُ أَيْضا من قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَأْخُذُوا حزرات أنفس النَّاس، يُرِيد خِيَار أَمْوَالهم، والعمروط: اللص يُقَال لص ولص. ابْن الزيات يتفجع على دَابَّة أَخذهَا المعتصم حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَليّ مُحرز الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي سهل بْن عبد الْكَرِيم قَالَ: كَانَ لمُحَمد بْن عبد الْملك دَابَّة أَشهب أحم لم ير مثله فِي الفراهة والوطاء وَالْحسن، فَذكر المعتصم يَوْمًا الدَّوَابّ فَقَالَ: أشتهي دَابَّة فِي نِهَايَة الوطاء تصلح للسرايا، فَقَالَ لَهُ أَحْمَد بْن خَالِد خيلويه قد عَرفته لَك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ على أَن لَا يعلم صَاحبه أَنِّي ذكرته لَك، قَالَ: لَك ستر ذَلِك، قَالَ: عِنْد كاتبك مُحَمَّد بْن عبد الْملك دَابَّة لم ير مثله، فَوجه المعتصم فَأَخذه من مُحَمَّد، فَقَالَ فِيهِ: قَالُوا جزعت فَقلت إِن مصيبتي ... جلت رزيتها وضاق الْمَذْهَب كَيفَ العزاء وَقد مضى لسبيلة ... عَنَّا فودعنا الأحم الْأَشْهب دب الوشاة فباعدوك وَرُبمَا ... بعد الْفَتى وَهُوَ الْحَمِيم الْأَقْرَب لله يَوْم غَدَوْت عني ظَاعِنًا ... وسلبت قربك أَي علق أسلب نَفسِي مقسمة أَقَامَ فريقها ... وَغدا لطيتها فريق يجنب الْآن إِذْ كملت أداتك كلهَا ... ودعا الْعُيُون إِلَيْك زِيّ معجب واختير من خير الحدائد خَيرهَا ... لَك خَالِصا وَمن الْحَيّ الأغرب وغدوت طنان اللجام كَأَنَّمَا ... فِي كل عُضْو مِنْك صنج يضْرب وَكَأن سرجك فَوق متن غمامةٍ ... وكأنما تَحت الغمامة كَوْكَب

المؤلف ينتقد ابن الزيات على موقفه

وَرَأى عَليّ بك الصّديق مهابة ... وَغدا الْعَدو وصدره يتلهب أنساك لَا بَرحت إِذا منسية ... نَفسِي وَلَا زَالَت بمثلك تنكب أضمرت عَنْك الْيَأْس حِين رَأَيْتنِي ... وقوى حبالك من قواي تقضب وَرجعت حِين رجعت مِنْك بحسرةٍ ... لله مَا صنع الْأَصَم الأشيب فليعلمن أَلا تزَال عَدَاوَة ... مني مَرِيضَة وثأر يطْلب يَا صَاحِبي بِمثل ذَا من أمره ... صحب الْفَتى فِي دهره من يصحب إِن تسعدا فصنيعة مشكورة ... أَو تخذلا فعداوة لَا تذْهب عوجا نقضي حَاجَة وتبحثا ... بَث الحَدِيث فَإِنَّهُ لَك أعجب لَا تشعراه بِنَا فَلَيْسَ لذِي هوى ... شكوى الحزازة عِنْده مشتعتب تَفْسِير أَلْفَاظ يَعْنِي بالأصم: أَحْمَد بن خَالِد خيلوبه. قَالَ القَاضِي: الأحم يصف عينه بِالسَّوَادِ. وَقَوله: لَا يرأب يَعْنِي لَا يشعب وَيُقَال لما يرقع بِهِ الْقدح أَو غَيره من الْأَوَانِي رؤبة، وَيُقَال للَّذي يصلح الْفَاسِد ويرقع الصدع هُوَ يرأب الثأى. وَمن ذَلِك قَول الطرماح ابْن حَكِيم: هَل الْمجد إِلَّا السؤدد الْمَحْض والتقى ... ورأب الثأى وَالصَّبْر عِنْد المواطن وَمن الثأى قَول ذِي الرمة: وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بَينهَا الْكتب الْمُؤلف ينْتَقد ابْن الزيات على موقفه قَالَ القَاضِي: هَذَا الَّذِي أَتَى بِهِ الْخَبَر فِي هَذِه الْقِصَّة عَن مُحَمَّد بْن عبد الْملك من خلائفه المستعجبة الكاشفة لما كَا فِيهِ من الْآدَاب المستخشنة، وَمَا الَّذِي بلغ من قدر دابةٍ وَلَو أَنه الْوَجِيه ولاحق، أَو الْعَصَا دَابَّة قصير بْن سعد، حَتَّى يضن بهَا عَن المعتصم، وَهُوَ الْخَلِيفَة المبرز فِي فَضله وسروه وجوده وشرفه وَشرف خلائقه وَجَمِيل طرائقه، وَقد اسْتَكْتَبَهُ وموله، وشرفه وخوله، أَو مَا كَانَ قمنا أَن يَبْتَدِئ بقود الدَّابَّة إِلَيْهِ عِنْد وُقُوفه على نزاعه إِلَيْهِ ورغبته فِيهَا ويغتبط بقبوله إِيَّاهَا وَيرى ذَلِك من المآثر الَّتِي يغبط بهَا ويفتخر بحيازتها، وَقد سبق القَوْل السائر بِالْمثلِ المتوارث الغابر: أَي الرِّجَال الْمُهَذّب. أم قيس ترجو ليلى أَن تزوره حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيّا بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا شُعَيْب بْن السكن عَنْ يُونُس النَّحْويّ قَالَ: لما اخْتَلَط عقل قَيْس الْمَجْنُون

أعرابي معه نصيحة يدخل على الرشيد

وَامْتنع من الطَّعَام وَالشرَاب مَضَت أُمّه إِلَى ليلى فَقَالَت لَهَا: يَا هَذِهِ، قَدْ لحق ابْني بسببك مَا قَدْ علمت فَلَو صرت معي إِلَيْهِ رَجَوْت أَن يثوب لُبُّهُ ويرجَع عقلُه إِذا عاينك، فَقَالَت لَهَا: أما نَهَارا فَلَا أقدر عَلَى ذَلِكَ لِأَنِّي لَا آمن الحيَّ عَلَى نَفسِي، وَلَكِن أمضي مَعَك لَيْلًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل صَارَت إِلَيْهِ فَقَالَت لَهُ: يَا قَيْس إِن أُمَّك تزْعم أَن عقلك زَالَ بسببي، وَأَن الَّذِي لحقك أَنَا أصلُه، فَفتح عَيْنَيْهِ فَنظر إِلَيْهَا وَأَنْشَأَ يَقُولُ: قَالَتْ جُنِنْتَ عَلَى ذِكْرِي فقلتُ لَهَا ... الحبُّ أعظمُ مِمَّا بالمجانين الحبُّ لَيْسَ يُفِيقُ الدَّهْرَ صاحِبُهُ ... وَإِنَّمَا يُصرعُ المجنونُ فِي الْحِين أَعْرَابِي مَعَه نصيحة يدْخل على الرشيد حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَن أَبِيه إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيم الْموصِلِي قَالَ: بَينا أَنا جَالس مَعَ الرشيد على الْمَائِدَة إِذْ دخل الْحَاجِب فَأعلمهُ أَن بِالْبَابِ أَعْرَابِيًا مَعَه نصيحة، فَأمر بإحضاره، فَلَمَّا دخل أمره بِالْجُلُوسِ على الْمَائِدَة فَفعل، وَكَانَ مَعَه صباحة وفصاحة، فَلَمَّا تمّ الْغَدَاء وَرفعت الموائد وَجَاء الْغسْل غسل يَده، ثُمَّ أَمر بِالشرابِ فأحضر، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا حالتي فِي اللبَاس، فَاسْتحْسن هَارُون ذَلِك من فعله وَأمر بِثِيَاب حسنةٍ فطرحت عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَعْرَابِي من أَيْن؟ قَالَ: من الْكُوفَة قَالَ: أَعْرَابِي أم مولى؟ قَالَ: بل عربين قَالَ: فَمَا الَّذِي قصد بك إِلَيْنَا وَمَا نصيحتك؟ قَالَ: قصد بِي إِلَيْك قلَّة المَال وَكَثْرَة الْعِيَال، وَأما نصيحتي فَإِنِّي علمت أَنِّي لَا أصل إِلَيْك إِلَّا بهَا، قَالَ: فَأخذ إِسْحَاق الْعود فغني صَوتا يشتهيه الرشيد ويطرب عَلَيْهِ وَهُوَ: لَيْسَ لي شَافِع إِلَيّ؟ ... ك سوى الدمع يشفع عِشْت بعدِي ومت قب؟ ... لَك هَل فِيك مطمع قسم الْحبّ خَمْسَة ... صَار لي مِنْهُ أَربع فَإلَى الله أشتكي ... كبدا لي تقطع فَقَالَ الرشيد كالمازح: كَيفَ ترى هَذَا يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: بئس وَالله مَا غنى، فَغَضب من ذلكهارون وصعب عَلَيْهِ، قَالَ إِسْحَاق: وَسقط فِي يَدي، فَقَالَ هَارُون: ويكل يَا أَعْرَابِي، وَهل يكون شَيْء أحسن من هَذَا؟ قَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قولي حَيْثُ أَقُول: لَا وحبيك لَا أصا ... فح بالدمع مدمعا من بَكَى شجوه استرا ... ح وإنكان موجعا كَبِدِي فِي هَوَاك أس؟ ... قُم من أَن تقطعا لم تدع سُورَة الْهوى ... للبلى فِي مطما

قَالَ: فاستملح هَارُون ذَلِك مِنْهُ وَأمر إِسْحَاق أَن يُغْنِيه بِهِ شهرا لَا يقطعهُ عَنْهُ، وَأمر للأعرابي بِعشْرَة آلَاف درهمٍ وَصَرفه. الْفضل بْن يحيى يودع أَصْحَابه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى قَالَ: لما خرج الْفضل بْن يحيى إِلَى خُرَاسَان ودع أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ: لما دنا الْبَين بَين الْحَيّ واقتسموا ... حَبل النَّوَى فَهُوَ فِي أَيْديهم قطع جَادَتْ بأدمعها سلمى وأعجلني ... وَشك الْفِرَاق فَمَا أُبْقِي وَلَا أدع يَا قلب وَيحك لَا سلمى بِذِي سلمٍ ... وَلَا الزَّمَان الَّذِي قد مر مرتجع أكلما مر ركب لَا يلا ئمهم ... وَلَا يبالون أَن يشتاق من فحعوا علقتني بهوى فيهم فقد جعلت ... من الْفِرَاق حَصَاة الْقلب تنصدع قَالَ القَاضِي: هَذِه أَبْيَات حَسَنَة. وَقَوله: واقتسموا حَبل النَّوَى من أحسن القَوْل وأظرفه. أَبْيَات اللمصعب تعجب الرشيد حَدثنَا يزْدَاد بْن عبد الرَّحْمَن الْمروزِي قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كَانَ هَارُون أَمِير الْمُؤمنِينَ يستنشدني كثيرا قَول أَبِي عَبد اللَّه بْن مُصعب وَيُعْجِبهُ: وَإِنِّي وَإِن قصرت عَن غير بغضةٍ ... مراعٍ لأسباب الْمَوَدَّة حَافظ وَمَا زَالَ يدعوني إِلَى الصرم مَا أرى ... فآبى وتثنيني عَلَيْك الحفائظ وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... أَلا ين طورا مرّة وأغالظ وأنتظر الإقبال بالود مِنْكُم ... وأصبر حَتَّى أوجعتني المغايظ جربت مَا يسلي الْمُحب على الْهوى ... فأقصرت والتجريب للمرء واعظ قَالَ القَاضِي: ولعمري إِن هَذِه الأبيات لمن مستحسن الشّعْر فِي مَعْنَاهَا، وَإِعْجَاب الرشيد بهَا مِمَّا ينبى عَن خلوص أدبه وصفاء قريحته. أَبْيَات لإِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي فِي جَارِيَة كَانَت تخدمه حَدثنَا المظفر بْن يحيى بْن أَحْمَد الشرابي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس المرثدي قَالَ حَدَّثَنَا طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّهِ الطلحي قَالَ أَنْشدني يَعْقُوب بْن عباد الزبيرِي لإِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي، وَقد أخدمته بعض العباسيات فِي حَال استخفائه عِنْدهَا جَارِيَة وَقَالَت لَهَا: أَنْت لَهُ، فَإِن مد يَده إِلَيْك فَلَا تمتنعي وَلم يعلم بهبتها لَهُ، وَكَانَت مليحة، فجمشها يَوْمًا بِأَن قبل يَدهَا وَقَالَ: يَا غزالا لي إِلَيْهِ ... شَافِع من مقلتيه

بيتان لابن عرفة

وَالَّذِي أكرمت خدي؟ ... هـ فَقبلت يَدَيْهِ بِأبي وَجهك مَا أك؟ ... ثر حسادي عَلَيْهِ أَنا ضيف وَجَزَاء ال؟ ضيف إِحْسَان إِلَيْهِ بيتان لِابْنِ عَرَفَة قَالَ القَاضِي: وَمِمَّا يضارع بعض مَا تضمنته هَذِه الأبيات من جِهَة مَا أنشدناه إبراهمي بن مُحَمَّد بن عَرَفَة لنَفسِهِ: يَا دَائِم الهجر والصدود ... مَا فَوق بلواي من مزِيد أَصبَحت عبدا وَلست ترعى ... وَصِيَّة الله فِي العبيد بيتان لمُحَمد بن دَاوُد وأنشدني أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ عَن مُحَمَّد بْن دَاوُد: ترى من كوى قلبِي بِنَار فِرَاقه ... وصير حظي من مودته بعدا تفكر يَوْمًا فِي أَو قَالَ مرّة ... تركنَا لَهُ عبدا أسأنا بِهِ جدا إِسْمَاعِيل الديلمي اشتهي حلوى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مخلدٍ بْنِ حَفْص الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا حَامِد بْن مُحَمَّد بْن الحكم بْن عبد الرَّحْمَن أَبُو محمدٍ قَالَ حَدثنَا كردان قَالَ قَالَ لي إسماعي الديلمي: اشْتهيت حلوى وأبلغت شَهْوَته إِلَيّ، فَخرجت من الْمَسْجِد بِاللَّيْلِ لأبول فَإِذا جنبتي الطَّرِيق أخاوين حلوى، فنوديت يَا إِسْمَاعِيل هَذَا الَّذِي اشْتهيت وَإِن تَركه خير لَك، فتركته؛ قَالَ ابْن مخلد: وَقد كتبت أَنا عَن كردان وَكَانَ يكون فِي قنطرة بني زُرَيْق، وَقد رَأَيْت إِسْمَاعِيل الديلمي فَكَانَ مَا شِئْت من رجل، رَأَيْته عِنْد أَبِي جَعْفَر بْن إشكاب. قَالَ القَاضِي: إِسْمَاعِيل الديلمي هَذَا من خِيَار الْمُسلمين، وَالنَّاس يزورون قَبره، وقبره وَرَاء قبر مَعْرُوف الْكَرْخِي، بَينهمَا قُبُور يسيره، وَهُوَ بَينه وَبَين الْمَسْجِد الْمَعْرُوف بِمَسْجِد الْخضر وَقد زرته مرَارًا. وحَدثني بعض شُيُوخنَا من أهل الْعلم أَنه كَانَ حَافِظًا للْحَدِيث كثير السماع وَأَنه كَانَ يذاكر بسبعين ألف حَدِيث. خوان وأخونة قَالَ القَاضِي: قَوْله: أخاوين حلوى يُقَال لما يَجْعَل عَلَيْهِ الطَّعَام قبل جعله خوان فَإِذا جعل الطَّعَام عَلَيْهِ فَهُوَ مائدة، فَإِذا رفع الطَّعَام عَنهُ عَاد إِلَى تَسْمِيَته خوانًا. وَزعم بَعضهم أَن الْمَائِدَة إِنَّمَا تسمى بِهَذَا الِاسْم إِذا خف مَا عَلَيْهَا من الطَّعَام لِأَنَّهَا حينئذٍ تميد. وَزعم الْفراء أَنه بِمَنْزِلَة المهدى يرجع إِذا كَانَ فَارغًا إِلَى اسْمه الأول فَيُقَال: طبق وقناع وَمثله عِنْده الكأس تسمى كأسًا إِذا كَانَ فِيهَا الشَّرَاب، فَإِذا أخذت مِنْهُ رجعت إِلَى اسْمهَا؛ وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: الخوان بِالْكَسْرِ كَلَام الْعَرَب، وَهُوَ خوان بِالضَّمِّ بِاللِّسَانِ الْفَارِسِي.

الجلس الثالث والسبعون

وَرُوِيَ لنا عَن الْفراء الْكسر وَالضَّم فِي الخوان من كَلَام الْعَرَب، وَجمعه أخاوين مثل سوار وأساوير وَيجمع السوار أَيْضا أسورة وأساورة، وَالْهَاء فِي أساورة عوض من الْيَاء فِي أساوير. وَذكر نَحْو هَذَا سِيبَوَيْهٍ فِي زنديق وزنادقة وفرزان وفرازنة. وَقَالَ الْأَخْفَش إسوار وأسورة فِي قَوْله تَعَالَى: " فلولا ألقِي عَلَيْهِ أسورة " الزخرف: 53 لِأَنَّهُ جمع أسوار وأسورة وَقَالَ بَعضهم أساورة فَجعله جمعا للأسورة وَأَرَادَ أساوير، وَالله أعلم، فَجعل الْهَاء عوضا من الْيَاء الَّتِي فِي أساوير. قَالَ القَاضِي: وَقد قَالَ الله جلّ ذكره: " وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فضةٍ الْإِنْسَان: 21 وَقَالَ تَعَالَى: " يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ " الْكَهْف: 31 فَأتى الْجمع هَاهُنَا على أساور. وَحكى ثَعْلَب أَن الْفراء قَالَ: أسورة جمَاعَة سوار للَّذي فِي الْيَد يضم وَيكسر بِلَا ألف وَجمعه أسورة، وَيجوز أَن يكون أساورة جمع أسورة كَمَا قيل فِي الأسقية أساق، والأسوار والإسوار الرَّامِي. وَقد قيل فِي سوار الْيَد إِنَّه يجوز فِيهِ إسوار وأسوار، فَيجوز على هَذِه اللُّغَة أَن تكون أساورة جمعه. وَقَالَ الْفراء فِي كِتَابه فِي الْمعَانِي: من قَرَأَ أساورة جعل وَاحِدهَا أسواراً، وَمن قَرَأَ سُورَة فواحدها سوار وَقد تكون الأساورة جمع أسورة، كَمَا يُقَال فِي جمع الأسقية النَّحْوِيين: فِي وَاحِد أساور لُغَتَانِ: ضم السِّين وَكسرهَا، وَهُوَ على الْقيَاس، لِأَن جمع فعال وفعال أفعلة، فَأَما أسوار بِمَعْنى سوار فَلَيْسَ بِصَحِيح فِي الْقيَاس، فَإِن كَانَت لُغَة فَهِيَ شَاذَّة، وَلَا يكون جمعه أسورة لِأَن أفعالا لَا يجمع على أَفعلهُ وَإِنَّمَا الأسوار على أَفعَال فارسية معربة، وهواسم الْفَارِس بِالْفَارِسِيَّةِ وَلَيْسَ باسم الرَّامِي كَمَا زعم الْفراء. وَجمعه أساوير وأساور بياءٍ وَبلا يَاء، وأساورة بِالْهَاءِ عوضا عَن الْيَاء. وَلَيْسَت أساورة مثل أساق لِأَن أساقي لَا هَاء فِيهَا فَهِيَ مثل أساور. قَالَ القَاضِي: وَهَذَا القَوْل أشبه الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ. الجلس الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ حَدِيث إِن أمتك مفتتنة بعْدك حَدثنَا عبد بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ بِلِحْيَتِي وَأَنَا أَعْرِفُ الْحُزْنَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام آنِفا فَقَالَ لَك إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، قلت: أجل إنّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، فَمِمَّ ذَاكَ يَا جِبْرِيلُ:؟ قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ مُفْتَتَنَةٌ بَعْدَكَ بِقَلِيلٍ مِنَ الدَّهْرِ غَيْرِ كَثِيرٍ، فَقُلْتُ: فِتْنَةُ كفرٍ أَوْ فِتْنَةُ ضَلالَةٍ؟ قَالَ: كُلٌّ سَيَكُونُ، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ وَأَنَا تَارِكٌ فِيهِمْ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ يَضِلُّونَ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أُمَرَائِهِمْ وَقُرَّائِهِمْ، يَمْنَعُ الأُمَرَاءُ الْحُقُوقَ

الجريري يستغيث بالله من الظلم والظلمة

وَيَسْأَلُ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ فَلا يُعْطَوْنَهَا، فَيَقْتَتِلُونَ وَيُفْتَتِنُونَ، فَيَتَّبِعُ الْقُرَّاءُ هَوَى الأُمَرَاءِ فَيَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ، قُلْتُ: فَبِمَ يَسْلَمُ مَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بِالْكَفِّ وَالصَّبْرِ، إِنْ أُعْطُوا الَّذِي لَهُمْ أَخَذُوهُ وَإِنْ مُنِعُوهُ تَرَكُوهُ. الْجريرِي يستغيث بِاللَّه من الظُّلم والظلمة قَالَ القَاضِي: قد رَأينَا مَا قدم نَبينَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم الْإِخْبَار بِهِ وشاهدناه وَظهر لنا مَا أَنبأَنَا بِهِ وعايناه ومنعنا الَّذِي لنا فصبرنا، وليت مَا نعنا حثنا والمستبد بِهِ اقْتصر على مَا أَتَاهُ وَلم يتجاوزه إِلَى اغتصاب التالد والطريف من أَمْوَالنَا بالخبط والعسف والتعذيب والعنف، وَلم يتخطه إِلَى تكليفنا مَا لَا نقدر عَلَيْهِ وَلَا نصل إِلَيْهِ، فَإلَى الله المشتكى والملتجأ، وَهُوَ المستغاث المرتجى، بعدله نستجير من جور من غلبنا على أقواتنا فشبع بهَا وأجاعنا، وَحفظ بهَا نَفسه وأضاعنا، فَإِنَّهُ قاصم العتاة المترفين، وَعَاصِم العناة الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَمَا هُوَ بغافل عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ. وَقد " قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا من يَشَاء من باده وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " الْأَعْرَاف: 128129 اللَّهُمَّ وَإِنَّا أَصْبَحْنَا مستغيثني بك فصبرنا على بلائك ووفقنا لشكر آلَائِكَ وألهمنا تقواك حَتَّى تكون الْعَاقِبَة لنا واستنقذنا من عَدوك وعدونا إِنَّك رؤوف رَحِيم جواد كريم. فَأَما ممالأة قراء السوء أشكالهم من أمرائهم فقد ظللنا مِنْهُ فِي أَمر عَظِيم وخطب جسيم، وَصَارَ من يعتزي إِلَى تِلَاوَة الْقُرْآن ويدعى لَهُ علم شرائع الْإِيمَان مِمَّن لَيْسَ عِنْده مِمَّا ينْسب إِلَيْهِ إِلَّا ادعاؤه وَقد تموه لَهُ بجده وامتحان الْعباد بِهِ مَا يظنّ أَنه حَاصِل لَهُ وَإِن كَانَ صفرًا مِنْهُ، وَمِنْهُم من قد جعل الزخرفة والغلط والهجر لَهُ صفة معرضة الَّذِي يُدَلس بِهِ نَفسه، ويوهم الْجُهَّال أَن وَرَاء مَا يظهره مَا يضاهي مَا اغتروا بِهِ، وَمِنْهُم من قد اتّفق لَهُ من بعض المترفين وجهله المتعلمين قبُول لَهُ وصبابة نَحوه، واطراح الدَّين شَامِل لهَذِهِ الْفرق الْمُتَقَدّمَة المفتتن بهَا، وَالله نسْأَل إدالة أوليائه وَإِزَالَة أعدائه. الجمانة الكنانية تقع فِي حب حممة حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبرنِي عمي الْحُسَيْن بْن دُرَيْد عَن أَبِيه قَالَ حَدَّثَنَا هِشَام بْن مُحَمَّد بْن السَّائِب الْكَلْبِيّ وَعَن أبي مسكني عَن عبد الرَّحْمَن بْن مغراء أَبِي زُهَيْر الدوسي قَالُوا: كَانَ حممة بْن رَافع بْن الْحَارِث الدوسي من أجمل الْعَرَب وَكَانَت لَهُ جمة يُقَال لَهَا الرّطبَة كَانَ يغسلهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ يعقصها وَقد احتقن فِيهَا المَاء، فَإِذا مضى لَهَا يَوْمَانِ حلهَا ثُمَّ يعصرها فَيمْلَأ جلساءه، فحج على فرسٍ لَهُ، فَنَظَرت إِلَيْهِ الجمانة الكنانية وَهِي خناس، وَكَانَت عِنْد رجل من بني كنَانَة يُقَال لَهُ ابْن الحمارس فَوَقع بقلبها، فَقَالَت لَهُ: من أَنْت؟ فو الله مَا أَدْرِي أوجهك أحسن أم شعرك أم فرسك، مَا أَنْت بالنجي الثلب، وَلَا التهامي الترب، فاصدقني، قَالَ: أَنا امْرُؤ من الأزد من دوس، ومنزلي ببروق، قَالَت: فَأَنت أحب النَّاس إِلَيّ، وَقد وَقعت فِي نَفسِي فَاحْمِلْنِي مَعَك، فأردفها خَلفه وَمضى إِلَى بَلَده، فَلَمَّا أوردهَا أرضه قَالَ: قد علمت هربك معي كَيفَ كَانَ؛ وَالله لَا تهربين بعدِي إِلَى رجل أبدا، فَقطع عرقوبيها، فَولدت لَهُ عَمْرو بْن حممة، وَكَانَ سيداص، وَولد عَمْرو بْن حممة الطُّفَيْل بْن عَمْرو ذَا النُّور، وَفد عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: وَخرج زَوجهَا ابْن الحمارس فِي طلبَهَا فَلم يقدر عَلَيْهَا فَرجع وَهُوَ يَقُول: أَلا حَيّ الخناس على قلاها ... وَإِن شحطت وَإِن بَعدت نَوَاهَا تبدلت الطبيخ وَأَرْض دوسٍ ... بهجمة فَارس حمرٍ ذراها وَقد خبرتها جاعت وذلت ... وَأَن الْحر من طود شواها وَقد خبرتها نحلت ركيا ... وأثوارا معرقة شواها وَقد أنبئتها ولدت غُلَاما ... فَلَا شب الْغُلَام وَلَا هناها فَلَمَّا أنْشد عمر بْن الْخطاب هَذَا الشّعْر قَالَ: قد وَالله شب الْغُلَام وَقد هناها. قَالَ القَاضِي: قَوْلهَا: " مَا أَنْت بالنجدي الثالب وَلَا

ألسنة السمك يقدمها إبراهيم بن المهدي للرشيد

التهامي الترب من التُّرَاب جَمِيعًا، والأثلب من أَسمَاء التُّرَاب، يُقَال: بِفِيهِ الأثلب والإثلب، وَقَوله: " لَا هناها " من قَوْلهم كل هنيًا مريًا، وَأَصله الْهَمْز، يُقَال: هنأني الطَّعَام وَقد يتْرك همزه وَتَركه فِي الشّعْر كثير لتصحيح الْوَزْن كَمَا قَالَ: فارعي فَزَارَة لَا هُنَاكَ المرتع أَلْسِنَة السّمك يقدمهَا إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي للرشيد حَدثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن أَبِي طَاهِر قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: استزار إِبْرَاهِيم بْن الْمهْدي الرشيد بالرقة فزاره، وَإِن الرشيد كَانَ لَا يَأْكُل الطَّعَام الْحَار قبل الْبَارِد، وَأَنه لما وضعت البوارد على الْمَائِدَة رأى فِيمَا قرب مِنْهُ جَام قريس السّمك، فاستصفر طباخي الْقطع، وَإِنَّمَا هَذِه أَلْسِنَة السّمك، فَقَالَ: يشبه أَن يكون فِي هَذَا الْجَام مائَة لِسَان، فَقَالَ لَهُ مراقب خَادِم إِبْرَاهِيم وَكَانَ يتَوَلَّى قهرمة إِبْرَاهِيم: فِيهِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَكثر من مائَة لِسَان، فاستحلفه على مبلغ ثمن السّمك فَأخْبرهُ أَنه ألف دِرْهَم، فَرفع هَارُون يَده علن الطَّعَام وَحلف أَن لَا يطعم شَيْئا دون أَن يحضر مراقب ألف دِينَار، فَأمر أَن يصدق بهَا، وَقَالَ لإِبْرَاهِيم: أَرْجُو أَن تكون هَذِه كَفَّارَة لسرفك فِي إنفاقك عَليّ جَام سمك ألف دِرْهَم، ثُمَّ أَخذ الْجَام بِيَدِهِ وَدفعه إِلَى بعض خدمه وَقَالَ: اخْرُج بِهِ من دَار أخي ثُمَّ أنظر إِلَى أول سَائل ترَاهُ فادفعه إِلَيْهِ، قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانَ شِرَاء الْجَام عَليّ مِائَتَيْنِ وَسبعين دِينَارا، فغمزت خدمي أَن يخرجُوا مَعَ الْجَام فيبتاعونه

السرف والإسراف

مِمَّن يدْفع إِلَيْهِ، وَكَأن الرشيد فهم ذَلِك مني، فَهَتَفَ بالخادم فَقَالَ: إِذا دفعت الْجَام إِلَى السَّائِل فَقل لَهُ: يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ احذر أَن تبيع الْجَام بِأَقَلّ من مِائَتي دِينَار فَإِنَّهُ خير مِنْهَا، فَفعل خادمه مَا أمره بِهِ، فو الله مَا أمكن خادمي يخلص الْجَام إِلَّا بِمِائَتي دِينَار. السَّرف والإسراف قَالَ القَاضِي: إِن طعم اللِّسَان من السّمك أشبه الطعوم بطعم لحم الْخِنْزِير، وَقل الرشيد: كَفَّارَة لسرفك فَإِن السَّرف فِي كَلَام الْعَرَب التجاوز للشَّيْء، حُكيَ عَن الْعَرَب مَرَرْت بكم فسرفتكم، وَقَالَ الشَّاعِر: أعْطوا هنيدة يحدوها ثَمَانِيَة ... مَا فِي عطائهم من وَلَا سرف فَأَما الزِّيَادَة فِي الْإِنْفَاق وَغَيره فَهُوَ الْإِسْرَاف، وَهُوَ ضد التقتير، يُقَال: أسرف يسرف إسرافًا، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا " الْفرْقَان: 67 وَقَالَ: " فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ " الْإِسْرَاء:33 وَقَالَ: " وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا " النِّسَاء:6 وَقَالَ: " وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ " الْأَنْعَام:141 وَقَالَ: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهم " وَهَذَا كثير جدا. خطْبَة زِيَاد البتراء حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي يَعْقُوب الدِّينَوَرِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عبيد بن مُحَمَّد الفيرياب قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْملك بْن عُمَير قَالَ: شهدتُ زيادَ بْن أَبِي سُفْيَان وَقَدْ صعد الْمِنْبَر فسَلَّم تَسْلِيمًا خَفِيًّا، وانْحرف انحرافًا بطيا، وخطب خطْبَة بتيراء، قَالَ ابْن الفيريابي والْبُتَيْراء الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمّ قَالَ: إِن أَمِير الْمُؤْمِنِين قَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ، وَشهد الشُّهُود بِمَا قد علمْتُم، وَإِنَّمَا كنت امْرَءًا حفظ الله مني مَا ضيع النّاس، وَوصل مني مَا قطعُوا، أَلا إِنَّا قَدْ سُسْنا وساسنا السائِسُون، وجَرَّبْنا وجربنا المجربون، وولينا وولينا الوالون، وَإِنَّا وجدنَا هَذَا الْأَمر لَا يصلحه إِلا شدةٌ فِي غَيْر عُنْف، ولينٌ فِي غَيْر ضَعف، وأيم اللَّه إِن لي فِيكُم صَرْعَى فليحذر كُلّ رجلٍ مِنْكُم أَن يكون من صرعاي، وَالله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر، حَتَّى تلين لي قناتكم، وَحَتَّى يَقُول الْقَائِل مِنْكُم: انج سعد فقد قتل سعيد، فَرب فَرِحٍ بإمارتي لن تَنْفَعَه، ورُبَّ كارهٍ لَهَا لن تَضُرَّه. وَقَدْ كَانَت بيني وَبَين أقوامٍ مِنْكُم دمن وأحقاد، وَقد جعلت ذَلِك خلف ظَهْري وَتَحْت قدمي، فَلَو بَلغنِي عَنْ أحدكُم أَن الْبُغْضَ لي قَتَلَهُ، مَا كَشفْتُ لَهُ قِناعًا وَلا هَتكتُ لَهُ سِتْرًا حَتَّى يُبْدِي صفيحته، فَإِذا أبداها لم أَقَله عثر تهز أَلا وَلَا كذبة أكبر شَاهدا عَلَيْهَا من كذبة أميرٍ على مِنْبر، فَإِذا سمعتموها مني فاغتمزوها فِي، وَإِذَا وعدتكم خيرا أَوْ شرا فَلم أُفٍّ لكم بِهِ فَلَا طَاعَة لي فِي رِقَابكُمْ، أَلا وَأي رجل مِنْكُم مِمَّن كَانَ مكتبه خُرَاسَان فأجَلُه سنَتَان، ثُمّ هُوَ أميرُ نَفسه، وَأَيّمَا رَجُل مِنْكُم كَانَ مكتبه دون خُرَاسَان فَأَجله سِتَّةُ أشهر، ثُمّ هُوَ أَمِير نَفسه، وأيُّما امرأةٍ احْتَاجَت فإننا نعطيها عطاءَ زَوجهَا ثُمّ نقاصه بِهِ، وَأَيّمَا عقال فقد تموه من مُقامِي هَذَا إِلَى خُرَاسَان فَأَنا لَهُ ضامنٌ. فَقَامَ إِلَيْهِ نُعيم بْن الْأَهْتَم الْمِنْقَرِيّ فَقَالَ: أشهد لقد أُوتيت الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب، فَقَالَ: كذبت أَيهَا الرجلن ذَاك نَبِيَّ اللَّه دَاوُد عَلَيْه السَّلام،، ثُمّ قَامَ إِلَيْهِ الْأَحْنَف بْن قَيْس فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل، إِنَّمَا الجوادُ بِشَدِّه، والسيفُ بِحَدِّه، والمرء بِجَدِّه، وَقَدْ بلَّغَك جَدُّك مَا ترى، وَإِنَّمَا الشُّكْر بعد الْعَطاء، والثناءُ بعد الْبلَاء، ولسنا نُثْنِي عَلَيْك حَتَّى نَبْتليَك، فَقَالَ: صدقت، ثُمّ قَامَ أَبُو بِلَال مِرْداسُ بْن أُدَيَّة فَقَالَ: أَيهَا الرَّجُل قَدْ سَمِعْتُ قَوْلك: واللَّه لآخذن البريء بالسقيم الْمُطِيع بالعاصي والمقبل بالمدبر ولَعَمْرِي لقَدْ خَالَفت مَا حكم اللَّه فِي كِتَابه إِذْ يَقُولُ: " وَلا تَزِرُ وازة وِزْرَ أُخْرَى " الْأَنْعَام:16 فَقَالَ: إيها عني، فو الله مَا أجدُ السَّبيل إِلَى مَا تريدُ أَنْت وأصحابُك حَتَّى أخوض الْبَاطِل خوضًا، ثُمّ نزل فَقَامَ إِلَيْهِ مرداس بْن أدية وَهُوَ يَقُول؛ يَا طَالب الْخَيْر مهر الجَوْرِ مُعْترضٌ ... طولُ التهجُّدِ أَوْ فتك بجبار لَا كنت إِن لَمْ أَصمّ عَنْ كُلّ غانيةٍ ... حَتَّى يكون بريق الْحور إفطاري فَقَالَ لَهُ رَجُل: أَصْحَابك يَا أَبَا بِلَال شباب، فَقَالَ: شباب متكهلون فِي شبابهم، ثُمَّ قَالَ: إِذا مَا اللَّيْل أظْلم كَابَدُوهُ ... فيسفر عَنْهُم وهم سُجُود فشرى وانجفل النَّاس مَعَه، وَكَانَ قد ضيق الْكُوفَة على زِيَاد. قَالَ القَاضِي: قد رُوِيَ لنا هَذَا الشّعْر فِي بعض أَخْبَار الْفَوَائِد على غير هَذِه القافية وَهُوَ: إِذا مَا اللَّيْل أظْلم كَابَدُوهُ ... فيسفر عَنْهُم وهم رُكُوع أطار الْخَوْف نومهم فَقَامُوا ... وَأهل الْأَمْن فِي الدُّنْيَا هجوع تَفْسِير مَا ورد فِي البتراء رغم تكَرر وُرُودهَا قَالَ القَاضِي: كتبت هَذَا الْخَبَر هَاهُنَا وَأَنا أُرِيد كتب غَيره خطأ مني، لِأَنِّي قد رسمته فِي بعض مَا تقدم من مجَالِس هَذَا الْكتاب، وَأَنا أذكر هَاهُنَا من تَفْسِيره مَا يخرج بِهِ من كتبه عَن أَن يكون لاقي عناء بتكرارٍ لَا فَائِدَة فِيهِ. قَالَ القَاضِي: قَول زِيَاد: إِن هَذَا الْأَمر لَا يصلحه إِلَّا مَا ذكره قد سبق إِلَى مَعْنَاهُ وَلَفظه عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَذكر منيلي شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فَقَالَ: يكون قَوِيا فِي غير عنف، لينًا فِي غير ضعف، وَفِي ضعف لُغَتَانِ: الضَّم وَالْفَتْح، وَقد قَرَأت القرأة بهما فِي الْقُرْآن، وَزعم بعض عُلَمَاء اللُّغَة أَن وَجه الْكَلَام فِيهِ أَن يضم حَيْثُ يكون إِعْرَاب الْكَلِمَة فِيهِ غير النصب، وَيفتح مَعَ النصب، واستقصاء الْكَلَام فِي هَذَا فِي مَوْضِعه من الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي عُلُوم الْقُرْآن. وَقَوله: قد كَانَت بيني وَبَين قوم مِنْكُم دمن وأحقاد الدمن: الأحقاد وَاحِدهَا: دمنة، يُقَال فِي نَفسه دمنة وحسيكة وغمر وسخيمة وضغن وكتيفة، وَيجمع كتائف كَقَوْل الشَّاعِر: أَخُوك الَّذِي لَا يملك الْحس نَفسه ... وتهتز عِنْد المحفظات الكتائف وَفِيه غل، فِي أَسمَاء كَثِيرَة. وَقَوله: انج سعد فقد قتل سعيد كَانَ ابْنا ضبة بْن أد خرجا فِي بغاء إبلٍ لَهما، فَرجع سعد وَلم يرجع سعيد، فَكَانَ أَبوهُمَا إِذا أقبل أَحدهمَا يَقُول: أسعد أم سعيد، فأرسلها مثلا. أَخ يعشق زَوْجَة أَخِيه وهما من بني كنة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْص الْعَطَّار قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن رَاشد بْن سُلَيْمَان الأدمِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَان الثَّقَفِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْمفضل بْن فضَالة مولى عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن مُحَمَّد بْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي قَالَ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أَخَوان من حَيّ يدعونَ بني كنة، أَحدهمَا متزوج وَالْآخر عزب، فَقضى أَن المتزوج خرج فِي بعض مَا يخرج النَّاس فِيهِ، وَبَقِي الآخر مَعَ امْرَأَة أَخِيه، فَخرجت ذَات يومٍ حَاسِرَة فَإِذا أحسن النَّاس وَجها وَأحسن النَّاس ثغرا، فَلَمَّا علمت أَن قد رَآهَا ولولت وصاحت وَقَالَت بمعصمها فغطت وَجههَا قَالَ القَاضِي: المعصم مَوضِع السوار فزاده ذَلِك فتْنَة، فَحمل الشوق على بدنه حَتَّى لم يبْق إِلَّا رَأسه وَعَيناهُ تدوران فِي رَأسه، وَقدم الْأَخ فَقَالَ: يَا أخي مَا الَّذِي أرى بك؟ فاعتل عَلَيْهِ فَقَالَ: الشوثة قَالَ: الشوصة يسميها الْعَرَب اللوي وَذَات الْجنب فَقَالَ لَهُ ابْن عَم لَهُ: لَا تكذبنه، ابْعَثْ إِلَى الْحَارِث بْن كلدة فَإِنَّهُ من أطب الْعَرَب، فجيء بِهِ فلمس عروقه فَإِذا ساكنها سَاكن وضاربها ضَارب، فَقَالَ: مَا بأخيك إِلَّا الْعِشْق، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله تَقول هَذَا لرجل ميت، قَالَ: هُوَ ذَاك، عنْدكُمْ شَيْء منشراب:؟ فجيء بِهِ ودعا بمسعطٍ فصب فِيهِ وَحل صرة من صراره فذر فِيهِ ثُمَّ سقَاهُ، ثُمَّ سقَاهُ الثَّانِيَة ثُمَّ سقَاهُ الثَّالِثَة، فانتشى يُغني سكرا فَقَالَ: تهيد مَا تهيج وَيذكر ... أَيهَا الْقلب الحزين مَا يكوننه

خبر الأخوين من بني كنة برواية أخرى

ألما بِي على الأبيا ... ت من خيفٍ أزرهنه غزالاً مَا رَأَيْت الي؟ ... وم فِي دور بني كنه غزال أحور الْعين ... وَفِي مَنْطِقه غنه قَالَ القَاضِي: الْبَيْت الأول من هَذِه الأبيات مُضْطَرب، وَأرى بعض من رَوَاهُ كَسره وأخل بُنْيَانه ونظمه لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ علم بِوَزْن الشّعْر فَقَالَ الرجل: هَذِه دور بني كنه فليت شعري من؟ فَقَالَ الْحَارِث: لَيْسَ فِيهِ مستمتع غير هَذَا الْيَوْم، وَلَكِن أغدو عَلَيْكُم من الْغَد فَفعل كَفِعْلِهِ بالْأَمْس، فانتشى يُغني سكرا وَاسم امْرَأَة أَخِيه ريا فَقَالَ: أَيهَا الجيرة اسلموا ... كي تحيوا وتكرموا خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم هِيَ مَا كنتي وتز ... عَم أَنِّي لَهَا حمو فَقَالَ الرجل لمن حَضَره: أشهدكم أَنَّهَا طَالِق ثَلَاثًا ليرْجع إِلَى أخي فُؤَاده، فَإِن الْمَرْأَة تُوجد وَالْأَخ لَا يُوجد، فجَاء النَّاس يسعون وَيَقُولُونَ: هَنِيئًا لَك يَا أَبَا فلَان، فَإِن فلَانا قد نزل لَك عَن فُلَانَة، فَقَالَ لمن حضر: أشهدكم أَنَّهَا عَليّ مثل أُمِّي إِن تَزَوَّجتهَا، قَالَ عَبد اللَّه بْن عُثْمَان، قَالَ الْمفضل قَالَ ابْن سِيرِين قَالَ عُبَيْدَة السَّلمَانِي: مَا أَدْرِي أَي الرجلَيْن أكْرم: الأول أم الآخر. خبر الْأَخَوَيْنِ من بني كنة بِرِوَايَة أُخْرَى قَالَ القَاضِي: قد رُوِيَ هَذَا الْخَبَر من غير هَذِه الطَّرِيق وَفِي بعض أَلْفَاظه اخْتِلَاف، فَرَأَيْت تكْرَار جملَته لتكمل الْفَائِدَة، وَلَا يفوت مِنْهُ شَيْء، وَمَا يتَكَرَّر من اقتصاصه لَا ضَرَر فِيهِ: حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن سهل الرَّازِيّ قَالَ حَدَّثَنَا سعيد بْن يحيى الْأمَوِي قَالَ، حَدَّثَنِي عمي مُحَمَّد بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْملك بن عيمر قَالَ: كَانَ أَخَوان من ثَقِيف من بني كنة بَينهمَا من التبار والتحاب شَيْء لَا يُعلمهُ إِلَّا الله، كل واحدٍ مِنْهُمَا أَخُوهُ عِنْد رَأسه، وَإِن الْأَكْبَر خرج إِلَى سفر وَله امْرَأَة، فأوصى أَخَاهُ بحاجة أَهله، فَبينا الْمُقِيم فِي دَار الظاعن إِذْ مرت امْرَأَة أَخِيه، وَكَانَت من أجمل الْبشر، تجوز من بيتٍ إِلَى بَيت، فرآها فأى شَيْئا مُخْتَلفا، فَلَمَّا رَأَتْهُ ولولت وَوضعت يَدهَا على رَأسهَا وَدخلت بَيْتا، فَوَقع حبها فِي قلبه، فَجعل يذوب وينحل جِسْمه وَتغَير لَونه، وَقدم أَخُوهُ وَقَالَ: يَا أخي مَالِي أَرَاك هَكَذَا؟ وَمَا وجعك:؟ قَالَ: مَا بِي وجع، فَدَعَا الْأَطِبَّاء فَلم يَقع أحد على دائه، حَتَّى أُتِي الْحَارِث بن كلدة وَكَانَ طَبِيبا فَقَالَ: أرى عينين صحيحتين وَمَا أَدْرِي مَا هَذَا الوجع، وَمَا أَظُنهُ إِلَّا عَاشِقًا، فَقَالَ أَخُوهُ: سُبْحَانَ الله، أَسَالَك عَن وجع أخي وَأَنت تستهزئ بِي؟! قَالَ: مَا فعلت، وسأسقيه شرابًا عِنْدِي، فَإِن

يسأل شريكا الطنبور أطيب أم العود

كَانَ عَاشِقًا فسيستبين لكم، فَأتى بشراب فَجعل يسْقِيه قَلِيلا قَلِيلا كَمَا يزق الفرخ، فَلَمَّا أَخذ الشَّرَاب مِنْهُ تهيج فَتكلم فَقَالَ: ألما بِي على الأبيا ... ت بالخيف أزرهنه عزالاً مَا رَأَيْت الي؟ ... وم فِي دور بني كنه أسيل الخد مربوب ... وَفِي منْطقَة غنه فَقَالَ: أَنْت أطب الْعَرَب، فَمن؟ قَالَ: سأعيد الشَّرَاب فَلَعَلَّهُ يُسَمِّي فَأَعَادَ لَهُ بِالشرابِ فَقَالَ: أَيهَا الجيرة أَسْلمُوا ... وأربعوا كي تكلمُوا وتقضى لبانة ... وتحيوا فتغنموا خرجت مزنة من البح؟ ... ر ريا تحمحم هِيَ مَا كنتي وتز ... عَم أَنِّي لَهَا حمو قَالَ: فَطلق أَخُوهُ امْرَأَته، فَقَالَ لَهُ الْمَرِيض: عَليّ كَذَا وَكَذَا إِن تَزَوَّجتهَا أبدا فماتا وَلم يتزوجا. مَوَدَّة ابْن المُهَاجر للعباسيين حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرو بْن تركي القَاضِي أَبُو الْفضل قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن هِشَام القحذمي قَالَ: لما قتل أَبُو الْعَبَّاس سُلَيْمَان بْن هِشَام دخل عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بْن المُهَاجر البَجلِيّ فأنشده: إِن بني الْعَبَّاس إِن كنت سَائِلًا ... هم قتلوا من كَانَ أَعْتَى وأظلما هم ضربوا رَأس النِّفَاق بسيفهم ... وهم ملأوا ثوبيه من دَمه دَمًا فَمن لم يدن منا بحبك ربه ... فَلَيْسَ يلاقيه إِذا مَاتَ مُسلما فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَا أدل ظَاهر ابْن المُهَاجر على بَاطِنه فِي ودنا، إِن ذَلِك ليبين فِي عَيْنَيْهِ أَكثر ممايبين فِي لِسَانه. يسْأَل شَرِيكا الطنبور أطيب أم الْعود حَدثنَا الْحسن بْن عَليّ بْن زَكَرِيَّا الْعَدوي قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْن عليّ بْن رَاشد قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى شريك بْن عَبْد اللَّه فَقَالَ: أَيهَا القَاضِي أَيّمَا أطيب الطنبور أم الْعود؟ فَقَالَ: أحسبك بَايَعت يَا عَدو الله، فَحلف أَنه لم يُبَايع، وَأَنه مستفهم، فَقَالَ لَهُ: كم على الطنبور من وتر؟ قَالَ: أثنان، قَالَ: وعَلى الْعود؟ قَالَ: أَرْبَعَة، فَقَالَ: فَكلما كثر هَذَا كَانَ أطيب. قولة لأبي يُوسُف يَرْوِيهَا ابْن حَنْبَل حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحسن بْن زِيَاد قَالَ أَخْبَرَنَا عَبد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُف القَاضِي يَقُول: إِن للعيون خبايا بالغدوات مَا لَيْسَ لَهَا بالعشيات،

المجلس الرابع والسبعون

فَقلت لَهُ: يَا أَبَت، أَلَيْسَ ذكرت أَنَّك لَا تروي عَن أَبِي يُوسُف؟ فَقَالَ: هَذِه حِكْمَة يَأْخُذهَا العَبْد عَن كل من وجدهَا عِنْده. الْمجْلس الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ حَدِيث وَجَبت حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ عَنْ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَى عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَى عَلَيْهَا بَعْضَ الثَّنَاءِ فَقَالَ: وَجَبَتْ، فَقَالَ نَاسٌ: مَا وَجَبَتْ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْمَلائِكَةَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ، وَمَا شَهِدْتُمْ عَلَيْهِ مَنْ شَيْءٍ وَجَبَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: " وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ " التَّوْبَة:105. تَعْلِيق للْقَاضِي قَالَ القَاضِي: فَمَا أولى بِالْمَرْءِ الْمُؤمن الناصح لنَفسِهِ الراجي لرَبه، الْخَائِف من غَضَبه أَن يَتَّقِي الله ويهذب سَرِيرَته، ويخلص من الرِّيَاء وَالْفساد عمله، حَتَّى يَجْعَل الله تَعَالَى المقة بعد وَفَاته فِي قُلُوب عباده، فيثني مؤمنهم عَلَيْهِ، غير مسفٍ إِلَى ثنائهم وتزكيتهم فِي حَيَاته، فقد قَالَ جلّ ثناءه: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا " مَرْيَم: 96 وَمن فَارق الدُّنْيَا على الطَّرِيق الَّتِي وَصفنَا أظهر الله حَسَنَاته، وأجراها على أَفْوَاه عباده، وَستر مَا خَفِي على النَّاس من مساوئ عمله، أصحبنا الله وَإِيَّاكُم جميل ستره فِي دُنْيَانَا، وَبعد قَبضه إيانا، إِنَّه جواد كريم رؤوف رَحِيم. صَبر أعرابية يفوق صَبر الرِّجَال حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه قَالَ: كَانَ بحمي ضرية عَجُوز من بني أَبِي بكر بْن كلاب يتحدث قَومهَا عَن سروها وعقلها، فَأَخْبرنِي من حضرها وَقد مَاتَ ابْن لَهَا وَقد كَانَ وَاحِدهَا، وَقد طَالَتْ علته فأحسنت تمريضه، فَلَمَّا فاظ قعدت بفنائها وحضرها قَومهَا فاقبلت على شيخ مِنْهُم فَقَالَت: يَا فلَان أَو يَا أَبَا فلَان مَا أَحَق من ألبس الْعَافِيَة وأسبغت عَلَيْهِ النِّعْمَة فاعتدلت بِهِ الْفطْرَة أَن لَا يعجز عَن التويق لفنسه قبل حل عقدته، والحلول بعقوته، والحيال بَينه وَبَين نَفسه، ثُمَّ أنشأت تَقول: هُوَ ابْني وأنسى أجره لي وعزني ... على نَفسه رب إِلَيْهِ ولاؤها فَإِن احتسب أَو جر وَإِن ابكه أكن ... كباكيةٍ لم يغن شَيْئا بكاؤها فَقَالَ الشَّيْخ: إِنَّا لم نزل نسْمع أَن الْجزع إِنَّمَا هُوَ للنِّسَاء فَلَا يأس رجل فِي مصيبته، وَلَقَد كرم صبرك وَمَا أشبهت النِّسَاء، فَأَقْبَلت عَلَيْهِ بوجهها وَقَالَت: إِنَّه مَا خير امْرُؤ بَين جزع وصَبر إِلَّا وجد بَينهمَا نهجين بعيدي التَّفَاوُت فِي حاليتهما، أما الصَّبْر فَحسن

تفسير بعض الألفاظ

الْعَلَانِيَة مَحْمُود الْعَاقِبَة، وَأما الْجزع فَغير معوضٍ عوضا مَعَ مأثمه، وَلَو كَانَا فِي صُورَة رجلَيْنِ لَكَانَ الصَّبْر أولاهما بالغلبة بِحسن الصُّورَة وكرم الطبيعة فِي عاجله فِي الدَّين وآجله فِي الثَّوَاب، وَكفى بِمَا وعد الله فِيهِ لمن آلهمه الله إِيَّاه. تَفْسِير بعض الْأَلْفَاظ قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر أَن هَذِه الْمَرْأَة قَالَت: والحيال بَينه وَبَين نَفسه وَلَا يعرف الحيال فِي هَذَا الْموضع وَإِنَّمَا يُقَال: حَالَتْ النَّاقة أَو الشَّاة حيالا إِذا لم تلقح وَهِي حَائِل. وَرُوِيَ عَن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ فِي سبي أَوْطَاس: لَا تقربُوا حَامِلا حَتَّى تضع وَلَا حَائِلا حَتَّى تحيض. وَمن الحيال قَول الشَّاعِر: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حَرْب وَائِل عَن حِيَال وَقَالَ الْفراء: وَمن كَلَام الْعَرَب: حَائِل حولٍ، إِذا تتَابع الحيال عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَعْوَام. وَأما الْحول بَين الشَّيْء وَغَيره من قَول الله تَعَالَى: " وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ " الْأَنْفَال:24 وَقَوله: " وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ هود: 43 وَقَوله: " وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ " سبأ: 54 وَهَذَا معنى اللَّفْظَة الْوَارِدَة فِي هَذَا الْخَبَر فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ: حلت بَين الرجلَيْن حولا وحؤولا. وَقَوله: والحلول بعقوته يُقَال: ساحة الدَّار وباحتها وقاعتها وعقوتها كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح الْأَحْوَص يسرق شعر ابْن أَبِي دباكل حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن عبد الْملك قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرو بْن أَبِي بكر المؤملي عَنْ عَبْد اللَّه بْن أبي عُبَيْدَة بْن عمار بْن يَاسر قَالَ: خرجت أَنا والأحوص الْأنْصَارِيّ مَعَ عَبْد اللَّه بْن حَسَن لِلْحَجِّ، فَلَمَّا كُنَّا بِقديد قُلْنَا لعبد الله بْن حسن: لَو أرْسلت إِلَى سُلَيْمَان بْن أَبِي دباكل الْخُزَاعِيّ فأنشدنا من شعره، فَأرْسل إِلَيْهِ فجاءنا فأنشدنا قصيدته: يَا بَيت خنساء الَّذِي أتجنب ... ذهب الزَّمَان وحبها لَا يذهب أَصبَحت أمنحك الصدود وإنني ... قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأجنب مَالِي أحن إِذا جمالك قربت ... وأصد عَنْك وَأَنت مني أقرب لله دَرك هَل لديك معول ... لمتيمٍ أم هَل لودك مطلب فَلَقَد رَأَيْتُك قبل ذَاك وإنني ... لمتيم بهواك لَو يتَجَنَّب وَأرى السمية باسمكم فيزيدني ... شوقا إِلَيْك جنابك المتسبب وَأرى الْعَدو يودكم فأوده ... إِذْ كَانَ ينْسب مِنْك أَو يتنسب

إنه أبو ثابت وابنه أثبت منه

وأخالق الواشين فِيك تجملا ... وهم عَليّ ذَوُو ضغائن ذرب ثمَّ اتخذتم عَليّ وليجة ... حَتَّى غضِبت وَمثل ذَلِك يغْضب وَانْصَرف. فَلَمَّا كَانَ الْقَابِل حج أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان فَمر بِالْمَدِينَةِ، فَدخل عَلَيْهِ الْأَحْوَص واستصحبه فأصحبه، فَلَمَّا خرج الْأَحْوَص قَالَ لَهُ بعض من عِنْده: تقدم بالأحوص الشَّام فتعير بِهِ، فَبعث إِلَى الْأَحْوَص فَقَالَ لَهُ: يَا خَال إِنِّي نظرت فِيمَا سَأَلتنِي من الِاسْتِصْحَاب فَكرِهت أَن أهجم بك على أَمِير الْمُؤمنِينَ بِلَا إِذن، وَلَكِنِّي أستأذنه لَك فَإِن أذن كتبت إِلَيْك بِالْمَسِيرِ إِلَيّ؛ فَقَالَ الْأَحْوَص: لَا وَالله مَا بك مَا ذكرت، وَلَكِنِّي سبعت عنْدك، ثُمَّ خرج فَأرْسل إِلَيْهِ عمر بْن عبد الْعَزِيز بصلةٍ واستوهبه عرض أَبِي بكر فوهبه لَهُ ثُمَّ قَالَ: يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزل ... حذر العدى وَبِه الْفُؤَاد مُوكل إِنِّي لأمنحك الصدود وإنني ... قسما إِلَيْك مَعَ الصدود لأميل ثمَّ قَالَ فِيهَا يعرض بِأبي بكر بْن عبد الْعَزِيز: ووعدتني فِي حَاجَتي فصدقتني ... ووفيت إِذْ كذبُوا الحَدِيث وبدلوا حَتَّى إِذا رفع الحَدِيث مطامعي ... يأسًا وأخلفني الَّذين أُؤَمِّل زايلت مَا صَنَعُوا إِلَيْك برحلةًٍ ... عجلا وعندك عَنْهُم متحول وأراك تفعل مَا تَقول وَبَعْضهمْ ... مذق اللِّسَان يَقُول مَا لَا يفعل فَقَالَ لَهُ عمر بْن عبد الْعَزِيز: مَا أَرَاك أعفيتني مِمَّا استعفيتك مِنْهُ. إِنَّه أَبُو ثَابت وَابْنه أثبت مِنْهُ حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن الربعِي قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن عمر بْن عمرَان بْن إِسْمَاعِيل بْن عبد الْعَزِيز بْن أَبِي ثَابت بْن عمر بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف قَالَ حَدَّثَنِي عمي عمر بْن عمرَان قَالَ: انتظرت قُرَيْش عمرَان بْن عبد الْعَزِيز يَوْم قدم الْمهْدي الْمَدِينَة فَقَالَت قُرَيْش: لَا ندخل حَتَّى يدْخل أَبُو ثَابت فَدخل أَبُو ثَابت فَتكلم، فَلَمَّا فرغ من كَلَامه قَالَ النَّاس: الْأَمِير، يعنون المهدين وَكَانَ ولي عهد، فَقَالَ عمرَان: انبي عمر يتَكَلَّم بعدِي، قَالَ: فَتكلم عمر بْن عمرَان فأبلغ قَالَ: فَخرج الْحَاجِب فَقَالَ: أَنا أشهد إِنَّه أَبُو ثَابت، وَابْنه أثبت مِنْهُ، قَالَ: فَأَنْشد الْمهْدي هَذِه القصيدة من قَول عمر: غشيت لهندٍ بالعقيق ربوعا ... فأذريت فِي دَار الحبيب دموعا وَلَيْسَ بهَا إِلَّا أثافٍ كَأَنَّهَا ... حمائم ظلت فِي الديار وقوعا فيا سائلي مَا الْحبّ صادفت عَالما ... بَصيرًا بِمَا عَنْهُ سَأَلت سميعًا

أحمد بن حنبل يكتب شعر أبي نواس

فَإِنِّي وجدت الْحبّ كالنار حره ... وحلوًا وَمَرا بعد ذَاك فظيعا فَمن مسرع يَأْتِي الإِمَام بمنطقي ... ويبلغني مِنْهُ الْجَواب سَرِيعا لطفت أَمِير الْمُؤمنِينَ لهاشمٍ ... وَكنت لَهَا بعد المحول ربيعا فأديت حق الله فِي بر والدٍ ... فَلَا تَكُ للْبَاقِي هديت مضيعا رفعنَا وَأَنْتُم بالحبيب محمدٍ ... وَكَانَ على الْخلق النَّبِي رفيعا فأعمامه كُنْتُم وَكَانَ ابْن أُخْتنَا ... فَجَاءَت بِهِ طلق الْيَدَيْنِ قريعا فَلَنْ يقبل الرَّحْمَن برا لوالدٍ ... إِذا لم يبر الْوَالِدين جَمِيعًا فقد أَمر الرَّحْمَن بِالْبرِّ فيهمَا ... فَكُن فيهمَا يَا ابْن الْكِرَام مُطيعًا قَالَ: فَألْحق بني زهرَة فِي الْعَطاء ببني هَاشم يَوْمئِذٍ. أَحْمَد بْن حَنْبَل يكْتب شعر أَبِي نواس حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيد قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن يحيى ثَعْلَب يَقُول: دخلت على أَحْمَد بْن حَنْبَل فَرَأَيْت رجلا تهمه نَفسه لَا يحب أَن يكثر عَلَيْهِ كَأَن النيرَان قد سعرت بَين يَدَيْهِ، فَمَا زلت أرْفق بِهِ، وتوسلت بالشيبانية إِلَيْهِ فَقلت: أَنا من مواليك يَا أَبَا عَبد اللَّه، وَذكرت لَهُ عَبد اللَّه بْن الْفرج، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: وَعبد الله بْن الْفرج هَذَا من صالحي أهل الْبَلَد فقرم إِلَى حَدِيثي وانبسط إِلَيّ وَقَالَ: فِي أَي شيءٍ نظرت؟ فَقلت: فِي علم اللُّغَة وَالشعر، فَقَالَ: مَرَرْت بِالْبَصْرَةِ وَجَمَاعَة يَكْتُبُونَ الشّعْر عَن رجل، فَقيل لي هَذَا أَبُو نواس، فتخللت النَّاس ورآني، فَلَمَّا جَلَست أمل علينا: إِذا مَا خلوت الدَّهْر يَوْمًا فَلَا تقل ... خلوت وَلَكِن قل عَليّ رَقِيب وَلَا تحسبن الله يغْفل سَاعَة ... وَلَا أَن مَا يخفى عَلَيْهِ يغيب لهونا لعمر الله حَتَّى تَتَابَعَت ... ذنُوب على آثارهن ذنُوب فيا لَيْت أَن الله يغْفر مَا مضى ... وَيَأْذَن فِي توباتنا فنتوب ثمَّ أطرق، فَعلمت أَنه قد مل، فَسلمت وانصرفت. قَالَ مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس: فَحدث أَبِي بِهَذَا عَبد اللَّه بْن المعتز وَأَنا حَاضر أسمع فأنشده الأبيات، فَقَالَ لنا عَبد اللَّه: هَذِه الأبيات لأبي نواس من زهدياته. قَالَ مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس: فَنَظَرت فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ النَّاس عَن أَبِي عَبد اللَّه هَل رأى أَبَا نواس فَوجدت فِيمَا حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بطرِيق خُرَاسَان وَهُوَ قَاضِي النَّاحِيَة قَالَ: سَمِعت أَبِي يَقُول: كنت فِي الْبَصْرَة فِي مجْلِس ابْن علية فَالْتَفت فَإِذا بداعابةٍ وَضحك، وَإِذا بِأبي نواس يكْتب عَنْهُ من زهدياته.

وفادة عبد الله بن جعفر على معاوية

قَالَ القَاضِي: وَقد رويت لنا هَذِه الأبيات عَن بعض من تقدم أَبَا نواس من الشُّعَرَاء، وَاسْتشْهدَ بِبَعْضِهَا طَائِفَة من النَّحْوِيين فِي مَوضِع من فُصُول النَّحْو، وَقَدْ ذكرنَا من هَذَا طرفا فِي مَوضِع غير هَذَا فَلم أر لإعادته فِي هَذَا الْموضع وَجها. وفادة عَبد اللَّه بْن جَعْفَر على مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمِيمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الرِّيَاحِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: وَفَدَ عبد الله جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَأَنْزَلَهُ فِي دَارِهِ فَقَالَتْ لَهُ ابْنَةُ قَرَظَةَ امْرَأَتُهُ: إِنَّ جَارَكَ هَذَا يَسْمَعُ الْغِنَاءَ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَعْلِمِينِي فَأَعْلَمَتْهُ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ فَإِذَا جَارِيَةٌ لَهُ تُغَنِّيهِ وَهِيَ تَقُولُ: إِنَّكَ وَاللَّهِ لَذُو ملةٍ ... يَطْرِفُكَ الأَدْنَى عَنِ الأَبْعَدِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا صِدْقَكَاهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ اسْقِينِي قَالَتْ: مَا أَسْقِيكَ؟ قَالَ: مَاءً وعَسَلا، قَالَ: فَانْصَرَفَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَرَى بَأْسًا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ جَارَكَ هَذَا لَا يَدَعُنَا نَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ: هَكَذَا قَوْمِي رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ مُلُوكٌ بِالنَّهَارِ. بَان الْمُبَارك يقسم لاخوانه حَدثنَا مُحَمَّد بن دَاوُد سُلَيْمَان النَّيْسَابُورِي قَالَ: سَمِعت الْحسن بْن سُفْيَان يَقُول: قَالَ حبَان عَن ابْن الْمُبَارك إِنَّه قسم يَوْمًا لاخوانه وَمن حَضَره من أَصْحَابنَا ألف دِرْهَم ثُمّ قَالَ: لَا خير فِي المَال وكنازه ... بل لجواد الْكَفّ وهابه يفعل أَحْيَانًا بزاواره ... مَا يفعل الْخمر بشرابه قَالَ القَاضِي: ذكر ابْن الْمُبَارك الْخمر وَالْمَعْرُوف تأنيثها، أَرَادَ الشَّرَاب. قَول شُرَيْح فِي الْجَرَاد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عبد الرَّحِيم قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش قَالَ: أَخْبَرَنَا عَامر قَالَ: سُئِلَ شُرَيْح القَاضِي عَن الْجَرَاد قَالَ: قبح الله الجرادة فِيهَا خلقَة سَبْعَة جبابرة: رَأسهَا رَأس فرس وعنقها عنق ثَوْر وصدرها صدر أَسد وجناحها جنَاح نسر ورجلاها رجلا جمل وذنبها ذَنْب حَيَّة وبطنها بطن عقوب. أفتنت سعيدًا حَدثنَا مُحَمَّد بْن مخلد قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بكر بْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس دَاوُد بْن رشيد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نميلَة عَن عَمْرو بْن زَائِدَة قَالَ: حَدثنِي امْرَأَة من بني أَسد قَالَت: زففنا عروسًا فِي الْحَيّ فمررنا بِسَعِيد بْن جُبَير والمغنية تَقول: لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهِيَ بِالأَمْسِ أَفْتنتْ ... سعيدًا فأضحى قد قلى كل مسلمٍ وَألقى مَفَاتِيح الْمَسَاجِد وَاشْترى ... وصال الغواني بِالْكتاب المنمنم

التآخي بين صعب بن جثامة وعوف بن مالك

قَالَ ابْن مخلد؛ فَقَالَ سعيد: كذب. التآخي بَين صَعب بْن جثامة وعَوْف بْن مَالك حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَلاءِ الْحَرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن شَبِيب قَالَ حَدَّثَنِي ابْن عَائِشَة قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ صَعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ كَانَا مُتَوَاخِيَيْنِ فَقَالَ صَعْبٌ لِعَوْفٍ: أَيْ أَخِي أَيُّنَا مَاتَ قبل صَاحبه فليتراءى لَهُ قَالَ: أَيَكُونُ ذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمَاتَ صَعْبٌ، قَالَ: فَرَأَى عَوْفٌ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّهُ أَتَاهُ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيْ أَخِي مَا فُعِلَ بِكُمْ؟ قَالَ: غُفِرَ لَنَا بَعْدَ الْمَشَائِبِ قَالَ: وَرَأَيْتُ لُمْعَةَ سَوَادٍ فِي عُنُقِهِ فَقُلْتُ: أَيْ أَخِي مَا هَذَا؟ قَالَ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ اسْتَسْلَفْتُهَا مِنْ فُلانٍ الْيَهُودِيِّ فَهِيَ فِي قَرْنِي فَأَعْطُوهَا إِيَّاهُ، وَاعْلَمْ أَيْ أَخِي أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِي أَهْلِي حَدَثٌ بَعْدِي إِلا وَقَدْ لَحِقَ بِي أَجْرُهُ حَتَّى هِرَّةٌ لَنَا مَاتَتْ لَنَا مُنْذُ أَيَّامٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ بِنْتي تَمُوتُ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ فَاسْتَوْصُوا بِهَا مَعْرُوفًا، قَالَ: فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ قُلْتُ إِنَّ فِي هَذَا لَمَعْلَمًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ أَهْلَهُ فَقَالُوا: مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِعَوْفٍ أَهَكَذَا تَصْنَعُونَ بِتَرِكَةِ إِخْوَانِكُمْ، لَمْ تَقْرَبْنَا مُنْذُ مَاتَ صَعْبٌ، قَالَ: فَاعْتَلَلْتُ بِمَا يَتَعَلَّلُ بِهِ النَّاسُ، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الْقَرْنِ فَأَنْزَلْتُهُ، وَانْتَثَلْتُ مَا فِيهِ فَنَدَرْتُ الصُّرَّةَ الَّتِي فِيهَا الدَّنَانِيرُ، فَبَعَثْتُ إِلَى الْيَهُودِيِّ فَجَاءَ فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ كَانَ لَكَ عَلَى صَعْبٍ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ صَعْبًا كَانَ مِنْ خِيَارِ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ لَهُ، قُلْتُ لَتُخْبِرَنِّي قَالَ: نَعَمْ، أَسْلَفْتُهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَنَبَذْتُهَا إِلَيْهِ، قَالَ: هِيَ وَاللَّهِ بِأَعْيَانِهَا قَالَ: قُلْتُ هَذِهِ وَاحِدَةٌ، قَالَ، قُلْتُ: فَهَلْ حَدَثَ فِيكُمْ حَدَثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ حَدَثَ فِينَا كَذَا، قُلْتُ: اذْكُرُوا، قَالَ: نَعَمْ هِرَّةٌ مَاتَتْ لَنَا مُنْذُ أَيَّامٍ، قَالَ: قُلْتُ هَاتَانِ اثْنَتَانِ، قَالَ: قُلْتُ: أَيْنَ ابْنَةُ أَخِي؟ قَالُوا: تَلْعَبُ، قَالَ: فَأُتِيَ بهَا فمستها فَإِذَا هِيَ مَحْمُومَةٌ، فَقُلْتُ: اسْتَوْصُوا بِهَا خَيْرًا، فَمَاتَتْ لِسِتَّةِ أَيَّامٍ. تَفْسِير مَا يتطلب توضيحًا قَالَ القَاضِي: قَوْله: بعد المشائب يتَّجه فِيهِ وَجْهَان من التَّأْوِيل احدهما: أَنه من قَوْلهم شَاب الشَّيْء إِذا خالطه ومازحه فَكَأَنَّهُ عني أَنه لَقِي مَعَ أَنه نجا وفاز أمورًا فظيعة راعته حيت عاينها يَوْمئِذٍ، وَهُوَ يَوْم الْفَزع الْأَكْبَر، نسْأَل الله الْعَظِيم خَيره والسلامة فِيهِ، ونعوذ بِهِ من شَره. وَالْوَجْه الثَّانِي أَنه من الشيب والمشيب، وَقد وَصفه الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يَجْعَل الْولدَان شيبا. وَأما الْقرن فَإِنَّهُ الكنانة أَو الْقنْدِيل، فَإِذا اجْتمعت الكنانة النبل من السِّلَاح فَهُوَ قرن كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يَا ابْن هِشَام أهلك النَّاس اللَّبن ... فكلهم بمشي بسيفٍ وَقرن مَا هُوَ إِلَّا شَيْء جرى على لساني حَدثنَا مُحَمَّد بْن مزِيد البوشنجي قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي عَن معافى بْن

كتابة على قبر

نعيم: أَن واليًا كَانَ على الْيَمَامَة ولاه بِلَال بْن جرير بعض أَعماله، فَجَلَسَ يَوْمًا يحكم والخصوم جُلُوس إِذْ تمثل أحدثم: وَابْن المراغة حَابِس أعياره ... مرمى القصية مَا يذقن بِلَالًا وَلَا يشْعر أَنه من ذَلِك بسبيل، قَالَ فَقَالَ: أَيْن هَذَا الراوية:؟ قَالَ: هَا أَنا ذَا أصلحك الله، قَالَ: ادن أَنْت وخصمك، فدنوا قَالَ: هَلُمَّ أعد الْبَيْت، فغمزه إِنْسَان، فَقَالَ: أصلحك الله، وَالله مَا هُوَ إِلَّا شَيْء جرى على لساني وَمَا أردْت بذلك مَكْرُوها، فَقَالَ: هُوَ أشهر من ذَلِك، هَلُمَّ، فاحتجا. كِتَابَة على قبر حَدثنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتلِي قَالَ، حَدَّثَنَا عمر يَعْنِي ابْن مُحَمَّد بْن عبد الحكم النَّسَائِيّ، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن بشير بْن سُلَيْمَان الشَّيْبَانِيّ قَالَ: سَمِعت أَحْمَد بْن عَبد اللَّه الدينَوَرِي يَقُول: قَرَأت على قبر: أَخ طَال مَا سرني ذكره ... فقد صرت أشجى لَدَى ذكره وَقد كنت أغدو إِلَى قصره ... فقد صرت أغدو إِلَى قَبره وَقد كنت دهري ضنينا بِهِ ... عَن النَّاس لَو مد فِي عمره وَكنت إِذا جِئْت فِي جاجةٍ ... فأمري يجوز على أمره فَصَارَ عَليّ إِلَى ربه ... وَكَانَ عَليّ فَتى دهره أتم وأكمل مَا لم يزل ... وأنبل من كَانَ فِي عصره أَتَتْهُ الْمنية مغتالة ... رويدا تخَلّل من ستره فَلم تغن أجناده حوله ... وَلَا المسرعون إِلَى نَصره أَشد الْبَريَّة وجدا بِهِ ... أجد الْبَريَّة فِي طمره فَأصْبح يهدى إِلَى منزل ... تنوق ناعيه فِي حفره تغلق بالترب أبوابه ... إِلَى يَوْم يُؤذن فِي حشره وخلى الْقُصُور الَّتِي شادها ... وَحل من الْقَبْر فِي قَعْره وَبدل بالعرش بسط الثرى ... وريح ثرى الأَرْض من عطره أَخُو سفرةٍ مَاله أوبة ... غَرِيب وَإِن كَانَ فِي مصره فلست مشيعه غادياً ... أَمِيرا يسير إِلَى ثغره وَلَا متلقٍ لَهُ قَافِلًا ... بقتل عدوٍ وَلَا أسره فَلَا يبعدن أخي هَالكا ... فَكل سيمضي على إثره

توجيهات نحوية

توجيهات نحوية قَالَ القَاضِي: قَوْله وَلَا متلقٍ لَهُ بِالْجَرِّ، وَقد عطفه على قَوْله: فلست مشيعه وَهُوَ مَنْصُوب لِأَن قَوْله: فلست مشيعه بِمَعْنى: فلست بمشيعه، وَمن هَذَا قَول زُهَيْر: بدا لي أَنِّي لست مدرك ماضى ... وَلَا سابقٍ شَيْئا إِذا كَانَ جائيا وَقد اسْتشْهد النُّحَاة فِي هَذَا الْوَجْه بقول امْرِئ الْقَيْس: فظل طهاة اللَّحْم من بَين منضجٍ ... صفيف شواءٍ أَو قديرٍ معجل وَقَالُوا: قد عطف على قَوْله: صفيف شواء، وَحمل هَذَا بَعضهم على أَنه مَعْطُوف على قَوْله: شواء وَتَأَول هَذَا بَعضهم على الْجوَار كَمَا حُكيَ هَذَا جُحر ضبٍ خربٍ، وَهَذَا بَاب يَتَّسِع القَوْل فِيهِ، وَلنَا فِيهِ كَلَام كثير مشروح فِي مَوَاضِع من كتبنَا فِي الْقُرْآن وَالْفِقْه والنحو. شعر لسابق الْبَرْبَرِي حَدثنَا عبد لاله بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن الْوَلِيد الْحَنْظَلِي قَالَ: سَمِعت عمر بْن ذَر يذكر أَنه بلغه عَن مَيْمُون بْن مهْرَان أَنه قَالَ: دخلت على عمر بْن عبد الْعَزِيز يَوْمًا وَعِنْده سَابق الْبَرْبَرِي الشَّاعِر فَانْتهى فِي شعره إِلَى هَذِه الأبيات: فكم من صَحِيح بَات للْمَوْت آمنا ... أَتَتْهُ المنايا بَغْتَة بَعْدَمَا هجع فَلم يسْتَطع إِذْ جَاءَهُ الْمَوْت بَغْتَة ... فِرَارًا وَلَا مِنْهُ بحيلته امْتنع فَأصْبح تبكيه النِّسَاء مقنعا ... وَلَا يسمع الدَّاعِي وَإِن صَوته رفع وَقرب من لحدٍ فَصَارَ مقِيله ... وَفَارق مَا قد كَانَ بالْأَمْس قد جمع فَلَا يتْرك الْمَوْت الْغَنِيّ لمَاله ... وَلَا معدمًا فِي المَال ذَا حَاجَة يدع فَلم يزل عمر يضطرب ويبكي حَتَّى غشي عَلَيْهِ، قَالَ: فقمنا فانصرفنا عَنْهُ. وَلَكِن تفيض النَّفس عِنْد امتلائها أنشدنا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ: أنشدنا الْمبرد: ولي حَاجَة قد راث عني نَجَاحهَا ... وجودك أجدى وافدٍ فِي اقتضائها وَمَال شَفِيع غير نَفسك إِنَّنِي ات؟ ... كلت من الدُّنْيَا على حسن رائها عطاؤك لَا يفنى ويستغرق المنى ... وَتبقى وُجُوه الراغبين بِمَائِهَا شَكَوْت وَمَا الشكوى لنَفْسي عَادَة ... وَلَكِن تفيض النَّفس عِنْد امتلائها

المجلس الخامس والسبعون

كن باذلا للخير أنشدنا عمر بْن الْحسن الشَّيْبَانِيّ، قَالَ: أنشدنا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيّ قَالَ: أَنْشدني الْحُسَيْن بْن عَبْد الرَّحْمَن: إِذَا مَا اللَّيَالِي أَقبلت بإساءةٍ ... رجونا بِأَن تَأتي بِحسن صَنِيع وَذَلِكَ فعل الله بِالنَّاسِ كلهم ... فَكُن باذلا للخير غير منوع الْمجْلس الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ طير الْجنَّة حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَوَيْهِ الْمروزِي البرائي قَالَ حَدَّثَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عطينة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْرًا فِيهِ سَبْعُونَ أَلْفَ ريشةٍ فَيَجِيءُ حَتَّى يَقَعَ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَنْتَفِضُ فَيَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ ريشةٍ لَوْنٌ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُشْبِهُ صَاحِبَهُ، ثُمَّ يَطِيرُ فَيَذْهَبُ. تَعْلِيق القَاضِي على الحَدِيث قَالَ القَاضِي: قد أنبأ هَذَا الْخَبَر عَن عَظِيم قدرَة الله تَعَالَى ذكره وجسيم نعْمَته وَعَجِيب رزقه، وَعَما أعده لأوليائه فِي جنته مِمَّا لم تتصوره نُفُوسهم، وَلم تبلغه أمانيهم، فهنيئًا لَهُم مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِم رَبهم، وإياه نسْأَل أَن يدخلنا جنته وَلَا يحرمنا رَحمته، فَإِنَّهُ لَا يتعاظمه خير يجود بِهِ، وَلَا يتسصعب عَلَيْهِ شَرّ يصرفهُ، بِيَدِهِ الْخَيْر كُله، وَهُوَ على كل شَيْء قدرير. إعجاب الأخطل بِأَبْيَات للقطامي حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ الْأَصْمَعِي قَالَ: سَأَلَ عَمْرو بْن سعيد الْقرشِي الأخطل: أَيَسُرُّك أَن لَك شعرًا بشعرك؟ قَالَ: لَا وَالله مَا يسرني أَن لي بمقولي مقولا من مقاول الْعَرَب، غير أَن رجلا من قومِي قد قَالَ أبياتًا حَسَدْته عَلَيْهَا، وإيم الله إِنَّه لمغدف القناع، ضيق الذِّرَاع، قَلِيل السماع، قَالَ: وَمن هُوَ؟ قَالَ: الْقطَامِي، قَالَ: وَمَا هَذِه الأبيات؟ قَالَ: قَوْله: يمشي رهوا فَلَا الأعجاز خاذلة ... وَلَا الصُّدُور على الأعجاز تنكل من كل سامية الْعَينَيْنِ تحسبها ... مَجْنُونَة أَو ترى مَا لَا ترى الْإِبِل حَتَّى وردن ركيات الغوير وَقد ... كَاد الملاء من الْكَتَّان يشتعل يَمْشين معترضاتٍ والحصى رمض ... وَالرِّيح ساكرة والظل معتدل والعيش لَا عَيْش إِلَّا مَا تقربه ... عَيْني وَلَا حَال إِلَّا سَوف ينْتَقل إِن تصبحي من أَبِي عُثْمَان منجحة ... فقد يهون على المستنجح الْعَمَل

تعليق للقاضي وتفسيرات

وَالنَّاس من يلق خيرا قَائِلُونَ لَهُ ... مَا يَشْتَهِي ولأم الْمُخطئ الهبل قد يدْرك المتأني بعض حَاجته ... وَقد يكون مَعَ المستعجل الزلل تَعْلِيق للْقَاضِي وتفسيرات قَالَ القَاضِي: لعمري إِن هَذِه الأبيات لمن رصين الشّعْر وبليغه، وَكلمَة الْقطَامِي الَّتِي هَذِه الأبيات مِنْهَا من أَجود شعره، وأولها: إِنَّا محيوك فَاسْلَمْ أَيهَا الطلل ... وَإِن بليت وَإِن طَالَتْ بك الطول ويروى الطيل. وَقد ذكر بَعضهم أَن أَجود مَا أَتَى من أشعار الْعَرَب على هَذِه الْعرُوض وَهَذَا الروي هَذِه الْكَلِمَة وَكلمَة الْأَعْشَى الَّتِي أَولهَا: ودع هُرَيْرَة إِن الركب مرتحل ... وَهل تطِيق وداعا أَيهَا الرجل وَقَول الأخطل: إِنَّه لمغدف القناع المغدف: المغطى فَكَأَنَّهُ نسبه إِلَى الخمول وقصوره عَن الشّرف وَأَن يكون بارزًا مبدياً صفحته مجداً وافتخاراً، كَمَا قَالَ سحيم بْن وثيل الريَاحي: أَنا ابْن جلا وطلاع الثنايا ... مَتى أَضَع العماخمة تعرفوني وَيُقَال أعدفت الْمَرْأَة قناعها كَمَا قَالَ عنترة: إِن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب بِأخذ الْفَارِس المستئم وَأما قَول الْقطَامِي: يَمْشين رهوا فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُنَّ يَمْشين فِي سكونٍ وتؤدة، وَقد قيل فِي قَول الله تَعَالَى: " وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا " الدُّخان: 24 أَي سَاكِنا وَقيل طَرِيقا يبسًا. وَحكى أَن بعض الْعَرَب قَالَ فِي فالج من الْإِبِل: رهو بَين سنَامَيْنِ. وَقَالَ بعض أهل الْمعرفَة: لَو كَانَ الْقطَامِي قَالَ هَذَا الْبَيْت فِي صفة النِّسَاء لَكَانَ قد أحسن. وَمن الزهو قَول الشَّاعِر: كَأَنَّمَا أهل حجرٍ ينظرُونَ مَتى ... يرونني خَارِجا طير بباديد طير رَأَتْ بازيًا نضح الدِّمَاء بِهِ ... وَأمه خرجت رهوا إِلَى عيد وَقل عَمْرو بْن كُلْثُوم: نصبنا مثل رهوة ذَات حدٍ ... مُحَافظَة وَكُنَّا السابقينا ويروى: نصبنا مثل رهوة وادحر. قيل هِيَ الْخَيل، وَقَوله: وَالرِّيح ساكرة يَعْنِي سَاكِنة، وَإِذا كَانَت سَاكِنة فَهِيَ فعل الْأَشْيَاء المفقودة المعدومة، يُقَال سكر الشَّيْء إِذا سكن، وَقيل للسكر الَّذِي هُوَ منسكر الأودية والأنهار سكر، لِأَنَّهُ سكن إِذا انسد وعدمت سورته، وَمِنْه السكر من الشَّرَاب وَغَيره، قيل فِيهِ ذَلِك لاحتباس مَا كَانَ مُنْطَلقًا من السَّكْرَان وَصِحَّة رَأْيه وصواب مَنْطِقه، وَقيل سكر الْحر إِذا سكنت فورته وهدأ احتدامه وشدته، كَمَا قَالَ الراجز: جَاءَ الشتَاء واجثأل الْقَبْر

قصة خيالية عن احتيال معاوية

واستخفت الأفعى وَكَانَت تظهر وَجعلت عين الحرور تسكر وَقد قَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين " لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا " الْحجر: 15 بِمَعْنى سدت وصعب النّظر بإسكانها عَن الْحَرَكَة الَّتِي تدْرك المبصرات بهَا. وَقَرَأَ جُمْهُور القرأة سكرت بِالتَّشْدِيدِ للتكرار إِذْ كَانَت الْأَبْصَار جمَاعَة، وَقَرَأَ بَعضهم سكرت بِالتَّخْفِيفِ لدلَالَة هَذِه الْقِرَاءَة على الْمَعْنى، وَمثله فتحت أَبْوَابهَا وَفتحت فِي نَظَائِر لهَذَا كَثِيرَة، وَهِي مشروحة فِيمَا تضمنته الْكتب فِي عُلُوم الْقُرْآن من كلامنا وَكَلَام من تقدمنا، وبالتخفيف قَرَأَ ابْن كثير فِي من وَافقه من المكيين. وَقَوله: إِن تصبحي من أَبِي عُثْمَان منجحة ... فقد يهون على المستنجح الْعَمَل من الْكَلَام الْحسن فِي الإنباء عَن أَن من أنجح سَعْيه وَأدْركَ مَا أمه هان عَلَيْهِ مَا كَانَ أنصبه وعناه وأتعبه فِي قصد مَطْلُوبه، وَمثله قَول سَابق الْبَرْبَرِي: إِذا مَا نَالَ ذُو طلبٍ نجاحًا ... بأمرٍ لم يجد ألم الطلاب ونظائر هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة يتعب إحصاؤها ويمل استقصاؤها. قصَّة خيالية عَن احتيال مُعَاوِيَة لتطليق زوج ابْن عَامر ليتزوج هُوَ مِنْهَا وَمَا نجم عَن ذَلِك حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الغَلابِي قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، قَالَ الْكَوْكَبِيُّ وَحَدَّثَنَا عسل بْن ذكْوَان قَالَ حَدَّثَنَا التوزي عَنْ أبي عُبَيْدة، قَالَ الْكَوْكَبِيُّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ قَالَ حَدَّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ صَخْرٍ، قَالَ الْكَوْكَبِيُّ وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الضَّرِيرُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ أَبِيهِ، يُزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَدِيثِ بعضٍ، قَالُوا: كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ جَمَاعَةُ نفرٍ مِنْ سُمَّارِهِ فِي ذَاتِ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَنَى مِنِّي اللَّذَّاتُ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ إِلا مِنْ صبيٍ صَغِيرٍ يُلاعِبُنِي وَأُلاعِبُهُ وَأَضُمُّهُ إِلَى صَدْرِي، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَفَلا أَدُلُّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى امْرَأَةٍ لَوْ تَزَوَّجْتَهَا عُدْتَ بِهَا شَابًّا فِي سِنِّ ابْن ثلاثني سَنَةً ثُمَّ لَا تَزَالُ مَعَهَا أَنْعَمَ النَّاسِ عَيْشًا بَقِيَّةَ عُمُرِكَ؟ قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَمَنْ هِيَ؟ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو الْعَيْنَاءِ دُونَ الْجَمَاعَةِ: هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَقَالَتِ الْجَمَاعَةُ دُونَ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ: هِيَ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَحْسِبُهُ هُوَ الثَّبْتُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: أوليست تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ.؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَبِئْسَ مَا عَرَضْتَ بِهِ إِلَيَّ، أَنْ تَذْكُرَ زَوْجَةَ رجلٍ مِنْ خِيَارِ قُرَيْشٍ، قَالَ عَمْرٌو: رَأَيْتُكَ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بشيءٍ فَعَرَضْتُ عَلَيْكَ مَا عَرَضْتُ، وَقَدْ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَيَتَزَوَّجُهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اكْتُمُوا هَذَا الأَمْرَ لَا تُشْهِرُوهُ، فَلَعَمْرِي إِنْ نَالَ أَحَدٌ حَاجَتَهُ بالرفق والتأني الْحِيلَة لأنالنه

مِنْهَا. ثُمَّ دَعَا مُعَاوِيَةُ خَادِمًا لَهُ مِنْ أَبَرِّ خَدَمِهِ عِنْدَهُ وخصهم لَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فَزُرْهُ، وَإِذا حضر اباب فَأَلْطِفْهُ وَأَكْرِمْهُ وَأَوْقِعْ فِي قَلْبِهِ كَثْرَةَ ذِكْرِي لَهُ وَأَنِّي رُبَّمَا ذكرته عِنْد نِسَائِي وَحَرَمِي وَحَيْثُ لَا يُذْكَرُ فِيه أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِلا لِقَدْرِهِ عِنْدِي وَمَنْزِلَتِهِ مِنِّي، فَإِذَا أَوْقَعْتَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَأَعْلِمْنِي، فَفَعَلَ الْخَادِمُ مَا أَمَرَهُ بِهِ حَتَّى ظَنَّ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْخَادِمِ: انْطَلِقِ الآنَ شِبْهَ النَّاصِحِ وَالْمُتَحَظِّي عِنْدَهُ فَمُرْهُ أَنْ يَخْطُبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَحَبَّ. فَتَهَيَّأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ لِذَلِكَ وَهَيَّأَ لَهُ كَلامَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْخَادِمُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَبَرَّهُ وَأَلْطَفَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ يُحَدِّثُهُ، وَدَعَا بِالطَّعَامِ وَأَلْوَانِ الأَشْرِبَةِ وَأَقْبَلَ يَسْتَطْعِمُهُ الْكَلامَ، فَحَصِرَ عَبْدُ اللَّهِ وَانْقَطَعَ وَانْقَبَضَ وَهَابَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ حِينَ رَأَى حصره وهيبته: إِنَّه لن يَمْنَعُكَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلْوَةُ، قُلْ مَا أَحْبَبْتَ وَانْبَسِطْ فِي كَلامِكَ وَسَلْ مَا أَحْبَبْتَ فَدَعَا لَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَانْصَرَفَ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ فِي شَيْءٍ، فَدَعَا مُعَاوِيَةُ خَادِمَهُ ذَلِكَ فَأَعْلَمَهُ أَنَّ الرَّجُلَ هَابَ وَحَصِرَ؛ فَاغْدُ إِلَيْهِ وَمُرْهُ أَنْ يَسْأَلَ حَاجَتَهُ وَشَجِّعْهُ وَأَعْلِمْهُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قاضٍ حَاجَتَهُ. فَمَضَى الْخَادِمُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَسْأَلَتِهِ حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ لَنْ يُمْنَعَ مَا يُرِيدُ؛ فَغَدَا عَبْدُ اللَّهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَكْرَمَهُ وَأَلْطَفَهُ وَدَعَا لَهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَمَّا أَكَلا وَشَرِبَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جِئْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حاجةٍ عَلَى حُسْنِ ظَنِّي بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْزِلَتِي مِنْهُ، فَإِنْ وَافَقَ مِنْهُ مَا أَحَبَّ فَذَاكَ الَّذِي أَبْغِي، وَإِنْ خَالَفَهُ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سَخَطِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ موجدته، قَالَ مُعَاوِيَة: تكلم يَا ابْن أَخِي بِمَا بَدَا لَكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جِئْتُكَ أَخْطُبُ ابْنَتَكَ رَمْلَةَ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ شِبْهَ الْمُنْكِرِ عَلَيْهِ الْمُسْتَعْظِمِ لَهُ وَالْمُنْقَبِضِ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: نَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَقَدْ سَقَطَ فِي يَدَيْهِ وَظَنَّ أَنَّهُ أَغْضَبَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ دَعَا مُعَاوِيَةُ خَادِمَهُ فَقَالَ: انْطَلِقِ الآنَ فَلا تَظْهَرْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ ابْنَ عامرٍ سَيَطْلُبُكَ، ثُمَّ الْقَهُ بعد وأعلمه أه أَحْمَقُ رَجُلٍ فِي قُرَيْشٍ وَأَقَلُّهُمْ عَقْلا حَيْثُ يَخْطُبُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ وَعِنْدَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا إِنَّمَا يُرِيدُ الإِضْرَارَ بِهَا وَأَنْ يُؤْذِيَهَا، وَتَشَدَّدْ بِذَلِكَ، وَمُرْهُ أَنْ يَعُودَ وَيَكْتُبَ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ هَذَا الأَمْرَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَضُرَّ بِابْنَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونَ عِنْدَهُ غَيْرُهَا، وَأَنَّهُ يُخَلِّي عَنْ كُلِّ امرأةٍ تَعْظِيمًا لِحَقِّهَا، فَفَعَلَ الْخَادِمُ ذَلِكَ ثُمَّ لَقِيَ ابْنَ عَامِرٍ فَبَلَغَ مِنْهُ مَا أَرَادَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: كَيْفَ الْحِيلَةُ لإِصْلاحِ هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: تَدْخُلُ إِنْ شِئْتَ أَوْ تَكْتُبُ كِتَابًا تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّكَ مُطَلِّقٌ لِنِسَائِكَ إِكْرَامًا لابْنَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْظِيمًا لِحَقِّهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عَامِرٍ، فَلَمَّا قَرَأَ مُعَاوِيَةُ كِتَابَهُ دَعَا بعشرةٍ مِنْ قريشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ عَرَفْتُمْ حَالَ ابْنِ عَامِرٍ فِي شَرَفِهِ وَحَسَبِهِ وَمَكَانِهِ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَرَابَتِهِ، وَقَدْ خَطَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ، وَقَدْ زَوَّجَهُ عَلَى مَا ضَمِنَ مِنْ تَطْلِيقِ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَيْنَاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَإِنَّ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْل بن عَمْرو طلق أَلْبَتَّةَ، فَدَعَا لَهُ مُعَاوِيَةُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا. ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى دارٍ سِوَى الدَّارِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا أَنِ اعْتَدِّي، فَلَمَّا أَتَاهَا الرَّسُولُ قَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ قَالَ: طَلَّقَكِ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَتْ: مَا أَظُنُّهُ فَعَلَ هَذَا وَعَقْلُهُ مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلَتْ عَنِ الأَمْرِ فَأُخْبِرَتْ، فَدَعَتْ قَهْرَمَانَهَا فَأَمَرَتْهُ أَنْ يُجَهِّزَهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَتْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ: فَرَّقَ مُعَاوِيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي لِيَتَزَوَّجَنِي، وَاللَّهِ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أُمِّهِ، وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ إِنَّهَا قَدْ شَخَصَتْ، قَالَ: دَعْهَا فَلْتَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَتْ فَلَعَمْرِي لَا تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِي إِلا أَنْ تَخْرُجَ إِلَى أَرْضِ الشّرك. ناء، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَإِنَّ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْل بن عَمْرو طلق

أَلْبَتَّةَ، فَدَعَا لَهُ مُعَاوِيَةُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا. ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى دارٍ سِوَى الدَّارِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا أَنِ اعْتَدِّي، فَلَمَّا أَتَاهَا الرَّسُولُ قَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ قَالَ: طَلَّقَكِ عَبْدُ اللَّهِ، قَالَتْ: مَا أَظُنُّهُ فَعَلَ هَذَا وَعَقْلُهُ مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلَتْ عَنِ الأَمْرِ فَأُخْبِرَتْ، فَدَعَتْ قَهْرَمَانَهَا فَأَمَرَتْهُ أَنْ يُجَهِّزَهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَتْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ: فَرَّقَ مُعَاوِيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي لِيَتَزَوَّجَنِي، وَاللَّهِ لَا يَصِلُ إِلَى ذَلِكَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أُمِّهِ، وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ إِنَّهَا قَدْ شَخَصَتْ، قَالَ: دَعْهَا فَلْتَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَتْ فَلَعَمْرِي لَا تَخْرُجُ مِنْ سُلْطَانِي إِلا أَنْ تَخْرُجَ إِلَى أَرْضِ الشّرك. فَلَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنَّ عِدَّتِي لَمْ تَنْقَضِ، فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِكِ، فَقَالَتْ: فَإِنِّي لَا أُخْبِرُكَ دُونَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَأْتِيَنِي لأَمْرٍ أَسْتَفْتِيكَ فِيهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا: إِنَّ مِثْلِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ لِلْفُتْيَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنْ لَمْ تَأْتِنِي أَتَيْتُكَ فِي مجلسٍ حَاسِرَةً فَإِنْ كُنْتَ تَرْضَى أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْكَ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَاسِرَةً حَتَّى تُفْتِيَهَا فَأَنْتَ وَرَأْيُكَ، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ وَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهَا، فَأَذِنَتْ لَهُ فَدَخَلَ وَأَمْسَكَ جَوَارِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَوْبًا، فَحَمِدَتِ اللَّهَ وَصَلَّتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: أعندك يَا ابْن رَسُولِ اللَّهِ خَيْرٌ؟ قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَلْجَأْتِنِي إِلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلامِي، مَنْ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْخَيْرُ مِنِّي وَأَدْنَى طَرَفَيْ رَسُولُ اللَّهِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، قَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ مُعَاوِيَةَ فِي فُرْقَتِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِي مَا أَحْسِبُ أَنَّهُ قد بلغك، وَوَاللَّه مَالِي فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ، وَلَقَدِ اخْتَرْتُكَ لِنَفْسِي، فَإِنْ وَجَدْتَ أَحَدًا أَحَقَّ بِي مِنْكَ فَقَدْ رَضِيتُ بِحُكْمِكَ، أَوْ مَا شِئْتَ، قَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ عَلِمْتِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ حَتَّى أَصْلَحَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَهَذَا أَمْرٌ مَا أُحَدِّثُ بِهِ نَفْسِي، وَمَالِي يَوْمِي هَذَا فِيهِ مِنْ حَاجَةٍ، قَالَتْ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ نَفْسِي بَعْدَ إِذْ بَذَلْتُهَا لَك واخترتك، قَالَ: مَالِي إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، فَلَمَّا رَأَتْ تَأَبِّيهِ عَلَيْهَا قَالَتْ لِجَوَارِيهَا نَحِّينَ الثَّوْبَ عَنِّي، فَنَحَّيْنَ الثَّوْبَ فَإِذَا بِمثل الْقَمَر لأَرْبَع عشرَة، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسِنِ النِّسَاءِ وَأَتَمِّهِنَّ وَكَانَ الْحَسَنُ صَاحِبَ نِسَاءٍ، فَلَمَّا رَأَى جَمَالَهَا، وَلَمْ يَكُنْ رَأَى مِثْلَهَا، أَخَذَتْ بِقَلْبِهِ، فَقَالَ: قَدْ رَضِيتُ وَقَبِلْتُ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنَّهَا قَدْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وأشهدهم أَنه قد تزَوجهَا علاى كَذَا وَكَذَا، وَبَلَغَ الْخَبَرُ مَرْوَانَ فَأرْسل إِلَى السحن فَحَبَسَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَحَبَسَهَا وَأَقَامَ عَلَيْهَا الرُّقَبَاءَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ أَنَّ الْحَسَنَ وَثَبَ فَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ عِلْمِ قاضٍ وَلا سلطانٍ وَلا وَلِيٍّ، جُرْأَةً عَلَيْكَ وَخِلافًا لَكَ، وَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُ بِحَبْسِهِمَا إِلَى إِن يَأْتِين مِنْكَ رَأْيٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَهِمْتُ مَا كَتَبْتَ بِهِ فِي أَمْرِ الْحَسَنِ وَأَمْرِهَا، وَقَدْ أَجَبْتُكَ فِي ذَلِكَ بِكِتَابٍ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ مَخْتُومًا، فَاجْمَعْ إِلَيْكَ ثَلاثِينَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ فُضَّ الْخَاتَمَ بِحَضْرَةِ الْحَسَنِ وَحَضْرَةِ الْقَوْمِ، ثُمَّ اقْرَأْ كِتَابِي وَاعْمَلْ بِمَا

فِيهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مَرْوَانُ، فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَذْكُرُ مِنْ تَزْوِيجِ الْحَسَنِ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ وَلا عِلْمِ سُلْطَانٍ، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ بِرَأْيِي فِيهِمَا وَمَكَانِهِمَا، وَلَعَمْرِي مَا بغل مِنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ أَوْ يُحِلَّ شَيْئًا قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالْحَسَنُ إِنَّمَا تَرَكَ أَنْ يُعْلِمَ السُّلْطَانَ لِمَخَافَتِهِ مِنِّي، لِمَا سَبَقَ مِنْ خِطْبَتِي الْمَرْأَةَ قَبْلَهُ، وَاخْتَارَتْهُ وَآثَرَتْهُ عَلَيَّ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَخَلِّ عَنِ الْحَسَنِ، وَادْفَعْ إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ، وَلا تَعَرَّضْ لَهُمَا فِي شيءٍ يُؤْذِيهِمَا، وَادْفَعْ إِلَى الْحسن مَا مَالِي قِبَلَكَ عَشَرَةَ آلافِ دِينَارٍ مَعُونَةً لَهُ عَلَى تَزْوِيجِهِ، وَادْفَعْ إِلَى زَوْجَتِهِ خَمْسَةَ آلافِ دِينَارٍ، وَأَحْسِنْ جِوَارَهُمَا، فَلَمَّا قَرَأَ مَرْوَانُ الْكِتَابَ قَبِلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَعَانَهُمَا أَيْضًا مِنْ مَالِهِ، وَمَنَعَ مُعَاوِيَةُ عَنِ ابْنِ عامرٍ ابْنَتَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا زَوَّجْتُكَ عَلَى أَنْ أَتزوّج امْرَأَتك وبنتي صغية حَتَّى تَبْلُغَ، فَاسْتَأْذَنَ ابْنُ عامرٍ لِلْحَجِّ وَأَتَى الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْحَسَنَ عَلَى بَابِهِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ بِهِ السحن وَأَنْزَلَهُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: أَبَا مُحَمَّدٍ أَتَأْذَنُ فِي الدُّخُولِ عَلَى فَاطِمَةَ بِلَفْظِ أَبِي الْعَيْنَاءِ وَالسَّلامِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: وَكَرَامَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا هَذَا ابْنُ عَمِّكِ عَبْدُ اللَّهِ يُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَيْكِ فَأْذَنِي لَهُ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَجَلَسَتْ وَأَخَذَتْ زِينَتَهَا، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فَدخل عَلَيْهِ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقَالَ الْحَسَنُ: يَا هَذَا قَدْ عَلِمْتُ مِثْلَ هَذَا، وَقَدْ صَيَّرَ اللَّهُ الأَمْرَ إِلَى مَا تُرِيدُ، وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ بِالنُّزُولِ عَنْهَا وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا غَيْرَ زَاهِدٍ فِيهَا وَلا قالٍ لَهَا، وَلَكِنْ كَرَاهَةَ مَسَاءَتِكَ، قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: لَا وَاللَّهِ مَالِي بِذَاكَ مِنْ حَاجَةٍ، وَقَالَتْ هِيَ: وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِ وَقَدْ طَلَّقَنِي بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَلا حدثٍ إِلا طَمَعًا فِي ابْنَةِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: فَمَا بُكَاؤُكُمَا؟ قَالَتْ: ذَكَرْتُ ابْنَتِي حَيْثُ نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ مِنْهَا ابْنَةٌ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَخَوَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ. ثُمَّ كَشَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَنْ شيءٍ تَحت ثَوْبه فغذا سَفَطَانِ فِي أَحَدِهِمَا جَوْهَرٌ وَفِي الآخِرِ دُرٌّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَ لِي عِنْدَهَا سَأَلْتُهَا عَنْهُ وَمَا أَطْمَعُ أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيَّ، وَمَا أَظن أحدا تَسْخُو نَفْسُهُ عَنْ مِثْلِهِ، فَرَدَّتْهُ عَلَيَّ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا أَخَذْتَ مِنْهُ حَاجَتك، قَالَ الْحسن: مَالِي فِيهِ مِنْ حاجةٍ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِمَا لَك، وَلَكِنْ حَاجَتِي إِلَيْكَ غَيْرُ هَذَا، أُحِبُّ أَنْ تُسْعِفَنِي بِهَا، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: ابْنَتُكَ هِيَ ابْنَتِي وَأُحِبُّ أَنْ تَضُمَّهَا إِلَى أُمِّهَا، قَالَ: هِيَ لَكَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَيْهَا مِنْ سَاعَتِهَا فَحُمِلَتْ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ خَدَمٍ ومالٍ فَدَفَعَهَا إِلَى الْحَسَنِ. قَالَ الْحسن: مَالِي فِيهِ مِنْ حاجةٍ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِمَا لَك، وَلَكِنْ حَاجَتِي إِلَيْكَ غَيْرُ هَذَا، أُحِبُّ أَنْ تُسْعِفَنِي بِهَا، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: ابْنَتُكَ هِيَ ابْنَتِي وَأُحِبُّ أَنْ تَضُمَّهَا إِلَى أُمِّهَا، قَالَ: هِيَ لَكَ، فَأَرْسَلَهَا إِلَيْهَا مِنْ سَاعَتِهَا فَحُمِلَتْ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ خَدَمٍ ومالٍ فَدَفَعَهَا إِلَى الْحَسَنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ: فَأَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي وَكَانَ أَبُوهُ قَاضِي الْمَنْصُورِ قَالَ: لَمَّا طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ هِنْدَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَهُ مِنْهَا ابْنَةٌ وَتَزَوَّجَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَمْ يَدْرِ مَا الْحِيلَةُ لَهَا لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْهَا، فَبَعَثَ إِلَى ابْنَتِهِ لِيَقْبِضَهَا فَصَرفهُ السحن بِالرِّجَالِ فَكَلَّمَهُ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: ماحجر رجلٍ عِنْدِي أَشْرَفُ وَلا أَفْضَلُ مِنْ حِجْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَكِنَّهَا امْرَأَةٌ قَدْ بَلَغَتْ وَأُحِبُّ كَيْنُونَتَهَا عِنْدِي وَالأُنْسُ بِهَا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ هِنْدٌ قَالَت لِلْحسنِ:

غلام يمازح أبا نواس وهو ضجر

إِنِّي وَلَا لَهُ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَا يَدَعُهَا لأحدٍ إِلا لِي فَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ لأَنَّكَ الْمَأْمُونَةُ وَهُوَ الْمَأْمُونُ، وَكَانَ قَدْ قَبَضَ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ: إِنِّي آتِيكَ لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَقَامَ لَهَا ابْنُ عَامِرٍ فِي دَارِهِ الْخَارِجَةَ وَصَفَاءً بِالشَّمْعِ وَفِي قُبَّتِهِ الَّتِي كَانَ يسكنهَا من دراته وَصَائِفُ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ إِلَى بَابٍ خَلْفَهُ وَقَدْ بُسِطَ لَهُ، وَجَاءَتْ فَجَلَسَتْ أَسْفَلَ مِنْ سَرِيرِهِ، وَجَاءَتِ ابْنَتُهَا فَاعْتَنَقَتْهَا وَتَبَاكَيَا، فَقَالَتْ هِنْد لانب عَامِرٍ: إِنِّي جِئْتُكَ فِي بِنْتِي وَلا حِجْرَ لَهَا خَيْرٌ مِنْ حِجْرِي وَلا أَدَبَ أَنْفَعُ لَهَا مِنْ أَدَبِي، وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ مَا فِيهَا إِلَيَّ أَنَّهَا مِنْكَ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَهَبَهَا لِي وَتُشَفِّعَنِي فِيهَا فَعَلْتُ، قَالَ: هِيَ لَكِ، ثُمَّ دَعَا بِسَبَنِيَّةِ خزٍ فَمُلِئَتْ خَزًّا، وَدَعَا مِنْ أَصْنَافِ الثِّيَابِ بثوبٍ فَمَلأهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَدَعَا بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِينَارٍ وَحُلَلٍ مَا يُدْرَى مَا قَيْمَتُهَا ثُمَّ وَلَّى إِلَى الْبَابِ الَّذِي خَلْفَ سَرِيرِهِ فَقَامَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ ثُمَّ قَالَ: لَكِ مَا بَيْنَ سَرِيرِي هَذَا إِلَى مَا دَخَلْتِ فِيهِ مِنْ مُلْكِي، فَانْصَرَفَتْ بِذَلِكَ الْمَتَاع المَال وَالرَّقِيقِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ أَبُو عُثْمَانَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: كَانَ ابْنُ عَامِرٍ قَدِ اسْتَوْدَعَ هِنْدًا بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرو أسفاظاً فِيهَا حُلِيٌّ كَثِيرٌ وَدُرٌّ وَجَوْهَرٌ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا أَحَدًا غَيْرَهَا، وَطَلَّقَهَا وَهُوَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ بِالْمَدِينَةِ، قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ وَتَزَوَّجَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ابْنُ عَامِرٍ يَطْلُبُ مَا اسْتَوْدَعَهَا، فَأَنْكَرَتِ الرَّسُولَ أَنْ يَكُونَ اسْتَوْدَعَهَا شَيْئًا أَوله عِنْدَهَا شَيْءٌ! فَلَمَّا كَثُرَتِ الرُّسُلُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَقِيَ ابْنُ عَامِرٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَقَالَ لَهُ: كُنْتُ اسْتَوْدَعْتُ هِنْدًا وَدِيعَةً وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهَا فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ إِلَى قَلْبِي أَنَّ جَحْدَهَا لِمَنْ أَرْسَلْتُهُ مَحَبَّةَ أَنْ لَا يَفْشُوَ ذَلِكَ، وَأَنَّهَا لَا تُحِبُّ دَفْعَهُ إِلا إِلَيَّ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْذَنَ لِي عَلَيْهَا فَعَلْتُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَجَاءَ الْحَسَنُ فَأَعْلَمَهَا أَنَّ ابْنَ عامرٍ بِالْبَابِ، فَشَدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ عَامِرٍ غَلَبَتْهُ الْعَبْرَةُ وَبَكَتِ الأُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ، إِنْ شِئْتُمَا كُنْتُ خَيْرَ مُحِلٍّ. فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: إِذًا وَاللَّهِ لَا نَجْتَمِعُ أَبَدًا، فَسَأَلَهَا عَمَّا وَضَعَ عِنْدَهَا فَقَالَتْ: نَعَمْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لأُقِرَّ بِهِ لأحدٍ أَبَدًا وَلا أَدْفَعَهُ إِلَى سِوَاكَ أَبَدًا، يَا جَارِيَةُ ضَعِي لِي هُنَاكَ فِرَاشًا، فَوُضِعَ لَهَا فِرَاشٌ وَاسْتَقَرَّ مَجْلِسُهَا، ثُمَّ قَالَتْ: ارْفَعِي الْفِرَاشَ الَّذِي كَانَ تَحْتِي فَرُفِعَ ثُمَّ قَالَتْ: احْفِرِي، فَحَفَرَتْ تَحْتَ فِرَاشِهَا فَأَخْرَجَتْ تِلْكَ الأَسْفَاطَ بِخَاتَمِ ابْنِ عَامِرٍ لَمْ تُحَرَّكْ، فَقَالَت: واله مَا رَأَيْتُهَا وَمَا زِلْتُ أَنْقُلُهُ مَعِي حَيْثُ مَا كُنْتُ مَعَ فِرَاشِي، إِلَى أَنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: خُذِي مِنْهُ مَا أَحْبَبْتِ، وَفَتَحَ بَعْضَهَا ليعطيها فحلقت لَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ وَقَدْ قَبَضَ مَتَاعَهُ. غُلَام يمازح أَبَا نواس وَهُوَ ضجر حَدثنَا مُحَمَّد بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو عَليّ بْن سعيد الشَّيْبَانِيّ قَالَ حَدَّثَنِي هَارُون بْن سُفْيَان مولى بجيلة قَالَ: كنت مَعَ أَبِي نواس يَوْمًا فِي بعض طرق بَغْدَاد وَهُوَ

المجلس السادس والسبعون

ضجر قَلِيل النشاط، فجَاء غُلَام حسن الْوَجْه رائق، فَجعل يمازحه ويعبث بِهِ وَأَبُو نواس لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، فَانْصَرف الْغُلَام وَهُوَ يَقُول: أَصبَحت وَالله يَا أَبَا نواس بَارِدًا، فَقَالَ لي أَبُو نواس أَمَعَك أَلْوَاح:؟ قلت، نعم، قَالَ اكْتُبْ: اذْهَبْ نجوت من الهجاء ولذعه ... وَأما ولثغة أَحْمَد بْن نجاح لَوْلَا فتور فِي كلامك يَشْتَهِي ... وترفقي لَك بعد واستملاحي وتكسر فِي مقلتيك هُوَ الَّذِي ... عطف الْقُلُوب عَلَيْك بعد جماح لعَلِمت أَنَّك لَا تمازح شَاعِرًا ... فِي ساعةٍ لَيست بِحِين مزاح الْمجْلس السَّادِس وَالسَّبْعُونَ معنى كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْطَاكِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَعْنِي أَبَا الْحَارِثِ الرَّمْلِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا صَفْوَان بْن صَالح الجمشقي قَالَ حَدَّثَنَا الْوَزِيرُ بْنُ صُبَيْحٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " كُلَّ يومٍ هُوَ فِي شأنٍ " الرَّحْمَن: 29 مِنْ شَأْنِهِ يَغْفِرُ ذَنْبًا وَيَكْشِفُ كَرْبًا وَيُجِيبُ دَاعيا وَيرْفَع قوما يضع آخَرِينَ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر وَفِيهِ: وَيُعْطِي سَائِلا. اللَّهُمَّ فَاجْعَلْنَا مِمَّنْ غَفَرْتَ ذَنْبَهُ وَكَشَفْتَ كَرْبَهُ، وَأَجَبْتَ دُعَاءَهُ وَأَعْطَيْتَهُ سُؤْلَهُ وَرَجَاءَهُ، وَمِمَّنْ تَرْفَعُهُ بِتَوْفِيقِكَ إِيَّاهُ لِطَاعَتِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَأَجِرْنَا أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ تَضَعُهُ وَتَخْفِضُ قَدْرَهُ وَتَحُطُّ مَنْزِلَتَهُ لِتَقْصِيرِهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّكَ وَمُخَالَفَتِهِ لأَمْرِكَ، وَاحْلُلِ الضَّيْعَةَ بِأَعْدَائِكَ وَأَعْدَائِنَا مِنَ الْعُتَاةِ الْمُسْرِفِينَ، وَالطُّغَاةِ الْمُتْرَفِينَ، وَالْبُغَاةِ الْجَبَّارِينَ، وَالْفَجَرَةِ، الظَّالِمِينَ، إِنَّكَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُهْلِكُ الْكَفَرَةِ الضَّالِّينَ. خِدَاش وَمذهب الخداشية حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا عبد الأول عَن ابْن أَبِي خَالِد قَالَ: كَانَ خِدَاش صَاحب الخداشية يفْسد قوما من أهل الدعْوَة بِرَأْيهِ، وَهُوَ رَأْي الخرمية، إِبَاحَة الْمَحَارِم، وَكَانَ مِمَّن رأى هَذَا الرَّأْي مَالك بْن الْهَيْثَم والحريش بْن سليم الأعجمي، وَكَانَ خِدَاش يَقُول لَهُم: لَا صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَا حج، وَيَقُول: إِنَّمَا تَأْوِيل الصَّوْم أَن يصام عَن ذكر الإِمَام وَلَا يُبَاح باسمه لأحد، وَالصَّلَاة الدُّعَاء للْإِمَام وَذكره وطاعته، الْحَج أَن تَحُجُّوا الإِمَام أَي تقصدوه فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَج إِلَى الْكَعْبَة دَرك، وَلَا فِي ترك الْأكل وَالشرب للصَّائِم مَنْفَعَة، وَلَا فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود طائل، فَلَا يَنْبَغِي أَن تمتنعوا مِمَّا تحبون من طَعَام أَو شراب أَو جماع أَو غير ذَلِك فِي كل حِين، وَلَا جنَاح عَلَيْكُم فِيهِ، ويتأول لَهُم من الْقُرْآن قَوْله عز وَجل: " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا

الرشيد وأعرابي باقعة

اتَّقَوْا وَآمَنُوا " الْمَائِدَة: 93 الْآيَة، وَكَانَ خِدَاش نَصْرَانِيّا بِالْكُوفَةِ ثُمَّ أسلم وَلحق بخراسان وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر: تَفَرَّقت الظباء على خداشٍ ... فَمَا يدْرِي خِدَاش مَا يصيد قَالَ القَاضِي رَحمَه الله: وَقد كَانَ الْمَنْصُور عِنْد خُرُوج من خرج عَلَيْهِ ونهدوا لمحاربته تمثل بِهَذَا الْبَيْت عِنْد إِخْبَار بعض المخبرين لَهُ عَنْهُم. الخرمية وَأما رَأْي الخرمية هَذَا فقد كثر المتدينون بِهِ والعاملون عَلَيْهِ من غير أَن يعتقدوه دينا لَهُم، لكِنهمْ ركبُوا المجون والخلاعة، وانقادوا لدواعي نُفُوسهم الأمارة بالسوء الخداعة، وانهمكوا فِي الشَّهَوَات الخسيسة، واستثقلوا عبَادَة الله وطاعته المفضية بهم إِلَى الْمَرَاتِب النفيسة، وَالله نسْأَل التَّوْفِيق والعصمة. الرشيد وأعرابي باقعة حَدثنِي الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو الْفضل الرَّبَعيّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ: خرج الرشيد فِي بعض متنزهاته فَلَمَّا اسرع السّير فِي بعض البراري انْفَرد من النَّاس على نَحْو من ميل، فَرفع لَهُ خباء مَنْصُوب فأمه حَتَّى وقف عَلَيْهِ، فَإِذا فِيهِ أَعْرَابِي جَالس، فَسلم عَلَيْهِ الرشيد، فَرد عَلَيْهِ الْأَعرَابِي السَّلَام ثُمَّ رفع رَأسه إِلَيْهِ فَقَالَ: من أَنْت يَا حسن الْوَجْه؟ فَقَالَ لَهُ الرشيد: أَنا من أبْغض النَّاس إِلَى النَّاس، قَالَ الْأَعرَابِي: أَنْت إِذا من معد، قَالَ نعم، قَالَ: من أَي معد؟ قَالَ: من أبْغض معد ألى معد، قَالَ: فَأَنت إِذا من مُضر، قَالَ: نعم، قَالَ: فَمن أَي مُضر أَنْت؟ قَالَ: من أبْغض مُضر إِلَيّ مُضر، قَالَ: فَأَنت إِذا من كنَانَة، قَالَ: نعم، قَالَ: من أَي كنَانَة؟ قَالَ: من أبْغض كنَانَة إِلَى كنَانَة، قَالَ: فَأَنت إِذا من قُرَيْش، قَالَ: نعم، قَالَ: من أَي قُرَيْش أَنْت؟ قَالَ: من أبْغض قُرَيْش إِلَى قُرَيْش، قَالَ: فَأَنت إِذا من بني هَاشم، قَالَ نعم، قَالَ: فَمن أَي بني هَاشم أَنْت؟ قَالَ: من أبْغض بني هَاشم إِلَى بني هَاشم، قَالَ: فَأَنت إِذا من ولد الْعَبَّاس، قَالَ: نعم، قَالَ: فَمن أَي ولد الْعَبَّاس؟ قَالَ: من أبْغض بني الْعَبَّاس إِلَيّ بني الْعَبَّاس، قَالَ: فَوَثَبَ الْأَعرَابِي قَائِما ثُمَّ قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته، وتوافت الجيوش، فَقَالَ الرشيد: احملوه قَاتله الله أَعْرَابِيًا مَا أدهاه!! هِشَام بْن عبد الْملك يعْزل إِبْرَاهِيم المَخْزُومِي حَدثنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحسن الْأنْصَارِيّ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الْعَزِيز بْن مُحَمَّد المَخْزُومِي قَالَ: كتب هِشَام بْن عبد الْملك إِلَى إِبْرَاهِيم بْن هِشَام المَخْزُومِي، وَكَانَ عَامله على الْحجاز: أما بعد فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد قلد مَا كَانَ ولاك من الْحجاز خَالِد بْن عبد الْملك، وَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ لم يعزلك حَتَّى كنت وإياه كَمَا قَالَ الْقطَامِي:

أبو الأسود يريد وليدة

أُمُور مَا يدبرها حَكِيم ... بلَى فَنهى وهيب مَا استطاعا وكلن الْأَدِيم إِذا تفرى ... بل وتعيبًا غلب الصناعا وَإِنِّي وَالله مَا عزلتك حَتَّى لم يبْق من أديمك شَيْء أتمسك بِهِ. فَلَمَّا ورد كِتَابه على إِبْرَاهِيم تغير وَجهه وَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، أَصبَحت الْيَوْم واليًا، وَأَنا السَّاعَة سوقة، فَقَامَ إِلَيْهِ رجل من بني أَسد بْن خُزَيْمَة فَقَالَ: فَإِن تكن الْإِمَارَة عَنْك راحت ... فَإنَّك للهشام وللوليد وَقد مر الَّذِي أَصبَحت فِيهِ ... على مَرْوَان ثُمَّ على سعيد قَالَ: فَسرِّي عَنْهُ وَأحسن جَائِزَة الْأَسدي. قَالَ القَاضِي: قَول هِشَام حَتَّى كنت وإياه عطف وإياه الَّذِي هُوَ النصب على التَّاء، وَهِي فِي مَوضِع رفع، لِأَنَّهُ من بَاب الْمَفْعُول مَعَه، كَقَوْلِهِم: مَا صنعت وإياكن وَمِنْه قَول الشَّاعِر: فَكَانَ وَإِيَّاهَا كحران لم يفق ... عَن المَاء إِذْ لاقاه حَتَّى تعذرا أَبُو الْأسود يُرِيد وليدة حَدثنَا يزْدَاد بْن عبد الرَّحْمَن قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى، يَعْنِي تينة، حَدَّثَنِي القحذمي قَالَ: جَاءَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي إِلَى بحير بْن ريسان الحيمري فَقَالَ: بحير بْن ريسان الَّذِي سَاد حميراً ... بأفعاله الدائرات تَدور وَإِنِّي لأرجو من بحيرٍ وليدة ... وَذَاكَ على الْمَرْء الْكَرِيم يسير فَقَالَ: يَا أَبَا الْأسود سألتنا على قدرك، وَلَو سألتنا لعى قَدرنَا مَا رَضِينَا بهَا لَك، قَالَ: إِمَّا لَا فا جعلهَا روقة أَي تعجب مَالِكهَا. أَعْرَابِي ثكل تِسْعَة من أبنائه حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عمَارَة الْمُسْتَمْلِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: رَأَيْت أَعْرَابِيًا بِمَكَّة يَصِيح واويلاه واثكلاه، فَقلت لَهُ: مَا ثكلك يَا أَعْرَابِي؟ قَالَ: ستعة من الذُّكُور فِي تسعةٍ من الشُّهُور كَأَنَّهُمْ البدور، قلت: لَا إخالك إِلَّا وَقد قلت فِي ذَلِك شعرًا، قَالَ: أجل، ثُمَّ أَنْشدني: أَلا يزْجر الدَّهْر عَنَّا المنونا ... يوقي الْبَنَات وفني البنينا وَكنت أَبَا تسعةٍ كالبدور ... قد فقأوا أعين الحاسيدنا فَمروا على حادثات الزَّمَان ... كمر الدَّرَاهِم بالناقدينا أضرّ بهم ريب هَذَا الْمنون ... حَتَّى أبادهم أجمعينا وَحَتَّى بكاهم حسادهم ... فقد أقرحوا بالدموع الجفونا وحسبك من حَادث بامرئ ... ترى حاسديه لَهُ راحمينا

أفتنت سعيدا

أفتنت سعيدًا حَدثنَا مُحَمَّد بْن مخلد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن بكر بْن خَالِد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس دَاوُد بْن رشيد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو نميلَة عَن عَمْرو بْن زَائِدَة قَالَ حَدَّثتنِي امْرَأَة بني أَسد قَالَت: زففنا عروسًا فِي الْحَيّ، فمررنا بِسَعِيد بْن جُبَير والمغنية تَقول: لَئِن فتنتني فَهِيَ بالْأَمْس أفتنت ... سعيدًا فأضحى قد قلى كل مُسلم وَألقى مَفَاتِيح الْمَسَاجِد وَاشْترى ... وصال الغواني بِالْكتاب المنمنم قَالَ ابْن مخلد فَقَالَ سعيد: كذب. الْأَصْمَعِي يصحف فِي شعر الرَّاعِي حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا القَاسِم بْن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو ذفافة بْن سعيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ قَالَ: قَرَأنَا على الْأَصْمَعِي شعر الرَّاعِي، فَمر فِي قصيدته مَا بَال دفك بالفراش مذيلا: وَكَأن ريضها إِذا باشرتها ... كَانَت معودة الرحيل ذلولا فَقُلْنَا لَهُ: مَا معنى باشرتها؟ قَالَ: ركبتها من الْمُبَاشرَة، فحكينا ذَلِك لأبي عُبَيْدَة فَقَالَ: صحف وَالله الْأَصْمَعِي، إِنَّمَا هُوَ إِذا يَا سرتها وَهَذَا كَقَوْل الآخر: إِذا يوسرت كَانَت ذلولا أديبة ... وتحسبها إِن عوسرت لم تؤدب قَالَ القَاضِي: الْأَمر فِي هَذَا لعمري كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَة، واستشهاده فِيهِ صَحِيح على مَا وصف. الْأَصْمَعِي لَا يأبه لاعتراض ابْن الْأَعرَابِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الطّيب بْن مُحَمَّد الْبَاهِلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سَعِيد بْن سلم الْبَاهِلِيّ قَالَ قَرَأنَا على الْأَصْمَعِي شعر العجاج، فَمر بِنَا: من أَن تبدلت بآد آدا ... لم يَك يناد فأمسى إنادا فقد أَرَانِي أصل القعادا قَالَ: وَدخل ابْن الْأَعرَابِي فَأَوْمأ إِلَيْنَا: سلوه مَا القعاد، فَقَالَ: الشُّيُوخ الَّذين قعدوا عَن الْغَزل كبرا وَكَذَلِكَ هُوَ من النِّسَاء، فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أما القعاد من الرِّجَال فَصَحِيح، وَأما النِّسَاء فقواعد كَمَا قَالَ الله عز وَجل: " وَالْقَوَاعِدُ من النِّسَاء " النُّور: 60 قَالَ: فو الله مَا الْتفت الْأَصْمَعِي إِلَيْهِ، ثُمَّ أنْشد للقطامي: أبصارهن إِلَى الشبَّان مائلة ... وَقد أَرَاهُم عني غير صداد فَمَا الْفرق بَين صداد وقعاد، فَمَا نطق ابْن الْأَعرَابِي بحرفٍ وَقَامَ فَخرج. قَالَ القَاضِي: الْأَمر فِي هَذَا على مَا قَالَ الْأَصْمَعِي، وَقد أغفل ابْن الْأَعرَابِي إِنْكَاره مِنْهُ مَا أنكرهُ. خطْبَة للحجاج بعد دير الجماجم حَدثنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد، يَعْنِي ابْن عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبَّاس، عَن عَطاء، يَعْنِي ابْن مُصعب، عَن عَاصِم قَالَ: خطب الْحجَّاج أهل الْعرَاق بعد دير الجماجم، فَقَالَ: يَا أهل الْعرَاق إِن الشَّيْطَان قد استبطنكم فخالط اللَّحْم وَالدَّم والعصب والمسامع والأطراف، ثُمَّ أفْضى إِلَى الأصماخ والأمخاخ، ثُمَّ ارْتَفع فعشش، ثُمَّ باض وفرخ، ثُمَّ دب ودرج، فحشاكم نفَاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، اتخذتموه دَلِيلا تتبعونه، وَقَائِدًا تطيعونه، ومؤامراً تشاورونه، فَكيف تنفعكم تجربة أَو

القاضي شريح يتزوج زينب التميمية

ينفعكم بَيَان؟ ألستم أَصْحَابِي بالأهواز حَيْثُ رمتم الْمَكْر وأجمعتم على الْكفْر، وظننتم أَن الله عز وَجل يخذل دينه وخلافته، وَأَنا أرميكم بطرفي وَأَنْتُم تتسللون لِوَاذًا وتنهزمون سرَاعًا يَوْم الزاوية بِمَا كَانَ من فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وَبَرَاءَة الله مِنْكُم ونكوص وَلِيكُم، إِذا وليتم كَالْإِبِلِ الشاذة عَن أوطانها النوازع، لَا يسْأَل الْمَرْء عَن أَخِيه، وَلَا يلوي الشَّيْخ على بنيه، حِين عضكم السِّلَاح وتجشمتكم الرماح يَوْم ير الجماجم، وَمَا يَوْم دير الجماجم، بهَا كَانَت المعارك والملاحم ب؟: ضربٍ يزِيل الْهَام عَن مقِيله ... وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله يَا أهل الْعرَاق: الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات، والنزوة بعد النزوات، إِن بعثناكم إِلَى ثغوركم غللتم وجبنتم، وَإِن أمنتم أرجفتم وَإِن خِفْتُمْ نافقتم، لَا تتذكرون نعْمَة، وَلَا تشكرون مَعْرُوفا. هَل استخفكم ناكث أَو استغواكم غاوٍ أَو استفزكم عاصٍ أَو استنصركم ظَالِم أَو استعضدكم خَالع إِلَّا لبيتم ثُمَّ دَعوته وأجبتم صيحته، ونفرتم إِلَيْهِ خفافاً وثقالاً وفرسناناً ورجالا؟؟! يَا أهل الْعرَاق: هَل شغب شاغب أَو نعب ناعب أَو زفر زَافِر إِلَّا كُنْتُم أَتْبَاعه وأنصاره؟! يَا أهل الْعرَاق: ألم تنفعكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟ ألم يشدد الله عَلَيْكُم وطأته ويذقكم حر سَيْفه وأليم بأسه ومثلاته؟! ثمَّ الْتفت إِلَى أخل الشَّام فَقَالَ: يَا أهل الشَّام، إِنَّمَا أَنا لكم كالظليم الرامح عَن فِرَاخه يَنْفِي عَنْهَا القذر، ويباعد عَنْهَا الْحجر، ويكنها من الْمَطَر، ويحميها من الضباب ويحرسها من الذُّبَاب. يَا أهل الشَّام أَنْتُم الْجنَّة والرداء، وانتم الملاءة والحذاء، أَنْتُم الْأَوْلِيَاء وَالْأَنْصَار، والشعار دون الثار، بكم يذب عَن الْبَيْضَة والحوزة، وبكم ترمي كتائب الْأَعْدَاء ويهزم من عاند وَتَوَلَّى. القَاضِي شُرَيْح يتَزَوَّج زَيْنَب التميمية حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الضَّحَّاك قَالَ حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بْن عدي عَن الشّعبِيّ قَالَ، قَالَ لنا شُرَيْح: يَا شعبي عَلَيْكُم بنساء بني تَمِيم فَإِنَّهُنَّ النِّسَاء، قُلْنَا: وَكَيف ذَلِك يَا أَبَا أُميَّة؟ قَالَ: رجعت يَوْمًا من جنازةٍ مظْهرا فمررت بخباءٍ فَإِذا بِعَجُوزٍ مَعهَا جَارِيَة رؤد، فاستسقيت فَقَالَت: اللَّبن أعجب إِلَيْك أم المَاء أم النَّبِيذ؟ قَالَ قلت: اللَّبن أعجب إِلَيّ. قَالَت: يَا بنية اسقيه لَبَنًا فَإِنِّي أَظُنهُ غَرِيبا، فسقتني، فَلَمَّا شربت قلت: من هَذِه الْجَارِيَة؟ قَالَت: هَذِه بِنْتي زَيْنَب بنت حدير إِحْدَى نسَاء بني تَمِيم ثُمَّ من بني حَنْظَلَة ثُمَّ من بني طهية، قلت: أتزوجينيها، قَالَت: نعم إِن كنت كفؤنا، قَالَ: فَانْصَرَفت إِلَيّ منزلي، فامتنعت من القائلة، فَلَمَّا صليت الظّهْر وجهت إِلَى إخْوَانِي الثِّقَات: مَسْرُوق بْن الأجدع وَالْأسود بْن يزِيد فَصليت الْعَصْر ثُمَّ رحت إِلَى عَمها وَهُوَ فِي مَسْجده، فَلَمَّا رَآنِي تنحى لي عَن مَجْلِسه، فَقلت: أَنْت أَحَق بمجلسك، وَنحن طالبو حاجةٍ، فَقَالَ: مرْحَبًا بك يَا أَبَا أُميَّة، مَا حَاجَتك؟ قلت: إِنِّي ذكرت زَيْنَب بنت أَخِيك،

فَقَالَ: وَالله مَا بهَا عَنْك رَغْبَة وَلَا بك عَنْهَا مقصر، قَالَ: وتكلمت فَزَوجنِي ثُمَّ انصرفت فَمَا وصلت إِلَى منزلي حَتَّى نَدِمت وَقلت: مَاذَا صنعت بنفسي، فهممت أَن أرسل إِلَيْهَا بِطَلَاقِهَا، ثُمّ قلت: لَا أجمع بَين حمقتين، وَلَكِنِّي أضمها إِلَيّ، فَإِن رَأَيْت مَا أحب حمدت الله تَعَالَى، وَإِن تكن الْأُخْرَى طَلقتهَا. فَأرْسلت إِلَيْهَا بصداقها وكرامتها، فَلَمَّا أهديت إِلَيّ وَقَامَ النِّسَاء عَنْهَا قلت: يَا هَذِه إِن من السّنة إِذا أهديت الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا أَن تصلي رَكْعَتَيْنِ خَلفه ويسألا الله عز وَجل الْبركَة، فَقُمْت أُصَلِّي فَإِذا هِيَ خَلْفي، فَلَمَّا فرغت رجعت إِلَى مَكَانهَا، ومددت يَدي فَقَالَت: على رسلك، فَقلت: إِحْدَاهُنَّ وَرب الْكَعْبَة، فَقَالَت: الْحَمد لله وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله، أما بعد، فَإِنِّي امْرَأَة غَرِيبَة، وَلَا وَالله مَا ركبت مركبا هُوَ أصعب عَليّ من هَذَا، وَأَنت رجل لَا أعرف أخلاقك، فخبرني بِمَا تحب آته وَبِمَا تكره أزدجر عَنْهُ، أَقُول قولي هَذَا، واستغفر الله لي وَلَك. قَالَ فَقلت: الْحَمد لله وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله، أما بعد فقد قدمت خير مقدمٍ، قدمت على أهل دارٍ زَوجك سيد رِجَالهمْ، وَأَنت إِن شَاءَ الله سيدة نِسَائِهِم، أحب كَذَا وأكره كَذَا، قَالَت: فَحَدثني عَن أختانك، أَتُحِبُّ أَن يزوروك؟ قَالَ قلت: إِنِّي رجل قاضٍ وأكره أَن يملوني، وأكره أَن ينقطعوا عني، قَالَ: فأقمت مَعهَا سنة أَنا كل يومٍ اشد سُرُورًا مني بِالْيَوْمِ الَّذِي مضى، فَرَجَعت يَوْمًا من مجْلِس الْقَضَاء فَإِذا عَجُوز تَأمر وتنهي فِي منزلي، فَقلت: من هَذِه يَا زَيْنَب؟ قَالَت: هَذِه ختنتك، هَذِه أُمِّي، قلت: كَيفَ حالك يَا هَذِه؟ قَالَت: كَيفَ حالك يَا أَبَا أُميَّة، وَكَيف رَأَيْت أهلك؟ قَالَ قلت: كل الْخَيْر، قَالَت: إِن الْمَرْأَة لَا تكون أَسْوَأ خلقا مِنْهَا فِي حالتين: إِذا ولدت غُلَاما وَإِذا حظيت عِنْد زَوجهَا، فَإِن رَابَك من أهلك ريب فالسوط السَّوْط، قلت: أشهد أَنَّهَا ابْنَتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الْأَدَب. فَكَانَت تجيئني فِي كل حولٍ مرّة فتوصي بِهَذِهِ الْوَصِيَّة ثُمَّ تَنْصَرِف، فاقمت مَعهَا عشْرين سنة مَا غضِبت عَلَيْهَا يَوْمًا وَلَا لَيْلَة، إِلَّا يَوْمًا وَكنت لَهَا ظَالِما وَذَلِكَ أَنِّي ركعت رَكْعَتي الْفجْر وأبصرت عقربًا فعجلت عَن قَتلهَا فكفأت عَلَيْهَا الْإِنَاء وبادرت إِلَى الصَّلَاة وَقلت: يَا زَيْنَب إياك والإناء، فعجلت إِلَيْهِ فحركته فضربتها الْعَقْرَب، فَلَو رَأَيْتنِي يَا شعبي وَأَنا أمص إصبعيها وأقرأ عَلَيْهِمَا المعوذتين، وَكَانَ لي جَار يُقَال لَهُ قيس بْن جرير لَا يزَال يقرع مريئته، فَعِنْدَ ذَلِك أَقُول: رَأَيْت رجَالًا يضْربُونَ نِسَاءَهُمْ ... فشلت يَمِيني يَوْم أضْرب زينبًا وَأَنا الَّذِي أَقُول: إِذا زَيْنَب زارها أَهلهَا ... حشدت وأكرمت زوارها وَإِن هِيَ زارتهم زرتها ... وَإِن لم تكن لي هوى دارها يَا شعبي، فَعَلَيْك بنساء بني تَمِيم فَإِنَّهُنَّ النِّسَاء.

شروح وتعليقات على خبر شريح

شُرُوح وتعليقات على خبر شُرَيْح قَالَ القَاضِي: قَدْ رُوِّينَا خبر شُرَيْح فِي نِكَاحه زَيْنَب من غير طَرِيق، عثرنا على هَذَا مِنْهَا فأثبتناه، وَهُوَ كافٍ من غَيره. وَفِي بعض مَا روينَاهُ، بَيت يَلِي قَوْله: رَأَيْت رجَالًا يضْربُونَ نِسَاءَهُمْ ... فشلت يَمِيني يَوْم أضْرب زينبًا وَهُوَ: وَزَيْنَب شمس وَالنِّسَاء كواكب ... إِذا طلعت لم تبْق مِنْهُنَّ كوكبا قَالَ القَاضِي: وَقد أغار شُرَيْح فِي هَذَا الْبَيْت على قَول النَّابِغَة فِي مدح النُّعْمَان بْن الْمُنْذر: ألم تَرَ أَن اللَّه أَعْطَاك سُورةً ... تَرى كُلّ ملكٍ دُونها يَتَذَبْذَبُ فَإنَّك شمس والملوكُ كواكبُ ... إِذا طلعتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي الْخَبَر جَارِيَة رؤد يُرِيد وصفهَا بِأَنَّهَا فِي اقتبال شبابها كَمَا قَالَ الشَّاعِر: خمصانة قلق موشحها ... رؤد الشَّبَاب غلا بهَا عظم وَقَوله: أهديت إِلَى زَوجهَا فِيهِ لُغَتَانِ: هديت الْعَرُوس إِلَى زَوجهَا هداء وَأهْديت إهداء، وَطرح الْألف أَكثر، فَكَأَنَّهُ من الْهِدَايَة لَا من الْهَدِيَّة، وَهُوَ أشبه وأليق بِالْمَعْنَى، وَمن الهداء قَول زُهَيْر: فَإِن تكن النِّسَاء مخبآتٍ ... فَحق لكل محصنةٍ هداء وَأما قَول زَيْنَب لشريح هَذِه ختنتك فقد تكلم فِي هَذَا قوم من الْفُقَهَاء واللغويين، وحاجة الْفُقَهَاء إِلَى معرفَة ذَلِك بَينه، وَإِذ قد يُوصي الْمَرْء لأصهار فلَان وأختانه؛ وَقد يحلف لَا يكلم أَصْهَار فلَان وأختانه، فَقَالَ قوم: يكون الْأخْتَان من قبل الرجل والأصهار من قبل الْمَرْأَة. وَذهب قوم فِي هَذَا إِلَى التَّدَاخُل والاشتراك وَهَذَا أصح المذهبين عِنْدِي، وَقد قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام. مُحَمَّد النَّبِي أخي وصهري ... أحب النَّاس كلهم إليا وَالنَّبِيّ أَبُو زَوجته؛ ويدلك على هَذَا قَوْلهم: قد أصهر فلَان إِلَى فلَان، وَبَين الْقَوْم مصاهرة وصهر، فَجرى هَذَا مجْرى النّسَب والمناسبة فِي إجرائهما على الطَّرفَيْنِ والعبارة بهما عَن الْجِهَتَيْنِ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصهراً " الْفرْقَان:54 وَقد جَاءَ عَن أهل التَّأْوِيل فِي قَول الله تَعَالَى: " وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً " النَّحْل: 72 أَقْوَال: قَالَ بَعضهم: هم الأصهار، وَقَالَ بَعضهم: هم الْأخْتَان، وَظَاهر هَذَا الْعَمَل على اخْتِلَاف الْمَعْنيين بِحَسب مَا ذهب إِلَيْهِ من قدمنَا الْحِكَايَة عَنْهُ، وَقد قَالَ: وَجَائِز أَن يكون عبر

المجلس السابع والسبعون

باللفظين عَن معنى وَاحِد، وَقد قَالَ بَعضهم: الحفدة الخدم، قَالَ الشَّاعِر: حفد الولائد حَوْلهنَّ واسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال وَقَالَ رؤبة يُخَاطب أَبَاهُ: إِن بنيك لكرام نجده ... وَلَو دَعَوْت لأتوك حفده أَي سرَاعًا إِلَى معاونتك وَاتِّبَاع أَمرك، وَمن هَذَا قَوْلهم: وَإِلَيْك نسعى ونحفد أَي نجد فِي عبادتك ونسعى فِي طَاعَتك. الْمجْلس السَّابِع وَالسَّبْعُونَ خطْبَة عمر فِي الْجَابِيَة واستجابته لدَعْوَة قسطنطين حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق طَلْحَة بن عبد الله بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ النَّدِيمُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر أَحْمَد بْن مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَطَاءِ بْنِ قَيْسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَابِيَةَ لِفَرْضِ الْخَرَاجِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، قَالَ: فشهدته دَعَا بِكُرْسِيٍّ مِنْ كَرَاسِيِّ الْكَنِيسَةِ فَقَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فِينَا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَكْرِمُوا النَّاسَ، إِنَّ خِيَارَكُمْ أَصْحَابِي، أَلا ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، أَلا ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، أَلا ثُمَّ يَظْهَرُ الْكَذِبُ وَيَكْثُرُ الْحَلِفُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَحْلَفْ، وَيَشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يُسْتَشْهَدْ، أَلا فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةَ. يَدُ رَبِّكُمْ مَعَ الْجَمَاعَةَ، أَلا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ بَنِي آدم، فَهُوَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، أَلا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا، أَلا وَمَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَاتُهُ وَسَرَّتْهُ حَسَنَاتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. قُمْتُ فِيكُمْ بِقَدْرِ مَا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا. ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى نَزَلَ أَذْرُعَاتٍ، وَقَدْ وَلَّى عَلَى الشَّامِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَعَا بِغَدَائِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الثَّرِيدِ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قَصْعَةٌ أُخْرَى، فَصَاحَ وَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا الَّذِي أَنْكَرْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: مَا بَالِي تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيَّ قَصْعَةٌ ثُمَّ تُرْفَعُ وَتُوضَعُ أُخْرَى؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ هَبَطْتَ أَرْضًا كَثِيرَةَ الأَطْعِمَةِ فَخِفْتُ عَلَيْكَ وَخَامَتَهَا، فَأَشِرْ إِلَى أَيِّهَا شِئْتَ حَتَّى أُلْزِمَكَهُ، فَأَشَارَ إِلَى الثَّرِيدِ، فَقَالَ قُسْطَنْطِينُ لِمُعَاوِيَةَ: جَادَ مَا خَرَّجْتَ مِنْهَا. فَلَمَّا فرغ من غدائه قالم قُسْطَنْطِينُ وَهُوَ صَاحِبُ بُصْرَى بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ فَرَضَ عَلَيَّ الْخَرَاجَ فَاكْتُبْ لِي بِهِ، فَأَنْكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا فَرَضَ عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَرَضَ عَلَيَّ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَعَبَاءَةً عَلَى كُلِّ جَلْجَلَةٍ يَعْنِي الْجَمَاجِمَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله عَنهُ لأبي عُبَيْدَة: مَا يَقُول هَذ1؟ قَالَ: كَذِبٌ، وَلَكِنِّي كُنْتُ صَالَحْتُهُ عَلَى مَا

ذَكَرَ لِيَسْتَمْتِعَ بِهِ الْمَسْلِمُونَ فِي شِتَائِهِمْ هَذَا، ثُمَّ تَقَدَّمُ أَنْتَ فَتَكُونُ الَّذِي يَفْرِضُ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَبُو عُبَيْدَةَ أَصْدَقُ عِنْدَنَا مِنْكَ، فَقَالَ قُسْطَنْطِينُ: صَدَقَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَكَذَبْتُ أَنَا، قَالَ: فَوَيْحَكَ، مَا أَرَدْتَ بِمَقَالَتِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَخْدَعَكَ، وَلَكِنْ أَفْرِضْ عَلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ الآنَ، قَالَ: فَجَاثَاهُ النَّبَطِيُّ مُجَاثَاةَ الْخَصْمِ عَامَّةَ النَّهَارِ، فَفَرَضَ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وعَلى الْمُفلس المدقع اثْنَيْ عَشَرَ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ أَنْ يُشَاطِرَهُمْ مَنَازِلَهُمْ وَيَنْزِلَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى أَنْ لَا يَضْرِبُوا بِنَاقُوسٍ، وَلا يَرْفَعُوا صَلِيبًا إِلا فِي جَوْفِ كَنِيسَةٍ، وَعَلَى أَنْ لَا يُحْدِثُوا إِلا مَا فِي أَيْديهم، وعَلى أَن لَا يقرُّوا خِنْزِيرًا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى أَنْ يُقْرُوا ضَيْفَهُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَعَلَى أَنْ يَحْمِلُوا رَاجِلَهُمْ مِنْ رستاقٍ إِلَى رُسْتَاقٍ، وَعَلَى أَنْ يُنَاصِحُوهُمْ وَلا يَغِشُّوهُمْ، وَعَلَى أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا، فَمَنْ وفى لنا وَفينَا لَهُ منعناه مِمَّا نمْنَع نمنه نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَمَنِ انْتَهَكَ شَيْئًا من ذَلِكَ اسْتَحْلَلْنَا بِذَلِكَ سَفْكَ دَمِهِ وَسِبَاءَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. فَقَالَ لَهُ قُسْطَنْطِينُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اكْتُبْ لِي بِهِ كِتَابًا، قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ ذَكَرَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَثْنِي عَلَيْكَ مَعُرَّةَ الْجَيْشِ، فَقَالَ النَّبَطِيُّ: لَكَ ثِنْيَاكَ، وَقَبَّحَ اللَّهُ من أقَال:. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ قُسْطَنْطِينُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُمْ فِي النَّاس فأعلمهم كتابك لي لِيَتَنَاهَوْا عَنْ ظُلْمِنَا وَالْفَسَادِ عَلَيْنَا، فقالم عُمَرُ فَخَطَبَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ قَالَ النَّبَطِيُّ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُضِلُّ أَحَدًا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، شَيْئًا تَكَلَّمَ بِهِ، فَعَادَ عُمَرُ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ أَعَادَ النَّبَطِيُّ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي مَا يَقُولُ، قَالُوا: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أَحَدًا، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ عُدْتَ لأَضْرِبَنَّ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ، وَمَضَى عُمَرُ فِي خُطْبَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ قُسْطَنْطِينُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ فَاقْضِهَا لِي، فَإِنَّ لِي عَلَيْكَ حَقًّا، قَالَ: وَمَا حَقُّكَ عَلَيْنَا؟ قَالَ: إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ لَكَ بِالصَّغَارِ، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ إِنْ كَانَ لَكَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ فَعَلْنَا، قَالَ: تَغَدَّى عِنْدِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّكَ، قَالَ: وَلَكِنَّهَا مَكْرُمَةٌ وَشَرَفٌ أَنَالُهُ، قَالَ: فَانْطَلِقْ حَتَّى نَأْتِيَكَ، فَانْطَلَقَ فَهَيَّأَ فِي كَنِيسَةِ بُصْرَي وَنُجُدِهَا وَهَيَّأَ فِيهَا الأَطْعِمَةَ وَقِبَابَ الْخَبِيصِ وَكَانُونًا عَلَيْهِ الْمِجْمَرُ، فَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ وَأَصْحَابُهُ نَزَلُوا فِي بَعْضِ الْبَيَادِرِ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي وَتَبِعَهُ النَّاسُ وَالنَّبَطِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِعُمَرَ فَقَالَ: لَا يَتَّبِعْنِي أَحَدٌ، وَمَضَى هُوَ وَالنَّبَطِيُّ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ الْكَنِيسَةَ إِذَا هُوَ بِالسُّتُورِ وَالْبُسُطِ وَقِبَابِ الْخَبِيصِ وَالْمِجْمَرِ، فَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبَطِيِّ: وَيْلَكَ، لَوْ نَظَرَ مَنْ خَلْفِي إِلَى مَا هَاهُنَا لَفَسَدَتْ عَلَيَّ قُلُوبُهُمْ، اهْتِكْ مَا أَرَى، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ، قَالَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَأْكُلَ طَعَامَكَ فَاصْنَعْ مَا آمُرُكَ بِهِ، فَهَتَكَ السُّتُورَ وتزع الْبُسُطَ وَأَخْرَجَ عَنْهُ الْمِجْمَرَ، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ إِلَى رِحَالِنَا فَأْتِنَا بِأَنْطَاعٍ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ فَبَسَطَهَا فِي الْكَنِيسَةِ، ثُمَّ

مشاطرة السكان بدمشق منازلهم

عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الْخَبِيصِ وَمَا كَانَ هَيَّأَ فَعَكَسَ بَعْضَهُ عَلَى بعض وَقَالَ: أعتدك شَيْءٌ آخَرُ؟ قَالَ: نَعَمْ عِنْدَنَا بَقْلٌ وَشِوَاءٌ، قَالَ: إِيتِنِي بِهِ، فَأَخَذَهُ فَخَلَطَ الشِّوَاءَ بِالْخَبِيصِ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَجَعَلَ يَحْمِلُ بِيَدَيْهِ وَيَجْعَلُهُ عَلَى الأَنْطَاعِ. قَالَ طَلْحَةُ فَأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالَ: فَأَمْلَيْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَزَادَنِي فِيهِ، قَالَ فَقَالَ النَّبَطِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الطَّعَامَ لَا يُؤْكَلُ هَكَذَا، قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: وَيْلٌ لَكَ وَلأَصْحَابِكَ إِذَا جَاءَ مَنْ يُحْسِنُ يَأْكُلُ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ النَّاسَ، فَجَاءُوا فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ وَأَقْبَلُوا يَأْكُلُونَ، فَرُبَّمَا وَقَعَتِ اللُّقْمَةُ مِنَ الْخَبِيصِ فِي فَمِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا طَعَامٌ مَا رَأَيْنَاهُ، فَيَقُولُ عُمَرُ: وَيْلُكَ أَمَا تَسْمَعُ؟ كَيْفَ لَوْ رَأَوْا مَا رَأَيْتَ؟! فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ النَّبَطِيُّ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ قَدِ اجْتَمَعُوا، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَخْلاقٌ وَسِخَةٌ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَخْدَعَهُ حَتَّى يَنْزِعَهَا وَيَلْبَسَ ثِيَابًا حَتَّى يَقْضِيَ جُمْعَتَهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا أَنَا فَلا أَدْخُلُ فِي هَذَا بَعْدَ إِذْ نَجَوْتُ مِنْهُ أَمْسِ، فَقَالَ لَهُ النَّبَطِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثِيَابُكَ قَدِ اتَّسَخَتْ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعْطِينَاهَا حَتَّى نَغْسِلَهَا وَنَرَمُّهَا، قَالَ: نَعَمْ، فَغَسَلَ الثِّيَابَ وَتَرَكَهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ هَيَّأَ لَهُ قَمِيصًا مَرَوِيًّا وَرِدَاءً قَصَبِيًّا فَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ قَالَ لَهُ عُمَرُ: إِيتِنِي بِثِيَابِي، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا جَفَّتْ، وَنَحْنُ نُعِيرُكَ ثَوْبَيْنِ حَتَّى تَقْضِيَ جُمُعَتَكَ، فَقَالَ: أَرِنِي، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقَمِيصِ قَالَ: وَيْحَكَ كَأَنَّمَا رُفِيَ هَذَا رَفْوًا، أَغْرِبْهُمَا عَنِّي وَائْتِنِي بِثِيَابِي، فَجَاءَ بِهَا تَقْطُرُ، فَجَعَلَ يَتَنَاوَلَهَا، وَجَعَلَ النَّبَطِيُّ يَأْخُذُ بِطَرَفِ الثَّوْبِ وَعُمَرُ بِالطَّرَفِ الآخَرِ وَيَعْصِرُهَا، ثُمَّ دَعَا بِكُرْسِيٍّ مِنْ كَرَاسِيِّ الْكَنِيسَةِ فَقَامَ عَلَيْهِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَيَمْسَحُ ثِيَابَهُ وَيُمَدِّدُهَا، قَالَ: فَسَأَلَهُ أَيُّ شيءٍ كَانَتْ ثِيَابُهُ؟ قَالَ: غَزْلُ كتانٍ. قَالَ: وَجَاءَتِ الرُّهْبَانُ فَقَامُوا وَرَاءَ النَّاسِ وَعَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ تَبْرُقُ بَرِيقًا، وَمَعَهُمْ عِصِيٌّ فِيهَا تُفَّاحُ الْفِضَّةِ، وَمَعَهُمُ الْمَوَاكِبُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى هَيْئَتِهِ قَالُوا: أَنْتُمُ الرُّهْبَانُ!! لَا وَالله، وَلَكِنْ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةُ، مَا أَنْتُمْ عِنْدَهُ إِلا مُلُوكٌ. مشاطرة السكان بِدِمَشْق مَنَازِلهمْ قَالَ: ثُمَّ ارتحل عمر حَتَّى أَتَى دمشق فشاطرهم مَنَازِلهمْ وكنائسهم، وَجعل يَأْخُذ الحيز القبلي من الْكَنِيسَة لمَسْجِد الْمُسلمين لِأَنَّهَا أنظف وَأظْهر، وَجعل يَأْخُذ هُوَ بِطرف الْحَبل وَيَأْخُذ النبطي بِطرف الْحَبل حَتَّى شاطرهم مَنَازِلهمْ، قَالَ: فَرُبمَا أزحف فَأخذ الْحَبل مِنْهُ فأعقبه. ففرغ عمر من دمشق وحمص وَبعث أَبَا عُبَيْدَة إِلَى قنسرين وحلب ومنبج، فَفعل بهَا كَمَا فعل عمر، وَرجع عمر من حمص إِلَى الْمَدِينَة. عِيَاض بْن غنم وَصلح الرها قَالَ: فَلَمَّا نزل أَبُو عُبَيْدَة منبج بعث عِيَاض بْن غنم فِي عشْرين فَارِسًا فَأتى الرها وَقد اجْتمع بهَا أهل الجزيرة من الأنباط، فَأَتَاهَا ابْن غنم فَوقف عِنْد بَابهَا الشَّرْقِي على فرس

تعليقات للقاضي

أَحْمَر مَحْذُوف، فَأخْبرنَا أَحْمَد بْن مُعَاوِيَة عَن مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَان بْن عَطاء، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن جدي عَمَّن سمع عياضًا وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام فَأَبَوا عَلَيْهِ، فَعرض عَلَيْهِم الْجِزْيَة فأقروا، وَقد عرفُوا شَرط عمر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ على أهل الشَّام فَقَالُوا: نعم نقر على أَن نشترط، قَالَ: نعم فَاشْتَرَطُوا ونشترط، فَاشْتَرَطُوا كنائسهم الَّتِي فِي أَيْديهم على أَن يؤدوا خراجها وَمَا لَجأ إِلَيْهَا من طَائِر وصلمهم الَّتِي فِي كنيستهم قَالَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بْن عَطاء: الصلم الْخَشَبَة الَّتِي يَزْعمُونَ أَن عِيسَى بْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام صلب عَلَيْهَا لم يقل صلبهم وسور مدينتهم، قَالَ عِيَاض: فَإِنِّي أشْتَرط أَنا أَيْضا، فأشترط عَلَيْهِم أَن يشاطرهم مَنَازِلهمْ وَينزل فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعَلَى أَنْ لَا يحدثوا كَنِيسَة إِلَّا مَا فِي أَيْديهم، وعَلى أَن لَا يرفعوا صليبًا وَلَا يضْربُوا بناقوسٍ إِلَّا فِي جَوف كَنِيسَة، وَأَن يقرُّوا ضيف الْمُسلمين يَوْمًا وَلَيْلَة، وعَلى أَن يحملوا راجل الْمُسلمين من رستاقٍ، إِلَى رُسْتَاقٍ وَعَلَى أَنْ لَا يعمروا خنزيرًا بَين ظهراني الْمُسلمين، وعَلى أَن يناصحوا الْمُسلمين وَلَا يغشوهم وَلَا يمالئوا عَلَيْهِم عدوا، وَمن وفى لنا وَفينَا لَهُ وَمَنَعْنَاهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَمَنِ انْتَهَكَ شَيْئًا من ذَلِك استحللنا سفك دَمه وسباء أَهله وَمَاله، فَقَالُوا: اكْتُبْ بَيْننَا وَبَيْنك كتابا، فتورك عِيَاض على فرسه، فَلَمَّا فرغ قَالُوا: اشْهَدْ لنا، قَالَ: فَكتب شهد الله وَمَلَائِكَته وَكفى بِاللَّه شيهداً. وَدفع الْكتاب إِلَيْهِم فَدخل فِي شرطهم جَمِيع أهل الجزيرة. وَأما الأَرْض فَهِيَ للْمُسلمين وَأَنْتُم عمالهم فِيهَا. تعليقات للْقَاضِي قَالَ القَاضِي: قَوْله: فَمن أَرَادَ بحبوحة الْجنَّة يَعْنِي فضاءها وسعتها كَمَا قَالَ جرير: قومِي تَمِيم هم الْقَوْم الَّذين هم ... ينفون تغلب عَن بحبوحة الدَّار وَفِي هَذَا الْخَبَر أَن عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جعل أهل الْجِزْيَة طَبَقَات، فَفرض على أغنيائهم مِقْدَارًا من الْجِزْيَة، وعَلى الْمُتَوَسّط مِنْهُم مِقْدَارًا متوسطًا بَين مَا فَرْضه على أعلاهم طبقَة وَمَا جعله على أدونهم فِي الوجد منزلَة، وَظهر ذَلِك من فعله واستفاض فِي الصَّحَابَة فَلم يظره من أحدهم إِنْكَار لَهُ وَلَا مُخَالفَة فِيهِ، ثُمَّ تلاه فِي ذَلِك أَئِمَّة أهل الْعلم بِالدّينِ فِي جَمِيع أَمْصَار الْمُسلمين، وَبِهَذَا نقُول؛ وَكَانَ الشَّافِعِي يرى أَلا يتَجَاوَز فِي قد الْجِزْيَة دِينَارا أَو عدله، واستقصاء الْكَلَام وَالْحجاج فِي هَذَا يطول، وَهُوَ مرسوم فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْفِقْه. عمر يرحل لنَفسِهِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ أَبُو جَعْفَرٍ الأَنْبَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاخُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَيْقَظْنَا لَيْلَةً وَقَدْ رَحَّلَ لَنَا رَوَاحِلَنَا وَهُوَ يَرْحَلُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ:

قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر

لَا يَأْخُذُ اللَّيْلُ عَلَيْكَ بِالْهَمِّ ... والبس لَهُ هَذَا الْقَمِيص واعم وَكُنْ شَرِيكَ رافعٍ وَأَسْلَمَ ... ثُمَّ اخْدِمِ الأَقْوَامَ حَتَّى تُخْدَمِ قَالَ فَقُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَيْقَظْتَنَا لَكَفَيْنَاكَ. قَالَ القَاضِي: كَأَن أَبَا تَمام سمع هَذَا فَأخذ مِنْهُ قَوْله: فَمن خدم الأقوام يَرْجُو نوالهم ... فَإِنِّي لم أخدمك إِلَّا لأخدما وَقَوله: مؤمله حَتَّى مؤملا قُمْت وَأَنا عمر وَرجعت وَأَنا عمر وروينا فِي معنى مَا فعله عمر بْن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَتَى هَذَا الْخَبَر بِهِ عَن بعض السّلف أَنه قَالَ لَا بن عمر بْن عبد الْعَزِيز: مَا رَأَيْت رجلا أكْرم من أَبِيك، سمرت مَعَه ذَات ليلةٍ فَخفت الْمِصْبَاح، فَقَامَ إِلَيْهِ فأصلحه، فَقلت لَهُ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هلا أمرت بإصلاحه، فَقَالَ: قُمْت وَأَنا عمر بْن عبد الْعَزِيز وَرجعت وَأَنا عمر بْن عبد الْعَزِيز. إِنَّا لَا نتَّخذ الإخوان خولا وَرُوِيَ نَحْو هَذَا عَن الأبرش الْكَلْبِيّ وَقد قَامَ ليصلح الْمِصْبَاح، فَقَالَ لَهُ صَاحب الْمجْلس: مَه لَيْسَ من الْمُرُوءَة أَن يستخدم الرجل ضَيفه؛ ويروى أَنه قَالَ: إِنَّا لَا نتَّخذ الإخوان خولا. فَرْوَة بْن مسيك يفد على الرَّسُول حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أخبرنَا الْأَصْمَعِي عَن أَبِي عَمْرو بْن الْعَلاء قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُرَادٍ وَبَيْنَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قِتَالٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاسْتَعَانَتْ بَنُو الْحَارِثِ بِهَمْدَانَ عَلَى مُرَادٍ، فَقُتِلَ مِنْ هَؤُلاءِ أَلْفٌ وَمِنْ هَؤُلاءِ أَلْفٌ، وَذَلِكَ يَوْمَ الرَّزْمِ، فَدَخَلَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ عَنْ قَوْمِكَ يَوْمَ الرَّزْمِ؟ فَقَالَ فَرْوَةُ: يَا رَسُولَ الله: إِن نَهْزِمْ فَهَزَّامُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ نُهْزَمْ فَغَيْرُ مُهَزَّمِينَا كَذَاكَ الْحَرْبُ صَوْلَتُهَا سِجَالٌ ... تَكِرُّ صُرُوفُهَا حِينًا فَحِينَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَدْتُ هَذَا، وَأَنَّ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ قَوْمُكَ هُوَ الَّذِي حَرَّضَهُمْ عَلَى الإِسْلامِ. أَنْت الَّذِي يكذب من يحدث بأنعم الله؟ حَدثنَا أَبُو طَالب الْكَاتِب عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْن مَنْصُور الزيَادي قَالَ حَدَّثَنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ أَخْبَرَنَا معمر عَن زِيَاد بْن جبل عَن أَبِي كَعْب الْحَارِثِيّ، وَهُوَ ذُو الْإِدَاوَة، قَالَ: سمعته يَقُول: خرجت فِي طلب إبل لي ضوال، فتزودت لَبَنًا فِي إداوة، قَالَ ثُمَّ قلت فِي نَفسِي: مَا أنصفت رَبِّي فَأَيْنَ الْوضُوء؟ قَالَ: فهرقت اللَّبن وملأتها مَاء، فَقلت: هَذَا وضوء وَهَذَا شراب، قَالَ فَكنت أبغي إبلي فَإِذا أردْت أَن أتوضأ اصطببت من الْإِدَاوَة مَاء فَتَوَضَّأت، وَإِذا أردْت أَن أشْرب اصطببت لَبَنًا فَشَربته، فَمَكثت بذلك ثَلَاثًا فَقَالَت لَهُ أَسمَاء النجرانية: يَا أَبَا كَعْب أحقينًا كَانَ أم حليبًا، فَقَالَ: إِنَّك لظالمة، كَانَ

المجلس الثامن والسبعون

يعْصم من الْجُوع ويروي من الظمأ، أما إِنِّي حدثت بِهَذَا نَفرا من قومِي مِنْهُم عَليّ بْن الْحَارِث سيد بني قنان فَقَالَ: مَا أَظن الَّذِي تَقول كَأَن تَقول، قَالَ قلت: الله أعلم بذلك، قَالَ فَرَجَعت إِلَى منزلي فَبت لَيْلَتي تِلْكَ، قَالَ: فَإِذا أَنا بِهِ صَلَاة الصُّبْح على بَابي فَخرجت إِلَيْهِ، قَالَ فَقلت: يَرْحَمك الله لم تعنيت إِلَيّ؟ أَلا أرْسلت إِلَيّ فآتيك؟ قَالَ: لَا، فَإِنِّي أَحَق بذلك أَن آتِيك، مَا نمت اللَّيْلَة إِلَّا أَتَانِي آتٍ فَقَالَ: أَنْت الَّذِي يكذب من يحدث بأنعم الله؟! موقف الْمُتَكَلِّمين من الكرامات قَالَ القَاضِي: قد أنكر جمَاعَة من الْمُتَكَلِّمين أَن يظْهر الله تَعَالَى من آيَاته مَا يخرج عَن عادات النَّاس على مُرُور الزَّمَان وكرور الْأَيَّام إِلَّا لنَبِيّ، علما لَهُ شَاهدا بصدقه ودليلا على صِحَة نبوته، أَو فِي زمَان نَبِي وَنَفَوْا جَوَاز هَذَا وَأَن يُؤَيّد بِهِ أحد من الْآدَمِيّين لَيْسَ بني وَإِن كَانَ على غَايَة الصّلاح فِي دينه، وَالطَّهَارَة فِي نَفسه وَقُوَّة يقينه، وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة من أَشد النَّاس دفعا لَهُ وتكذيبًا لمن حكى شَيْئا مِنْهُ، وَقد كَانَ أَبُو بكر ابْن الإخشيد يُجِيز هَذَا إِذا جرى على يَد من لَيْسَ بِنَبِي إِذْ أيد بِهِ على وَجه يرجع إِلَى تَصْدِيق النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّهَادَة بِصِحَّة رسَالَته وَأَبُو بكر من أماثل الْمُعْتَزلَة فِي علمه وَبَيَانه وَنَظره وتدينه. وَرَأَيْت بعض من شَاهَدْنَاهُ من نظاري الْمُعْتَزلَة وَذَوي التدين مِنْهُم يُجِيز إِظْهَار مثل ذَلِك، هَذَا للصالحين وعَلى أَيدي الْأَبْرَار المخلصين، وَفِي ذكر مَا يحْتَج بِهِ لأهل هَذَا القَوْل وَعَلَيْهِم وَإِثْبَات مَا رُوِيَ فِيهِ من الْأَخْبَار المستفيضة المنتشرة وَمَا حُكيَ عَمَّن ظَهرت عَدَالَته واشتهر علمه وأمانته طول لَيْسَ هَذَا مَوضِع اسْتِقْصَائِهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَاب مِمَّا يَدْفَعهُ عقل وَلَا نظر وَلَا سمع وَلَا خبر. وَقد كَانَ بعض الْمُتَكَلِّمين ورواة الْأَخْبَار من المتثبتين يجيزون ظُهُور هَذِه الْحَوَائِج على أَيدي الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ من أئمتهم وأئمة الدَّين بعدهمْ، وَيمْنَع من ظُهُورهَا على من يَدعِي النُّبُوَّة كَاذِبًا ويتدين دينا بَاطِلا، ويذهبون إِلَى أَن فِي تَجْوِيز ذَلِك إِفْسَاد الْأَدِلَّة وَالْتِبَاس الْحجَّة والتسوية بني ذَوي الْهدى والضلالة وَالْولَايَة والعداوة، وأجازوا ظُهُور هَذِه الْأَشْيَاء على يَد من يَدعِي الربوبية على وَجه الْفِتْنَة وتغليظ الْفِتْنَة، كَالَّذي رُوِيَ من أَمر الدَّجَّال وَأَنه يتبعهُ جنَّة ونارن وَقَالُوا: لَيْسَ فِي إضلال النَّاس وَلَا لبس فِي دينهم، لِأَن الْأَسْنَان مرسوم بِمَا لَا يَنْفَكّ مِنْهُ مِمَّا يدل على حَدثهُ وَأَنه مَخْلُوق كَائِن بعد أَن لم يكن، فَأَما الدَّجَّال فَإِنَّهُ مَعَ مَا فِيهِ من سمة الْحَدث الَّتِي يُشَارك فِيهَا سَائِر النَّاس مرمي بالعاهة الظَّاهِرَة لأعين الناظرين، النافية للشَّكّ فِي أمره عَن قُلُوب العاقلين. وَأما النُّبُوَّة فَصدق من يدعيها وَكذب من هُوَ مُبْطل فِي ادعائها، فَإِن هذَيْن الْفَرِيقَيْنِ مشتركان من جِهَة الْخلقَة وَالصُّورَة والهيئة الإنسانية. الْمجْلس الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ حَدِيث الرَّسُول عَن فتْنَة الدَّجَّال أخبرنَا القَاضِي أبن الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن الْحَجَّاجِ بْنِ فَرْقَدٍ الْقَطَّانُ قَالَ حَدَّثَنَا

إنها حسناء فلا تفرك

إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ رَجَاءٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ حَدِيثًا غَلِيظًا حَتَّى فَاضَتْ أَعْيُنُ الْقَوْمِ يَنْتَحِبُونَ عَنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، ثُمَّ قَامَ عَنْهُمْ فَخَرَجَ وَهُمْ كَذَلِكَ، فَسَكَبْتُ لَهُ وَضُوءًا فِي الإِنَاءِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَالْوَضُوءُ يَقْطُرُ مِنْهُ، فَاعْتَمَدَ عَلَى عَارِضَتَيِ الْبَابِ ثُمَّ قَالَ: مَهْيَمْ، قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَكُنْتُ جَارِيَةً نَاهِدًا جَرِيَّةً عَلَى مَسْأَلَتِهِ، فَقُلْتُ حِينَ لَمْ يُجِيبُوهُ: مَهْيَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَلَعْتَ قُلُوبَنَا بِالأَعْوَرِ الدَّجَّالِ وَقَدْ كَانَ حَدَّثَ الْقَوْمَ فِي حَدِيثِهِ عَنِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ تَنْحَازُ إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَرْضِ وَأَطْعِمَتُهَا فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْجِنُ عَجِينِي ثُمَّ مَا يَأْنِي لِي حَتَّى إِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَفْتِنَنِي، تَعْنِي الْجُوع، قَالَ: لَا بَأْس، لَا بَأْسَ، إِنْ خَرَجَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَحَدَّثَنِي أَنَّ مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ فِيهِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يقرأه كُلُّ مُسْلِمٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ أَن التبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر لَهُ مَا يُقَالُ إِنَّهُ يَتْبَعُ الدَّجَّالُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَنَحْوِهِمَا، فَقَالَ: هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي أَمر الدَّجَّال وظهوره ومهلكه كَثِيرَة جدا، ونسأل الله أَن يعيذنا من فتنته، ويجيرنا من ضلالته، ويعصمنا من فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات برحمته. إِنَّهَا حسناء فَلَا تفرك حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاق ابْن بُهْلُولٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ طِوَالٌ عَلَى عُنُقِهِ مِثْلُ الْمَهَاةِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: عُدْتُ لِهَذِي جَمَلا ذَلُولا ... مُوَطَّأً أَتَّبِعُ السُّهُولا أَعْدِلُهَا بِالْكَفِّ أَنْ تَمِيلا ... أَحْذَرُ أَنْ تَسْقُطَ أَوْ تَزُولا أَرْجُو بِذَاكَ نَائِلا جَزِيلا فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ وَهَبْتَ حَجَّكَ لَهَا؟ قَالَ: امْرَأَتِي، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا عَلَى ذَاك لحمقاء مرغمة، أكول قمامة، لَا يبْقى لَهَا حامة، وَلَكِنَّهَا حَسْنَاءُ فَلا تُفْرَكُ وَأُمُّ عيالٍ فَلا تُتْرَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: فَشَأْنُكَ إِذًا بِهَا. شُرُوح وتعليقات قَالَ القَاضِي: قَوْله: مثل المهاة الْبَيْضَاء يَعْنِي الْبَقَرَة الوحشية، وَيُقَال للبلورة مهاة، وَكَأَنَّهُ قصد بِهَذَا القَوْل الْبَيَان عَن الصفاء وَالْحسن والضياء. وَيُقَال مَا لهَذَا الْعَيْش مهاه أَي نور وبهجة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

وَلَيْسَ لعيشنا هَذَا مهاة ... وَلَيْسَت دَارنَا الدُّنْيَا بدار يرْوى مهاة بتاءٍ فِي الْوَصْل يُوقف عَلَيْهَا بِالْهَاءِ، لِأَنَّهَا للتأنيث، وَهِي فعلة مثل حَصَاة ويروى مهاة على أَن الْهَاء أَصْلِيَّة وَهِي لَام الْفِعْل وَزنهَا فعال مثل سفاه. وَقَوله: أعدلها بالكف أَن تميلا قيل مَعْنَاهُ: عَن أَن تميل، والكوفيون يتأولونه بِمَعْنى لِئَلَّا تميل، وَقَالُوا مثل هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: " وَجَعَلْنَا فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم " الْأَنْبِيَاء:31 أَنه بِمَعْنى أَلا تميد بكم، وَقَالُوا فِي قَوْله عز وَجل: " يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا النِّسَاء: 176 مَعْنَاهُ أَن لَا تضلوا. وأنشدوا فِي هَذَا قَول الشَّاعِر: رَأينَا مَا يرى البصراء فِيهَا ... فالينا عَلَيْهَا أَن تباعا أَي أَن لَا تبَاع. وَأنكر البصريون هَذَا وَقَالُوا: الْمَعْنى يبين الله لكم كَرَاهِيَة أَن تضلوا وحملوا معنى الْبَيْت على نَحْو هَذَا الْوَجْه. وَقَوله: إِنَّهَا لحمقاء مرغامة إِن كَانَت الرِّوَايَة هَكَذَا فَهُوَ من المراغمة، وَهِي المشاقة والمخالفة، وَإِن كَانَ الصَّحِيح من الرِّوَايَة مرعامة بِالْعينِ المبهمة فَهُوَ من الرعام وَهُوَ المخاط. رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: صلوا فِي مرابض الْغنم وامسحوا رعامها فَإِنَّهَا من دَوَاب الْجنَّة. فَإِن كَانَت الرِّوَايَة هَكَذَا فَإِنَّهُ وصفهَا بالحمق، تَقول الْعَرَب: أَحمَق يمتخط بكوعه. وَمن قَالَ فِي الْخَبَر مرغامة بالغين الْمُعْجَمَة فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَن يَقُول رغامها بِفَتْح الْيَاء. وَقَوله: لَا تبقى لَهَا حامة أَي طَائِفَة تَطوف لإفنائها خبز بَيتهَا. وَقَوله: وَلكنهَا حسناء فَلَا تفرك زعم أهل الْعلم باللغة أَن الْعَرَب تَقول: فركت الْمَرْأَة زَوجهَا تفركه إِذا أبغضته، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الرجل إِذا ابغض امْرَأَته: قد صلفت عِنْده، وَلَا يَقُولُونَ فركها. وَقد جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر حسناء فَلَا تفرك فَإِن كَانَ هَذَا الْكَلَام مَحْفُوظًا وَكَانَ رِوَايَة من يضْبط هَذَا ويوثق بنقله ومعرفته فَهُوَ صَحِيح مُسْتَعْمل، مسْقط لقَوْل من زعم أَنه مرفوض مهمل، وَإِن كَانَت الرِّوَايَة غير ثابتةٍ فَمَا ذكره اللغويون الَّذين عنوا بِكَلَام الْعَرَب وميزوا مستعمله من مهمله أولى بإتباعهم وَالْأَخْذ بروايتهم وَإِثْبَات مَا أثبتوه وَنفي مَا نفوه وأسقطوه. وَقد قيل إِن امْرأ الْقَيْس كَانَ مفركًا أَي تبْغضهُ النِّسَاء، وَيُقَال امْرَأَة فارك كَمَا قَالَ متمم بْن نُوَيْرَة: أَقُول لهندٍ حِين لم أَرض فعلهَا ... أَهَذا دلال الْعِشْق أم فعل فارك وَيجمع الفارك فوارك، مثل قَاعد وقواعد، وَطَالِق وطوالق، وطاهر وطواهر، كَمَا قَالَ ذُو الرمة: إِذا اللَّيْل عَن نشزٍ تجلى رمينه ... بأبصار أَمْثَال النِّسَاء الفوارك وَهَذَا من الْجمع المطرد فِي الْعَرَبيَّة سَمَاعا وَقِيَاسًا.

أسئلة علي لابنه الحسن

أسئلة عَليّ لِابْنِهِ الْحسن حَدَّثَنَا بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن عَبدِي اللَّهِ أَبُو رَجَاءٍ مِنْ أَهْلِ تُسْتَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ أَنَّ عليا عَلَيْهِ السَّلَام ساءل ابْنَهُ الْحَسَنَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْمُرُوءَةِ، فَقَالَ: يَا بَنِيَّ مَا السَّدَادُ؟ قَالَ: يَا أَبَةِ السَّدَادُ دَفْعُ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ؟ قَالَ: اصْطِنَاعُ الْعَشِيرَةِ وَحَمْلُ الْجَرِيرَةِ، قَالَ: فَمَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ: الْعَفَافُ وَإِصْلاحُ الْمَرْءِ مَالَهُ، قَالَ: فَمَا الدِّقَّةُ؟ قَالَ: النَّظَرُ فِي الْيَسِيرِ وَمَنْعُ الْحَقِيرِ، قَالَ: فَمَا اللُّؤْمُ؟ قَالَ: إِحْرَازُ الْمَرْءِ نَفْسِهِ وَبَذْلَهُ عُرْسِهِ مِنَ اللُّؤْمِ، قَالَ: فَمَا السَّمَاحَةُ؟ قَالَ: الْبَذْلُ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، قَالَ: فَمَا الشُّحُّ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى مَا فِي يَدَيْكَ شَرَفًا وَمَا أَنْفَقْتُهُ تَلَفًا، قَالَ: فَمَا الإِخَاءُ؟ قَالَ: الْوَفَاءُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، قَالَ: فَمَا الْجُبْنُ؟ قَالَ: الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّدِيقِ وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوِّ، قَالَ: فَمَا الْغَنِيمَةُ؟ قَالَ الرَّغْبَةُ فِي التَّقْوَى وَالزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ، قَالَ: فَمَا الْحِلْمُ؟ قَالَ: كَظْمُ الْغَيْظِ وَمَلْكُ النَّفْسِ، قَالَ: فَمَا الْغِنَى؟ قَالَ: رِضَى النَّفْسِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، قَالَ: فَمَا الْفَقْرُ؟ قَالَ: شَرَهُ النَّفْسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: فَمَا الْمَنَعَةُ؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَاسِ وَمُنَازَعَةُ أَشَدِّ النَّاسِ، قَالَ: فَمَا الذُّلُّ؟ قَالَ الْفَزَعُ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ، قَالَ: فَمَا الْجُرْأَةُ؟ قَالَ مُوَافَقَةُ الأَقْرَانِ، قَالَ: فَمَا الْكُلْفَةُ؟ قَالَ كَلامُكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، قَالَ: فَمَا الْمَجْدُ؟ قَالَ: أَنْ تُعْطِيَ فِي الْغُرْمِ وَأَنْ تَعْفُوَ عَنِ الْجُرْمِ، قَالَ: فَمَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: حِفْظُ الْقَلْبِ عَنْ كُلِّ مَا اسْتَرْعَيْتَهُ، قَالَ: فَمَا الْخُرْقُ؟ قَالَ: مُعَادَاتُكَ لإِمَامِكَ وَرَفْعُكَ عَلَيْهِ كَلامَكَ، قَالَ: فَمَا السناء؟ قَالَ إيتان الْجَمِيلِ وَتَرْكُ الْقَبِيحِ، قَالَ: فَمَا الْحَزْمُ؟ قَالَ: طُولُ الأَنَاةِ وَالرِّفْقُ بِالْوُلاةِ وَالاحْتِرَاسُ مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ هُوَ الْحَزْمُ، قَالَ: فَمَا السَّرْوُ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الإِخْوَانِ وَحِفْظُ الْجِيرَانِ، قَالَ: فَمَا السَّفَهُ؟ قَالَ: اتِّبَاعُ الدَّنَاةِ وَمُصَاحَبَةُ الْغُوَاةِ، قَالَ: فَمَا الْغَفْلَةُ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ، قَالَ: فَمَا الْحِرْمَانُ؟ قَالَ: تَرْكُكَ حَظِّكَ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْكَ، قَالَ: فَمَا السَّيِّدُ؟ قَالَ: السَّيِّدُ الأَحْمَقُ فِي مَالِهِ الْمُتَهَاوِنُ فِي عِرْضِهِ، يَشْتُمُ فَلا يُجِيبُ الْمُتَحَرِّزُ بِأَمْرِ عَشِيرَتِهِ هُوَ السَّيِّدُ. عَليّ يروي كَلِمَات للرسول قَالَ ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلا وَحْشَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَا مُظَاهرَة أوثق من المشاروة، وَلا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ، وَلا إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ وَالصَّبْرِ. وَآفَةُ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ، وَآفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ، وَآفَةُ الْحِلْمِ السَّفَهُ، وَآفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ، وَآفَةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ، وَآفَةُ الشَّجَاعَةِ الْبَغْيُ، وَآفَةُ السَّمَاحَةِ الْمَنُّ، وَآفَةُ

تعليق القاضي

الْجَمَالِ الْخُيَلاءُ، وَآفَةُ الْحَسَبِ الْفَخْرُ. يَا بُنَيَّ لَا تَسْتَخِفَّنَّ بِرَجُلٍ تَرَاهُ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَعُدَّ أَنَّهُ أَبُوكَ، وَإِنْ كَانَ فِي مِثْلِ عُمْرِكَ فَهُوَ أَخُوكَ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَاحْسِبْ أَنَّهُ ابْنُكَ. فَهَذَا مَا سَاءَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ابْنَهُ الْحَسَنَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُرُوءَةِ وَمَا أَجَابَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. تَعْلِيق القَاضِي قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر من جوابات الْحسن أَبَاهُ عَمَّا ساءله عَنْهُ من الْحِكْمَة وجزيل الْفَائِدَة مَا ينْتَفع بِهِ من راعاه وَحفظه، ووعاه وَعمل بِهِ، وأدب نَفسه بِالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وهذبها بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وتتوفر فَائِدَته بِالْوُقُوفِ عِنْده. وَفِيمَا رَوَاهُ فِي أضعافه أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَالا غنى بِكُل لَبِيب عليم ومدرهٍ حَكِيم عَن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتقبله، والمجدود من وفْق لامتثاله وتقبله. الْمُغيرَة بْن حبناء عِنْد طَلْحَة الطلحات حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدَة قَالَ: قدم الْمُغيرَة بْن حبناء أحد بني مَالك بْن حَنْظَلَة على طَلْحَة الطلحات يطْلب صلته، فَأخْرج إِلَيْهِ حجري ياقوت فِي درجين فَقَالَ: أَيّمَا أحب إِلَيْك عشرَة آلَاف أَو الحجران؟ فَقَالَ: مَا كنت لأختار الْحِجَارَة على الدَّرَاهِم، فَأمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف، ثُمَّ قَالَ: أَيهَا الْأَمِير إِن نَفسِي تنازعني إِلَى أحد الحجرين، فَدفعهُ إِلَيْهِ، فَأَنْشَأَ يَقُول: أرى النَّاس غاضوا ثُمَّ فاضوا وَلَا أرى ... بني خلفٍ إِلَّا رواء الْمَوَارِد إِذا نفعوا عَادوا لمن ينفعونه ... وكائن ترى من نَافِع غير عَائِد فَألْقى إِلَيْهِ الْحجر الآخر. أَعْرَابِي قَاتل اللُّصُوص وَنَجَا حَدثنَا يزْدَاد بْن عبد الرَّحْمَن قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى يَعْنِي عِيسَى بْن إِسْمَاعِيل تينة حَدَّثَنِي الرياشي أَن لصوصاً وَقَعُوا على قوم فيهم أَعْرَابِي فسلبوهم ثِيَابهمْ، وَقَاتل الْأَعرَابِي حَتَّى نجا، فَأَنْشَأَ يَقُول: سَائِلًا سَيفي هَل رويته ... حِين عز الرّيّ من هام اللُّصُوص فر أَصْحَابِي وقاتلتهم ... باذلا نَفسِي لَهُم دون الْقَمِيص كَاد يَدْعُو وينادي بَائِع ... من يفوز الْيَوْم بِالثَّوْبِ الرخيص عمر بْن هُبَيْرَة يلجأ إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب ليحمل عَنْهُ غرما حَدثنَا أَبُو النَّضر الْعُقَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ طَلْحَة بْن مُحَمَّد الطلحي النديم قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُعَاوِيَة قَالَ، وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْكُوفِي: أغرم سُلَيْمَان بْن عبد الْملك

عمر بْن هُبَيْرَة من غزاته فِي الْبَحْر ألف ألف دِرْهَم، فَمشى إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب وَقد ولي الْعرَاق بعثمان بْن حَيَّان المري والقعقاع ابْن خَالِد الْعَبْسِي والهذيل بْن زفر بْن الْحَارِث الْكلابِي وَغَيرهم من قيس، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَى بَاب سرادق يزِيد أذن لَهُم الْحَاجِب فِي دُخُوله، وأعلمهم أَنه يغسل رَأسه، فَلَمَّا فرغ خرج فِي سبنية فَألْقى نَفسه على فرشه ثُمَّ قَالَ: مَا ألف بَيْنكُم؟ فَقَالَ عُثْمَان: هَذَا ابْن هُبَيْرَة شَيخنَا وَسَيِّدنَا، كَانَ الْوَلِيد حمل مَعَه مَالا حَيْثُ وَجهه إِلَى الْبَحْر، فَأعْطَاهُ جنده، فَخرج عَلَيْهِ من غرمه ألف ألف دِرْهَم، فَقُلْنَا: يزِيد سيد أهل الْيمن ووزير لِسُلَيْمَان وَصَاحب الْعرَاق وَمن قد تحمل أَمْثَالهَا عَمَّن لَيْسَ مثلنَا، وَوَاللَّه لَو وسعتها أَمْوَال قيس لاحتملناها. ثُمَّ تكلم الْقَعْقَاع فَقَالَ: يَا ابْن الْمُهلب هَذَا خير سَاقه الله إِلَيْك، وَلَيْسَ أحد أولى بِهِ مِنْك، فافعل بِهِ كبعض فعلاتك الأول، فَلَنْ يصدك عَن قَضَاء هَذَا الْحق ضيق وَلَا بخل، وَقد أَتَيْنَاك مَعَ ابْن هُبَيْرَة فِيمَا حمل، فَهَب لنا أَمْوَالنَا واستر فِي الْعَرَب عورتنا. ثُمَّ تكلم الْهُذيْل بْن زفر فَقَالَ: يَا ابْن الْمُهلب، إِنِّي لَو وجدت من الممشى إِلَيْك بدا لما مشيت إِلَيْك، لِأَن أموالك بالعراق، وَإِنَّمَا أَتَيْتنَا خَائفًا، ثُمَّ أَقمت فِينَا ضيفًا، ثُمَّ تخرج من عندنَا محروبًا. وَايْم الله لَئِن تركناك بِالشَّام لنأتينك بالعراق، وَمَا هَا هُنَا أقرب فِي الحظوة وَأوجب للذمام. ثُمَّ تكلم ابْن خَيْثَمَة فَقَالَ: إِنِّي لَا أَقُول لَك يَا ابْن الْمُهلب مَا قَالَ هَؤُلَاءِ، أَخْبرنِي إِن أَنْت عجزت عَن احْتِمَال مَا عَليّ ابْن هُبَيْرَة فعلى من الْمعول، لَا وَالله ماعند قيس لَهُ فكاك، وَلَا فِي أَمْوَالهم متسع، وَلَا عِنْد الْخَلِيفَة لَهُ فرج. ثُمَّ تكلم ابْن هُبَيْرَة فَقَالَ: أما أَنا فقد قضيت حَاجَتي رددت أم أنجحت لِأَنَّهُ لَيْسَ لي أمامك مُتَقَدم وَلَا خَلفك مُتَأَخّر، وَهَذِه حَاجَة كَانَت فِي نَفسِي فقضيتها. فَضَحِك يزِيد بْن الْمُهلب وَقَالَ: إِن التَّعَذُّر أَخُو الْبُخْل، وَلَا أعْتَذر، فاحتكموا، فَقَالَ الْقَعْقَاع: نصف المَال، فَقَالَ يزِيد: قد فعلت، أرنا يَا غُلَام غداءك، قَالَ: فجيء بِالطَّعَامِ فأنكرنا مِنْهُ أَكثر مِمَّا عرفنَا، فَلَمَّا فَرغْنَا أَمر بتطييبنا وحملاننا وإجادة الْكسْوَة لنا، قَالَ: ثُمَّ خرجنَا، حَتَّى إِذا مَرَرْنَا قَالَ ابْن هُبَيْرَة: أخبروني عَمَّا بَقِي من يحملهُ بعد ابْن الْمُهلب؟ لقد صغر الله أقداركم وأخطاركم، وَالله مَا يدْرِي يزِيد مَا بَين النّصْف والتمام، وَمَا هما عِنْده إِلَّا سَوَاء، ارْجعُوا إِلَيْهِ فكلموه فِي الْبَاقِي، قَالَ: وَقد كَانَ يزِيد ظن بهم أَن سيرجعون إِلَيْهِ فِي التَّمام، فَقَالَ للحاجب: إِذا عَادوا فأدخلهم، فَلَمَّا عَادوا أدخلهم، فَقَالَ لَهُم يزِيد: إِن ندمتم أقلناكم، وَإِن استقللتم زدناكم، فَقَالَ لَهُ ابْن هُبَيْرَة: يَا ابْن الْمُهلب، إِن الْبَعِير إِذا أوقر أثقلته أذنَاهُ وَأَنا بِمَا بَقِي مثقل، فَقَالَ: قد حملتها عَنْك، ثُمَّ ركب إِلَى سُلَيْمَان فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك إِنَّمَا رشحتني لتبلغ بَين وَإِنِّي لَا أضيق عَن شيءٍ اتَّسع لَهُ مَالك، وَمَا فِي أَيْدِينَا عوارٍ لَك تصطنع بهَا النَّاس وتبتني بهَا المكارم، وَلَوْلَا مَكَانك ظلعنا بالصغير. ثُمَّ قَالَ: إِنَّه أَتَانِي ابْن هُبَيْرَة فِي وُجُوه أَصْحَابه، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: أمسك أَتَاك فِي مَال الله عِنْده، خب

حين تأتى حماد عجرد في استرداد غلام آبق

ضَب، جموع منوع، خدوع هلوع، هيه فصنعت مَاذَا؟ قَالَ: حملتها عَنْهُ، قَالَ: احملها إِذا إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين، قَالَ: وَالله مَا حملتها خدعة وَأَنا حاملها بِالْغَدَاةِ، ثُمَّ حملهَا فَلَمَّا أخبر سُلَيْمَان بذلك دَعَا يزِيد فَلَمَّا رَآهُ ضحك وَقَالَ: ذكت بك نَارِي، ووريت بك زنادي، غرمها عَليّ وحمدها لَك، قد وفت لي يَمِيني فَارْجِع المَال إِلَيْك، فَفعل. حِين تَأتي حَمَّاد عجرد فِي اسْتِرْدَاد غُلَام آبق حَدثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد قَالَ أَخْبَرَنَا عمر بْن حَمَّاد عجرد وَكَانَ حَمَّاد يكنى بِهِ قَالَ: آخر شعرٍ قَالَه أَبِي أَنا كُنَّا بواسط فأبق لَهُ غُلَام فَبَلغنَا أَنه بِالْكُوفَةِ، فَوجه أَبِي فِي طلبه، فَأخْبرت أَنه عِنْد ابْن أخي إِسْحَاق بْن الصَّباح الْكِنْدِيّ، وَكَانَ على الْكُوفَة، فَلم أصل إِلَى الْغُلَام، فَكتبت إِلَى أَبِي بِخَبَرِهِ وَقلت: أنظر من يثقل على إِسْحَاق فَخذ كِتَابه يشفع لَك عِنْده، قَالَ: فَكتب إِلَيّ: أما كتابك يَا بِي فَإِنَّهُ ... جزع وَلَيْسَ بحازمٍ من يجزع أنظر وصيتي الَّتِي أوصيكها ... فاعمل بهَا إِن كنت مني تسمع لَا تَطْلُبن إِلَى الْأَمِير شَفَاعَة ... إِن الشَّفَاعَة عِنْده لَا تَنْفَع وَلَو أَن ذَلِك فِي الْحُكُومَة نافعي ... عِنْد الْأَمِير لَكَانَ لي من يشفع لكنه وكثيرة آلاؤه ... وسماؤه بالغيث لَيست تقلع إِن كَانَ يطْلب للصنيعة موضعا ... حسنا فعندي للصنيعة مَوضِع مَا كَانَ إِسْحَاق ليصنع بِابْنِهِ ... فِي الحكم إِلَّا مثل مَا بك يصنع فَإِذا قضى فاقنع فَإِن قَضَاءَهُ ... لي إِن قضى لي أَو عَليّ لمقنع قَالَ الْحُسَيْن: فأنشدتها فِي مَسْجِد الْكُوفَة فتلقفها أهل الْكُوفَة فبلغت إِسْحَاق فَأرْسل إِلَيّ فَقَالَ: يَا ابْن أخير أَنْت هَاهُنَا مُقيم وَلم تعلمني؟ وَأمر بالغلام فَرد عَليّ ووصلني بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم، فَانْصَرَفت إِلَى أَبِي فَوَجَدته قد مَاتَ. أَقْوَال منثورة ومنظومة فِي المشورة حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أبي عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عمرَان قَالَ يُقَال: توأم الرَّأْي خير من الْفَذ ورأي الثَّلَاثَة لَا ينْقض. قَالَ مُحَمَّد: وَيُقَال نصف عقلك مَعَ أَخِيك، يَعْنِي فِي المشاروة. قَالَ مُحَمَّد: وَيُقَال رَأْي الْفَذ لَا تَسْتَغْنِي بِهِ الْخَاصَّة وَلَا يصلح للعامة. قَالَ مُحَمَّد: وَيُقَال مَا هلك امْرُؤ عَن مشورةٍ وَلَا سعد امْرُؤ باستغناء بِرَأْي، وَإِذا أَرَادَ الله أَن يهْلك عبدا أغناه بِرَأْيهِ فَكَانَ أول مَا يهلكه، قَالَ الله عز وَجل: " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ " آل عمرَان: 159 من غير حَاجَة مِنْهُ اليهم وَلَكِن لتبقى سنة، وَقَالَ الشَّاعِر:

في العجلة والبطء

خليلي لَيْسَ الرَّأْي فِي صدر واحدٍ ... أشيرا عَليّ الْيَوْم مَا تريان وَقَالَ الآخر: إِذا بلغ الرَّأْي المشورة فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْي نصيح أَو نصيحة حَازِم وَلَا تحسب الشورى عَلَيْك غَضَاضَة ... مَكَان الخوافي نَافِع للقوادم فِي العجلة والبطء وَحدثنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عمرَان قَالَ يُقَال: بيتوا الرَّأْي يكْشف لكم عَن محضه. قَالَ وَيُقَال: العجلة تسلب الْوَقار. قَالَ وَيُقَال فِي مثلٍ: أسْرع تبطئ. عتبَة بْن ربيعَة يعرض على الرَّسُول أَن يكف عَن أمره حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْن الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى الْمَرْوَزِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ، قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْفَرِدٌ نَاحِيَةً: أُرِيدُ أَنْ أَقُومَ إِلَى محمدٍ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لِيَكُفَّ عَنْ أَمْرِهِ هَذَا فَأَيُّهَا شَاءَ أَعْطَيْنَاهُ إِذَا رَجَعَ لَنَا عَنْ هَذَا، فَقَالُوا لَهُ: شَأْنك أَبَا الْوَلِيدِ، وَكَانَ عُتْبَةُ سَيِّدًا حَلِيمًا فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن أَخِي إِنَّكَ مِنَّا بِحَيْثُ قَدْ علمت من السطة فِي النَّسَبِ وَالْمَكَانِ مِنَ الْعَشِيرَةِ وَإِنَّكَ قَدْ آتَيْتَ قَوْمَكَ بِمَا لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ قَوْمَهُ بِمِثْلِهِ: سَفَّهْتَ أَحْلامَنَا وَكَفَّرْتَ آبَاءَنَا وَعِبْتَ آلِهَتَنَا وَفَرَّقْتَ كَلِمَتَنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا لمالٍ بتغيه جَمَعْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا حَتَّى تَكُونَ أَيْسَرَنَا، وَإِنْ كُنْتَ تَمِيلُ إِلَى الرِّئَاسَةِ رَأَّسْنَاكَ عَلَيْنَا وَلَمْ نَقْطَعْ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ لِرَئِيٍّ من الْجِنّ بعتادك أَعْذَرْنَا فِي الْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ حَتَّى ينْصَرف عَنْك فَإِن الرَّأْي يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى مَا لَا يَصِلُ مَعَهُ إِلَى تَرْكِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ يَسْمَعُ، فَلَمَّا سَكَتَ عُتْبَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا أَقُولُ: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاته قراناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ " فصلت:14 وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم آله فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَعُتْبَةُ مصغٍ يَسْتَمِعُ وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ الْقِرَاءَةَ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ قَدْ سَمِعْتَ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ فَأَنْتَ وَذَاكَ. فَانْصَرَفَ عُتْبَةُ إِلَى قريشٍ فِي نَادِيهَا فَقَالُوا: لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْر الْوَجْه الَّذِي مضى بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. ثُمَّ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ محمدٍ كَلامًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلا السِّحْرِ وَلا الْكَهَانَةِ، فَأَطِيعُونِي فِي هَذِهِ وَأَنْزِلُوهَا بِي وَخَلُّوا مُحَمَدًّا وشأنه واعتزلوه فو الله

الرسول يصف القرآن

لَيَكُونَنَّ لِمَا سَمِعْتُ مِنْ قَوْلِهِ نَبَأٌ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ الْعَرَبُ كَفَيْتُمُوهُ بِأَيْدِي غَيْرِكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا كُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ لأَنَّ مُلْكَهُ مُلْكُكُمْ وَشَرَفَهُ شَرَفُكُمْ، فَقَالُوا: هَيْهَاتَ، سَحَرَكَ مُحَمَّدٌ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ. الرَّسُول يصف الْقُرْآن حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ وَهُوَ ابْنُ سَعْدَانَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَطَاءٍ وَحَكِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ، النُّورُ الْمُبِينُ وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمَةٌ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا، وَلا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ وَلا يَزِيغُ فَيُسْتَثْبَتُ وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، فَاتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلاوَتِهِ بِكُلِّ حرفٍ عَشْرَ حسناتٍ. أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ ألم حَرْفٌ وَلا أَلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ يَدْعُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ وَإِنْ أصفر الْبيُوت صِفْرٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. على غير مرتاح لوُقُوع النَّاس فِي الْأَحَادِيث حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ حَدَّثَنَا خَلَفٌ قَالَ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَطَاءٍ، رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: سَمِعْتُ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الْمُخْتَارِ الطَّائِيِّ عَنِ ابْنِ أَخِي الْحَارِثِ عَنِ الْحَارِثِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ قَدْ وَقَعُوا فِي الأَحَادِيثِ فَأَتَيْتُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلا تَرَى النَّاسَ قَدْ وَقَعُوا فِي الأَحَادِيثِ فَأَتَيْتُ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، قُلْتُ: فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَنْ بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ الَّذِي لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جبارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلا تَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلا تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلا يَخْلُقُ عَنْ رَدٍّ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ لَمَّا سَمِعَتْهُ غير أَن قَالُوا: " إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ " الْجِنّ: 1، 2 مَنْ قَالَ بِهِ صِدْقٌ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدْلٌ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أَجْرٌ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَوْ قَالَ: مَنِ اعْتَصَمَ بِهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا أَعْوَرُ. من أعطي كل الْقُرْآن أوجزءاً مِنْهُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْوَلِيدِ الْمُقْرِي أَبُو أَيُّوبَ الضَّبِّيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَوَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ بِشْرِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحِمْصِيِّ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُعْطِيَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَدْ أُعْطِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ، وَمن

موعظة علي لكميل بن زياد

أعطي ثلثا الْقُرْآن فقد أعطي ثلثا النُّبُوَّةِ، وَمَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فَقَدْ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ. وَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَأْ وَارْقَ فَيَقْرَأُ آيَةً وَيَصْعَدُ دَرَجَةً حَتَّى يُنْجِزَ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَيَقْبِضُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْبِضْ فَيَقْبِضُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَتَدْرِي مَا فِي يَدَيْكَ؟ فَإِذَا فِي يَدِهِ الْيُمْنَى الْخُلْدُ وَفِي الْيُسْرَى النَّعِيمُ. موعظة عَليّ لكميل بْن زِيَاد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَرَّاقُ وَحَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَمِّهِ عَنْ كُمَيْلٍ، وَحَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ، وَالأَلْفَاظُ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مُخْتَلِطَةٌ، قَالا، قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ النَّخَعِيُّ: أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ: عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نجاةٍ، وَهَمِجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ غاوٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنور الْعلم وَلم يلجأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الإِنْفَاقِ وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ. يَا كُمَيْلُ مَحَبَّةُ الْعَالِمِ دَيْنٌ يُدَانُ بِهِ، فِي كَسْبِهِ الْعِلْمِ لَذَّتُهُ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلُ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَنَفَقَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. يَا كُمَيْلُ مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. إِن هَاهُنَا لَعِلْمًا وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتَ لَهُ حَمَلَةً. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَلَى أَصَبْتَهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَبِنِعَمِهِ عَلَى كِتَابِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِجُمْلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْدَحُ الزَّيْغُ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عارضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، اللَّهُمَّ لَا ذَا وَلَا ذَاك، أَو منهوماً بِالذَّاتِ، سَلِسَ الْقِيَادِ فِي الشَّهَوَاتِ، وَمُغْرَمًا بِالْجمعِ والادخار، وليسا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الأَنْعَامُ السَّائِمَةُ، وَكَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَمَلَتِهِ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ من قَائِم لله بحجةٍ إِمَّا ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ وَإِمَّا خَائِفٌ مَغْمُورٌ، لِئَلا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ فِيكُمْ، وَأَيْنَ أُولَئِكَ؟ ألئك الأَقَلُّونَ عَدَدًا، الأَعْظَمُونَ قَدْرًا، بِهِمْ يحفظ الله حججه حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ فَبَاشِرُوا رَوْحَ الْيَقِين، واستسهلوا هَا واستوعر الْمُتْرَفُونَ، وَأْنَسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجاهلون، وصحبوا الدُّنْيَا بأرواحٍ مُعَلَّقَةٍ بِالْمحل الأَعْلَى. يَا كُمَيْلُ، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، الدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، هَاهْ وَاشَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكَ. مَا رَأَيْت أَقرَأ لكتاب الله من عَليّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن بْن زِيَاد قَالَ حَدثنَا حسني بْن الْأسود قَالَ حَدَّثَنَا يحيى بْن آدم

علي لم يصب من الفيء إلا قارورة

عَن أَبِي بكر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم بْن أبي النجُود عَنْ أبي عَبْد الرَّحْمَن السُّلَميّ قَالَ: مَا رَأَيْت أحدا أَقرَأ لكتاب الله من عَليّ بْن أَبِي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام. عَليّ لم يصب من الْفَيْء إِلَّا قَارُورَة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْعَلاءِ أَخِي أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ: مَا أَصَبْتُ مِنْ فَيْئِكُمْ إِلا هَذِهِ الْقَارُورَةَ أَهْدَاهَا إِلَيَّ الدُّهْقَانُ بِضَمِّ الدَّالِ ثُمَّ أَتَى إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ خُذْهُ وَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ قَوْصَرَّةٌ ... يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يومٍ مَرَّةً نيرزوا كل يَوْم حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ السَّعِرِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَالُوذَجَ فِي جَامٍ يَوْمَ النَّوْرُوزِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمُ النَّوْرُوزِ، فَقَالَ: نَيْرِزُوا كُلَّ يَوْمٍ، بِالْيَاءِ. شعر لعبد الله بْن زِيَاد الْحَارِثِيّ حَدثنَا أَبُو بكر ابْن دُرَيْد قَالَ أَنْشدني عمي قَالَ أنشدنا ابْن عَائِشَة لعبد الله بْن زِيَاد الْحَارِثِيّ: لَا يبلغ الْمجد أَقوام وَإِن كرموا ... حَتَّى يذلوا وَإِن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لَا عَفْو ذلٍ وَلَكِن عَفْو أَحْلَام وَإِن دَعَا الْجَار لبوا عِنْد دَعوته ... فِي النائبات بإسراجٍ وإلجام مستلئمين لَهُم عِنْد الوغي زجل ... كَأَن أسيافهم أغرين بالهام شعر لأعرابي أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن الْعُتْبِي قَالَ سَمِعت أَعْرَابِيًا يَقُول: إِذا كَانَ الْهياج سحبت دِرْعِي ... وَإِن كَانَ الرخَاء جررت بردي وأبذل للخليل تلاد مَالِي ... وَإِن قل التلاد بذلت جهدي وَأغْنِي فِي الحروب غناء مثلي ... وَلست بموحشٍ إِن كنت وحدي شعر فِي الدعْوَة إِلَى الْفَضِيلَة أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا السكن قَالَ أنشدنا مُحَمَّد بْن عباد: إِذا عَثْرَة نابتْ صديقك فاغْتَنِمْ ... مَرَمّتَها فالدهرُ بِالنَّاسِ قلب وبادر بِمَعْرُوف إِذا كنت قَادِرًا ... زَوَال اقتدارٍ أَوْ غَنِي عَنْك يعقب إِذا كنت فِي الْأَمريْنِ تَأتي مُخَيّرا ... فأتقاهما لله أولى وَأوجب

رشونا فقضيت حاجتنا

وَآخر هديت السوء إِن كَانَ نازلا ... وَلَو سَاعَة إِن الْقُلُوب تقلب وكف عَن السوءات لَا تقربنها ... فَكل مسيء محسن حِين يعتب فكم فائتٍ فِي فَوته لَك خيرة ... وإدراكه لَو نلته لَك أعطب وَكم مدركٍ أُمْنِية كَانَ داؤه ... بإدراكها والغيب عَنْهُ محجب رشونا فَقضيت حاجتنا حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا الرياشي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو معقل قَالَ سَمِعت عبد الله بن روبة قَالَ: كَانَت لنا حَاجَة إِلَى السُّلْطَان فاستشفعنا إِلَيْهِ فَلم يشفعنا فرشونا فَقضى حاجتنا فَقَالَ رؤبة: لما رَأَيْت الشفعاء بلدوا ... وسألوا أَمِيرهمْ فأنكدوا نامستهم برشوةٍ فأفردوا ... وَسَهل الله بهَا مَا شَدَّدُوا غزل جميل لأبي حَيَّة أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا عبد الرَّحْمَن عَن عَمه لأبي حَيَّة النميري: إِذا هن ساقطن الْأَحَادِيث للفتى ... سُقُوط حَصى المرجان من سلك ناظم رمين فأنفذن الْقُلُوب فَلَا ترى ... دَمًا مائرًا إِلَّا جرى فِي الحيازم وخبرك الواشون أَن لَا أحبكم ... بلَى وستور الْبَيْت ذَات الْمَحَارِم أصد وَمَا الصد الَّذِي تحسبينه ... عزاء بِنَا أَلا ابتلاع العلاقم حَيَاء وبقيا أَن تشيع نميمة ... بِنَا وبكم أفٍ لأهل النمائم أما إِنَّه لَو كَانَ غَيْرك أرقلت ... إِلَيْهِ القنا بالمرهفات اللهاذم ويروى: أرقلت صعاد القنا بالراعفات الملاغم وَلَكِن وَبَيت الله مَا طلا مُسلما ... كعز الثنايا واضحات المباسم وَإِن دَمًا لَو تعلمين جنيته ... على الْحَيّ جاني مثله غير سَالم جمع فأوعى وَسُئِلَ فأكدى أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي قَالَ: سُئِلَ المساحقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ فَقَالَ: جمع فأوعى، وَسُئِلَ فأكدى، وَحكم فتعدى. رَأْي ابْن الْمسيب فِي مصَارِع بني هَاشم أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنَا عبد الرَّحْمَن عَن عَمه قَالَ: ذكر لسَعِيد بْن الْمسيب مصَارِع بني هَاشم فَقَالَ: إِنِّي أَظن أَن الله جلّ اسْمه أَرَادَ أَن يطهر بهم بطن الأَرْض كَمَا عمر بهم ظهروها. صَاحب يجيد تمزيق عرض صَاحبه أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة:

يجود بخير أو يهم به

لي صاحبٌ لَيْسَ يَخْلُو ... لِسَانه من جراحي يجيد تمزيق عرضي ... على طَرِيق المزاح يجود بِخَير أَو يهم بِهِ أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة عَنْ يُونُس: فَتى لَا ترَاهُ الدَّهْر إِلَّا وَنَفسه ... تجود بخيرٍ أوتهم بِخَير تيه الْغنى ومذلة الْفقر أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَبُو عُثْمَان عَن التوزي عَن أَبِي عُبَيْدَة عَن يُونُس: خلقان لَا أرْضى فعالهما ... تيه الْغَنِيّ ومذلة الْفقر فَإِذا غنيت فَلَا تكن بطرًا ... وَإِذا افْتَقَرت فته على الدَّهْر واصبر فلست بواجدٍ خلقا ... أدنى إِلَى فرج من الصَّبْر أَربع ضائعة حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ سَمِعت الْأَصْمَعِي يَقُول قَالَ بعض الْحُكَمَاء: لاشيء أضيع من أَربع: مَوَدَّة تمنحها من لَا وَفَاء لَهُ، وبلاء تصطنعه عِنْد من لَا شكر لَهُ، وأدب تؤدب بِهِ من لَا ينْتَفع بِهِ، وسر تستودعه من لَا صيانه لَهُ. قَول لسلم الخاسر أحسن مَا مدح بِهِ معن أخبرنَا أَبُو بكر قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ سَمِعت أَبَا عُبَيْدَة يَقُول: بَلغنِي أَنه قيل لِمَعْنٍ بْن زَائِدَة مَا أحسن مَا مدحت بِهِ؟ قَالَ: بقول سلم الخاسر: أبلغ الفتيان مالكة ... أَن خير الود مَا نفعا إِن قرمًا من بني مطرٍ ... أتلفت كَفاهُ مَا جمعا كلما عدنا لنائله ... عَاد فِي معروفه جذعا عدم جَوَاب اللَّئِيم أَشد عَلَيْهِ من الشتم أنشدنا أَبُو بكر ابْن الْأَنْبَارِي قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن عبيد قَالَ أنشدنا الْأَصْمَعِي: وَمَا شَيْء أحب إِلَى لئيمٍ ... إِذا شتم الْكَرِيم من الْجَواب متاركه اللَّئِيم بِلَا جوابٍ ... اشد على اللَّئِيم من السباب شَدِيد عَادَة منتزعة وَحدثنَا أَبُو بكر بْن الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عمرَان الضَّبِّيّ قَالَ: كَانَت لأبي الْأسود الديلِي من مُعَاوِيَة نَاحيَة حَسَنَة، فوعده وَعدا فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْأسود: لَا يكن برقك برقًا خلبًا ... إِن خير الْبَرْق مَا الْغَيْث مَعَه لَا تهني بعد إِذْ أكرمتني ... فشديد عَادَة منتزعه

ألم اختار الوحدة

من مَشى فِي حَاجَة أَخِيه الْمُسلم وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ العابدي المَخْزُومِي بِمَكَّة سنتة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنِ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خطوةٍ سَبْعِينَ حَسَنَةً وَمَحَا عَنْهُ سَبْعِينَ سَيِّئَةً مِنْ حِينِ يَخْرُجُ فِيهَا، فَإِنْ قُضِيَتِ الْحَاجَةُ عَلَى يَدِهِ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَإِنْ مَاتَ بَيْنَ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْر حِسَاب. ألم اخْتَار الْوحدَة وَحدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي أبي عَنْ مُحَمَّد بْن الْحسن الْجَوْهَرِي قَالَ: دخلت على أَحْمَد بْن صاعد الصُّورِي وَهُوَ جَالس وَحده فِي مَسْجده، فَقلت لَهُ: مَا لي أَرَاك وَحدك؟ فَقَالَ: قنعت بِعلم الله ذخري وواحدي ... بمكنون أسرارٍ تضمنها صَدْرِي فَلَو جَازَ ستر السِّرّ بيني وَبَينه ... عَن الْقلب والأحشاء ماعلما سري النعم مغضوب عَلَيْهَا حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا عَبد الرَّحْمَن بْن مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم أَحْمَد بْن يُونُس قَالَ حَدَّثَنَا روح بْن عبد الرَّحْمَن البوشنجي قَالَ سَمِعت سُفْيَان بْن عُيَيْنَة يَقُول: مَا أرى النعم إِلَّا مغضوبًا عَلَيْهَا، أَرَاهَا فِي غير أَهلهَا. وأنشدني مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ أَنْشدني أَبُو عَبد اللَّه النهمي لسَعِيد بْن حميد فِي هَذَا الْمَعْنى: يَا حجَّة الله فِي الأرزاق وَالْقسم ... ومحنة لِذَوي الأخطار والهمم تراك أَصبَحت فِي نعماء سابغةٍ ... إِلَّا وَرَبك غَضْبَان على النعم وأنشدنا أَبُو الْحسن ابْن الْبَراء: لَيست النِّعْمَة عِنْد الله فِي مثلك نعمه غضب الله عَلَيْهَا ... فابتلاها بك نقمه أمرنَا رَسُول اللَّهِ بِسبع ونهانا عَن سبع حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ الْقَاضِي، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ حَدَّثَنَا الأَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ يُحَدِّثُ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسبع ونهانا عَن سبع، وأمرنا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ وَإِفْشَاءِ السَّلامِ؛ وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَخَاتَمِ الذَّهَبِ وَالْمِيثَرَةَ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالْقَسِّيِّ.

تفسيرات لغوية

تفسيرات لغوية قَالَ اللغويون: التشميت هُوَ الدُّعَاء، يُقَال لَهُ التسميت والتشميت، والتشميت مُعْجمَة فِيهِ أعراف وأفصح. من ذَلِك أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم أَدخل عليا على فَاطِمَة عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ: لَا تعجلا حَتَّى آتيكما، فَلَمَّا أتاهما شمت عَلَيْهِمَا وَانْصَرف، يعين دَعَا لَهما. والميثرة: سرج من سروج الْعَجم فِيهِ حَدِيد والإستبرق الغليظ من الديباج والقسي يُثَاب فِيهَا حَرِير تعْمل فِي نَاحيَة مصر بقرية يُقَال لَهَا القس. أَيمن بْن خريم لَا يُقَاتل مُصَليا وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ الْفَلاسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّ عَبْد الْملك بْن مَرْوَان قَالَ لأَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ: أَلا تَخْرُجُ فَتُقَاتِلُ مَعَنَا؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَعَمِّي شَهِدَا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَانِي أَنْ لَا أُقَاتِلَ رَجُلا يُصَلِّي، فَإِنْ أَعْطَيْتَنِي بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ قَاتَلْتُ مَعَكَ، فَتَرَكَهُ. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: فَلَسْتُ مُقَاتِلا رَجُلا يُصَلِّي ... عَلَى سُلْطَانِ آخَرَ مِنْ قُرَيْشِ لَهُ سُلْطَانُهُ وَعَلَيَّ وِزْرِي ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سفهٍ وَطَيْشِ أَأَقْتُلُ مُسْلِمًا فِي غَيْرِ جُرْمٍ ... فَلَيْسَ بِنَافِعِي مَا عِشْتُ عَيْشِي إِلَى مَتى هَذَا الْفِرَاق أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا المظفر بْن عَبد اللَّه رَحْمَة الله عَلَيْهِ: وَقد ضقت ذرعًا بشق الْإِزَار ... غَدَاة الرحيل وبل الْخمار كَأَن الدُّمُوع على خدها ... بَقِيَّة طلٍ على جلنار تَلْبِيَة لأبي نواس حَدثنَا أَبُو بَكْر قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر قَالَ حَدَّثَنَا سعيد بْن الْيَمَان قَالَ حَدَّثَنَا ابْن صَفْوَان قَالَ: لما حج أَبُو نواس لبي فَقَالَ: إلهنا مَا أعدلك ... مليك كل من ملك لبيْك قد لبيت لَك ... لبيْك إِن الْحَمد لَك وَالْملك لَا شريك لَك ... مَا خَابَ عبد سَأَلَك أَنْت لَهُ حَيْثُ سلك ... لولاك يَا رب هلك لبيْك إِن الْحَمد لَك ... وَالْملك لَا شريك لَك وَاللَّيْل لما أَن حلك ... والسابحات فِي الْفلك على مجاري المنسلك ... لبيْك إِن الْحَمد لَك وَالْملك لَا شريك لَك ... كل نبيٍ وَملك

في القوت غنى

وكل من أهل لَك ... سبح أوصلى فلك لبيْك إِن الْحَمد لَك ... وَالْملك لَا شريك لَك يَا مخطئاً ماأغفلك ... عجل وبادر أَجلك وَاخْتِمْ بخيرٍ عَمَلك ... لبيْك أَن الْحَمد لَك وَالْملك لَا شريك لَك فِي الْقُوت غنى وأنشدني أَبِي رَحمَه الله: لَيْسَ بذل الْوُجُوه فِي طلب الْفضل عَن الْقُوت من فعال الْكِرَام فَإِذا مَا أنالك الله قوتًا ... من حلالٍ فَأَنت أغْنى الْأَنَام جود حَاتِم أَنْشدني أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي لحاتم بْن عَبد اللَّه: سَلِي البائس المقرور يَا أم مالكٍ ... إِذا مَا أَتَانِي بَين نَارِي ومجزري أأبسط وَجْهي أَنه أول الْقرى ... وأبذل معروفي لَهُ دون منكري إِن الحَدِيث طرف من الْقرى وأنشدنا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي: إِنَّك يَا ابْن جَعْفَر نعم الْفَتى ... وَنعم مأوى طارقٍ إِذا أَتَى فَرب ضيف طرق الْحَيّ سرى ... صَادف زادًا وحديثًا مَا أشتهى إِن الحَدِيث طرف من الْقرى ... ثمَّ اللحاف بعد ذَاك فِي الذرى شريك يتلَقَّى الخيزران حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِكْرمة الضَّبِّيّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أَبِي شيخ عَن أَبِي سُفْيَان الْحِمْيَرِي، قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بكر العامري قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن مَعْصُوم قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح بْن مُسلم والألفاظ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مختلطة، قَالَا: حجت الخيزران أم مُوسَى وَهَارُون فَخرج شريك يتلقاها وَحمل مَعَه خبْزًا، فأبطأت فَأَقَامَ ثَلَاثًا ينتظرها فيبس خبزه فَجعل يبله بِالْمَاءِ ويأكله، فهجاه ابْن عبدل قَالَ أَبُو بكر: كَذَا فِي رِوَايَة أَبِي، وَفِي رِوَايَة ابْن الْمَرْزُبَان فهجاه أَبُو الْمنْهَال الْعَلَاء الغنوي فَقَالَ: فَإِن يكن الَّذِي حدثت حَقًا ... بِأَن قد أكرهوك على الْقَضَاء فمالك حِين تخرج كل يومٍ ... تلقى من يحجّ من النِّسَاء وسودت الْقَمِيص وصرت فِيهِ ... تَطوف يَا شريك مَعَ الْإِمَاء مُقيما فِي قرى شاهي ثَلَاثًا ... بِلَا زادٍ سوى كسرٍ وَمَاء

المودة أقرب الأنساب

يزِيد النَّاس خيرا كل يومٍ ... وَترجع يَا شريك إِلَى وَرَاء الْمَوَدَّة أقرب الْأَنْسَاب وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى عَن ابْن الْأَعرَابِي: وَلَقَد سبرت النَّاس ثُمَّ خبرتهم ... وَعلمت مَا عرفُوا من الْأَسْبَاب فَإِذا الْقَرَابَة لَا تقرب قَاطعا ... وَإِذا الْمَوَدَّة اقْربْ الْأَنْسَاب أرقني أَن لَا ضجيع أَلا عبه حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْخَزَّازُ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ جُبَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ حَدِيثَ عُمَرَ بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ هَذَا إِنَّهُ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، إِذْ مَرَّ بأمرأةٍ مِنْ نِسَاءِ الْعَرَبِ مُغْلِقَةٍ عَلَيْهَا بَابَهَا وَهِيَ تَقُولُ: تَطَاوَلَ هَذَا اللَّيْلُ تَسْرِي كَوَاكِبُهُ ... وَأَرَّقَنِي أَنْ لَا ضجيع ألاعبه أَلا عبه طَوْرًا وَطَوْرًا كَأَنَّمَا ... بَدَا قَمَرٌ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ حَاجِبُهُ يُسَرُّ بِهِ مَنْ كَانَ يَلْهُو بِقُرْبِهِ ... لَطِيفُ الْحَشَا لَا تَجْتَوِيهِ صَوَاحِبُهُ فو الله لَوْلا اللَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَنُقِّضَ مِنْ هَذَا السَّرِيرِ جَوَانِبُهُ وَلَكِنَّنِي أَخْشَى رَقِيبًا مُوَكَّلا ... بِأَنْفُسِنَا لَا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كَاتِبُهُ ثُمَّ تَنَفَّسَتِ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَتْ: لَهَانَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحْشَتِي وَغَيْبَةُ زَوْجِي عَنِّي، وَعُمَرُ وَاقِفٌ يَسْتَمِعُ قَوْلَهَا، فَقَالَ لَهَا: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَرْحَمُكِ اللَّهُ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهَا بِكُسْوَةٍ وَنَفَقَةٍ، وَكَتَبَ فِي أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا عَلَيْهَا. وَصَايَا أخلاقية أنشدنا أَبُو بكر قَالَ أَنْشدني أَبِي رَحمَه الله: اسلك من الط ... المناهج ... واصبر وَإِن حملت لَا عج انبذ همومك لَا تضق ... ذرعًا بهَا فلهَا مفارج راقض الحوائح مَا اسْتَطَعْت وَكن لَهُم أَخِيك فارج فلخير أَيَّام الْفَتى ... يَوْم قضى فِيهِ الْحَوَائِج وأنشدني ... رَحْمَة الله: لَيْسَ فِي كل ساعةٍ وَأَوَان ... تتهيا صنائع الْإِحْسَان فَإِذا أمكنت فبادر إِلَيْهَا حذرا من تعذر الْإِمْكَان وأنشدني أَبِي رَحمَه الله: وَإِنِّي ليثنيني عَن الْجَهْل والخنا ... وَعَن شتم أَقوام خلائق أَربع

تفسير ابن عمر لآية النور

حَيَاء وَإِسْلَام وتقوى وأنني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع تَفْسِير ابْن عمر لآيَة النُّور وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْعَنْبَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ عَنِ الْوَازِعِ بْنِ نَافِعٍ الْعقيلِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كمشكاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ النُّور: 35 قَالَ: الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ، وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ " يُوقَدُ مِنْ شجرةٍ مباركةٍ " النُّور: 35 الشَّجَرَةُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ " لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غربيةٍ النُّور: 35 لَا يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ قَرَأَ: " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " آل عمرَان: 67. مصير عَبدة زوج هِشَام حَدثنَا أَبُو بكر قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَبْد الرَّحْمَن الرَّبَعيّ قَالَ حَدَّثَنَا عَيَّاش بْن عبد الْوَاحِد قَالَ حَدَّثَنِي ابْن عَائِشَة قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: كَانَت عَبدة بنت عَبد اللَّه بْن يزِيد بْن مُعَاوِيَة عِنْد هِشَام بْن عبد الْملك، وَكَانَت من أجمل النِّسَاء، فَدخل عَلَيْهَا يَوْمًا وَعَلَيْهَا ثِيَاب سود رقاق من هَذِه الَّتِي يلبسهَا النَّصَارَى يَوْم عيدهم، فملأته سُرُورًا حِين نظر إِلَيْهَا ثُمَّ تأملها فقطب، فَقَالَت: مَالك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أكرهت هَذِه، ألبس غَيرهَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن، رَأَيْت هَذِه الشامة الَّتِي على كشحك من فَوق الثِّيَاب، وَبِك يذبح النِّسَاء وَكَانَت بهَا الشامة فِي ذَلِك الْموضع أما إِنَّهُم سينزلونك عَن بغلةٍ شهباء يَعْنِي بني الْعَبَّاس وردةٍ، ثُمَّ يذبحونك ذبحا قَالَ وَقَوله يذبح بك النِّسَاء يَعْنِي إِذا كَانَت دولة لأهْلك ذَبَحُوا بك من نسَاء الْقَوْم الَّذين ذبحوك فَأَخذهَا عَبد اللَّه بْن عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاس فَكَانَ مَعهَا من الْجَوْهَر مَالا يدْرِي مَا هُوَ، وَمَعَهَا درع يَوَاقِيت وجوهر منسوج بِالذَّهَب، فَأخذ مَا كَانَ مَعهَا وخلى سَبِيلهَا، فَقَالَت فِي الظلمَة: أَي دابةٍ تحتي؟ قيل لَهَا دهماء، لظلمة اللَّيْل، فَقَالَت: نجوت، قَالَ: فَأَقْبَلُوا على عَبد اللَّه بْن عَليّ فَقَالُوا: مَا صنعت؟ أدنى مَا يكون يبْعَث أَبُو جَعْفَر إِلَيْهَا فتخبره بِمَا أخذت مِنْهَا فَيَأْخذهُ مِنْك. اقتلها. فَبعث فِي أَثَرهَا، وأضاء الصُّبْح فَإِذا تحتهَا بغلة شهباء، وردة، فلحقها الرَّسُول فَقَالَت: مَه، قَالَ: أمرنَا بقتلك، قَالَت: هَذَا أَهْون عَليّ، فَنزلت فشدت درعها من تَحت قدميها وكميها على أَطْرَاف أصابعها وخمارها فَمَا رئي من جَسدهَا شَيْء، وَالَّذِي لحقها مولى لآل الْعَبَّاس، قَالَ ابْن عَائِشَة: فَرَأَيْت من يدْخل دُورنَا يطْلب اليواقيت للمهدي ليتم بِهِ تِلْكَ الدروع الَّتِي أخذت مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَت بدنا يُغطي الْمَرْأَة إِذا قعدت. من أفاعيل الزنج بِالْبَصْرَةِ قَالَ الْحسن بْن عبد الرَّحْمَن: وَلما دخل الزنج الْبَصْرَة فِيمَا أَخْبرنِي مَشَايِخنَا لَا يَخْتَلِفُونَ

ابن الزبير ينشد معاوية ثلاث أبيات

دخلُوا دَار جَعْفَر بْن سُلَيْمَان بْن عليّ بْن عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس فَجَاءُوا إِلَى بنته آمِنَة وَهِي عَجُوز كَبِيرَة قد بلغت تسعين سنة، فَلَمَّا رأتهم قَالَت: اذْهَبُوا بِي إِلَيْهِ فَإِنَّهُ ابْن خَال جدتي أم الْحُسَيْن بنت جَعْفَر بْن الْحسن بْن الْحسن بْن عَليّ، قَالُوا: بل أمرنَا بقتلك فَقَتَلُوهَا. ابْن الزُّبَيْر ينشد مُعَاوِيَة ثَلَاث أَبْيَات حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد الْعَبَّاسُ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن خبيق قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنْشِدْنِي ثَلاثَةَ أَبْيَاتٍ غَرِيبَةٍ، قَالَ: أُنْشِدُكَهَا بِثَلاثِينَ أَلْفًا تَدْفَعُهَا إِلَيَّ، قَالَ: حَتَّى تُنْشِدَ وَأَسْمَعَ، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ وَتَسْمَعُ وَأَنْتَ الْحَكَمُ، فَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتٍ الأَفْوَهِ الأَوْدِيِّ: بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ ... فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِ وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ ضَرًّا ... وَأَضْنَى مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ وَذُقْتُ مَرَارَةَ الأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ السُّؤَالِ قَالَ: فَحَكَمَ لَهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَلاثِينَ أَلْفًا. أَحبُّوا الْعَرَب لثلاث حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ قَاضِي الْكُوفَةِ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو الْحَنَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ وَكَلامُ أهل الْجنَّة عَرَبِيّ. بِلِسَان سؤول وقلب عقول وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عِيسَى الْخُتَّلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى السَّاجِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي عَن عَبد الْحَمِيدِ بْنِ الْحَسَنِ الْهِلالِيِّ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْنَ أَصَبْتَ هَذَا الْعلم؟ قَالَ: بِلِسَان سؤول وَقَلْبٍ عَقُولٍ. مقطعات فِي العتاب وأنشدنا أَبُو بكر قَالَ أَنْشدني أَبِي رَحْمَة الله عَلَيْهِ: أعاتب ذَا الْمُرُوءَة من صديقي ... إِذا مَا رَابَنِي مِنْهُ اجْتِنَاب إِذا ذهب العتاب فَلَيْسَ ود ... يبْقى الود مَا بَقِي العتاب وأنشدني أَبِي: أعاتب من أُبْقِي على حفظ وده ... وَلَا قدر عِنْدِي للَّذي لَا أعاتبه وأنشدني أَبِي: إِن بعض العتاب يدني من ... العتب ويؤذي بِهِ الْمُحب الحبيبا وَإِذا مَا الْقُلُوب لم تضمر الود ... د فَلَنْ يعْطف العتاب القلوبا

المجلس التاسع والسبعون

الْمجْلس التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ أنْفق وَلَا تخشى من ذِي الْعَرْش إقلالا حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعين وثلاثمائة قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْنِ صَالِحٍ الأَوْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ قَالَ حَدَّثَنَا رَجَا بْنُ مُرَجَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحُنَيْنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَر بْن الخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ وَلا تخش من ذِي الْعَرْش إقلالا قَالَ: بِذَلِكَ أُمِرْتُ. قَالَ الْقَاضِي: وَقد روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَنْفِقْ بِلالُ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَمَا أَنْفَقْتُمْ من شيءٍ فَهُوَ يخلفه هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ " سبأ39. أعرابية قسرية عِنْد خَالِد الْقَسرِي حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ أَخْبَرَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: ذكرُوا أَن خَالِد بْن عَبد اللَّه الْقَسرِي لما أحكم جسر دجلة واستقام لَهُ نهر الْمُبَارك أفشى عطايا كَثِيرَة وَأذن للنَّاس إِذْنا عَاما، فَدخلت عَلَيْهِ أعرابية قسرية فأنشأت تَقول: إِلَيْك يَا ابْن السَّادة الأماجد يعمد فِي الْحَاجَات كل عامدٍ فَالنَّاس بَين صادرٍ ووارد مثل حجيج الْبَيْت نَحْو خَالِد وَأَنت يَا خَالِد خير وَالِد أَصبَحت عِنْد الله بالمحامد مجدك قبل الشمخ الرواكد لَيْسَ طريف الْمجد مثل التالد قَالَ: فَقَالَ لَهَا خَالِد: حَاجَتك كائنة مَا كَانَت، فَقَالَت: أصلح الله الْأَمِير، أَنَاخَ علينا الدَّهْر بجرانه، وعضنا بأنيابه، فَمَا ترك لنا صافنا وَلَا ماهنا، فَكنت المنتجع وَإِلَيْك المفزع، قَالَ فَقَالَ لَهَا خَالِد: هَذِه حَاجَة لَك دُوننَا فَقَالَت: وَالله لَئِن كَانَ لي نَفعهَا إِن لَك لأجرها وَذُخْرهَا، مَعَ أَن أهل الْجُود لَو لم يَجدوا من يقبل الْعَطاء لم يوصفوا بالسخاء، قَالَ لَهَا خَالِد: أَحْسَنت فَهَل لَك من زوج؟ فَقَالَت: لَا، وَمَا كنت لأتزوج دعيًا، وَإِن كَانَ مُوسِرًا غَنِيا، وَمَا كنت أَشْتَرِي عاراُ يبْقى بمالٍ يفنى، وَإِنِّي بجزيل مَال الْأَمِير لغنية، قَالَ الْأَصْمَعِي: فَأمر لَهَا بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. شرح الْغَرِيب قَالَ القَاضِي: أما قَوْلهَا فَمَا ترك لنا صافنًا وَلَا مَا هُنَا: الصَّافِن من الْخَيل فِيمَا ذكر أَبُو عُبَيْدَة الَّذِي يجمع بَين يَدَيْهِ وَبَين طرف سنبك إِحْدَى رجلَيْهِ، والسنبك مقدم الْحَافِر. قَالَ

أعز شيئين درهم حلال وأخ في الله

وَقَالَ بعض الْعَرَب: بل الصَّافِن الَّذِي يجمع بَين يَدَيْهِ، وَالَّذِي يرفع طرف سنبك رجلَيْهِ فَهُوَ مخيم، يُقَال أخام بِرجلِهِ. وَقَالَ الْفراء: الصافنات فِيمَا ذكر الْكَلْبِيّ بِإِسْنَادِهِ: الْقَائِمَة على ثَلَاث، وَقد أناخت الْأُخْرَى على طرف الْحَافِر من يدٍ أَو رجلٍ، وَهِي فِي قِرَاءَة عَبد اللَّه " صَوَافِن فَإِذا وَجَبت " الْحَج:36 يُرِيد معقولة على ثَلَاث، وَقد رَأَيْت الْعَرَب تجْعَل الصَّافِن الْقَائِم على ثَلَاث أَو غير ثَلَاث، وأشعارهم تدل على أَنه الْقَائِم خَاصَّة، وَالله أعلم بصوابه. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ لرجل يُرِيد نحر نَاقَته: انحرها معقولة الْيُمْنَى أَو الْيُسْرَى قَائِمَة على ثَلَاث، سنة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو نَحْو هَذَا القَوْل. وَقد قرئَ: " فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صَوَافِن " الْحَج:36 على مَا تقدم من الْحِكَايَة عَن ابْن مَسْعُود وصوافي بِمَعْنى خَالِصَة لله عز وَجل من الصفاء والخلوص، فَأَما قِرَاءَة الْجُمْهُور الْأَعَمّ والسواد الْأَعْظَم فَإِنَّهُ صواف على جمع الصافة وَهِي المصطفة، ورسم مصاحف الْمُسلمين شَاهد لهَذِهِ الْقِرَاءَة بِالصِّحَّةِ مَعَ استفاضة النَّقْل لَهَا فِي الْأمة، وَقد قَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم فِي معنى هَذِه اللَّفْظَة: تركنَا الْخَيل عاكفة عَلَيْهِ ... مقلدة أعنتها صُفُونا وَأما قَوْلهَا: وَلَا مَا هُنَا فَإِنَّهَا تَعْنِي وَلَا خَادِمًا، وَمن الماهن قَول الشَّاعِر: وهَزئْنَ مِنِّي أَن رأَينَ مُوَيْهِنًا ... تَبدُو عَلَيْه شَتَامَةُ الْمَمْلُوك المويهن: تَصْغِير ماهن، والخويدم تَصْغِير خَادِم، والشتامة الْقبْح والكلوح، يُقَال: وَجه شتيم أَي باس قَبِيح، وَمن هَذَا الشتم والشتيمة فِي القَوْل مَعْنَاهُ قبحه وقذعه، والمشاتمة المسابة وهما من هجر القَوْل وفحشه. وَقَالَ بعض اللغويين: لَا يُقَال عضنا الدَّهْر وَإِنَّمَا يُقَال عظنا بالظاء، وَالْمَعْرُوف فِيهِ الضَّاد. أعز شَيْئَيْنِ دِرْهَم حَلَال وَأَخ فِي الله حَدثنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عِيسَى الوَاسِطِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن عَائِشَة عَن حزم بْن أَبِي حزم قَالَ: كَانَ يُونُس بْن عبيد يمر بِنَا فِي بني لَاحق فَيَقُول: مَا أعرف الْيَوْم شَيْئا أعز من شَيْئَيْنِ: دِرْهَم حَلَال وَأَخ فِي الله عز وَجل. وأنشدنا إِبْرَاهِيم قَالَ أنشدنا أَحْمَد بْن يحيى: خير إخوانك المشارك فِي الْمُرِّ ... وأيْن الشّريكُ فِي المر أَيّنَا لَا يني شَاهدا يَسُرك بالبش؟ ... ر وَإِن غبتَ كَانَ أُذْنًا وعَيْنًا مثل سر العقيان إِن مَسّه النا ... رِجْلَاهُ التلام فازداد زينا تَفْسِير بعض الْأَلْفَاظ ويروي: أخلصه الْقَيْن وَهُوَ الْحداد، العقيان من أَسمَاء الذَّهَب. وسره أخلصه وأشرفه،

حكاية غريبة عن

وسر كل شَيْء جيده ومختاره، والتلام هُوَ الَّذِي يجلى بِهِ، يُقَال لَهُ المدوس، وَقيل: هُوَ التلام يُرِيد التلامذة والتلاميذ مثل الأساورة والأساوير وَقيل إِنَّهَا فِي قِرَاءَة عَبد اللَّه أساوير من ذهب وَقَالَ: التلام بالحذف دون التَّمام كَمَا قَالَ الشَّاعِر: عفت المنا بمتالعٍ فأبان يُرِيد الْمنَازل فَحذف اكْتِفَاء بِدلَالَة مَا بَقِي من الْكَلَام وَأقَام وزن شعره مستغنياً فِيهِ عَن التَّمام حِكَايَة غَرِيبَة عَن توَسط عمر بْن عبد الْعَزِيز لَدَى يزِيد بْن الْمُهلب حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن مُعَاوِيَة قَالَ: وَقَالَ ابْن الْكُوفِي وَكَانَ بشر بْن مَرْوَان قد ادخر وَهُوَ على الْعرَاق عَن ابْنه عبد الْملك وَعَن عُيَيْنَة بْن أَسمَاء من غلات أراضيهم مَالا عَظِيما، فَلَمَّا ولي الْحجَّاج أخرج تِلْكَ البقايا فَوجدَ مَا على عبد الْملك وعيينة بْن أَسمَاء فَقَالَ: وَمَا على بشرٍ أَن يهب من مَال الله تَعَالَى لِابْنِهِ وَخَتنه هَذَا وَأكْثر مِنْهُ، وَالله لآخذنهما بِهِ أَخذ الضَّب وَلَده، وطالبهما فريثاه حَتَّى هلك فلحقا بِالشَّام فَنزلَا على عمر بْن عبد الْعَزِيز فَقَالَا لَهُ: إِن بشرا كَانَ أطعمنَا شَيْئا كثيرا من غلاتنا فبسطنا فِيهِ أَيْدِينَا، وان الْحجَّاج بسفهه وخرقه وظلمه أخرج علينا ثُمَّ أَخذنَا بِهِ، فَلم نزل نخدعه عَن أَنْفُسنَا حَتَّى هلك، فَكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي هبة ذَلِك لنا، فَضَحِك عمر وَقَالَ: لست أَثِق لَكمَا بكلامي، وَلَكِن لَكمَا عِنْدِي رَأْي فِيهِ نجاح طلبتكما، قَالَا: فادللنا عَلَيْهِ، قَالَ: نمشي إِلَى يزِيد بْن الْمُهلب فإمَّا أَن يحملهَا من مَاله، وَإِمَّا أَن يعيننا على سُلَيْمَان فيهبها لَكمَا، وَلَا وَالله مَا كنت لأمشي إِلَى عربيٍ على الأَرْض غَيره لَيْسَ من ولد مَرْوَان. ثُمَّ أَتَوا يزِيد فَقَالَ لَهُ عمر: إِن اأتيناك زوارا وَهَذَانِ من قد عرفت، فَلَا تنظرن إِلَى جرم أَبُو يهما عِنْد أَبِيك، فَضَحِك يزِيد وَقَالَ: عَفا الله عَنْك يَا أَبَا حَفْص، أرجع فِي ذنبٍ قد غفره أَبِي قبلي؟! وَالله مَا عجز عَن مكافأتهما فِي حَيَاته وَلَا أَوْصَانِي بالثأر من بعده، فَإِنَّهُمَا لأخواي وصاحباي، هاتوا حَاجَتكُمْ، فَقَالَ عمر: إِن الْحجَّاج أخرج عَلَيْهِمَا مِمَّا كَانَ بشر ترك لَهما من غلاتهما ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف فَمَا ترى؟ قَالَ: رَأْيكُمْ فاحتكموا، قَالَ: تحمل مِنْهَا مَا شِئْت قَالَ: عَليّ نصفهَا، وَالْمطلب إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي بقيتها، فَإِن حمله عني وَإِلَّا حَملته، فَقَالَ عبد الْملك بْن بشر: وَالله مَا ظلم النَّاس أَن زَعَمُوا أَنَّك سيدهم. ثُمَّ خَرجُوا وَعمر يَقُول: مَا رَأينَا مثل هَذَا الْعِرَاقِيّ فِي وطأته فعل قبلهَا مثلهَا، ثمَّ حمل عَن القيسيين وَعَن يزِيد بْن عَاتِكَة، وَهَذِه ألف ألف وَخَمْسمِائة ألف. ثُمَّ ركب يزِيد إِلَى سُلَيْمَان فَدخل عَلَيْهِ وَعِنْده جمَاعَة من وُجُوه أهل الْيمن فَقَامَ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان: أمسك، وَأَبِيك إِنَّك لقادر على خلواتي، اجْلِسْ،

الرشيد يستنشد الكرماني شعرا

فَقَالَ يزِيد: مَا قُمْت لأجلس فَأذن لي فِي الْكَلَام، فَقَالَ: هَات، فَأخْبرهُ بمجيء عمر إِلَيْهِ وَقَالَ: قد حملت النّصْف وضمنت عَلَيْك البَاقِينَ وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن مقَامي بِالشَّام لمن تَمام نعْمَة الله على بأمير الْمُؤمنِينَ، إِنَّه لم يعمد إِلَى أحد فِي حَاجَة إِلَّا قَضَاهَا الله بك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ على يَدي، فَقَالَ سُلَيْمَان: قد وهبنا ذَلِك كُله لَك، فلك حَمده وعلينا غرمه. الرشيد يستنشد الْكرْمَانِي شعرًا فِي خلوب جَارِيَة الرشيد حَدثنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكواكبي قَالَ: حَدَّثَنِي عمي أَبُو عَبد اللَّه أَحْمَد بْن فراس السَّامِي قَالَ حَدَّثَنَا الجهم بْن بدر قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي فِي خلوب جَارِيَة الرشيد شعرًا، فَبلغ الرشيد فَوجه إِلَيْهِ وأقعد الرشيد خلوب خلف ستر، وَمر الْكرْمَانِي بِالْفَضْلِ بْن الرّبيع فَقَالَ: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد وَجه إِلَيّ فأنشده إِن استنشدني؟ قَالَ؛ نعم، بعد الْأمان. فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ الرشيد: أَأَنْت الْكرْمَانِي؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أَنْشدني، قَالَ فِي الزّهْد؟ قَالَ: لست هُنَاكَ، قَالَ: فَفِي المديح؟ قَالَ: وَلَا، قَالَ: فَمَا أنْشدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: شعرك فِي خلوب، قَالَ: بعد الْأمان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: نعم، فأنشده قَوْله فِيهَا حَتَّى بلغ: لَو لم أذقها طَابَ لي حبها ... لكنني ذقت فَلَا ذقت فَخرجت خلوب من وَرَاء السّتْر فَقَالَت: وَالله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا ذقته وَلَا ذاقني، وَلَا رَأَيْته وَلَا رَآنِي، وَقد أقرّ بِالزِّنَا فحده، قَالَ: يَا خلوب قد أعطيناه الْأمان، قَالَت: لَا أَمَان فِي حدٍ من حُدُود الله عز وَجل، قَالَ: قد سَمِعت يَا كرماني، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الله عز وَجل: " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ " الشُّعَرَاء:224 إِلَى قَوْله: " وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ " الشُّعَرَاء:226 قَالَ: صدقت، وَأمر لَهُ بِثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم. طَريقَة الشُّعَرَاء قَالَ القاضين: وَمن الْمَوْجُود فِي طَريقَة الشُّعَرَاء أَنهم يَقُولُونَ مَالا يَفْعَلُونَ، ويصفون من يمدحونه أَو يَهْجُونَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَبِمَا لَا علم لَهُم بِهِ، وَقد قَالَ فِي هَذَا عمرَان بْن حطَّان للفرزدق: أَيهَا المادح الْعباد ليُعْطى ... إِن لله مَا بأيدي الْعباد فسل الله مَا طلبت إِلَيْهِم ... وارج فضل الْمُهَيْمِن العواد وَلَا تقل فِي الْجواد مَا لَيْسَ فِيهِ ... وَتَسِم الْبَخِيل باسم الْجواد وأنشدني عَن ابْن الرُّومِي: يَقُولُونَ مَالا يَفْعَلُونَ مسَبَّة ... من الله مسبوب بهَا الشُّعَرَاء وَمَا ذَاك فيهم وَحده بل زِيَادَة ... يَقُولُونَ مَا لَا يفعل الْأُمَرَاء

هشام يستدعي حمادا الراوية ليسمع منه شعرا

وَنَظِير خبر الْكرْمَانِي مَعَ الرشيد مَا رُوِيَ أَن الفرزدق أنْشد عبد الْملك: فبتن جنابتي مصرعاتٍ ... وَبت أفض أغلاق الختام فَقَالَ لَهُ: قد أَقرَرت بِمَا أوجب عَليّ أَن أقيم عَلَيْك الْحَد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يمنعك من ذَلِك آيَة من كتاب الله عز وَجل، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْله عز وَجل: " وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ " الشُّعَرَاء: 226. هِشَام يَسْتَدْعِي حماداً الراوية ليسمع مِنْهُ شعرًا حَدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن بْن الْبَراء قَالَ حَدثنِي حميد بْن مُحَمَّد الْكُوفِي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عَبد اللَّه الْقُرَشِيّ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أنس صَاحب شعر الْكُمَيْت قَالَ: حَمَّاد الراوية: كَانَ انقطاعي إِلَى يزِيد بْن عبد الْملك وَكَانَ هِشَام يقليني على ذَلِك، فَلَمَّا ولي هِشَام مكثت سنة لَا أخرج، فَلَمَّا لم أذكر خرجت فَصليت الْجُمُعَة وَجَلَست على بَاب الْفِيل، وَهُوَ بَاب مَسْجِد الْكُوفَة، فَإِذا شرطيان قد وَقفا عَليّ فَقَالَا لي: يَا حَمَّاد أجب الْأَمِير يُوسُف بْن عمر، فَقلت: من هَذَا كنت أحذر، ثُمَّ قلت لَهما: هَل لَكمَا أَن تدعاني آتِي أَهلِي فأودعهم وداع من لَا يرجع إِلَيْهِم أبدا ثُمَّ أصير إِلَيْهِ مَعَكُمَا؟ قَالَا: مَا إِلَى ذَلِك سَبِيل، فاستسلمت فِي أَيْدِيهِمَا وَدخلت على يُوسُف بْن عمر فِي الإيوان الْأَحْمَر، فَسلمت فَرد عَليّ السَّلَام فطابت نَفسِي برده عَليّ السَّلَام، ثُمَّ رمى إِلَيّ بِكِتَاب فِيهِ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من هِشَام أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى يُوسُف بْن عمر، إِذا أَتَاك كتابي هَذَا فَابْعَثْ إِلَى حَمَّاد الراوية من يَأْتِيك بِهِ غير مروعٍ وَلَا متعتعٍ، وادفع إِلَيْهِ خَمْسمِائَة دِينَار وجملا مهريا يسير عَلَيْهِ اثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة إِلَيّ دمشق، فَأخذت الْخَمْسمِائَةِ الدِّينَار وَنظرت فَإِذا جمل مرحول فَوضعت رجْلي فِي الغرز وسرت إِحْدَى عشرَة لَيْلَة، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي عشر وافيت بَاب هِشَام فاستأذنت فَأذن لي، فَدخلت عَلَيْهِ فِي دَار قوراء مفروشةٍ بالرخام، بَين كل رخامتين قَصَبَة من ذهب، وحيطانها على ذَلِك الْعَمَل، وَإِذا هِشَام جَالس على طنفسة من خَز أَحْمَر وَعَلِيهِ ثِيَاب خزٍ حمر مضمخة بالعنبر؛ فَسلمت فاستدناني حَتَّى قبلت رجله وأجلسني، فَإِذا أَنا بجاريتين لم أر مثلهمَا قبلهمَا، فِي أذن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا حَلقَة من ذهب فِيهَا جَوْهَرَة تتوقد، فَقَالَ لي: يَا حَمَّاد كَيفَ أَنْت وَكَيف حالك؟ قلت: بِخَير يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أَتَدْرِي لم بعثت إِلَيْك؟ قلت: لَا، قَالَ بعثت إِلَيْك لبيت خطر ببالي لم أدر من قائلة، قلت وَمَا هُوَ؟ قَالَ: فدعَتْ بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق قلت هَذَا يَقُوله عدي بْن زيد الْعَبَّادِيّ فِي قصيدة لَهُ، فَقَالَ أنشدنيها، فَأَنْشَدته: بكر العاذلون فِي وضح الصب؟ ... ح يَقُولُونَ مَا لَهُ لَا يفِيق

النوشجاني يتغاضى للمأمون فلا يرضيه ذلك

ويلومون فِيك يَا ابْنة عبد الل؟ ... هـ وَالْقلب عنْدكُمْ موثوق لست أَدْرِي إِذْ أَكْثرُوا العذل عِنْدِي ... أعدو يلومني أم صديق زانها حسنها بفرعٍ عميمٍ ... وأثيث صلت الجبين أنيق وثنا يَا مغلجات عَذَاب ... لَا قصاراً ترى ولاهن روق فدعَتْ بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق ثمَّ كَانَ المزاج مَاء سَمَاء ... لَيْسَ مَا اجن وَلَا مطروق فَقَالَ: أَحْسَنت يَا حَمَّاد، يَا جَارِيَة اسقيه فسقتني شربة ذهبت بِثلث عَقْلِي، ثُمَّ قَالَ: أعد، فَأَعَدْت فاستخفه الطَّرب حَتَّى نزل عَن فرشه، ثُمّ قَالَ لِلْأُخْرَى: يَا جَارِيَة اسقيه، فسقتني شربة ذهب ثلثا عَقْلِي، فَقلت: إِن سقتني الثَّالِثَة افتضحت، ثُمَّ قَالَ: سل حوائجك كائنة مَا كَانَت، قلت: إِحْدَى الجاريتين قَالَ: هما لَك بِمَا عَلَيْهِمَا من حلي وحلل، ثُمَّ قَالَ للأولى: اسقيه، فسقتني شربة سَقَطت فَلم أَعقل حَتَّى أَصبَحت، فَإِذا أَنا بالجاريتين عِنْد رَأس، وَإِذا خَادِم تقدم عشرَة خدم مَعَ كل وَاحِد بدرة فَقَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام وَيَقُول لَك: خُذ هَذِه فَانْتَفع بهَا فِي شَأْنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت. تعليقات وتفسيرات قَالَ القَاضِي: قد رويت قصَّة هَذَا الشّعْر عَن حَمَّاد أَنَّهَا كَانَت مَعَ الْوَلِيد بْن يزِيد وفيهَا مَا لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَر، وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا لَيْسَ فِيهَا، وَجَائِز أَن تكون القصتان جرتا فِي وَقْتَيْنِ فيكونا غير متنافيتين وَقد أثبتنا الْقِصَّة الْأُخْرَى فِي بعض مجَالِس كتَابنَا هَذَا وَالله أعلم بصواب ذَلِك. وَقَول عدي بْن زيد فِي هَذَا الشّعْر يصف ثنايا هَذِه الْمَرْأَة: وَلَا هن روق الروق الطوَال، يُقَال نَاب أروق وثنية روقاء وَالْجمع روق مثل أَحْمَر وحمراء وحمر، قَالَ الْأَعْشَى: وَإِذا مَا الأكس شبه بالأر ... وق يَوْم الهيجا وَقل البصاق يُقَال نَاب أكس وثنية كسَاء، إِذا كَانَا قصيرين، وَإِنَّمَا وصف الْحَرْب بالشدة وَإِن ريق الْمُحَارب قد شبهت أَسْنَانه على كسسها بالروق لتجردها وَقلة البصاق فِيهَا. النوشجاني يتغاضى لِلْمَأْمُونِ فَلَا يرضيه ذَلِك حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن يحيى الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنِي من سمع قَحْطَبَةَ بْن حميد بْن قَحْطَبَةَ يَقُول: حضرت الْمَأْمُون يناظر مُحَمَّد بْن الْقَاسِم النوشجاني فِي شَيْء وَمُحَمّد يغضي لَهُ ويصدقه فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: أَرَاك تنقاد لي إِلَى مَا تظن أَنه يسرني قبل وجوب الْحجَّة عَلَيْك وَلَو شِئْت أَن أقتسر الْأُمُور بِفضل بيانٍ وَطول لِسَان وأبهة الْخلَافَة وسطوة الرياسة لصدقت وَإِن كنت كَاذِبًا، وصوبت وَإِن كنت مخطئًا، وَعدلت وَإِن كنت

لا بأس أن يكون الخال أشرف من العم

جائرًا، وَلَكِنِّي لَا أرضي إِلَّا بِإِزَالَة الشُّبْهَة وَغَلَبَة الْحجَّة، وَإِن شَرّ الْمُلُوك عقلا وأسخفهم رَأيا من رَضِي بقَوْلهمْ صدق الْأَمِير. لَا باس أَن يكون الْخَال اشرف من الْعم حَدثنَا يزْدَاد بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي تينة قَالَ حَدَّثَنَا القحذمي قَالَ: تزوج قيس بْن معد يكرب بنت الْحَارِث بْن عَمْرو من بني آكل المرار فَولدت لَهُ الْأَشْعَث بْن قيس ففال أَبُو هَانِئ الْكِنْدِيّ: بَنَات الْحَارِث الْملك بْن عمروٍ ... تخيرها فَتنْكح فِي ذراها لَهَا الويلات إِذا أنكحتموها ... أَلا طعنت بمديتها حشاها وَقد نبئتها ولدت غُلَاما ... فَلَا عَاشَ الْغُلَام وَلَا هناها فَأَجَابَهُ أَبُو قساس الْكِنْدِيّ: أَلا أبلغ لديك أَبَا هني ... أَلا تنْهى لسَانك عَن رداها فقد طالبت هندًا قبل قيسٍ ... لتنكحها فَلم تَكُ من هَواهَا فطافت فِي المناهل تبتغيها ... فلاقت منهلا عذبًا شفاها شَدِيد الساعدين أَخا حروبٍ ... إِذا مَا سيل منقصة أَبَاهَا وَمَا حثت مطيته إِلَيْهَا ... وَلَا من فَوق ذروتها أَتَاهَا قَالَ عِيسَى قَالَ القحذمي: وَآل الْأَشْعَث ينشدون هَذَا الشّعْر وَلَا ينكرونه قَالَ: وَا لأشراف لَا يبالون أَن يكون أخوالهم أشرف من أعمامهم. اللِّسَان فِي اللُّغَة قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذَا الشّعْر: أَلا تنْهى لسَانك عَن رداها أنث اللِّسَان، وَذكر أهل الْعلم بِالْعَرَبِيَّةِ أَن الْعَرَب تذكر اللِّسَان وتؤنثه وَقيل من أنثه أَرَادَ بِهِ اللُّغَة والرسالة كَقَوْل الشَّاعِر: إِنِّي أَتَتْنِي لِسَان لَا أسر بهَا ... من علو لَا صخب فِيهَا وَلَا سخر مقولة لعَلي فِي مَفْهُوم الْقَضَاء وَالْقدر حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ صِفِّينَ قَامَ إِلَيْهِ شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا قَطَعْنَا وَادِيًا وَلا عَلَوْنَا تَلْعَةً إِلا بِقَضَاءٍ وقدرٍ، فَقَالَ الشَّيْخُ: عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي، فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلِمَ؟ بَلْ عَظَّمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ مُصْعِدُونَ، وَفِي مُنْحَدَرِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْحَدِرُونَ، وَمَا

المجلس الثمانون

كُنْتُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِكُمْ مُكْرَهِينَ وَلا إِلَيْهَا مُضْطَرِّينَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: كَيْفَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ سَاقَنَا إِلَيْهَا؟ قَالَ: وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَهُ قَضَاءً لازِمًا وَقدرا حاتماً، لَو كَانَ ذَاكَ لَسَقَطَ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ، وَلَبَطُلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَلا أَتَتْ لائِمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُذْنِبٍ، وَلا مَحْمَدَةٌ مِنَ اللَّهِ لِمُحْسِنٍ، وَلا كَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِثَوَابِ الإِحْسَانِ مِنَ الْمُذْنِبِ، ذَلِكَ مَقَالُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَجُنُودِ الشَّيْطَانِ وَخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ، وَهُمْ قَدَرِيَّةُ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمَجُوسُهَا، وَلَكِنِ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْخَيْرِ تَخْيِيرًا، وَنَهَى عَنِ الشَّرِّ تَحْذِيرًا، وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوبًا، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَمْلِكْ تَفْوِيضًا، وَلا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا أَرَى فِيهِمَا مِنْ عَجَائِبِ آيَاتِهِمَا بَاطِلا " ذَلِك ظن الَّذين كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ " ص: 27. فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا كَانَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ الَّذِي كَانَ فِيهِ مَسِيرُنَا وَمُنْصَرَفُنَا؟ قَالَ: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ. ثُمَّ قَرَأَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ " الْإِسْرَاء:23 فَقَامَ الشَّيْخُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ ... يَوْمَ النُّشُورِ مِنَ الرَّحْمَنِ رِضْوَانَا أَوْضَحْتَ مِنْ دِينِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِسًا ... جَزَاكَ رَبُّكَ عَنَّا فِيهِ إِحْسَانَا الْمجْلس الثَّمَانُونَ يَا أَبَا بكر دعها فَإِن لكل قوم عيدًا أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْهَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَكْرٍ دَعْهَا فَإِنَّ لِكُلِّ قومٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا. الرُّخْصَة فِي الْغناء الْمُبَاح قَالَ القَاضِي: قد ضمنا هَذِه الْمجَالِس نَظَائِر لهَذَا الْخَبَر، وَذكرنَا فِي غير مَوضِع من كتبنَا مَا جَاءَ من الرُّخْصَة فِي الْغناء الْمُبَاح وَمَا يسْتَعْمل مَعَه من آلَات الملاهي كالدف وَنَحْوه، وَأَن ذَلِك يخْتَار وَيُؤمر بِهِ فِي الأعياد والعرسات وَمَا يجْرِي مجْراهَا مِمَّا ينبسط عِنْده الْمُسلمُونَ وينشطون فِيهِ فِي مجامعهم ومآدبهم. وَذكرنَا فِي عدَّة مَوَاضِع مَا يكره من تَرْجِيع الْغناء و. طيط فِي تِلَاوَة الْقُرْآن وإنشاد الْعشْر، وأوضحنا سُقُوط من موه على النَّاس فِي ذَلِك وَتعلق بسخيف الشّبَه فِيهِ إرهاصًا لمعيشته وتوطئًا للحطام من مأكلته، وَإِن فِي وفور السرُور واستقامة الْأُمُور بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا أَبَاحَهُ الله عز وَجل وَأذن فِيهِ لمندوحة عَمَّا حظره وزجر عَنْهُ وعابه. ابْن وَرْقَاء يحْسب الشّعْر قُرْآنًا حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أخبرنَا أبن عُثْمَان عَن التوزي عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ:

كيف سار المثل الخير يبقى والشر أخبث زاد

خطب عتاب بْن وَرْقَاء الريَاحي على الْمِنْبَر فَقَالَ: أَقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه: لَيْسَ شَيْء على الْمنون بباقٍ ... غير وَجه المسبح الخلاق فَقيل لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، هَذَا قَول عدي بْن زيد، فَقَالَ: فَنعم وَالله مَا قَالَ عدي بْن زيد. قَالَ ابْن دُرَيْد أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان فِي عقب هَذَا الحَدِيث وَلم يسْندهُ إِلَى أحد قَالَ: أُتِي عتاب بْن وَرْقَاء بِامْرَأَة من الْخَوَارِج فَقَالَ لَهَا: يَا عدوة الله مَا حملك على الْخُرُوج علينا؟ أما سَمِعت الله يَقُول: كتب الْقَتْل والقتال علينا ... وعَلى الْمُحْصنَات جر الذيول فَقَالَت: جهلك بِكِتَاب الله حَملَنِي على الْخُرُوج عَلَيْك وعَلى أئمتك يَا عَدو الله. كَيفَ سَار الْمثل الْخَيْر يبْقى وَالشَّر أَخبث زَاد حَدثنَا الْحُسَيْن بْن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الفَضْل الربعِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، وَحدثنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن السَّائِب عَن أَبِيه عَن الشَّرْقِي بْن الْقطَامِي وألفاظ الرِّوَايَتَيْنِ مُخْتَلفَة ومعاينهما مُتَقَارِبَة قَالَ، قَالَ الرشيد للمفضل الضَّبِّيّ: أَخْبرنِي يَا مفضل عَن قَول الْعَرَب: الْخَيْر يبْقى وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا مثل لَهُم سَائِر قبل الْإِسْلَام، وَكَانَ من حَدِيث هَذَا الْمثل أَن عبيد بْن الأبرص الْأَسدي كَانَ حكيمًا من حكماء الْعَرَب وشاعرًا مجيدًا، قَتله الْمُنْذر بْن مَاء السَّمَاء من أجل الغريين وَكَانَ من حَدِيث هَذَا الْمثل قبل أَن يقْتله الْمُنْذر بِثَلَاثَة أَحْوَال أَن نَاسا نزلُوا عَلَيْهِ فقراهم وَأحسن ضيافتهم وَكَانَ يقري الضَّيْف وَيحسن إِلَى الْمُنْقَطع بِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الْقَوْم الرحيل خرج مَعَهم يشيعهم، فشيعهم حَتَّى أبعدوا ونزلوا فِي مَوضِع وَقَالَ غَيره: فَلَمَّا نزل الْقَوْم وعرسوا خرج عبيد وَصَاحب لَهُ يمشيان فِي الْموضع الَّذِي نزل الْقَوْم فِيهِ، وسارا حَتَّى أَتَيَا حبا هُنَاكَ فرأيا شجاعًا عَظِيما أَقرع يَلْهَث قد أدلع لِسَانه من الْعَطش، فَأخذ صَاحب عبيدٍ حجرا وهم أَن يشدخه بِهِ، فَقَالَ لَهُ عبيد: مَا أَنْت صانع؟ قَالَ: أقتل هَذَا الشجاع فَإِنَّهُ عَدو، قَالَ عبيد: لَا تفعل فَإِن الْأَسير قد يجار وَإِن كَانَ عدوا، ثُمَّ استقى من الْحبّ مَاء فسقى الشجاع، فَجعل يشرب حَتَّى رُوِيَ، ثُمَّ تسبسب فِي الرمل فَغَاب، قَالَ: وَرجع عبيد إِلَى الْقَوْم فودعهم ثُمَّ رحلوا، وَرجع عبيد إِلَى منزله فَأَقَامَ حَوْلَيْنِ، فَأَتَاهُ بعض الرُّعَاة فخبره أَن إبِله قد شَردت فَركب رَاحِلَة لَهُ وَخرج فِي طلب الْإِبِل، وَكَانَ شجاعًا بطلا، فَسَار عشر مراحل لَا يرى لَهُ أثرا وَلَا يعرف لَهَا خَبرا، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَقد كلت رَاحِلَته وتعب وأظلم اللَّيْل وهبت الرِّيَاح فَلم ير سهلا وَلَا جبلا نفقت الرَّاحِلَة، فَقَالَ: يَا لَك من ليلٍ ديجور وَمن نفوق راحلةٍ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ يُقَال لَهُ الصادي وَهُنَاكَ مَاء، فَقَالَ: وَالله مَا أرى إِلَّا

الْإِقَامَة على هَذَا المَاء وَالْمَوْت، ثُمَّ حط رَحْله عَن رَاحِلَته وَأسْندَ ظَهره إِلَيْهِ وطأطأ رَأسه إِلَى الأَرْض وَجمع أثوابه عَلَيْهِ، فَإِذا هَاتِف يَهْتِف بِهِ من خَلفه، يسمع صَوته وَلَا يرى شخصه وَهُوَ يَقُول: يَا أَيهَا الشَّخْص المضل مذْهبه ... وَلَيْسَ مَعَه من أنيس يصحيه دُونك هَذَا الْبكر خُذْهُ فاركبه ... حَتَّى إِذا اللَّيْل توارى مغربه بساطع الصُّبْح ولاح كوكبه ... فحط عَنْهُ رَحْله وسبسبه قَالَ القَاضِي: ويرويى تواري غيهبه، والغيهب الظلمَة. فَالْتَفت وَرَاءه فَإِذا بكر مَعْقُول عَلَيْهِ رَحل، فَوَثَبَ حَتَّى حل عقاله وَصَارَ فِي مَتنه، فَوَثَبَ الْبكر من غير أَن يثيره حَتَّى استقام على الطَّرِيق يسير بِهِ كالبرق الخاطف وكالريح العاصف لَا يلوي على شيءٍ وَلَا يفتر من السّير، حَتَّى إِذا كَانَ فِي وَجه الصُّبْح وَنظر عبيد إِلَى بَيَاض الْحيرَة برك الْبكر فَلم يقم، فاستحثه فَلم يقم، فَقَالَ: إِنَّه لمأمور، وثنى رجله فَنزل عَنْهُ وَولى نَاحيَة فثار الْبكر يجر بزمامه، فَقَالَ عبيد: بكر يسري فِي ليلةٍ واحدةٍ عشر مراحل لَا أسأله مَا أَنْت وَلَا من الَّذِي أرسلك إِلَيّ؟! ثُمَّ أدَار وَجهه إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُول: يَا أَيهَا الْكبر قد أنجيت من كربٍ ... وَمن فيافٍ تضل المدلج الْهَادِي أَلا أنبت لنا بالْقَوْل نعرفه ... من الَّذِي جاد بالنعماء فِي الْوَادي اذْهَبْ سليما فقد بلغت مأمننا ... بوركت من ذِي سنامٍ حَامِل حادي قَالَ: فَأَجَابَهُ الْبكر وَهُوَ يَقُول: أَنا الشجاع الَّذِي ألفيته رَمضًا ... يُنَازع المَاء من ذِي المورد الصادي فجدت بِالْمَاءِ لما ضن حامله ... رويت هامي وَلم تولع بإنكادي الْخَيْر يبْقى وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر أَخبث مَا أوعيت من زَاد قَالَ القَاضِي وَيرى: مَا أوعبت فِي الزَّاد هَذَا جزاؤك من لَا أَمن بِهِ ... فسر سليما وقاك الله من هاد فَقَالَ لَهُ الرشيد: أَحْسَنت يَا مفضل، يَا ربيع أعْطه عشْرين ألفا، عشرَة آلَاف لمعرفته بِالْمثلِ وَأَصله، وَعشرَة آلَاف لحسن رِوَايَته لَهُ. قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر نفقت الرَّاحِلَة وَإِنَّمَا يُقَال نفق الْفرس وتنبل الْبَعِير. ابْن الزُّبَيْر بنشد مُعَاوِيَة ثَلَاثَة أَبْيَات حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِي قَالَ حَدثنِي أبي قل حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ الْعَبَّاسُ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَر بْن مُحَمَّد بْن حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُبَيْقٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنْشِدْنِي ثَلاثَةَ أَبْيَاتٍ غَرِيبَةٍ، قَالَ: أُنْشِدُكَهَا

عمر معجب بمعاوية

بِثَلاثِينَ أَلْفًا تَدْفَعُهَا إِلَيَّ، قَالَ: حَتَّى تُنْشِدَ فَأَسْمَعَ، قَالَ: فَأَنَا أَقُولُ وَتَسْمَعُ وَأَنْتَ الْحَكَمُ، فَأَنْشَدَهُ أبياتاً لِلأَفْوَهِ الأَوْدِيِّ: بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قرنٍ ... فَلَمْ أَرَ غَيْرَ ختالٍ وَقَالِ وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ شَرًّا ... وَأَضْنَى مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ وَذُقْتُ مَرَارَةَ الأَشْيَاءِ طُرًّا ... فَمَا شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ السُّؤَالِ قَالَ: فَحَكَمَ لَهُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَلاثِينَ أَلْفًا. عمر معجب بِمُعَاوِيَة حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي تِينَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خرج عُمَرُ يَسِيرُ فِي عَمَلِهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ دِمَشْقَ تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ فِي مَوْكِبٍ لَهُ رِزٌّ، وَعُمَرُ عَلَى حِمَارٍ إِلَى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن ابْن عَوْفٍ عَلَى حِمَارٍ آخَرَ، فَلَمْ يَرَهُمَا مُعَاوِيَةُ وَطَوَاهُمَا، فَقِيلَ لَهُ: خَلَّفْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَاءَكَ، فَرَجَعَ فَلَمَّا رَآهُ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ وَمَشَى حَتَّى عَلَّقَ نَفْسَهُ بِأَرْنَبَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَجْهَدَتَ الرَّجُلَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ أَأَنْتَ صَاحِبُ الْمَوْكِبِ آنِفًا مَعَ مَا يَبْلُغُنِي مِنْ طُولِ وُقُوفِ ذَوِي الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَعَمْ، فَرَفَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَوْتَهُ فَقَالَ: وَلِمَ وَيْلُكَ؟ فَقَالَ: إِنَّا فِي بِلادٍ لَا يَمْتَنِعُ فِيهَا مِنْ جَوَاسِيسِ الْعَدو، وَلَا بدلهم مِمَّا يُرْهِبُهُمْ مِنْ آلَةِ السُّلْطَانِ، فَإِن أَمرتنِي أَقمت عَلَيْهِ وَإِنِّي نَهَيْتَنِي عَنْهُ انْتَهَيْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ وَاللَّهِ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ أَكْرَهُهُ فَأُعَاتِبُكَ عَلَيْهِ إِلَّا تركنني مِنْهُ فِي أَضْيَقَ مِنْ رَوَاجِبِ الْفَرَسِ، فَإِنْ كَانَ مَا قُلْتَ حَقًّا إِنَّهُ لَرَأْيُ أَدِيبٍ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلا إِنَّهَا لَخَدْعَةُ أَرِيبٍ، لَا آمُرُكَ بِهِ وَلا أَنْهَاكَ عَنْهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لأَحْسَنَ الْفَتَى الْمَصْدَرَ فِيمَا أرودته فِيهِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لِحُسْنِ مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا جَشَّمْنَاهُ. تَوْلِيَة الْمُهلب خُرَاسَان حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاق الطَّلْحي قَالَ حَدثنَا أَحْمد ابْن مُعَاوِيَة قَالَ قَالَ ابْن الْكُوفِي: لما قدم الْمُهلب على الْحجَّاج بعد فَرَاغه من أَمر الْأزَارِقَة وقتالهم، أكْرمه الْحجَّاج وشرفه وَبلغ لَهُ الْغَايَة، قَالَ: فَخرج الْحجَّاج يَوْمًا أخذا بيد الْمُهلب، حَتَّى إِذا انْتهى إِلَى الْمِحْرَاب قالم ثُمّ قَالَ: يَا أَبَا سعيد أَنا أطول أم أَنْت؟ فَقَالَ: الْأَمِير أطول مني وَأَنا أشخص مِنْهُ، فَلَمَّا انْصَرف من صلَاته أَخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ مَعَه ثُمَّ قَالَ لَهُ: سجسنان خير ولَايَة أم خُرَاسَان؟ قَالَ: سجستان قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنَّهَا ثغر كابل وزابلستان، وان خُرَاسَان ثغر التّرْك، قَالَ أَيهمَا أحب إِلَيْك أَن يَلِيهِ رجل مثلك؟ قَالَ: إِن أمثالي فِي النَّاس لكثير وَمَا نَحن حَيْثُ يرى النَّاس، قَالَ: سر إِلَى سجستان، قَالَ: غَيْرِي خير لَك فِيهَا مني وَأَنا بخراسان خير لَك من غَيْرِي، قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَن بَدْء نعْمَة الله عَليّ بعد الْإِسْلَام كَانَ فِي غزوتي خُرَاسَان

مَعَ الْغِفَارِيّ، وَابْن أَبِي بكرَة بسجستان خير لَك من لِأَن أَهلهَا أحبوه لحسن أياديه فيهم وَأَنا بخراسان خير مِنْهُ، قَالَ: وَمَا كنت تلِي من أَمر الْغِفَارِيّ؟ قَالَ: كنت فِيمَن صَحبه فَلَمَّا نزلنَا بيهق ودنونا من عدونا قَالَ الْغِفَارِيّ: هَل من فوارس ينظرُونَ لنا أمامنا وَإِن أَصَابُوا أحدا أَتَوا بِهِ، فَانْتدبَ منا مَعَ صَاحب شرطته عشرَة فوارس فلقينا عدتنا من عدونا، فَقَالَ أَصْحَابِي: قد عاينا طلائع الْقَوْم فانصرفوا، فَقلت: وَمَا عَلَيْكُم أَن نشامهم؟ فَأَبَوا وَانْصَرفُوا وَتَقَدَّمت فَقتل الله الْعشْرَة على يَدي، ثُمَّ انصرفت برؤوسهم ودوابهم وأسلابهم معي، وَقد كَانَ أَصْحَابِي نعوني إِلَى الْغِفَارِيّ، فَلَمَّا رَآنِي ضحك وَقَالَ: كبا الْقَوْم عِنْد عيان الرِّهَان ... ونال الْمُهلب حَظّ الْفرس ففاز الْمُهلب بالمكرمات ... وآب عُمَيْر بِحَدّ التعس ثمَّ ولاني شرطته وَخرج إِلَيّ من أمره. فولاه الْحجَّاج خُرَاسَان، وَكَانَ وإليها حَتَّى هلك بهَا، فَقَالَ نَهَار بْن توسعة يرثيه: لله دركم غَدَاة دفنتم ... سم العداة ونائلاً لَا يحظر إِن تدفنوه فَإِن مثل بلائه ... فِي الْمُسلمين وَذكره لَا يقبر كَانَ المدافع دون بَيْضَة مصره ... والجابر الْعظم الَّذِي لَا يجْبر وَالْكَافِي الثغر الْمخوف بحزمه ... وبيمن طَائِره الَّذِي لَا يُنكر أَنى لَهَا مثل الْمُهلب بعده ... هَيْهَات هَيْهَات الجناب لأخضر كل امْرِئ ولي الرّعية بعده ... بدل لعمر أَبِيك مِنْهُ أَعور مَا ساسنا مثل الْمُهلب سائس ... أعفى عَن الذَّنب الَّذِي لَا يغْفر لَا لَا وأيمن فِي الحروب نقيبة ... مِنْهُ وَأَعْدل فِي النهاب وأوقر وَأَشد فِي حق الْعرَاق شكيمة ... يخْشَى بوادرها الإِمَام الْأَكْبَر جمع الْمُرُوءَة والسياسة التقى ... ومحاسن الأخرق مِنْهَا أَكثر تجْرِي لَهُ الطير الأيامن عمره ... وَلَو أَنه خمسين عَاما يخْطر لما رأى الْأَمر الْعَظِيم وَأَنه ... سيحل بالمصرين أَمر مُنكر وأرنت العوذ المطافل حوله ... حذر السباء وَزَل عَنْهَا المئزر ألْقى القناع وَسَار نَحْو عصابةٍ ... خزرٍ فذاقوا الْمَوْت وَهُوَ مشمر كَانَ الْمُهلب للعراق سكينَة ... وَولي حادثها الَّذِي يستنكر

أبو الديك المعتوه

أَبُو الديك الْمَعْتُوه حَدثنَا حَمْزَة بْن الْحُسَيْن بْن عمر السمسار قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْن عبد الرَّحِيم الْأنْصَارِيّ قَالَ حَدَّثَنِي أبي قَالَ قَالَ أَبُو نعيم: أرسل إِلَى عمرَان بْن إِسْحَاق بْن الصَّباح، وَكَانَ كثيرا مَا يُرْسل إِلَى الْفُقَهَاء، وَكَانَ أَبوهُ قبله يفعل ذَلِك، قَالَ: فَأَتَيْته فَإِذا أَبُو الديك وَكَانَ معتوهًا ذَاهِب الْعقل مختلا محتالا جيد البديهة حسن الْجَواب على بَاب عمرَان بْن إِسْحَاق يُخَاصم ويجلب يخْتَلط وَيُشِير إِلَى الْحَائِط كَأَنَّهُ يرى شَيْئا يخاصمه، وَكَانَ ذَلِك لَا يَعْتَرِيه إِلَّا عِنْد الْجُوع وَكَانَ قد عرف بذلك، وَكَانَ عَلَيْهِ أهل الْكُوفَة: فقهاؤها وأمراؤها، يأمرون بتفقد ذَلِك. فَدخلت على عمرَان فَلم أَجْلِس حَتَّى قلت لَهُ: أَيهَا الْأَمِير، أَبُو الديك على الْبَاب يُخَاصم ويخلط وَلَا أَحْسبهُ إِلَّا جائعًا، فَإِن ذَلِك يَعْتَرِيه مَعَ الْجُوع، فَقَالَ عمرَان: يَا غُلَام، الْمَائِدَة، بهَا مهيأة، ثُمَّ قَالَ: أَبُو الديك، فَدخل، فَلَمَّا عاين الْمَائِدَة وَرَأى حسنها قَالَ، قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه يَحْكِي مَسْأَلَة نبيه " رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا " الْمَائِدَة: 114 الْآيَة؛ وَهَذِه الْمَائِدَة لأوّل أهل الْكُوفَة وَآخرهمْ، وَالْآيَة معرفَة أَبِي نعيم بِمَا كنت فِيهِ؛ قَالَ أَبُو نعيم: ثُمَّ أقبل عَليّ فَقَالَ: يَا أَبَا نعيم هَذِه فطنة الْعُقَلَاء وأذهان الْفُقَهَاء وَاخْتِيَار الْعلمَاء، جَزَاك الله خيرا. ثُمَّ أقبل على عمرَان فَقَالَ: أَيهَا الْأَمِير، قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وأسيراً " الدَّهْر: 8 وَأَنا مِسْكين، يَتِيم من عَقْلِي، أَسِير فِي حبس شَيْطَان مُوكل بِي. فتيَان بني عبد منَاف وفتيان بني أَسد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن سهل بْن الْفَضْل الْكَاتِب قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ يَعْنِي عمر ابْن شَبَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ: أَدْخِلْ عَلَيَّ فِتْيَانَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَأَدْخَلَهُمْ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الدَّنَانِيرُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتُمْ: بَنُو الْمَجْدِ لَمْ تَقْعُدْ بِهِمْ أُمَّهَاتُهُمْ ... وَآبَاؤُهُمْ آبَاءُ صدقٍ فَأَنْجَبُوا هُمْ حَفِظُوا غَيْبِي كَمَا كُنْتُ حَافِظًا ... لَهُمْ غَيْبَ أُخْرَى مِثْلَهَا لَوْ تَغَيَّبُوا فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا أُدْخِلَ عَلَيْكَ فِتْيَانَ بَنِي أَسَدٍ قَالَ: فَأَدْخَلَهُمْ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْحَيَّاتِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَكَلْنَ حِمْضًا فَالْوُجُوهُ شِيبُ ... شَرِبْنَ حَتَّى نَزَحَ الْقَلِيبُ أَبُو الدَّرْدَاء ينظم شعرًا حَدثنَا أَحْمد بن الْعَبَّاس العسكري قَالَ حَدَّثَنَا ابْن أَبِي سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْن إِسْحَاق الْمسَيبِي قَالَ: سَمِعت شَيخا يُقَال لَهُ عبد الْملك بْن عمَارَة من ولد خُزَيْمَة بْن ثَابت ذِي الشَّهَادَتَيْنِ من الْأَنْصَار يحدث أَبِي أَن أَبَا الدَّرْدَاء قيل لَهُ كل أَصْحَابك قد قَالَ الشّعْر غَيْرك، فَنَكس أَو أطرق قَلِيلا ثُمَّ قَالَ:

لا تملأوا أعينكم من أئمة الجور

يُرِيد العَبْد أَن يُعْطي مناه ... ويأبى الله إِلَّا مَا أَرَادَا يَقُول العَبْد فائدتي وَمَالِي ... وتقوى الله أفضل مَا استفادا فَقَالُوا: لقد أَحْسَنت فزد، فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا قلت حِين قُلْتُمْ إِن أَصْحَابك كلهم قد قَالُوا، فَكرِهت أَن يعملوا عملا لَا أعمله، وَلَيْسَ الشّعْر من شأني. لَا تملأوا أعينكُم من أَئِمَّة الْجور حَدثنَا عبد الْبَاقِي بن قَانِع قَالَ حَدَّثَنَا عَبد اللَّه بْن عَليّ بْن الْحسن الْخَواص العابد قَالَ حَدَّثَنَا الْحسن بْن جرير الصُّورِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو الْعَسْقَلَانِي قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن أدهم عَن أَبِي عِيسَى الْمروزِي قَالَ: سَمِعت سعيد بْن الْمسيب يَقُول فِي إمرة عبد الْملك بْن مَرْوَان: لَا تملأوا أعينكُم من أَئِمَّة الْجور وَلَا من أعوانهم إِلَّا بإنكار بقلوبكم كَيْلا تحبط أَعمالكُم الصَّالِحَة. السفاح يعْمل بَيْتَيْنِ لتخويف بني أُميَّة حَدثنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن فهم قَالَ حَدَّثَنَا ابْن النطاح قَالَ: روينَا أَن السفاح عمل بَيْتَيْنِ وَوجه بِرَجُل إِلَى عَسْكَر مَرْوَان ليقوم على الْجَبَل لَيْلًا فَيَصِيح بهما وينغمس فَلَا يُوجد، وهما: يَا آل مَرْوَان إِن الله مهلككم ... ومبدل أمنكم خوفًا وتشريدا لَا عمر الله من أنسالكم أحدا ... وبثكم فِي بِلَاد الْخَوْف تطريدا قَالَ: فَفعل ذَلِك فَدخلت قُلُوبهم مَخَافَة. وَصِيَّة عَليّ لشريح حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْن زِيَاد الْمقري قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ شَبِيبٍ بِشَيْزَرَ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُوسَى الْبَصْرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ عَنِ الرَّمَّاحِ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّهْدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْن عليّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ لِشُرَيْحٍ: لسَانك عَبدك مالم تَتَكَلَّمْ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ فَأَنْتَ عَبْدُهُ، فَانْظُرْ مَا تَقْضِي وَفِيمَ تَقْضِي وَكَيْفَ تَقْضِي وَفِيمَا تَمْضِي وَإِلَيْهِ تُفْضِي. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا الَّذِي خَاطَبَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شُرَيْحًا مِنْ أَحْسِنِ الْكَلامِ، وَأَشْرَفِهِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَمَتَى تَأَمَّلَهُ مَنْ يَلِي الأَحْكَامَ وَاعْتَبَرَ بِهِ وَأَجْرَى أَمْرَهُ عَلَيْهِ فَازَ وَرَشِدَ، وَأَفْلَحَ وَسَعَدَ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقَهُ وَعِصْمَتَهُ بِرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ. الْمجْلس الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ أسئلة أَبِي ذَر للرسول حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ هَمَّامٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْقَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ السَّعْدِيُّ قَالَ

حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَاغْتَنَمْتُ خَلْوَتَهُ، فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً، قُلْتُ: مَا تَحِيَّتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَكْعَتَانِ، فَرَكَعْتُهُمَا ثُمَّ الْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاةِ فَمَا الصَّلاةُ؟ قَالَ: خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ، قُلْتُ: يَا رَسُول لله أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الإِيمَانُ بِاللَّهِ ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، قُلْتُ فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، قُلْتُ: فَأَيُّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَوف اللَّيْل العابر، قُلْتُ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ، قُلْتُ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ إِلَى فَقِيرٍ فِي سِرٍّ، قُلْتُ: فَمَا الصَّوْمُ؟ قَالَ: قَرْضٌ مَجْزِيٌّ وَعِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ، قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، قُلْتُ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَهُرِيقَ دَمُهُ، قُلْتُ: أَيُّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلا كحلقةٍ ملقاةٍ بِأَرْضِ فَلاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلَقَةِ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمِ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وأربعةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كم المُرْسَلُونَ مِنْهُم؟ قَالَ: ثَلَاثمِائَة وَثَلاثَةَ عَشَرَ، جَمُّ الْغَفِيرِ، قُلْتُ: مَنْ كَانَ أَوَّلَ الأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ: آدَمُ، قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مُرْسَلا؟ قَالَ: نَعَمْ نَبِيًّا مُكَلَّمًا خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أربعةٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَإِدْرِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ وَنُوحٌ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ آدَمُ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوَّلُ نَبِيٍّ مِنَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا، وَبَيْنَهُمَا أَلْفُ نَبِيٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ؟ قَالَ: مِائَةَ كتابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، أُنْزِلَ عَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِدْرِيسَ ثَلاثِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ عِشْرِينَ صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: أَمْثَالٌ كُلُّهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ، لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا أَنْ تَكُونَ لَهُ ثَلاثُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ وَيَتَفَكَّرُ بِمَا صَنَعَ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلالِ فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا لِتِلْكَ السَّاعَاتِ اسْتِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ وَتَفْرِيغًا لَهَا، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ، مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ، فَإِنَّ مَنْ حَسَبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِي مَا يَعْنِيهِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِثَلاثٍ: مَرَمَّةً لِمَعَاشٍ، أَوْ تَزَوُّدًا لِمَعَادٍ، أَوْ تَلَذُّذًا فِي

تعليق على خبر أبي ذر

غَيْرِ مُحَرَّمٍ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ: كَانَتْ عِبَرًا كُلَّهَا: عَجِبْتُ لممن أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَفْرَحُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ثُمَّ يَضْحَكُ، وَلِمَنْ يَرَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ثُمَّ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ، وَلِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الدُّنْيَا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى؟ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، تَقْرَأُ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى " الْأَعْلَى: 14 19 قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي قَالَ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ زَيْنٌ لأَمْرِكَ كُلِّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكِ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: قُلِ الْحَقَّ، وَإِنْ كَانَ مُرًّا، قُلْتُ؛ زِدْنِي، قَالَ: حِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لَا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لِيَحْجِزْكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ؛ وَلا تَجِدَّ عَلَيْهِمْ فِي مَا تَأْتِي. ثُمَّ قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَكُونَ فِيهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِي لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، ويؤذي جليسه فِي مَا لَا يُعينهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ. نَفْسِكَ؛ وَلا تَجِدَّ عَلَيْهِمْ فِي مَا تَأْتِي. ثُمَّ قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ تَكُونَ فِيهِ ثَلاثُ خِصَالٍ: أَنْ يَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا يَجْهَلُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَسْتَحْيِي لَهُمْ مِمَّا هُوَ فِيهِ، ويؤذي جليسه فِي مَا لَا يُعينهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ وَلا وَرَعَ كَالْكَفِّ وَلا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ. تَعْلِيق على خبر أَبِي ذَر قَالَ القَاضِي: فِي خبر أَبِي ذَر هَذَا أَنْوَاع من الحكم وفوائد من الْعلم والأنباء عَن الْأُمُور الخالية، وإخبار عَن الْأُمُور الْمَاضِيَة، وَفِيه اعتبارٌ لأولي البصائر والعقول، وتنبيه لِذَوي التَّمْيِيز والتحصيل، وَقد روينَا فِي كثير من فصوله رِوَايَات مُوَافقَة لألفاظه ومعانيه، وَآخر مضارعه لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْأَغْرَاض فِيهِ، وروينا فِي بعض فصوله رِوَايَات مُخْتَلفَة لظَاهِر مَا تضمنه إِلَّا أَنَّهَا إِذا تؤملت رجعت إِلَى التقارب إِذْ اقْتَضَت غَلطا من بعض الروَاة. فَأَما مَا ثَبت أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَه وَأخْبر بِهِ فَهُوَ الْحق الَّذِي لَا مرية فِيهِ وَلَا ريب فِي صِحَّته وَالْقطع على حَقِيقَة مغيبة. قَالَ القَاضِي: وَفِي خبر أَبِي ذَر مَا دلّ على أَن من الْأَنْبِيَاء من أُوتِيَ النُّبُوَّة وَأرْسل إِلَى طَائِفَة، وَمِنْهُم من كَانَ نَبيا غير مُرْسل إِلَى أحد. وَقد قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ " الْحَج: 52 وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ فِيهِ: " وَلَا مُحدث " وَقَالَ: " إِن مِنْكُم محدثين " وَذكر عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمن الدُّعَاء الْمُنْتَشِر الْمُسْتَعْمل الظَّاهِر على أَلْسِنَة خَاصَّة الْمُسلمين وعامتهم: اللَّهُمَّ صل على ملائكتك المقربين وعَلى أنبيائك وَالْمُرْسلِينَ، وَظَاهر هَذَا يَقْتَضِي الْفَصْل بَين الْفَرِيقَيْنِ، وَقد أحَال هَذَا بعض المنتسبين إِلَى علم الْكَلَام وَمن يَدعِي لَهُ فريق مفتون بِهِ مغرور بمخاريقه،

كلمة بليغة لعلي

وأحال أَيْضا أَن لَا يخْتَص أحد من الْأَنْبِيَاء بِشَيْء من الشَّرِيعَة مُجَدد على يَده مُخَالف فِي الصُّورَة لما أَتَى بِهِ من قبله، وَإِن يقْتَصر بِهِ فِي الدّلَالَة على صدقه وَصِحَّة نبوته بِخَبَر نَبِي من الْأَنْبِيَاء بذلك وتعيينه عَلَيْهِ تعيينًا لَا يشكل، وكل مَا أَحَالهُ من ذَلِك على غير مَا قدره، وَلَا حجَّة لَهُ فِي شَيْء مِمَّا أُتِي بِهِ من ذَلِك، وَلَا شُبْهَة توقع الْعذر لَهُ، إِذْ لم يكن السّمع وَلَا الْعقل يحيلانه، بل يدلان على جَوَازه ويشهدان بِصِحَّتِهِ، وَقد ثَبت الْخَبَر الصَّادِق بِهِ وَله فِي إعجاز الْقُرْآن وَصِحَّة شَهَادَته بِالصّدقِ للنَّبِي صلي الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنه لكَلَام يبعد من إِطْلَاق مثله من صحت فطرته وسلمت من التعصب والتحامل والغفلة والتجاهل طَرِيقَته، وَكَانَت استبعدت هَذَا حِين حُكيَ لي عَنْهُ إِذْ لم يكن عِنْدِي مِمَّن بلغ فِي الذّهاب عَن النّظر الصَّحِيح هَذَا الْحَد، إِلَى أَن رَأَيْته مثبتًا بِخَطِّهِ، وَقد حكيته على جِهَته فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه فِي غير مَوضِع، من ذَلِك كتَابنَا الْمُسَمّى الْبَيَان الموجز عَن علم الْقُرْآن المعجز، وَلَيْسَ كتَابنَا هَذَا من مَوَاضِع الْبَيَان عَن ذَلِك والاشتغال بحكايته وإيضاح القَوْل فِي وتبيين فَسَاده. وَقد قَالَ بعض أهل الْعلم: لَو سكت من لَا يعلم لاسترحنا، وَأَنا أَقُول: لَو كَانَ لَهُ دين يردعه، ويكفه ويمنعه، ويقبضه فيقدعه، فيسكته قهرا، ويصمته قسرًا، أَو كَانَ من يصرفهُ عَن شنيع الجهالات وبديع الضلالات بالتأديب والقصب والتثريب، والتبكيت والتأنيب، ولرجونا أَن يعفي النَّاس بذلك عَمَّا ينالهم من الضَّرَر أَو كثير مِنْهُ من جِهَته، وَإِلَى الله المشتكى وَهُوَ المتسعان على كل حَادِثَة وبلوى. كلمة بليغة لعَلي حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْجَمَّالُ سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَنْبِجِيُّ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِحَلَبَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَصَّافُ بْنُ صَالِحٍ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمُقْرِي النَّهْرَوَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زنْدَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مَنْصُورٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ الْبَجَلِيَّ قَالَ حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ الْمَنْبِجِيَّانِ، قَالا: حَدَّثَنَا الْوَصَّافُ بْنُ حَاتِمٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي وَقَالا جَمِيعًا: أَعْنِي الْحَرْبِيَّ وَابْنَ زندَوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ طَلِيقٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ: ذِمَّتِي رَهِينَةٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، لَا يَهِيجُ عَلَى التَّقْوَى زَرْعُ قومٍ وَلا يَظْمَأُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ، وَإِنَّ أَجْهَلَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ قَمَشَ عِلْمًا فِي أَغْمَارٍ مِنَ النَّاسِ غَشَوْهُ، أَغَارَ فِيهِ بأغبار الْفِتْنَة عمى عَمَّا فِي رَيْبِ الْهُدْنَةِ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ مَكَانَ الْهُدْنَةِ الْفِتْنَةُ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِمًا وَلَمْ يُغْنِ فِي الْعِلْمِ يَوْمًا سَالِمًا وَلَمْ يَقُلِ الْحَرْبِيُّ فِي الْعِلْمِ ذَكَرَ فَاسْتُكْثِرَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: وَمَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ، جَلَسَ لِلنَّاسِ مُفْتِيًا قَالَ الْحَرْبِيُّ: لِتَلْخِيصِ مَا لُبِّسَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ زندَوَيْهِ، وَقَالا: فَإِنْ نَزلَتْ بِهِ إِحْدَى

تفسير ما غمض في كلمة علي

الْمَهَمَّاتُ قَالَ الْحَرْبِيُّ: هَيَّأَ لَهَا حشواُ مِنْ رَأْيِهِ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ: هَيَّأَ حَشْوًا لِرَأْيٍ مِنْ رَأْيِهِ، فَهُوَ مِنْ قَطْعِ الْمُشْتَبِهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَدْرِي أَخْطَأَ أَمْ أَصَابَ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ مَكَانَ نَسْجٍ غَزْلٌ وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: خَبَّاطُ جَهَالاتٍ، رَكَّابُ عَمَايَاتٍ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ رَكَّابُ جَهَالاتٍ خَبَّاطُ عَشَوَاتٍ لَا يَعْتَذِرُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَسْلَمُ، وَلا يَعَضُّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمُ، تَبْكِي مِنْهُ الدُّنْيَا وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ مَكَانَ الدُّنْيَا الدِّمَاءُ وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ عِنْدِي؛ وَقَالا: وَتَصْرُخُ مِنْهُ الْمَوَارِيثُ، وَيُسْتَحَلُّ بِقَضَائِهِ الْفَرْجُ الْحَرَامُ، لَا مَلِيَ وَاللَّهِ وَلا أَهَلَّ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَلا هُوَ أَهَلَّ لِمَا فُرِضَ لَهُ وَقَالَ ابْنُ زندَوَيْهِ: لَا مَلِيَ وَاللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَلا هُوَ أَهَلَّ لِمَا قَرَظَ بِهِ، وَقَالَ الْحَرْبِيُّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ النِّيَاحَةُ أَيَّامَ الدُّنْيَا. قَالَ الْقَاضِي: وَأَنْهَى ابْنُ زندَوَيْهِ حَدِيثَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ لِمَا قَرَظَ بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ، وَأَتَى بِمَا رُوِّينَاهُ بَعْدَ هَذَا عَنِ الْحَرْبِيِّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ. تَفْسِير مَا غمض فِي كلمة عَليّ قَالَ القَاضِي: قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ نضر الله وَجهه " ذِمَّتِي رهينة وَأَنا بِهِ زعيم " إبانة عَن تيقنه مَا أخبر بِهِ وبصيرته فِيهِ وثقته بحقيقته وتوثيقه لمن أخبرهُ بِثُبُوتِهِ وَصِحَّته. وَأما قَوْله: وَأَنا بِهِ زعيم فَإِن الَّذِي ترجع إِلَيْهِ هَاء الضَّمِير فِي جملَة الْكَلَام وَمَعْنَاهُ وَمَا دلّ عَلَيْهِ مَفْهُومه وفحواه، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنا بِقَوْلِي زعيم وَإِن لم يَأْتِ بِصَرِيح اسْم خَاص وَلَا مصدر يعود الضَّمِير عَلَيْهِ أَصله وَذَلِكَ مُسْتَعْمل فصيح فَاش فِي الْعَرَبيَّة وَقد يَأْتِي فِي مثل هَذَا فعل أَو اسْم فَاعل يدل على مصدر يعود الضَّمِير إِلَيْهِ دون لفظ جملَة من كَلَام يحمل عَلَيْهِ، فَأَما الْفِعْل الدَّال على مصدره فكقولهم: من كذب كَانَ شَرّا لَهُ؛ أضمر فِي كَانَ الْكَذِب الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كذب وَعَاد الضَّمِير إِلَيْهِ وَإِن لم يَأْتِ على بنيته، قَالَ الله تَعَالَى: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ " آل عمرَان: 180 يَعْنِي الْبُخْل الَّذِي لم يَأْتِ على خَاص لَفظه اكْتِفَاء بِدلَالَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ يَبْخلُونَ عَلَيْهِ. وَأما اسْم الْفَاعِل فكقولهم: إِذا أحسن كَمَا أَمر فجازه عَلَيْهِ، يُرِيد على إحسانه الَّذِي دلّ أحسن عَلَيْهِ، وَرجع عَائِد الضَّمِير إِلَيْهِ، وَمثل هَذَا قَول الشَّاعِر: إِذا نهي السّفيِهُ جَرى إِلَيْهِ ... وخَالَف والسّفِيهُ إِلَى خلاف أَرَادَ إِلَى السَّفِيه، على مَا بَينا، وَقد يكتفون فِي هَذَا الْبَاب بِدلَالَة الْعَهْد وَالْحَال وتجلي الْأَمر الشَّائِع فِيهِ، قَالَ الله جلّ ذكره: " وَلَوْ يُؤَاخذ الله النَّاس بظلمهم مَا ترك عَلَيْهَا من دَابَّة " النَّحْل: 61 وَقَالَ تعالي: " وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ " فاطر: 45 فَأَعَادَ الضَّمِير على الأَرْض وَلم يجر لَهَا فِي هَذِه الْقِصَّة ذكر. وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ " الْقدر: 1 يَعْنِي الْقُرْآن، وَقَالَ: " حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ " ص: 32 يَعْنِي الشَّمْس فِي قَول جُمْهُور أهل الْعلم، قَالَ الشَّاعِر:

هَذَا مقَام قدمي رَبَاح ... غدْوَة حَتَّى دلكت براح يُرِيد الشَّمْس. وَقَالَ الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين " فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا " العاديات: 4، 5 يُرِيد الْوَادي أَو الْموضع أَو الْمَكَان أَو الْمنزل. وَهَذَا بَاب وَاسع وَله شرح لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه وَقد أَتَيْنَا مِنْهُ هَاهُنَا بِمَا يَكْفِي مَعَه بعضه بل هُوَ جَمِيعه. وَأما الزعيم فَإِنَّهُ الْكَفِيل، وَمِنْه قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الزعيم غَارِم. وَقَالَ جلّ ذكره: " وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ " يُوسُف: 72 وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ: " سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ " الْقَلَم: 40 وَيُقَال: فلَان زعيم الْقَوْم أَي الْقَائِم بأمورهم المتكفل بهَا. وَمِنْه مَا جَاءَ بِهِ الْأَثر فِي ذكر أَشْرَاط السَّاعَة: وَصَارَ زعيم الْقَوْم أرذلهم. قَالَ: الشَّاعِر: إِنِّي زعيم يَا نويقة إِن نجوت من الرواح وسلمت من غَرَض الحتو ... ف مَعَ الغدو إِلَى الرواح أَن تهبطين بِلَاد قو ... م يرتعون من الطلاح وَيُقَال أَيْضا فِي الزعيم ضمين وقبيل وحميل، من القبالة والحمالة، وصبير وتبيع كَمَا قَالَ الشَّاعِر: غدوا وغدت غزلانهم وَكَأَنَّهُم ... ضوامن غرم أزهن تبيع وَقد قيل فِي قَول الله جلّ ثَنَاؤُهُ: " أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا " الْإِسْرَاء: 92 إِنَّه بِمَعْنى الْقَبِيل أَي الْكَفِيل، وَقيل بل هُوَ من الْجَمَاعَة، وَقيل هُوَ من الْمُقَابلَة والمعاينة. وَاخْتلف فِي تَأْوِيل قَوْله عز وَجل: " أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا " الْكَهْف 55 وَقَوله تَعَالَى: " وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا " الْأَنْعَام: 111 على أَقْوَال مَعَ اخْتِلَاف الْقِرَاءَة فِي كسر الْقَاف وَفتح الْبَاء وَفِي ضمهما وَفِي الْجمع بَين الْمَوْضِعَيْنِ والتفريق بَينهمَا، وَهَذَا مشروح فِي كتبنَا الَّتِي الفناها فِي الْقرَاءَات والتأويل. وَقَوله: " لَا يهيج على التَّقْوَى " أَي يفْسد فَيصير هشيمًا، من قَول الله عز وَجل: " ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مصفراً " الزمر: 21، الْحَدِيد: 20. وَقَوله: سنخ أصل، يُقَال قلع سنه من سنخها، وَقَوله فِي الْخَبَر بأغبار الْفِتْنَة يَعْنِي بقاياها، وَيُقَال بفلان غبر من الْمَرَض أَي بقايا، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: فَإِن سَأَلت عني سليمي فَقل لَهَا ... بِهِ غبر من دائه وَهُوَ صَالح وَقَوله: حَتَّى إِذا ارتوى من آجن، الآجن: المَاء الْمُتَغَيّر لركوده وَطول وُقُوفه وَكَذَلِكَ الآسن، يُقَال: أسن المَاء يأسن ويأسن وأجن يأجن ويأجن، قَرَأَ ابْن كثير غير أسن، مَقْصُور الْهمزَة. وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: " فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ " الْبَقَرَة: 259 إِنَّه من السّنة أَي لم تُؤثر فِيهِ السنون فتحيله وتغيره، ووصلوا بِالْهَاءِ ووقفوا عَلَيْهَا إِذْ كَانَت فِيهِ أصلا، يَقُولُونَ: بِعته مسانهة ومساناة، فَجعل من قَرَأَ هَكَذَا الْهَاء لَام الْفِعْل

ما أحوجك إلى محدرج

وأصلا فِيهِ، وَأثبت الْهَاء فِيهِ آخَرُونَ زَائِدَة للسكت إِذا وقفُوا كَقَوْلِه أقتده، وكقولهم: ارمه وتعاله وحذفوها فِي الْوَصْل فَقَالُوا: يتسن وَأنْظر، وَزَعَمُوا أَنه من أسن المَاء. وَهَذَا التَّأْوِيل عندنَا غلط من متأوليه، وَذَهَاب عَن وَجه الصَّوَاب فِيهِ، وَلَو كَانَ على مَا توهموه لوَجَبَ أَن يُقَال لم يتأسن لِأَن الْهمزَة فِيهِ فَاء الْفِعْل. وَالسِّين عينه وَالنُّون لامه، وإشباع هَذَا فِي مَا ألفناه من حُرُوف الْقُرْآن مَعَانِيه. وَمن الآجن قَول عبيد بْن الأبرص. يَا رب مَاء آجنٍ وردته ... سَبيله خَائِف جديب ريش الْحمام على أرجائه ... للقلب من خَوفه وجيب وَقَوله: خباط عشوات يَعْنِي الظُّلم. وَهَذَا الْفَرِيق الَّذين وَصفهم أَمِير الْمُؤمنِينَ من الجهلة الأراذل السفلة قد كَثُرُوا فِي زَمَاننَا وغلبوا على أَهله واستعلوا على علمائه والربانيين فِيهِ، وَإِلَى الله المشتكي. وَقد تظاهرت الْأَخْبَار عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِن الله لَا يقبض انتزاعًا ينتزعه من النَّاس، وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء، حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم، اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا ". مَا أحوجك إِلَى محدرج حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا عبد الأول بْن مزِيد السَّعْدِيّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عدنان عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ ابْن عَيَّاش الْهَمدَانِي قَالَ: كَانَ الشّعبِيّ إِذا ابْتَدَأَ فِي حَدِيث أَحْبَبْت أَن لَا يقطعهُ من حسنه، قَالَ: فَإِنَّهُ ليتحدث يَوْمًا وَعِنْده خُنَيْس العلاك، قَالَ: فَقَامَ خُنَيْس فَقَالَ: مَا أبْغض إِلَيّ الْفَقِيه يكون جيد الْكَلَام، فَقَالَ الشّعبِيّ: من هَذَا؟ فَقَالُوا: خُنَيْس العلاك، قَالَ: وَمَا خُنَيْس؟ قَالَ: يَبِيع العلك، فَأقبل عَلَيْهِ وَقَالَ: وَيحك يَا خُنَيْس، مَا أحوجك إِلَى محدرج شَدِيد الإحصاد لين المهزة قد أَخذ من عجب ذَنْب عود إِلَى مغرز عُنُقه فَيُوضَع مِنْك على مثل ذَلِك الْموضع فتكثر لَهُ رقصاتك من غير جذل، قَالَ: مَا ذَاك؟ قَالَ: شَيْء لنا فِيهِ أرب وَلَك فِيهِ أدب. شرح الْغَرِيب قَالَ القَاضِي: قَوْله: محدرج أَي سَوط مُحكم جيد الفتل كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَخَاف زيادًا أَن يكون عطاؤه ... أداهيم سُودًا أَو محدرجة حمرًا وَقَوله: شَدِيد الإحصاد أَي قد أحكم وَاشْتَدَّ، يُقَال حَبل محصد أَي موثق. وَقَوله: لين المهزة يصفه بالتثني إِذا هز، كَمَا قَالَ الشَّاعِر يصف رمحًا: تقاك بكعب وَاحِد وتلذه ... يداك إِذا مَا هز بالكف يعسل وَأما قَوْله: قد أَخذ من عجب ذَنْب عود فَإِن الْعود الْبَعِير المسن، وَعجب الذَّنب أَصله، وَهُوَ العصعص، وَيُقَال لَهُ القحقح. وَرُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يبْلى من ابْن آدم كل شَيْء إِلَّا عجب الذَّنب فَإِنَّهُ مِنْهُ ركب وبدئ خلقه. وروينا عَن الشّعبِيّ هَذَا من طَرِيق

المجلس الثاني والثمانون

آخر أَنه قَالَ فِي صفة السَّوْط: يُؤْخَذ من صليف الْعُنُق إِلَى عجب الذَّنب، وصليف الْعُنُق صفحته، وَيُقَال: عجم الذَّنب فِي هَذَا بِالْمِيم، وَهَذَا مِمَّا تعاقبت فِيهِ الْبَاء وَالْمِيم كَمَا قَالُوا ركمة سوء وركبة، وضربة لازب ولازم، فِي حُرُوف كَثِيرَة، قَالَ الله تَعَالَى: " إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ " الصافات: 11 وَمن اللازب قَول نَابِغَة بني ذبيان: وَلَا يحسبون الْخَيْر لَا شَرّ بعده ... وَلَا يحسبون الشَّرّ ضَرْبَة لازب وَقَالَ كثير فِي الْمِيم:؟ وَمَا ورق الدُّنْيَا بباقٍ لأَهله وَمَا حدثان الدَّهْر ضَرْبَة لَازم وَفِي هَذَا لُغَة أُخْرَى وَهِي لاتب بِالتَّاءِ وَالْبَاء، وَهِي لُغَة فِي قيس، وَأنْشد الْفراء: صداع وتوهيم الْعِظَام وفترة ... وغثي مَعَ الأحشاء فِي الْجوف لاتب وَأما قَوْله: من غير جذل فالجذل الْفَرح، يُقَال قد جذل الرجل يجذل جذلا إِذا سر وَفَرح، فَأَما الجذل بالاسكان فَهُوَ الْعود المنتصب، وَفِيه لُغَتَانِ جذل وجذل، قَالَ ذُو الرمة: ترى ذكر الحرباء فِيهَا مُصَليا ... على الجذل إِلَّا أَنه لَا يكبر إِذا حول الظل الْعشي رَأَيْته ... حَنِيفا وَفِي قرن الضُّحَى يتنصر والحرباء دَابَّة يُقَال للْأُنْثَى مِنْهَا أم حبين، وَهُوَ يقف على الْعود مُسْتَقْبل الشَّمْس يَدُور مَعهَا حَيْثُ دارت، وَقد اخْتلف فِي عِلّة هَذَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: هَذِه دَابَّة مقرورة تتبع الشَّمْس لتستدفئ بهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: بل تستضر بالشمس فتتقيه برأسها لِأَنَّهُ أقوى مَا فِيهَا، وَالْقَوْل الأول أشبه الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي. وَقَوله: لنا فِيهَا أرب أَي حَاجَة، قَالَ ذُو الرمة: والهم عين أَثَال مَا ينازعه ... من نَفسه لسواها موردًا أرب قَالَ القَاضِي: وَإِنِّي لأستحسن قَول أَبِي نواس: كَمَا لَا يَنْقَضِي الأرب ... كَذَا لَا يفتر الطّلب وَهَذَا من أفْصح الْكَلَام وأوضحه وأعذبه، وَللَّه در السَّابِق إِلَى أصل هَذَا الْمَعْنى، الْقَائِل: تَمُوت مَعَ الْمَرْء حاجاته ... وَتبقى لَهُ حَاجَة مَا بَقِي قَالَ القَاضِي: وَقد روينَا عَن الشّعبِيّ من وَجه آخر أَنه أجَاب خنيسًا عَن قَوْله: مَا هَذَا؟ بِأَن قَالَ: بعض الْأَمر وَهَذَا جَوَاب حسن بليغ مُخْتَصر، وَإِن كَانَ كَمَا أَتَت بِهِ الرِّوَايَة موقعها من الْحسن والبلاغة. الْمجْلس الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ وَفد عِنْد ملك الرّوم يباحثهم وَيُرِيهمْ صور الْأَنْبِيَاء أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ، قَالَ حَدثنَا الْحسن ابْن عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّاءَ الْعَدَوِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ أَبُو بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدِينِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْكُوفِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْرٍ الأَنْصَارِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا نَقِيبًا، أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلامِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ، وَمَعِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ وَنُعَيْمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى جَبَلَةَ بْنِ الأَيْهَمِ دِمَشْقَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَى مَلِكِهِمْ بِهَا الرُّومِيِّ، فَإِذَا هُوَ عَلَى فَرْشٍ لَهُ مَعَ الأُسْقُفِّ، فَأَجْلَسَنَا وَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ وَسَأَلَنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ، فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ لَا نُكَلِّمُهُ بِرَسُولٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي كَلامِنَا حَاجَةٌ فَلْيُقَرِّبْنَا مِنْهُ، فَأَمَرَ بِسُلَّمٍ فَوُضِعَ وَنَزَلَ إِلَى فَرْشٍ لَهُ فِي الأَرْضِ فَقَرَّبْنَا، فَإِذَا هُوَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ سُودٌ مُسُوحٌ، فَقَالَ لَهُ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ: مَا هَذِهِ الْمُسُوحُ الَّتِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: لَبِسْتُهَا نَاذِرًا أَنْ لَا أَنْزِعَهَا حَتَّى أُخْرِجَكُمْ مِنَ الشَّامِ، فَقُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: وَذَكَرَ كَلامًا خَفِيَ عَلَيَّ مِنْ كِتَابِي مَعْنَاهُ: بَلْ نَمْلِكُ مَجْلِسَكَ وَبَعْدَهُ مُلْكَكُمُ الأَعْظَمَ فوَاللَّه لنأخذنه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِقُ الْبَارُّ، قَالَ: إِذًا أَنْتُمُ السّمرَاءُ، قُلْنَا: وَمَا السّمرَاءُ؟ قَالَ: لَسْتُمْ بِهَا، قُلْنَا: وَمَنْ هُمْ قَالَ: الَّذِينَ يَقُومُونَ اللَّيْلَ وَيَصُومُونَ النَّهَارَ، قَالَ فَقُلْنَا: نَحْنُ وَاللَّهِ هُمْ، قَالَ فَقَالَ: وَكَيْفَ صَوْمُكُمْ وَصَلاتُكُمْ وَحَالُكُمْ؟ فَوَصَفْنَا لَهُ أَمْرَنَا، فَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَرَاطَنَهُمْ وَقَالَ لَنَا: ارْتَفِعُوا، ثُمَّ عَلا وَجْهَهُ سَوَادٌ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ مَسَحٍ مِنْ شِدَّةِ سَوَادِهِ، وَبَعَثَ مَعَنَا رُسُلا إِلَى مَلِكِهِمُ الأَعْظَمِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَخَرَجْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَتِهِمْ، وَنَحْنُ عَلَى رَوَاحِلِنَا عَلَيْنَا الْعَمَائِمُ وَالسُّيُوفُ، فَقَالَ لَنَا الَّذِينَ مَعَنَا: إِنَّ دَوَابَّكُمْ هَذِهِ لَا تَدْخُلُ مَدِينَةَ الْمَلِكِ، فَإِنْ شِئْتُمْ جِئْنَاكُمْ بِبَرَاذِينَ وَبِغَالٍ، قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ لَا نَدْخُلُهَا إِلا عَلَى رَوَاحِلِنَا، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ يَسْتَأْذِنُونَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنْ خَلُّوا سَبِيلَهُمْ، فَدَخَلْنَا عَلَى رَوَاحِلِنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى غُرْفَةٍ مَفْتُوحَةِ الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِيهَا يَنْظُرُ، قَالَ: فَأَنَخْنَا تَحْتَهَا ثُمَّ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَعْلَمُ اللَّهُ لانْتَفَضَتْ حَتَّى كَأَنَّهَا نَخْلَةٌ تَصْفِقُهَا الرِّيحُ، فَبَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولا: إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَجْهَرُوا بِدِينِكُمْ فِي بِلادِنَا، وَأَمَرَ بِنَا فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مَعَ بَطَارِقَتِهِ، وَإِذَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ حُمْرٌ، وَإِذَا فَرْشُهُ وَمَا حَوَالَيْهِ أَحْمَرُ، وَإِذَا رَجُلٌ فَصِيحٌ بِالْعَرَبِيَّةِ يَكْتُبُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا فَجَلَسْنَا نَاحِيَتَهُ فَقَالَ لَنَا وَهُوَ يَضْحَكُ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُحَيُّونِي بِتَحِيَّتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟ فَقُلْنَا: نَرْغَبُ بِهَا عَنْكَ، وَأَمَّا تَحِيَّتُكَ الَّتِي لَا تَرْضَى إِلا بِهَا فَإِنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُحَيِّيَكَ بِهَا، قَالَ: وَمَا تَحِيَّتُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ؟ قُلْنَا: السَّلامُ، قَالَ: فَمَا كُنْتُمْ تُحَيُّونَ بِهِ نَبِيَّكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَا كَانَ تَحِيَّتُهُ هُوَ؟؟ قُلْنَا: بهَا، قَالَ: فَبِمَ تُحَيُّونَ مَلِكَكُمُ الْيَوْمَ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَبِمَ يُحَيِّيكُمْ؟ قُلْنَا: بِهَا، قَالَ: فَمَا كَانَ نَبِيُّكُمْ يَرِثُ مِنْكُمْ؟ قُلْنَا: مَا كَانَ يَرِثُ إِلا ذَا قَرَابَةٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَلِكُكُمُ الْيَوْمَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أَعْظَمُ كَلامِكُمْ عِنْدَكُمْ؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَ: فَيَعْلَمُ اللَّهُ لانْتَفَضَ حَتَّى كَأَنَّهُ طَيْرٌ ذُو رِيشٍ مِنْ حُسْنِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فِي وجوههنا، قَالَ فَقَالَ:

هَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي قُلْتُمُوهَا حِينَ نَزَلْتُمْ تَحْتَ غُرْفَتِي؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَذَلِكَ إِذَا قُلْتُمُوهَا فِي بُيُوتِكُمْ تَنَفَّضَتْ لَهَا سُقُوفُكُمْ؟ قُلْنَا: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَاهَا صَنَعَتْ هَذَا قَطُّ إِلا عِنْدَكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلا لأَمْرٍ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: مَا أَحْسَنَ الصِّدْقَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مَا أَمْلِكُ وَأَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَهَا عَلَى شَيْءٍ إِلا انْتَفَضَ لَهَا، قُلْنَا: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَيْسَرُ لِشَأْنِهَا وَأَحْرَى أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ حِيَلِ وَلَدِ آدَمَ، قَالَ: فَمَاذَا تَقُولُونَ إِذَا فَتَحْتُمُ الْمَدَائِن والحصون؟ قُلْنَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَيْسَ غَيْرَهُ شَيْءٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ وَتَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَرَاطَنَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: تَدْرُونَ مَا قُلْتُ لَهُمْ؟ قُلْتَ: مَا أَشَدَّ اخْتِلاطَهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ لَنَا بِمَنْزِلٍ وَأَجْرَى لَنَا نُزُلا فَأَقَمْنَا فِي مَنْزِلِنَا تَأْتِينَا أَلْطَافُهُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْنَا فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ لَيْلا وَحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَاسْتَعَادَنَا الْكَلامَ فَأَعَدْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَا بِشَيْءٍ كَهَيْئَةِ الرَّبْعَةِ ضَخْمَةٍ مُذَهَّبَةٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ فَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا بُيُوتٌ صِغَارٌ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ، فَفَتَحَ مِنْهَا بَيْتًا فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُ الأَلْيَتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُ طُولِ عُنُقِهِ فِي مِثْلِ جَسَدِهِ، أَكْثَرُ النَّاسِ شَعْرًا، فَقَالَ لَنَا: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا آدَمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ وَفَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فنشرها فَإذْ فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَشْعَرُ كَثِيرُ الشَّعْرِ قَالَ الْقَاضِي: أَرَاهُ قَالَ: ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ عَظِيمُ الْهَامَةِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي مَوْضِعِهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ، فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَارِعُ الأَنْفِ سَهْلُ الْخَدَّيْنِ أَشْيَبُ الرَّأْسِ أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ حَيٌّ يَتَنَفَّسُ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَيْنَا، فَقَالَ: بِدِينِكُمْ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ بِدِينِنَا إِنَّهَا صُورَتُهُ كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ حَيًّا، قَالَ: فَاسْتَخَفَّ حَتَّى قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ فَأَمْسَكَ طَوِيلا فَنَظَرَ فِي وُجُوهِنَا قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، فَأَعَادَهُ وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ جَعْدٍ أَبْيَضَ قَطَطٍ غَائِرِ الْعَيْنَيْنِ حَدِيدِ النَّظَرِ عَابِسٍ مُتَرَاكِبِ الأَسْنَانِ مُقَلَّصِ الشَّفَةِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَانِبِه صُورَةٌ شَبِيهَةٌ بِهِ رَجُلٌ مُدَوَّرُ الرَّأْسِ عَرِيضُ الْجَبِينِ بِعَيْنِهِ قَبَلٌ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا رجل شبه الْمَرْأَةَ ذُو عَجِيزَةٍ وَسَاقَيْنِ، وَسَأَلَ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَوْقَصُ قَصِيرُ الظَّهْرِ طَوِيلُ الرِّجْلَيْنِ عَلَى فَرَسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ جَنَاحٌ، فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ وَهَذِهِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فِيهِ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ شَابٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَعَادَهَا وَأَطْبَقَ الرَّبْعَةَ، قَالَ قُلْنَا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّةِ الصُّوَرِ مَا حَالُهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا تُشْبِهُ الَّذِينَ صُوِّرَتْ صُوَرُهُمْ فَإِنَّا رَأَيْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ صُورَتَهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ أَنْبِيَاءَ بَنِيهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُورَهُمْ فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو القرنين من خزانَة آدم فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَصَوَّرَهَا لَنَا دَانْيَالُ فِي خِرَقِ الْحَرِيرِ عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ فَهِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ نَفْسِي طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي فَتَابَعْتُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَأَنْ أَكُونَ عَبْدًا لأَسْوَئِكُمْ مَلَكَةً، وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَطِيبُ، فَأَجَازَنَا وَأَحْسَنَ جَوَائِزَنَا وَبَعَثَ مَعَنَا مَنْ يُخْرِجُنَا إِلَى مَأْمَنِنَا فَانْصَرَفْنَا إِلَى رحالنا. صِغَارٌ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ، فَفَتَحَ مِنْهَا بَيْتًا فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ حَمْرَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمُ الأَلْيَتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُ طُولِ عُنُقِهِ فِي مِثْلِ جَسَدِهِ، أَكْثَرُ النَّاسِ شَعْرًا، فَقَالَ لَنَا: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا آدَمُ صَلَّى الله عَلَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ وَفَتَحَ بَابًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ سَوْدَاءَ فنشرها فَإذْ فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَشْعَرُ كَثِيرُ الشَّعْرِ قَالَ الْقَاضِي: أَرَاهُ قَالَ: ضَخْمُ الْعَيْنَيْنِ بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ عَظِيمُ الْهَامَةِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي مَوْضِعِهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ، فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ شَدِيدَةُ الْبَيَاضِ، فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَارِعُ الأَنْفِ سَهْلُ الْخَدَّيْنِ أَشْيَبُ الرَّأْسِ أَبْيَضُ اللِّحْيَةِ كَأَنَّهُ حَيٌّ يَتَنَفَّسُ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: هَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَكَيْنَا، فَقَالَ: بِدِينِكُمْ أَنَّهُ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: نَعَمْ بِدِينِنَا إِنَّهَا صُورَتُهُ كَأَنَّمَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ حَيًّا، قَالَ: فَاسْتَخَفَّ حَتَّى قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ فَأَمْسَكَ طَوِيلا فَنَظَرَ فِي وُجُوهِنَا قَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ آخِرَ الْبُيُوتِ وَلَكِنِّي عَجَّلْتُهُ لأَنْظُرَ مَا عِنْدَكُمْ، فَأَعَادَهُ وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَإِذَا فِيهَا صُورَةُ رَجُلٍ جَعْدٍ أَبْيَضَ قَطَطٍ غَائِرِ الْعَيْنَيْنِ حَدِيدِ النَّظَرِ عَابِسٍ مُتَرَاكِبِ الأَسْنَانِ مُقَلَّصِ الشَّفَةِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى جَانِبِه صُورَةٌ شَبِيهَةٌ بِهِ رَجُلٌ مُدَوَّرُ الرَّأْسِ عَرِيضُ الْجَبِينِ بِعَيْنِهِ قَبَلٌ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ وَإِذَا رجل شبه الْمَرْأَةَ ذُو عَجِيزَةٍ وَسَاقَيْنِ، وَسَأَلَ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ:

تعليق القاضي على الخبر المتقدم

هَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ خِرْقَةَ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ أَوْقَصُ قَصِيرُ الظَّهْرِ طَوِيلُ الرِّجْلَيْنِ عَلَى فَرَسٍ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ جَنَاحٌ، فَقَالَ: تَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا سُلَيْمَانُ وَهَذِهِ الرِّيحُ تَحْمِلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ أَعَادَهَا وَفَتَحَ بَيْتًا آخَرَ فِيهِ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا صُورَةٌ بَيْضَاءُ، وَإِذَا رَجُلٌ شَابٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الْعَيْنَيْنِ شَدِيدُ سَوَادِ اللِّحْيَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأَعَادَهَا وَأَطْبَقَ الرَّبْعَةَ، قَالَ قُلْنَا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّةِ الصُّوَرِ مَا حَالُهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهَا تُشْبِهُ الَّذِينَ صُوِّرَتْ صُوَرُهُمْ فَإِنَّا رَأَيْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْبِهُ صُورَتَهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ أَنْبِيَاءَ بَنِيهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُورَهُمْ فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ خزانَة آدم فِي مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَصَوَّرَهَا لَنَا دَانْيَالُ فِي خِرَقِ الْحَرِيرِ عَلَى تِلْكَ الصُّوَرِ فَهِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ نَفْسِي طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي فَتَابَعْتُكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَأَنْ أَكُونَ عَبْدًا لأَسْوَئِكُمْ مَلَكَةً، وَلَكِنَّ نَفْسِي لَا تَطِيبُ، فَأَجَازَنَا وَأَحْسَنَ جَوَائِزَنَا وَبَعَثَ مَعَنَا مَنْ يُخْرِجُنَا إِلَى مَأْمَنِنَا فَانْصَرَفْنَا إِلَى رِحَالِنَا. تَعْلِيق القَاضِي على الْخَبَر الْمُتَقَدّم قَالَ القَاضِي: قد كُنَّا أمللنا هَذَا الْخَبَر من طَرِيق آخر، ومعاني الْخَبَرَيْنِ مُتَقَارِبَة، وَلما حَضَرنَا هَذَا الْخَبَر من هَذَا الطَّرِيق رسمناه هَاهُنَا، وَقد تضمن مَا يدل على صدق نَبينَا صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم وَصِحَّة نبوته على كَثْرَة الْأَخْبَار وَالرِّوَايَات فِيهِ وَشَهَادَة الْكتب السالفة مَعَ تأييد الله جلّ اسْمه إِيَّاه بِالْآيَاتِ الَّتِي أظهرها الله على يَدَيْهِ والأعلام الشاهدة لَهُ. وَفِي هَذَا الْخَبَر عِنْد ذكر دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَصفته بِأَنَّهُ ذُو عجيزة وَقد أنكر كثير من عُلَمَاء الْفِقْه أَن يُقَال فِي الرجل: ذُو عجيزة وَذكروا أَن هَذَا يُقَال فِي النِّسَاء خَاصَّة دون الرِّجَال، وَذكروا أَنه إِنَّمَا يُقَال عجز فلَان، وَقد رَأَيْت بعض أهل الْعلم قَالَ فِي صفة الصَّلَاة وَمَا يَنْبَغِي للْمُصَلِّي أَن يكون عَلَيْهِ فِي صلَاته: وَيرْفَع عجيزته وَلست أَدْرِي أَهَذا شَيْء وَقع إِلَيْهِ من جِهَة اللُّغَة أم ذكره لِأَنَّهُ وصف جملَة الْمُصَلِّين ذكورهم وإناثهم وَقد أَتَى فِي هَذَا الْخَبَر مَا وصفناه، وَالله أعلم بصواب ذَلِك. براعة الْعَجْفَاء الْمُغنيَة حَدثنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفضل الرياشي عَنْ مُحَمَّد بْن سَلام قَالَ: بَلغنِي عَن غرير بْن طَلْحَة الأرقمي قَالَ، قَالَ لي أَبُو السَّائِب، وَكَانَ من أهل الْفضل والنسك: هَل لَك فِي أحسن النَّاس غناء لَا تسأمه قلت: نعم، وَكَانَ عَليّ يَوْمئِذٍ طيلسان لي أُسَمِّيهِ من غلظه وَثقله مقطع الأزرار، قَالَ: فخرجنا حَتَّى جِئْنَا الْجَبانَة إِلَى دَار مُسلم بْن يحيى الْأَرَت صَاحب الْخمر مولى بني زهرَة فَأذن لنا فَدَخَلْنَا بَيْتا طوله اثْنَا عشر ذِرَاعا فِي مثلهَا، وَطول الْبَيْت فِي السَّمَاء سِتَّة عشر ذِرَاعا، وَفِي الْبَيْت نمرقتان قد ذهب عَنْهُمَا اللحمة وَبَقِي السدى، وَقد حشيتا بالليف، وكرسيان قد تفككا من قدمهما بَينهمَا ثَلَاث

تفسيرات وتوضيحات

وسائد، ثُمَّ طلعت علينا عَجُوز عجفاء كلفاء عَلَيْهَا قرقل هروي أصفر غسيل لم يجدد فِي الصَّبْغ، وَكَأن وركيها فِي خيط من رسحها فَقلت لأبي السَّائِب: بِأبي أَنْت من هَذِه؟ فَقَالَ: اسْكُتْ، فتناولت عودًا فَضربت ثُمَّ غنت: بيد الَّذِي شعف الْفُؤَاد بكم ... تفريج مَا ألْقى من الْهم فاستيقني أَنِّي كلفت بكم ... ثمَّ افعلي مَا شِئْت عَن علم قد كَانَ صرم فِي الْمَمَات لنا ... فعجلت قبل الْمَوْت بالصرم قَالَ: فتحسنت فِي عَيْني، فَتَلَاهَا نقاء وصفاء فَأذْهب الكلف عَنْهَا وزحف أَبُو السَّائِب وزحفت مَعَه، ثُمَّ تغنت: برح الخفاء فَأَي مَا بك تكْتم ... ولسوف يظْهر مَا تسر فَيعلم مِمَّا تضمن من غرير قلبه ... يَا قلب إِنَّك بالحسان لمغرم بل لَيْت أَنَّك يَا حسام بارضنا ... تلقي المراسي طَائِعا وتخيم فتذوق لَذَّة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخْوَانًا فَمَاذَا تنقم فَقَالَ أَبُو السَّائِب: إِن نقم هَذَا فأعضه الله بِكَذَا وَكَذَا من أمه، وَلَا يكني. وزحفت مَعَ أَبِي السَّائِب حَتَّى فارقنا النمرقتين، وربت الْعَجْفَاء فِي عَيْني كَمَا يَرْبُو السويق شيب بِمَاء قربةٍ. ثُمَّ غنت: يَا طول ليلِي أعالج السقما ... إِذا حل كل الْأَحِبَّة الحرما مَا كنت أخْشَى فراقكم ابدًا ... فاليوم أَمْسَى فراقكم غرما قَالَ غرير: فألقيت طيلساني مقطع الأزرار، وَأخذت شاذكونة فَوَضَعتهَا قَالَ القَاضِي: أَحْسبهُ قَالَ: على رَأْسِي وَصحت كَمَا يصاح فِي الْمَدِينَة: الدجر بالنوى، وَقَامَ أَبُو السَّائِب فَتَنَاول ربعَة كَانَت فِي الْبَيْت فِيهَا قَوَارِير ودهن فوضعها على رَأسه، وَصَاح صَاحب الْجَارِيَة وَكَانَ ألثغ: قوانيني قوانيني، وحرك أَبُو السَّائِب رَأسه فاصطكت الْقَوَارِير فتكسرت وسال الدّهن على صدر أَبِي السَّائِب وظهره وَقَالَ للعجفاء: لقد هجت لي دَاء قَدِيما، ثُمَّ وضع الربعة. فَكُنَّا نَخْتَلِف إِلَيْهَا حَتَّى بعث عبد الرَّحْمَن بْن مُعَاوِيَة بْن هِشَام بْن عبد الْملك من الأندلس فابتيعت لَهُ الْعَجْفَاء وحملت إِلَيْهِ. تفسيرات وتوضيحات قَالَ القَاضِي: قَول الأرقمي فِي هَذَا الْخَبَر اثْنَا عشر ذِرَاعا وَسِتَّة عشرَة ذِرَاعا على لُغَة من ذكر الذِّرَاع والتأنيث فِيهَا أظهر، وَإِن كَانَت اللغتان فِيهَا قد حكيتا. أنشدنا فِي التَّأْنِيث مُحَمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ أنشدنا أَبُو الْعَبَّاس عَنْ سَلَمَة عَنِ الْفراء: أرقى عَلَيْهَا وَهِي فرع أجمع ... وَهِي ثَلَاث أَذْرع وإصبع

وَحدثنَا ابْن الْأَنْبَارِي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَن مُحَمَّد بْن عبد الحكم عَن اللحياني قَالَ: الذِّرَاع والكراع يذكران ويؤنثان، قَالَ: وَلم يعرف الْأَصْمَعِي التَّذْكِير فيهمَا. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي وَحكى السجسْتانِي عَن أَبِي زيد أَنه قَالَ: الذِّرَاع يذكر وَيُؤَنث، وَقَوْلهمْ هَذَا ثوب سبع فِي ثَمَانِيَة، ذكرُوا ثَمَانِيَة وأنثوا سبعا لأَنهم أَرَادوا سبع أَذْرع فِي ثَمَانِيَة أشبار، والشبر مُذَكّر فَلذَلِك ألْحقُوا الْهَاء فِي ثَمَانِيَة. وَقَالَ الْفراء عِنْد ذكره تَأْنِيث الذِّرَاع: وَقد ذكر الذِّرَاع بعض عكل فَقَالَ: الثَّوْب خَمْسَة أَذْرع وَسِتَّة أَذْرع وَخمْس أَذْرع وست أَذْرع. وَقَوله: وَفِي الْبَيْت نمرقتان الْوَاحِدَة نمرقة بِضَم النُّون وَالرَّاء فِيمَا حكى اللغويون وَذكر الْفراء أَنه سمع بعض كلب يَقُول نمرقة بكسرهما وَتجمع نمارق وَهِي الوسائد والمرافق، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ " الغاشية: 15 وَمن هَذَا قَول امْرَأَة من بني عجل فِي يَوْم ذِي قار تَحض قَومهَا على قتال الْأَعَاجِم: إِن تقدمُوا نعانق ... ونفرش النمارق أَو تهزموا نفارق ... فِرَاق غير وامق وَقلت على نَحْو هَذَا هِنْد بنت عتبَة: نَحْنُ بناتُ طَارِقْ ... نَمْشِي على النمارق ونلبس اليلامق ... إِن تقبلُوا نعانق أَو تدبروا نفارق ... فِرَاق غير وامق وَمن النمارق قَول ذِي الرمة: كَانَ فُؤَادِي قلب جاني مخوفةٍ ... على النَّفس إِذْ يكسين وشي النمارق قَالَ القَاضِي: وَفِي تَسْمِيَة الوسادة مرفقة وَجْهَان: أَحدهمَا أَنه من الرِّفْق والارتفاق بالشَّيْء وَالِانْتِفَاع من مرافق الدَّار والأثاث، قَالَ الله عز ذكره " وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا " الْكَهْف: 16 وَقُرِئَ مرفقا. وَقَالُوا: قد ارتفق فلَان بِمَال فلَان وأرفقه صَاحبه، وَجَاء فِي مرفق الْيَد مَرْفِق وَمِرْفَق أَيْضا، تكسر الأدوات مثل مقطع ومخرز ومخيط، قَالَ أُميَّة بْن أَبِي الصَّلْت يُخَاطب سيف بْن ذِي يزن لما ظفر بِالْحَبَشَةِ وأجلاهم عَن الْيمن: فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التَّاج مرتفقا ... فِي رَأس غمدان دَارا مِنْك محلالا وَقيل لَهَا وسَادَة لتوسدها، قَالَ الْأَعْشَى: إِن كنت لَا تشفين غلَّة عاشق ... كلف بحبك يَا جبيرَة صادي فانهي خيالك أَن يزور فَإِنَّهُ ... فِي كل منزلةٍ يعود وِسَادِي وَقَالَ الْأسود بن يعفر: نَام الخلي وَمَا أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وِسَادِي

قد يُقَال فِي الوسادة إسادة فتبدل الْوَاو همزَة استثقالا لابتداء الْكَلِمَة بهَا كَمَا قَالُوا: إشاح ووشاح ووجوه وأجوه، وَحكى عَن الْعَرَب سَمَاعا: مَا أحسن هَذِه الأجوه، فِي كثير من الْكَلَام، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: يحل أحيده وَيُقَال بعل ... وَمثل تمولٍ مِنْهُ افتقار أَصله وحيده. وَهَذَا بَاب نأتي على شَرحه وتفصيله وَذكر جائزه وممتنعه وَمَا هُوَ مرسوم فِيهِ، وَقد قَرَأت عَامَّة القرأة " وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ " المرسلات: 11 وَهُوَ من الْوَقْت، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي وقتت بِالْوَاو وَالتَّخْفِيف، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو بِالْوَاو وقتت، عل الأَصْل أَيْضا، غلا أَنه شدده؛ وهم يكْرهُونَ كثيرا افْتِتَاح الْكَلَام بِالْوَاو، وخاصة إِذا تَكَرَّرت، وَقَالُوا إِن ذَلِك يشبه بنباح الْكلاب، وَقَالُوا فِي تَصْغِير وَاصل أَو يصل وَفِي جمعه أواصل فقلبوا الْوَاو همزَة، وَيَقُولُونَ حضر زيد وواصل فَلَا يقلبون لِأَن الْوَاو زيدت للْعَطْف كالفاء وَثمّ وَلَيْسَت من سنخ الْكَلَام فِي أَصْلهَا، وَيُقَال فلَان يتوسد الْقُرْآن وَهَذَا يكون مدحًا بِمَعْنى يَجعله وسَادَة أَي يتلوه مَكَان توسده إِيَّاه، وَيكون ذمًا أَي ينَام عَن الْقيام بِهِ وتأدية الْحق فِيهِ. وَجَاء عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي رجل ذكر عِنْده: " ذَاك رجل لَا يتوسد الْقُرْآن ". وَرُوِيَ عَن عدي بْن حَاتِم أَنه ذكر للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه جعل تَحت وساده خيطين أسود وأبيض فَلم يبن لَهُ بذلك أَمر الْفجْر، فَقَالَ لَهُ: إِنَّك لَعَرِيض الوسادة، ويروى عَنْهُ أَنه قَالَ لَعَرِيض الْقَفَا، إِنَّمَا هُوَ بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل. فَأَما اشتقاق اسْم المرفقة من الْمرْفق فَهُوَ بَاب مَعْرُوف مُسْتَمر، أَلا ترى أَنهم يَقُولُونَ مخدة من الخد لِأَنَّهُ يوضع عِنْد الِاضْطِجَاع عَلَيْهَا، وَيَقُولُونَ مصدغة من الصدغ، وَقد يَقُولُونَ مزدغة فيبدلون من الصَّاد زايا لسكونها وإتيان الدَّال تالية لَهَا، وَهَذِه لُغَة مَعْرُوفَة فِي الْعَرَبيَّة، وَقد قَرَأَ بعض القرأة بهَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن كَقَوْلِه يصدر ويصدقون وَقصد السَّبِيل. وَقَوله: قد ذهبت عَنْهَا اللحمة وَبَقِي السدى، فاللحمة لحْمَة الثَّوْب والسدى سداه، وَاللَّام هَاهُنَا مَفْتُوحَة، فَأَما لحْمَة النّسَب فمضمومة وَكَذَلِكَ لحْمَة الْبَازِي والصقر وَهُوَ مَا أطْعمهُ إِذا صَاد. وَقَوله: من رسحها فَإِنَّهُ يُقَال مِنْهُ: امْرَأَة رسحاء وَرجل أرسح إِذا كَانَ مؤخرهما من الْعَجز وَمَا وَالَاهُ عَارِيا من اللَّحْم. وَقَول غرير: وَأخذت شاذكونة مَعْنَاهُ وسَادَة، وَهِي عِنْدِي فِي الأَصْل فارسية تكلم بهَا من تكلم من الْعَرَب، وَهِي مُشْتَقَّة من مَوضِع الْجُلُوس وَيُقَال لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ كَون وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي بَينا الِاشْتِقَاق فِيهِ كالمصدغة والمخدة. وَقد فسر أَبُو عُبَيْدَة الزرابي فِي قَول الله جلّ ثَنَاؤُهُ: " وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ " الغاشية: 16 فَقَالَ: هِيَ الْبسط كَمَا قَالَ غَيره من أهل التَّأْوِيل والعربية، ثُمَّ قَالَ: وَاحِدهَا زربية ثُمَّ قَالَ: والزرابي فِي لُغَة أُخْرَى الشواذكين وأتى بِهِ على هَذَا اللَّفْظ فِي الْجمع. وَقَوله: الدجر بالنوى حكى بذلك نِدَاء من يطوف بالدجر من باعته ويعرض بَيْعه بالنوى، كَأَنَّهُ يَقُول اشْتَروا الدجر بالنوى أَو يَعْنِي الدجر يُبَاع بالنوى،

ما بال العرب تطيل كلامها وأنتم تقصرونه

والدجر من أَسمَاء اللوبيا، وَله أَسمَاء ذَوَات عدد: اللوبياء واللوبيا بِالْمدِّ وَالْقصر، وليا الْوَاحِدَة لياءة، وَيُقَال لِلْجَارِيَةِ المستحسنة كَأَنَّهَا لياءة مقشورة، وَرُوِيَ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: دخلت على مُعَاوِيَة وَفِي يَده لياء مقشو أَي مقشور وَيُقَال لَهُ اللويباج والأحبل والحبيل والدجر. مَا بَال الْعَرَب تطيل كَلَامهَا وَأَنْتُم تقصرونه حَدَّثَنَا يَزْدَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى يَعْنِي تينة قَالَ حَدَّثَنَا الْعُتْبِي عَن أَبِيه عَن أَبِي خَالِد عَن أَبِيه قَالَ: وَفد مُحَمَّد بْن عُطَارِد بْن مُحَمَّد إِلَى الْحجَّاج فِي نَيف وَسبعين رَاكِبًا فاستزارهم عَمْرو بْن عتبَة فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَان مَا بَال الْعَرَب تطيل كَلَامهَا وتقصرونه معاشر قُرَيْش؟ فَقَالَ عَمْرو: بالجندل يرْمى الجندل، إِن كلامنا كَلَام يقل لَفظه وَيكثر مَعْنَاهُ ويكتفي بأولاه ويشتفى بأخراه، ويتحدر تحدر المَاء الزلَال على الكبد الحرى، وَلَقَد نقص كَمَا نقص غَيره بعد أَقوام وَالله أدركتهم كَأَنَّمَا جعلُوا لتحسين مَا قبحت الدُّنْيَا، سهلت لَهُم ألفاظهم كَا سهلت لَهُم أنفاسهم، فصانوا أعراضهم وابتذلوا أَمْوَالهم حَتَّى مَا يجد المادح فيهم مزيدًا، وَلَا العائب فيهم مطعنًا، فَلَو احتفلت الدُّنْيَا مَا تزينت إِلَّا بهم، وَلَو نطقت مَا افتخرت إِلَّا بفعالهم، وَلَقَد كَانَ آل أَبِي سُفْيَان مَعَ قلتهم كثيرا مِنْهُ نصِيبهم، وَللَّه در مَوْلَاهُم حَيْثُ يَقُول: وضع الدَّهْر فيهم شفرتيه ... فَمضى سالما وأضحوا شعوبًا شفرتان وَالله وضعتا على من كَانَ قبلهم فأفنت أبدانهم وأبقت أخبارهم، فأبقت حسنا فِي الدُّنْيَا ثَوَابه، وسيئًا فِي الدُّنْيَا عِقَابه وَفِي الْآخِرَة أَسْوَأ. قَالَ القَاضِي: قَول عَمْرو بْن عتبَة فِي هَذَا الْخَبَر من أبلغ كَلَام وَأحسنه وَكَانَ قَوْله: فأفنت أبدانهم وأبقت أخبارهم مَأْخُوذ من قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خبر كميل بْن زِيَاد النَّخعِيّ وَقد ذكر الْعلمَاء وفضله على المَال وشرفه: مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. على أَن فضل كَلَام أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام وجزالته وبهاءه وطلاوته وَظُهُور تقدمه ومزيته بَيّن، وَأَن كَانَ هَذَا وَقع لعَمْرو، لقد امتار علمه من مَعْدن الحكم، واقتبس شرِيف الْفَائِدَة من الإِمَام الرباني العَلَم. /الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ حَدِيثُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقوم خيرا حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عَامِرٍ السَّعْدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَبُو يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ السَّبِيعِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الأَفْرِيقِيِّ عَنْ حَيَّانَ بْنِ أَبِي

أول من قال برح الخفاء

جَبَلَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ خَيْرًا أَكْثَرَ فُقَهَاءَهُمْ وقلَّل جُهَّالَهُمْ، حَتَّى إِذَا تكلَّم الْعَالِمُ وَجَدَ أَعْوَانًا، وَإِذَا تكلَّم الْجَاهِلُ قُهِرَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا كَثَّرَ جُهَّالَهُمْ، وَقَلَّلَ فُقَهَاءَهُمْ، حَتَّى إِذَا تكلَّم الْجَاهِلُ وَجَدَ أَعْوَانًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ الْفَقِيهُ قُهِرَ ". قَالَ الْقَاضِي: قَدْ وَرَدَ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظِيرُ مَا أَتَى بِهِ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طرقٍ كَثِيرَةٍ بألفاظٍ مختلفةٍ فِي صُوَرِهَا مُتَّفِقَةٍ فِي مَعَانِيهَا، وممَّا رُوِيَ عَنْهُ صلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَابِ إِخْبَارُهُ أنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَقَدْ فَشَا هَذَا الأَمْرُ الْمُنْكَرُ الْمَذْمُومُ فِي زَمَانِنَا وَصَارَ الْجَاهِلُ فِيهِ مقدَّماً مَتْبُوعًا، وَالْعَالِمُ الْمُتَقَدِّمُ فِي عِلْمِهِ مقصيّاً حتّى يتسرَّع إِلَى الْفُتْيَا فِي الدِّينِ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَمْ يُعْنَ بِدِرَاسَةِ الْفِقْهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ بِمُجَالَسَةِ أَهْلِهِ، وَلا مُجَاثَاةِ الْخُصُومِ فِيمَا اخْتلف أيمة الْفِقْهِ فِيهِ، وَمُنَاظَرَتِهِمْ وَمُجَارَاتِهِمْ وَمُذَاكَرَتِهِمْ. وَسَالَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ المضلَّلة الْمُحْتَقَرَةُ الْمُسْتَرْذَلَةُ بَعْضَ مَنْ قَدِ اشْتُهِرَ طَلَبُهُ لِلْعِلْمِ وَمُذَاكَرَتُهُ وَاشْتِغَالُهُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَاتِّفَاقُ أَصْحَابٍ لَهُ يَأْخُذُونَ عَنهُ ويرجعون إِلَى تَلْخِيصِهِ الْمُشْكِلِ مِنْهُ لاخْتِلاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمُعَاشَرَتُهُمْ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَمُمَالأَةُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يُؤْثِرُهُ، وَوُقُوفُ كلِّ حزبٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا يَرْغَبُ عَنْهُ ذُو الدِّينِ وَيُنْكِرُهُ، فَصَارُوا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي قَالَ فِي أَهْلِهِ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: افْتَضَحُوا فَاصْطَلَحُوا، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:؟؟؟؟؟؟؟؟ ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ وَالْمُنْكِرُونَ لكلَّ أمرٍ مُنْكَرِ وَبَقِيتُ فِي خلفٍ يزيِّن بَعْضُهُمْ ... بَعْضًا لِيَدْفَعَ مُعْوِرٌ عَنْ مُعْوِرِ وَلَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ رَجُلا اسْتَفْتَى بَعْضَ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي شيءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خصمٍ لَهُ، فَأَفْتَاهُ بِمَا فِيهِ حجَّةٌ لَهُ فِيمَا استفتاء عَنهُ، وَإِنْكَارا عَلَى خَصْمِهِ مَا حَاوَلَ مُنَازَعَتَهُ فِيهِ، فَلَمَّا ولَّى لَقِيَهُ بَعْضُ أَنْسِبَاءِ الْخَصْمِ الْمُسْتَفْتَى عَلَيْهِ فَأَخَذَ صَحِيفَةَ الْفُتْيَا مِنْ يَدِهِ وَأَخْبَرَ الْمُفْتِي أَن ذَلِك أستفتاه المستفتي فِيهِ شيءٌ همَّ الْخُصُومُ فِيهِ، وَمَا أَفْتَى بِهِ ممَّا يَكْرَهُونَهُ ويستضرُّون بِهِ، فَارْتَجَعَ الْفُتْيَا مِنْ صَاحِبِهَا، وَأَلْحَقَ بِهَا مَا عَادَ عَلَى فُتْيَاهُ الأُولَى فَنَقَضَهَا وَقَلبَهَا عَنْ جِهَتِهَا. وَلَنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ كلامٌ قَدْ أَثْبَتُّهُ وَوَصَلْتُهُ بِأَبْيَاتٍ حَضَرَتْنِي، وَأَوْدَعْتُ ذَلِكَ كِتَابِي المسمَّى " تَذْكِيرُ الْعَاقِلِينَ وَتَحْذِيرُ الْغَافِلِينَ " وَالأَبْيَاتُ: تَسَالَمُ الْقَوْمَ لَمَّا ... عَادُوا دُعَاةَ السَّلامه تَفَاسُدُوا ثُمَّ أَبْدَوْا ... صُلْحًا بِغَيْرِ اسْتِقَامَهْ والصُّلح مَا لَمْ يُهَذِّبْ ... عداوةٌ مُسْتَدَامَهْ وكلُّ ودٍّ سقيمٍ ... فَمُنْتَهَاهُ النَّدَامَةْ أول من قَالَ برح الخفاء حدَّثنا مُحَمَّدُ بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبرنِي عمي عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ

سطيح الكاهن

أول من قَالَ: " برح الخفاء " أَن رجلا من كِنْدَة يُقالُ لَهُ صدّاد بن أَسمَاء، وَأَسْمَاء أمُّه، وَهِي امْرَأَة من بني الْحَارِث بن كَعْب، وَكَانَت تَحت صدّاد امرأةٌ من قومه كنديةٌ وَامْرَأَة من بني الْحَارِث، وَكَانَ لَهُ من ابْنة عمّه أَرْبَعَة رجالٍ وَلم يكن لَهُ من الحارثية ولد، فَوَقع على جَارِيَة سَوْدَاء فأحْبَلَها، فلمّا تبيَّن حملهَا خَافَ امْرَأَته، فأنكرَ ذَلِكَ فِي العلانيَّة وأقرَّ بِهِ فِي السِّرّ، وسمَّاه ثَعْلَبَة، وَأشْهد امْرَأَته الحارثيَّة وأخًا لَهُ أَن ثَعْلَبَة ابْنه. فلمّا مَاتَ صدّاد أخْبرت السَّوْدَاء ابْنهَا أَنَّهُ من صدّاد، فَخرج الْغُلَام حتَّى أَتَى ملكا من مُلُوك الْيمن، فَذكر لَهُ أمره وأتاهُ بِعَمِّهِ وَامْرَأَة أَبِيه فشهدا، فَقَالَت الكندية: إنّما شَهدا للعداوة، فَبعث الْملك إِلَى سطيح الكاهن وخبأ لَهُ دِينَارا؟ ً بَين قدمه وَنَعله، فلمّا دخل إِلَيْهِ قَالَ: إِنِّي قد خبأتُ لكَ شَيْئا فَأَخْبرنِي بِهِ، فَقَالَ سطيح أحلفُ بِالْبَلَدِ المحرَّم، وَالْحجر الْأَصَم، وَاللَّيْل إِذا أظلم، وَالنَّهَار إِذا تَبَسم، وَبِكُل فصيحٍ وأعجم، لقد خَبأت دِينَارا بَين نعلٍ وَقدم؛ قَالَ: فَأَخْبرنِي مَعَ من هُوَ. قَالَ: أَحْلف بالشهر الْحَرَام، وَبِاللَّهِ مُحْيي الْعِظَام، وبِما خلق من النسام، إِنَّه لتَحْت قدم الْملك الْهُمَام؛ قَالَ: فَأَخْبرنِي بِم أرْسلت إِلَيْك، قَالَ: أرْسلت إليّ تَسْأَلنِي عَن ابْن السَّوْدَاء، وَمن أَبوهُ من الْآبَاء، وَقد بَرَح الخفاء، وَهُوَ أول من قَالَه، وَأَبوهُ صدّاد بن أَسمَاء، لَا شكّ فِيهِ ولامراء، فألحقه الْملك بِأَبِيهِ وَورثه. قَالَ الْملك: يَا سطيح أَلا تُخبرنِي عَن علمك هَذَا؟ قَالَ: إنّ علمي لَيْسَ منّي، وَلَا بجزمٍ وَلَا تَظَنِّي، وَلَكِن أخذتُه من أخٍ لي جنّي، قد سمع الْوَحْي بطور سَنّي. قَالَ الْملك: أَرَأَيْت أَخَاك هَذَا الجنّي، أهوَ مَعَك لَا يُفارقك؟ قَالَ: إِنَّه ليزول حَيْثُ أزول، وَلَا أنطقُ إلاّبما يَقُول، قَالَ لَهُ الْملك: فَهَل عنْدك من خبرٍ بِمَا يكون تخبرنا بِهِ؟ قَالَ: نعم، عِنْدِي خبرٌ طريف، شهركم هَذَا خريف، والقمرُ فِيهِ كسيف، وَيَأْتِي غَدا سحابٌ كثيفٌ، فَيمْلَأ البَرَّ والريف، فَكَانَ كَمَا قَالَ. سطيح الكاهن قَالَ القَاضِي: أَخْبَار سطيح كَثِيرَة، وَقد جمعهَا غيرُ واحدٍ من أهل الْعلم، وَكَذَلِكَ أَخْبَار غَيره من الْكُهَّان. وَالْمَشْهُور من أَمر سطيح أَنَّهُ كَانَ كَاهِنًا، وَقد أخبر عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَن نَعْتِهِ ومبعثه بأخبارٍ كَثِيرَة، وَقد رُوِيَ أَنَّهُ عَاشَ سَبْعمِائة سنة وأدركَ الْإِسْلَام فَلم يُسْلِم، وَرُوِيَ أَنَّهُ هلك عِنْدَمَا وُلِدَ النبيُّ عَلَيْهِ السَّلام وَأخْبر بذلك ابْن أُخْته عبد الْمَسِيح بن حَيَّان بن بُقَيلة، وَقد أوفده إِلَيْهِ كسْرَى أنوشروان لارتياعه من أمورٍ ظَهرت عِنْد مولد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأمره أَن يسْأَل خَاله سطيحًا عَنْهَا ويستعلم مِنْهُ تَأْوِيلهَا، وَذكر عبد الْمَسِيح أَنَّهُ أنبأه بذلك، ونعى إِلَيْهِ نَفسه ثُمَّ قضى مَكَانَهُ. وَرُوِيَ لَنَا مِنْ بَعْضِ الطُّرُقِ باسنادٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ أَنَّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ سَطِيحٍ فَقَالَ: نبيٌّ ضيَّعه قَوْمُهُ، وَهُوَ مشهورٌ عِنْد الْعَرَب يذكرُونَ سَجْعَهُ وكهانته، ويضربون الْمثل بِعِلْمِهِ وَصدقه فِيمَا يخبر بِهِ. وَقد قَالَ الْأَعْشَى يذكرُ زَرْقَاء الْيَمَامَة لَمَّا أخْبرت أهل الْيَمَامَة

الثياب لا ترفع مكانة لابسها

برؤيتها مَا رَأَتْ من مكانٍ بعيد لَمْ يُعلَم آدميُّ أدْرك مرئيًا من مثل مداه، فَلم يصدّقوها، فَأَتَاهُم الْعَدو الَّذِي أنذرتهم بِهِ فاستباحهم وَخرب دِيَارهمْ: مَا نظرت ذَات أشفارٍ كنظرتِها ... حقًّا كَمَا صَدَقَ الذّئبيُّ إِذْ سجعا قَالَت أرى رجلا فِي كفّه كتفٌ ... أَو يخصفُ النعلَ لهفي أَيَّة صنعا فكذَّبوها بِما قَالَت فصبَّحهم ... ذُو آل حسَّان يُزجي الْمَوْت والشِّرعا فاستنزلوا أهلَ جو من منازلِهم ... واستخفضوا شاخصَ الْبُنيان فاتضعا قَوْله: " الذّئبي " يَعْنِي سطيحًا لِأَنَّهُ من ولد ذِئْب بن حجن، وبسطيحٍ الذئبي كَانَ يُعْرَف، وَقد قَالَ لَهُ عبد الْمَسِيح بن أُخْته حِين وَفد عَلَيْهِ من عِنْد كسْرَى: بافاصل الخطَّة أعيَتْ مَنْ وَمَنْ أتاكَ شيخُ الحيِّ من آل سَنَنْ وأمّه من آلِ ذِئْب بن حَجَنْ وَلكُل فصل مِمَّا ذكرنَا أَخْبَار وأنباء وقصص تَأتي فِي أماكنها، إِن شَاءَ الله. الثِّيَابُ لَا تَرْفَعُ مَكَانَةَ لابِسِهَا حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ، قَالَ حدَّثنا أَبُو سَعِيدٍ الْحَارِثِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا العتبيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عبد الْملك على سالمٍ ثيابٌ غَلِيظَةٌ رَثَّةٌ، فَلَمْ يَزَلْ سُلَيْمَانُ يرحِّب بِهِ وَيَرْفَعُهُ حَتَّى أَقْعَدَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ: أَمَا اسْتَطَاعَ خَالُكَ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابًا فَاخِرَةً أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ وَيَدْخُلَ فِيهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ وَعَلَى الْمُتَكَلِّمِ ثيابٌ سريَّةٌ لَهَا قِيمَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا رَأَيْتُ هَذِهِ الثِّيَابَ الَّتِي عَلَى خَالِي وَضَعَتْهُ فِي مَكَانِكَ هَذَا، وَلا رَأَيْتُ ثِيَابَكَ هَذِهِ رَفَعَتْكَ إِلَى مَكَانِ خَالِي ذَاكَ. قَالَ القَاضِي: لقد أحسن عمر فِي جَوَابه، وأجادَ فِي الذبِّ عَن خَاله، وَقد أنشدنا ابْن دُرَيْد فِي خبر ذكرته فِي غير هَذَا الْموضع لبَعض الْأَعْرَاب: يُغايظونا بقمصانٍ لَهُم جددٍ ... كأننا لَا نرى فِي السُّوق قمصانا لَيْسَ القميصُ وَإِن جدَّدت رقعته ... بجاعلٍ رجلا إِلَّا كَمَا كَانَا وأنشدنا أَيْضا لأعرابي قصد بَاب بعض الْمُلُوك فحجبه الآذان وَجعل يستأذنُ لغيره مِمَّن لَهُ بزَّة: رأيتُ آذننا يستامُ بزّتنا ... وَلَيْسَ للحَسَبِ الزّاكي بمُستامِ فَلَو دُعينا على الأحسابِ قدَّمنا ... مجدٌ تليدٌ وجدٌ راجحٌ نامِ وَلَقَد أحسن الَّذي قَالَ: قد يُدرك الشَّرف الْفَتى وإزارُهُ ... خلقٌ وجيبُ قَمِيصه مرقوع

ولد عتبة بن مسعود

وَمَا أَتَى فِي هَذَا الْمَعْنى من مُرْسل الْكَلَام وموزونه كثيرٌ جدا، وَقد يَأْتِي كَثِير مِنْهُ فِي مجالسنا. ولد عتبَة بن مَسْعُود حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى الْخُتَّلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى السَّاجيّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نَوْفَل الْهُذلِيّ عَن أَبِيه قَالَ: ولَد عتبةُ بن مسعودٍ عبد الله وَكَانَ واليًا لعمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فولد عبد الله: عبيد اللَّه وعونًا وَعبد الرَّحْمَن، فأمّا عبيد الله فَكَانَ من أفقهِ أهل الْمَدِينَة وخيارهم، وَكَانَ أعمى، فمرَّ عَلَيْهِ عبد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز فَلم يسلِّما عَلَيْهِ، فَأخْبر بذلك فَأَنْشَأَ يَقُول: وَلَا تَعَجبا أَن تُؤتَيا فتكلَّما ... فَمَا حشي لأقوام شَرًّا من الْكِبْرِ ومسَّا ترابَ الأرضِ مِنْهَا خلقتما ... وفيهَا المعادُ والمصيرُ إِلَى الْحَشْر وروينا هَذَا الْخَبَر من وجهٍ آخر وَفِيهِ من شعر عبيد الله زيادةٌ على أبياته هَذِه، وَقد رسمنا ذَلِكَ فِي مَوْضِعه. وَكَانَ عبيد الله أحدَ السَّبْعَة من فُقَهَاء الْمَدِينَة الَّذِينَ جمع أَبُو الزِّنَاد مَا جمع من فقههم. وأمّا عون بن عبد الله فَكَانَ من آدب أهل الْمَدِينَة وأفقههم وَكَانَ مرجئًا فَرجع عَن ذَلِكَ وَأَنْشَأَ يَقُول: أوّل مَا نُفارقُ غير شكٍّ ... نفارق مَا يَقُول المرجئونا وَقَالُوا مؤمنٌ من أهل جورٍ ... وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ بجائرينا وَقَالُوا مؤمنٌ دمُهُ حلالٌ ... وَقد حَرُمَت دِمَاء المؤمنيا ثُمَّ خرج مَعَ ابْن الْأَشْعَث فهرب حَيْثُ هربوا، فَأتى مُحَمَّد بن مَرْوَان بنصيبين فأمَّنه وألزمه ابْنه، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: كَيفَ رَأَيْت ابْن أَخِيك؟ قَالَ: ألزمتني رجلا إِن بعدتُ عَنْهُ عَتِبَ، وَإِن أَتَيْته حجب، وَإِن عاتبته صخب، وَإِن صاخبته غضب، فَتَركه ثُمَّ لزم عمر بن عبد الْعَزِيز وَهُوَ خَليفَة وَكَانَت لَهُ مِنْهُ منزلَة. وَخرج جريرٌ فَأَقَامَ بِبَاب عمر بن عبد الْعَزِيز فطال مُقامه فَكتب إِلَى عون بن عبد الله: يَا أيُّها الْقَارئ المرخي عمامَتَهُ ... هَذَا زمانُكَ إِنِّي قَدْ مضى زَمَني أَبْلغْ خَليفَتَنَا إِنْ كنتَ لاقيهِ ... أَنِّي لَدَى الْبَاب كالمصفودا فِي قرنِ وأمّا عبد الرَّحْمَن بن عبد الله فَهُوَ الَّذِي يَقُول: تأثّل حبُّ عَثْمَة فِي فُؤَادِي ... فباديه مَعَ الخافي يسيرُ صدعْتِ القلبَ ثُمَّ ذررت فِيهِ ... هَوَاك فَليط فالتامَ الفطورُ قَالَ أَبُو بكر: ليط معناهُ أُلصق. وضمَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَن وَالْحُسَيْن إِلَيْهِ وَهُوَ على الْمِنْبَر وَقَالَ: إنَّ للْوَلَد لوطةً، يَعْنِي التصاقًا، بِالْقَلْبِ. وَقَالَ الشَّاعِر:

سأحبس مَالِي على لذّتي ... وأؤثر نَفسِي على الْوَارِث وأسبقُ فِي المَال سُهَمانَهُم ... وقولَ المعوِّق والرائثِ قَالَ أَبُو بكر: وَزَادَنِي فِيهَا أبي رَحِمَهُ الله: أعاذلَ عاجلُ مَا أشتهي ... أحبُّ إليَّ من الّلابثِ قَالَ القَاضِي: الأبيات المنسوبة فِي هَذَا الْخَبَر إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عتبَة قد رويت لنا من غير وَجه عَن أَخِيه عبيد الله، وفيهَا زِيَادَة وأنشدناها: تغلغل حبُّ عثمةَ.. وَالْبَيْت الثَّانِي. تغلغل حَيْثُ لَمْ يبلغْ شرابٌ ... وَلَا حزنٌ وَلم يبلغ سرورُ شقَقْتِ الْقلب ثمَّ ذررت فِيهِ ... هَوَاك فليمَ فالتَامَ الفطورُ فلِيم من الالتئام وَأَصله بِالْهَمْز، وَترك همزه لإِقَامَة الْوَزْن فَصَارَ مُسَاوِيا للفظ ليم من اللوم. وَإِن كَانَ المعنيان مُخْتَلفين. وليط فِي هَذَا الْمَعْنى أَيْضا وحُكي هُوَ أَلْيَطُ بقلبي، وحُكي عَن الفرّاء فِي قلبهم الْوَاو يَاء أنَّهم كَرهُوا أَن يشبه الْوَجْه الْمَكْرُوه. وأمّا قَول عون بن عبد الله لمُحَمد بن مَرْوَان فِي ابْنه: " إِن بعدتُ عَنْهُ عَتِبَ، وَإِن أَتَيْته حجب " فلي فِي مثله أبياتٌ من قصيدةٍ " أردّ بِهَا على قصيدة كتب بِهَا إليّ بعضُ رُؤَسَاء الزَّمَان، وَقد استبطأ زيارتي وعاتبني فِي تأخُّري عَنْهُ وكنتُ أتيتُ دَاره فحجبتُ عَنْهُ، والأبياتُ: إِذَا لَمْ آتِ أزعجني العتابُ ... وإِنْ وافيتُ أخجلني الحجابُ وإِنِّي حاجبٌ قدري بِهجري ... معززةً تذلُ لَهَا الرقابُ ونعتي أحمرُ الكبريتِ عزَّاً ... وأصلي حِين تكرمني الترابُ فَأن تُنْصِفْ فأرضُك مستقرّي ... وإِنْ تَظْلِمْ فمنزلي السحابُ وَمَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِير، فمما قيل فِيهِ: لِمَا تنكرت فِي حجابك ... رغبت بِالنَّفسِ عَن عتابكْ فَأن تزرني أزر وإمّا ... تقفْ ببابي أَقِفْ ببابكْ واللَّه لَا كنتَ فِي حسابي ... إِلَّا إِذا كنتُ فِي حسابكْ الْكَلَام الفصيح: لَمْ يكن هَذَا فِي حسباني، أَي فِي ظَنِّي، وَلَيْسَ يبعد أَن يُقالُ فِي حسابي أَي فِيمَا أعدُه وأحصيه وَأَحْسبهُ من الْحساب. وممَّا أنشدناهُ أَيْضا ورويناهُ فِي خبر مَذْكُور فِي مَوضِع آخر: يَا أيُّها الحرُّ الكريمُ الْكَافِي ... لَيْسَ الحجابُ من آلةِ الأشرافِ ولقلَّ مَن يَأْتِي فيحجبُ مرَّةً ... فيعودُ ثَانِيَة بقلبٍ صافي واستقصاء هَذَا الْبَاب يطول وَقد أَتَيْنَا مِنْهُ بِما فِيهِ كِفَايَة

المأمون والرجل المتحنط المتكفن

الْمَأْمُون وَالرجل المتحنط المتكفن حدَّثنا أَبُو النَّضْر الْعُقَيْليّ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِم النوشجاني قَالَ، قَالَ الْحَسَن بن عبد الْجَبَّار الْمَعْرُوف بالعرق: بَينا الْمَأْمُون فِي بعض مغازيه يسير مُفردا عَن أَصْحَابه وَمَعَهُ عُجَيْف بن عَنْبَسَة إِذْ طلعَ رجلٌ متحنّطٌ متكفّن، فلمّا عاينه الْمَأْمُون وقف، ثُمَّ الْتفت إِلَى عجيف فَقَالَ: وَيحك أما ترى صَاحب الْكَفَن مُقبلا يُرِيدنِي، فَقَالَ لَهُ عجيف، أُعيذكَ بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: فَمَا كذب الرجل أَن وقف على الْمَأْمُون، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون: من أردْت يَا صَاحب الْكَفَن وَإِلَى من قصدت؟ قَالَ: إياك أردْت، قَالَ: أَوَ عَرفتنِي؟ قَالَ: لَو لَمْ أعرفك مَا قصدتك، قَالَ: أَفلا سلَّمت عليَّ؟ قَالَ: لَا أرى السَّلام عَلَيْك، قَالَ: ولِم؟ قَالَ: لإفسادك علينا الغَزَاةَ، قَالَ عجيف: وَأَنا أَلين مسَّ سَيفي لِئَلَّا يبطئ ضرب عُنُقه، إِذْ الْتفت الْمَأْمُون فَقَالَ: يَا عجيف إِنِّي جائعٌ وَلَا رَأْي لجائع، فَخذه إِلَيْك حَتَّى أتغدى وأدعو بِهِ، قَالَ: فتناوله عجيفٌ فَوَضعه بَين يَدَيْهِ، فلمّا صَار الْمَأْمُون إِلَى رَحْله دَعَا بِالطَّعَامِ، فلمّا وضع بَين يَدَيْهِ أَمر بِرَفْعِهِ وَقَالَ: وَالله مَا أسيغه حَتَّى أناظرَ خصمي، يَا عُجيف عليَّ بِصَاحِب الْكَفَن، قَالَ: فلمَّا جلس بَين يَدَيْهِ قَالَ: هيهِ يَا صاحبَ الْكَفَن مَاذَا قلت؟ قَالَ: قلتُ: لَا أرى السَّلام عَلَيْك لإفسادك الْغُزَاة علينا قَالَ: بِماذا أفسدتها؟ قَالَ: بإطلاقك الْخُمُور تبَاع فِي عسكرك وَقد حرَّمها الله عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه، فابدأ بعسكرك فنظِّفه، ثُمَّ اقصد الْغَزْو، لماذا استحللت أَن تبيحَ شَيْئا قد حرَّمه الله كَهَيئَةِ مَا أحل الله عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: أَو عرفت الْخمر أنَّها تُباعُ ظَاهرا أَو رَأَيْتهَا؟ قَالَ: لَو لَمْ أرَها وتصحَّ عِنْدِي مَا وقفت هَذَا الْموقف، قَالَ: فشيءٌ سوى الْخمر أنكرته؟ قَالَ: نعم، إظهارك الْجَوَارِي فِي العماريّات، وكشفهنَّ الشُّعُور منهنَّ بَين أَيْدِينَا كأنهنَّ فِلَقُ الأقمار، خرج الرجلُ منا يريدُ أَن يُهراقَ دَمه فِي سَبِيل الله ويُعْقَرَ جَوَاده قَاصِدا نَحْو الْعَدو، فَإِذا نظر إليهنَّ أَفْسدنَ قلبه وركن إِلَى الدُّنْيَا وانصاع إِلَيْهَا، فَلم استحللت ذَلِك؟ قَالَ: مَا استحللت ذَاك، وسأخبرك بالْعُذر فِيهِ فَإِن كَانَ صَوَابا وإلاّ رجعت. نعم قَالَ:: شَيْء غير هَذَا أنكرته،؟ قَالَ: نعم شَيْء أمرت بِهِ: تَنْهَانَا عَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: أما الَّذِي يَأْمر بالمنكر فَإِنِّي أنهاه وأمّا الَّذِي يأمرُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنِّي أحثّه على ذَلِكَ وأحدوه عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: أفشيء سوى ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: يَا صَاحب الْكَفَن أمّا الخمرُ فلعمري لقد حرَّمها الله تَعَالَى، وَلَكِن الْخمر لَا تُعْرَف إِلَّا بِثَلَاث جوارح: النَّظر والشَّم والذوق، أفتشربها أَنْت؟ قَالَ: معاذَ الله أَن أنكرَ مَا أشْرب، قَالَ: أفيمكن فِي وقتك هَذَا أَن تقفنا على بيعهَا حَتَّى نوجّه مَعَك من يَشْتَرِي مِنْهَا؟ قَالَ: فَمن يظهرها لي أَو يبيعنيها وعليّ هَذَا الْكَفَن؟ قَالَ: صدقت. قَالَ: فكأنك إنَّما عرفتها بِهَاتَيْنِ الجارحتين، يَا عجيف عليَّ بقوارير فِيهَا شراب. فَانْطَلق عجيف فأتاهُ بِعشْرين قَارُورَة فوضعها بَين يَدَيْهِ فِي أَيدي عشْرين وصيفًا، ثُمَّ قَالَ: يَا صَاحب الْكَفَن، نُفِيتُ من آبَائِي الرَّاشِدين المهديين

إِن لَمْ تكن الْخمر فِيهَا، فإنَّك تعلم أَن الْخمر من ستر الله على عباده، وَإنَّهُ لَا يَجوز لَك أَن تشهدَ على قومٍ مستورين إِلَّا بمعاينة بيّنة وَعلم، وَلَا يَجوز لي أَن آخذ إِلَّا بِمعاينة بَيِّنَة وشاهدي عدلٍ. قَالَ: فَنظر صاحبُ الْكَفَن إِلَى الْقَوَارِير، فَقَالَ لَهُ عجيف: أيُّها الرجل لَو كنت خمّارًا مَا عرفت مَوضِع الْخمر بِعَينهَا من هَذِه الْقَوَارِير، قَالَ فَقَالَ لَهُ: هَذِه الْخمر بِعَينهَا من هَذِه الْقَوَارِير، فَأخذ الْمَأْمُون قَارُورَة فذاقها ثُمَّ قطَّب ثُمَّ قَالَ: يَا صَاحب الْكَفَن انْظُر هَذِه الْخمر، فَتَنَاول الرجل القارورة فذاقها فَإِذا خلُّ ذابح، فَقَالَ: قد خرجت هَذِه عَن حدِّ الْخمر، فَقَالَ الْمَأْمُون: صدقت إنَّ الخلّ مصنوعٌ من الْخمر لَا يكون خلًّا حَتَّى يكون خمرًا، وَلَا وَالله مَا كَانَت هَذِه خمرًا قطّ، وَمَا هُوَ إِلَّا رُمّان حامض يعصر لي أصطبغُ بِهِ من سَاعَته؛ قد سَقَطَتِ الجارحتان وبقيَ الشمُّ، يَا عُجيف صيِّرها فِي رصاصيّات وَأت بِهَا، قَالَ: فَفعل، فعُرضت على صَاحب الْكَفَن فشمَّها فَوْقه فَوَقع مَشَمُّه مِنْهَا على قَارُورَة فِيهَا لبيختبج فَقَالَ: هَذِه فَأَخذهَا الْمَأْمُون فصبَّها بَين يَدَيْهِ وَقَالَ: انْظُر إِلَيْهَا كأنَّها طلا قد عقدتها النَّار، بَلْ تُقْطَعُ بالسكين، قد سَقَطت إِحْدَى الثَّلَاث الَّتِي أنْكرت يَا صَاحب الْكَفَن، ثُمَّ رفع الْمَأْمُون رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أتقرَّب إِلَيْك بنهي هَذَا ونظرائه عَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. يَا صَاحب الْكَفَن أدْخلك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ فِي أعظم الْمُنكر، شنَّعت على قومٍ باعوا من هَذَا الخلِّ وَمن هَذَا النبيختج الَّذِي شممت فَلم تسلّم. اسْتغْفر الله من ذَنْبك هَذَا الْعَظِيم وَتب إِلَيْهِ. مَا الثَّانِي؟ قَالَ: الْجَوَارِي قَالَ: صدقت، أخرجتهنّ أبقى عَلَيْك وعَلى الْمُسلمين، كرهتُ أَن تراهنَّ عيونُ الْعَدو والجواسيس فِي المعاريّات والقباب، والسجوف عليهنّ، فيتوهّمون أنهنّ بَنَات وأخوات فيجدون فِي قتالنا ويحرصون على الْغَلَبَة على مَا فِي أَيْدِينَا حَتَّى يجتذبوا خطامَ واحدٍ من هَذِه الْإِبِل يستقيدونكم بِكُل طَرِيق إِلَى أَن يتَبَيَّن لَهُم أنهنَّ إِمَاء، فَأمرت بِرَفْع الظلال عَنْهُن وكشف شعورهن فَعلم العدوُّ أَنَّهُنَّ إِمَاء نقي بهنَّ حوافر دوابنا لَا قدر لهنّ عندنَا؛ هَذَا تَدْبِير دبَّرت للْمُسلمين، ويعزُّ عليَّ أَن ترى لي حُرْمَة، فدع هَذَا فَلَيْسَ هُوَ من شَأْنك فقد صحَّ عنْدك أَنِّي فِي هَذَا مُصِيب وَأَنَّك أنكرتَ بَاطِلا. أيّ شَيْء الثَّالِثَة؟ قَالَ: الأمرُ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ: نعم أرأيتك لَو أَنَّك أصبت فتاةً مَعَ فَتى قد اجْتمعَا فِي هَذَا الفجّ على حَدِيث مَا كنت صانعًا بِهما؟ قَالَ: كنتُ أسألهما مَا أَنْتُمَا، قَالَ: كنت تسألُ الرجل فَيَقُول: امْرَأَتي، وتسألُ الْمَرْأَة فَتَقول: زَوجي، مَا كنت صانعًا بِهما؟ قَالَ: كنتُ أحولُ بَينهمَا فأحبسهما، قَالَ: حَتَّى يكون مَاذَا؟ قَالَ: حَتَّى أسأَل عَنْهُمَا، قَالَ: وَمن تسْأَل عَنْهُمَا؟ قَالَ: كنت أسألهما من أَيْن أَنْتُمَا، قَالَ: سألتُ الرجل من أَيْن أَنْت فَقَالَ لَك: أَنا من أسبيجاب، وسألتُ الْمَرْأَة: من أَيْن أَنْت؟ فَقَالَت: من أسبيجاب، ابْن عمِّي، تزوّجنا وَجِئْنَا.

المجلس الرابع والثمانون

كنت حابسًا الرجل وَالْمَرْأَة بسؤالك وتوهّمك الْكَاذِب إِلَى أَن يرجع الرَّسُول من أسبيجاب فَمَاتَ الرَّسُول أَو مَاتَا إِلَى أَن يعود رَسُولك، قَالَ: كنت أسألُ فِي عسكرك هَاهُنَا، قَالَ: فلعلك لَا تصادف فِي عسكري هَذَا من أهل أسبيجاب إلاّ رجلا أَو رجلَيْنِ فَيَقُولَانِ لَك: لَا نعرفهما على هَذَا النّسَب. يَا صَاحب الْكَفَن مَا أحسبُكَ إِلَّا أحدَ ثَلَاثَة رجالٍ إمّا رجل مديون، وَإِمَّا مظلوم، وَإِمَّا رجل تأوّلت فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي خطْبَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ قَالَ: وَرُوِيَ الحَدِيث عَن هشيم وَغَيره، وَنحن نسْمع الْخطْبَة إِلَى مغيربان الشَّمْس إِلَى أَن بلغ إِلَى قَوْله: " إِن أفضل الْجِهَاد كلمةُ حقٍّ عِنْد سلطانٍ جَائِر " فجعلتني جائرًا، وَأَنت الجائر، وَجعلت نَفسك تقوم مقَام الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ، وَقد ركبت من الْمُنكر مَا هُوَ أعظم عَلَيْك، لَا وَالله لَا ضربتُكَ سَوْطًا وَلَا زِدْت على تخرق كفنك، ونُفيتُ من آبَائِي الرَّاشِدين المهديين لَئِن قَامَ أحد مقامك هَذَا لَا يقوم بِالْحجَّةِ فِيهِ إِن نقصتُهُ من ألف سوطٍ ولآمرنَّ بصلبه فِي الْموضع الَّذِي يقوم فِيهِ، قَالَ: فنظرتُ إِلَى عجيف وَهُوَ يخرق كفن الرجل ويلقي عَلَيْهِ ثيابَ بَيَاض. شرح: انصاع قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: " وركن إِلَى الدُّنْيَا وانصاعَ إِلَيْها " يُقال انصاعَ إِذا أشنقَ فِي نَاحيَة وَمضى آخِذا فِيهَا كَمَا قَالَ ذُو الرمَّة: فانصاع جانبَهُ الوحشيَّ وانكدرت ... يَلْحَبْنَ لَا يأتلي المطلوبُ والطَّلب وَقَالَ أَيْضا: رمى فَأَخْطَأَ والأقدارُ غالبةٌ ... فانصعن والويلُ هجّيراهُ والْحَرَبُ وَقَالَ أَيْضا: فانصاعت الْحُقْبُ لَمْ تُقْطَعْ صرائرها ... وَقد نشحن فَلَا ريُّ وَلَا هِيمُ الْمجْلس الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ حَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ أَبُو عِيسَى الْهُذَيْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَنْطَرِيُّ قَالَ، حدَّثنا آدَمُ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ بن عَبَّادٍ الْمِنْقَرِيِّ وَابْنِ جَبَلَةَ وَأَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ أَخِي عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالُوا: حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ النَّفْسِ وَمَا أَلْقَى مِنْهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْدِثَ شَيْئًا حَتَّى أُوَامِرَكَ، وإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالاخْتِصَاءِ، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ إِنَّ اخْتِصَاءَ أمَّتي الصَّوم وَالصَّلاةُ، قُلْتُ: وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي بالترهُّب فِي الْجِبَالِ، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ ترهُّب أمَّتي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ انْتِظَارًا لصَلاةٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

تعليق القاضي على الحديث

وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي بِالسِّيَاحَةِ، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الحجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ أَخْرُجَ مِمَّا أَمْلِكُ، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ أَمْسِكْ مَالَكَ تَرْحَمِ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَالْفَقِيرَ، فَتُطْعِمُهُ كلَّ يَوْمٍ فَذَاكَ أَفْضَلُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ أطلِّق خَوْلَةَ، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أُمَّتِي مَنْ هَاجَرَ إِلَيَّ وَأَنَا حَيٌّ، أَوْ زَارَ قَبْرِي، أَوْ مَاتَ يَوْمَ يَمُوتُ وَلَهُ امْرَأَةٌ أَوِ امْرَأَتَانِ أَوْ ثَلاثٌ أَوْ أَرْبَعُ. قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا إِذْ نَهَيْتَنِي عَنِ الطَّلاقِ فإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أَنْ لَا أَغْشَى أَهْلِي أَبَدًا، قَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي عبدٌ يَغْشَى أَهْلَهُ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمْ يُصِبْ فِي وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدًا إِلا كَانَ لَهُ وصيفٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ أَصَابَ وَلَدًا فَمَاتَ وَلَدُهُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ فَرَطًا فِي الْجَنَّةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ كَانَ رَحْمَةً لَهُ وَشَفَاعَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: قُلْتُ وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ لَا آكُلَ اللَّحْمَ أَبَدًا، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِن أكل اللَّحْم يجبني وَلَوْ وَجَدْتُهُ كُلَّ يَوْمٍ لأَكَلْتُهُ وَلَوْ سَأَلْتُ رَبِّي لأَطْعَمَنِيهِ. قُلْتُ: وَتُحَدِّثُنِي نَفْسِي أَنْ لَا أمسَّ الطِّيبَ أَبَدًا، فَقَالَ: مَهْلا يَا عُثْمَانُ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَنِي بِالطِّيبِ غَبًّا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلا مَتْرَكَ لَهَا، يَا عُثْمَانُ لَا ترغبنَّ عَنْ سنَّتي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سنَّتي ثُمَّ لَمْ يَتُبْ حَتَّى يَمُوتَ ضَرَبَتِ الْمَلائِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي. تَعْلِيق القَاضِي على الحَدِيث قَالَ القَاضِي: فِي خبر عُثْمَان ببن مَظْعُون هَذَا عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ إرشادٌ للنَّاس إِلَى مصالِحهم وإبانةٌ لإصابة الْقَصْد فِي مَعَايشهمْ ومتصرفاتِهم فِي شرائع دينهم، والتقلب فِيما أبيحَ لَهُم من أَسبَاب دنياهم. وحقيق على من أحسنَ الِاخْتِيَار لنَفسِهِ وآثر صلاحَ أَحْوَاله واستقامة أُمُوره أَن يَجْعَل مَا أرشد إِلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أمّته وآثره لَهُم وَأَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم إِمَامه الَّذِي يأتم بِهِ، وَدَلِيله الَّذِي يتبعهُ، ومنهاجه الَّذِي يتقيَّله ويستحكم رجاؤه نيل العواقب الَّتِي وعدها النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من امتثلَ أمره وَرجع عمّا تسوله لَهُ نَفسه إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورغَّبة فِيهِ. معنى الفرط وَقَول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ولد الْوَالِد يَموت كَانَ لَهُ فرطا: الفرط السَّابق المتقدّم كَأَنَّهُ يَقُول إِنَّه يتقدَّم أباهُ سَابِقًا لَهُ إِلَى الْجنَّة منتظرًا لَهُ. وَقد جَاءَ فِي الْخَبَر عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطِّفْل أَنَّهُ يظلّ بِبَاب الْجنَّة يَقُول: لَا أَدخل حَتَّى يدْخل أبواي. وَرُوِيَ عَنْهُ أَن السقط يكون بِبَاب الْجنَّة كَذَلِك. وأصلُ الفروطِ التقدّم، يُقال للَّذي يتقدَّم الْقَوْم فِي مَسِيرهمْ لارتياد المَاء وإعداده لَهم هُوَ فارطُ الْقَوْم، قَالَ الشَّاعِر: فاستعجلونا وَكَانُوا من صَحابتنا ... كَمَا تعجَّل فرّاطٌ لورَّاد وَقَالَ آخر:

مصعب بن الزبير وابن ظبيان

فأثارَ فارُطُهمْ حَماما جثَّما ... أصواتها كتراطنِ الْفُرْسِ وَقَالَ العجَّاج: ومنهلٍ وردتُهُ التقاطا ... لَمْ ألقَ إِذْ وردتُه فرَّاطاً إِلَّا الحمامَ الْوُرْقِ والغطاطا والأرق الَّذي يشبه لَونه لون الرَّماد، وَيُقَال بعيرٌ أَوْرَق وحمامة وَرْقَاء، والجميع ورقٌ، مثل أَحْمَر وحمر وأزرق وزرق، والغطاط ضرب من القطا. وَقَالَ الله عزَّ وجلَّ حاكيًا عَن نبيّه مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلام " قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى " طه:45 الْمَعْنى أَن يسْبق إِلَيْنَا من بَوَادِر فِرْعَوْن مَا نكرهه. ويُقال: فَرَطَ من فلانٍ كَلَام سوء أَي سبق وَبدر. ويُقالُ فِي دُعَاء الْمُصَلِّين على من مَاتَ من أطفالِ الْمُسلمين: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لنا فرطا، أَي سَابِقًا لنا إِلَى الْجنَّة ينتظرنا. وَرُوِيَ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله قَالَ لَمَّا دُفِنَ عُثْمَان بن مَظْعُون: هَذَا قبرُ فرطنا، وَإنَّهُ وضعَ حَجَرًا عِنْد رَأسه، وَكَانَ أوّلَ من دُفِنَ فِي بقعةٍ ارتادها رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله من بَقِيع الْغَرْقَد، وإنَّه إِذا مَاتَ الْمَيِّت بعده قيل: يَا رَسُول الله أَيْن ندفنه؟ يَقُول: عِنْد فرطنا عُثْمَان بن مَظْعُون. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم أنّ أوَّل من دُفِنَ بِالبَقِيعِ أسعد بن زُرَارَة، قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا قَول الْأَنْصَار، والمهاجرون يَقُولُونَ أوَّل من دفن بِالبَقِيعِ عُثْمَان بن مَظْعُون. وَقَالَ تَعَالَى: " لَا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النَّارَ وأنَّهم مُفْرَطُونَ " النَّحْل:62. هَكَذَا قَول أَكثر الْقُرَّاء فِي معنى أنَّهم مقدّمون إِلَيْهَا يعجّلون. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي وأنَّهم مفرِّطون، بِكَسْر الرَّاء وتشديدها على وَصفهم بالتفريط، وَهُوَ الإضاعة لما فِيهِ نجاتِهم، يُقالُ فرَّط فلَان فِي أمره إِذا أهمله وأضاعَ الْأَخْذ بالحزم فِيهِ، وَمن ذَلِكَ قَول لبيد بن ربيعَة العامري: أَقْْضِي اللبانة لَا أفرِّط رِيبَة ... أَو أَن يلومَ بحاجةٍ لوَّامها وَقيل: إنَّ هَذَا فِي الأَصْل من الْبَاب الَّذي قدمنَا ذكره، وَفسّر معناهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ لَا أقدم شكًّا وَلَا ادْع رِيبَة تتقدّمني. وَقَرَأَ نَافِع: " وأنّهم مفرطون " بِكَسْر الرّاء وتخفيفها من الإفراط، يُقال أمرٌ مفرط، وَقد أفرط الإِنْسَان وَغَيره إِذا تجَاوز الْحَد وَصَارَ بذلك مفرطًا. وَقد يرجع هَذَا إِلَى الأَصْل الَّذي قدمنَا القَوْل فِيهِ وكأنّه بَدَرَ وسبقَ إِلَى تَجاوز الْحَد فَصَارَ بذلك مفرطًا. وَقد جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعلى آله أَنَّهُ قَالَ: " أَنا فَرَطُكُمْ على الْحَوْض " أَي السَّابِق لكم إِلَيْهِ منتظرًا ورودكم عَلَيْهِ. مُصعب بن الزبير وَابْن ظبْيَان حدَّثنا محمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن أبي عُبَيْدَة وَأَخْبَرَنَا الأشنانداني عَن التوزي عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: قتل مُصعب بن الزبير نابي بن ظبْيَان أحد بني

التسمية بالمصدر مثل نوح وكرم

عَابس بن مَالك، وَكَانَ أخوهُ عبيد الله فاتكًا، فنذرَ أَن يقتل بِهِ مائَة، فَقتل ثَمانين وختمهم بَمصعب، وَأَنْشَأَ يَقُول: يَرى مصعبٌ أَنِّي تناسيتُ نابيًا ... وَبئسَ لعمرُ الله مَا ظنَّ مصعبُ قتلتُ بِهِ من حيِّ فهر بن مَالك ... ثَمانين مِنْهُم ناشئونَ وشيَّب وكفِّي لَهُم رهنٌ بِعشْرين أَو يُرَى ... عليَّ مَعَ الإصباح نوحٌ مسلَّب أَأَرْفعُ سَيفي وَسْطَ بكرِ بن وائلٍ ... وَلم أرْوِ سَيفي من دمٍ يتصبّبُ فوَاللَّه لَا أنساهُ مَا ذرَّ شارقٌ ... وَمَا لَاحَ فِي داجٍ من اللَّيْل كوكبُ وثبْتُ عَلَيْهِ ظالِمًا فَقتلته ... فقصرك مِنْهُ يومُ شرٍّ عَصَبْصَبُ وَجَاء بِالرَّأْسِ إِلَى عبد الْملك فهمَّ عبد الْملك سَاجِدا فَأَرَادَ أَن يقْتله ثُمَّ قَالَ: هَمَمْتُ وَلم أفعل وكدتُ وليتني ... فعلتُ فَكَانَ المعولاتِ أقاربُه ثُمَّ خافَ عبد الْملك فلحق بعمان، فجَاء إِلَى سُلَيْمَان بن سعيد بن جَعْفَر بن ... قَالَ: ... مَكَانَهُ وتذمَّم أَن يقْتله، فدسَّ إِلَيْهِ نصف بطيخة قد سمَّها وَقَالَ: هَذَا أوَّل مَا رأيناهُ من البّطيخ، فلمَّا أكلهَا أحسَّ بِالْمَوْتِ، وَدخل إِلَيْهِ سُلَيْمَان يعودهُ فَقَالَ: ادنُ منّي أيُّها الْأَمِير أُسِرُّ إليكَ شَيْئا فَقَالَ: قل مَا بدا لَك فَلَيْسَ فِي الْبَيْت غَيْرِي وَغَيْرك، فَمَاتَ هُنَاكَ. التَّسْمِيَة بِالْمَصْدَرِ مثل نَوْح وكرم قَالَ القَاضِي: قَول عبد الله أخي نابي " مَعَ الإصباح نوحٌ مسلَّب " أَرَادَ النِّسَاء، وَقَالَ: " نوح " وَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا أَنَّهُ وصفهما بالنياحة فَقَالَ: نوحٌ، وسمَّاهنَّ بِالْمَصْدَرِ مثل زَوْر وَفطر وَصَوْم، وَهَذَا بَاب مَشْهُور وَاسع، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: لقد زَاد الحياةَ إليَّ حبَّاً ... بَنَاتِي إنّهنَّ من الضّعافِ مخافةَ أَن يَذُقْنَ الْبُؤسَ بعدِي ... وَأَن يشربنَ رَنْقًا بعد صافِ وَأَن يُعْرينَ إِذْ كُسِيَ الْجَوَارِي ... فتنبو العينُ عَن كرمٍ عجافِ فسمَّاهنَّ بِالْمَصْدَرِ، وَمن قَالَ هَذَا قَالَ " كرم " فِي الْوَاحِد والواحدة والاثنين والاثنتين، فَلم يثنّ وَلم يَجمع ولَم يُؤنّث، وَمن أَتَى فِيهِ بِالِاسْمِ ذكَّر وأنَّث وثنَّى وَجمع، وَمثله خَصْم وخصمان وخصوم وخصماء وخصمات عِنْد قصد الِاسْم، وخصمٌ فِي التَّذْكِير والتأنيث والتثنية وَالْجمع على مَذْهَب الْمصدر، قَالَ الله تَعَالَى " " وَهل أتيك نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تسوَّروا الْمِحْرَابَ " ص:29 وَقَالَ: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي ربِّهم " الْحَج: 19 قيل نزلت فِي الْمُؤمنِينَ وَالْمُشْرِكين، وَقيل نزلت فِي المتبارزين يَوْم بدر، ويُقال فلانةُ خصمُ فلَان، وَبَنُو فلَان خصم فلَان وخصومه، على مَا ذكرنَا من مذهبي الْعَرَب فِيهِ: وَقَالَ " خصمان " أَرَادَ فريقين وحزبين، وَقَالَ " اخْتَصَمُوا " لِأَن تَحت كلِّ فريق جمَاعَة، قَالَ الله

تبَارك وَتَعَالَى: " سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ " الرَّحْمَن: 31 وَمن هَذَا قَول الْقطَامِي: الم يحزنك أنَّ حبال قيسٍ ... وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعا والوجهُ الثَّانِي فِي قَوْله " نوحٌ " أَرَادَ النِّسَاء المتقابلات، يُقال: الشّجرُ والمنازلُ تتناوح أَي تتقابل. وَقَالَ الشَّاعِر: فَلَو أنَّها طافَتْ بطنبٍ معجَّمٍ ... نَفَى الرقَّ عَنْهُ جَدْبُهُ فَهُوَ كالِحُ لجاءت كأنَّ القَسْوَرَ الْجَوْنَ بجَّها ... عسالِيجُهُ والثَّامر المتناوِحُ يُرِيد المتحاذي المتقابل. قَوْله: " بطنبٍ مُعْجم " يُرِيد أَن مَا فِيهِ مِمَّا يحمل الثَّمَرَة من نفيهن وَمَا جرى مجراهُ، مُعْجم أَي قد أسْرع فِيهِ بالعض وَالْأكل. يُقال: عجمت الْعود أعجمه عجمًا إِذا عضضته، ويُقال عجمتُ العودَ لأعرف صلابته؛ وَمن كَلَام الْخَاصَّة: عجمته وخبرته، يشيرونَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى، فقلبته الْعَامَّة وصحَّفته فَقَالُوا: عجنته وخبزته، وقصدوا هَذَا الْمَعْنى وَأتوا بلفظٍ مُشاكل، وَإِن كَانُوا أحالوا الْكَلَام عَن أَصله. وَحكي لي عَن أبي الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يزِيد النَّحْوِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَا رأيتُ قَارِئًا صحف فِي تِلَاوَة الْقُرْآن تصحيفًا متشاكلا كإنسان قَرَأَ: بَلْ عجنت ويخبزون، لتشاكل العجن وَالْخبْز، وَأَحْسبهُ عزا هَذِه الْحِكَايَة عَن ابْن الراوندي. وَقَول هَذَا الشَّاعِر: نض الرّقّ عَنْهُ جدبه الرّقّ الْوَرق هَا هُنَا والحدب ضد الخصب وَقَوله: " فَهُوَ كالح " أَي كريه المنظر لجدوبته. يُقال: فلَان كالِحُ الْوَجْه إِذا كَانَ عَابِسا باسرًا. وَقَوله: " لجاءت كأنّ القسور الجون " القسور: الشّجر، وَقيل: إِنَّه شجرٌ بِعَيْنِه، وَقيل فِي قَوْل الله جلّ جَلَاله: " فرَّت مِنْ قَسْوَرَةٍ " " المدثر:51 " أَي من الْأسد، وَقَالُوا: هَذَا من أَسْمَائِهِ، وَقَالَ قائلونَ: هَذَا من لُغَة الْحَبَشَة. قَالُوا: وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَسد وبالنبطية أريا، وبالفارسية شير، وبالحبشية قسورة، وَقيل: عَنى بِهِ الشّجر لِأَن الْحمر فرَّت مِنْهُ لما عاينَتْ جماعته، " وَقيل: بَلْ عَنى بذلك الرُّمَاة " وَقيل: إِنَّه عَنى بِهِ ظلمَة اللَّيْل. وَقَوله " الجون " وَصفه بِالسَّوَادِ الَّذِي يدلّ على الرّيّ من شدَّة الخضرة. وَقد قيل فِي قَوْله جلّ ثَنَاؤُهُ " مدهامَّتان " " الرَّحْمَن: 64 " خضراوان من الريّ. وَقيل إِن أَرض السوَاد سميت بِهذا لِكَثْرَة الخضرة بِهَا. وَقيل إِن الجونَ من حُرُوف الأضداد، وَأَنه يُقال للأبيض جون وللأسود جون، وَمِمَّا أَتَى مِنْهُ فِي معنى الْأَبْيَض قَول الشَّاعِر: يبادِرُ الجونةَ أنْ تغيبا يَعْنِي الشَّمْس. وَقد يُقال لكل واحدٍ من بَيَاض النَّهَار وَسَوَاد اللَّيْل جون، قَالَ الشَّاعِر: غيَّر يَا بنتَ الْحُلَيْسِ لَوْني ... مرُّ اللَّيَالِي واختلافُ الجَوْنِ وسفرٌ كَانَ قَلِيل الأون

تجز ذؤابتيها للجهاد

وأشرك فِي هَذِه الصّفة بَين اللَّيْل وَالنَّهَار. وَقَوله: " بجّها عساليجه " أَرَادَ فتقها بالسمن، " وعساليجه " أغصانه، وَاحِدهَا عسلوج وعسليج. تَجز ذؤابتيها للْجِهَاد حدَّثنا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبيّ قَالَ: حدَّثنا أَبُو عِكْرِمَة الضبيّ قَالَ: حَدَّثَنَا العتبيّ عَن أَبِيه قَالَ: سبا الرّوم نسَاء مسلماتٍ فَبلغ الْخَبَر الرقَّةَ وَبِهَا الرشيد وَمَنْصُور بن عمار هُنَاكَ، فقصّ مَنْصُور يحضُّ على الْغَزْو، فَإِذا خرقةٌ مصرورةٌ مختومة قد طُرحت إِلَى مَنْصُور، وَإِذا كتاب مضمومٌ إِلَى الصرة فقرأه فَإِذا فِيهِ: إِنِّي امرأةٌ من بيوتات الْعَرَب، بَلغنِي مَا فعل الرّوم بالمسلمات، وَبَلغنِي تحضيضك على الْغَزْو، فعمدت إِلَى أكْرم شَيْء فِي بدني عليّ، وهما ذؤابتاي، فجززتَهما وصررتهما فِي هَذِه الصرة المختومة، فأنشدك بِاللَّه الْعَظِيم لما جعلتهما قَيْدَ فرس غازٍ فِي سَبِيل الله، فعلَّ الله ينظر إليَّ نظرةً على تِلْكَ الْحَال فيرحمني، فَبلغ ذَلِكَ الرشيد فَبكى ونادى النفير. تَعْلِيق القَاضِي على الْخَبَر قَالَ القَاضِي: قد أَتَت هَذِه الْمَرْأَة بِما دلّ على خلوص دينهَا وصحَّة يقينها، وغضبها لربِّها، وغيرتها على أهل ملّتها، وامتعاضها عِنْدَمَا بلغَهَا من انتهاكِ أَعدَاء الله محارِمَهُ الَّتِي حرَّمها، واستخفافهم بحدود الْإِسْلَام الَّتِي عظمّها، وقصدت بِما أَتَتْهُ من جزّها ذؤابتيها التقرُّب إِلَى خَالِقهَا ورجاء مغفرته لَهَا، وَالله يحقّق برأفته وسعة رَحمته رجاءها، ويغفرُ لنا وَلَهَا، وَلم تقصد بِما فعلته الْأَمر الَّذِي حرِّم عَلَيْهَا فيؤثمها، فقد جَاءَ عَن النبيّ صلى الله عَليّ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لعن الغارفة وَهِي الَّتِي تجزُّ ناصيتَها عِنْد الْمُصِيبَة، وَإِلَى الله نرغب فِي أَن يجعلنا ممّن يغْضب لَهُ ويحام عَن دينه ويوالي ويُعادي فِيهِ، بتوفيقه. لم كثر فِي جَنَازَة الْحَسَن الْبَصْرِيّ حدَّثنا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَحْمَد الْمُقَدَّمِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا زيد بن أخرم قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ، حَدَّثَنَا مبارك بن فضَالة عَن ثَابت الْبنانِيّ قَالَ: انصرفت من جَنَازَة الْحَسَن فقلتُ لبنتي: وَالله مَا رأيتُ جَنَازَة قطُّ اجتمعَ فِيهَا من النَّاس مثلُ مَا اجْتمع فِيهَا، وَإِن كَانَ الحسنُ لأهلا لذَلِك، فَقَالَت لي: يَا أبةِ مَا ذَاك إِلا لسترِ الله عَلَيْهِ، فَصَغُرَتْ واللَّه نَفسِي. سُلَيْمَانُ وَالْمَارِدُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ قَالَ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: بَعَثَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِلَى ماردٍ مِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ كَانَ فِي الْبَحْرِ فَأُتِيَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ أَخَذَ عُودًا فَشَبَرَهُ بِذِرَاعِهِ ثُمَّ رَمَى بِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ،

عهد أبي بكر إلى عمر

فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ بِالَّذِي صَنَعَ الْمَارِدُ، فَقَالَ: تَدْرُونَ مَا أَرَادَ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَإِنَّمَا تَصِيرُ إِلَى مِثْلِ هَذَا مِنَ الأَرْضِ. عَهْدُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عُمَرَ حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن أبي سَعْد قَالَ، حدَّثنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بن أبي بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي أَبَا بَكْرِ بْنَ سَالِمٍ قَالَ: لمَّا حَضَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَوْتُ أَوْصَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا عَهْدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا خَارِجًا مِنْهَا، وَأَوَّلُ عَهْدِهِ بِالآخِرَةِ دَاخِلا فِيهَا، حَيْثُ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ وَيَتَّقِي الْفَاجِرُ وَيُصَدِّقُ الْكَاذِبُ، أَنِّي اسْتَخْلَفْتُ مِنْ بَعْدِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَإِنْ قَصَدَ وَعَدَلَ فَذَلِكَ ظَنِّي بِهِ، وَإِنْ جَارَ وبدَّل فَالْخَيْرَ أَرَدْتُ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: يَا عُمَرُ أَبْغَضَكَ مبغضٌ وأحبَّك محبّ، وقدماً يُبْغَضُ الْخَيْرُ ويحبُّ الشَّرُّ، قَالَ: فَلا حَاجَةَ لِي فِيهَا، قَالَ: وَلَكِنْ لَهَا بِكَ حَاجَةٌ، قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبْتُهُ وَرَأَيْتُ أَثَرَتَهُ أَنْفُسَنَا عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنُهْدِي لأَهْلِهِ فَضْلَ مَا يَأْتِينَا مِنْهُ، وَرَأَيْتَنِي وَصَحِبْتَنِي فَإِنَّمَا اتَّبَعْتُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، وَاللَّهِ مَا نِمْتُ فَحَلَمْتُ، وَلا شَبَّهْتُ فتوهَّمت، وَإِنِّي لَعَلَى طَرِيقِي مَا زُغْتُ. تعلَّم يَا عُمَرُ أنّ الله تَعَالَى حَقًّا فِي اللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ، وَحَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ يَثْقُلَ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلا الْحَقُّ، وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خفَّت مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ، وَحَقَّ لِمِيزَانٍ أَنْ يَخِفَّ لَا يَكُونُ فِيهِ إِلا الْبَاطِلُ. إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أُحَذِّرُكَ نَفْسُكَ وَأُحَذِّرُكَ النَّاسَ فَإِنَّهُمْ قَدْ طَمَحَتْ أَبْصَارُهُمْ وَانْتَفَجَتْ أَجْوَافُهُمْ، وَإِنَّ لَهُمْ لَحِيزَةً عَنْ زلَّة تَكُونُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَهُ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا خَائِفِينَ لَكَ فَرِقِينَ مِنْكَ مَا خِفْتَ مِنَ اللَّهِ وَفَرِقْتَهُ، وَهَذِهِ وَصِيَّتِي، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلام. قَالَ الْقَاضِي: لَقَدْ أَحْسَنَ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةَ وَمَحَضَ النَّصِيحَةَ، وَبَالَغَ فِي الاجْتِهَادِ لِلأُمَّةِ، وَأَنْذَرَ بِمَا هُوَ كائنٌ بَعْدَهُ، فَوُجِدَ عَلَى مَا قَالَ، وَحَذَّرَ مِمَّا يُوتِغُ الدِّينَ وَيَقْدَحُ فِي سِيَاسَةِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ، بِأَوْجَزِ قَوْلٍ وَأَفْصَحِهِ، وَأَحْسَنِ بَيَانٍ وأوضحه، وَأوصى لعمر، وَكَانَ وَللَّه كَافِيًا أَمِينًا شَحِيحًا عَلَى دِينِهِ ضَنِينًا، فصدَّق ظنَّه بِهِ وحقَّق تَأْمِيلَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِيهِ، فَانْقَادَتِ الأُمُورُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُ الأُمَّةُ عَلَى يَدَيْهِ، وعدَّلت الشِدَّةُ وَاللِّينُ فِي رَعَايَاهُ، وَعَدَلَ فِي أَحْكَامِهِ وَقَضَايَاهُ، وَاللَّهُ يَشْكُرُ لَهُ حُسْنَ سِيرَتِهِ، ويَجْزِلُ ثَوَابَهُ عَلَى الْعَدْلِ فِي بَرِيَّتِهِ، إِنَّهُ وليُّ الْمُؤْمِنِينَ وَمُفِيضُ إِحْسَانِهِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ. كَيفَ يصف أَبُو بكر نَفسه بالصدّيق فَإِن قَالَ لنا قَائِل: مَا وَجْهُ وَصْف أبي بكر نَفسه فِي هَذَا الْخَبَر بِأَنَّهُ الصّديق، وَكَيف

دخول عبد الملك بن صالح على جعفر بن يحيى

استجازَ إِطْلَاق هَذَا النَّعْت على نَفسه، وَفِيهِ تزكيةٌ وتعظيم لَا يصف الألباء بِهَا أنفسهم، وَإِن كَانَت ثَابِتَة فيهم وَكَانَ النَّاس يضيفونها إِلَيْهِم ويثنون بِهَا عَلَيْهِم، قيل لَهُ: فِي هَذَا وَجْهَان، أَحدهمَا أَن يكون الكاتبُ أثْبته من قِبَلِ نَفسه وَلم يكن من أبي بكر رضوَان الله عَلَيْهِ ذكرٌ لَهُ، كَمَا يملُّ المملُّ شَيْئا على غَيره فيُجري فِيهِ ذكره فيصله الْكَاتِب بتقريظه وَالدُّعَاء لَهُ، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون أَبُو بكر استجازَ هَذَا لِأَنَّهُ قد اشْتهر بِهِ واستفاض إلحاقُهُ بتسميته، أَلا ترى إِلَى قَول الشَّاعِر يعنيه: سمِّيت صدّيقًا وكلّ مهَاجر ... سواك يسمَّى باسمه غير منكرِ وَقَوله فِي الْخَبَر: " مَا نمت فحلمت " فَإِنَّهُ يُقال: حلم فِي نَومه، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: حلمتُ بكم فِي نومتي فغضبتُم ... وَلَا ذنبَ لي أَنْ كنتُ فِي النّوم أحلُم وحلم عَن خَصمه كَمَا قَالَ الآخر: حلمتُ عَن السَّفِيه فظنَّ أنّي ... عييتُ عَن الجوابِ وَمَا عييتُ وحَلُمَ الأديمُ إِذا فسد، كَمَا قَالَ الآخر: فإنَّك والكتابَ إِلَى عليٍّ ... كدابغةٍ وَقَدْ حَلُمَ الأَدِيمُ دُخُول عبد الْملك بن صالِح على جَعْفَر بن يَحْيَى فِي مجْلِس منادمة حدَّثنا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: كَانَ جَعْفَر بن يَحْيَى يَقُول لإخوانه: لَا يَشْغَلني عَنْكُم إِلَّا مَا يشغلني عَن نَفسِي، فَإِذا تخلَّيت من الْخدمَة فإليكم رَاجع، فإنَّ السُّلْطَان لَا يبْقى لي، وَأَنْتُم تَبْقَون لي مَا بقيت لكم. تَعَالَوْا نتفرَّج يَوْمنَا هَذَا، فنتضمّخ بالخَلُوقِ، ونلبس ثِيَاب الْحَرِير، ونفعل ونفعل. فَأَجَابَهُ إخوانه وصنعوا مَا صنع، وتقدَّم إِلَى حَاجِبه فِي حفظ الْبَاب إِلَّا من عبد الْملك بن بجران كَاتبه، فَوَقع فِي أُذُنِ الْحَاجِب عبد الْملك. وَبلغ عبد الْملك بن صالِح مُقامُ جَعْفَر فِي منزله، فركبَ فَوجدَ الْحَاجِب عبد الْملك قد حضر، فَقَالَ: يُؤذنُ لَهُ وَهُوَ يظنّه ابْن بجران، فَدخل عبد الْملك فِي سوَاده ورصافيته، فلمّا رآهُ جَعْفَر اسودَّ وَجهه، وَكَانَ عبد الْملك لَا يشربُ النَّبِيذ، وَهُوَ كَانَ سَبَب مَوْجدة الرشيد عَلَيْهِ. فَوقف عبد الْملك ودعا غلامَهُ فَنَاوَلَهُ قلنسوته وسواده وَقَالَ: افعلوا بِنَا مَا فَعلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، فَفعل ودعا برطلٍ فَشرب وَقَالَ: جعلني الله فدَاك، وَالله مَا شربته قبل الْيَوْم فَإِن رَأَيْت أَن تَأمر بِالتَّخْفِيفِ لي، فَدَعَا برطليَّة فوُضعت بَين يَدَيْهِ، وَجعل كل مَا فعل من ذَلِك شَيْئا سرِّي عَن جَعْفَر، فلمَّا أَرَادَ الِانْصِرَاف قَالَ لَهُ جَعْفَر: سَل حَاجَتك مِمَّا تحيط بِهِ مقدرتي مُكَافَأَة لما صنعت. قَالَ: إِن فِي قلب أَمِير الْمُؤمنِينَ هنَةً فتسأله الرضى عني رضى صرفا، قَالَ: قد رَضِي عَنْك، قَالَ: عليَّ أَرْبَعَة آلَاف ألف دِرْهَم دينا فيقضيها عنّي، قَالَ: وَالله إنّها عِنْدِي لحاضرة وَلَكِن تقضى من مَال أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ أنبلُ لَك

المجلس الخامس والثمانون

وأحبُّ إِلَيْك، قَالَ: وَإِبْرَاهِيم ابْني أحبُّ أَن أشدَّ ظَهره بصهرٍ من أَوْلَاد الْخلَافَة، قَالَ: قد زوَّجه أَمِير الْمُؤمنِينَ ابْنَته الْعَالِيَة، قَالَ: وَأحب أَن يخْفق اللِّوَاء على رَأسه، قَالَ: قد ولاَّه أَمِير الْمُؤمنِينَ بِلَاد مصر. وانصرفَ عبد الْملك ونحنُ نتعجَّب من إقدام جَعْفَر على قَضَاء حَوَائِجه من غير اسْتِئْذَان، وَقُلْنَا: لَعَلَّه يُجابُ إِلَى مَا سَأَلَ فَكيف بِالتَّزْوِيجِ؟ فلمّا كَانَ من الْغَد وقفنا بِبَاب الرشيد، وَدخل جَعْفَر فَلم يلبث أَن دَعَا بِأبي يُوسُف القَاضِي وَمُحَمّد بن الْحَسَن وَإِبْرَاهِيم بن عبد الْملك، فَخرج إِبْرَاهِيم وَقد خُلع عَلَيْهِ وعُقِدَ لَهُ وزوِّج وحُمِلَت الْبَدْر إِلَى منزل عبد الْملك، وَخرج جَعْفَر فأشارَ إِلَيْنَا باتباعه ثُمَّ قَالَ لنا: تعلَّقت قُلُوبكُمْ بِأول أَمر عبد الْملك فأحببتم علم آخِره، إنيّ لما دخلتُ على أَمِير الْمُؤمنِينَ سَأَلَني عَن خبري فَأَخْبَرته حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى خبر عبد الْملك فَجعل يَقُول: أحسن وَالله، أحسن وَالله، فَقَالَ: هَذَا مَا صنع فَمَاذَا صنعت أَنْت بِهِ؟ فَأَخْبَرته أَنِّي حكمته فاحتكم، فضمنت لَهُ قضاءَ حَوَائِجه، فَقَالَ: أَحْسَنت ودعا بِمَا رَأَيْتُمْ حتَّى استتمَّ لَهُ كلُّ مَا سَأَلَ. الْمجْلس الخامِس وَالثَمانون الرَّسُولُ يَتَّجِرُ لِخَدِيجَةَ حدَّثنا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْجَرِيرِيُّ إِمْلاءً مِنْ لَفْظِهِ قَالَ، حدَّثنا عَبْد الْبَاقِي بْن قَانِع قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا قَالَ، حدَّثنا شُعَيْبُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْد اللَّه بْن حَسَن بْن حَسَنٍ عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمَّتِهَا زَيْنَبَ عَنْ عَبد اللَّه بْن جَعْفَر قَالَ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ تَبَنَّى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ أَمْلَقَ وخفَّ مَا بِيَدِهِ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ خَدِيجَةَ توجِّه غُلامَهَا مَيْسَرَةَ فِي تجارةٍ إِلَى الشَّامِ، فأكلِّمها لَكَ فَتَخْرُجَ مَعَهُ، قَالَ: افْعَلْ يَا عَمُّ، فَجَاءَ مَعَهُ إِلَى خَدِيجَةَ فكلَّمها، فَكَانَتْ تُعْطِي كلَّ رَجُلٍ بَعِيرًا، فَخَرَجَ مَعَ مَيْسَرَةَ، فَأَصَابَ مَيْسَرَةُ ضِعْفَيْ مَا كَانَ يُصِيبُ مِنَ الرِّبْحِ، ثُمَّ قَدِمَا، وَوَقَعَ حبُّه فِي قَلْبِ مَيْسَرَةَ، فلمَّا قَرُبُوا مِنْ مَكَّةَ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ خَدِيجَةَ تُعْطِي كلَّ أجيرٍ بَعِيرًا إِ ذَا ذَهَبَ إِلَيْهَا يُبَشِّرُهَا بِقُدُومِنَا، فَاذْهَبْ فَإِنَّهَا سَتُعْطِيكَ بَعِيرَيْنِ، فَفَعَلَ. وَكَانَتْ خَدِيجَةُ قَدْ قدَّرت قُدُومَهُمْ فَجَلَسَتْ فِي مشربةٍ لَهَا وَمَعَهَا نسوةٌ من قُرَيْش ينتظرون قُدُومَهُمْ، إِذْ نَظَرَتْ فَإِذَا رجلٌ عَلَى بعيرٍ مقبلٌ عَلَى رَأْسِهِ سحابةٌ تظلُّه مِنَ الشَّمْسِ تَسِيرُ مَعَهُ، فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَقَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: هَلْ تَنْظُرْنَ مَا أَنْظُرُ؟ قُلْنَ: نَرَى رَجُلا مُقْبِلا عَلَى بَعِيرٍ، قَالَتْ: فَمَا تَرَيْنَ عَلَى رَأْسِهِ؟ قُلْنَ: مَا نَرَى شَيْئًا، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا أَنَّهُ شَيْءٌ خصَّت بِهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهَا تَبَيَّنَتْهُ ثُمَّ نَزَلَتْ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَأَخْبَرَهَا بِكَثْرَةِ رِبْحِهِمْ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي كُنْتُ أُعْطِي كلَّ أجيرٍ بَعِيرًا وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ بَعِيرَيْنِ بِحِمْلَيْهِمَا فَاذْهَبْ بِهِمَا إِلَى مَنْزِلِكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَاهَا وَقَدْ دَخَلَ مَيْسَرَةُ فَسَأَلَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ أَحْسَنَ صُحْبَةً وَلا أَعْظَمَ بَرَكَةً، مَا مَدَدْنَا أَيْدِيَنَا إِلَى شَيْءٍ إِلا نِلْنَاهُ، فَوَقَعَ فِي

أولاد الرسول من خديجة

قَلْبِهَا. ثُمَّ خَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: يَا محمّد: يَا مُحَمَّدُ أَمَا لَكَ أربٌ فِي النِّسَاءِ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَالٌ، قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تزوَّج بِي؟ قَالَ: وَتَفْعَلِينَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَمِّي، قَالَتْ: فَاسْتَأْذِنْهُ، قَالَ: فَجَاءَ إِلَى عمِّه فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ خَدِيجَةَ أيِّم قُرَيْشٍ وَأَكْثَرُهُمْ مَالا، وَأَنْتَ يَتِيمُ قريشٍ وَلا مَالَ لَكَ، ولكنَّها قَالَتْ لَكَ هَذَا عَلَى الْعَبَثِ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِلا مَا قَالَتْ لِي، قَالَ: إِنَّكَ لَصَادِقٌ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ بَعَثَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ إِلَى مَنْزِلِ خَدِيجَةَ لِيَعْلَمَ ذَلِكَ، فَذَهَبَتْ ثُمَّ أَتَتْهُ فَقَالَتْ: يَا أَبَا طَالِبٍ مَا تَعْثُرُ بشيءٍ إِلا قَالَتْ: لَا شَقِيتَ يَا مُحَمَّدُ، وَمَا تَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ إِلا قَالَتْ: لَا شَقِيتَ يَا مُحَمَّدُ. فَمَضَى مَعَهُ أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ عُمُومَتِهِ حَتَّى أَتَى أَبَاهَا فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ وتنحَّى لَهُ عَنْ مَجْلِسِهِ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: أَنْتَ أَوْلَى بِمَجْلِسِكَ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَجْلِسَ إِلا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: فِيمَ قَصَدْتَ؟ قَالَ: فِي حاجةٍ لِمُحَمَّدٍ، قَالَ: لَوْ سَأَلَنِي مُحَمَّدٌ أَنْ أُزَوِّجَهُ خَدِيجَةَ لَفَعَلْتُ فَمَا أحدٌ أعزُّ عليَّ مِنْهَا، قَالَ: فَمَا جِئْنَاكَ إِلا لِنَخْطُبَكَ خَدِيجَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ، قَالَ: فتكلَّم، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْفَحْلُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ فَخَطَبَ، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ وَمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ قُرَيْشٍ حُضُورٌ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا مِنْ زَرْعِ إِبْرَاهِيمَ وذريَّة إِسْمَاعِيلَ، وَجَعَلَ لَنَا بَيْتًا مَعْمُورًا وَحَرَمًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كلِّ شَيْءٍ، وَجَعَلَنَا الحكَّام عَلَى النَّاسِ فِي مَوْلِدِنَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أَخِي مُحَمَّدَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا يُوزَنُ بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلا رَجَحَ بِهِ، وَلا يُقَاسُ بأحدٍ مِنْهُمْ إِلا عَظُمَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ قلةٌ فَإِنَّ الْمَالَ رزقٌ جاءٍ وظلٌّ زَائِلٌ، وَلَهُ فِي خَدِيجَةَ رَغْبَةٌ وَلَهَا فِيهِ رَغْبَةٌ، والصَّداق مَا سَأَلْتُمْ، عَاجِلُهُ وَآجِلُهُ مِنْ مَالِي، وَلَهُ خطرٌ عَظِيمٌ وَشَأْنٌ شَائِعٌ جَسِيمٌ. فزوَّجه وَدَخَلَ بِهَا مِنَ الْغَدِ، فَأَوَّلَ مَا حَمَلَتْ وَلَدَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. أَوْلادُ الرَّسُولِ مِنْ خَدِيجَةَ حدَّثنا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ وَالْفُرَاتُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَدَتْ خَدِيجَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ، ثمَّ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُ رَجُلا وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ قَالَ لَهُ رجلٌ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الأَبْتَرُ، يَعْنِي النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ إِذَا وُلِدَ لِلرَّجُلِ ثُمَّ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ بَعْدِهِ قَالُوا: هَذَا الأَبْتَرُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ " " الْكَوْثَر:3 ": أَيْ: مُبْغِضُكَ هُوَ الأَبْتَرُ الَّذِي بُتِرَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ زَيْنَبَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ رقيَّة، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الطَّاهِرَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ المطهَّر، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الطيِّب، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ الْمُطَيَّبَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ أمَّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ أَصْغَرَهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

الأيم والناكح

وَكَانَتْ خَدِيجَةُ إِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا دَفَعَتْهُ إِلَى مَنْ يُرْضِعُهُ، فلمَّا وَلَدَتْ فَاطِمَةَ لَمْ يُرْضِعْهَا أحدٌ غَيْرَهَا. قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا دلَّ عَلَى نُبُوَّة النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبديع آيَاته، ورفيع مَنْزِلَته، وعظيم بركته، وَثُبُوت حجَّته، وَمن سَعَادَة خَدِيجَة مَا وفِّقت لَهُ من تكرمته وإيثاره وتقدمته، وَمَا اتفقَّ لَهَا من الشّرف بزوجيّته، والحظوة بالمخالطة لَهُ ثُمَّ تَصْدِيقه والمسارعة إِلَى الْإِيمَان بِهِ واتباعه على دينه بعد أَن تمكَّن عِنْدهَا من تظاهر الْأَخْبَار عَن نبوته، والتبشير بنجومه ودعائه إِلَى ربِّه وتبليغ شَرِيعَته، والوعد بثوابه والتوعد بعقابه، وَمَا تقدَّم من إِلْقَاء ورقة بن نَوْفَل إِلَيْهَا وَتَقْرِير من أمره عِنْدهَا صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه ورضوان الله وَسَلَامه عَلَيْهَا. الأيّم والناكح قَالَ القَاضِي: قَول أبي طَالب: " إِنَّ خَدِيجَة أيّم قُرَيْش " الأيم فِي كَلَام الْعَرَب: مَن لَا زوج لَهُ من رجلٍ أَو امْرَأَة كَمَا قَالَ جميل: أحبُّ الْأَيَامَى إِذْ بثينةُ أيّمٌ ... وأحببتُ لمّا أَن غنيت الغوانيا وَقَالَت صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب تخاطب ابْنهَا الزبير: وجربت آبادَ الدّهورِ عليكمُ ... وأسماءُ لَمْ تشعر بذلك أيِّم وَقَالَ آخر: لله درُّ بني عل ... يٍّ أيّمٍ مِنْهُم وناكح وَقَالَ آخر: فَإِن تنكحي أنكح وَإِن تتأيّمي ... وَإِن كنتُ أفتى منكمُ أتأيَّم ويروى: يَدَ الدَّهْر مَا لَمْ تنكحي أتأيّم. وَهُوَ مَعْرُوف كَثِير. والأَيْم بِالتَّخْفِيفِ الحيَّة. وَقَالَ الله عَزَّ وجلَّ فِي الْأَيَامَى: " وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ والصَّالحين مِنْ عِبَادِكُمْ " " النُّور: 32 " يريدُ من لَا زوج لَهَا من نِسَائِكُم؛ وَمن الْأَيَامَى أَيْضا قَول الشَّاعِر: إنَّ الْقُبُور تُنكح الْأَيَامَى ... والنسوة الأرامل الْيَتَامَى والمرءُ لَا يَنْقَى لَهُ سُلامَى وَمعنى هَذَا أَن الْمَوْت إِذا أَتَى على الرِّجال وأفنى أكارمهم أنكح بناتهم ووليّاتهم من يقصر عَن أحسابهنّ وَلَيْسَ بكفؤ لَهُنَّ. النقي والرّيرُ وَقَوله: " لَا تَنْقَى لَهُ سُلامى " أَي: من هُوَ قَلِيل الْخَيْر أَو لَا خير فِيهِ، وشبَّه ذَلِكَ بالمخ فَكَأَنَّهُ يَقُول: من لَيْسَ فِي سلامياته من قوائمه مخ وَهُوَ النِّفي، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أرارَ الله نَفْسَك فِي السُّلامى ... على من بالحنين تُعولينا وَيُقَال: إِن آخر مَا يبْقى من النقي فِي السُّلامى وَالْعين كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

هو الفحل لا يقرع أنفه

لَا يشتكين ألمًا مَا أَنقينْ ... مَا دَامَ فيهنَّ سلامى أَو عين ويروى مَا دَامَ نقي فِي سُلامى أَو عين. معنى: أرار: أذاب، ويُقال: للمخ الرَّقِيق ريرٌ، ورارٌ، لإنّه يرق عِنْد الْهُزال، قَالَ ابْن السكّيت: وَزعم القنانيُّ أنّه الرَّرير بِفَتْح الرَّاء، وأنشدَ: والسَّاق منّي باديات الرَّير قَالَ ويُقالُ: بارداتُ الرَّير، وَقَالَ الفرّاء: رَير ورِير وَرَارَ، وَقَالَ بعضُ اللغويين: باردات لَا غير مَكَان باديات، يُقَال فلَان بَارِد الْعِظَام إِذا كَانَ مهزولا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: الأبيضان أبردا عِظَامِي ... القتُّ والْمَاءُ بِلَا أدامِ وحدَّثنا أَبُو عَمْرو عَن ثَعْلَب قَالَ: فَسَأَلت ابْن الْأَعرَابِي: مَا تقولُ؟ قَالَ: العربُ تَقُولُ فلَان بَارِد الْعِظَام إِذا كَانَ مهزولا، وفلانٌ حارُّ الْعِظَام إِذا كَانَ سمينًا ممخًّا. والقتُّ حبٌّ أَبيض يشبه الجاورس يختبر ويُؤكل. وَزعم مُحَمَّد بن الْحَسَن أنَّ مَنْ وصَّى لأيامى بني فلَان فوصيته لثيبهم دون أبكارهم، وَهَذَا خطأ ظَاهر لما ذكرناهُ ووصفناه. وَاحْتج لَهُ بعض أَصْحَابه بِأَنَّهُ حمل هَذَا على عُرف النَّاس، وَلَيْسَ الْأَمر على مَا وَصفه لِأَن عرف الْخَاصَّة هُوَ مَا قدّمنا ذكره، وأمّا الْعَامَّة فَلَا تعرف هَذَا أصلا وَلَا علم لَهَا بِهِ. وَمن النقي قَول الْكُمَيْت: جزُّ ذِي الصوفِ وانتقاءٌ لذِي المخَّة وانعقْ ودعْدِعَنْ بالْبِهَامِ وَرُوِيَ أَن ممَّا أَمر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن تقصى فِي الْأَضَاحِي الْعَجْفَاء الَّتِي لَا تنقي، أَي لامخّ لَهَا. والسلامي عِظَام القوائم. هُوَ الْفَحْل لَا يقرع أَنْفُه وَقَول خويلد بن عبد العزَّى أبي خَدِيجَة: " إِن مُحَمَّدًا الفحلُ لَا يُقْرَعُ أَنفه " أَن الْعَرَب إِذا نزا الْفَحْل من الْإِبِل ولَيْسَ من كرائمها على نَاقَة كَرِيمَة قرعوا أَنفه طردًا لَهُ عَنْهَا ورغبة عَنْهُ بِهَا، وَإِذا كَانَ فيهم فَحل كريم لَمْ يدفعوهُ عَن الضراب فِي إبلهم وَلم يقرعُوا أَنفه. فَقَالُوا فِي الْكَرِيم النجيب من النَّاس: لَا يُقرع أَنفه، أَي يرغب فِيهِ وَلَا يرد عَن حاجةٍ لدناءته ولؤمه، فوصف أَبُو خَدِيجَة رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهذه الصّفة الَّتِي هُوَ أَحَق النَّاس بِهَا. وَقَول أَبي طَالب: " وَإِن كَانَ فِي المَال قلَّة " الْمَشْهُور من الرِّوَايَة: وَإِن كَانَ فِي المَال قلُّ، وَهُوَ الْقلَّة والضيق، والعربُ تَقُولُ: الحمدُ لله على الْقُلّ والكثر، أَي على قَلِيل الرزق وَكَثِيره، وَقَالَ الشَّاعِر: قد يَقْصُرُ القلُّ الْفَتى دونَ همِّه ... وَقد كَانَ لَوْلَا القلُّ طلاَّع أَنْجُدِ وَقَالَ لبيد: كُلّ بني حرَّةٍ قُصَارهم ... قلٌّ وَإِن أكثرتْ من العددِ إِن يُغْبَطُوا يُهْبَطوا وَإِن أَمِرُوا ... يَوْمًا يصيروا للقلِّ والنَّكد ويُقال: هُوَ قلّ بن قُل، وضُل بن ضلٍ، إِذا كَانَ " لَا يعرف أَبَاهُ و " لَا يُعْرَفُ أَبوهُ.

هو أبتر

هُوَ أَبتر وأمّا قَول الْعَاصِ بن وَائِل - فضَّ الله فَاه، وقبَّحه وأخزاه، وأبعده وأقصه - فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله واصطفاهُ وأكرمه واجتباه، وَرفع قدره وَأَعلاهُ، إنّه " أَبتر " على مَا كَانَت العربُ تَقوله فِي من لَا ولد لَهُ يُذكر بِهِ بعده هُوَ أَبتر، أَي مُنْقَطع الذّكر، فَحسب نبيّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَول الله جلّ ذكره فِي كِتَابه: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشَّرْح:4 ". وَقَالَ فِي عدوّه وعدوّ رَسُوله: " إنَّ شائنك هُوَ الأَبْتَرُ " " الْكَوْثَر:3 "، فَوَسمه الله عَزَّ وَجَلَّ بِهذه السِّمة الَّتِي لَا تُرحضُ وَلَا تُغْسَل، وَلَا تُمْحَى وَلَا تُبدل، كَمَا وسم أَبَا جهل بِهذه الكنية على لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَت عَيْبا لَازِما، وعارًا وَاقعا بِهِ دَائِما، حتَّى كَانَ مِمَّا قيل فِيهِ من الشّعْر المتضمّن لِهذا الَّذِي وسم بِهِ: النَّاس كنّوه أَبَا حكمٍ ... وَالله كنَّاه أَبَا جهل وَمِمَّا يحقُّ لِذَوي الْأَلْبَاب أَن ينعموا التفكر فِيهِ قَول الله عَزَّ وَجَلَّ لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ " " الشَّرْح:4 ". جَاءَ فِي التَّفْسِير: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ معي. أَلا ترى أَن الشَّهَادَة لَهُ بالرسالة مقرونة بِالشَّهَادَةِ لله عزَّ وَجَلَّ بالربوبية، فَلَنْ يدخلَ أحدٌ الْإِسْلَام إِلَّا بِهما، وَأَنه يُذْكَرُ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، والغدوّ وَالْآصَال، ويكرَّر ذكره فِي الْأَذَان وإقام الصَّلَاة والإمامة لَهَا على ترادف السَّاعَات وتتابع الْأَوْقَات، وَأَن آدم عَلَيْهِ السَّلام الَّذِي كلُّ آدميٍّ ولدُهُ إِنَّما يُذْكَرُ فِي الأحيان والإبّان بعد الإبَّان وَفِي الفينة بعد الفينة عِنْدَمَا يعرض من ذكره أَو تُلِيَ من الْقُرْآن مَا تقتصُّ فِيهِ قصَّته، وَهَذَا مِمَّا فَكرت فِيهِ واستخرجته وَمَا علمت أحدا سبقني إِلَيْهِ وَلَا تقدَّمني فِي استنباطه. نصيب لَا ينشد الشّعْر يَوْم الْجُمُعَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا العكلي عَن ابْن الْكَلْبِيّ عَن عوَانَة، عَن رجلٍ من قُرَيْش من سَاكِني الْكُوفَة قَالَ: قدم نُصَيب الْكُوفَة فوجَّهني أبي إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ صديقا، فَقَالَ: أبلغه عني السَّلام وَقل لَهُ: يقولُ لكَ أبي إِن رَأَيْت أَن تُهْدي إليَّ شَيْئا من قَوْلك فعلت. فَأَتَيْته فِي يَوْم جُمُعَة وَهُوَ يُصلي، فأمهلتُ حَتَّى قضى صلَاته ثُمَّ أَقرَأته السَّلام وأديتُ إِلَيْهِ الرسَالَة، فردَّ وَأحسن ثُمَّ قَالَ: قد علم أبوكَ أَنِّي لَا أُنْشِدُ الشّعْر فِي يَوْم الْجُمُعَة، وَلَكِن تعودُ وَيكون مَا تُحبّ، فَلَمَّا ذهبت لأنصرفَ دَعَاني فَقَالَ لي: أتروي الشّعْر؟ قلت: نعم، قَالَ: فأنشدني لجميل فَأَنْشَدته: إِنِّي لأحفظُ سرَّكم ويسرُّني ... لَو تعلمين بصالحٍ أَن تُذْكَري وَيكون يَوْمًا لَا أرى لَك مُرْسلا ... أَو نَلْتَقِي فِيهِ عليَّ كأشهر يَا لَيْتَني ألْقى المنيةَ بَغْتَة ... إِن كَانَ يومُ لقائكمْ لَمْ يُقْدَرِ

سمرة الخارجي والحجاج

يقْضِي الدُّيُون وَلَيْسَ يُنْجِزُ عَاجلا ... هَذَا الغريمُ لنا وَلَيْسَ بمعسر فَقَالَ: لله دره، وَالله مَا قَالَ أحدٌ إِلَّا دون قَوْله، وَلَقَد ترك لنا مِثَالا يُحْذَى عَلَيْهِ، أما أصدقنا فِي شعره فجميل، وأمّا أوصفنا لربّاتِ الحجال فكثيّر، وَأما كذبنَا إِذا قَالَ الشّعْر فعمر، وأمّا أَنا فَأَقُول مَا أعرف. سُمْرَة الْخَارِجِي وَالْحجاج حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو بَكْرٍ النَّاقِدُ بسرَّ مَنْ رَأَى سَنَةَ ثَلَاث وَعشْرين وثلاثمائة قَالَ، حَدَّثَنَا العنبريّ قَالَ، حَدَّثَنَا قَاسم بن مُحَمَّد بن عباد قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي الشَّرْقِي بن الْقطَامِي قَالَ: كَانَ سَمُرَةُ بن الجَعْدِ من قَعَد الْأزَارِقَة، غير أَنَّهُ لَمْ يكن يُعْرَفُ بذلك، وَكَانَ قد وَقعت لَهُ من الْحجَّاج منزلةٌ حَتَّى كَانَ يُدْخِلُهُ فِي سَمَرهِ، فَلَمَّا سَار قطريّ بن الْفُجَاءَة إِلَى جِيرفتَ كتب إِلَى سَمُرَة بن الْجَعْد يعيّره مقَامه عَنْهُم وركونه إِلَى الدُّنْيَا، وَكَانَ فِي كِتَابه إِلَيْهِ: لشتَّان مَا بَين ابْن جعدٍ وبيننا ... إِذا نحنُ رُحْنا فِي الْحَدِيد المظاهرِ نجالِدُ فرسانَ المهلَّب كلُّنا ... صبورٌ على وقعِ السيوف البواترِ وراحَ يجرُّ الخزَّ نحوَ أميره ... أميرٍ بتقوى ربِّه غير آمُر أَبَا الْجَعْد أَيْن الْحلم والعلمُ والتقى ... وميراثُ آباءٍ كرامِ العناصر ألم ترَ أَن الْمَوْت لابدَّ نازلٌ ... وَلَا بدَّ من بَعْثِ الأُلى فِي المقابرِ حُفَاة عُرَاة والثوابُ لديهمُ ... فَمن بَين ذِي ربحٍ وَآخر خاسر فَسِر نحونا إنَّ الْجِهَاد غنيمةٌ ... تُفِدْكَ ابتياعًا رابحًا غير بائر فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابه لحق بِهم وَكتب إِلَى الْحجَّاج: فَمن مُبلغُ الْحجَّاج أنَّ سميرةً ... قلى كلَّ دينٍ غيرِ دين الْخَوَارِج قَالَ القَاضِي: يَجوز " كلَّ دين غير " خفضًا ونصبًا، الْخَفْض على الصّفة لدينٍ والنصبُ على الصّفة لكل وعَلى الِاسْتِثْنَاء. رأى النَّاس إِلَّا من رأى مثلَ رَأْيهمْ ... ملاعينَ ترَّاكين قصد المخارج فإنّي امرؤأي يَا ابنَ يوسفٍ ... ظفرتَ بِهِ لَو نلتَ علم الولائج إِذا لرأيتَ الحقَّ مِنْهُ مُخالفًا ... لرأيك إِذْ كنتَ امْرَءًا غير فالج فَأَقْبَلت نحوَ الله بِاللَّه واثقًا ... وَمَا كُرْبَتي غير الْإِلَه بفارج إِلَى قطريٍّ فِي الشراةِ معارجًا ... ولستُ إِلَى غير الشّراةِ بعارجِ

تفسير الولائج وفالج وناهج

إِلَى عصبَة أما النهارَ فإنَّهم ... هم الأسدُ أسدُ البأسِ عندَ التهايجِ وأمّا إِذا مَا الليلُ جنَّ فإنَّهم ... قيامٌ كأنواحِ النِّسَاء النواشجِ ينادونَ بالتحكيم لله إنَّهم ... رَأَوْا حُكْمَ عمروٍ كالرياح الهوائج وَحكم ابْن قيسٍ قبل ذاكَ فأُعْصِمُوا ... بحبلٍ شديدِ الفتلِ لَيْسَ بناهج تَفْسِير الولائج وفالج وناهج قَالَ القَاضِي: قَوْله " علم الولائج " أَي الدخائل من ولج أَي دخل، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّه وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً " " التَّوْبَة: 16 " أَي دخلةً يستبطنونَها تخَالف مَا يُظْهِرونَه من إيمانِهم، وَقَوله: " غير فالج " أَي غير مُصِيب ظافر فائز قد فَلَجَتْ حجَّته. وأمّا قَوْله: " كأنواح النساءِ " فقد فسَّرناه فِي مجلسٍ قبل هَذَا. وأمّا: " لَيْسَ بناهجِ " أَي لَيْسَ ببالٍ مُخْلق، يُقال: قد أنْهَج الْبُرْدُ وغيرهُ من الثِّيَاب إِذا صارَ كَذَلِك، كَمَا قَالَ سُحَيْم عبدُ بني الحسحاس. وَمَا زالَ بُرْدي طيبا من ثِيَابهَا ... إِلَى الحولِ حَتَّى أنْهَجَ البردُ بَالِيًا خطْبَة لعمر بن عبد الْعَزِيز حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَةَ الأَزْدِيُّ عَنِ ابْنِ أُخْتِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ النَّاسَ بِخُنَاصِرَةَ فَقَالَ، بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: أيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الأَمَانُ عِنْدَ اللَّهِ غَدًا لِمَنْ بَاعَ قَلِيلا بِكَثِيرٍ، فَنَظَرَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ وَحَاسَبَهَا فِي يَوْمِهِ قَبْلَ غَدِهِ، فَإِنَّ السَّعِيدَ مِنْكُمْ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ وَالسَّلامُ. بَين الْمُؤلف وجَمَّال قَالَ القَاضِي: رأيتُ شَيخا جَمَّالا بالنهروان سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة بِيَدِهِ خُطَامُ بعيرٍ يقودُهُ وَهُوَ يترنَّم بِأَبْيَات، فاستحسنت إنشادها وهششتُ لَهُ، فقربت مِنْهُ فَقلت لَهُ: مَا اسْمك؟ قَالَ: خصيب، قلت: ابْن من أَنْت؟ فانتسب إِلَى أبٍ نسيتُ اسْمه، فَقلت لَهُ: هَلْ كتبتَ شَيْئا من الْعلم وَالْأَدب أم عنْدك شيءٌ من الحَدِيث؟ فَقَالَ: قد سمعتُ كثيرا، فقلتُ: أتحفظُ مِنْهُ شَيْئا تملّهُ عليّ، وَكَانَ معظمُ حِرْصِي على ذَلِكَ من أجل اسْمه، فَقَالَ لي: كتبتُ مِمَّا ذكرت شَيْئا كثيرا وَلم يبْق عِنْدِي مِنْهُ شَيْء، وَمَا أحفظُ مِمَّا سمعته شَيْئا إِلَّا هَذِه الأبيات الَّتِي تسمعني أترنَّم بِهَا، فَإِن شَيخا بخراسان أملاها عليَّ وَزعم أنَّها لأبي الْعَتَاهِيَة. فَسَأَلته إملاءها عليَّ، فأنشدني، ثُمَّ وَجدتهَا فِيمَا يعزى إِلَى أبي الْعَتَاهِيَة م الشّعْر وَهِي: يَا ربّ سلمٍ أضرَّ من حَرْبِ ... وَرب عذرٍ أشدَّ من عَتْبِ وَرب بعدٍ بِهِ عَن الذَّنب يَك ... فِي المرءَ من لومه عَن الذَّنب وَرُبمَا كَانَ فِي التبسم والإقبا ... ل مَا لَا يكونُ فِي الضَّرب

المؤلف ينتقد تصرف رئيس جاهل

وربَّ عزٍّ فِي حَال مَخْمَصَة ... وَرب ذلٍّ فِي الْأكل وَالشرب وَرُبمَا كَانَت الملالَةُ إف ... راطًا شَدِيدا من وامق صبّ وَرب ذِي بغية يُعاجله ... من قبلهَا صرعةٌ على الْجنب وَرُبمَا دارت الْمنية فِي القو ... م كَدَوْرِ العقارِ فِي الشَّرب يَا صورًا نقّلت إِلَى الترب بِالْمَوْتِ كَمَا صوِّرت من الترب تجْرِي إِلَيْنَا بِالرَّفْع والخفض ... والجزم على ذَا الإِنْسَان وَالنّصب منتظرًا نَحْبَهُ إِلَى أجل ... لابدَّ مِنْهُ لذَلِك النحب يشفي امْرِئ غيظه بسبّ امْرِئ والحلم أشفى لَهُ من السبّ وَقد تلين العيدان حَتَّى يكون اللَّين مِنْهَا أَقْوَى من الصلب قَوْله " اللَّين أَرَادَ اللين فَخفف، كَمَا قَالَ: مَيْت وميّت، وهَيْن وهيَّن، ولَيْن وليِّن. الْمُؤلف ينْتَقد تصرف رَئِيس جَاهِل ولي فِي معنى أول هَذِه الأبيات شَيْء، وَذَلِكَ لِأَن بعض من قُدّم من رَئِيس فِي زَمَاننَا أرسل إِلَيّ صاحبًا لَهُ وَأَنا عليلٌ وَقد اجتمعَ حَولي جماعةٌ يعودوني، فَقَالَ لي وهم يسمعونه: إنَّ فلَانا - يَعْنِي صَاحبه - يعْتَذر من تَأَخره عَن عيادتك بشيءٍ ذكره لَيْسَ فِيهِ عذرٌ لَهُ، فاستجهلت الرَّسُول والمرسِلَ واستسخفتهما وَقلت: ربَّ حقيرٍ من الذنوبِ ... عظَّمه العذرُ فِي الْقُلُوب أبداهُ ذُو غفلةٍ وخرقٍ ... فجَاء يُوفي على الخطوب وَلَو لَمْ يؤدِّ إليَّ هَذِه الرسَالَة ظَاهرا لما علم الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْني، مَعَ علمهمْ بِما كَانَ بَيْننَا من ظَاهر الْمَوَدَّة. وَقد ابتذلت الْعَامَّة هذَيْن المثلين: عذره أشدُّ من ذَنبه، وَاضْرِبْهُ على ذَنبه مائَة وعَلى عذره مِائَتَيْنِ. أَن امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس يَعْنِي أَحْمَد بن يَحْيَى قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة قَالَ، حَدَّثَنَا خَلاد الأرقط قَالَ: كُنَّا على بَاب أبي عَمْرو بن الْعَلَاء فتذاكرنا أَن الْحجَّاج كتب إِلَى قُتَيْبَة بن مُسلم إِنِّي وَإِيَّاك لدةٌ، وإنَّ امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّةً إِلَى منهل لقمنٌ أَن يردهُ. فأدرنا ذَلِكَ بَيْننَا وجعلناه شعرًا فَقُلْنَا: وإنَّ امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّة ... إِلَى منهلٍ من وردهِ لَقَريبُ قَالَ خَلاد: وقلتُ أَنا وانفردت بِهذا الْبَيْت:

المجلس السادس والثمانون

وَمن كَانَ فِي الدُّنْيَا على حالِ قلعةٍ ... وَإِن طالَ فِيهَا عمرُهُ لغريبُ قَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي، وأنشدنا أَبُو عَليّ الْعَنزي قَالَ، أنشدنا أَحْمَد بن بكير الْأَسدي: إِذا مَا خلوتَ الدهرَ يَوْمًا فَلَا تقل ... خلوت وَلَكِن قُل عليَّ رقيبُ وَإِن امْرَءًا قد سَار خمسين حجَّةً ... إِلَى منهلٍ من وردهِ لقريبُ إِذا مَا نقضى الْقرن الّذي أَنْت فيهم ... وخلفِقت فِي قرنٍ فَأَنت غريبُ نسيبك من أَمْسَى يُناجيكَ طَرْفهُ ... وَلَيْسَ لِمن تَحت التُّرَاب نسيبُ فأحسنْ قروضًا مَا استطعتَ فإنَّما ... بقرضك تُجْزَى والقروضُ ضروبُ وَلَا تحسبنَّ الله يغْفل سَاعَة ... وَلَا أَن مَا يَخفى عَلَيْهِ يَغيبُ قَالَ القَاضِي: قد بيَّنَّا فِي بعض مَا مضى من هَذِه الْمجَالِس معنى " قمن " وَمَا فِيهِ وَفِي أخواته من اللُّغات، فاستغنينا عَن تَفْسِيره من كَلَام الحجّاج فِي هَذَا الْخَبَر. وأمَّا الشّعْر الَّذِي أنشدناهُ ابْن الْأَنْبَارِي فِي هَذَا الْخَبَر عَن الْعَنزي عَن أَحْمَد بن بكير فقد قدَّمنا فِي بعض مَا قدمنَا من مجالسنا هَذِه خَبرا فِيهِ هَذَا الشّعْر، وَذكرنَا الخلافَ فِي من يُنْسَبُ إِلَيْهِ. المجلِسُ السَّادس وَالثَمانون حَدِيثُ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حدَّثنا إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق القَاضِي قَالَ، حدَّثنا الْعَلَاء بن الْفضل ابْن أَبِي سَوِيَّةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عِكْرَاشِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي بَنُو مرَّة بْنِ عبيدٍ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَتَيْتُهُ بِإِبِلٍ كَأَنَّهَا عُرُوقُ الأَرْطَى فَقَالَ لِي: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: عِكْرَاشُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، فَقَالَ لِي: ارْفَعِ النَّسَبَ، فَقُلْتُ: ابْنُ حُرْقُوصِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ النَّزَّالِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَهَذِهِ صَدَقَاتُ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ، فَتَبَسَّمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: هَذِهِ إِبِلُ قَوْمِي، هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِي، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُوسَمَ بِمَيْسَمِ الصَّدَقَةِ وَأَنْ تضمَّ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي وَمَضَى بِي إِلَى مَنْزِلِ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَأُتِينَا بجفنةٍ كَثِيرَةِ الثَّرِيدِ وَالْوَذْرِ، فَجَعَلْتُ أَخْبِطُ فِي نَوَاحِيهَا، وَجعل الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى يَدِي الْيُمْنَى وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ واحدٍ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ أُتِينَا بطبقٍ فِيهِ أَلْوَانُ رطبٍ أَوْ تَمْرٍ فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ مَوْضِعٍ واحدٍ، وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّبَقِ، وَقَالَ لِي: يَا عِكْرَاشُ إِنَّهُ غَيْرُ لونٍ واحدٍ فَكُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ. ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ، بِبَلَلِ يَدَيْهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ وَقَالَ: يَا عِكْرَاشُ هَكَذَا الْوُضُوءُ مِمَّا غيَّرت النَّارُ. تَفْسِير الحَدِيث قَالَ أَبُو بكر: قَوْله " كأنَّها عروق الأَرطى ": الأرطى شجرٌ، وَاحِدهَا أَرْطَاة، وعروق

الارطى عروقحمر، وَكَذَلِكَ عروق السدر، فشبَّه الإبلَ بعروق الأرضي لحمرتِها، وَذَلِكَ أَن أشرفَ الإبلِ عِنْد الْعَرَب حمرها. وَفِيهِ قَول آخر وَهُوَ أَنَّهُ شبَّه الْإِبِل بعروق الأرطى لضمرها، وَذَلِكَ أَن ضمرها يدل عل نجابتها وكرمها، والعربُ تشبِّه الثورَ وَالْحمار بعروق الأرطى فِي الضمر، قَالَ الشَّاعِر فِي صفة حمَار: خاظٍ كعرق السدر يس ... بق غَارة الخوص النجائب يَعْنِي بالخاظي الْحمار الممتلئ السَّرِيع. وَقَالَ ذُو الرمة يذكر ثورًا يحْفر عَن أصل شَجَرَة: توخَّاه بالأَظلافِ حَتَّى كأنَّما ... يثير الكثابَ الْجُعْدَ عَن متنِ مِحْمَلِ الكثاب مَا يكثب من الرمل، والمحمل وَاحِد حمائل السَّيْف، يشبه حمرةَ عروقِ الشَّجَرَة بحمرة حمائل السَّيْف. والوذر جمع الوذرة وَهِي قِطْعَة لحم مجتمعة، والهبرةُ تشبهها إِلَّا أنَّها أكبرُ مِنْهَا، وَجمع الهبرة هبر. قَالَ القَاضِي: وفضلُ حُمْرِ الإبلِ على غَيرهَا مَشْهُور، وَمن مَعْرُوف كَلَامهم قَول قَائِلهمْ: كَذَا وَكَذَا أحبُّ إليَّ من حُمْرِ النَّعم، فخصُّوا حمرها لشرفها. والأرطى شجرٌ مَعْرُوف عِنْد الْعَرَب، وَهِي شَجَرَة مستطيلة الْوَرق الْوَاحِدَة مِنْهَا أَرْطَاة، وَقَالَ العجاج: باتَ إِلَى أرطاةِ حقفٍ أَحْقَفَا وَقَالَ الشماخ فِي الْجمع. إِذا الأرطى توسَّد أبرديه ... خدودُ جوازئٍ بالرمل عين وَقَالَ آخر: وَلَوْلَا جنونُ الليلِ أدركَ ركضنا ... بِذِي الرِّمث والأَرْطَى عياضَ بنَ ناشب وَالشَّاهِد فِي هَذَا كَثِير جدًّا. قَالَ القَاضِي: وَألف أرطى أثبتَ للإلحاق بالأربعة كجعفر وَسَلْهَب، وَهُوَ ثلاثيٌّ أَصله " أرط " يدلُّ على هَذَا قَوْلهم أديمٌ مأروط، أَي مدبوغٌ بالأرطى، وَإِذا سميت بِهِ رجلا لَمْ تصرفه فِي الْمعرفَة لشبهه ألف التَّأْنِيث وَأَنه معرفَة، وَانْصَرف فِي النكرَة ليفرق بَين ألف التَّأْنِيث وَبَين الْألف الزَّائِدَة لغير التَّأْنِيث. وَفِي هَذَا الْخَبَر من حسن مخالقة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميلِ عشرته وكريم شيمته، وتأنيسه عكراش بن ذُؤَيْب وتواضعه لله بمؤاكلته، وتعليمه كَيفَ يَأْكُل أَنْوَاع الطَّعَام مؤتَلِفِه ومختلفه، مِمَّا يباهي شرِيف مَنْزِلَته، ويوازي جلالة مرتبته. وحقَّ على كلِّ ذِي لبّ وَدين وفطرةٍ سليمَة من أهل الدَّين تقيُّل فعله واتِّبَاع سَبيله والانتهاء إِلَى مَا نَدَبَ إِلَيْهِ والتأدّب بِما اخْتَارَهُ. وَفِيمَا جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَر أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أَن أكلَ وَغسل يَدَيْهِ وَمسح بِهما وَجهه وذراعيه قَالَ: هَكَذَا الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار،

قوة منطق الحجاج

وَهَذَا يدلُ على أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِما أَمر بِهِ من الْوضُوء مِمَّا غيرت النَّار وَمَا مسَّت النَّار الْأَدَب والتنظفَ دون الْوضُوء الْمَفْرُوض على من قَامَ إِلَى الصَّلَاة. وآراء الْمُحدثين، وترتيبُ الْأَخْبَار فِيهِ تتضمنه كتبنَا فِي الْفِقْه. قُوَّة منطق الْحجَّاج حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بن عِيسَى عَن الْعَبَّاس بْن هِشَام عَنْ أَبِيه عَن عوَانَة قَالَ: خطب الحجاجُ الناسَ بِالْكُوفَةِ فحمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الْعرَاق، تزعمونَ أنَّا من بَقِيَّة ثَمود، وتزعمون أَنِّي سَاحر، وتزعمون أنَّ الله عزَّ وَجَلَّ علَّمني اسْما من أَسْمَائِهِ أقهركم بِهِ، وَأَنْتُم أولياؤُهُ بزعمكم وَأَنا عدوه، فبيني وَبَيْنكُم كتاب الله تَعَالَى. قَالَ " عَزَّ وجلَّ: " فلمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نجَّينا صَالِحًا والَّذين آمَنُوا مَعَهُ " هود " 66 " فنحنُ بقيةُ الصالِحين إنْ كنَّا من ثَمود. وَقَالَ جلّ وَعز: " إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ ساحرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى " " طه:69 " وَالله أعدلُ فِي حكمه من أَن يعلّمَ عدوا من أعدائِهِ اسْما من أَسْمَائِهِ يهزمُ بِهِ أولياءه. ثُمَّ حَمِيَ من كَثْرَة كَلَامه فتحامل على رمَّانة الْمِنْبَر فحطمها، فَجعل النَّاس يتلاحظونَ بَينهم وَهُوَ ينظرُ إِلَيْهِم، فَقَالَ: يَا أَعدَاء اللَّه مَا هَذَا الترامز؟ أَنا حُدَيا الظبي السانحِ والغرابِ الأبقع والكوكب ذِي الذَّنب، ثُمَّ أَمر بذلك العودِ فأُصْلِح قبل أَن ينزل من الْمِنْبَر. الحديا قَالَ أَبُو بكر: الحديّا أَن يتحدَّى الرجلَ فَيَقُول: افعلْ كَذَا حَتَّى أَفعلهُ، ثُمَّ يفعل كَفعل أَخِيه. قَالَ القَاضِي: قد أَتَى أَبُو بكر بِالْأَصْلِ فِي معنى حُدَيّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَقّق تَفْسِيره، وَمَا ذكره من تحدي الرجل ليَأْتِي بِفعل ثُمَّ يَأْتِي هُوَ بِمثلِهِ فَيكون هَذَا، وَيكون أَن يبرز الرجل على غَيره فِي شَيْء ويبرَّ فِيهِ على من سواهُ، ويبذّ فِي تمكنه مِنْهُ وَسَبقه إِلَيْهِ من عداهُ، فَإِن عَارضه فِيهِ غَيره وحكاهُ فقد قاومه وساواه، وَإِن عجز من مقاومته وكلَّ من مناهضته فالمتحدَّي غالبٌ ظَاهر والمتحدَّي مغلوبٌ غير ظافر، وعاجزٌ غير قَادر، لَا سِيمَا إِن كَانَ فِي قصرته عَن المقاومة نبأ عَظِيم وخطب جسيم كَالَّذي كَانَ فِي تحدي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه أَن يعارضوا الْقُرْآن الَّذِي أبانه الله من سَائِر النَّاس، وَجعله من أكبر أَعْلَامه ودلائه، وَأَن يَأْتُوا بسورةٍ مثله، فَظهر عجزهم، وَثبتت الْحجَّة عَلَيْهِم، وَقتلُوا دون ذَلِكَ وأسروا وأخربت دِيَارهمْ وتعقبت آثَارهم، فانقلبوا صاغرين أذلّاء داخرين. وَهَذَا بَاب قد استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع مِمَّا ألفناه وأمللناه، من ذَلِكَ صدر كتَابنَا المسمَّى: " الْبَيَان الموجز عَنْ عُلُوم الْقُرْآن المعجز ". والحديَّا فِي هَذِه الْكَلِمَة أَتَى مصغّر اً وَلم يسْتَعْمل المكبَّر فِي بَابه، وَمثله كَثِير كقولِهم السُّكيت من الْخَيل، وحُمَيْل للطائر وكُمَيت. وَنَظِير الحديا الثريا، تَقْدِير الأَصْل فِيهَا غير مصغر

السخاء في مفهوم ابن المقفع

يرْوى مثل شروى، فَهَكَذَا حديا كَأَن أَصله حدوى، من حدوته على كَذَا، وَمثله حميا الكأس أَصله من حموها وحَمْيِها أَي احتدامها وحرارتِها وحدتها وسورتها، يُقال: حمي الشَّيْء يحمى حموًا وحميًا، وَقَول من قَالَ: حمى يحمَى حَمى خطأ، وإنَّما مرَّ على قِيَاس الْبَاب فِي الأَصْل مثل شَجِيَ يشجى شَجى وعميَ يَعْمَى عَمى. وَقد جرى فِي هَذَا الْمَعْنى بيني وَبَين رجلٍ من أهل زَمَاننَا لَهُ حظّ من حفظ اللُّغَة كلامٌ فِي هَذَا الْمَعْنى، وأنكرتُ عَلَيْهِ قَوْله أَصَابَهُ ظَلَع، فقلتُ لَهُ: إنَّما هُوَ ظلعٌ بِإِسْكَان اللَّام، فأقامَ على خطائه مُتَعَلقا بِالْقِيَاسِ الَّذِي قدمتُ ذكره، فقلتُ لَهُ: كَيفَ تلفظ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي مِنْهُ حميَ يحمى فَقَالَ: حمًا، مارًّا على وتيرته فعرَّفته فسادَ مَا أَتَى بِهِ، وذكرتُ لَهُ شَيْئا حدِّثت بِهِ عَن أَحْمَد بن يَحْيَى النَّحْوِيّ وَهُوَ أَنَّهُ ذكر الحَمْوَ والحمي وأنكرَ قَول من يَقُول حَمَى، قيل لَهُ إِن حاكيًا حكى عَنْهُ حَمَى فَقَالَ من حكى عني هَذَا فاصفعوه. فَكَأَنَّهُ انْكَسَرَ باله وَلم يظْهر رُجُوعا عَن قَوْله. وَمثل الحديا من الصَّحِيح السَّكري وسُكَيْرَى وَقَوْلهمْ غَضبى وغضيبي. وَمن الحديا قَوْل عَمْرو بن كُلْثُوم التغلبي: حُدَيّا الناسِ كلِّهم جَمِيعًا ... مقارعةً بنيهم عَن بنينَا فسّره بعضُ أهل الْعلم فَقَالَ: المقارعة المخاطرة هَاهُنَا. حديّا النَّاس: يُقالُ أَنا حدياك عَن هَذَا الْأَمر أَي أَنا أخاطرك عَلَيْهِ، أَرَادَ إِذْ نَحن نُقَاتِل النَّاس أَجْمَعِينَ نقارعهم بَينهم عَن بَينا، فَإِن غلبناهم سبينَا نساءَهم، وَإِن غلبونا فعلوا بِنَا مثل ذَلِكَ. وَقَول الْحجَّاج: " أَنا حديّا الظبي السانحِ والغرابِ الأبقع والكوكب ذِي الذَّنب " فَإِنَّهُ أَرَادَ إنَّا لثقتنا بالغلبة والاستعلاء، والإفحاطة والاستيلاء، نتحدى ارْتِفَاع الظبي سانحًا، وَهُوَ أَحْمَد مَا يكون فِي سرعته ومضائه، والغراب الأبقع فِي تحذره وذكائه، ومكره وخبثه ودهائه، وَذَا الذَّنب من الْكَوَاكِب فِيمَا ينذر بِهِ من عواقب مَكْرُوهَة وبلائه، فَقَالَ الْحجَّاج هَذَا مختالا فِي غلوائه، ومرهبًا لِمن بَين ظهرانيه من أعدائه، وَالله ذُو الْبَأْس الشَّديد بالمرصاد لَهُ ولحزبه وأوليائه. السخاء فِي مَفْهُوم ابْن المقفع حدَّثنا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ: حدَّثنا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْغلابِي قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْعُود بن بشر الْمَازِني قَالَ، حدَّثنا أَبُو عَمْرو خَلاد بن يزِيد الأرقط قَالَ، قَالَ ابْن المقفع: السخاء سخاءان: سخاء الْمَرْء بِما فِي يَدَيْهِ وَهُوَ أذكرهما فِي النّاس وأشهرهما، وسخاء الْمَرْء عَن مَا فِي أَيدي النَّاس وَهُوَ أَمْحَضُهُمَا فِي الْكَرم. وأنشدَ مَسْعُود: إنَّ الْغِنَى عَن لئامِ النّاسِ مكرمةٌ ... وَعَن كرامهمُ أدْنى إِلَى الكَرَمِ تَفْسِير أَلْقَت عصاها حِين تَمَثَّلَت بِهَا عَائِشَة حدَّثنا محمَّد بْن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ الْغَنَوِيُّ قَالَ: لَمَّا نعي عليُّ ابْن أَبِي طَالِبٍ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا واستقرَّ بهَا النَّوَى ... كَمَا قرَّعيناً بِالإِيابِ الْمُسَافِرُ

بم تمثل معاوية حين جاءه نعي علي

قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ لَنَا أَبُو حسن ابْن الْبَرَاءِ، قَالَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَزْدِيُّ: مَعْنَى تَمَثُّلِ عَائِشَةَ بِهَذَا الْبَيْت: لتصنع الْعَرَب بعد عليٍّما شَاءَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهَا مَنْ يَقْمَعُهَا وَيَصْرِفُهَا عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الحقِّ. قَالَ: ثمِّ قَالَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ تَمَثُّلِهَا بِهَذَا الْبَيْتِ: إِنْ كَانَ لَمِنْ أَكْرَمِ رِجَالِنَا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم. بِم تَمثل مُعَاوِيَة حِين جَاءَهُ نَعْي عَليّ قَالَ: ولَمَّا نُعِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تمثَّل بِأَبْيَات لبيد: قُضِيَ القضاءُ وأُنْجِزَ الموعودُ ... وَالله ربِّي ماجدٌ محمودُ وَله النَّوَافِل والفضائل كلُّها ... وَله أثيثُ الْخَيْر والمعدودُ وَلَقَد بَلَتْ إرمٌ وعادٌ كيدهُ ... وَلَقَد بَلَتْهُ قبلَ ذَاك ثَمودُ خلَّوا ثيابَهُم على عوراتِهم ... فهم بأفنية الْبيُوت همود ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قد كنتُ حذَّرت الغداةَ محرّقًا ... فَأَتَت منيّته الحذارَ النّاجزا تَمثل ابْن الزبير وَابْن عَبَّاس حِين بلغهما نعي مُعَاوِيَة ولَمَّا نُعي مُعَاوِيَة قَالَ عبد الله بن الزبير: ذهب وَالله عزُّ بني أميَّة، كَانَ وَالله كَمَا قَالَ الشَّاعِر: رَكُوبُ المنابرِ ذُو همّةٍ ... معنٌّ بخطبته مجْهَرُ تثوبُ إِلَيْهِ هوادي الْكَلَام ... إِذا ضلَّ خطْبته الْمِهْمَر ولِمّا بلغ نعيهُ عبدَ الله بن الْعَبَّاس قَالَ: جبلٌ تصدَّع ثُمَّ مَال بركنِهِ ... فِي الْبَحْر لَا رُتِقَتْ عَلَيْهِ الأبحرُ تَمثل مُعَاوِيَة لَمَّا نُعي إِلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: ولَمَّا نُعي عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَة قَالَ: مَاذَا رزئنا بِهِ من حيّةٍ ذَكَرٍ ... نضناضةٍ للمنايا صلِّ أصلالِ ولاّجةٍ من ذرى الْأَهْوَال إِن نزلت ... خرَّاجةٍ من ذراها غير زيَّال موقف جرير حِين نعي إِلَيْهِ الفرزدق قَالَ: ولمَّا نُعي الفرزدق إِلَى جرير وَهُوَ بالبادية اعْترض الطَّرِيق فَإِذا أَعْرَابِي على قعودٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ جرير: من أَيْن وممَّن؟ قَالَ: من الْبَصْرَة وَمن بني حَنْظَلَة، قَالَ: هَلْ من جائية خبر؟ قَالَ: نعم، بَينا أَنا بالمربد فَإِذا أَنا بِجنَازَة عَظِيمَة قد جفل لَهَا النَّاس فِيهَا الْحَسَن بن أبي الْحَسَن الْبَصْرِيّ فقلتُ: من؟ قَالُوا: الفرزدق، فَبكى جرير بكاء شَدِيدا فَقَالَ لَهُ قومه: أَتَبْكِي على رجلٍ يهجوكَ وتهجوه مذ أَرْبَعُونَ سنة؟ قَالَ: إِلَيْكُم عَنِّي فوَاللَّه مَا تبارى رجلانِ وَلَا تناطحَ كبشان فَمَاتَ أَحدهمَا إِلَّا تبعه الآخر عَن قريب. وأنشدنا أبي الأبيات

إذا بلغت المدة

عَن أبي الْهَيْثَم وَغَيره: لعمري لَئِن كَانَ المخبِّر صَادِقا ... لقد عَظُمَتْ بلوى تميمٍ وجلَّت فَلَا حَمَلَتْ بَعد الفرزدق حرَّةٌ ... وَلَا ذاتُ حملٍ من نِفَاسٍ تعلَّت هُوَ الْوَافِد المحبُّو والراقعُ الثّأي ... إِذا النَّعل يَوْمًا بالعشيرة زلَتِ قَالَ: ثُمَّ عَاشَ بعده أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَمَات. قَالَ القَاضِي: قد أَتَى فِي وَفَاة الفرزدق ونعيه إِلَى جرير وَمَا رثاهُ بِهِ عدَّة أَخْبَار، وَهِي تَأتي فِي أخبارنا على تفرّقها واختلافها، إِن شَاءَ الله. إِذا بلغت الْمدَّة حدثَّنا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زِيَاد الْمقري قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ وَسِيمٍ البوشنجي ببوشنج قَالَ: حَدثنَا عيد الرَّحْمَن بْن أَخِي الْأَصْمَعِي عَنْ عمّه قَالَ: قلتُ لأبي عليٍّ يَحْيَى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَهُوَ فِي مَجْلِسه: لَو فعلت كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَقَالَ لي: يَا أَبَا سعيد إِذا بلغت المدَّة، ونفدت العدَّة، حَجَزَ بَين الإِنْسَان وَبَين حِيَلِهِ سدَّة. تَعْزِيَة للْعَبَّاس بن الْحَسَن حدَّثنا عمر بن الْحَسَن بن مَالك الشَّيْبَانِيّ قَالَ: حدَّثنا مُحَمَّد بن زيد قَالَ: عزَّى الْعَبَّاس بن الْحَسَن رجلا فَقَالَ: لَمْ آتكَ شاكًّا فِي حزمك وَلَا زَائِدا فِي علمك، ولكنّه حق الصّديق على الصّديق، فاسبق السلوَّ بالصير. الْحَدِيثُ فِي اقْتِنَاءِ الْكَلْبِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصَّولي قَالَ: حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبد اللَّهِ بْنُ الصبَّاح قَالَ: قَالَ الْمَنْصُورُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: مَا بلغلك فِي الْكَلْبِ؟ قَالَ: قَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لِغَيْرِ زرعٍ وَلا حراسةٍ وَلا صيدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كلَّ يومٍ قِيرَاطٌ، قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ، قَالَ الْمَنْصُورُ: خُذْهَا بِحَقِّهَا، ذَاكَ لأَنَّهُ يَنْبَحُ الضَّيْفَ ويروِّع السَّائِلَ. أموي يتشفع بِيَحْيَى الْبَرْمَكِي لَدَى الرشيد حَدَّثَنِي أَبُو النَّصْر الْعقيلِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَن بن رَاهَوَيْه الْكَاتِب قَالَ: قَالَ يَحْيَى بن خَالِد الْبَرْمَكِي فِي أَيَّام الرشيد: جَاءَنِي رجلٌ وَأَنا فِي دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ فذكرَ أَنَّهُ من بني أميَّة، وَقَالَ: إِنِّي قصدتُ أَمِير الْمُؤمنِينَ لاستوصله وأمتَّ إِلَيْهِ برحمي، فَإِن رأيتَ أصلحكَ الله أَن توصلني إِلَيْهِ لأخاطبه بِما يَبْعَثهُ على بري وصلتي فعلتَ، وَأَنت الشريكُ فِي الشُّكْر وَالْأَجْر، فتذمَّمت أَن أردَّه بِغَيْر قَضَاء حَاجته، فدخلتُ على الرشيد فاستأذنته لَهُ، فَأذن فَدخل فسلَّم وَأحسن ودعا فَأكْثر، ثُمَّ أنشأ يَقُول: يَا أمينَ الله إِنِّي قائلٌ ... قولَ ذِي دينٍ وصدقٍ وحَسَبْ لكمُ الفضُل علينا وَلنَا ... بِكُم الفخرُ على كلِّ الْعَرَب

ذو القرنين وأمة متزهدة

عبدُ شمسٍ كَانَ يَتْلُو هاشمًا ... وهما بعدُ لأمٍّ ولأب فَصِلِ الْأَرْحَام منَّا إنَّما ... عبدُ شمسٍ عمُّ عبدِ المطلّب قَالَ: فَأمر لَهُ الرشيد بجائزة عَظِيمَة فأحضرت فقبضها ثُمَّ خرج، وَخرجت لألحقه وأُضيفَ إِلَى جَائِزَة أَمِير الْمُؤمنِينَ صلَة من مَالِي فَلم أَرَهُ، فأمرتُ بِطَلَبِهِ فَلم أَجِدهُ. قَالَ القَاضِي: قَوْله فِي هَذَا الْخَبَر: " وأمتُّ إِلَيْهِ برحمي " أَي أُدْلِي، وَمثله أمطُّ وأمدّ. ذُو القرنين وَأمة متزهدة حَدَّثَنَا عبيد الله بْن محمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِم بن هَاشم أَبُو محْمَد قَالَ، حَدَّثَنَا الحكم بن نَافِع قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَان بن عَمْرو عَن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيّ أَن ذَا القرنين أَتَى على أمة من الْأُمَم لَيْسَ فِي أَيْديهم شيءٌ مِمَّا يسْتَمْتع بِهِ النَّاس من دنياهم، قد احتفروا قبورًا، فَإِذا أَصْبحُوا تعهّدوا تِلْكَ الْقُبُور فكنسوها وصلَّوا عِنْدهَا، ورعوا البقل كَمَا تَرْعَى الْبَهَائِم، وَقد قُيّض لَهم فِي ذَلِكَ معاش من نَبَات الأَرْض، فأرسلَ ذُو القرنين إِلَى ملكهم فَقَالَ لَهُ: أجب الْملك ذَا القرنين، فَقَالَ: مَالِي إِلَيْهِ حَاجَة، فَأقبل إِلَيْهِ ذُو القرنين فَقَالَ: إِنِّي أرْسَلْتُ إليكَ لتَأْتِيني فأبيت، أَنا ذَا قد جئْتُك، فَقَالَ لَهُ: لَو كَانَت لي إليكَ حاجةٌ لأتيتُكَ، فَقَالَ لَهُ ذُو القرنين: مَا لي أَرَاكُم على الْحَال الَّتِي رَأَيْت لَمْ أرَ أحدا من الْأُمَم عَلَيْهَا؟ قَالُوا: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: لَيْسَ لكم دنيا وَلَا شَيْء، أَفلا اتّخذتُم الذّهبَ والفضَّة فاستمتعتم بِهَا؟ فَقَالُوا: إنَّما كرهناها لِأَن أحدا لَمْ يُعطَ مِنْهَا شَيْئا إِلَّا تاقت نَفسه وَدَعَتْهُ إِلَى أفضل مِنْهُ، فَقَالَ: مَا بالكم قد احتفرتم قبورًا فَإِذا أَصْبَحْتُم تعهدتموها فكنستموها وصليتم عِنْدهَا؟ قَالُوا: أردنَا إِذا نَظرنَا إِلَيْهَا فأمَّلنا الدُّنْيَا منعتنا قبورنا من الأمل، قَالَ: وأراكم لَا طَعَام لكم إِلَّا البقل من الأَرْض، أَفلا اتّخذتم الْبَهَائِم من الْأَنْعَام فاحتلبتموها وركبتموها وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا؟ قَالُوا: كرهنا أَن نجعلَ بطوننا قبورًا لَهَا، ورأينا أَن فِي نَبَات الأَرْض بلاغًا، وإنَّما يَكْفِي ابْن آدم أدْنَى الْعَيْش من الطَّعَام وإنّ مَا جاوزَ الحنك لَمْ نجد لَهُ طعمًا كَائِنا مَا كَانَ من الطَّعَام. ثُمَّ بسط ملك تِلْكَ الأَرْض يَده خلف ذِي القرنين فَتَنَاول جمجمة فَقَالَ: يَا ذَا القرنين أَتَدْرِي من هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَمن هُوَ؟ قَالَ: ملكٌ من مُلُوك الأَرْض أعطاهُ الله سُلْطَانا على أهل الأَرْض فغشم وظلم وعتا، فلمَّا رأى الله عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْهُ حسمه بِالْمَوْتِ، فَصَارَ كالحجر الْملقى قد أحصى الله عَلَيْهِ عمله حَتَّى يجْزِيه فِي الْآخِرَة. ثُمَّ تنَاول جمجمة أُخْرَى فَقَالَ: يَا ذَا القرنين هَلْ تَدْرِي من هَذَا؟ قَالَ: لَا، وَمن هُوَ؟ قَالَ: هَذَا ملك ملّكه الله بعدهمْ، قد كَانَ يرى مَا يصنع الَّذِي قبله بِالنَّاسِ من الغشم وَالظُّلم والتجبّر، فتواضع وخشع لله عَزَّ وَجَلَّ وَعمل بِالْعَدْلِ فِي أهل مَمْلَكَته فَصَارَ كَمَا ترى، قد أحصى الله عَلَيْهِ عمله حَتَّى يجْزِيه فِي آخرته. ثُمَّ أَهْوى إِلَى جُمجمة ذِي القرنين فَقَالَ: وَهَذِه الجمجمة كَأَن قد كَانَت كهاتين، فَانْظُر يَا

جود أبي دلف وجود أبي البختري

ذَا القرنين مَا أَنْت صانعٌ. فَقَالَ لَهُ ذُو القرنين: هَلْ لَك فِي صحبتي فأتّخذ ك أَخا ووزيرًا وشريكًا فِيمَا آتَانِي الله من هَذَا المَال؟ قَالَ: مَا أصلحُ أَنا وَأَنت فِي مَكَان وَلَا أَن نَكُون جَميعًا. قَالَ ذُو القرنين: ولِمَ؟ قَالَ: من أجل أنّ النّاس كلهم لَك عَدو ولي صديق، قَالَ: وَلم ذَاك؟ قَالَ: يعادونك لِما فِي يدك من الْملك وَالْمَال وَالدُّنْيَا، وَلَا أجدُ أحدا يُعاديني لرفضي لذَلِك وَلما عِنْدِي من الْحَاجة وقلَّة الشَّيْء، فَانْصَرف عَنْهُ ذُو القرنين. قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا إِذا اعْتَبرهُ ذُو اللُّبِّ وفكر فِيهِ وتأملّه أدَّاه بِتَوْفِيق الله جلّ وعزّ إِلَى الزّهْد فِي الدُّنْيَا وَالرَّغْبَة فِي الْآخِرَة. وَلِذِي القرنين عندنَا فِي هَذَا الْمَعْنى أخبارٌ تَأتي متفرّقة فِيمَا يَأْتِي من مجَالِس هَذَا الْكتاب إِن شَاءَ الله. جود أبي دلف وجود أبي البخْترِي حدَّثنا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد النحويّ قَالَ: أَنْشدني ابْن أبي دلف قَول ابْن أبي فنن فِي أَبِيه أبي دلفٍ: مَا لي وَمَا لَك قد كلفتني شططًا ... حمْلَ السلاحِ وقولَ الدّارعين قفِ أمِن رجال المنايا خِلْتَني رجلا ... أُمسي وَأصْبح مشتاقًا إِلَى التَّلف تسْعَى المنايا إِلَى غَيْرِي فأكرهها ... فَكيف أسْعَى إِلَيْهَا عاريَ الكتفِ يَا هَلْ حسبت سوادَ اللَّيْل غيّرني ... وأنَّ روحيَ فِي جَنْبَيْ أبي دلفِ قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ أَبُو دلف بِخَمْسِمِائَة دِينَار، فقلتُ لَهُ: هلا فعل أبوكَ كَمَا فعل أَبُو البخْترِي القَاضِي؟ قَالَ: وَمَا فعل؟ قلتُ: رُوِيَ لنا أَن رجلا باذّ الْهَيْئَة دخل على قومٍ وهم على شراب لَهُم فحطّوا مرتبته فِي الشَّرَاب فَقَالَ: نبيذانِ فِي مجلسٍ واحدٍ ... لإيثار مثرٍ على مقترِ وَلَو كنتُ تفعلُ ذَا فِي الطَّعَام ... لزمتَ قياسَك فِي الْمُسكر وَلَو كنت تسلك سبل الْكِرَام ... سلكتَ سَبِيل أبي البخْترِي تتبّع إخوانَه فِي الْبِلَاد ... فأغنى المقلَّ عَن المكثر قَالَ: فَبعث إِلَيْهِ أَبُو البخْترِي بِأَلف دِينَار. قَالَ القَاضِي: وَفِي غَيْر هَذِهِ الرِّوَايَة قبل الْبَيْت الأول من هَذِه الأبيات: تأمَّلْ قَبِيح الَّذِي جِئْته ... تَجده خُلُوفَ فمِ الأبخرِ وَهَذَا من قَبِيح الهجاء وَفِيهِ مُبَالغَة فِي الذَّم عَجِيبَة. وأنشدنا فِي هَذَا الْمَعْنى. رأيتُ نبيذين فِي مجلسٍ ... فَقلت لساقٍ لنا مَا السَّبب فقالَ الَّذِي نحنُ فِي بيتِه ... يفضِّل قوما بسوءِ الأدبْ

تعريف بأبي البختري

تَعْرِيف بِأبي البخْترِي فأمَّا أَبُو البخْترِي هَذَا فَهُوَ وهب الْقرشِي الْأَسدي الفِهري؛ قَالَ القَاضِي: وَله أخبارٌ كَثِيرَة، ومدحه الشُّعَرَاء مدحًا كثيرا لسماحته وسعة عطائه واستفاضة مكارمه وسجاحة أخلاقه، وَقد ذمَّه آخَرُونَ وَطعن فِيهِ الْأَئِمَّة من الأكابر والرؤساء وأعلام الْمُحدثين وَالْعُلَمَاء ونسبوهُ إِلَى الْكَذِب فِيمَا يرويهِ وَوضع كثيرٍ من الحَدِيث الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ، وهجاهُ بِهذا الْمَعْنى بعض الشُّعَرَاء، وَلَعَلَّ بعض مَا لَمْ نذكرهُ من أخباره يَأْتِي فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الْمجْلس السَّابع وَالثَّمَانُونَ حَدِيثٌ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ الْمَالِ أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيلَ الأَدَمِيُّ سَنَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ وثلثمائة قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ يَعْنِي الأَزْرَقَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلْمَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ صَاحب إبلٍ وَلَا بقيرٍ وَلا غنمٍ لَا يُؤَدِّي حقَّها إِلا أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بقاعٍ قرقرٍ تطأه ذَاتُ الخفِّ بِخُفِّهَا، وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا، لَيْسَ فِيهَا يومئذٍ لَا جمَّاء وَلا مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: إِطْرَاقُ فَحْلِهَا. شرح بعض أَلْفَاظ الحَدِيث قَالَ القَاضِي: قَوْله: " بقاعٍ قَرْقَر " أَي أملسَ مستوٍ، ويُقالُ قاع قرق وقرقر وقرقوس، وَمن القرق قَول الراجز. كَأَنّ أيْديهنَّ بالقَاعِ القَرِقْ ... أَيدي جوارٍ يتعاطينَ الوَرِقْ وَقَوله: " إطراق فَحلهَا ": يُقال أطرق الرجل فَحل إبِله: من طلبه ليطرقَ إناثَ إبِله للنتاج، وَفِي هَذَا مَا يدلُّ على وجوب الإطراق على صَاحب الْفَحْل، وَلذَلِك نَهَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن عسيب الْفَحْل وَهُوَ إِجَارَته للضراب. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الأُبَلِّيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ عُمَرُ بن عَبدُوس الهمذاني بالإسكندرية قَالَ: حَدثنَا هاني بْنُ مُتَوَكِّلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَعُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ فِحْلَةَ فَرَسِهِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سهل القشي قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَعُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْقَاضِي قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ فِحْلَةَ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عُقَيْلَ بْنَ خَالِدٍ. قَالَ القَاضِي: فإجارة

أعرابي يخضب لحيته

الْفَحْل للضراب غير جَائِزَة لِما وردَ فِيهَا من نهي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولأنَّ ذَلِكَ من الْغرَر الَّذِي نَهَى عَنْهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قد يُراد الْفَحْل على الضراب فيمنتع، وَقد يُكْرَهُ مِنْهُ الضراب فيتوثَّب عَلَيْهِ، فَهُوَ مَحْظُور بِما ورد من الْأَخْبَار وبدليل النّظر من جِهَة الْقيَاس وَالِاعْتِبَار وَكَانَ مَالك فِي من سلك سَبيله من أهل الْمَدِينَة يجيزونَ هَذَا ويرخصونَ فِيهِ وَلَا يرونَ بِهِ بَأْسا، وَالسّنة وَالْقِيَاس أولى بالاتباع. وَمن العسب قَول زُهَيْر: وَلَوْلَا عَسْبُهُ لتركتموهُ ... وشرُّ منيحةٍ أيرٌ مُعَارُ وَقد جَاءَ فِي الْأَمر بإطراق الْفَحْل أخبارٌ كَثِيرَة، وَرُوِيَ من التوعد مثل مَا ذكرنَا فِي هَذَا الْخَبَر فِي مَانع الزَّكَاة، وَجَائِز أَن يقعَ التعذيبُ بِما وَصفنَا، وكلِّ من منع حقًّا وَجب فِي هَذَا المَال عَلَيْهِ بزكاةٍ أَو غَيرهَا. أَعْرَابِي يخضب لحيته حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيد قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه الْأَصْمَعِي قَالَ: قدم علينا أَعْرَابِي من الْبَادِيَة شيخٌ كبيرٌ، فقصدته فَوَجَدته يخضب لحيته، فَقَالَ مَا حَاجَتك؟ فَقلت: بَلغنِي مَا خصَّك الله بِهِ فجئتك لأقتبس مِنْك، يَا ابنَ أخي إنَّكَ جئتني وَأَنا أخضب، وَإِن الخضاب من عَلَامَات الْكبر، وَوَاللَّه لطالما غدوتُ على صيدِ الوحوش، وسرتُ أَمَام الجيوش، واختلت فِي الرِّدَاء، ولهوتُ بِالنسَاء، وقريتُ الضيفَ، وأرويتُ السَّيْف، وشربتُ الراح، ونادمتُ الجحجاح، والآن فقد حناني الْكبر، وَضعف مني الْبَصَر، وحلَّ بعد الصفو الكدر، وَأَنْشَأَ يَقُول: شيبٌ تعلِّله كَيْمَا تغرَّ بِهِ ... كَهَيئَةِ الثوبِ مطويًا على مِزَقِ قد كنتُ كالغصنِ ترتاحُ الرياحُ لَهُ ... فصرتُ عودًا بِلَا ماءٍ وَلَا وَرَقِ قَالَ القَاضِي: ويروى " كَيْمَا تدلسه "، وَقَالَ أَيْضا: يرْوى " كالعود ". صبرا على الدَّهْر إنَّ الدهرَ ذُو غيرٍ ... وأهلُهُ مِنْهُ بَين الصفوِ والرَّنق خطْبَة لعمر بن عبد الْعَزِيز وَشرح بعض ألفاظها حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأَزْدِيّ عَن ابْن أُخْت أَبِي الْوَزِيرِ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الناسَ بِعَرَفَة فَقَالَ، بعد أَن حمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ: أيُّها النَّاس إنَّكم قد جئْتُمْ من الْقَرِيب والبعيد، وأنضيتم الظّهْر، وأخلقتم الثِّيَاب، وَلَيْسَ السَّابِق اليومَ مَنْ سبقتْ رَاحِلَته أَو دَابَّته، ولكنَّ السابقَ اليومَ من غفر لَهُ. قَالَ القَاضِي: قَوْله: " أنضيتم الظّهْر " أَي اشْتَدَّ سيركم عَلَيْهِ، فكلَّ وضمر لأنكم جهدتموه وهزلتموه فَصَارَ نضوًا، يُقَال: هُوَ نضو، فِي الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْجمع، وَقد يُقال: للْأُنْثَى نضوة وجَمعها نضوات وأنشدوا: وروضةٍ سقيتُ مِنْهُ نِضْوَتي

تصرف مؤذن في زمن الورد

وَالرَّوْضَة مَا يبْقى من المَاء فِي الْحَوْض. ويُقال: حَمَلٌ نضوٌ، وجَمْعَه أنضاء. وَقد زعم بعضُ اللغويين أَنَّهُ يُقال: نَضَوْتُ الظهرَ كَمَا يُقال: نضا ثَوْبه إِذا نَزعه ينضوه نضوًا، وَمن ذَلِكَ قَول امْرِئ الْقَيْس: فَجئْت وَقد نضَتْ لنومٍ ثِيَابهَا ... لَدَى السّتْر إِلَّا لبسة المتفضّلِ وَقَالَ من ذهب إِلَى هَذَا: إِنَّه يُقال نضا الرجلُ ثَوْبه إِذا نَزعه، ونضوتُهُ عَنْهُ إِذا أَلقيته عَنْهُ، فكأنَّ الَّذِي جهدَ رَاحِلَته وكدَّها حَتَّى هزلها أَو أرذاها نزع عَنْهَا مَا كَانَ لَهَا من من سمن وَقُوَّة، ويُقال: رَاحِلَة مهزولةٌ وهزيلٌ مثل مقتولة وقتيل، وَإِذا سَقَطت من إتعابك لَهَا وعُنْفِكَ بِهَا وَشدَّة سيركَ عَلَيْهَا فقد أرذيتها، وَهِي رذيَّة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يَا ربَّ ملكٍ قد تركتُ رذيَّة ... تقلّبُ عينيها إِذا طارَ طائرُ وَتجمع رذايا كَمَا قَالَ الإياديّ: رذايا كالبلايا أَو ... كعيدانٍ من القَضْبِ وَمن كَلَامهم: أَتَت الرذايا تحمل البلايا، والقَضْبُ الرّطبَة، قَالَ الله تَعَالَى ذكره: " فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حبّاً وَقَضْبًا " " عبس: 27 ". تصرف مُؤذن فِي زمن الْورْد حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد قَالَ، حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ: كَانَ فِي زمَان الْمَأْمُون شيخٌ مؤذِّنٌ مسجدٍ وإمامه، فَكَانَ إِذْ جَاءَ زمَان الْورْد أغلق بَاب الْمَسْجِد وَدفع مفتاحه إِلَى بعض جِيرَانه وَأَنْشَأَ يَقُول: يَا صاحبيَّ اسقياني ... من قهوةٍ خندريسِ على جنيَّات وردٍ ... يُذْهِبْنَ همَّ النفوسِ خذا من الْورْد حظًّا ... بالقصفِ غير خسيس مَا تنظرانِ وَهَذَا ... أَوَان حثِّ الكؤوس فبادرا قبلَ فَوت ... لَا عِطْرَ بعد عروس قَالَ: فَلَا يزالُ على هَذَا حَتَّى إِذا انْقَضتْ أَيَّام الْورْد رَجَعَ إِلَى مَسْجده وَأَنْشَأَ يَقُول: تبدلت من ورد جنيّ ومسمع ... شهيٍّ وَمن لَهو وَشرب مدامِ وأنسٍ بِمن أَهْوى وصَحْبٍ ألفتهم ... بكأس ندامى كالشموسِ كرام أذانًا وإخباتًا وقومًا أؤمّهم ... لصرف زمانٍ مولعٍ بغرامِ فَذَلِك دأبي أَو أرى الْورْد طالِعًا ... فأتركُ أَصْحَابِي بِغَيْر إمامِ وأرجعُ فِي لهوي وأتركُ مَسْجِدي ... يؤذِّن فِيهِ من يشا بِسَلام قَالَ القَاضِي: الخندريس من أَسمَاء الْخمر وَقد أَكثر الشُّعَرَاء من تَسْمِيَتهَا بِهذا، وَزعم

دسائس الأحوص

بَعضهم أَن أَصله بِالْفَارِسِيَّةِ وَأَنه كندريش أَي أَن شاربها يخفُّ ويطرب فينتف لحيته. دسائس الْأَحْوَص حدَّثنا محمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَليّ الْعَنزي قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن الذارع قَالَ: حَدَّثَنِي الْوَلِيد بن هِشَام القحذمي قَالَ: وَفَد وفْد من الْمَدِينَة إِلَى الْوَلِيد بن عبد الْملك بِالشَّام، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس وَالنَّاس عِنْده إِذْ دخل عَلَيْهِ عبد للأحوص بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ فَقَالَ: أعوذُ بِاللَّه وَبِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مِمَّا يكلفني الْأَحْوَص قَالَ: وَمَا يكلّفك؟ قَالَ: فَأخْبرهُ أَنَّهُ يُريدهُ على أَمر مَذْمُوم، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد: كذبت أَي عدوَّ الله على مَوْلَاك، اخْرُج، قَالَ: فَخرج فلمّا شاع الْخَبَر اندسَّ الْأَحْوَص إِلَى غُلَام رجلٍ من آل أبي لَهب فَقَالَ لَهُ: إنْ دخلتَ على أَمِير الْمُؤمنِينَ فشكوت من مَوْلَاك مَا شكا عَبدِي منّي أعطيتُكَ مِائَتي دِينَار، فَدخل العَبْد على الْوَلِيد فَشَكا من مَوْلَاهُ مَا شكا عبد الْأَحْوَص مِنْهُ، ومولاه جالسٌ عِنْد الْوَلِيد فِي السماطين، فَنظر إِلَيْهِ الْوَلِيد فَقَالَ: مَا هَذَا يَا فلَان؟ فَقَالَ: مظلومٌ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِين واللَّه مَا كَانَ هَذَا، وَهَذَا وفدُ أهل الْمَدِينَة فسلهم عني، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: مَا أبعده ممَّا رماهُ بِهِ غُلَامه، فَقَالَ: خذوهُ فأُخذَ الْغُلَام فضُربَ بَين يَدي الْوَلِيد، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تعجل عليَّ حتَّى أخْبرك بِالْأَمر، أَتَانِي الْأَحْوَص فَجعل لي مِائَتي دِينَار على أَن أدخلَ عَلَيْك فأشكو من مولَايَ مَا شكا عبد مِنْهُ. فأرسلَ إِلَى الْأَحْوَص فأُتِيَ بِهِ فَأمر بِه الْوَلِيد فجُرد وَضرب بَين يَدَيْهِ ضربا مبرحًا وَقَالَ: أَي عدوَّ الله سترتُ عَلَيْك مَا شكا عَبدك فعمدت إِلَى رجلٍ من قُرَيْش تُرِيدُ أَن تفضحه؟! فسُيّر إِلَى دَهلك، جَزِيرَة فِي الْبَحْر، فَلم يزل مسيَّراً أَيَّام الْوَلِيد وَسليمَان، فلمّا كَانَت خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَجَعَ الْأَحْوَص إِلَى الْمَدِينَة وَقَالَ: هَذَا رجلٌ أَنا خَاله - يَعْنِي عمر - فَمَا يصنعُ بِي. وَكَانَت أم عمر بن عبد الْعَزِيز بنت عَاصِم بن عمر بن الْخطاب وَأم عَاصِم أنصارية بنت عَاصِم بن أبي الأقلح الأَنْصَارِيّ. قَالَ القَاضِي: هُوَ عَاصِم بن ثَابت بن قيس وَهُوَ أَبُو الأقلح. الْأَحْوَص ومعبد وزين الغدير فبلغَ ذَلِكَ عمر بن عبد الْعَزِيز فَأمر بِهِ فردَّ إِلَى دهلك، فلمَّا قَامَ يزِيد بن عبد الْملك رجعَ الْأَحْوَص إِلَى الْمَدِينَة ثُمَّ إِنَّه خرج وافدًا إِلَى يزِيد بن عبد الْملك فمرَّ بِمعبد المغنّي فَقَالَ لَهُ معبد: الصُّحْبَة يَا أَبَا عُثْمَان، قَالَ: مَا أحبُّ أَن تصحبني، تَقُولُ وُفُود الْعَرَب هَذَا ابْن الَّذِي حَمَتْ لَحْمَهُ الدَّبر والغسيل معبدٌ مَعَه مغنّ فَقَالَ: لابدّ وَالله من الصُّحْبَة، فلمّا أَبى إِلَّا أَن يَصْحَبهُ ذهب فلمّا نزل البلقاء، وَهِي من الشَّام، أَصَابَهُم مطرٌ من اللَّيْل، فَأَصْبَحت الْغُدُر مَمْلُوءَة، فَقَالَ للأحوص: لَو أَقَمْنَا الْيَوْم هَاهُنَا فتغدينا على هَذَا الغدير، ففعلا، ورُفِعَ لَهما قصرٌ لَمْ يريَا بِنَاء غَيره، فلمّا أَصْبحُوا خرجت جاريةٌ مَعهَا جرّةٌ إِلَى غَدِير من تِلْكَ

من هي عاتكة التي يذكرها الأحوص

الْغُدر فملأت جرَّتها، فلمّا رفعتها وَمَضَت بِهَا رَمَت بالجرَّة فكسرتها، فَقَالَ معبد للأحوص: أرأيتَ مَا رأيتُ وَمَا صنعت هَذِه؟ قَالَ: نعم، فأرسلَ إِلَيْهَا الْأَحْوَص بعض غلمانه فَقَالَ: مَا حملكَ على مَا صنعت فقد رَأينَا الَّذِي صنعت؟ قَالَ: إِنِّي طربت، قَالَ: وَمَا أطربك؟ قَالَ: ذكرتُ صَوتا كُنَّا نغني بِهِ أَنا وَصَوَاحِب لي بِالْمَدِينَةِ فأطربني فَكسرت الجرَّة، قَالَ: وَمَا الصَّوْت؟ قَالَ: يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزَّل ... حذر العدى وَبِه الْفُؤَاد موكَّل قَالَ: ولِمَن هَذَا الشّعْر؟ قَالَ: للأحوص الأَنْصَارِيّ، قَالَ: فالغناء؟ قَالَت: لمعبد، فَقَالَا لَهَا: أفتعرفيننا؟ قَالَت: لَا، قَالَ: فَأَنا الْأَحْوَص وَهَذَا معبد، لمن كنت بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَت: لآل فلَان، اشتراني أهلُ هَذَا الْقصر فصرت هَاهُنَا مَا أرى أحدا غَيرهم، وَقَالَت: فإنَّ لي حَاجَة، قَالَا: مَا حَاجَتك؟ قَالَت لمعبد تغنيني، قَالَ الْأَحْوَص لمعبد: غنّها، قَالَ: فَجعلت تقترحُ ويغنيّها حَتَّى قَضَتْ حَاجَتهَا ثُمَّ قَالَا لَهَا: أتحبينَ أَن نعملَ لَك فِي الْخُرُوج من هَاهُنَا؟ قَالَت: نعم، فلمّا قدما على يزِيد بن عبد الْملك ودخلا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الْأَحْوَص: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي رأيتُ فِي مسيرنا عجبا، نزلنَا إِلَى البلقاء فَرَأَيْنَا جَارِيَة، وقصّ عَلَيْهِ قصَّتهَا قَالَ: أفتعرفها؟ قَالَ: نعم، فسمَّاها وَأَهْلهَا موضعهَا وَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا الَّذِي أقولُ فِيهَا: " إنَّ زينَ الغدير من كسر الجرَّ وغنى غنّاء فحلٍ مجيدِ قلتُ من أَنْت يَا ظعينَ فَقَالَت ... كنتُ فِيمَا مضى لآل الوليدِ ثُمَّ بدِّلت بعد حيِّ قريشٍ ... من بني عامرٍ لآلِ الوحيد فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لِفتى النَّاس الأحوصِ الصنديد يعجز المالُ عَن شراكِ ولكنْ ... سَوف نُسْميك للهمام يزِيد قَالَ: فَمضى لذَلِك مَا مضى، ثُمَّ دخلَ الْأَحْوَص ومعبد جَميعًا على يزِيد فَأخْرج إِلَيْهِمَا الْجَارِيَة ثُمَّ قَالَ لَهَا الْأَحْوَص: أوفينا لَك؟ قَالَت: نعم جزاكما الله خيرا. من هِيَ عَاتِكَة الَّتِي يذكرهَا الْأَحْوَص قَالَ أَبُو عَليّ وحدَّثني مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الذارع قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيد بن هِشَام قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ أَن عَاتِكَة الَّتِي ذكر الْأَحْوَص بَيتهَا هِيَ عَاتِكَة بنت يزِيد بن مُعَاوِيَة، وإنَّما كنى عَن امرأةٍ سمّاها غَيرهَا، وَكَانَ يشبّب بِهَا فَذكر عَاتِكَة وبيتها، لِأَن بيتَ عَاتِكَة كَانَ إِلَى جنب بَيت تِلْكَ الْمَرْأَة، وَقد أدخلا جَميعًا فِي مَسْجِد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَعْلِيق وَشرح قَالَ القَاضِي: الَّذِي حُكِيَ عَن الْأَحْوَص فِي هَذَا الْخَبَر من سَعْيه فِي أَمر اللهبي وَالْكذب عَلَيْهِ وَإِضَافَة مَا لَيْسَ فِيهِ إِلَيْهِ من ألأم الْأَخْلَاق وأفحشها، وأقبح الْمذَاهب وأوحشها،

عاصم حمي الدبر

وفاعله متعرض لِما وعد الله من فعله من عَذَابه وأليم عِقَابه، وَقد مضى فِيمَا تقدّم من مجالسنا هَذِه ذكر قصَّة بني أُبَيْرِق ورميهم بفعلهم من هُوَ بَرِيء مِنْهُ، وَإِن الله تَعَالَى أنزلَ فِي ذَلِكَ: " وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " " النِّسَاء:112 " وَقَوله فِي عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح: " الَّذِي حمت لَحْمَه الدَّبر " لما قُتل أَرَادَ الْمُشْركُونَ أَخذه وَكَانَ قد دَعَا الله تَعَالَى أَن لَا يمسَّه مُشْرك، فأرسلَ الله تَعَالَى الدَّبر فأحاطت بِهم وحَمَتْهُ فَلم يصلوا إِلَيْهِ، فلمّا جَاءَ الليلُ أرسلَ الله سيلا فاحتمله من الْوَادي وفاتهم، ولقتله قصَّة أَنا ذاكرها: عَاصِم حميّ الدَّبر كَانَ أَبُو سُلَيْمَان عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح شهد بَدْرًا وأحدًا، وَثَبت حِين ولَّى النَّاس يَوْم أحد عَن رسل اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَه، وَبَايَعَهُ على الْمَوْت، وَكَانَ من الرُّمَاة الْمَذْكُورين من أَصْحَاب رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذكر أَنَّهُ قتل يَوْم أحد من أَصْحَاب اللِّوَاء من الْمُشْركين الْحَارِث وشافعًا ابْني طَلْحَة بن أبي طَلْحَة، وأمُّهما سلافة بنت سعيد بن الشَّهِيد من بني عَمْرو بن عَوْف، فنذرت أَن تشرب فِي رَأس عاصمٍ الْخمر، وَجعلت لِمن جَاءَ بِرَأْسِهِ مائَة ناقةٍ، فَقدم ناسٌ من بني لحيان من هُذَيْل على رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوهُ أَن يوجِّه إِلَيْهِم من يفقّههم فِي الدَّين، فبعثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهم ستَّة نفر أحدهم عَاصِم بن ثَابت بن أبي الأقلح. فَلَمَّا صَارُوا على الرَّجيع استصرخوا عَلَيْهِم هذيلا، فَلم يشعروا وهم فِي رحالِهم إِلَّا وبارقة السيوف قد غشيتهم. فَقَاتلهُمْ مرْثَد بن أبي وخَالِد بن البكير وَعَاصِم بن ثَابت حَتَّى قتلوا، وأمّا الْآخرُونَ فاستأسروا وَحَال بَين الَّذِينَ قتلوا وَبَين رَأس عَاصِم أَن يأخذوهُ الدّبرُ، فتركوهُ وَقَالُوا: حَتَّى نمسي فنأخذه، فَبعث الله السَّيل إِلَى الْوَادي فاحتملَ عَاصِمًا فَذهب بِهِ. قَالَ القَاضِي: والدَّبر النّحل كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤيب الْهُذلِيّ. إِذا لَسَعَتْهُ الدَّبر لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وخالفها فِي بيتِ نوبٍ عواملِ ويُرْوَى: عواسل. النوب: السود من النّوبَة واللوبة والأوبة، ويروى إِذا لسعته النَّحْل. وَقيل: إِن النوب الَّذِينَ ينوبونَ وَلَيْسَ من اللّون. وَقَوله: " لَمْ يرجُ لسعها " معناهُ لَمْ يَخَفْ. وَقيل: فِي قَول الله تَعَالَى: " مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للَّه وَقَارًا " " نوح:13 " إنّ معناهُ لَا تَخافونَ لله عَظمَة. وَمن ذَلِكَ قَول الراجز: مَا ترتجي حِين تُلاقي الزائدا ... أَسَبْعَةً لاقت مَعًا أَو وَاحِدًا وَقَول الشَّاعِر: لعمرك مَا أَرْجُو إِذا كنت مُسلما ... على أيِّ جنبٍ كَانَ فِي الله مصرعي يَعْنِي: مَا أَخَاف، وَقيل فِي قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَالا يَرْجُونَ "

حنظلة الغسيل

" النِّسَاء: 104 " إِن معناهُ وتَخافونَ من الله مَالا يخَافُونَ، وممَّن قَالَ هَذَا قطرب. قَالَ القَاضِي: كأنَّما اختزل الرَّجَاء بَين الأمل وَالْخَوْف لأنَّهما مِمَّا ينْتَظر ويُرْتَجى ويُتوقّع، وَلَيْسَ المخلوقون مِنْهُ على أمرٍ يثقون بِهِ ويرقبونه ويقطعون عَلَيْهِ بِعَيْنِه. وأنكرَ الفرّاء مَا ذكره قطرب فِي هَذَا الْموضع وَقَالَ: الْعَرَب تذهبُ بالرجاء مَذْهَب الْخَوْف فِي الْإِثْبَات، وإنَّما تفعل هَذَا فِي الْجحْد وَالنَّفْي. والأحوص بن مُحَمَّد الشَّاعِر من ولد عَاصِم بن ثَابت هَذَا. حَنْظَلَة الغسيل وأمّا ذكره فِي الْخَبَر الغسيل فَإِن الغسيل حَنْظَلَة بن أبي عَامِر، وَاسم أبي عامرٍ عبد عَمْرو، وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتشْهد مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أُحد، فَأخْبر أَصْحَابه أَنَّهُ رأى الْمَلَائِكَة تُغسله، فَأرْسل إِلَى امْرَأَته فَسَأَلَهَا عَن أمره فَأَخْبَرته أَنَّهُ كَانَ مضاجعها فَلَمَّا اسْتنْفرَ للْجِهَاد مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَن بَطنهَا مبادرًا وَلم يغْتَسل، فَقَالَ: إِنِّي رأيتُ الْمَلَائِكَة تغسله. وَكَانَ أَبُو حنيفَة يرى أَن شهيدَ المعركة إِذا قتل جُنبًا فواجبٌ على الْمُسلمين غسله، ويحتج بِقصَّة حَنْظَلَة هَذِه، وَكَانَ أَصْحَابه وَغَيرهم مِمَّن يذهب إِلَى أَن لَا يغسل الشَّهِيد يرونَ أَن الْجنب وَغَيره سَوَاء فِي ترك الْغسْل، وَإِلَى هَذَا نَذْهَب والاحتجاج فِيهِ مرسومٌ فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي الْفِقْه. وَأَبُو عَامِر أَبُو حَنْظَلَة كَانَ يُقال لَهُ الراهب، فسمّاهُ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِق، وَكَانَ مِمَّن سعى فِي بِنَاء مَسْجِد الضرار الَّذِي ذكره الله عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابه، وَالله تَعَالَى يَقُول: " والّذين اتّخذو مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُسلمين وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وليحلفنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى واللَّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " " التَّوْبَة: 107 ". رِوَايَة أُخْرَى فِي خبر الْأَحْوَص وزين الغدير قَالَ القَاضِي: وَقد كَانَ ابْن الْأَنْبَارِي أمْلى علينا خبر الْأَحْوَص وزين الغدير بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد وعَلى مخالفةٍ فِي مَوَاضِع من الْمَتْن، فَإِن كنت قد رسمته فِيمَا مضى من هَذِه الْمجَالِس فَفِي هَذِه الرِّوَايَة زيادةٌ لَيست فِيهِ، وَإِن كَانَ فِيمَا مضى فَاتَنِي فإنني آتِي بِما أحفظه من جملَته ليحصل بِما أثْبته مِنْهُ مَا فِيهِ من زِيَادَة من غير إطالة بِذكر إِسْنَاده وأعيان أَلْفَاظه، وَهُوَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي وصفت أمرهَا أَن يزِيد بن الْوَلِيد كتب إِلَى الضحّاك بن مُحَمَّد عَامله على الْمَدِينَة أَن وجِّه إليَّ الْأَحْوَص بن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ الشَّاعِر ومعبدًا الْمُغنِي، فجهزهما وَأَمرهمَا بِالْمَسِيرِ، فَكَانَا ينزلان فِي طريقهما للْأَكْل وَالشرب إِلَى أَن أَتَيَا البلقاء، وَهُوَ منزل بَين الْمَدِينَة وَالشَّام، فَجَلَسَا هُنَالك فأكلا، وجلسا على نَهرها. فَإِذا هما بِجَارِيَة قد خرجت من قصرٍ هُنَالك وَمَعَهَا جرٌّ، فاستقت فِيهِ من الغدير، ثُمَّ إنَّها أَلْقَت الجرّ فانكسر فَجَلَست تبْكي، فَسَأَلَاهَا عَن شأنِها وَلمن كَانَت، فَقَالَت: لرجلٍ بِمكة من قُرَيْش، فاشتراني صَاحب هَذَا

الْقصر، وَهُوَ رجلٌ من بني عَامِر من آل الوحيد، بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم، فَنزلت من قلبه ألطفَ منزلَة، ثمَّ إِنَّه تزوج ابْنة عمٍ لَهُم فَهُديت إِلَيْهِ، فَكَانَت تسيءُ إليّ وتكلفني أَن أستقي فِي كلِّ يومٍ من هَذَا الغدير بجرّ، فشكوتُ ذَلِكَ إِلَى الرجل فَقَالَ: إنَّما أنتِ أمةٌ وَهَذِه ابْنة عمي، فربّما ذكرت مَا كنتُ فِيهِ فَيسْقط الْجَرّ من يَدي فينكسرُ فتضربني على هَذَا، ولَمّا رأيتكما وَمَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ ذكرتُ مَا مضى من أيّامي فَسقط الْجَرّ من يَدي، ثُمَّ أخذت الْعود وغنّت: يَا بَيت عَاتِكَة الَّذِي أتعزَّلحذر العدى وَبِه الْفُؤَاد موكّلإنّي لأمنحك الصّدود وإنّنيقسماً إليكَ مَعَ الصّدود لأميلُ وَلَقَد نزلتَ من الفؤادِ بمنزلٍ ... مَا كَانَ غَيْرك والأمانةِ ينزلُ وَلَقَد شكوتُ إليكَ بعض صبابتي ... ولَمَّا شكوتُ من الصبابة أطول هَلْ عيشنا بكَ فِي زَمَانك راجعٌ ... فَلَقَد تفحَّش بعْدك المتعلّلُ أعرضتُ عنكَ وَلَيْسَ ذاكَ لبغضةٍ ... أخْشَى مقالةَ كاشحٍ لَا يعقل فَقُلْنَا لَهَا: لِمن هَذَا الشّعْر؟ قَالَت: للأحوص بن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ، قُلْنَا: فَلَمَّا الْغناء؟ قَالَت: لِمعبد المغنّي. فَقَالَ الْأَحْوَص: فَأَنا وَالله الْأَحْوَص، وَقَالَ معبد: وَأَنا وَالله معبد، فأنشأت تَقُولُ: إِن تَرَوْني الغداةَ أسعى بجرٍّ ... أستقي الماءَ نَحْو هَذَا الغدير فَلَقَد كنتُ فِي رخاءٍ من العَيْشِ وَفِي ظلِّ نعمةٍ وسرورِ ثُمَّ قد تبصران مَا فِيهِ أَصبَحت وماذا إِلَيْهِ صَار مصيري أبلغا عَنِّي الإِمَام وَمَا بلغ ... صِدْقَ الحديثِ مثلُ الْخَبِير أنّني أضْرب الْخَلَائق بالعو ... د وأحكاهمُ لبمٍّ وَزِير فلعلَّ الْإِلَه ينقذُ ممَّا ... أَنا فِيهِ فإننّي كالأسير لَيْتَني متُّ يَوْم فارقتُ أَهلِي ... وبلادي وزرتُ أهل الْقُبُور فَقَالَ الْأَحْوَص وَالله لَا أبرحُ حَتَّى أَقُول فِيهَا شعرًا، فَقَالَ: إنَّ زينَ الغدير من كسر الْجَرّ ... رَّ وغنى غنّاء فحلٍ مجيدِ قلتُ من أَنْت يَا ظعينَ فَقَالَت ... كنتُ فِيمَا مضى لآل الوليدِ ثمَّ بدِّلت بعد حيِّ قريشٍ ... فِي بني عَامِر لآلِ الوحيد فغنائي لمعبدٍ ونشيدي ... لِفتى النَّاس الأحوصِ الصنديد فتبسّمتُ ثُمَّ قلتُ أَنا الأح ... وص والشيخُ معبدٌ فأعيدي

المجلس الثامن والثمانون

فأعادتْ فأحسنتْ ثُمَّ ولَّت ... تتهادى فقلتُ أمّ سعيد يعجز المَال عَن شراكِ ولكنْ ... أَنْت فِي ذمَّة الهمامِ يزِيد إنْ نذكِّر بك الإِمَام بصوتٍ ... معبدٍّ يزيلُ حَبْلَ الوريد يفعل الله مَا يَشَاء فظنِّي ... كلَّ خيرٍ منّا هناكَ وزيدي ثُمَّ ودّعاها وانصرفا، فلمَّا دخلا على يزِيد قَالَ للأحوص: أَنْشدني أقربَ شعر قلته فأنشده: إنَّ زينَ الغدير من كسر الجرَّ وغنَّى غنّاء فحلٍ مجيدِ وَقَالَ لِمعبد: غنّني أقرب غناءٍ غنيته، فغناه إِن زينَ الغدير منْ كسر الجرّ، فَقَالَ: لقد اجتمعتما على أمرٍ، فقصَّا عَلَيْهِ القصَّة، فَكتب إِلَى عَامله على البلقاء: ابتعْ هَذِه الْجَارِيَة بِما بلغت، فابتاعها بِمائة ألف دِرْهَم وأهداها إِلَى يزِيد فحظيت عِنْده، وحلَّت ألطفَ محلٍّ من قلبه. قَالَ: فوَاللَّه مَا انصرفنا حَتَّى صَار إِلَيْنَا من الْجَارِيَة مالٌ وخلعٌ وألطافٌ كَثِيرَة. الْمجْلس الثّامِن والثَمانون لَمَّا وَقعت بَنو إِسْرَائِيل فِي الْمعاصِي أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَطْبَقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ بُذَيْمَةَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا وَقعت بَنو إِسْرَائِيل فِي الْمعاصِي نهتهم علماؤهم فَلم ينتهو، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، قَالَ يَزِيدُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَفِي أَسْوَاقِهِمْ. وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَان دَاوُد وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى يَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا. وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن لمنكر قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر مَا دلّ على وجوب الأر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وهجر أهل الْمعاصِي ومجانبة المجالسة لَهم والأنس بهم، وإيناسهم يالمقاربة ومخالطتهم بالمؤاكلة والمشاربة، والتنزه عَن مداهنتهم، وَلُزُوم الْمُسلمين عطفهم على وَاجِبَات الدّين وردِّهم إِلَى اتِّبَاع سَبِيل الْمُؤمنِينَ. وَقَوله حَتَّى يأطروهم على الْحق أطرًا. معناهُ يعطفونَهم عَلَيْهِ عطفا. يُقال: أطرتُ الرجل على الشَّيْء آطرُه أطرًا، فَأَنا آطر بِهِ، وَهُوَ مأطور، وَمن ذَلِك قَول طرفَة بن العَبْد: كَأَن كِنَاسَيْ ضالةٍ يَكْنُفَانِهَا ... وأَطْرَ قِسَيٍّ تَحت صلب مُؤيد الضَّالة: السِّدْرَة فِي البريَّة الْبَعِيدَة من المَاء تُجمع ضَالًّا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يَا مَا أميلح غزلانًا شدنَّ لنا ... من هؤليائكن الضال والسَّمُرِ والعبرية السِّدْرَة الَّتِي على المَاء تُجمع عُبريًّا كَمَا قَالَ الشَّاعِر:

امتحان شمر يرعش لبنيه

لاثٍ بِهِ الْأَشْيَاء والْعُبْرِيُّ وأمّا السِّدْرَة الَّتِي تكون متوسطة بَين المَاء وَبَين الْبر فَإِنَّهَا تسمى الأشكلة. قَالَ آخر: وَأَنْتُم أنَاس تَقْمُصُونَ من القنا ... إِذا مار فِي أكتافكم وتأطَّرا امتحان شمر يرعش لِبَنِيهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد عَنْ مُحَمَّد بْن عَبّاد عَن ابْن الْكَلْبِيّ عَن الشَّرْقِي بن الْقطَامِي قَالَ: كَانَ شمر يرعش الْملك الْحِمْيَرِي مَيْمُون النقيبة مغضور الناصية مظفرًا بعيدَ الصيت وطّاءً للسَّعد، وَملك ثمانيًا وَأَرْبَعين سنة، هَكَذَا يَقُول لأهل الْيمن فِي سيرة مُلُوكهمْ فلمّا تقاربت أيّامه وأشفى على انْقِضَاء مدَّته، وَهُوَ شمر يرعش بن تبع بن يَاسر يَنعم تبع بن عَمْرو ذِي الأذعار تبع بن أَبْرَهَة ذِي الْمنَار تبع بن الرائش تبع بن قيس بن صَيْفِي، جمع بَينه وهم ثَلَاثَة: دُرَيْد ومكنف وشرحبيل، فَقَالَ: تناهت المدَة، وتقضّت الْعِدَّة، وَجَاء مَالا يدْفع، وحلَّ مَالا يُمْنَع، وَقد بلغتُ من السن مدى فِي دونه تنجِّذ التجارب ذَا الحجى، وَإِنِّي ملقٍ إِلَيْكُم كلَاما استدلُّ بجوابه على ألبابِكم، وأسبرُ بِهِ حصافة رويَتكم، لتطمئنَّ نَفسِي عِنْد فراقكم: أَنا لي خلفا أُذكرُ بِهِ وَإِن كَانَ غناءُ ذَلِكَ عنّي قَلِيلا فَقَالُوا: قل: فَقَالَ: مَا الْمجد؟ فَقَالُوا: ابتناء المكارم، وحملُ المغارم، والاضطلاع بالعظائم، وظَلَفُ النَّفس عَن ركُوب المظالِم. قَالَ: فَمَا الشّرف؟ قَالُوا: كَرَمُ الْجوَار، وصيانةُ الأقدار، وبذلُ الْمَطْلُوب فِي الْيُسر والإعسار. قَالَ: فَمَا الدناءة؟ قَالُوا: تتبّع التّافه الْيَسِير، وَمنع النزر الحقير. قَالَ: فَمَا المروّة؟ قالو: سمّو الهمَّة، وصيانة النَّفس عَن المذمَّة قَالَ: فَمَا الكلفة قَالُوا: التمَاس مَا لَا يَعْنِيك ومطالبة مَالا يؤاتيك. قَالَ: فَمَا الْحلم؟ قَالُوا: كظم الغيظ، وَضبط النَّفس عِنْد الْغَضَب، وبذل الْعَفو عِنْد الْقُدْرَة. قَالَ: فَمَا الْجَهْل؟ قَالُوا: معاجلة الْوُثُوب، والغباوة بعواقب الخطوب. قَالَ: فَمَا الجرأة؟ قَالُوا: حفظ مَا استرعيت، ومجانبة مَا استكفيت. قَالَ: فَمَا الأربة؟ قَالُوا: انتظارُ الفرصة، والتوقّف عِنْد الشُّبْهَة. قَالَ: فَمَا الشجَاعَة؟ قَالُوا: صدق الْبَأْس، وَالصَّبْر عِنْد المراس. قَالَ: فَمَا الْعَجز؟ قَالُوا: العجلة قبل الاستمكان، والتأنّي بعد الفرصة. قَالَ: فَمَا الْجُبْن؟ قَالُوا: النزق عِنْد الْفَزع، والهلع عِنْد الْجزع. قَالَ: فَمَا السماحة؟ قَالُوا حسن الْبشر عِنْد السُّؤَال واستقلال كَثِير النوال قَالَ فَمَا الشُّح. قَالُوا: أَن ترى الْقَلِيل إسرافًا، والبذل إتلافًا. قَالَ: فَمَا الظّرْف؟ قَالُوا: حسن الْمُجَاورَة، ولين المعاشرة. قَالَ: فَمَا الصَّلف؟ قَالُوا: التّعظم مَعَ صغر الْقدر، واستشعار الْكبر مَعَ قلَّة الوفر. قَالَ: فَمَا الْفَهم؟ قَالُوا: لِسَان مراعٍ، وقلب واعٍ. قَالَ: فَمَا الْغنى؟ قَالُوا: قلَّة التَّمَنِّي والرضى بِما يَكْفِي قَالَ فَمَا السُّؤدد قَالُوا: اصطناعُ الْعَشِيرَة، وحملُ الجريرة. قَالَ: فَمَا السَّنا؟ قَالُوا: حُسن الْأَدَب، ورعاية الْحسب. قَالَ: فَمَا اللُّؤم؟ قَالُوا؛ إِحْرَاز النَّفس وَإِسْلَام الْعرس. قَالَ: فَمَا الدناءة؟ قَالُوا: الْجُلُوس على الْخَسْف،

تعليقات

والرّضا بالهوان. قَالَ: فَمَا الْفقر؟ قَالُوا: شَرَهُ النَّفس، وَشدَّة الْقنُوط. قَالَ: فَمَا الشّرف؟ قَالُوا: الْفِعْل الْكَرِيم، والحَسَبُ الصميم، وَالْفرع العميم. قَالَ: انصرفوا يَا بنيَّ، الْآن أسمحت للْمَوْت قَرونتي، وَأَنْشَأَ يَقُول: هوَّن فَقْدَ الْحَيَاة أنِّي ... خلَّفت ذكْرًا على الزمانِ أخلافَ أسلافِ بيتِ مُلْك ... مُؤَيّد الأسِّ والبواني فَالْآن فلترشف المنايا ... مَا أسْأر الدَّهْر من جناني تعليقات قَالَ القَاضِي: قَول الشَّرْقِي فِي شَمر يرعش " مَيْمُون النّقيبة مغضور النّاصية " وَصفه بالْيُمن وَالْبركَة مَعَ خلوص الْحُرِّيَّة وكَرَم النَّجر والشِّيمة، يُقَال للْأَرْض الْحرَّة الطين الطّيبَة الترب غضراء، وَمِنْه غضارة الْعَيْش وغضارة النِّعْمَة، وَمِنْه اشتق اسْم غاضرة من بني أَسد، ويروى بَيت تَوْبَة بن الْحمير: أبيني لَنَا لَا زَالَ ريشُك ناعِمًا ... وَلَا زلت فِي غَضْراء غضٍّ نضيرُها على وَجْهَيْن: غضراء وخضراء. وَقَوله " لَا يمْنَع " بِمعنى لَا يُرَد وَلَا يدْفع، وَقَوله " مدى فِي دونه تُنجذ التجارب ذَا الحجى " معنى تنجّذه: تحكّمه وتقرّ عقله وحلمه، والنواجذُ الأضراسُ وَاحِدهَا ناجذ، وفيهَا ناجذ ينْبت عِنْد تناهي الشَّباب ومقاربة التكهُّل يُقال لَهُ ضرس الْحلم، وتسمّيه الْعَامَّة ضرس الْعقل، قَالَ سحيم بن وثيل: وماذا يدَّري الشعراءُ منّي ... وَقد جاوزْتُ حدَّ الْأَرْبَعين أَخُو خمسينَ مجتمعٌ أشدِّي ... ونجَّذني مجاورة الشؤون كسر نون الْجمع فِي " الْأَرْبَعين " لتتفق حركاتُ الْإِطْلَاق فِي قوافيه، وَهِي لُغَة ضعيفةٌ جَارِيَة فِي شذوذها مجْرى فتح نون الِاثْنَيْنِ كَقَوْل الشَّاعِر: على أحوذيَّين آستقلَّت ركابَها ... فَمَا هِيَ إِلَّا لمحةٌ فَتَغيبُ وَقد يُقال فِي الناب ناجذة. وَقَول بني شمر " الْجُلُوس على الخَسْف " معناهُ الهوان والمذلة، وَفِيهِ لُغَتَانِ: الخَسْف والْخُسْف، قَالَ الراجز يصف النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنْ سيم خسفًا وجهُهُ تربَّدا " فِي إِعْرَاب هَذَا الْبَيْت وَجْهَان: أَحدهمَا أَن يكون سيم فعلا فَارغًا لقَوْله وَجهه، وَوَجهه مَرْفُوع لِأَنَّهُ لَمْ يسمَّ فَاعله، وَالتَّقْدِير فِيهِ إِن سيم وَجهه خسفًا، وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي يُقال فِيهِ فعلت هَذَا لوجهك أَي لَك، وَالْوَجْه الثَّانِي أَن يكون فِي سيم ضمير هُوَ اسمٌ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَي سيم بِمعنى إِن سيم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خسفًا، وَقَوله تربَّدا ابْتِدَاء، وَخبر جملَته جَوَاب الشَّرْط " وَهُوَ إِن سيم ". كَأَنَّهُ قَالَ إِن سيم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَسْفًا تربَّد وجهُه أَي تنكر، وَأبي أنفًا وحميَّة وغضبًا. وَقَول شمر: " الْآن أسْمَحت للْمَوْت قَرُونتي " أَي طابت

لماذا سود الأحنف

بِهِ نَفسِي واستسهلته، يُقَال: سمحت بالشَّيْء وأسمحت قَالَ ابْن مقبل: هَل الْقلب عَن دهماء سَالَ فَمُسْمِحُ ... وتَاركُهُ مِنْهَا الخيالُ المبرِّح وَقَوله " قَرونتي ": القَرونَةُ: النَّفس، وَقَوله " فلترشف المنايا " أَي تَمتصّ. وَقَوله " مَا أسأر الدَّهْر من جناني " مَا أبقى من قلبِي، والسؤر الْبَقِيَّة من كلّ شَيْء، من ذَلِكَ قَول الْأَعْشَى: بَانَتْ وَقد أسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتهَا ... بعد ائتلافٍ، وخَيْرُ الودِّ مَا نَفَعَا لِمَاذا سوِّد الْأَحْنَف حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، الْغَلابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ: حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالرُّصَافَةِ عِنْدَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَقَدِمَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَكَانَ خَالِدٌ فِي مَنْ أَتَاهُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَصُومُ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ؛ قَالَ خَالِدٌ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي يَوْم خميسٍ فَقَالَ: يَا ابْن الأَهْتَمِ، خَبِّرْنِي عَنْ تَسْوِيدِكُمُ الأَحْنَفِ وَانْقِيَادِكُمْ لَهُ، وَكُنْتُمْ حَيًّا لَمْ تُمْلَكُوا فِي جاهليّةٍ قَطُّ. فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَنْهُ بِخَصْلَةٍ لَهَا سوِّد، وَإِنْ شِئْتَ بِثِنْتَيْنِ، وَإِنْ شِئْتَ بِثَلاثٍ، وَإِنْ شِئْتَ حدّثتك بَقِيَّة عشيَّتك حتّى تنقضني وَلَمْ تَشْعُرْ بِصَوْمِكَ. قَالَ: هَاتِ الأُولَى فَإِنِ اكْتَفَيْنَا وَإِلا سَأَلْنَاكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: كَانَ أَعْظَمَ مَنْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا - ثُمَّ أَدْرَكَنِي ذِهْنِي فَقُلْتُ: غَيْرَ الْخُلَفَاءِ - سُلْطَانًا عَلَى نَفْسِهِ فِيمَا أَرَادَ حَمْلَهَا عَلَيْهِ وكفهَّا عَنْهُ. قَالَ: لَقَدْ ذَكَرْتَهَا نَجْلاءَ كَافِيَةً، فَمَا الثَّانِيَةُ؟ قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَظِيمَ السُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَلا يَكُونُ بَصِيرًا بالمحاسن والمساوىء وَلَمْ يُرَ وَلَمْ يُسْمَعْ بأحدٍ كَانَ أبْصر بالمحاسن والمساوىء مِنْهُ، فَلا يَحْمِلُ السَّلْطَنَةَ إِلا عَلَى حَسَنٍ، وَلا يَكُفُّهَا إِلا عَنْ قَبِيحٍ. قَالَ: قَدْ جِئْتُ بصلةٍ للأُولَى لَا تَصْلُحُ إِلا بِهَا، فَمَا الثَّالِثَةُ؟ قُلْتُ: قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ عَظِيمَ السُّلْطَانِ عَلَى نَفسه بَصيرًا بالمحاسن والمساوىء وَلا يَكُونُ حَظِيظًا، فَلا يَفْشُو ذَلِكَ لَهُ فِي النَّاسِ وَلَا يُذْكَرُ بِهِ فَيَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ مَشْهُورًا. قَالَ: وَأَبِيكَ لَقَدْ جِئْتَ بصلَة الأوليتن فَمَا بَقِيَّةُ مَا يَقْطَعُ عَنِّي الْعَشِيَّ قُلْتُ: أَيَّامُهُ السَّالِفَةُ قَالَ: وَمَا أَيَّامُهُ السَّالِفَةُ؟ قُلْتُ: يَوْمُ فَتْحِ خُرَاسَانَ، اجْتَمَعَتْ لَهُ جُمُوعُ الأَعَاجِمِ بِمَرْوِ الرُّوذِ فَجَاءَهُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ، وَهُوَ فِي مَنْزِلِ مضيعةٍ، وَقَدْ بَلَغَ الأَمْرُ بِهِ فصلَّى عِشَاءَ الآخِرَةِ وَدَعَا ربَّه وتضرَّع إِلَيْهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَمْشِي فِي الْعَسْكَرِ مَشْيَ الْمَكْرُوبِ يتسمَّع مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَمَرَّ بعبدٍ يَعْجِنُ وَهُوَ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: الْعَجَبُ لأَمِيرِنَا يُقِيمُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي مَنْزِلِ مَضِيعَةٍ وَقَدْ جَاءَهُ العدوُّ مِنْ وُجُوهٍ، وَقَدْ أَطَافُوا بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ نَوَاحِيهِمْ ثمّ اتّخذوهم أعراضاً وَلَهُ متحوَّل. فَجَعَلَ الأَحْنَفُ يَقُولُ: اللهمَّ وفِّق، اللهمَّ وَفِّقْ، اللَّهُمَّ سدِّد. فَقَالَ صَاحِبُ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ: أَنْ يُنَادِيَ السَّاعَةَ بِالرَّحِيلِ، فَإِنَّمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَيْضَةِ فَرْسَخٌ، فَيَجْعَلَهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَيَمْنَعَهُ اللَّهُ بِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ ظَهْرُهُ بَعَثَ بمجنَّبته الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فَيَمْنَعَ اللَّهُ بِهِمَا نَاحِيَتَهُ وَيَلْقَى عدوَّه مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. فخرَّ الأَحْنَفُ سَاجِدًا، ثُمَّ نَادَى بِالرَّحِيلِ مَكَانَهُ،

فَارْتَحَلَ الْمُسْلِمُونَ مُكِبِّينَ عَلَى رَايَتِهِمْ حَتَّى الْغَيْضَةِ، فَنَزَلَ فِي قُبُلِهَا وَأَصْبَحَ فَأَتَاهُ الْعَدُوُّ، فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلا إِلا مِنْ وجهٍ وَاحِد، وضربوا بطبولٍ أربعةٍ، فَرَكِبَ الأَحْنَفُ وَأَخَذَ الرَّايَةَ وَحَمَلَ بِنَفْسِهِ عَلَى طبلٍ فَفَتَقَهُ وَقَتَلَ صَاحِبَهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ عَلَى كلِّ رئيسٍ حَقًّا ... أَنْ يَخْضِبَ الصَّعدة أَوْ تَنْدَقَّا فَفَتَقَ الطُّبُولَ الأَرْبَعَةَ وَقَتَلَ حَمَلَتَهَا. فَلَمَّا فَقَدِ الأَعَاجِمُ أَصْوَاتَ طُبُولِهِمُ انْهَزَمُوا، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ أَكْتَافَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَتْلا لَمْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُ قَطُّ، وَكَانَ الْفَتْحُ. وَالْيَوْمُ الثَّانِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ أَتَاهُ الأَشْتَرُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بَعْدَمَا اطْمَأَنَّ بِهِ الْمَنْزِلُ وَأَثْخَنَ فِي الْقَتْلِ، فَقَالُوا: أَعْطِنَا، إِنَّ كُنَّا قَاتَلْنَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ حِينَ قَاتَلْنَاهُمْ وَهُمْ مُؤْمِنُونَ فَقَدْ رَكِبْنَا حُوبًا كَبِيرًا، وَإِنْ كُنَّا قَاتَلْنَاهُمْ كُفَّارًا وَظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً فَقَدْ حلَّت لَنَا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ، وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكُفَّارِ إِذَا ظُهِرَ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِكُمْ أَنْ تُهَيِّجُوا حَرْبَ إِخْوَانِكُمْ، وَسَأُرْسِلُ إِلَى رجلٍ مِنْهُمْ فَأَسْتَطْلِعَ رَأْيَهُمْ وَحُجَّتَهُمْ فِيمَا قُلْتُمْ. فَأَرْسَلَ إِلَى الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فِي رَهْطٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَنْطِقْ أحدٌ غَيْرُ الأَحْنَفِ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِمَاذَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ الْجَوَابَ عنَّا لَعِنْدَكَ، وَلا نَتَّبِعُ الحقُّ إِلا بِكَ، وَلا عَلِمْنَا الْعِلْمَ إِلا مِنْكَ. قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَنْكُمْ مِنْكُمْ لِيَكُونَ أَثْبَتَ لِلْحُجَّةِ وَأَقْطَعَ لِلتُّهْمَةِ، فَقل. فَقَالَ: إِنَّهُم قد أخطأوا وَخَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وسنَّة نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا كَانَ السَّبْيُ وَالْغَنِيمَةُ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ دَارُهُمْ دَارُ كفرٍ، وَالْكُفْرُ لَهُمْ جامعٌ وَلِذَرَارِيهِمْ، وَلَسْنَا كَذَلِكَ، وَإِنَّهَا دَارُ إيمانٍ يُنَادَى فِيهَا بِالتَّوْحِيدِ وَشَهَادَةِ الحقِّ وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِنَّمَا بَغَتْ طائفةٌ أَسْمَاؤُهُمْ مَعْلُومَةٌ، أَسْمَاءُ أَهْلِ الْبَغْيِ؛ وَالثَّانِي: حُجَّتُنَا أَنَّا لَمْ نَسْتَجْمِعْ عَلَى ذَلِكَ الْبَغْيَ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَنْصَارِكَ، مِنْ أَثْبَتِهِمْ بَصِيرَةً فِي حَقِّكَ وَأَعْظَمِهِمْ غِنَاءً عَنْكَ، طائفةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فأيُّ أُولَئِكَ يُجْهَلُ حقُّه وَتُنْسَى قَرَابَتُهُ؟ إِنَّ هَذَا الَّذِي أَتَاكَ بِهِ الأَشْتَرُ وَأَصْحَابُهُ قَوْلَ متعلِّمة أَهْلِ الْكُوفَة، وَايْم وَالله لَئِنْ تَعَرَّضُوا لَهَا ليكرهنَّ عَاقِبَتَهَا وَلا تَكُونَ الآخِرَةُ كَالأُولَى. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا قُلْتَ إِلا مَا نَعْرِفُ، فَهَلْ مِنْ شيءٍ تخصُّون بِهِ إِخْوَانَكُمْ لِمَا قَاسَوْا مِنَ الْحَرْبِ؟ قَالُوا: نعم، أعطياتنا مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ نَكُنْ لِنَصْرِفَهَا فِي عَدْلِكَ عَنَّا، فَقَدْ طِبْنَا عَنْهَا نَفْسًا فِي هَذَا الْعَامِ فَاقْسِمْهَا فِيهِمْ. فَدَعَاهُمْ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِحُجَجِ الْقَوْمِ وَبِمَا قَالُوا وَبِمَوَافَقَتِهِمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ قَسَمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ خَمْسمِائَة لِكُلِّ رَجُلٍ. فَهَذَا الْيَوْمُ الثَّانِي. وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّالِثُ فَإِنَّ زِيَادًا أَرْسَلَ إِلَيْهِ بليلٍ وَهُوَ جالسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ فِي صَحْنِ دَارِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَحْرٍ مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ فِي أَمْرٍ تُنَازِعُنِي فِيهِ مَخْلُوجَةٌ، وَلَكِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا عَلَى صَرِيمَةٍ، وَكَرِهْتُ أَنْ يُرَوِّعَكَ أمرٌ يَحْدُثُ لَا تَعْلَمُهُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: هَذِهِ الْحَمْرَاءُ قَدْ كَثُرَتْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ وَخِفْتُ عَدْوَتَهُمْ،

إضاءة على الخبر السابق

وَالْمُسْلِمُونَ فِي ثَغْرِهِمْ وَجِهَادِهِمْ عدوَّهم، وَقَدْ خَلَفُوهُمْ فِي نِسَائِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى كلِّ مَنْ كَانَ فِي عرافةٍ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ فَيَأْتُوا بِسِلاحِهِمْ وَيَأْتِينِي كلُّ عَرِيفٍ بِمَنْ فِي عِرَافَتِهِ مِنْ عبدٍ أَوْ مَوْلًى فَأَضْرِبُ رِقَابَهُمْ فَتُؤْمَنَ نَاحِيَتَهُمْ. قَالَ الأَحْنَفُ: فَفِيمَ الْقَوْلُ وَأَنْتَ عَلَى صَرِيمَةٍ؟ قَالَ: لتقولنَّ. قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَكَ، يَمْنَعُكَ مِنْهُ خصالٌ ثلاثٌ: أَمَّا الأُولَى فَحُكْمُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ، وَمَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّاسِ من قَالَ: لَا: لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، بَلْ حَقَنَ دَمه، وَالثَّانيَِة: أنّهم غلَّة النَّاسِ لَمْ يَغْزُ غازٍ فخلَّف لأَهْلِهِ مَا يُصْلِحُهُمْ إِلا مِنْ غِلاتِهِمْ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَحْرِمَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَهُمْ يُقِيمُونَ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ، أَفَتَجْعَلُ الْعَرَبَ يُقِيمُونَ أَسْوَاقَهُمْ قَصَّارِينَ وَقَصَّابِينَ وَحَجَّامِينَ؟؟! قَالَ: فَوَثَبَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ قَبِلَ مِنْهُ، وَانْصَرَفَ الأَحْنَفُ. قَالَ: فَمَا بتُّ بليلةٍ أَطْوَلَ مِنْهَا أتسمَّع الأَصْوَاتَ، قَالَ: فَلَمَّا نَادَى أَوَّلَ الْمُؤَذِّنِينَ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ: إِيتِ الْمَسْجِدَ فَانْظُرْ هَلْ حَدَثَ أمرٌ، فَرَجَعَ فَقَالَ: صَلَّى الأَمِيرُ وَدَخَلَ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَحْدُثْ إِلا خَيْرٌ. إضاءة على الْخَبَر السَّابِق قَالَ القَاضِي: قَول زِيَاد للأحنف " تنازعني فِيهِ مخلوجة ": أَي تعترضني فِيهِ عارضةٌ متعرجةٌ لَيست على سمتٍ وَلَا استقامة، فتقطعني عَن الِاسْتِمْرَار فتجذبني إِلَى الانحراف عَن المحجَّة إِلَى الشُّبْهَة الْمُؤِّدية إِلَى الْحيرَة، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: نطعنهُمْ سُلكى ومخلوجةً ... كرَّك لامينِ على نابلِ ويُرْوى كرَّ كلامين، وَفِي رِوَايَة هَذَا الْبَيْت وَتَفْسِيره اخْتِلَاف، وَشَرحه مستقصى فِي غير هَذَا الْموضع. وأصلُ الاختلاج الاقتطاع والاجتذاب، وَمِنْه سُمِّي الخليجُ خليجًا لِأَنَّهُ مخلوجٌ من الْبَحْر ومعظمُ المَاء، بِمنزلة مَجْرُوح وجريح ومقتول وقتيل. وَقَوله: " وَأَنا على صريمة " أَي على أمرٍ أَنا قاطعٌ عَلَيْهِ وواثقٌ بِهِ، من صَرَم الحبلُ إِذا قطعه، فصريمةُ ذاكَ مقطوعٌ عَلَيْهَا غيرُ مرتابٍ بِهَا. وَمن ذَلِكَ قَول الْأَعْشَى: وَكَانَ دَعَا قومَهُ دَعْوَة ... هلمَّ إِلَى أَمركُم قد صُرِمْ أَي قُطِعَ وَأحكم. وَفِي هلمَّ لُغَتَانِ أفصحهما اللُّغة الحجازيَّة، وَهِي هلمَّ للْوَاحِد والاثنين وَالْجمع والمذكر والمؤنث على اخْتِلَاف أهلِ اللُّغَة فِي جَمع الْمُؤَنَّث، فَمنهمْ من يَقُول هلمنَّ وَمِنْهُم من يَقُول: هلممن، وأمّا أهلُ الحجازِ فلغتهم هلمَّ فِي الْمَوَاضِع كلهَا على مَا قدمنَا ذكره. وبَنو تَميم وَأهل نَجد يقولونَ هلمَّا وهلمّوا وهلمّي وهلمنَّ وهلممن. وَقد رُوِيَ بَيت الْأَعْشَى على اللُّغتين الحجازية والتميمية هلمّ إِلَى أَمركُم وهلمّوا إِلَى، وَجَاء الْقُرْآن فِي هَذَا بلغَة أهل الْحجاز، قَالَ الله تَعَالَى: " قُلْ هلمَّ شُهَدَاءَكُمُ " " الْأَنْعَام: 150 " وَقَالَ تبَارك وَتَعَالَى: " وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هلمَّ إِلَيْنَا " " الْأَحْزَاب: 48 ".

المجلس التاسع والثمانون

الْمجْلس التاسِع وَالثَّمَانُونَ الْمَلائِكَةُ وَعِيدُ الْفِطْرِ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ، حَدَّثَنَا نصر بن أَحْمد بن أَزْهَر الْخطاب قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْفَضْلِ الْيَزِيدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ الْبَلْخِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَوْسٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ وَقَفَتِ الْمَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فِي أَفْوَاهِ الطُّرُقِ فَنَادَوْا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اغْدُوا إِلَى ربٍّ رحيمٍ يَأْمر بِالْخَيرِ وَيثبت عَلَيْهِ الْجَزِيلَ، أَمَرَكُمْ بِصِيَامِ النَّهَارِ فصمتم وأطعمتم رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ، فَاقْبِضُوا جَوَائِزَكُمْ، فَإِذَا صلَّوا الْعِيدَ نَادَى منادٍ مِنَ السَّماء: ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ رَاشِدِينَ فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ ذُنُوبُكُمْ. وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي السَّمَاءِ يَوْمُ الْجَائِزَةِ. قَالَ الْقَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا يُرَغِّبُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَتَأْدِيَةِ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ وَمَا يَرْجُونَ نَيْلَهُ مِنْ ثَوَابِهِ بِحَسَبِ مَا وَعَدَهُمْ فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وريثُ ابْن راعي الْإِبِل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن جريد قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ الْأَصْمَعِي قَالَ: قدم الرَّاعِي على خَالِد بن عبد الله بن بن خَالِد بن أسيد وَمَعَهُ ابنٌ لَهُ، فَمَاتَ ابْنه بِالْمَدِينَةِ، فلمّا دخل على خالدٍ سَأَلَهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَاتَ بَعْدَمَا زَوجته وأصدقت عَنْهُ، فَأمر لَهُ بديةِ ابْنه وصداقه، فَقَالَ الرَّاعِي: وديتَ ابنَ راعي الإِبْلِ إِذْ حانَ يومُهُ ... وشقَّ لَهُ قبرًا بأرضكَ لاحدُ وَقد كَانَ مَاتَ الجودُ حَتَّى نشرته ... وأذكيتَ نَار الجودِ والجودُ خامدُ فَلَا حملتْ أُنْثَى وَلَا آب آيبٌ ... وَلَا بلَّ ذُو سقمٍ إِذا مَاتَ خالِدُ قَالَ القَاضِي: قَول الرَّاعِي " وديتَ ابْن راعي الإبلِ ": أَرَادَ أدّيت دِيَته، يُقالُ: وديت الْقَتِيل إِذا أدّيت دِيَته إِلَى أَهله، ووديت عَنْهُ من مَالك دِيَة جِنَايَته، وَقيل إنَّ هَذَا ممَّا عابى بِهِ الكسائيُّ مُحَمَّد بن الْحَسَن فَلم يعرف الفرقَ بَينهمَا. وأمّا قَوْله " وشقَّ لَهُ قبرًا بأرضكَ لَاحَدَّ " فإنّ وَجه الْكَلَام فِي هَذَا أَن يُقال: شقّ شاقّ ولحد لاحدٌ، ويُقال: ألحدَ ملحد، وَذَلِكَ أنّ الشق مَا كَانَ من الْحفر فِي وسط الْقَبْر، واللحد مَا كَانَ فِي جَانِبه. بيَّن هَذَا قَول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللحدُ لنا والشقّ لغيرنا ". ولكنّه لَمّا كَانَ اللَّحْد شقًّا قد ميلَ بِهِ عَن الْوسط إِلَى الْجَانِب قَالَ: وشقَّ لَهُ. وأصل اللَّحْد مأخوذٌ من الْمَيْلِ، يُقالُ فِيهِ: لحد وأَلْحَدَ فِي الدَّين وَغَيره، من الْميل. وَقد قُرئ باللغتين فِي الْقُرْآن فَقَرَأَ الْجُمْهُور: " وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ " " الْأَعْرَاف: 180 ": " لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ " " النَّحْل: 103 " " وإنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ

هارون الرشيد يكتشف أن المأمون ينظم الشعر

عَلَيْنَا " " فصلت: 40 ". وَقَرَأَ الْآخرُونَ الأحرف الثَّلَاثَة بِالْفَتْح؛ ومِمّن قَرَأَ كَذَلِك حَمْزَة. وَكَانَ الْكِسَائي يقْرَأ الَّتِي فِي الْأَعْرَاف وحم السَّجْدَة بِالضَّمِّ، وَيفتح الَّذِي فِي النحلِ لوضوح دلَالَته على الْميل بقوله " إِلَيْهِ " فَكَانَ أخصَّ بالدِّلالة إِلَى معنى الْميل من " فِي ". وَقد يكون مَا اخْتَارَهُ الكسائيُّ بَعيدا فِي تفريقه بَين اللَّفْظَيْنِ إِلَى الْجمع بَين اللغتين كَمَا قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " فمهِّل الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا " " الطارق:17 "، وَقد كَانَ الْكِسَائي يفعل هَذَا كثيرا، من ذَلِك مَا رُويَ عَنْهُ من اخْتِيَاره فِي قِرَاءَة: " لَمْ يطمثهنَّ " " الرَّحْمَن:56 " ضم عين الْفِعْل فِي أحد الْمَوْضِعَيْنِ وَكسرهَا فِي الآخر. وَالَّذِي اخْتَارَهُ من الْقِرَاءَة على لُغَة من يَقُول " لحد " فِي مَوضِع وعَلى لُغَة من يَقُول " ألحد " فِي غَيره حسنٌ جميلٌ عِنْدِي. وَقَول الرَّاعِي " وَقد كَانَ مَاتَ الجودُ حَتَّى نشرته " اللُّغَة الصَّحِيحَة " أنشر الله الميّت، فَنُشِرَ هُوَ، ونشره فَهُوَ منشور لُغَة قد قُرئ بِهَا، وَقد مضى من شرح هَذَا فِيمَا تقدّم من مجالسنا هَذِه مَا نكتفي بِهِ فنستغني عَن إِعَادَته. وَقَوله " وَلَا بلَّ من سقم ": يُقالُ بلَّ الرجلُ من مَرضه وأبلَّ واستبلَّ إِذا برأَ وصحَّ، قَالَ الشَّاعِر: إِذا بلَّ من داءٍ بِهِ ظنَّ أنَّه ... نجا وَبِه الداءُ الَّذِي هُوَ قَاتله وَقَالَ الْأَعْشَى: وكأنَّها مَحْمُوم خَيْبَر بلَّ من أوصابِها هَارُون الرشيد يكتشف أَن الْمَأْمُون ينظمُ الشّعْر حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَليفَة الْفَضْل بن الْحباب الجُمَحِي قَالَ، حَدَّثَنَا عبد الله بن مُحَمَّد التيميّ قَالَ: أَرَادَ الرشيد سفرا فَأمر النّاس أَن يتأهّبوا وأعلمهم أَنَّهُ خارجٌ بعد الْأُسْبُوع، فَمضى الْأُسْبُوع وَلم يَخرج، فَاجْتمعُوا إِلَى الْمَأْمُون فَسَأَلُوهُ أَن يستعلم ذَلِكَ، وَلم يكن الرشيدُ يعلمُ أَن الْمَأْمُون يَقُول الشّعْر، فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون: يَا خيرَ من دبَّت المطيُّ بِهِ ... وَمن تقدى بسرجِهِ فَرَسُ هَلْ غايةٌ فِي المسيرِ نعرفها ... أم أَمْرُنَا فِي المسيرِ مُلْتَبِسُ مَا عِلْمُ هَذَا إلاَّ إِلَى ملكٍ ... من نوره فِي الظلام نَقْتَبِسُ إِن سرْتَ سَار الرشاد متّبعًا ... وَإِن تقفْ فالرشادُ محتبسُ فقرأها الرشيد فسرّ بِهَا وَوَقع فِيهَا: يَا بنيَّ مَا أَنْت وَالشعر؟ أما علمت أنَّ الشّعْر أرفع حالات الدنيّ وأقلُّ حالات السّري، والمسير إِلَى ثلاثٍ إِن شَاءَ الله. قَالَ القَاضِي: قَول الْمَأْمُون فِي شعره وَمن تقدى بسرجه فَرَسُ: تقدَّى استمرّ كَمَا قَالَ ابْن قيس الرقيّات: تقدَّت بِي الشهباءُ نَحْو ابنِ جعفرٍ ... سواءٌ عَلَيْهَا لَيْلهَا ونَهارها

تعزية يحيى بن زياد لبعض أهله

أَي استمرت وَجَرَتْ قاصدةً إِلَيْهِ. تَعْزِيَة يَحْيَى بن زِيَاد لبَعض أَهله حَدَّثَنَا عمر بن الْحَسَن بن علّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن زيد قَالَ: كتب يَحْيَى بن زِيَاد إِلَى بعض أَهله يُعزّيه: أمّا بعدُ فإنّ الْمُصِيبَة وَاحِدَة إِن صبرت ومصائب إِن لَمْ تصبر، وَقد مضى لَك سلفٌ يحسن عَلَيْهِم الْبكاء، وَبَقِي خلفٌ فِي مثلهم العزاء، فَلَا البكاءُ يردُّ الْمَاضِي وبالعزاء يطيبُ عيشُ الْبَاقِي، ونحنُ عمّا قَلِيل بِهم لاحقون، فآثرِ الصَّبْرَ فإنَّهُ أردُّ الأَمرين عَلَيْك وأرجعهما بالنفعِ إِلَيْك. قَالَ القَاضِي: ولِمن تقدّمنا من التعازي مَا يستحسنه الألباء لبلاغته وفصاحته وجودة معناهُ وقوته وجزالته، وتعزية يَحْيَى بن زِيَاد هَذِه من أحسن مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب وأبلغه. رُؤْيَة فِي صغره حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنِي أبي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بن عبد الله بن آدم الْعَبْدي قَالَ العجاج: سقط خبالي عليَّ فاستغثتُ بولدي فَلم يجبني أحد مِنْهُم، ثمَّ جَاءَنِي رُؤْيَة وَهُوَ صبي صَغِير فقلتُ لَهُ: إنَّ بنيَّ للئامٌ زهدهْ ... ماليَ فِي صُدُورهمْ من مَوْددَهْ إِلا كودِّ مسدٍ لقرمدَه قَالَ فَقَالَ رُؤْيَة: إنَّ بنيكَ لكرامٌ مَجَدَه ... وَلَو دعوتَ لأتوكَ حَفَدَه عجّاجُ مَا أَنْت بأرضِ مأسدَه قَالَ: فضممته إِليَّ وَقلت: ابْني سَيكون. قَالَ أَبُو بكر: المسَدُ حبالٌ تعْمل من ضروب من أوبار الْإِبِل، والقرمد: الآجرّ. قَالَ القَاضِي: قد مضى خبر العجّاج هَذَا فِي بعض مَا تقدّم من هَذِه الْمجَالِس، وفسَّرنا مَا فِيهِ من إِعْرَاب وغريب، وأوردْنَاهُ عَن شيخ حَدَّثَنَا بِهِ عَن أبي بكر ابْن الْأَنْبَارِي. شاهَكْ فَمَا مَعنا فِي الْبَيْت أحد حَدَّثَنَا الْحَسَن بن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيد الْكَلْبِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا عَبد الله بن الضحّاك ومهدي بن سَابق قَالَا: حَدَّثَنَا الْهَيْثَم بن عدي عَن صالِح بن حسان قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه بْن مُعَاوِيَة بن عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب صديقا للوليد يَأْتِيهِ ويؤانسه، فَجَلَسَا يَوْمًا يلعبان بالشطرنج إِذْ أَتَى الْآذِن فَقَالَ: أصلح الله الْأَمِير، رجلٌ من أخوالك من أَشْرَاف ثَقِيف قدم غازيًا وأحبَّ السَّلام عَلَيْك، فَقَالَ: دَعه، فَقَالَ عبد الله: وَمَا عَلَيْك إئذن لَهُ، فَقَالَ: نَحن على لعبتنا وَقد أجحت عَلَيْك. قَالَ: فادعُ بمنديلٍ فضعْ عَلَيْهَا ويسلمُ الرجل ونعود، فَفعل، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لَهُ، فَدخل مشمرٌ لَهُ هَيْبَة،

الحسب بلا أدب

بَين عَيْنَيْهِ أثر السُّجُود، وَهُوَ مُعْتَمّ قد رجَّل لحيته، فسلّم ثُمَّ قَالَ: أصلح الله الْأَمِير قدمتُ غازيًا وكرهتُ أَن أجوزكَ حتّى أَقْْضِي حقّك، قَالَ: حيّاك الله وَبَارك عَلَيْك، ثُمَّ سكتَ عَنْهُ. فلمّا أنس أقبل عَلَيْهِ الْوَلِيد فَقَالَ: يَا خَال هَلْ جَمَعْتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: لَا كَانَت تَشْغَلُنَا عَنْهُ شواغلُ. قَالَ: حفظت من سنة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ومغازيه وَأَشْعَارهَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فأحاديثُ أهل الْحجاز ومضاحكها؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فأحاديثُ الْعَجم وآدابُها؟ قَالَ: إِن ذَلِكَ شيءٌ مَا كنتُ أطلبه. فَرفع الْوَلِيد المنديل وَقَالَ:: شاهَكَ. قَالَ عبد الله بن مُعَاوِيَة: سُبْحَانَ الله، قَالَ: لَا وَالله مَا مَعنا فِي الْبَيْت أحد. فلمّا رأى ذَلِكَ الرجلُ خرج فَأَقْبَلُوا على لعبهم. الْحسب بِلَا أدب قَالَ القَاضِي: مَا أعجبَ كَلَام الْوَلِيد هَذَا وألطفه وَأحسنه وأظرفه. وشبيه هَذَا مَا رُوِيَ أنّ رجلا خاطبَ مُعَاوِيَة فأكثرَ اللَّغْو فِي كَلَامه فضجرَ مُعَاوِيَة وَأعْرض عَنْهُ، فَقَالَ: أأسكت يَا أميرَ الْمُؤمنِينَ؟ فَقَالَ: وَهل تكلّمت؟ ولعمري إِن ذَا الْجَهْل والغباوة إِلَى منزلَة من النَّقْص وَسُقُوط الْقدر وبِمعزل من الطَّبَقَة الَّتِي تستحقّ التهيُّب والإعظام والتبجيل والأكرام، وَإِن اتفقَ لَهم بالجَد وطائر السعد إعظام كَثِير من النّاس لَهم واغترار طَائِفَة من الْأَغْنِيَاء بِهم. وَقد ذكر أَن بزرجمهر سُئِلَ: مَا نعْمَة لَا يُحسد صَاحبهَا عَلَيْهَا؟ قَالَ: التَّوَاضُع، قيل: فَمَا بلية لَا يُرحَمُ صَاحبهَا؟ قَالَ: الْكِبْر، قيل: فَمَا الَّذِي إِذا انفردَ لَمْ يساوِ شَيْئا؟ قَالَ: الْحسب بِلَا أدب. وَفِي استقصاء القَوْل فِي هَذَا الْبَاب طول لَا يحْتَملهُ هَذَا الْموضع. حلم سلمى بن نَوْفَل حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصُّولي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن صَفْوَان عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ سلمى بن نَوْفَل الدَّيلي سيدًا فِي كنَانَة، فَوَثَبَ رجلٌ من أَهله على ابْنه فجيء بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أمَّنك منّي وأجرأكَ عليَّ؟ أما خشيتَ عقابي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: لأنّا سوّدناك لكظم الغيظ والحلم عَن الْجَاهِل، فخلَّى سَبيله. ولِّ الْبكاء أَهله - مصرع أَبنَاء الْحَارِث الْبَاهِلِيّ حَدَّثَنَا عبد الله بن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ، محدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَر بْن حبيب قَالَ، حَدَّثَنِي سعيد بن سلم الْبَاهِلِيّ قَالَ: كَانَ الْحَارِث بن حبيب الْبَاهِلِيّ كَثِير الْبَنِينَ فنحى بنيه عَن قومه يخْشَى معرّتهم عَلَيْهِم، فغابَ الْحَارِث بن حبيب وشوى بنوه شَاة لَهم فأُخرجت وغطوها فَأَكَلُوا مِنْهَا فماتوا وهم ثَمانية، فجَاء فَرَآهُمْ موتى حول الشَّاة، فَأكل مِنْهَا وَأكْثر ليموتَ فَلم يَمت، فركبَ نَاقَة لَهُ يريدُ قومه ليعينوهُ على دفنهم، فمرَّ وَهُوَ راكبٌ برجلٍ جالسٍ يبكي، وَهُوَ رجل من بني قُشَيْر، فَقَالَ: مَا لَك؟ قَالَ: كَانَت لي شَاة فَأكلهَا الذئبُ فَنزل عَن رَاحِلَته فَقَالَ: هَذِه لَك بدل شَاتك وولِّ البكاءَ أهلَه، ثُمّ قَالَ:

الحطيئة يعجب بابن عباس

يَا أيُّها الباكي على شاته ... يبكي جهارًا غير إسرار إنّ الرزيّاتِ وأشباهَهَا ... مَا غادر الحارثُ فِي الدَّار والْحَارث الَّذِي يَقُول: المرءُ يأمُلُ أَن يعيشَ وطولُ عيشٍ قد يضرُّه تَفْنَى بشاشتُهُ وَيبقى بعد حُلْوِ العيشِ مرُّه وتسوءه الْأَيَّام حَتَّى لَا يرى شَيْئا يسرّه كم شامتٍ لي إِن هلكتُ وقائلٍ للهِ دَرُّه الحطيئة يعجب بِابْن عَبَّاس حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا قَالَ وَحَدَّثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَظَرَ الْحُطَيْئَةُ إِلَى ابْنِ عبّاسٍ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ وَقَدْ فَرَغَ مِنْ كَلَامه، فَقَالَ: من الَّذِي قَدْ نَزَلَ عَنِ الْقَوْمِ فِي سنِّه وَعَلاهُمْ فِي قَوْلِهِ؟ قَالُوا: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، هَذَا ابْن عَم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: إِنِّي وَجَدْتُ بَيَانَ الْمَرْءِ نَافِلَةً ... تُهْدِي لَهُ وَوَجَدْتُ العيَّ كالصَّمم الْمَرْءُ يَبْلَى وَيَبْقَى الْكَلْمُ سَائِرُهُ ... وَقَدْ يُلامُ الْفَتَى يَوْمًا وَلَمْ يُلَمِ الكَلْم والكَلِم قَالَ القَاضِي: قَوْله " وَتبقى الْكَلم ": الْكَلم هَا هُنَا جمع كلمة، وأصلُ الْكَلم بِكَسْر اللَّام فسكنه تَخفيفًا لإِقَامَة وزن الْبَيْت كَمَا قَالُوا فِي مَلِك ملك، وفخذ وكَبِد. قَالَ الله تَعَالَى: " يُحَرِّفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه " " الْمَائِدَة: 13 ". وَقد رُوِيَ عَن تَميم بن حدلم أنَّهُ قَرَأَ: " تُحَرِّفُونَ الكلامَ ". وَقد قَرَأَهُ عُلَمَاء الْأَمْصَار " يُرِيدُونَ أَنْ يبدّلوا كَلَام الله " " الْفَتْح: 15 " و " كلم اللَّه ". ومِمَّا قيل فِي هَذَا وَهُوَ مِمَّا يُستحسن لبَعض الْمُحدثين: قَالَت عييتَ عَن الشكوى فقلتُ لَهَا ... جَهْد الشكايةِ أَن أعَيْا عَن الكَلِم فأمَّا الْكَلم الّذين عيْنُ فعلِهِ سَاكِنة فِي أصل بنائِهِ فَإِنَّهُ مصدر كَلَمه يكلمهُ كَلْمًا، بِمعنى جرحه يَجرحه جرحا كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لعمرك إنّ الدَّار غفرٌ لذِي الْهوى ... كَمَا يَغْفِرُ المحمومُ أَو صاحبُ الكَلْمِ يَعْنِي إِن ذَا الْهوى يَهْتَز لذكرها كَمَا يَهْتَز المحموم والمكلوم أَي الْمَجْرُوح ويهتران. ويجمعُ الكَلْم كلَاما مثل جَرْح وجراح، وَجمع فَعْل على فِعَال كَثِير جدًّا فِي الْقلَّة مثل كلب وكلاب وَسَهْم وسِهام، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: أجدَّك مَا لعينك لَا تنامُ ... كأنّ جفونها فِيهَا كِلامُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا من أحدٍ يُكْلَمُ كلما فِي سَبِيل الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا جَاءَ

لماذا أكلت الفأر أذن الإسرائيلي

يَوْم الْقِيَامَة وأوداجه تشخُبُ دَمًا: اللونُ لونُ دمٍ والريحُ ريحُ مسكٍ. وَيجمع الْكَلم أَيْضا مثل فَلْس وَفُلوس، وصَقْر وصُقور، وَمثله كَثِير. وَمن الكلوم قَول بعض الشُّعَرَاء: فَلَو أنّ قولا يكلِمُ الجلدَ قد بدا ... بِجلديَ من قولِ الوشاةِ كُلومُ وَقَوله " سائرُهُ " يَعْنِي أَنَّهُ يبْقى سَائِر الْكَلَام يريدُ الْحِكَم السائرة من الْكَلم، يُقال: قولٌ سَائِر ومثلٌ سَائِر، وَقَوله " سائرهُ " بَدَل من الْكَلم تابعٌ لَهُ فِي إعرابه كَقَوْلِك يُعجبني القَوْل بليغُهُ. لِمَاذا أكلت الفأر أذن الإسرائيلي حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الْخُتَلَّي، أَخْبَرَنَا عمي يَعْنِي النَّسَائِيّ قَالَ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن عبد الحميد المهراني قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن صَالِح الوحاظي قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بن عيّاش قَالَ: حَدَّثَنِي بشر بن عبد الله بن سيّار أنَّ رجلا من بني إِسْرَائِيل حَضَره الْمَوْت، فَرَأى جزع امْرَأَته عَلَيْهِ فَقَالَ: أتحبين أَن لَا أُفَارِقك؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فاصنعي لي تابوتًا ثُمَّ اجعليني فِي بَيْتك هَذَا فَإِنَّهُ لَا يتَغَيَّر جَسَدِي، فَفعلت، فاطلعت بعد زمانٍ فَإِذا هِيَ بِإِحْدَى أُذُنَيْهِ قد أُكِلَتْ، فَقَالَت: فلانٌ مَا كذبتني قبلهَا، قَالَ: فاستأذنَ ربه عَزَّ وَجَلَّ فردَّ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ روحه، فَقَالَ لَهَا: إِن الَّذِي رَأَيْت من أُذُنِي أَنِّي سمعتُ ملهوفًا يَوْمًا من الْأَيَّام يستغيثُ فَلم أُغِثْهُ فأُكلت أُذُنِي الَّتِي كَانَت تليه. عمر بن عبد الْعَزِيز يرد المظالِم حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ، حدّثنا عبد الله ابْنِ أُخْتِ أَبِي الْوَزِيرِ عَنِ أبي مُحَمَّد الشَّامي قَالَ: كنتُ غُلَاما فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، فلمَّا أَخذ عمر فِي ردّ المظالِم غلظ ذَلِكَ على أهل بَيته وعَلى جَميع قُرَيْش، فَكتب إِلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن الحكم بن هِشَام: فأبلغَ هشاماً والّذين تجمّعوا ... بدابق لاسلمتم آخر الدَهْرِ ويروى: فَقل لهشامٍ وَالَّذين تَجمّعوا ... بدابق موتوا لَا سلمتمْ يَدَ الدَّهرِ فأنْتُم أَخذتم حَتْفَكُمْ بأكفّكم ... كباحثةٍ عَن مديةٍ وَهِي لَا تَدْرِي عشيَّةَ بايعتم إِمَامًا مُخَالفا ... لَهُ شجنٌ بَين الْمَدِينَة والْحِجر فَأَجَابَهُ بعض ولد مَرْوَان عَن هِشَام بن عبد الْملك: لَئِن كَانَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الردى ... فَمَا أَنْت فِيهِ ذُو غناء وَلَا وفر وأنتَ من الريش الذنابي وَلم تكن ... من الجزلة الأولى وَلَا وسَطِ الظّهْر ونحنُ كَفَيْنَاك الأمورَ كَمَا كفى ... أَبونَا أَبَاك الْأَمر فِي سالِفِ الدّهر

صرف دابق وعدم صرفه

صرف دابق وَعدم صرفه قَالَ القَاضِي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن الحكم فِي شعره هَذَا " بدابق " فَلم يصرفهُ فِي موضِعين، وَفِي صرفه وَترك صرفه وَجْهَان معروفان فِي كَلَام الْعَرَب، وَالْعرب تذكّره وتُؤنّثه، فَمن ذكّره صرفه كَمَا قَالَ الشَّاعِر: بدابقٍ وأينَ منّي دابق ومَن أنَّثه لَمْ يصرفهُ كَمَا قَالَ الآخر: لقد خابَ قومٌ قلّدوك أُمُورهم ... بدابقَ إِذْ قيلَ العدوُّ قريبُ الباحثة عَن حتفها وَقَوله " كباحثة عَن حتفها هِيَ لَا تَدْرِي " هَذَا مثلٌ يُضرب للَّذي يثير بِجهله مَا يُؤدّيه إِلَى هَلَاكه أَو الْإِضْرَار بِهِ. وَأَصله أَن نَاسا ً أخذُوا شَاة لَيست لَهم فأرادوا أكلهَا، فَلم يَجدوا مَا يذبحونها بِهِ فَهموا بتخليتها، فاضطربت عَلَيْهِم، وَلم تزل تثيرُ الأَرْض وتبعثرها بقوائمها، فَظهر لَهُم فِيمَا احترفته مديةٌ فذبحوها بِهَا، وَصَارَت هَذِه الْقِصَّة مثلا سائرًا فِيمَا قدّمنا ذكره. وَقَول المرواني " وَأَنت من الريش الذناني ". يُقال ذَنْب الْفرس وَغَيره، وذنابي الطَّائِر وذنابي الْوَادي وذنابته ومذنب النَّهر قَالَ الشَّاعِر: أيا جحمتا بكي على أمِّ صاحبِ ... قتيلة قلَّوبٍ بِإِحْدَى الذنائبِ ويروى المذانب، والجحمتان: العينان، والواحدة جحمة، ويُقال إنَّها بلغَة أهل الْيمن، والقلَّوب: الذِّئْب. شعر ابْن البخْترِي فِي خَالِد بن الْوَلِيد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ اللَّخْمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحِرْمَازِيُّ قَالَ: دَخَلَ هِشَامُ الْبَخْتَرِيِّ فِي ناسٍ مِنْ مَخْزُومٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ أَنْشِدْنِي شِعْرَكَ فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: قصَّرت فِي الْبُكَاءِ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنْ كَانَ لَيُحِبُّ أَنْ يذلَّ الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الشَّامِتُ بِهِ لَمُتَعَرِّضًا لِمَقْتِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَاتَلَ اللَّهُ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا أَشْعَرَهُ. فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلافَ الَّذِي مَضَى ... تَهَيَّأْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَن قَدِ فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بنافعٍ ... وَلا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ يَوْمًا بِمُخْلِدِي وَيُرْوَى: " وَلا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ قَبْلِي ". ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ خيرٌ لَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَلَقَدْ مَاتَ فَقِيدًا وَعَاشَ حَمِيدًا، وَلَكِنْ رَأَيْتُ الدَّهْرَ لَيْسَ يُقَاتَلُ. قَالَ القَاضِي: لقد أحسن عمر بن الْخطاب رضوَان الله عَلَيْهِ الثَّنَاء على خَالِد بن الْوَلِيد رَحِمَهُ الله على تشعُّثٍ قد كَانَ بَينهمَا، فَلم يثنه عَن معرفَة حقّه وصحبته وصلَة رَحمَه،

المجلس التسعون

وَكَانَ ابنَ خَالَته. وَقد كَانَ الصَّحَابَة، رضوَان الله عَلَيْهِم، ربَّما عرض فِيمَا بَينهم بعضُ العَتْبِ وبعضُ مَا يوحش الإخوان فَلَا يخرجهم ذك عَن الْولَايَة إِلَى العدواة. المجلسُ التسْعُون مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلصَّالِحِينَ حدَّثنا طَلْحَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْرَائِيلَ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَبُو بْكَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحِمَّانِيُّ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي رُفِعْتُ إِلَى الْجَنَّةِ فَاسْتَقْبَلَتْنِي جاريةٌ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ يَا جَارِيَةُ؟ قَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ. وَإِذَا بأنهارٍ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وأنهارٍ مِنْ لبنٍ لَمْ يتغيَّر طَعْمُهُ، وأنهارٍ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وأنهارٍ مِنْ عسلٍ مصفَّى، وَإِذَا رماَّنها كَأَنَّهُ الدِّلاءُ عِظَمًا، وَإِذَا بِطَائِرِهَا كَأَنَّهُ بُخْتُكُمْ هَذِهِ، فَقَالَ عِنْدَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجل أعدَّ للصالحين مَالا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ". مَكَانَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَفِي أَنَّهُ صَادَفَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَكَانَ مِنْ أبرِّ النَّاسِ بِأُمِّهِ، وَقَالَ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُخْبِرَ بِإِكْرَامِ اللَّهِ تَعَالَى زَيْدًا وَإِسْكَانِهِ جَنَّتَهُ: كَذَلِكُمُ البرُّ كَذَلِكُمُ البرُّ، وَلَنْ يَضِيعَ لأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِحْسَانُهُمْ بِطَاعَتِهِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ. نَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِطَاعَتِهِ وَالْعِصْمَةَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، إِنَّهُ رؤوفٌ رَحِيمٌ جَوَادٌ كَرِيمٌ. النَّابِغَة الْجَعْدِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد، حَدَّثَنَا أَبُو حاتِم قَالَ، قَالَ النَّابِغَة الْجَعْدِي أَبُو ليلى، واسْمه قيس بن عبد الله بن عُدس، وَقَالَ القحذمي: اسْمه حبَّان بن قيس بن عبد الله بن وَحْوَح بن عُدَس بن ربيعَة بن جعدة بن كَعْب بن ربيعَة بن عَامِر بن صعصعة، وَكَانَ أسنَّ من النَّابِغَة الذبياني، وَالدَّلِيل على ذَلِكَ قَوْله: تذكرت والذكرى تهيجُ على الْهوى ... وَمن حَاجَة المحزونِ أَن يتذكّرا نداماي عِنْد الْمُنْذر بن محرِّقٍ ... أرى الْيَوْم مِنْهُم ظَاهر الأَرْض مقفرا كهولٌ وفتيانٌ كأنّ وُجُوههم ... دنانيرُ مِمّا شِيفَ فِي أَرض قيصرا قَالَ: فَهَذَا يدلُّكَ على أَنَّهُ كَانَ مَعَ الْمُنْذر بن محرق، والنابغة كَانَ مَعَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر بن محرق، وَكَانَ النَّابِغَة غبر ثَلَاثِينَ سنة لَا يتَكَلَّم، ثُمَّ تكلّم بالشعر، وَمَات وَهُوَ ابْن مائَة وَعشْرين سنة بأصبهان، وَكَانَ ديوانه بِهَا، وَهُوَ الَّذِي يَقُول: فَمن يَك سَائِلًا عنّي فإنّي ... من الشبّان أيّام الْخُنَانِ وأيّام الخنان كَانَت أَيَّامًا فِي الْعَرَب قديمَة لداءٍ هاج فيهم: مَضَت مائةٌ لعامَ ولدتُ فِيهِ ... وعشرٌ بعد ذاكَ وحجّتانِ

استطراد في شرح شيف وغيرها

فأبقى الدَّهْرُ والأيامُ منّي ... كَمَا أبقى من السيفِ الْيَمَانِيّ تحسّر وَهُوَ مأثور جرازٌ ... إِذا جمعت لقائمه اليدانِ وَقَالَ أَيْضا فِي طول عمره: لبستُ أُناسًا فأفنيتهم ... وأفنيتُ بعد أناسٍ أُنَاسًا ثلاثةَ أهلينِ أهلكتهم ... وَكَانَ الإلهُ هُوَ المستآسا قَالَ أَبُو حاتِم، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَكَانَ النَّابِغَة مِمّن فكَّر فِي الْجَاهِلِيَّة فأنكرَ الْخمر وَالسكر وَمَا يفعلُ بِالْعقلِ، وتجنَّب الأزلامَ والأوثان، وَقَالَ قصيدته الَّتِي أَولهَا: الحمدُ لله لَا شريك لَهُ ... مَنْ لَمْ يقلها فنفسهُ ظَلَما وَكَانَ يذكر دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل صلَّى الله عَلَيْهِمَا، ويصومُ ويستغفرُ ويتوقى أَشْيَاء لعواقبها، ووفد عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ فِي ذَلِك: لأتيت رَسُول الله إِذْ جَاءَ بِالْهدى ... وَيَتْلُو كتابا كالمجرَّة نيّرا وجاهدتُ حَتَّى مَا أحسَّ وَمن معي ... سُهَيْلا إِذا مَا لَاحَ ثُمَّ تغوّرا يَقُول: كنتُ بِالشَّام وسهيلٌ لَا يكادُ يُرى هُنَاكَ. يقومُ على التَّقْوَى ويوصي بِفِعْلِهَا ... وَكَانَ من النّارِ المخوفةِ أوجرا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ الأَشْدَقِ الْعَقِيلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّابِغَةَ يَقُولُ: أَنْشَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَجُدُودُنَا ... وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا فَقَالَ: أَيْنَ الْمَظْهَرُ يَا أَبَا لَيْلَى؟ قُلْتُ: الْجَنَّةُ، قَالَ: أَجَلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ قَوْلِي: وَلا خَيْرَ فِي حلمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يكدَّرا وَلا خَيْرَ فِي جهلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ... حليمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الأَمْرَ أَصْدَرَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُفْضَضُ فُوكَ ". فَمَاتَ وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ لَمْ يغيَّر لَهُ سِنٌّ. استطراد فِي شرح شيف وَغَيرهَا قَالَ القَاضِي: قَول النَّابِغَة فِي أَرض قيصرا ": معنى شِيفَ جُلي ومُسح حَتَّى أنارَ وصَفَا، كَمَا قَالَ عنترة: وَلَقَد شربتُ من المدامة بَعْدَمَا ... ركد الهواجرُ بالمشوفِ الْمُعْلَمِ يُقال للدينار وَالدِّرْهَم المجلوين: دِينَار مشوفٌ ودرهمٌ مشوف، ويُقال شافه يشوفه شوفًا كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: بأسحم ملتفَ الغدائرِ واردٍ ... وَذي أشرٍ تِشُوفُهُ وَتَشُوصُ قَالَ القَاضِي: قَوْله " تشوفه " أَي تجلوه، والأُشُر: تَحْدِيد أَطْرَاف الْأَسْنَان ورقّتها. وَذكر أَن أَعْرَابِيًا أتَى بطفل لَمْ تنْبت أَسْنَانه فَجعل يقبّله وَيَقُول: وابأبي دُرْدُرك، فرأته امْرَأَته وَلم

طوق بن مالك وأعرابية

تكن حظيَّةً عِنْده، فظنّت أَن الْفَم الأدرد يُعجبُهُ، فعمدتْ إِلَى فهرٍ فصكَّت بِهِ أسنانها حَتَّى ألقتها ثمَّ جائته فلمّا رَآهَا قَالَ: أعييتني بأشرٍ فكيفَ بدردرٍ؟! والأدرد: الَّذِي لَيْسَ فِي فِيهِ شَيْء من الْأَسْنَان، يُقَال: دَرِدَ الرجل يَدْرَدُ إِذا لَمْ يبقَ لَهُ سنٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " أَوْصَانِي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلام بِالسِّوَاكِ حَتَّى خفتُ أَن أدرد ". ويُقالُ: رجل أدرد وَامْرَأَة درداء، ودريدٌ تَصْغِير أدرد، ويسمِّي هَذَا البصريون من النَّحْوِيين تَصْغِير التَّرْخِيم لحذف مَا حذف مِنْهُ، وَلَو صغِّر على أَصله وَتَمَامه لقيل أُدَيْرِد. وَمثل هَذَا أَحْمد وأحميد وحُميد وأزرق وأزيرق وزُريق. وَمن الأدرد قَول الشَّاعِر: فَمَا تدَّري من حيّةٍ جبليَّةٍ ... سكاتٍ إِذا مَا عضَّ لَيْسَ بأدْردا وَقَول امْرِئ الْقَيْس " وتشوص " أَي تغسلُهُ غسلا تبالِغُ فِيهِ بالمضمضة ورُوي عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذا قَامَ من اللَّيْل يشوصُ فَاه بِالسِّوَاكِ. طوق بن مَالك وأعرابية حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَليّ بن هِشَام الرقي قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يحيى بن مُسلم الْحَرَّانِي قَالَ: كَانَ طوقُ بن مَالك يتولَّى الدبار وَكَانَ من عَادَته إِذا صلَّى الْجُمُعَة أَن يُنادي مناديه: من لَهُ مظْلمَة، مَنْ لَهُ قصَّة، من لَهُ حَاجَة فليشهد الْبَاب ولينصرف. فَفعل هَذَا فِي جُمُعَة من الْجمع، فلمّا صَار بَين بَاب دَاره وَالْمَسْجِد اعترضته امرأةٌ أعرابيةٌ من بني كلاب كاللبُؤة الْمُجْرِية، فَأخذت بعنان دابتّه ثُمَّ أنشات تَقُولُ: يَا طوقُ يَا ذَا الجودِ فاسمع إِلَى ... مقصِد هذي الْمَرْأَة المسلمهْ ناديتَ من كَانَت لَهُ قصَّة ... أَو حاجةٌ أَو من لَهُ مظلمهْ فليشهدِ البابَ، فقد جئتُهُ ... أَشْكُو إِلَيْك السنَّة المظلمهْ أمّ بَنِينَ كلّ يَوْم لَهَا ... قتلٌ وَفِي أموالِنَا ملحمه أَعْد بني الدُّنْيَا على دهرهم ... وابنِ لعدنانَ بِهَا مكرمه فقَالَ: أَي وَالله أيُّتها الْمَرْأَة، نُعديك على دهرك. ثُمَّ أَمر الخدم بضَمهَا، فرأيتها بعد ذَلِكَ بِحال حسنةٍ وبزةٍ جميلَة. الشُّعَرَاء يستأذنونَ على عقيلة بنت عقيل بن أبي طَالب حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن صَالِح قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه ابْن النطاح قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدة عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن صالِح بن كيسَان، قَالَ: كَانَت عقيلة بنت عقيل بن أبي طَالب تجلسُ للرِّجَال، فاستأذنَ عَلَيْهَا جميلٌ فَأَذنت لَهُ، فَلَمَّا دخلَ قيل لَهَا: هَذَا كثيرٌ بِالْبَابِ، فَقَالَت: أدخلوه، فَمَا لبث أَن قيل لَهَا: هَذَا الأحوصُ بِالْبَابِ، فَقَالَت: أدخلوه. فَأَقْبَلت على جَميل وَقَالَت: ألسْتَ الْقَائِل:

دعوى عريضة تنسب للجرمي

فَلَو تركتْ عَقْلِي معي مَا طلبتُها ... وَلَكِن طِلابيها لما فَاتَ من عَقْلِي أما تطلبها إِلَّا لذهابِ عقلك؟! أما وَالله لَوْلَا أبياتٌ قلتَها مَا أَذِنْتُ لَك، وَهِي: علقتُ الْهوى مِنْهَا وليدًا فَلم يزلْ ... إِلَى الْيَوْم ينمي حبُّها ويزيدُ فَلَا أَنا مرجوعٌ بِما جئتُ طَالبا ... وَلَا حبُّها فِيمَا يبيدُ يبيدُ يَموتُ الْهوى منّي إِذا مَا لقيتها ... ويحيا إِذا فارقتها فيعودُ ثُمَّ أَقبلت على كثّير فَقَالَت: وأمّا أَنْت يَا كَثِير فأقلُّ النَّاس وَفَاء فِي قَوْلك: أريدُ لأنسى ذِكْرَها فكأنَّما ... تمَّثل لي ليلى بكلِّ سبيلِ أما تريدُ أَن تذكرها حَتَّى تمثَّل لَك؟! أما وَالله لَوْلَا أبياتٌ قلتَها مَا أَذِنْتُ لَك، وَهِي: عجبت لسعي الدّهرِ بيني وَبَينهَا ... فلمّا انْقَضى مَا بَيْننَا سَكَنَ الدّهْرُ فيا حبَّ ليلى قد بلغتَ بيَ المدى ... وزدت عل مَا لَيْسَ يبلُغُه الهجرُ قَالَ القَاضِي: الْمَشْهُور من هذَيْن الْبَيْتَيْنِ أنّهما من كلمة لأبي صَخْر الْهُذلِيّ منسوبة إِلَيْهِ أوّلها: لليلى بذاتِ الْجَيْش دارٌ عرفتُها ... وَأُخْرَى بذاتِ الْبَين آياتها سَطْرُ وَقد أملَّها علينا عَن أَحْمَد بن يَحْيَى عَن عبد الله بن شبيب معزوَّةً إِلَى أبي صَخْر، مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي وَمُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي. ثُمَّ أَقبلت على الْأَحْوَص وَقَالَت: وأمّا أَنْت يَا أحوص فألأم الْعَرَب فِي قَوْلك: من عاشقين تراسلا وتواعدا ... لَيْلًا إِذا نجم الثّريّا حلَّقا باتا بأنعم عيشةٍ وألذها ... حَتَّى إِذا وضح النهارُ تفرّقا لِمَ قلت: تفرّقا؟! أما وَالله لَوْلَا شيءٌ قلتهُ مَا أَذِنْتُ لَك، وَهُوَ: كم من دنيّ لَهَا قد صِرْتُ أتبعُهُ ... وَلَو صَحا القلبُ عَنْهَا كَانَ لي تبعا قَالَ: ثُمَّ قَالَت لكثير: يَا فَاسق أَخْبِرْنِي عَن قَوْلك: أإن زمَّ أجمالٌ وَفَارق جيرةٌ ... وصاحَ غرابُ البينِ أنتَ حزينُ أينَ الْحزن إلاّ عِنْدهَا؟ فَقَالَ كَثِير؟ أعزّك الله، قد قلت شَيْئا أذهَبَ هَذَا العيبَ عنّي، وَهُوَ: وأزمعْنَ بَينا عَاجلا وتركنني ... بصحرا خريمٍ قَاعِدا أتبلَّد وَبَين التراقي واللهاةِ حرارةٌ ... مَكَان الشجا لَا تطمئنُّ فتبرد وَقد كَانَت قَالَت لجواريها: مزِّقن ثِيَابه عَلَيْهِ، فلمَّا أنشدَ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَت: خلِّين عَنْهُ يَا خبائث، وأمرتْ لَهُ بحلَّةٍ يمانيةٍ وبِمائة دِينَار فَأَخذهُمَا وَانْصَرف. دَعْوَى عريضة تنْسب للجرمي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يزِيد قَالَ، قَالَ أَبُو عمر الْجرْمِي

القاضي ينفي الدعوى عن الجرمي، ويخطئه

يَوْمًا: أَنا أعلم النَّاس بِكَلَام الْعَرَب، فَسَمعهُ الْأَصْمَعِي فَقَالَ: كَيفَ تنشد هَذَا الْبَيْت: قد كنَّ يخبأنَ الوجوهَ تستّرًا ... فَالْآن حِين بدأنَ للنظّارِ أَو حِين بدين؟ قَالَ أَبُو عمر: حِين بدأن، فَقَالَ: أَخْطَأت، فَقَالَ: بدين، فَقَالَ: أَخْطَأت يَا أعلم الناسِ بِكَلَام الْعَرَب، حِين بَدَوْنَ. القَاضِي يَنْفِي الدَّعْوَى عَن الْجرْمِي، ويُخطئه قَالَ القَاضِي: أَبُو عمر الْجرْمِي أرفعُ طبقَة عندنَا فِي علم الْعَرَبيَّة من أَن يذهب مثلُ هَذَا عَلَيْهِ، ولكنَّه أجابَ على البديهة، وَترك التبين والرويَّة، فَوَقع فِي خطأ العجلة، وَهُوَ أعلم بالتصريف والأبنية وأمضى فِي معرفَة المهموز والفصل فِي غير المهموز من بَنَات الْوَاو وَبَنَات الْيَاء من الْأَصْمَعِي. وأمّا تخطئة الأ صمعي لَهُ فِي قَوْله بدأن فِي الْبَيْت الَّذِي أنْشدهُ فَهُوَ كَمَا ذكر، وَقد أصابَ فِي تخطئته. وأمّا تَخطئته إيّاه فِي قَوْله بدين فَكَمَا قَالَ أَيْضا، وإنَّما يُقال بدأن بِكَذَا إِذا ابتدأن بِهِ بتحقيق الْهَمْزَة، وبدان بتليين الْهَمْزَة، وبدين على قَلبهَا يَاء حِين أَلْقَاهَا، كَمَا يُقال قَرَأت وقريت، وصحيفة مقروءة على تَحقيق الْهَمْزَة، ومقروَّة على تليينها، ومقراةٌ على الطرح وَالْقلب، وَقد قَرَأَ جُمْهُور القرأة: " أَرَأَيْت " " أرَيْتَ " بالطرح، وَاخْتَارَ الْكِسَائي هَذَا الْوَجْه فَقَرَأَ بِهِ، وَهُوَ معروفٌ فِي الْعَرَبيَّة، وَفِيهِ تَفْرِيق بَين الْخَبَر والاستخبار. وَمن هَذِه اللُّغَة قَول أبي الْأسود الدؤَلِي: أرَيْتَ امْرَءًا كنتُ لَمْ أبْلُهُ ... أَتَانِي فَقَالَ اتَّخذني خَلِيلًا وَقَالَ آخر: أريتِ الآمريكِ بِصَرْم حبلي ... مُرِيهمْ فِي أحبتهم بذاكِ وَقَالَ آخر: أريتكَ أَنْ مَنَعْتَ كلامَ ليلى ... أتمنعني على ليلى البكاءَ وَقَالَ آخر: أريتَ أَن جَاءَت بِهِ أملودا معَّما ويلبسُ البرودا أقائلونَ أحضروا الشهودا وَهَذَا بَاب مستقصى فِي كتبنَا المرسومة فِي عُلُوم الْقُرْآن. أَبُو خَليفَة وطفلة تصبو إِلَى زين الورى حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بن زِيَاد الْمقري قَالَ: ألقيت رقعةٌ إِلَى أبي خَليفَة الْفضل بن الْحباب القَاضِي فِيهَا: قل للحكيم أبي خليفهْ ... يَا زين شيعةِ أبي حنيفهْ إِنِّي قصدتُكَ للَّذي ... كاتمتُ من حذرٍ وخيفه

رقعة تلقى إلى القاضي الأنطاكي وجوابه عنها

مَاذَا تَقُولُ لطفلةٍ ... فِي الجسر منزلُها شريفه تصبو إِلَى زين الورى ... من غير مأثمةٍ عفيفهْ فَقلب الرقعة وَكتب على ظهرهَا: يَا مَنْ تكاملَ ظَرْفُها ... حالُ الْهوى حالٌ شريفهْ إِن كنتِ صادقةَ الَّذِي ... كاتَمتِ من حذرٍ وخيفه فلك السَّعَادَة والشها ... دة والجلالَةُ يَا شريفهْ هَذَا الفصاحُ بِعَيْنِه ... وَبِه يَقُول أَبُو حنيفهْ رقْعَة تلقى إِلَى القَاضِي الْأَنْطَاكِي وَجَوَابه عَنْهَا قَالَ أَبُو بكر النقاش: وأُلْقِيَتْ رقعةٌ إِلَى أبي بكر القَاضِي أَحْمَد بن مُوسَى الْأَنْطَاكِي مكتوبٌ فِيهَا: أيُّها الفاضلُ الكثيرُ الْعِدَاتِ ... صانَكَ الله عَن مقَام الدُّناة أَيكُون القصاصُ من فتكِ لحظٍ ... من غزالٍ مورَّد الوَجَنَاتِ أم يخافُ العذابَ من هُوَ صبٌّ ... مبتلى بالزفيرِ والْحَسَراتِ لَيْسَ إِلَّا العفاف وَالصَّوْم والنس ... ك زاجرًا عَن الشُّبُهَات فأخذَ الرقعة وَكتب على ظهرهَا: ياظريف الصَّنِيع والآلات ... وعظيمَ الأشجان واللوعات إنْ تَكنْ عَاشِقًا فَلم تأت ذَنبا ... بَلْ ترقيتَ أَرْفَع الدَّرَجَات فلك الحقُّ وَاجِبا إِن عرفنَا ... من تعلَّقته من الحجراتِ أَن أكون الرَّسُول جَهرا إِلَيْهِ ... إِذْ تنكَّبت مُوبِقَ الشُّبُهَات وَمَتى أَقضِ بِالْقصاصِ على اللح ... ظ حَبِيبِي أُخْطئْ طريقَ الْقُضَاةِ الفتك: بَطش الإِنْسَان بِغَيْرِهِ على وَجه الْمَكْر والغدر، يدلّ على ذَلِكَ مَا روى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِيمَان قيَّد الفتكَ، لَا يفتك مُؤمن "، وَفِيهِ ثَلَاث لُغَات فَتْك وفُتْك وَفِتْك. خبرٌ آخر لذِي القرنين حَدَّثَنَا عُبَيْد الله بن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنِي يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل قَالَ، أَخْبَرَنَا حَيَّان بن مُوسَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ، أَخْبَرَنَا رشيد بن سعد قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بن الْحَارِث عَن سعد بن أبي هِلَال أَنَّهُ بلغه أَن ذَا القرنين فِي بعض مسيره دخل مَدِينَة فاستكفَّ عَلَيْهِ أَهلهَا ينظرونَ إِلَى موكبه: الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالصبيان، وَعند بَابهَا شيخٌ على جمل، فمرَّ بِهِ ذُو القرنين فَلم يلْتَفت الشَّيْخ إِلَيْهِ، فَعجب ذُو القرنين لَهُ. فأرسلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا شَأْنك؟ استكفَّ الناسُ ونظروا إِلَى موكبي، فَمَا بالك أَنْت؟ قَالَ: لم يُعجبنِي مَا أَنْت فِيهِ، إِنِّي رأيتُ ملكا مَاتَ فِي يَوْم كَذَا هُوَ

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

ومسكين، ولموتانا موضعٌ يُجْعَلونَ فِيهِ، فأدخلا جَميعًا فأطلعتهما بعد أَيَّام وَقد تَغَيَّرت أكفانَهما، ثُمَّ أطلعتهما وَقد تزايلت لحومهما، ثُمَّ رأيتهما وَقد تفصلت الْعِظَام واختلطت فَمَا أعرفُ الْمِسْكِين من الْملك، فَمَا يُعجبنِي ملكك. فَلَمَّا خرج اسْتَخْلَفَهُ على الْمَدِينَة. هَذَا الَّذِي تعرفُ الْبَطْحَاء وطأته حَدَّثَنِي أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن زَكَرِيّا قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بن مُحَمَّد بن عَائِشَة قَالَ: حَدَّثَنِي أبي أَن هِشَام بن عبد الْملك حجَّ فِي خلَافَة عبد الْملك أَو الْوَلِيد، فطافَ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَ أَن يسْتَلم الْحجر فَلم يقدر عَلَيْهِ من الزحام، فنصب لَهُ مِنْبَر فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وأطاف بِهِ أهل الشَّام، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ أقبلَ عليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِم السَّلام عَلَيْهِ إزارٌ ورداء، أحسن النَّاس وَجها، وأطيبهم رَائِحَة، بَين عَيْنَيْهِ سجَّادة: أَنَّهَا ركبة عير، فَجعل يطوفُ بِالْبَيْتِ، فَإِذا بلغ الحَجَر تنحَّى الناسُ حَتَّى يستلمه هَيْبَة لَهُ وإجلالا. فغاظَ ذَلِكَ هشامًا، فَقَالَ رجل من أهل الشَّام لِهشام: من هَذَا الَّذِي قد هابه النَّاس هَذِه الهيبة وأفرجوا لَهُ عَن الحَجَر؟ قَالَ هِشَام: لَا أعرفهُ، لِئَلَّا يرغب فِيهِ أهل الشَّام، فَقَالَ الفرزدق وَكَانَ حَاضرا: لكني أعرفهُ، فَقَالَ الشَّامي: من هُوَ يَا أَبَا فراس؟ فَقَالَ الفرزدق: هَذَا الَّذِي تعرفُ الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفُهُ والحلُّ والحَرَمُ هَذَا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهمُ ... هَذَا النقيّ التيُّ الطاهرُ الْعلم إِذا رَأَتْهُ قريشٌ قَالَ قَائِلهَا ... إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الْكَرم ينمي إِلَى ذرْوَة العزِّ الَّتِي قصرت ... عَن نيلها عَرَبُ الإسلامِ والعجم يكَاد يُمْسكه عرفانَ رَاحَته ... ركنُ الحطيمِ إِذا مَا جَاءَ يسْتَلم يغضي حَيَاء ويُغْضِي من مهابته ... وَلَا يكلَّم إِلَّا حينَ يبتسم بكفّه خيزرانٌ ريحُهُ عبقٌ ... من كفِّ أروعَ فِي عرنينه شمم مشتقةٌ من رَسُول الله نَبْعَتُهُ ... طابتْ عناصرُهُ والْخِيمُ والشِّيم ينجابُ نورُ الْهدى عَن نورِ غرته ... كَالشَّمْسِ ينجابُ عَن إشراقها الظُّلم حمَّال أثقالِ أقوامٍ إِذا قُدِحُوا ... حُلْو الشَّمَائِل تَحلو عِنْده نعم هَذَا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنت جاهلَه ... بجدِّه أنبياءُ اللَّه قد ختموا اللَّه فضَّله قِدْمًا وشرَّفه ... جرى بذاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ الْقَلَم مَنْ جدُّه دَان فضلُ الأنبياءِ لَهُ ... وفضلُ أمته دانتْ لَهُ الْأُمَم عمَّ البريةَ بالإحسانِ فانقشعت ... عَنْهَا الغياية والإملاقُ وَالظُّلم كلتا يَدَيْهِ غياثٌ عمَّ نفعهما ... يستوكفانِ وَلَا يعروهما الْعَدَم سهلُ الخليقةِ لَا تُخشى بوادره ... يزينُهُ اثْنَتَانِ الْحلم وَالْكَرم

المجلس الحادي والتسعون

لَا يُخْلِفُ الوعدَ ميمونٌ نقيبته ... رحبُ الْفِناءِ أريبٌ حينَ يعتزم من معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كفرٌ وقربهمُ مَنْجًى وَمُعْتَصَم يُسْتَدْفَعُ السوءُ والبلوى بِحبِّهمُ ... ويسترقُّ بِهِ الْإِحْسَان وَالنعَم مقدَّمٌ بعد ذكرِ الله ذكرهمُ ... فِي كلِّ يومٍ ومختومٌ بِهِ الْكَلم إِن عدَّ أهلُ التقى كَانُوا أئمتهم ... أَو قيلَ مَنْ خَيْرُ أهلِ الأَرْض قيلَ هُمُ لَا يَسْتَطِيع جوادٌ بُعْدَ غايتهم ... وَلَا يدانيهم قومٌ وإنْ كَرموا هم الغيوث إِذا مَا أمةٌ أَزَمَتْ ... والأُسْدُ أُسْدُ الشَّرى والبأسُ مُحْتَدِمُ يَأْبَى لَهم أَن يحلَّ الذمُّ ساحتَهم ... خيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالنَّدى هضم لاينقص الْعُسْرُ بسطًا من أكفهمُ ... سيان ذَلِكَ إِن أَثروا وَإِن عدموا أيّ الْخَلَائق لَيست فِي رقابِهم لأولية هَذَا أَو لَهُ نعم من يعرف الله يعرفْ أوَّلَّية ذَا ... فالدّين من بَيت هَذَا ناله الْأُمَم قَالَ: فَغَضب هِشَام وَأمر بِحَبْس الفرزدق، فحبس بعسفان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. فبلغَ ذَلِكَ عليَّ بن الْحُسَيْن عَلَيْهِم السَّلام، فَبعث إِلَى الفرزدق اثْنَي عشر ألف دِرْهَم وَقَالَ: اعذر أَبَا فراس، وَلَو كَانَ عندنَا أَكثر مِنْهَا لوصلناك بِهَا. فردَّها وَقَالَ: يَا ابْن رَسُول الله. مَا قلتُ الَّذِي قلت إِلَّا غَضبا لله وَلِرَسُولِهِ، مَا كنت لأرزأ عَلَيْهِ شَيْئا. فردَّها إِلَيْهِ وَقَالَ: بحقي عليكَ لَمَا قبلتها، فقد رأى الله مَكَانك وَعلم نيتك، فقبلها، فَجعل يهجو هشامًا، فَكَانَ مِمَّا هجاهُ بِهِ: أيحسبني بَين الْمَدِينَة وَالَّتِي ... إِلَيْهَا قلوبُ النَّاس يهوي منيبها يقلِّب رَأْسا لَمْ يكن سيد ... وعينين حولاوين بادٍ عيوبها فَبعث وَأخرجه. الْمجْلس الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ وَفد ثَقِيف إِلَى الرَّسُول حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُونُسَ بْنِ يس أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْرَائِيلَ قَالَ، حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ الْبَصْرِيُّ عَنْ خَصِيبِ بْنِ جَحْدَرٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُفَيٍّ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفَ عَلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَيْئَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ طَوِيلَةً أَشْعَارُهُمْ وَشَوَارِبُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " امْكُثُوا وتعلَّموا الْقُرْآنَ، وخذوا من أَشْعَاركُم وشواربكم وأظافركم "، فَمَكَثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثُوا، فَاسْتَعْرَضَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَطْهَرَهُمْ ثِيَابًا وَأَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا قَدْ فَضَلَهُمْ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فأمَّره عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِذَا صلَّيت بِقَوْمِكَ فصلِّ بِأَضْعَفِهِمْ فإنَّ خَلْفَكَ الْكَبِيرَ وَالسَّقِيمَ وَذَا

تعليق على الحديث

الْحَاجَةِ وَلا يَتَّخِذُونَ مُؤَذِّنًا يَطْلُبُ عَلَى أَذَانِهِ الأُجْرَةَ. تَعْلِيق على الحَدِيث قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر أوضح دليلٍ على أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ التنظفَ وإماطةَ الْأَذَى عَن الْجَسَد، ويكرهُ القذارة الَّتِي هِيَ من هيئات أهل الْجفَاء ومفارقة مَا يؤثره ذَوُو الأدبِ والمروءة. وَقد أَتَى عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلام فِي هَذَا الْمَعْنى وَمَا أشبهه أخبارٌ كَثِيرَة، وَذَلِكَ أَكثر وأوضح وَأظْهر من أَن يحْتَاج إِلَى استقصاء مَا ورد فِيهِ لاشتراك الْخَاصَّة والعامة فِي مَعْرفَته، واستحسان تَفْصِيله وَجُمْلَته. وَفِيهِ أَيْضا الدّلَالَة البيّنة على فضل أهل الْقُرْآن وحَفَظَته وحَمَلَته، وأنّ مَنْ جَمَعَهُ أوفرهم حظًّا وأشرفُهُم منزلَة وأعلاهُمْ رُتْبَة وأولاهم بالتقدمة وأحقُّهم بالتأمر عَلَيْهِم. وَمَا رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنى أَكثر من أَن يُحيطَ الآدميونَ بِهِ، وَلَو لَمْ يأتِ فِيهِ إِلَّا مَا تَوَاتَرَتْ الأخبارُ بِهِ من قَول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل الْقُرْآن أهل الله وخاصته "، وَقَوله: " خَيركُمْ من تعلّم الْقُرْآن وَعلمه ". وَفِي بعض الرِّوَايَات: أفضلكم. وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقدِّم الأقرأ فالأقرأ لكتاب الله من أَصْحَابه. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي من استشهدَ مِنْهُم يَوْم أحد: " زمّلوهم بدمائِهم وَلَا تغسلوهم، ودفنوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة فِي قبرٍ واحدٍ، وقدِّموا إِلَى الْقبْلَة أَكْثَرهم قُرْآنًا ". مقَالَة أعشى هَمدَان فِي أهل الْبَصْرَة والكوفة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا العكلي قَالَ، حَدَّثَنَا سعيد بن يحيى الْأمَوِي قَالَ، حَدَّثَنِي عمي عُبَيْد بن سعيد عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ قَالَ: قدمتُ الْبَصْرَة فجلستُ فِي حلقةٍ فِيهَا الْأَحْنَف بن قيس، فَقَالَ لي رجلٌ من أهل الْحلقَة: مِمَّن أَنْت؟ قلت: من أهل الْكُوفَة، فالتفتَ إِلَى جليسه فَقَالَ: هَذَا مَوْلَانَا، فقلتُ لَهُ: أتدرونَ مَا قَالَ أعشى هَمدَان فِينَا وَفِيكُمْ؟ قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قلت: وَإِذا فاخرتمونا فاذكروا ... مَا فعلناهُ بكم يومَ الْجمل بَين شيخٍ خاضبٍ عثنونَهُ ... وفتى أبيضَ وضاحٍ رِفَلْ جَاءَنَا يهدرُ فِي سابغةٍ ... قد ذبحناهُ ضحى ذَبْحَ الحَمَلْ وعفونا فنسيتم عَفَوْنَا ... وكفرتم نعمةَ الله الْأَجَل وقتلتم خشبيِّين بهم ... بدلٌ من قومكم شرَّ بَدل قَالَ: فَغَضب الْأَحْنَف وَقَالَ لجاريته: هَاتِي تِلْكَ الصَّحِيفَة، فَإِذا فِيهَا من الْمُخْتَار بن أبي عُبَيْد إِلَى الْأَحْنَف بن قيس وَمَنْ قِبَلُه من مُضر: أما بعد فويل لمضر، من شرِّ أمرٍ قد 1حضر، وَإِن الْأَحْنَف موردٌ قومَه حرَّ سقر، حَيْثُ لَا يقدر لَهُم على صَدَر، وَلَقَد بَلغنِي أنَّكم تكذبون رُسُلِي، وَلَئِن فَعلْتُمْ لقد كُذِّبت الرسلُ من قبلي، وكتبت بِخَبَر من كُذِّبَ مِنْهُم،

دفن الرشيد محمد بن الحسن والكسائي بالري

وَالسَّلَام. قَالَ الْأَحْنَف: هَذَا منا أَو مِنْكُم؟ فقمتُ وَمَا أحير جَوَابا. دفن الرشيد مُحَمَّد بن الْحَسَن وَالْكِسَائي بالريّ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضر الْعقيلِيّ قَالَ، أَخْبرنِي أَبُو الْحسن ابْن رَاهَوَيْه الْكَاتِب قَالَ: حُدِّثْتُ أَن مُحَمَّد بن الْحَسَن وَعلي بن حَمْزَة الْكسَائي كَانَا بِالريِّ مَعَ الرشيد، وأنَّهما مَاتَا فِي يومٍ واحدٍ بقرية من قرى الريّ يُقالُ لَهَا الرّنبويه، فجزع الرشيد عَلَيْهِمَا وَقَالَ: إِنَّا لله وَإِنَّا إلبه رَاجِعُون، دفنتُ الفقهَ واللغةَ فِي يَوْم وَاحِد، وَكَانَ اليزيدي حاضراَ فَأَنْشَأَ يَقُول: تصرَّمت الدُّنْيَا فَلَيْسَ خلودُ ... وَمَا قد يُرَى من بهجةٍ سيبيدُ أَسِيتُ على قَاضِي الْقُضَاة محمدٍ ... فأذريتُ دمعاَ والفؤادُ عميد وقلتُ إِذا مَا الخطبُ أشكلَ من لنا ... بإيضاحه يوماَ وَأَنت فقيد فأوجعني موت الْكِسَائي بعده ... وكادت بِي الأرضُ الفضاءُ تَميد هما عالِمان أوديا وتخرَّما ... وَمَا لَهما فِي العالِمين نديد قَالَ الرشيد: أحسنتَ يَا بصريّ، قد كنت تظلمه فِي حَيَاته وأنصفته بعد مَوته. شُرُوح لغوية قَالَ القَاضِي: قَوْله: " أوديا معناهُ هلكا، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: وَلم يُودِ مَنْ كنتَ تسْعَى لَهُ ... كَمَا قيلَ فِي الحربِ أَوْدَى درم وَمعنى " ونخرما " مثله، فَهُوَ الْهَلَاك وانقطاعُ الْأَجَل وتصرم الْعُمر، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ: سبقوا هويَّ وَأعنقوا لسبيلهم ... فتخرِّموا ولكلِّ جنب مصرعُ ويروي: فقدتهم. وَقَالَ: " هزيّ " وَهِي فِيمَا قيل لُغَة هديل يَجْعلونَها بِمنزلة عليَّ وإليَّ، وَذكر أَنَّهَا لُغَة بعض بني سُلَيْم، وَقد قَرَأت القرأة بِهاتين اللغتين فِي الْقُرْآن. فأمَّا جُمْهُور القرأة فيقرأون بلغَة أهل الْحجاز وَعَامة الْعَرَب، وَقد رويت الْقِرَاءَة الْأُخْرَى عَن أبي طفيل عَامِر بن وَاثِلَة وَعبد الله بن إِسْحَاق الحضرميّ وَعَاصِم الجحدري وَعِيسَى بن عمر الثَّقَفِيّ، وَرفع عضهم مَا رُوِيَ عَن أبي الطُّفَيْل إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمن هَذِه اللُّغَة قَول الشَّاعِر: فأَبْلُوني بليَّتكم لعليّ ... أصالحكم واستدرج نَوَيّا يريدُ: نواي. وَقَالَ آخر: يطوِّف بِي عكبٌّ فِي معدٍّ ... ويطعنُ بالصُّملَّة فِي قفيَّا فإنْ لَمْ تثأرا لي من معدٍّ ... فَلَا أرويتما أبدا صديَّا أَرَادَ: قفاي وصداي. وَذكر أَن طَلْحَة قَالَ وَقد ذكر لَهُ بيعَته أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي

منازعات اللغويين في مجلس المهدي

طَالب عَلَيْهِ السَّلام: بايعتُ واللجُّ على قفيَّ. اللج: السَّيْف، وَقيل إِن طَلْحَة تزوج امْرَأَة هندية فتكلَّم بلغتهَا. وَقد اخْتلف البصريون والكوفيون من النُّحَاة فِي عِلّة الْفرق بَين عليَّ وإليَّ ولديَّ وَبَين هواي وقفاي وعصاي، وَبَيَان هَذَا واستقصاء مَا فِيهِ مرسوم فِي كتبنَا الْمُؤَلّفَة فِي الْقُرْآن. وَقَول اليزيدي " وَمَا لَهما فِي العالِمين نديد ": النديد " الندّ وَمِنْه قَول لبيد. أحمدُ الله فَلَا ندَّ لَهُ ... بيدَيْهِ الخيرُ مَا شَاءَ فَعَلْ والندّ والنديد فِيهِ لُغَات: ندّ ونديد ونديدة. فَمن الند والنديد قَول جرير يهجو عمر بن بن لَجأ: أتيتم تجعلونَ إليَّ ندًّا ... وَمَا تيمٌ بِذِي حسبٍ نديدِ وأمّا النديدة فَإِن الْهَاء ألحقت فِيهِ للْمُبَالَغَة، كقوللهم فِي الْمَدْح راوية وعلامة ونسابة، وَفِي الذَّم هلباجة وفَرُوقة وَمَلولة. وَزعم الْفراء أَن الهاءَ أُدْخِلَت فِي هَذَا يُرَاد بِهَا أَن الممدوح بِمنزلة الداهية والمذموم بِمنزلة الْبَهِيمَة. وَمن النديدة قَول الشَّاعِر: لِئَلَّا يكون السندريُّ نديدتي ... وأتركَ أعماماً عُمُوما عماما ويَجمع الند أندادًا، قَالَ الله عز وَجل " فَلا تَجْعَلُوا للَّه أنداد " " الْبَقَرَة: 31 " وَمِنْه قَول الْأَعْشَى ": فَقَالَ تزيدونني تِسْعَة ... وَلَيْسَ بكفؤٍ لأندادِها وَزعم بعضُ أهل اللُّغَة أَنَّهُ يُقال للضد ندّ أَيْضا وَأَنه من حُرُوف الأضداد. منازعات اللغويين فِي مجْلِس الْمهْدي وَقد كَانَت تجْرِي بَين الْكسَائي واليزيدي منازغةٌ وهفوات، ومماراة وخصومات، عِنْد الملاحاة فِي اللُّغَة، والمجادلة فِي مقاييس النَّحْو وأبواب الْعَرَبيَّة، وَمَا مِنْهُمَا إِلَّا مُتَقَدم وعلمٌ مبرز فِي مَعْرفَته، ذُو حظٍّ عَظِيم من علم الْقُرْآن وَإِعْرَابه، وَجُمْلَة النَّحْو وأبوابه، رَحْمَة الله علينا وَعَلَيْهِمَا وَبَرَكَاته. فممَّا دَار بَينهمَا من الْخُصُومَة واللحاء، والمنازعة والمراء، مَا حدَّثنيه عُبَيْد الله بن أَحْمَد الْكَاتِب أحد إِخْوَاننَا قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّد بْن الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ، حَدَّثَنِي عمي عُبَيْد الله بن مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنِي أبي مُحَمَّد بن أبي مُحَمَّد قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مُحَمَّد أبي قَالَ: كُنَّا مَعَ الْمهْدي بِبَلَد فِي شهر رَمَضَان قبل أَن يُستخلف بأَرْبعَة أشهر، وَكَانَ الْكِسَائي مَعنا، فَذكر الْمهْدي الْعَرَبيَّة وَعِنْده شيبَة بن الْوَلِيد الْعَبْسِي عمُّ دفافة، فَقَالَ الْمهْدي: يُبعث إِلَى اليزيدي وَإِلَى الْكسَائي، وَأَنا يَوْمئِذٍ مَعَ يزِيد بن مَنْصُور خَال الْمهْدي، وَالْكِسَائي مَعَ الْحَسَن الْحَاجِب، قَالَ: فجاءنا الرَّسُول فَجئْت، وَإِذا الكسائيُّ على الْبَاب، فَقَالَ لي: يَا أَبَا مُحَمَّد أعوذُ بِاللَّه من شرّك، قَالَ فقلتُ لَهُ: وَالله لَا تُؤْتَى من قبلي حَتَّى أُوتى من قبلك، قَالَ: فلمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ أقبل عليَّ فَقَالَ: كَيفَ نسبوا إِلَى الْبَحْرين بحراني ونسبوا إِلَى الحصنين فَقَالُوا: حصني وَلم يَقُولُوا حصناني كَمَا قَالُوا بَحراني؟ قَالَ، قلت: أصلح الله

الْأَمِير، إنَّهم لَو نسبوا إِلَى الْبَحْرين فَقَالُوا بحريّ لَمْ يُعرف إِلَى الْبَحْرين نسبوه أم إِلَى الْبَحْر، وَلما جَاءُوا إِلَى الحصنين لَمْ يكن مَوضِع آخر يُقال لَهُ الْحصن ينْسب إِلَيْهِ غير الحصنين فَقَالُوا: حصني. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فَسمِعت الْكِسَائي يَقُول لعمر بن بزيع، وَكَانَ حَاضرا: لَو سَأَلَني الْأَمِير لأخبرته بعلَّةٍ هِيَ أحسنُ من هَذِه. قَالَ أَبُو مُحَمَّد فَقلت: أصلح الله الْأَمِير إِن هَذَا يزْعم أنَّكَ لَو سَأَلته لأجابَ بِأَحْسَن مِمَّا أجبتُ بِهِ. قَالَ: فقد سَأَلته، فَقَالَ الْكِسَائي: إنَّهم لَمّا نسبوا إِلَى الحصنين كَانَت فِيهِ نونان، فَقَالُوا حصنيّ فاجتزءوا بِإِحْدَى النونين عَن الْأُخْرَى، وَلم يكن فِي الْبَحْرين إِلَّا نون وَاحِدَة فَقيل بحراني، فقلتُ: أصلح الله الْأَمِير كَيفَ ينْسب رجلا من بني جنان؟ يلْزمه أَن يَقُول جنّي لِأَن فِي جنّان نونين، فَإِن قَالَ ذَلِكَ فقد سوَّى بَينه وَبَين الْمَنْسُوب إِلَى الجنّ. قَالَ الْمهْدي: فتناظرا فِي غير هَذَا، قَالَ: فتناظرنا فِي مساءل حُفِظَ قولي وَقَوله فِيهَا قَالَ: إِلَى أَن قلت: كَيفَ تَقُولُ إِن من خير الْقَوْم أَو خَيرهمْ بتة فقلتُ: أعزّ الله الْأَمِير لِأَن يُجيبَ فيُخطئ فيتعلّم أحسن من هَذِه الإطالة، قَالَ فَقَالَ: إِن من خير الْقَوْم أَو خيرُهم نِيَّة زيدا، قَالَ: فقلتُ: أصلح الله الْأَمِير مَا رَضِي أَن يلحن حَتَّى لحن وأحال، قَالَ: كَيفَ؟ قَالَ قلت: لرفعه قبل أَن يَأْتِي بِالِاسْمِ ونصبه بعد رَفعه، قَالَ: فَقَالَ شيبَة بن الْوَلِيد: أَرَادَ بأوبل، قَالَ: فقلتُ: هَذَا تَعْنِي، فَقَالَ الْكِسَائي: مَا أردتُ غيرَ ذَلِكَ، قَالَ فَقلت: قد أَخطَأ جَميعًا أيّها الْأَمِير، لَو أَرَادَ بأوّبل لرفع زيدا لِأَنَّهُ لَا يكون بَلْ خيرُهم زيدا. قَالَ فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: يَا كسائي لقد دخلت إليَّ مَعَ سَلمَة النَّحْوِيّ وَغَيره فَمَا رَأَيْت كَمَا أَصَابَك الْيَوْم. ثُمَّ قَالَ الْمهْدي: هَذَانِ عالِمان وَلَا يقْضي بَينهمَا إِلَّا أعرابيٌّ فصيح تُلْقَى عَلَيْهِ الْمسَائِل الَّتِي اخْتلفَا فِيهَا فيُجيب. قَالَ: فبعثَ إِلَى فصيح من فصحاءِ الْأَعْرَاب. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فَإلَى أَن يَأْتِي الْأَعرَابِي أطرقت، وَكَانَ الْمهْدي محبًّا لأخواله، وَمَنْصُور بن يزِيد بن مَنْصُور خَاله حَاضرا. قَالَ فقلتُ: أصلح الله الْأَمِير كَيفَ يُنشدُ هَذَا الْبَيْت من هَذِه القصيدة: يَا أيُّها السائلي لأخبر ... عَمَّن بصنعاءَ من ذَوي الحَسَبِ حمير سادتها تقرُّ لَهَا ... بالفضلِ طرًّا جحاجحُ العربِ وإنّ من خَيرهمْ وَأكْرمهمْ ... أَو خَيرهمْ بتةً أَبُو كَرِبِ فَقَالَ الْمهْدي: كَيفَ تُنشد أَنْت؟ قَالَ فقلتُ: أَو خيرَهم بتةً أَبُو كرب على معنى إِعَادَة " إنَّ ". قَالَ فَقَالَ الْكِسَائي: هُوَ قَالَهَا السّاعة أصلح اله الْأَمِير. قَالَ: فتبسَّم الْمهْدي وَقَالَ إنَّك لتُجيدُ لَهُ وَمَا تَدْرِي. قَالَ: ثُمَّ طلع الْأَعرَابِي الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ فألقيتُ الْمسَائِل عَلَيْهِ، وَكَانَت ستَّ مسَائِل، فأجابَ عَنْهَا كلهَا بِقَوْلِي. قَالَ: فاستفزّني السرُور حَتَّى ضربتُ بقلنسوتي الأَرْض وَقلت: أَنا أَبُو مُحَمَّد. قَالَ فَقَالَ شيبَة بن الْوَلِيد:

الأصمعي والجارية

تكنى بِاسْمِك أيُّها الْأَمِير!! فَقَالَ الْمهْدي: وَالله مَا أَرَادَ مَكْرُوها وَلكنه فعل مَا فعل للظفر، ولعمري لقد ظفر. قَالَ فَقلت: إِن الله عَزَّ وَجَلَّ أنطقك أيُّها الْأَمِير بِما أَنْت أَهله، وأنطقَ غَيْرك بِما هُوَ أَهله. قَالَ: فلمّا خرجنَا قَالَ لي شيبَة: تخطِّئني بَين يَدي الْأَمِير؟! أما لتعلمنّ. قَالَ فَقلت: قد سمعتُ مَا قلت وَأَرْجُو أَن تجدَ غبّها. قَالَ: ثُمَّ لَمْ أصبح حَتَّى كتبتُ رِقَاعًا عدَّة، فَلم أدع ديوانًا حَتَّى دسستُ إِلَيْهِ رقْعَة فِيهَا أَبْيَات قلتهَا، فَأصْبح الناسُ ينشدونَها وَهِي: عش بجدٍّ وَلَا يَضرك نوكٌ ... إنَّما مَنْ تَرَى بالجدود عش بجد وَكن هبنّقةَ القيسيَّ نوكًا أَو شيبةَ بن الْوَلِيد شيبَ يَا شيبَ يَا جديَّ بني الْقَعْقَاع مَا أَنْت بالحليم الرشيد لَا وَلَا فيكَ خلَّةٌ من خلال ال ... خير أحرزتها بحزمٍ وجود غير مَا أَنَّك الْمجِيد لتقطيع غناءٍ أَو ضَرْبِ دفٍّ وعود فعلى ذَا وَذَاكَ يُحْتَمَلُ الدهرُ مجيدًا لَهُ وغيرَ مَجيد قَالَ أَبُو عبد الله، وَحَدَّثَنِي عمي عُبَيْد الله قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر أخي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد قَالَ: كَانَت تحتبس أرزاق الْكِسَائي فَيصير إليّ فَيَقُول لي: اكْتُبْ لي رقْعَة إِلَى جَعْفَر بن يَحْيَى فأكتب لَهُ. قَالَ القَاضِي: وَقد أحسنَ اليزيدي فِيمَا أجابَ بِهِ، وأَلْطَفَ فِي نظره وَقِيَاسه، وأتى فِيمَا بَينه وَبَين الْكِسَائي من الْجفَاء بِما كَانَ الأوْلَى بِهِ خِلَافه، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ لَو حابَى الكسائيَّ وأغضى لَهُ، فقد كَانَ يعرفُ فَضله وتمكُّنه من الْعلم ونبله. وَالْمَسْأَلَة التّتي سَأَلَهُ عَنْهَا بِحَضْرَة الْمهْدي لطيفةٌ، وتعرضُ كثيرا فِي أمثالِها الشُّبْهَة، وَقد سَأَلَهُ عَنْهَا واستبطأهُ فِي جوابِها وأنَّبه على تَأْخِيره الْجَواب عَنْهَا، وَمَا أرى الزيدي حصَّل جوابَها عِنْد ابْتِدَاء وُقُوعهَا إِلَيْهِ على البدار والبديهة حَتَّى أنعمَ فِيهَا نظره وأعملَ فِيهَا فكره. وَقد كنت أمللتُ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كلَاما، وشرحت مَا استدلَّ بِهِ اليزيدي فِيهَا وَالْوَجْه الَّذِي تعلّق بِهِ الْكِسَائي فِي إجَابَته عَنْهَا، كرهتُ إِعَادَته والإطالة هَاهُنَا بِذكرِهِ. الْأَصْمَعِي وَالْجَارِيَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم بْن خَلاد قَالَ، قَالَ الْأَصْمَعِي: دخلت عَلَى جَعْفَر بْن يَحْيَى بْن خَالِد يَوْمًا من الأيَّام فَقَالَ لي: يَا أصمعي هَلْ لَك من زوجةٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فجارية؟ قُلْتُ: جاريةٌ للمِهْنة، قَالَ: فَهَل لَك أَن أهبَ لَك جَارِيَة نظيفة؟ قُلْتُ: إِنِّي لمحتاجٌ إِلَى ذَلِكَ، فَأمر بِإِخْرَاج جاريةٍ إِلَى مَجْلِسه، فخرجتُ جاريةٌ فِي غَايَة الْحَسَن وَالْجمال والهيئة والظَّرف، فَقَالَ لَهَا: قَدْ وهبتُكِ لهَذَا. وَقَالَ لي: يَا أصمعي

النساء تمقت بحشلا لدمامته وجهامة صورته

خُذْهَا، فشكرته؛ وبكت الْجَارِيَة وَقَالَ: يَا سيِّدي تدفَعُني إِلَى هَذَا الشَّيْخ مَعَ مَا أرى من سَمَاجته وقُبْح منظره؟! وجَزِعَت جزعًا شَدِيدا، فَقَالَ: يَا أَصْمَعيُّ: هَلْ لَك أَن أعوضِّك مِنْهَا ألف دِينَار؟ قُلْتُ: مَا أكرهُ ذَلِكَ. فَأمر لي بِأَلف دِينَار وَدخلت الْجَارِيَة، فَقَالَ لي: يَا أصمعي إِنِّي أنكرتُ على هَذِه الْجَارِيَة أمرا فأردتُ عقوبتها بك، ثُمّ رحمتها مِنْك. فقلتُ: أيُّها الْأَمِير فألا أعلمتَني قبل ذَلِكَ؟ فإنِّي لَمْ آتِك حَتَّى سرَّحت لِحْيتي وأصلحتُ عِمَّتِي، وَلَو عرفتُ الْخَبَر لحضرتُ على هَيْئَة خلقتي، فوَاللَّه لَو رأتْني كَذَلِك لما عاودتْ شَيْئا تكرههُ مِنْهَا أبدا مَا بَقِيَتْ. النِّسَاء تَمْقُت بَحشلا لدمامته وجهامة صورته حَدَّثَنِي الْحَسَن بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق أحد إِخْوَاننَا عَن بحشل الْقَارئ، وَكَانَ مَشْهُورا بِحسن الصَّوْت ينتابه النَّاس لاستماع قِرَاءَته وعذوبة تِلَاوَته، قَالَ: كَانَ بحشَل مشنوءَ الْخلقَة شتيم الْوَجْه جهم الصُّورَة، وَكَانَ يُرِيد النكاحَ، فَإِذا خطبَ النِّسَاء ردَّ وَلم يُرَدْ لبشاعة منظره، وَإِذا شرع فِي ابتياع الْإِمَاء أَبَيْنَهُ ونبون عَنْهُ، والتوين عَلَيْهِ، ورغبن عَن مخالطته. فَشَكا إِلَى صديق لَهُ يأنس بِهِ مَا يلقى م مضض التعزُّب وَتعذر المباعلة، ويقاسي من شدَّة الشَّبق وفَقْدِ المباضعة ونفور النِّسَاء عَنْهُ لسماجة الْخلقَة، فَقَالَ لَهُ: أَنا أسعى لَك فِي هَذَا بِما يُؤَدِّي إِلَى محبتك. وَمضى إِلَى سوق الرَّقِيق فَابْتَاعَ جَارِيَة حلوة مَقْبُولَة وَصَارَ بِهَا فِي آخر النَّهَار إِلَى منزل بحشل، فلمَّا استقرا فِي منزله أحضر الطَّعَام واجتمعا على الْعشَاء ثُمَّ وثب الرَّجل فودَّع بحشلا وخلَّف الْجَارِيَة عِنْده فتعلقت بِثَوْبِهِ وَقَالَت: إِلَى أَيْن تمْضِي وتخلّفني؟ فَقَالَ: أمضي إِلَى منزلي وَأَنت عِنْد مولاكِ. قَالَت: وَمن مولَايَ؟ فقَالَ: هَذَا، فصرخت وَقَالَت: ظننتُ أَنَّك مولَايَ، وَأما هَذَا فَلَو أُرغبت أَو أرهبت بكلِّ شَيْء مَا خاليته فِي منزلٍ. فَلم يزل الرجل يديرها ويلويها، ويستعطفها وَيُدَارِيهَا، ويبذل لَهَا فاخر الكساء ونفيسَ الْحُلي والإخدام، والتكرمة والإعظام، وَهِي مصرَّةٌ على نفورها، مقيمةٌ على إبائها. فلمَّا يئس من قبُولهَا قَالَ لَهَا: فَإِنِّي مباكرٌ إِلَى هناهنا وحاملك إِلَى السُّوق للْبيع. قَالَت: فَأَيْنَ أبيتُ؟ قَالَ: هَاهُنَا، قَالَت: لَا أفعل، قَالَ: فإنّا ندخلك بَيْتا تبيتين فِيهِ ونقفله عَلَيْك، قَالَت: على أَن يكون مفتاحه معي. فَفعل ذَلِكَ وانصرفَ الرجل، وَقَامَ بحشل وَقت وِرْدِهِ من اللَّيْل لصلاته، وَرفع بِالْقِرَاءَةِ صَوته، فطربت إِلَيْهِ وشُغفت بِهِ، وَوَقع فِي قَلبهَا حبه، فَجعلت تناديه: يَا مولَايَ، يَا مولَايَ، خُذ الْمِفْتَاح وَافْتَحْ الْبَاب وأخرجني إِلَيْك أَو ادخل إليّ فَأَنا طوعُ يَديك. فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا حَتَّى قضى صلَاته، ثُمَّ فتح الْبَاب فَجعلت تعتذرُ إِلَيْهِ وقبَّلت يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ واستولدها. قَالَ القَاضِي: وَقد روينَا خَبرا يُضارعُ هَذَا من وجهٍ بعض المضارعة وأخّرنا إثْبَاته لِئَلَّا يطول الْمجْلس بِهِ ويتجاوز حَده، ونحنُ راسموهُ فِي الْمجْلس الَّذِي يَلِيهِ إِن شَاءَ الله.

المجلس الثاني والتسعون

الْمجْلس الثَّاني وَالتِّسْعُونَ حَدِيثٌ لَا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَكْرٍ السُّكَّرِيُّ سنة تسع عشرَة وثلاثمائة قَالَ، حَدَّثَنَا يَعِيشُ بْنُ الْجَهْمِ الْحَدَثِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لمسلمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَلْقَاهُ هَذَا فَيُعْرِضُ، وَيَلْقَاهُ هَذَا فَيُعْرِضُ عَنْهُ، فَأَيُّهُمَا بَدَأَ بِالتَّسْلِيمِ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ ". قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا وَبِمَا فِي مَعْنَاهُ أخبارٌ كَثِيرَةٌ مِنْ طرقٍ شتَّى، وَإِسْنَادُ هَذَا الْخَبَرِ غَرِيبٌ لَمْ نَسْمَعْهُ إِلا مِنْ هَذَا الشَّيْخِ، وَحُفَّاظِ الْحَدِيثِ لَا يَعْرِفُونَهُ إِلا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَفِيهِ حَثٌّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّوَاصُلِ والتبارِّ وَالتَّبَاذُلِ وَحَسْمِ أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَتَشْتِيتِ الأُلْفَةِ وَتَشْعِيثِ الْمَوَدَّةِ بِالْحَسَدِ وَالتَّقَاطُعِ والتدابر والتمانع والمصارمة وَالتَّنَازُعِ. نصيحة لُقْمَان لِابْنِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَان الأشنانداني قَالَ، حَدَّثَنَا التوّزي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَة قَالَ: حدِّثت أَن لُقْمَان قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُني عَلَيْك بخلالٍ إِن تمسكت بِهنَّ لَمْ تزل سيدًا: ابْسُطْ حلمَكَ للغريب والقريب، وأَمْسِك جهلك عَن الْكَرِيم واللئيم، واحفظ إخوانكَ، وصلْ أقاربك، وَليكن خلانك من إِذا فَارَقْتهمْ وفارقوك لَمْ تَبِعَهُمْ وَلم يبيعوك؛ وخصلتان يزينانك: اعْلَم أَنَّهُ لَا يطَأ بساطك إِلَّا رَاغِب فِيك أَو رَاهِب مِنْك. فأمَّا الراهب مِنْك فأدن مَجْلِسه، وتهلل فِي وَجهه، وَإِيَّاك والغمز من وَرَائه. وأمّا الراغبُ فِيك فابذل لَهُ البشاشة وابدأهُ بالنوال قبل السُّؤَال، فَإنَّك مَتى تلجئه إِلَى مسألتك تَأْخُذ من حرِّ وجهِهِ ضعْفي مَا تعطيه. الفرزدق يَمدح عَمْرو بن عتبَة حَدَّثَنَا الْحَسَن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يزِيد قَالَ، أَخْبَرَنَا الْمَازِني عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: دخل الفرزدق على عَمْرو بن عتبَة فِي دَاره بالزاوية وَهُوَ يسلتُ العرقَ عَن وَجهه، فأنشده: لَوْلَا ابنُ عتبةَ عَمْرو والرجاءُ لَهُ ... مَا كَانَت البصرةُ الحمقاءُ لي وطنا أَعْطَانِي المَال حَتَّى قلتُ يودعني ... أَو قلتُ أودَعُ مَالا قد رآهُ لنا فجودُهُ متعبٌ شكري ومنَّته ... فكلّما زدتُ شكرا زادني مننا يري بِهمته أقْصَى مسافتها ... وَلَا يريدُ على معروفه ثَمنا قَالَ: فَقَالَ عَمْرو بن عتبَة: يَا أَبَا فراس نَحن نبتاعُ مِنْك حماقةَ بصرتنا بِأَلف دِينَار،

من كان على شرط جالوت

وَأمر لَهُ بِهَا. من كَانَ على شَرط جالوت حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْمَرْزُبَان قَالَ، حَدَّثَنَا الصَّلْت بن مَسْرُوق الْكُوفِيّ قَالَ، حَدَّثَنِي أبي قَالَ، قَالَ رجل لأبي حنيفَة: مَا بَقِي عليَّ من الْعلم شَيْء، فَقَالَ لَهُ: من كَانَ على شَرط جالوت يَوْم لَقِي طالوت؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: فَهَذَا شَيْء من الْعلم قد بَقِي عَلَيْك. تأبين ابْن الحنيفة لِأَخِيهِ الْحَسَن حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلامُ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَبَا مُحَمَّدٍ، فَلَئِنْ عزَّت حَيَاتُكَ لَقَدْ هدَّت وَفَاتُكَ، وَلَنِعْمَ الرُّوحُ رُوحٌ تضمَّنه بَدَنُكَ، وَلَنِعْمَ الْبَدَنُ بَدَنٌ تَضَمَّنَهُ كَفَنُكَ، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ هَكَذَا وَأَنْتَ سَلِيلُ الْهُدَى، وَحَلِيفُ أَهْلِ التُّقَى، وَخَامِسُ أَصْحَابِ الْكِسَا، غَذَّتْكَ كفُّ الْحَقِّ، وَرُبِيتَ فِي حِجْرِ الإِسْلامِ، وَرَضَعْتَ ثَدْيَ الإِيمَانِ، فَطِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْفُسُنَا غَيْرَ طيبةٍ بِفِرَاقِكَ وَلا نَشُكُّ فِي الْخَيْرَةِ لَكَ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ قَبْرِهِ. بَازِلُ عَاميْنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى ثَعْلَب قَالَ: قَالَ لي الرياشي يَوْمًا: كَيفَ تُنْشِدُ هَذَا: مَا تنقمُ الحربُ العَوانُ منِّي ... بَازِلُ عامينِ حديثٌ سنّي فقلتُ لَهُ: بازلُ عَاميْنِ على الِابْتِدَاء، وبازلَ عَاميْنِ على الْحَال، وبازلِ عَاميْنِ على الْبَذْل من الْيَاء، وَالله يَا أَبَا الْفضل مَا آتيكَ إِلَّا لِهذه المقطَّعات، قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: وَكَانَت قطعه وَالله عسلا. قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: وَقد حَدَّثَنَا عبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر بِهذه الْقِصَّة على خلاف هَذَا الْوَجْه، فَحكى أَن أَحْمَد بن يحيى قَالَ: كنت عَن ابْن الْأَعرَابِي فَسَأَلَنِي: كَيفَ تُنشدُ " بازل عَاميْنِ " فَذكر أَنَّهُ أخبر بِهذه الْأَوْجه الثَّلَاثَة، قَالَ: فَكَأَنَّهُ لَمْ يرضَ مَا قلت فقلتُ لَهُ: إيّاك أَن تكلّمني فِي النَّحْو فإنَّما آتيكَ لهَذِهِ الخرافات. قَالَ القَاضِي: ومِمّا حكاهُ الصولي أَن أَحْمَد بن يَحْيَى قَالَ: " على الْبَدَل " وَلَيْسَ هَذَا من أَلْفَاظ الْكُوفِيّين، وإنَّما يَقُولُونَ فِي هَذَا النَّحْو وَمَا جرى مجْرَاه أَنَّهُ تَرْجَمَة وإتباع وردّ

الاسكندر يمر على مدينة ملكها سبعة وبادوا

وتكرير، وَإِن كَانَ أَحْمَد بن يَحْيَى لَفَظَ بِالْبَدَلِ فَلَعَلَّهُ قصد خطابَ الرياشي بِما يعرفهُ من قَول أَصْحَابه الْبَصرِيين. الْإِسْكَنْدَر يَمر على مَدِينَة ملكهَا سَبْعَة وبادوا حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنِي الْحَارِث بن مُحَمَّد التَّمِيمِي عَن شيخٍ من قُرَيْش قَالَ: مرَّ الْإِسْكَنْدَر بمدينةٍ قد ملكهَا أملاكٌ سَبْعَة وبادوا، فَقَالَ: هَلْ بَقِي من نَسْلِ الأملاكِ الَّذِينَ ملكوا هَذِه الْمَدِينَة أحد؟ قَالُوا: نعم، رجل يكونُ فِي الْمَقَابِر. فَدَعَا بِهِ فَقَالَ: مَا دعاكَ إِلَى لُزُوم الْمَقَابِر؟ قَالَ: أردتُ أَن أعزل عظامَ الْمُلُوك عَن عِظَام عبيدهم فوجدتُ عظامهم وعظامَ عبيدهم سَوَاء. قَالَ لَهُ: فَهَل لَك أَن تتبعني فاحيي بك شرف آبَائِك إِن كَانَت لَك همة؟ قَالَ: إِن همَّتي عظيمةٌ إِن كَانَت بُغيتي عنْدك، قَالَ: حياةٌ لَا موتَ فِيهَا، وشبابٌ لَيْسَ مَعَه هرم، وغنى لَا فقر بعده، وسرور بِغَيْر مَكْرُوه، قَالَ: لَا، قَالَ: فامضِ لشأنكَ وَدعنِي أطلبُ ذَلِكَ مِمَّن هُوَ عِنْده ويَملكه. قَالَ الْإِسْكَنْدَر: هَذَا أحكمُ من رَأَيْت. قَالَ القَاضِي: وَكُنَّا رسمنا فِي الْمجْلس الَّذِي قبل هَذَا خبرين أحببتُ أَن أَصلهمَا بِخَبَر ثَالِث يضاهيهما من بعض وُجُوههمَا وكرهتُ إطالة الْمجْلس بِذكرِهِ، ووعدتُ بِأَن أثْبته فِي الْمجْلس الَّذِي يَلِيهِ وَهُوَ مَجْلِسنَا هَذَا، وَهَا أَنا راسمهُ هَاهُنَا إِن شَاءَ الله. فَم الْحُوت وَعلي بن يَقْطِين حَدَّثَنَا أَبُو عُمَر الحريري عبد الله بن الْحَسَن بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِصَاحِب الْمَرْوِيّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن خلف وَكِيع القَاضِي قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرو العمراوي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعُتْبِي قَالَ: قدم فَم الْحُوت من الْمَدِينَة بَغْدَاد فَنزل على عَليّ بن يَقْطِين، وَكَانَ لاعبًا بالشطرنج، فَقَالَ لَهُ عَليّ: لاعبني، قَالَ: إنَّ عليَّ يَمينًا أَلا ألعبَ أبدا إِلَّا فِي إمرة مطاعةٍ، قَالَ: فها هُنَالك، فلاعبه فقمره فَم الْحُوت، وَكَانَ مشوَّه الْوَجْه أهدلَ الشّفة السُّفْلى مقلَّص الْعليا مائل الشدق قَبِيح الْأَسْنَان، فَقَالَ لَهُ: احتكم، قَالَ: تقبّلني قبْلَة، قَالَ: أَو الْفِدْيَة قَالَ ذَاك لَك قَالَ ألف دِرْهَم قَالَ: لَا وَالله قَالَ أَلفَيْنِ: قَالَ لَا وَالله، قَالَ: ثَلَاثَة آلَاف، قَالَ: لَا وَالله، قَالَ: أربعةُ آلَاف، قَالَ: هَاتِهَا. فَدَفعهَا إِلَيْهِ وركبَ عليُّ بن يَقْطِين إِلَى الْمهْدي فَأخْبرهُ فاستضحك وَقَالَ: وَيحك أرنيه من حيثُ لَا يراني، فأدخلته عَلَيْهِ من مَوضِع يراهُ الْمهْدي: وَهُوَ لَا يراهُ فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ وَإِلَى تَشْوِيه خَلْقه وقبح فَمه قَالَ لَهُ الْمهْدي: وَيحك يَا عَليّ قد وَالله ربحتَ سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألفا. قَالَ: وكيفَ؟ قَالَ: من لَا يفتدي قبْلَة من هَذَا بِأَرْبَعِينَ ألفا؟! قد ربحت سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألفا.

إمرة وأمرة وجلسة وجلسة

إمرة وأمرة وجِلْسَة وَجَلَسة قَالَ القَاضِي: قَوْله " إمرةٌ مطاعة " الصَّوَاب فِيهَا أمرة بِفَتْح الْهَمْزَة وَهَذَا مِمَّا ذكره أهل الْعلم فِيمَا تلحن فِيهِ الْعَامَّة فَتَقول: إمرَة بِالْكَسْرِ، والأمرة بِالْفَتْح مَعْنَاهَا المرةُ الْوَاحِدَة من الْأَمر، وأمّا الإمرة فالولاية. وَهَذَا بَاب مطّردٌ منسحبٌ على قياسة جارٍ مستمرٌّ فِي نَوعه، يُقال هِيَ الجلسة والرِّكبة والْقِعدة والنِّيمة بِمعنى الْهَيْئَة، فَإِذا أَرَادَ الْعبارَة عَن الْمرة والمرتين قيل جلْسَة وجلستان وركبة وركبتان وقعدة وقعدتان ونومة ونومتان، وَفِي هَيْئَة نوم النَّائِم نيمة وَأَصلهَا الْوَاو لِأَنَّهَا من النّوم كَمَا قيل خيفة من الْخَوْف، فقلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا. فَأَما حجَّة فَإِنَّهَا مَكْسُورَة الْحَاء، وَزعم قومٌ أَنَّهُ إِذا أريدَ بِهَا الْمرة وَطَرِيق الْعدَد فُتِحَت حاؤها فَقيل حجَّ حجَّةً وَاحِدَة، ومِمّن قَالَ هَذَا الْفراء والأصمعي، وَقَالَ جُمْهُور الْمُحَقِّقين: الْكَلَام فِيهَا بِالْكَسْرِ فِي كلِّ مَوضِع. فأمّا الحجَّة بِمعنى السّنة فَهِيَ بِالْكَسْرِ لَا غير، وَمن ذَلِكَ قَول زُهَيْر: وقفت بهَا من بعد عشْرين حجَّةً ... فلأيا عرفت الدَّار بعد توهُّم وَقَول النَّابِغَة الْجَعْدِي: مَضَت مائةٌ لعامَ ولدتُ فِيهِ ... وعشرٌ بعد ذاكَ وحجَّتان قَضَاء ابْن شبْرمَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحسن بن زِيَاد الْمُقْرِئ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْن عبد الْعَزِيز، قَالَ القَاضِي: وَقد كتب بِهذا إِلَيْنَا الْحُسَيْن بن أَحْمَد بن عبد الْعَزِيز الْجَوْهَرِي من الْبَصْرَة قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو زَيْدٍ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ شبَّة قَالَ، أَخْبَرَنَا زُهَيْر بن حَرْب عَن جرير قَالَ: قضى ابْن شبْرمَة بقضيةٍ، فَبَلغهُ أنَّ بعض من كَانَ بَينه وَبَينه وَحْشَة تكلَّم فِيها، فَقَالَ ابْن شبْرمَة: مَا فِي القضاءِ شفاعةٌ لمخاصمِ ... عِنْد اللبيبِ وَلَا الفقيهِ الحاكمِ أَهْوِنْ عليَّ إِذا قضيتُ بسنَّةٍ ... أَو بالكتابِ برغم أنفِ الراغمِ وقضيتُ فِي مَا لَمْ أجدْ أثرا بِهِ ... بنظائرٍ معروفةٍ ومعالِمِ أَوْلِيَاء الله وَالدَّفْع عَنْهُم حَدَّثَنَا عُمَر بْن الْحَسَن بْن عليّ بْن مَالك الشَّيْبَانيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ مَعَ وُلاةِ الظَّلَمَةِ يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ أَوْلِيَائِهِ. بَين عُمَر وجَميل حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن يَحْيَى عَن أبي عبد الله القر شي قَالَ: خرج عمر بن أبي ربيعَة إِلَى الشَّام، حَتَّى إِذا كَانَ بالجناب لقِيه جَميل بن معمر، فاستنشدهُ عمر بن أبي ربيعَة فأنشده كَلمته الَّتِي يَقُول فِيهَا:

بعض أنواع السير

خليليَّ فِيمَا عشتما هَلْ رَأَيْتُمَا ... قَتِيلا بَكَى من حبِّ قَاتله قبلي ثُمَّ استنشده جميل، فأنشده قافيته الَّتِي أَولهَا: عرفتُ مصيفَ الحيِّ والمتربَّعا حَتَّى بلغ إِلَى قَوْله فِيهَا: وقرَّبن أسبابَ الْهوى لمتيّمٍ ... يقيسُ ذِرَاعا كلما قِسْنَ إصبعا فصاحَ جميل واستحيا وَقَالَ: لَا وَالله مَا أحسن أَن أَقُول مثل هَذَا فَقَالَ لَهُ عمر: اذْهَبْ بِنَا إِلَى بثينة لنتحدث عِنْدهَا، فَقَالَ لَهُ: إِن السُّلْطَان قد أهدرَ لَهُم دمي مَتى جِئْتهَا، قَالَ: فدلَّني على أبياتِها، فدلَّه. وَمضى حَتَّى وقف على الأبيات وتأنّس وتعرف، ثُمَّ قَالَ: يَا جَارِيَة أَنا عُمَر بن أبي ربيعَة فأعلمي بثينة مَكَاني. قَالَ، فأَعْلَمَتها فَخرجت إِلَيْهِ فَقَالَت لَهُ: لَا وَالله يَا عمر مَا أَنا من نِسَائِك اللَّاتِي تزْعم أَن قد قتلهنَّ الوجدُ بك، قَالَ: وَإِذا امْرَأَة طوالة أدماء حسناء، فَقَالَ لَهَا عمر: فَأَيْنَ قولُ جميل: وهما قَالَتَا لَو أنَّ جَميلا ... عرض الْيَوْم نظرةَ فرآنا نظرتْ نَحْو تربها ثمَّ قالتقد أَتَانَا وَمَا علمنَا منانا بَيْنَمَا ذَاك مِنْهُمَا رأتاني ... أوضع النَّقْض سيرَهُ الرَّتكانا ويروى أعمل النَّقْض سيره زفيانا فَقَالَت لَهُ: لَو استمدَّ مِنْك جميل مَا أفلحَ، وَقد قيل: اشْدُد العَيْرَ مَعَ الْفرس فَإِن لَمْ يتَعَلَّم من جريه تعلَّم من خلقه. بعض أَنْوَاع السّير قَالَ القَاضِي: " أوضعُ النقضَ سيرَهُ الرتكانا " أَنَّهُ يحمل على سرعَة السّير، قَالَ الله تَعَالَى: " وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ " " التَّوْبَة:47 " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الإيضاعُ سرعَة السّير، يُقالُ: أوضعتُ بَعِيري وأوضعتُ نَاقَتي إِذا أسرعت، فَإِذا كَانَت هِيَ الفاعلة قلت: وضعت النَّاقة تضعُ وضعا، ويُقال وضع الرجلُ يضعُ إِذا سَار أسْرع سير، قَالَ دُرَيْد بْن الصمَّة: يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أخب فِيهَا وأضع من الخبب والوضع. وَقد اخْتلف فِي بَيت عمر بن عبد الله بن أبي ربيعَة: تبالهنَ بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرءٌ باغٍ أكلَّ وأوضعا فراوه قوم هَكَذَا وَجعلُوا أكلَّ من الكلال، وَهُوَ من الذروح والإعياء، وَقَالُوا: إنَّه كدّ فِي بغاء نَاقَته، وأوضع فِي طلبَهَا، وأسرعَ مَعَ الكلال ليدركها، فاجتمعَ عَلَيْهِ الكلالُ والإيضاعُ. ورواهُ آخَرُونَ: " وقلنَ امْرُؤ باغٍ أضلَّ وأوضعا " بِمعنى أَنَّهُ أضلَّ بعيره فجدَّ فِي بغائه وأوضع فِي طلبه. وَقَوله: " النَّقْض " يريدُ الَّذِي قد هزله السّير فصارَ نِقْضًا بَالِيًا ويَجمع أنقاضًا. والزفيان كنحوه. وَقَوله: " امْرَأَة طوالة " يَعْنِي طَوِيلَة، وَهَذَا مِمَّا جَاءَ على فعيلٍ وفُعَال، يُقال رجل طويلٌ وطُوَال وطوَّال، قَالَ الراجز:

عمر وحيلته على أبي الأعور السلمي

جَاءُوا بصيدٍ عجبٍ من العجبْ ... أزيرقِ الْعَينَيْنِ طوَّال الذنبْ ويُقال: أَمر عجبٌ وعُجَاب، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " إنَّ هَذَا لشيءٌ عُجَابٌ " " ص:5 " وَمثله كَبِير وكبَّار، قَالَ الله تَعَالَى: " وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا " " نوح:22 " وَمن الْكُبَار قَول الْأَعْشَى: كحلفةٍ من أبي رياحٍ ... يسْمعهَا لاههُ الْكُبَارُ وَهَذَا بَاب وَاسع واستقصاؤه يطول وَله مَوضِع هُوَ أولى بِهِ. عمر وحيلته على أبي الْأَعْوَر السّلمِيّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن خَالِدٍ الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَحْذَمِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ أَبِي مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ احْتَجَزَ دُونَنَا خَرَاجَ مِصْرَ، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ أَبَا الأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ. فَبَلَغَ عَمْرًا الْخَبَرُ فَدَعَا وَرْدَانَ مَوْلاهُ وَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا عُثْمَانَ عَزَلَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَمَنِ اسْتَعْمَلَ؟ قَالَ: أَبَا الأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ حِيلَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، اصْنَعْ لَهُ طَعَامًا وَلا تَنْظُرْ لَهُ فِي كِتَابٍ حَتَّى يَأْكُلَ، وَدَعْنَا نَعْمَلُ مَا نُرِيدُ. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو الأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ وَأَخْرَجَ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَمَلِ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَمَا نصْنَع بكتابك؟ وَلَو جِئْتَنَا بِرِسَالَةٍ لَقَبِلْنَا ذَلِكَ مِنْكَ، دَعِ الْكِتَابَ وَكُلْ، قَالَ: انْظُرْ فِي الْكِتَابِ، قَالَ: مَا أَنَا بناظرٍ فِيهِ حَتَّى تَأْكُلَ. فَوَضَعَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَاسْتَدَارَ لَهُ وَرْدَانُ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَالْعَهْدَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَبُو الأَعْوَرِ مِنْ غَدَائِهِ طَلَبَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَقَالَ: أَيْنَ كِتَابِي؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَلَيْسَ إِنَّمَا جِئْتَنَا زَائِرًا لِنُحْسِنَ إِلَيْكَ وَنُكْرِمَكَ ونبرَّك؟ فَقَالَ: اسْتَعْمَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَزَلَكَ، فَقَالَ: مَهْلا لَا يَظْهَرَنْ هَذَا مِنْكَ، إِنَّهُ قَبِيحٌ، نَحْنُ نَصِلُكَ وَنُحْسِنُ جَائِزَتَكَ فَارْضَ بِالْجَائِزَةِ. فَبَلَّغَ مُعَاوِيَةَ الْخَبَرَ فَاسْتَضْحَكَ وَأَقَرَّ عَمْرًا عَلَى مِصْرَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُشْبِهُ هَذَا خَبَرَ الْمَأْمُونِ وَدِينَارٍ لَمَّا أَنْفَذَهُ إِلَى الْمَدَائِنِ لِمُحَاسَبَةِ يَاسِرٍ وَاسْتِيفَاءِ الأَمْوَالِ مِنْهُ، وَلَعَلَّنَا إِنْ عَثَرْنَا عَلَيْهِ نُورِدُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مواعيد عرقوب حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن سُلَيْمَان المَخْزُومِي قَالَ: كَانَ عرقوب رجلا من الْأَوْس فَجَاءَهُ أخٌ لَهُ فَقَالَ: إِذا أطلعت هَذِه النَّخْلَة فَهِيَ لَك، فلمّا أطلعت قَالَ: دعها حَتَّى تصير بَلَحًا، فَلَمَّا صَارَت بلحًا قَالَ: دعها حَتَّى تشقح، فلمّا شقحت قَالَ: دعها حَتَّى تصير رُطَبًا، فَلَمَّا صَارَت رطبا قَالَ: دعها حَتَّى تصير تَمرًا، فَلَمَّا صَارَت تَمرًا جَاءَ لَيْلًا فجدَّها، فَلذَلِك قَالَ الْأَشْجَعِيّ: وعدتَ وَكَانَ الخلفُ مِنْك سجيَّةً ... مواعيد عرقوبٍ أَخَاهُ بِيَثْرِب

تحقيقات

فضربته الْعَرَب مثلا. تَحقيقات قَالَ القَاضِي: ذكر بعضُ الْمُحَقِّقين أَن الْكَلَام الفصيح بلحٌ بِضَم الْبَاء، كم قَالَ الْأَعْشَى: مثل مَا مُدّت نصاحاتُ الْبُلَح ويروى: مثل مَا مدَّت نِصَاحاتُ الرُّبح وَقَوله: " حَتَّى تشقّح " أَي حَتَّى تزهو وَتظهر فِيهَا حمرةٌ أَو صفرَة. جَاءَ عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَشْقَحَ. وَأرى أَنَّهُ قيلَ فِيهَا ذَلِكَ لأنَّها حِينَئِذٍ يفارقها خلوص الخضرة ولَمَّا تتكامل فِيهَا الْحمرَة أَو الصُّفْرَة فَلَيْسَتْ لَهَا حلاوة. وَهَذَا من مَشْهُور أَمْثَال الْعَرَب وَقد ذكره كَعْب بن زُهَيْر فِي كَلمته الَّتِي قَالَهَا فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومدحه فِيهَا، وَاعْتذر إِلَيْهِ وَأظْهر تَوْبَته من سالِفِ كفره، وَرغب إِلَيْهِ فِي عَفوه عَنهُ، وإعفائه ممّا توعّده بِهِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ: نُبّئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني ... وَالْعَفو عندَ رسولِ اللهِ مَأْمُولُ وبيته الَّذِي ذكر فِيهِ عرقوبًا فِي هَذِه الْكَلِمَة قَوْله: كَانَت مواعيدُ عرقوبٍ لَهَا مثلا ... وَمَا مواعيدها إلاَّ الأباطيلُ اسْتِقْلَال اصطناع الْمَعْرُوف حَدَّثَنِي عُبَيْد الله بن مُسلم الْحَارِثِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفضل الْهَاشِمِي الربعِي قَالَ، وحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي شيخ قَالَ، قَالَ يَحْيَى بن خَالِد: مَنِ استقلَّ اصطناعَ الْمَعْرُوف حُرِمَ، ثُمَّ أنشأ يَقُول: إِذا تكرَّمت عَن بَذْلِ القليلِ ولَمْ ... تَقْدِر على سعةٍ لَمْ يَظْهَرِ الجودُ بثَّ النوالَ وَلَا تَمْنَعْكَ قلَّته ... فكلُّ مَا سدَّ فقرا فَهُوَ محمودُ قَالَ القَاضِي: اسْتِقْلَال الْمُعْطِي عطاءه حتّى يَمنعه، يحرمه أجره وشكره، واستقلال الْمُعْطَى يحرمه من مستقلِّ الْعَطاء كَثِيرَة ووفيره، وَقد جَاءَ فِي الْأَثر: من يسْتَقلّ قليلَ الرزق يُحرم كَثِيره. وَرُوِيَ فِي نَحو هَذَا بِإِسْنَاد لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت ذكره، وَقد عُزي إِلَى الْمَأْمُون أَنَّهُ قَالَ وَذكر هَذَا الْمَعْنى: قدِّم طعامَكَ وابذله لآكِلِهِ ... واحلفْ على مَن أَبى واشكرْ لِمَن أكلا وَلَا تكنْ سابريَّ العَرْضِ محتشمًا ... من الْقَلِيل فلسْت الدَّهر محتفلا

المجلس الثالث والتسعون

الْمجْلس الثّالِث والتسعُون سُرَاقَةُ يَتَتَبَّعُ آثَارَ الرَّسُولِ عِنْدَ هِجْرَتِهِ أَخْبَرَنَا الْمُعَافَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ أَبُو عُمَرَ القَاضِي سنة تسع عشرَة وثلثمائة، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عمي عَنْ أَبِيه عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مالكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَتْ قريشٌ لِمَنْ ردَّه مِائَةَ نَاقَةٍ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا جالسٌ فِي نَادِي قَوْمِي إِذْ أقبل رجل ٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَكْبًا ثَلَاثَة مرُّوا عليَّ آنِفا، إنّني لأَرَاهُ مُحَمَّدًا، قَالَ: فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ أَنِ اسْكُتْ، إِنَّمَا هُمْ بَنُو فُلانٍ يَبْغُونَ ضالَّتهم، قَالَ: فَمَكَثْتُ قَلِيلا ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي فَقِيدَ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي، وَأَخْرَجْتُ سِلاحِي مِنْ وَرَاءِ حُجْرَتِي، ثُمَّ أَخَذْتُ قِدَاحِي الَّتِي أَسْتَقْسِمُ بِهَا، وَلَبِسْتُ لأْمَتِي، ثُمَّ أَخْرَجْتُ قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرُّهُ "، قَالَ " وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أردَّه وَآخُذَ الْمِائَةَ نَاقَةٍ. قَالَ الْقَاضِي: هَكَذَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ، وَالْوَجْهُ مِائَةُ النَّاقَةِ، فَتَكُونُ الأَلِفُ وَاللامُ فِي الْمُضَافِ إِلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ كَمَا يُقَالُ غُلامُ الْقَوْمِ، وَلا يُقَالُ الْغُلامِ قَوْمٍ. فَرَكِبْتُ عَلَى أَثَرِهِ، فَبَيْنَمَا فَرَسِي يشتدُّ بِي عَثِرَ فَسَقَطْتُ عَنْهُ، فَأَخْرَجْتُ قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا فَخَرَجَ السَّهم الَّذِي أَكْرَهُ " لايضرّه "، قَالَ: فَأَبَيْتُ إِلا أَنْ أَتْبَعَهُ، فَرَكِبْتُ فَلَمَّا بَدَا لِيَ الْقَوْمُ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ عَثِرَ بِي فَرَسِي وَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الأَرْضِ وَسَقَطْتُ عَنْهُ، فَاسْتَخْرَجَ يَدَيْهِ وَانْبَعَثَ دُخَانٌ مِثْلُ الإِعْصَارِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ مُنِعَ مِنِّي وَأَنَّهُ ظَاهِرٌ، فَنَادَيْتُهُمْ فَقُلْتُ: انْظُرُونِي فَوَاللَّهِ لَا أُرِيبُكُمْ وَلا يَأْتِيكُمْ مِنِّي شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا تَبْتَغِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ اكْتُبْ لِي كِتَابًا يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ آيَةً، قَالَ: اكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَ، فَكَتَبَ لِي ثُمَّ أَلْقَاهُ إليَّ. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَسُئِلْتُ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمَّا كَانَ، حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ خَرَجْتُ إِلَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَلْقَاهُ وَمَعِي الْكِتَابُ الَّذِي كتب لي فَبين أَنَا عَامِدٌ لَهُ دَخَلْتُ بَيْنَ كَتِيبَةٍ مِنْ كَتَائِبِ الأَنْصَارِ فَطَفِقُوا يُفَزِّعُونَنِي بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ. قَالَ: فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا كِتَابُكَ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَسُقْتُ إِلَيْهِ صَدَقَةَ مَالِي. دلَالَة قصَّة سراقَة وَدَلَائِل النَّبِيّ جملَة قَالَ القَاضِي: خبر سراقَة بن مَالك هَذَا وَمَا كَانَ من أمره آيَة من إِعْلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودلائله الشاهدة بنبوته والدّالة على صدقه، وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بأنّ قَوَائِم رَاحِلَته ساخت

موعظة علي لكميل بن زياد

فِي الأَرْض، فَنَادَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثًا بِهِ ولاجئًا إِلَيْهِ فِي استنقاذه مِمَّا وَقع فِيهِ، وتائبًا مِمَّا قصد لَهُ ومنيبًا مِمَّا سلف من كفره، فَدَعَا الله تَعَالَى لَهُ حَتَّى نجاه مِمَّا نزل بِهِ، وَصَحب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عَنْهُ رواياتٍ من أخباره وسننه وآثاره. وَقد ألَّف العلماءُ فِي أَعْلَام النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآياته الْكثير الَّذِي يحجّ من بلغه ويقطَعُ عُذْرَ من انْتهى إِلَيْهِ، ولعلي بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي كتابٌ ضمَّنه من دَلَائِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآياته خَمْسمِائَة آيَة أَو نَحوها، وَلَو لَمْ يكن لَهُ من الشواهد على رسَالَته والدلائل على نبوّته إِلَّا الْكتاب الَّذِي أَتَى بِهِ من وَحي الله تَعَالَى إِلَيْهِ وتنزيله جلَّ اسْمه عَلَيْهِ، الَّذِي ذلَّت لَهُ الرّقاب، وبَهر بنوره ألبابَ ذَوي الْأَلْبَاب، لَكَانَ ذَلِكَ بليغًا كَافِيا، وحاسمًا للشكِّ وَمن أدوائه شافيًا، وَهُوَ فِي أَيْدِينَا إِلَى حَيْثُ انتهينا نتلوه ونقرأه فِي محاريبنا وصلواتنا، ونرسمه فِي صحفنا وَمَصَاحِفنَا، وتعلّمه أبناءَنا وعبيدَنَا وإماءَنا، وَلَا يزْدَاد إِلَّا بهاءً وإشراقًا وضياء وائتلاقًا، وَلَا يزْدَاد الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا عياء بِمعارضته وعجزًا عَن مقاومته. وَقد رتبنا القَوْل فِي وَجه إعجازه ومفارقته أَنْوَاع كَلَام البلغاء والفصحاء بِما خصَّه الله بِهِ من بديع نظمه وَعَجِيب رسمه مَا كَانَ كَافِيا من غَيره. وَقَول سراقَة: " لأمتي " اللأمة: الدرْع، يجمع لُؤَمًا على غير قِيَاس، قَالَ الْأَعْشَى: وقوفًا بِما كَانَ من لأمةٍ ... وهنَّ صيامٌ يَلُكن اللُّجُمْ مَوْعِظَةُ عَلِيٍّ لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ نُصَيْرٍ الْحَرْبِيُّ الْجَمَّالُ سنة ستّ عشرَة وثلاثمائة إِمْلاءً مِنْ حِفْظِهِ قَالَ، حَدَّثَنِي نَجِيحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الزِّمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي قُتَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: أَخَذَ بِيَدِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلام فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرَ جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، احْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلاثَةٌ فعالمٌ ربَّاني، ومتعلّمٌ عَلَى سَبِيلِ نجاةٍ، وهمجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كلِّ ريحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعلم وَلم يلجأوا إِلَى ركنٍ وَثِيقٍ. يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْعِلْمُ خيرٌ لَكَ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَاتُ، وَمَحَبَّةُ الْعِلْمِ دينٌ يُدَانُ بِهِ يَكْسِبُهُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ. يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ محكومٌ عَلَيْهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ، مَاتَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْمًا جَمًّا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلْ أَصَبْتُ لَهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يسْتَعْمل لَهُ آلَة الدَّين بالدنيا، يَسْتَظْهِرُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَبِحُجَّتِهِ عَلَى كِتَابِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْدَحُ الشكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عارضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، فَلا ذَا وَلا ذَا، أَوْ مَنْهُومًا بِاللَّذَّةِ، سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرَمًا

بنت معاوية تمتنع على زوجها

بِجَمْعِ الأَمْوَالِ وَالادِّخَارِ، لَيْسَا مِنْ دَعَائِمِ الدِّينِ، أَقَرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الأَنْعَامُ السَّائِمَةُ. كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ. اللَّهُمَّ بَلَى، لَنْ تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمِ اللَّهِ بحجةٍ لِكَيْلا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ. أُولَئِكَ الأَقَلُّونَ عَدَدًا، الأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ حُجَجِهِ حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَمْرِ فَاسْتَلانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأْنَسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجاهلون، صحبوا الدُّنْيَا بأبدانٍ أراوحها معلقةٌ بِالْمَلَكُوتِ الأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّه فِي بِلادِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ، آهٍ آهٍ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. قَالَ القَاضِي: لقد ألْقى أميرُ الْمُؤمنِينَ العالِمُ الربانيُّ إمامُ الْمُسلمين صلوَات الله عَلَيْهِ وَآله إِلَى كُميل بن زيادٍ فِي مَجْلِسه هَذَا علما عَظِيما وَحكما جسيمًا، وخلَّف بِما أَتَى بِهِ مِنْهُ للْمُسلمين حِكْمَة شافيةً وَوَصِيَّة كَافِيَة، وَمن جعل من الْعلمَاء مستودع هَذَا الْخَبَر إِمَامه، وَأخذ بِهِ فِي دينه، اقتبسَ علما غزيرًا، واستفادَ خيرا كثيرا. ونسألُ الله التَّوْفِيق لإصابة القَوْل وَالْعَمَل، والعصمة من الْخَطَأ والزلل. بنت مُعَاوِيَة تَمْتَنِعُ على زَوجهَا حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم قَالَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عمر بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أبي سُفْيَان قَالَ: زوج مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان ابْنَته من عَبْد اللَّه بْن عَامر بْن كريز، فَلَمَّا ابتنى بِهَا امْتنعت عَلَيْهِ امتناعًا شَدِيدا لَمْ يصل مَعَه مِنْهَا إِلَى شَيْء، فضربها فَبَكَتْ وَسمع الْجَوَارِي بكاءها فَصِحْنَ، وَوَقع ذَلِكَ فِي أذن مُعَاوِيَة، فجَاء مبادرًا وَسمع مقَالَة الْجَوَارِي، فَدخل على عبد الله الْبَيْت فَقَالَ لَهُ: مثل هَذِه تُضرب؟ قبَّح الله رَأْيك وقبح مَا أتيت بِهِ، اخْرُج عَن هَذَا الْبَيْت إِلَى غَيره، فَلَمَّا خرج أقبل على ابْنَته فَقَالَ: يَا بنية لَا تفعلي فإنَّما هُوَ زَوجك الَّذِي أحلَّه الله لَك، أَو مَا سمعتِ يَا بنية قَول الشَّاعِر: م الخفرات الْبيض أما حرامها ... فصعبٌ وأمّا حلُّها فذلولُ ثُمَّ نَهض فَخرج وَعَاد زَوجهَا إِلَى الْبَيْت فَلَانَتْ وأذعنت. معنى بنى وابتنى قَالَ القَاضِي: فِي هَذَا الْخَبَر: " فَلَمَّا ابتنى بِهَا " وَقد اسْتعْمل هَذِه اللفظةَ جماعةٌ من المتفقهين وَمن لَهُ معرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ، وأنكرها من اللغويين منكرون وَقَالُوا: الكلامُ الصَّحِيح فِي هَذَا بَنَى عَلَيْهَا، وَذَاكَ أنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ إِذا تزوج بنى على امْرَأَته بنيًّا من خباء وَغَيره للخلوة بِهَا والإفضاء إِلَيْهَا، وَكثر ذَلِكَ وَعرف حَتَّى قيلَ لكلِّ من دخل بِزَوْجَتِهِ: قد بنى عَلَيْهَا. ومِمَّا حدث فِي زَمَاننَا من كَلَام سفلَة العامةِ أَن يَقُولُوا لِمن غشي امْرَأَة: قد ابتنى بِهَا، وَإِن كَانَ إِتْيَانه إِيَّاهَا زنا وسفاحًا.

دماء الذين قتلوا في فخ

دِمَاء الَّذِينَ قتلوا فِي فخ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أبي الْعَلَاء الإيصاحي الْمَعْرُوف بحرمي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سعيد يَعْنِي عبد الله بن شبيب قَالَ، حَدَّثَنِي عَليّ بن طَاهِر قَالَ: التقى الْعَبَّاس بن مُحَمَّد ومُوسَى بن عبد الله فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس بن مُحَمَّد: يَا أَبَا حسن مَا رثيت بِهِ أَصْحَابك الَّذِينَ قتلوا بفخ؟ قَالَ: قلت: بني عمنَا ردُّوا فضول دمائنا ... ينم ليلكم أَولا تَلُمْنَا اللوائمُ قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاس: دماءٌ واللَّه لَا تردُّ عليكَ أبدا. فَقَالَ مُوسَى بن عبد الله: ذَلِكَ إِذا كَانَ الأمرُ إِلَيْك فصدقت. قَالَ القَاضِي: ينم ليلكم آمنينَ غير خائفينَ وتستقرُّ بكم مضاجعكم، والعربُ تَقُولُ: ليل نَائِم وسرّ كاتِم، تريدُ ليل منوم فِيهِ وسر مَكْتُوم، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لقد لمتنا يَا أمَّ غَيْلان فِي السُّرى ... ونِمْتِ وَمَا ليلُ المطيِّ بنائِمِ وَقَالَ آخر: إنَّ الَّذِينَ قتلتم أمسِ سيِّدهم ... لَا تَحسبوا ليلَهم عَن ليلكم نَامَا وَقَالَ آخر: حارثُ قد فرَّجت عَنِّي غمي ... فنامَ ليلِي وتجلَّى همي يريدُ أنَّهم لَمْ يَنَامُوا عَن وترهم، وأنَّهم طالبون لَهُ منقطعونَ للسعي فِي إِدْرَاكه. وَهَذَا النَّحْو من مجَاز الْعَرَبيَّة كثير فِي اللُّغَة فصحٌ عِنْد الْعلمَاء بِهَا، مطَّردٌ مستمرٌ فِيهَا. فرّغ رَأْيك للمهم حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي سعيد الْبَلْخِي الْوراق قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمَد بن مُحَمَّد السكرِي عَن الْفضل بن مُحَمَّد الْعلوِي العباسي عَن عُبَيْد الله بن الْحَسَن الطَّالِبِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: إِن رَأْيك ر يَتَّسِع لكل شَيْء ففرغه للمهم، وَإِن مَالك لَا يُرْضِي النَّاس كلَّهم فتوخّ بِهِ أهلَ الحقّ، وَإِن كرامتك لَا تطِيق الْعَامَّة فاخصصْ بِهَا أهل الْفضل، وَإِن ليلك ونَهارك لَا يستوعبان حَاجَتك، فَإِن دأبت بِهما فَأحْسن قسمتهما بَين عَمَلك ودعتك. قَالَ الْكَوْكَبِيّ: وَزَادَنِي أَحْمَد بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْهَرَوِيّ: فَإِن شغلت من رَأْيك فِي غير المهم أزرى بك فِي المهم، وَمَا صرفت من مَالك إِلَى أهل الْبَاطِل فقدته عِنْد طلب الْحق، وَمَا عدلت بِهِ من كرامتك إِلَى أهل النَّقْص أضرَّ بك فِي الْعَجز عَن أهل الْفضل، وَمَا شغلت من ليلك ونَهاركَ فِي غير الْحَاجة أزرى بك فِي الْحَاجة. توالي ذهَاب السُّلْطَان وَأَصْحَابه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن أستاذ الْهَروي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الشَّامي، قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذر مُحَمَّد بن الْمُنْذر قَالَ، أَخْبَرَنِي آدم بن عتيبة قَالَ، أخبرنيه رجلٌ من بني

مصير ظالم

تَميم عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ: لقد رأيتُ فِي هَذَا الْقصر عجبا: دخلتُ على عُبَيْد الله بن زِيَاد فِي بهوٍ وَهُوَ على سَرِير، والناسُ عِنْده سماطان، على يَمينه ترس عَلَيْهِ رَأس الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلام، ثُمَّ دخلتُ على الْمُخْتَار فِي ذَلِكَ البهو على ذَلِكَ السرير وَالنَّاس عِنْده سماطان، على يَمينه ترسٌ عَلَيْهِ رَأس عُبَيْد الله، ثُمَّ دخلتُ على مُصعب فِي ذَلِكَ البهو على ذَاك السرير وَالنَّاس عِنْده سماطان، على يَمينه ترس عَلَيْهِ رَأس الْمُخْتَار، ثُمَّ دخلتُ على عبد الْملك فِي ذَلِكَ البهو وعَلى ذَلِكَ السرير وَالنَّاس عِنْده سماطان، على يمنه ترسٌ عَلَيْهِ رَأس مُصعب، ثُمَّ قَامَ عبد الْملك وقمنا فَانْتهى إِلَى منزل فَقَالَ: لِمن هَذَا؟ فقيلَ لَهُ: كَانَ لفُلَان يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، ثُمَّ انْتهى إِلَى فَقَالَ: لمن هَذِه؟ قيل لَهُ: كَانَت لفُلَان، حَتَّى فعل ذَلِكَ بدار ثَالِثَة ورابعة، كل ذَلِكَ يُقال: كَانَت لفُلَان، فَضرب بِإِحْدَى يَدَيْهِ على الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ: وكلُّ جديديٍ يَا أميمَ إِلَى بلَى ... وكل امرئٍ يَوْمًا يصيرُ إِلَى كَانَا فاعمل على مَهَلٍ فإنّك ميتٌ ... وامهد لنَفسك أيُّها الإِنْسَان فكأنَّ مَا قد كَانَ لَمْ يكُ إِذْ مَضَى ... وكأنَّ مَا هُوَ كائنٌ قد كَانَا ثُمَّ مضى على وَجهه. مصير ظالِم قَالَ القَاضِي: وَحكى لي بعضُ إِخْوَاننَا أَن بعض الظلمَة المترفين جلس يَوْمًا من الأيّام فِي موضعٍ من دَاره وَقد نجِّد لَهُ، وَعِنْده جماعةٌ وظهرَ مِنْهُ ظلمٌ أسرف فِيهِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمْ تَطُلْ أيّامه حَتَّى هلك، فَجَلَسَ مَكَانَهُ رجلٌ من ضَرْبِهِ، وشرعَ فِي مثلِ ظلمه فَقَالَ لَهُ بعضُ من يُرامُ ظلمه مِمّن حضر مجْلِس الَّذِي كَانَ قبله: فِي مثل ذَا الْيَوْم فِي هَذَا الْمَكَان على ... هَذَا السرير تدلَّى السرُّ فاصطلما قَالَ: فانكسرَ وأقصر. اللَّهُمَّ فاجعلنا مِمّن يتأملُ العبر، ويخشى الْغَيْر، ويستعدُّ لليوم الَّذِي وَصفه فِي كِتَابه وَأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُنْذِرهم إيّاهُ إِذْ يَقُول: " وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ربَّنا أخَّرنا إِلَى أجلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، أَو لم تَكُونُوا أقسمتم من قبل مالكم مِنْ زَوَالٍ. وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذين ظلمُوا أنفسهم وبيَّنا لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ " " إِبْرَاهِيم: 44 - 45 ". جَزَعُ الْحَسَنِ مِنَ الْمَوْتِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ القَاسِم الأنبَاريّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد عَلِيٍّ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ، حَدَّثَنِي الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ بْنِ

من نوادر مزبد

الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيم الْمَطْبَخِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى بْنِ مُسْلِمٍ الْحَنَفِيَّ أَخَا سُلَيْمِ بْنِ عِيسَى قَارِئِ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلامُ الْوَفَاةُ كَأَنَّهُ جَزِعَ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يُعَزِّيهِ: يَا أَخِي مَا هَذَا الْجَزَعُ؟ إِنَّكَ تَرِدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عليٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُمَا أَبَوَاكَ، وَعَلَى خَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ وَهُمَا أُمَّاكَ، وَعَلَى الْقَاسِمِ وَالطَّاهِرِ وَهُمَا خَالاكَ، وَعَلَى حَمْزَةَ وجعفرٍ وَهُمَا عَمَّاكَ، فَقَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَيْ أَخِي إِنِّي أَدْخُلُ فِي أمرٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ أَدْخُلْ فِي مِثْلِهِ، وَأَرَى خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَبَكَى الْحُسَيْنُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَ القَاضِي: أشدُّ الناسِ خشيَة لله جلَّ وَعلا أعظمهم طَاعَة لَهُ وأجدُّهم فِي عِبَادَته، وهم مَلَائكَته وأصفياؤه وأنبياؤه، وَقد قَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ فِي صفة من ذكر من مَلَائكَته المقربين إنَّهم: " عبادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " " الْأَنْبِيَاء:26 - 28 " وَقَالَ: " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وجلةٌ أَنَّهُمْ إِلَى ربِّهم رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ " " الْمُؤْمِنُونَ:60 - 61 ". اللهمَّ اجْعَلْنَا مِمّن يُخْلِصُ عبادتك، وَيُؤْثِرُ طَاعَتك، ويستشعرُ خوفك ورهبتك، وارزقنا من خشيتك مَا يحجزُ بَيْننَا وَبَين معصيتك، ويُفضي بِنَا إِلَى الْأَمْن من عذابك وأليمِ عقابك، وهبْ لنا من رجاءِ عفوك مَا يُوافقُ مرضاتَكَ، ويُؤدِّي إِلَى تَحقيق مَا نرجوهُ من مغفرتك وسعة رحمتك، وعدِّل رجاءنا وخوفنا، واعصمنا فيهمَا من الْعُلوّ والغلوّ وَالتَّقْصِير والسموّ، وَلَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسنَا، وأعنَّا على عدوّك وعدوّنا، إنّا إِلَيْك راغبونَ وَبِك معتصمون، يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ. من نَوَادِر مزبّد حَدَّثَنَا عبد الله بْن مَنْصُور الْحَارِثِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ مُزَبّد يُكنى أَبَا إِسْحَاق، وَكَانَت لَهُ نَوَادِر، فَبينا هُوَ ذَات يَوْم جالسٌ إِذْ جَاءَ أَصْحَابه فَقَالُوا: يَا أَبَا إِسْحَاق هَلْ لَك فِي الْخُرُوج بِنَا إِلَى العقيق وَإِلَى قبَاء وَإِلَى أحُد ناحيةَ قبورِ الشُّهَدَاء، فإنّ هَذَا يومٌ كَمَا ترى طيّبٌ. فَقَالَ: اليومَ يومُ الْأَرْبَعَاء ولستُ أَبْرَح من منزلي. فَقَالُوا: مَا تكرهُ من يَوْم الْأَرْبَعَاء وَفِيهِ ولد يُونُس بن مَتى؟ قَالَ: بِأبي وَأمي صلى الله عَلَيْهِ فقد التقمه الْحُوت. فَقَالُوا: يومٌ نُصِرَ فِيهِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْم الْأَحْزَاب، قَالَ: أجل، وَلَكِن بعد إِذْ زاغت الْأَبْصَار وبلغتِ الْقُلُوب الْحَنَاجِر.

المجلس الرابع والتسعون

الْمجْلس الرَّابِع وَالتسعُون حَدِيثٌ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يُنْقِذُ صَاحِبَهُ حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ التِّرْمِذِيُّ سنة سِتّ عشرَة وثلاثمائة قَالَ، حَدثنَا إِبْرَاهِيم بت إِسْحَاقَ الْجَرْمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ قَالا، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ عَجَبًا، إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَجَاءَهُ برُّه بِوَالِدَيْهِ فردَّ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي يسلَّط عَلَيْهِ عَذَابُ الْقَبْرِ فَجَاءَهُ وُضُوءُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فخلَّصه مِنْ بَيْنِهِمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلا مِنْ أُمَّتِي قَدِ احْتَوَشَتْهُ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ فَجَاءَتْهُ صَلاتُهُ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلا يَلْهَثُ عَطَشًا كلَّما وَرَدَ حَوْضًا مُنِعَ مِنْهُ فَجَاءَهُ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَسْقَاهُ وأرواه، وَرَأَيْت رجلا والنبيّون حلقٌ كُلَّمَا جَاءَ إِلَى حَلْقَةٍ طُرِدَ فَجَاءَهُ اغْتِسَالُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأخذ بِيَدِهِ فأعده إِلَى جَانِبِي، وَرَأَيْتُ رَجُلا بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَخَلْفَهُ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ ظُلَمٌ فَهُوَ مُتَحَيِّرٌ، فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنَ الظُّلْمَةِ فَأَدْخَلاهُ فِي النُّورِ، وَرَأَيْتُ رَجُلا يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ فَلا يُكَلِّمُونَهُ فَجَاءَهُ صِلَةُ الرَّحِمِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ كلِّموه فَإِنَّهُ كَانَ واصلاً لرحمه، فكلَّمه الْمُؤمنِينَ وَقَرَّبُوهُ. وَرَأَيْتُ رَجُلا يَتَّقِي وَهَجَ النَّارِ وشرَّها بِيَدِهِ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ سِتْرًا عَلَى وَجْهِهِ وَظِلا عَلَى رَأْسِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلا أَخَذَتْهُ الزَّبَانِيَةُ مِنْ كلِّ مَكَانٍ فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَأَدْخَلاهُ مَعَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ فَصَارَ مَعَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلا جَاثِيًا عَلى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ فَجَاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَأَيْتُ رَجُلا هَوَتْ صَحِيفَتُهُ قِبَلَ شِمَالِهِ فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَجَعَلَهَا فِي يَمِينِهِ. وَرَأَيْتُ رَجُلا قَدْ خَفَّ مِيزَانُهُ فَجَاءَتْهُ أَفْرَاطُهُ فثقَّلوا مِيزَانَهُ. وَرَأَيْتُ رَجُلا قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَجَاءَهُ وَجَلُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَاسْتَنْقَذَهُ مِنَ ذَلِكَ وَمَضَى. وَرَأَيْتُ رَجُلا هَوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْ دُمُوعُهُ الَّتِي بَكَاهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ. قَالَ القَاضِي: قد روينَا مَا تضمّنه هَذَا الْخَبَر من طرق شَتَّى، مُجملا ومفصلا، وَمَا ورد فِي معناهُ ونَحوه، وَفِيهِ من التَّرْغِيب فِي الْخَيْر وحُسن عاقبته، والتحذير من فعل الشرّ وَسُوء مغبّته، مَا يَدْعُو ذَوي الْأَلْبَاب إِلَى الاستكثار من الطَّاعَة ومجانبة الْمعْصِيَة. فالفاضل الرشيد والفائز السعيد من استكملَ خلال الْخَيْر وَفَارق خصالَ الشَّرّ. ومَن تعلّق بِبَعْض الْأَخْلَاق الحميدة فَلَنْ يعْدم الانتفاعَ بِهِ وإحمادَ عاقبته. والبليَّةُ الْكُبْرَى والمصيبةُ الْعُظْمَى فِي من عَرِيَ

هو ابن عمي لا ابن عمك

من شُعَبِ الْخَيْر كلِّها وَلم يستصحب شَيْئا مِنْهَا. وليحذر الْمُؤمن أَن يُعْرِضَ عَن حَظه وَيذْهب، وَأَن يكون مِمَّن يجدُّ بِهِ ويلعب. وَللَّه تَعَالَى ذكره يومٌ يَخْسَرُ فِيهِ المبطلون، ويغتبطُ بِهِ الفائزون، وَيَنْعَمُ فِيهِ المتقون. فَجعلنَا الله وإيّاكم من أوليائه الْمُتَّقِينَ وعباده المخلصين من الَّذِينَ لَا خوفٌ عَلَيْهِم " فِي معادهم " وَلَا هُم يَحْزَنُون. هُوَ ابْن عمي لَا ابْن عمك حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بن أبي الْعَلَاء قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سعيد يَعْنِي عَبْد اللَّه بْن شَبِيب قَالَ، حَدَّثَنِي ابْن أبي مرّة المكيّ قَالَ، حَدَّثَنِي خَالِد بن سُفْيَان مولى الصيفي قَالَ: شهِدت الرّشيد وَقد رمى جمرةَ الْعقبَة يَوْم النحرِ فِي بعضِ حجَّاته ثُمَّ مالَ إِلَى المنحرِ فَأتى ببدنة فنحرها ثُمَّ أَتَى بِأُخْرَى فنحرها ثُمَّ أنشدَ رَافعا صوتَهُ: إنّ ابنَ عمّي لابنُ زيدٍ وَإنَّهُ ... لبلاَّل أَيدي حلَّة الشوْكِ بالدَّم فصاحَ بِهِ أعرابيّ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ذَاك ابْن عمي لَا ابْن عمك، قَالَ: عليَّ بالأعرابي، فَأتي بِهِ وَإِنَّا لنخافه عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَمن أَنْت؟ قَالَ: رجلٌ من بني سلول، قَالَ: فَمن يَقُول هَذَا الشّعْر؟ قَالَ: العجير السَّلولي قَالَ: أحسنتَ، أَعْطوهُ كَذَا كَذَا. مُعَاوِيَةُ وَاللُّقْمَةُ الَّتِي لَمْ تُكْتَبْ لَهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن القَاسِم الأَنْبَارِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عبد الْعَزِيز بْن مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: جَلَسْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى غَدَائِهِ فَأَخَذَ لُقْمَةً فَهَيَّأَهَا، وَأَخَذَ يَتَحَدَّثُ فَوَضَعَهَا، فَأَخَذْتُهَا، فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يَضَعُهَا وَآخُذُهَا وَأَلْقُمُهَا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ يَخْطُبُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْفَعُ اللُّقْمَةَ إِلَى فِيهِ يَرَاهَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ لَهُ قَدْ كَتَبَهَا لِغَيْرِهِ فَيَأْكُلُهَا الَّذِي كُتِبَتْ لَهُ. مصقلة يرجف بِمرض مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الكوكبي قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي الدُّنْيَا قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَام عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن عبد الْمطلب بن ربيعَة قَالَ: لَمَّا مرض مُعَاوِيَة أرجف بِهِ مَصْقَلَةُ البكريّ ثُمَّ قدمَ عَلَيْهِ وَقد تَماثلَ، فأخذَ مُعَاوِيَة بيدَيْهِ فَقَالَ: أبقى الحوادثُ من خَلِيلك مثلَ جَنْدَلةِ الْمُرَاجِمْ قد رامني الأقوامُ قبلك فامتنعتَ من المظالِم فَقَالَ مصقلة: قد أبقى الله مِنْك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا هُوَ أعظمُ من ذَلِكَ: حلمًا وكلأ ومرعى لوليك، وسمًّا ناقعًا لعدوّك، كَانَت الْجَاهِلِيَّة وَأَبُوك سيد الْمُشْركين، وَأصْبح الناسُ مُسلمين وَأَنت أميرُ الْمُؤمنِينَ. يَوْم بؤس وَيَوْم نعيم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا عبد الرَّحْمَن قَالَ، قَالَ عمّي: سمعتُ

يُونُس يَقُول: كَانَ الْمُنْذر بن مَاء السَّمَاء جد النُّعْمَان بن الْمُنْذر ينادمه رجلَانِ من الْعَرَب خالِدُ بن الْمفضل وَعَمْرو بن مَسْعُود الأسديان، وهما اللَّذَان عَنى الشَّاعِر بقوله: أَلا بكر الناعي بِخَيْرَيْ بني أَسد ... بِعَمْرو بن مسعودٍ وبالسيد الصمدْ فَشرب لَيْلَة مَعَهُمَا فراجعاه الْكَلَام فأغضباهُ فَأمر بِهما فجُعلا فِي تابوتين ودفنا بِظَاهِر الْكُوفَة، فلمّا أصبح سألَ عَنْهُمَا فَأخْبر بذلك، فندم وركبَ حَتَّى وقف عَلَيْهِمَا وَأمر بِبِنَاء الغريين، وَجعل لنَفسِهِ يَوْمَيْنِ، يَوْم بؤس وَيَوْم نعيم فِي كلِّ عَام، فَكَانَ يضعُ سَرِيره بَينهمَا فَإِذا كَانَ فِي يَوْم نعيمه فأوّل من يطلُعُ عَلَيْهِ وَهُوَ على سَرِيره يُعطيه مائَة من الْإِبِل، إبل الْمُلُوك، وَأول من يطلع عَلَيْهِ يَوْم بؤسه يُعْطِيهِ رأسَ ظَرِبَان. قَالَ القَاضِي: الظربان دابٌ مُنْتِنَة الرّيح. وَيَأْمُر بِهِ فَيُذْبَحُ ويغرَّى بدمه الغريان. فَلم يزل بذلك مَا شَاءَ الله. فَبينا هُوَ ذَات يومٍ من أَيَّام بُؤسه إِذْ طلعَ عُبَيْد بن الأبرص، فَقَالَ الْملك: أَو أجلٌ بَلَغَ إناه. قَالَ: أَنْشدني يَا عُبَيْد، فقد كَانَ يُعجبني شعرك، فَقَالَ: حالَ الجريض دون القريض، وَبلغ الحزامُ الطبيين، فَقَالَ أَنْشدني: أقفر من أهلِهِ مَلْحُوبُ ... فالْقُطَّبياتُ فالذَّنوب فَقَالَ: أقفر لَهُ أهلهِ عبيدُ ... فاليومَ يُبْدِي وَلَا يُعيد عنّت لَهُ شقوةٌ نكود ... وحان مِنْهُ لَهَا ورودُ فَقَالَ: أَنْشدني هَبَلتكَ أمكَ، قَالَ: المنايا على الحوايا، فاقل بعض الْقَوْم: أنْشد الْملك هبلتك أمك، قَالَ: لَا يرحل رحلك مَن لَيْسَ مَعَك، قَالَ لَهُ آخر: مَا أَشد جزعك من الْمَوْت، فَقَالَ: لَا غرو من عيشةٍ نافده ... وَهل غير مَا ميتةٍ واحدَه فأبلغ بنيَّ وأعمامهم ... بأنّ المنايا هِيَ الراصدَه لَهَا مدّةٌ فنفوسُ العبادِ ... إِلَيْها وَإِن كرهت قاصدَه فَلَا تَجزعوا لِحمام دنا ... فللموت مَا تَلِدُ

الوالده فَقَالَ لَهُ الْمُنْذر: لابدّ من الْمَوْت، وَلَو عرض لي أبي فِي يومي هَذَا لَمْ أجد بدًّا من ذبحه، فأمّا إِذْ كنت لَهَا وَكَانَت لَك فاختر من ثَلَاث خصالٍ: إِن شِئْت من الأكحل، وَإِن شِئْت من الأبجل، وَإِن شِئْت من الوريد. فَقَالَ: ثَلَاث خِصَال مقادها شَرّ مقاد، وحاديها شرُّ مَا حاد، وَلَا خير فِيهَا لمرتادِ، فَإِن كنت لَا بدَّ قاتلي فاسقني الْخمر حَتَّى إِذا ذهلتْ لَهَا ذواهلي، وَمَاتَتْ لَهَا مفاصلي، فشأنكَ وَمَا تُرِيدُ. فَأمر لَهُ الْمُنْذر بحاجته من الْخمر، فلمّا

تعليقات وشروح لغوية ونحوية

أخذت مِنْهُ وَقرب ليذبح أنشأ يَقُول: وخيَّرني ذُو البؤسِ فِي يومِ بُؤْسِهِ ... خِصَالا أرى فِي كلّها الموتَ قد بَرقْ كَمَا خيِّرت عادٌ من الدّهرِ مرَّةً ... سحائبَ مَا فِيهَا لذِي خيرةٍ أَنَقْ سحائبُ ريحٍ لَمْ توكَّل ببلدةٍ ... فتتركها إِلَّا كَمَا لَيْلَة الطلقْ فَأمر بِهِ ففُصد فلمّا مَاتَ طلي بدمه الغريّان. تعليقات وشروح لغوية ونَحوية قَالَ القَاضِي: قَول الشَّاعِر بخيري بني أَسد، وَالطَّرِيق اللاحب فِي هَذَا الْبَاب أَن يُقَال زيد خير من بني فلَان، والزيدان والزيدون خير بني فلَان، ولكنّه ثنَّى فِي هَذَا الشّعْر مُبَالغَة فِي وصف كلِّ مِنْهُمَا واحدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ منسوبٌ إِلَيْهِ الْفضل، أَو لِأَن كلَّ واحدٍ مِنْهُمَا يفضل فِي معنى يختصّ بِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر: هما سيّدانا يزعمان وإنَّما ... يسوداننا أَنْ سيِّرت غَنَمَاهُمَا فَثنى لاختلافِ النَّوْعَيْنِ وافتراق الإضافتين. وَفِي التَّنْزِيل: " أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا " " الْمُؤْمِنُونَ:47 ". وَقَول الْمُنْذر لِعبيد أَلا كَانَ الذَّبِيح غيرَكَ أَرَادَ الشَّيْء الْمَذْبُوح قَالَ الله تَعَالَى " وَفَدَيْنَاهُ بذبحٍ عَظِيمٍ " " الصافات: 107 " والذَّبح بِفَتْح الذَّال الْمصدر. يُقال: ذبحت الكبشَ ذَبْحًا، وَمثله الطِّحن. والطَّحن. فالطَّحن الشَّيْء المطحون والطَّحن مصدر وَكَذَلِكَ الْقِسم والقَسْم فالْقِسْم بِالْكَسْرِ النَّصِيب وَالشَّيْء الْمَقْسُوم، والقَسْمُ بِالْفَتْح مصدر قَسَمْتُ. وَهَذَا بَاب تَتّسع فروعه ويَطرد قِيَاسه. وَقَول عُبَيْد: " أتتك بحائن رِجْلَاهُ " يُقال فلَان حائن إِذا حَان هَلَاكه، هَذَا مثلٌ سَائِر. وَقَول الْمُنْذر: " أَو أجلٌ بلغَ إناه " معناهُ غَايَته ونِهَايته، من قولِهم قد آن كَذَا وَكَذَا، أَي بلغَ غَايَته، قَالَ الله تَعَالَى: " يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حميمٍ آنٍ " " الرَّحْمَن:44 " أَي قد انْتهى حرّه، وَمن ذَلِكَ قَول الشَّاعِر: وتَخضب لحية غَدَرَتْ وخانَت ... بأحمرَ من نجيع الجوفِ آنِ وَقَالَ الله تَعَالَى: " إِلَى طعامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ " " الْأَحْزَاب:53 " وَفِيهِ لُغَتَانِ الْكسر وَالْقصر، وَالْفَتْح وَالْمدّ، وَقد قَرَأَ بعضُ الْقُرَّاء غيرَ ناظرين إناءَه " وَمن هَذِهِ اللُّغَة قَول الشَّاعِر: وآنيت الْعشَاء إِلَى سهيلٍأو الشعرى فطالَ بيَ الإِنَاءُ ويروى " وأكريت.. فطال " من الْكرَى وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقد قَرَأَ بعضُ الْقُرَّاء: " سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قطرٍ آن " يَعْنِي النّحاس الَّذِي قد انْتهى حرّه، وروى هَذَا بعضُ الروَاة عَن عَاصِم بن أبي النَّجود. فأمّا الْقِرَاءَة المستفيضة فِي الْأمة والسائرة بَين الْأَئِمَّة فَهِيَ: " من قطران ". وَمَا الجريض فَإِنَّهُ مُعالجة النَّفس لِلْخُرُوجِ، وأمّا قَول عُبَيْد: " فللموت مَا تلدُ الوالدة " فقد رُويت الأبياتُ الَّتِي هَذَا مِنْهَا على غير هَذِه الْأَلْفَاظ وَفِي غير هَذِه الْقِصَّة، وأنشدناها لغير عُبَيْد وَهِي: لَا يُبْعِدِ الله ربُّ الْعباد ... وَالْملح مَا وَلَدَتْ خالَدَهْ هم المطعمونَ سديفَ السَّنام ... والشحمَ فِي الليلةِ الباردهْ فَأن يكن الموتُ أفناهُمُ ... فللموتِ مَا تلدُ الوالده معنى قَوْله: " فللموت مَا تَلد الوالده " إِن مآل الْمَوْلُود إِلَى الْمَوْت، وَمن هَذَا قَول الشَّاعِر: وللمنايا تربى كلُّ مرضعةٍ ... وللخرابِ يجدُّ الناسُ عمرانا وَقَالَ آخر: لدوا للموتِ وَابْنُوا للخرابِ ... فكلكمُ يصيرُ إِلَى ذهابِ وَمن هَذَا النَّحْو قَول الله تَعَالَى: " فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عدوَّاً وَحَزَنًا " الْقَصَص:8 " فهم وَإِن لَمْ يكن مآل أَمرهم مَعَه فِيمَا قصدوه وَلَا أرادوه بِمنزلة من ابْتِدَاء شَيْئا التماسًا لعاقبته فجَاء على تَقْدِيره وإرادته. ولِهذا الْمَعْنى نَظَائِر فِي الْعَرَبيَّة يُتْعِبُ إحصاؤها. والبصريون من النَّحْوِيين يسمون هَذِه اللَّام، وَإِن كَانَت على صُورَة لَام كي، لامَ الْعَاقِبَة ولامَ الصيرورة، لأنَّ عَاقِبَة الشَّيْء الْمَذْكُورَة انْتَهَت إِلَى مَا أخبر بِهِ وَصَارَت إِلَيْهِ، وَإِن لَمْ يكن مِمّا آثره الْفَاعِل وَلَا أَرَادَهُ، ويسمونها أَيْضا لَام الصيور. وأمّا الفراءُ فِي أَصْحَابه الْكُوفِيّين فيذهبونَ إِلَى أنَّها لامُ كي لمّا كَانَ المآلُ لَا محَالة انْتهى إِلَى مَا انْتهى إِلَيْهِ صَار بِمنزلة مَا ابتدى يُراد بِهِ مَا صَار إِلَيْهِ؛ ونظيرها أَن يسْقِي الرجل الرجل دَوَاء ليشفيه من دائه فيتلف، فَيُقَال سقَاهُ دَوَاء فَقتله، وسقاه ليَقْتُلهُ، أَي كَانَ بِمنزلة من قصد إِتْلَافه وَإِن كَارِهًا لِهذا غيرَ مختارٍ لَهُ. وَنَظِير هَذَا قَوْلهم أردْت نَفعه فضررته، لَا يريدونَ بِهذا أَنَّهُ قصد الْإِضْرَار بِهِ، وإنَّما أَرَادَ أَنَّهُ استضرَّ بِما أريدَ نَفعه بِهِ. وَمعنى قَول الْبَصرِيين والكوفيين فِي هَذَا مُتَقَارب إِذا تحقِّق معناهُ مصيبٌ فِي قَوْله. وَهَذَا بَاب مستقصى ملخَّصٌ مُسْتَوفى فِيمَا ألَّفناه من عُلُوم الْقُرْآن. وَلَيْلَة الطَلَقِ وَلَيْلَة القَرَبِ من اللَّيَالِي الَّتِي يُسْرَى فِيهَا إِلَى المَاء، وَلَيْسَ هَذَا موضعَ ترتيبها. وهب يقْرَأ نقش حجر حدَّثنا عبد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأَزْدِيّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن إِدْرِيس قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا التَّيْمِيّ قَالَ: بَيْنَمَا سُلَيْمَان بن عبد الْملك فِي الْمَسْجِد الْحَرَام إِ أُتِيَ بحجرٍ منقورٍ فَطلب من يقرأه، فأُتي بوهب بن مُنَبّه فقرأه فَإِذا فِيهِ: ابْن آدم، إنَّك لَو أَبْصرت قَلِيل مَا بَقِي من أَجلك لزهدت فِي طول أملك، ولرغبتَ فِي

والد ذاهل يرثي ابنه الوحيد

الزِّيَادَة من عَمَلك، ولقصّرت عَن حرصك وحيلك، وإنّما يلقاك غَدا ندمك، لَو قد زلَّت بك قدمك، وأسلمكَ أهلك وحشمك، فبانَ مِنْك الولدُ الْقَرِيب، ورفضك الوالِدُ والنسيب، ف أَنْت إِلَى دُنياكَ عَائِد، وَلَا فِي حَسَنَاتك زَائِد، فاعمل ليَوْم الْقِيَامَة، قبل الْحَسْرَة والندامة. قَالَ: فَبكى سُلَيْمَان. وَالِد ذاهل يرثي ابْنه الوحيد حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْعَبَّاس العسكري قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي سعد قَالَ، حَدَّثَنِي حمْنَة بن الْقَاسِم بن حَمْزَة الْعلوِي قَالَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاق بن يَعْقُوب الْبَصْرِيّ قَالَ: كَانَ لبني الْعَبَّاس مولى يُقالُ لَهُ الْوَزير بن عبد ربّه، وَكَانَ قد عُمّر حَتَّى فقد مَاله وَولده فَلم يبْق لَهُ إِلَّا ابنٌ وَاحِد يُقالُ لَهُ إِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِبْرَاهِيم الَّذِي يغذوه ويرفق بِهِ، والشيخُ شبيهٌ بالواله، فَرمي فِي جَنَازَة ابْنه إِبْرَاهِيم، فَأخذ الْجِيرَان فِي مصْلحَته، وَإنَّهُ لجالسٌ فِي نَاحيَة بِمنزله لَا يحيرُ شَيْئا، أكبر ظنهم أَنَّهُ لَا يفهمُ مَا نزل بِهِ من فقد ابْنه إِبْرَاهِيم، حَتَّى إِذا أصلحوا شَأْنه، وحملوا سَرِيره، خرج يدرجُ قدَّام الْجِنَازَة، فلمّا انْتَهوا بِهِ إِلَى شَفير قَبره ضرب يَده إِلَى أَكْفَانه ثُمَّ أنشأ يَقُول: إِنِّي لأصبرُ مَن يمشي على قدمٍ ... غداةَ أَبْقى وإبراهيمُ فِي الرَّجُمِ يَا مَنْ لعينٍ أبانَ الله قُرَّتها ... وَمن لسمعٍ رماهُ الله بالصممِ قَالُوا أطلتَ الأسى فاربعْ عَلَيْك وَهل ... بكيتُ حِبِّيَ مَا لَمْ أبكِهِ بدمِ بُدِّلْتُ من فرحي الْمَاضِي بِهِ تَرَحًا ... وَعَاد عهدُ أبي إِسْحَاق كَالْحلمِ فَالله موضعُ مَا أَشْكُو وغايتُهُ ... وبالإلهِ من الشَّيْطَان مُعْتَصَمي قد ذاقه من بِهِ سمَّيت فانهملت ... عينُ النَّبِيّ عَلَيْهِ سحَّة السجمِ فَقَالَ مَا أَنا فِيك اليومَ قائلُهُ ... وبالإله سدادُ الفعلِ والكلم مَا برَّ من قَالَ يبري الوجدُ صَاحبه ... وَقد بقيتُ ووجدي لَيْسَ بالأمم تعصب الْمَأْمُون للأوائل من الشُّعَرَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي قَالَ، حَدَّثَنِي عبد الله بن الْحُسَيْن قَالَ، حَدَّثَنِي النجدي عَن إِبْرَاهِيم بن الْحَسَن بن سهل، قَالَ: كَانَ الْمَأْمُون يتعصّب للأوائل من الشُّعَرَاء وَيَقُول: انْقَضى الشّعْر مَعَ انْقِضَاء ملك بني أميَّة. وَكَانَ عمي الْفضل يَقُول لَهُ: الْأَوَائِل حجةٌ وأصول، وَهَؤُلَاء أحسن تَفْرِيعا، إِلَى أَن أنْشدهُ يَوْمًا عبد الله بن أَيُّوب التَّيْمِيّ شعرًا مَدَحَهُ فِيهِ فلمّا بلغ قَوْله: ترى ظاهرَ الْمَأْمُون أحسنَ ظاهرٍ ... وأحسنُ مِنْهُ مَا أسرَّ وأضمرا

المجلس الخامس والتسعون

يُناجي لَهُ نفسا ترِيعُ بهمةٍ ... إِلَى كل معروفٍ وَقَلْبًا مطهّرا ويخشعُ إكبارًا لَهُ كلُّ ناظرٍ ... ويأبى لِخوفِ الله أَن يتكبّرا طَوِيل نجاد السَّيْف مضطمر الحبشا ... طواهُ طرادُ الْخَيل حَتَّى تحسَّرا رفلٌ إِذا مَا السّلم رفَّل ذيله ... وإنْ شمَّرت يَوْمًا لَهُ الحربُ شَمّرا فَقَالَ للفضل: مَا بعد هَذَا مدح، وَمَا أَشْبَهَ فروعَ الإحسانِ بأصوله. الْمجْلس الخامِس والتسعُون مِنْ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْن مُحَمَّد بْن اللَّيْثُ أَبُو نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحُسَيْنِ صَعْصَعَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّقِّيُّ الأَنْصَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَنْبَسَةَ بْنِ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارِ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ بَكَتِ الأَرْضُ مِنْ بَعْدِي فَنَبَتَ اللَّصف مِنْ مَائِهَا، فَلَمَّا أَنْ رَجَعْتُ قُطِرَ مِنْ عَرَقِي عَلَى الأَرْضِ فَنَبَتَ وردٌ أَحْمَرُ، أَلا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشُمَّ رَائِحَتِي فليشمَّ الْوَرْدَ الأَحْمَرَ ". قَالَ الْقَاضِي: اللَّصَفُ: الْكَبَرُ وَمَا أَتَى بِهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ هُوَ الْيَسِيرُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودلَّ عَلَى فَضْلِهِ وَرَفِيعِ مَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أهلٌ لكلِّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَسْدَى لَهُ مِنْ شَرِيفِ الْكَرَامَةِ إِلَيْهِ، وَمَا لَهُ عِنْدَهُ فِي مَعَادِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يعبِّر عَنْهُ الْخَلْقُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَجْسَمُ مَنْ أَنْ يَخْطُرَ بِقُلُوبِهِمْ، فَهَنِيئًا لَهُ مَا أَوْلاهُ اللَّهُ مِنْ إِنْعَامَهِ وَشَرِيفِ إِكْرَامِهِ، وَجَعَلَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّنْ يَلْقَاهُ فِي مَعَادِهِ، مُؤَدِّيًا مَا أَلْزَمَهُ مِنْ حقِّ شَرِيعَته، وأنالنا النُّورُ وَالْكَرَامَةُ وَالسَّعَادَةُ بِشَفَاعَتِهِ، إِنَّهُ أَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَقَدْ رُوِّينَا مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي رسمناه هَاهُنَا مِنْ طُرُقٍ حَضَرَنَا مِنْهَا هَذَا فَأَتَيْنَا بِهِ. الغلامُ الرَّاعِي والجنيون الثَّلَاثَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا عمي قَالَ، حَدَّثَنِي أبي عَن ابْن الْكَلْبِيّ قَالَ: خرج غلامٌ من مَذْحجِ، أحسبُه قَالَ: من صُدَا يرْعَى غنيماتٍ لَهُ، فَأَدْرَكته السَّمَاء فأوى إِلَى كهفٍ فأكنَّ غنمه واقتدح نَارا واحتلبَ لَبَنًا فوغره، فَإِذا ثلاثةُ نفر قد ولجوا عَلَيْهِ الغارَ فحيَّوه فردَّ تحيّتهم وَقَالَ: هلمّوا، وقرَّب إِلَيْهِم غُمَرَه بِما فِيهِ، فَأَخذه أحدهم فشمَّه ثمَّ ردّه ثُمَّ أنشا يَقُول: يَا راعي الضأنِ اغتنثْ من مضحكا ... روى لَك الله قفيلَ نحضكا يُقَال: اغتنث من الْإِنَاء شربةً أَو شربتين إِذا جرعت. يُقال: جرعَ ولعق يلعق،

والقفيل: الْيَابِس، والنحضُ: اللَّحْم. وَلَا عدمت غبيةً بأرضكما ... تعيدُ غَمْرًا مَا انزوى من برضكا الغبيةُ: الدفعةُ من الْمَطَر، الْغمر: المَاء الْكثير، الانزواء: التقبض، والبَرْضُ: المَاء الْقَلِيل؛ قَالَ: وَمن الانزواء قَول الْأَعْشَى: يزيدُ يغضُّ الطرفَ دوني كأنَّما ... زَوَى بَين عَيْنَيْهِ عليَّ المحاجِمُ فَلَا ينبسطْ من بينِ عينيكَ مَا انزوى ... وَلَا تَلْقَني إِلا وأنفُكَ راغم وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " زُويتْ لي الأَرْض فرأيتُ مشارقها وَمَغَارِبهَا وسيبلغُ ملك أمّتي مَا زوي لي مِنْهَا ". وَقَالَ الثَّانِي: يَا راعي البُهْمِ سُقيتَ ريًّا ... وَلَا تزالُ تطَأ السُّميّا والسمي: جمع السَّمَاء، وَالْمعْنَى الْمَطَر؛ حُكي عَن الْعَرَب: مَا زلنا نَطَأ السَّمَاء حَتَّى أَتَيْنَاكُم. وسميَّها والتابعَ الوليّا ... لَا تعدمُ الدّهر حيًّا مرعيًّا قَالَ القَاضِي: الوسميُّ: أول مطر الرّبيع، وَقيل: إنّما سمّي وسمياً لِأَنَّهُ يسم الأَرْض، والوليُّ المطرةُ الَّتِي تلِي الوسمي، والحيا: الْغَيْث، مَقْصُور، قَالَ ذُو الرمة: خليليّ لَا تستيئسا واسألا الَّذِي ... لَهُ كلّ أمرٍ أَن يصوبَ ربيعُ حيًّا لبلادٍ شيَّب المحلُ أَهلهَا ... وجبرًا لعظم فِي شظاه صدوعُ يرْوى الْبَيْت الأول على وَجْهَيْن لَا تستيئسا من الْيَأْس وَلَا تستبئسا من التباؤس والتمسكن. وَقَالَ الثَّالِث: يَا ساقيَ البهم سقاكَ السَّاقي ... بكلِّ أحوَى مثجمٍ غيداقِ حتَّى ترى ظواهر الْبراق ... ضاحكةَ الروضِ إِلَى الْإِشْرَاق قَالَ القَاضِي: الأحوى: الْأَحْمَر الَّذِي يضْرب حمرته إِلَى السوَاد، والمثجم: الْمُقِيم، يُقَال: أثجم فَهُوَ مثجم إِذا أَقَامَ، وغيداق: كَثِير وَاسع من قَوْل الله تَعَالَى: " لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا " " الْجِنّ:16 " وغيداق فيعال مِنْهُ وَالْيَاء زَائِدَة، والبراق: جمع برقةٍ. فَقَالَ الْغُلَام: حيّيتُم من فتيةٍ أزوالِ ... شمِّ الأنوفِ سادةٍ أقوالِ أقوالٌ يصفهم بالسؤدد والرئاسة، ويُقالُ وأقيال وأقوال لموك الْيمن، وَقيل إِن القيلَ هُوَ من دون الْملك الْأَعْظَم، وقيلَ إِن أَصله من القَوْل فَمن هَاهُنَا قيل أَقْوَال، كَأَن أَصله قيِّل أَي فَيْعل، والأصلُ قَيْوِل، فقلبت الْوَاو يَاء وأدغمَ الحرفُ الأول فِي الثَّانِي فَصَارَ يَاء مُشَدّدَة. وخففوا فَقَالُوا: قَيل، وَمثله ميت وميّت وَأَصله مَيْوِت. وَكَانَ الفرّاء يَأْبَى أَن

تتمة الخبر

يكون فِي المعتل فيعل كَمَا لَمْ يَأْتِ فِي الصَّحِيح، وَيَزْعُم أَن أصل هَذَا فعّيل، وَلما يحتجُّ بِهِ ويحتج بِهِ مخالفوه مَكَان هُوَ أولى بِهِ، وَأَكْثَرهم يَقُول: قيلٌ وأقيال كَمَا قَالَ عبد الْمَسِيح بن حنان بن بُقَيْلَة: رسولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يسري بالوثن وَيجمع القيل أَيْضا قيولا، وَيَقُولُونَ للْمَرْأَة قَيلة، وَبِه سُمّيت قيلة. إِن الْقِرَى يعتدُّ للنُّزّال ... فدونكم مدمومة الأوصال فأَحْنِذُوا من هَذِه الأجذال قَالَ القَاضِي: أحنذوا معناهُ اشتووا، من قَوْل الله تَعَالَى: " بِعِجْلٍ حَنِيذٍ " " هود:69 " أَي محنوذ، ومعناهُ مشويٌ، وَقيل: هُوَ الَّذِي يُشوى على الأَرْض أَو فِيهَا وَلَا يُبَالغ فِي إنضاجه وإنّه من شيءّ الْأَعْرَاب، وَقيل: هُوَ الَّذِي يُشوى على الأَرْض أَو فِيهَا وَلَا يُبَالغ فِي إنضاجه وإنّه من شيءّ الْأَعْرَاب، وَقيل: إِنَّه الرطبُ الَّذِي فِيهِ نداوةٌ، وَمِنْه حنذب الفرسَ إِذا أجريَتهُ ليعرقَ؛ والأجذالُ: جمع جِذْل، ويُقال جذال، وَهُوَ الْعود من الْخشب كَمَا قَالَ ذُو الرمة الشَّاعِر: مَا كنتُ فِي الحربِ العوانِ مغمَّراً ... إِذْ شبَّ حرَّ وقودها أجذالُهَا وَقَالَ ذُو الرمَّة: يظلّ بِهَا الحرباء للشمس ماثلا ... على الْجِذْلِ إِلا أَنَّهُ لَا يكبِّر وَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر يَوْم السَّقِيفَة: أَنا جُذَيْلُها المحكّكَ، هَذَا معناهُ، تَتِمَّة الْخَبَر ثمَّ قَالَ شاةٍ ليذبحها فَقَالُوا لَهُ: لَا تفعل فإنَّا لَا نأكلُ مِنْهَا، وَقَالَ لَهُ أحدهم: بوركت من حزوَّرٍ بذَّال ... رَحْبِ الفناء عُرضة النزَّال إنّ لنا فِي الأبَّد الأهمال قَالَ القَاضِي: الأُبُد جمع آبدٍ وآبدة، يجمع أَيْضا أوابد، وَهُوَ الوحشي، يُقال: تأبّد العير إِذا توحّش، وَهُوَ نقيضُ تأنّس. وروى عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بعير ندَّ من الْغَنِيمَة يَوْم خَيْبَر فرماهُ رجلٌ من أَصْحَابه بسهمٍ فأثبتَهُ: " إِن لِهذه الْإِبِل أوابد كأوابد الْوَحْش فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا "، وَقَالَ الْأَعْشَى: شبّهته هِقْلا يباري هقلةً ... رَبْداءَ فِي خيطٍ تطاردُ أبَّدا وَقد يُقال للربع والمنزل إِذا خلا من أَهله وأوحشَ وأقفرَ قد تأبد، قَالَ الْأَعْشَى: تأبّد الربْعُ من سلمى بأحصارِ ... وأقفرتْ من سليمى دمنةُ الدَّار وَيُقَال: قد أَتَى فلَان بآبدة إِذا جَاءَ بِكَلِمَة فظيعة أَو فعلة موحشة بديعة، وَإنَّهُ ليَأْتِي بالأوابد. والأهمال مَا أُهْمِلَ وَلم يكن لَهُ راعٍ.

أرفيّ كلِّ ثرّةٍ مِجْفالِ قَالَ ابْن دُرَيْد: الأرفيّ: لبن الظباء، قَالَ القَاضِي: وَقَوله: ثرَة غزيرة، ويروي بَيت عنترة: جادتْ عَلَيْهِ كلُّ عينٍ ثرّةٍ ... فتركن كلَّ قرارةٍ كالدرهم وَقَوله: كجفال: أَي كَبِيرَة تعمُّ لسعتها، وَمن هَاهُنَا قيل: فلَان يَدْعُو الجفَلَى أَي يعمّ بعوته، وَإِذا خصّ وَلم يَعُم قيل: دَعَا النَّقرى، قَالَ طرفَة: نحنُ فِي المشتاةِ نَدْعُو الجَفْلَى ... لَا ترى الآدبَ فِينَا يَنْتَقِرْ وَقَالَ الآخر: إنّا سنجزيكَ جَزَاء جزلا ... فقد بَرَعْتَ كرمًا وبَذْلا إنَّ بأقصى ذَا الْكُهَيْفِ هجلا ... فاختفِ مِنْهُ جنبا مبتلا تلقى غنى يطرد عَنْك الأزلا قَالَ القَاضِي: الْجَهْل: الشَّيْء المخبوء الْكثير، وَقَوله: فاختفِ مِنْهُ جانبًا مبتلا: أَي اكتشفه وأظهره، يُقال: اختفى فلَان كَذَا إِذا أظهره بعد استتاره، وَمثله خَفَاهُ، وخفيتُ الشيءَ أظهرته، وأخفيته سترته. وَرُوِيَ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المختفي والمختفية يَعْنِي النبَّاش والنبّاشة. وَقد ذكرت من وُجُوه هَذَا الْبَاب وتصريفه فِي بعض أَوَائِل مجالسنا هَذِه وَفِيمَا رسمناهُ من عُلُوم الْقُرْآن مَا يُغْنِي عَن إِعَادَته فِي هَذَا الْمَكَان. وَقَوله يطرد عَنْك الْأَزَل بِفَتْح الْهَمْزَة الْفَاقَة والفقر والإضاقة، فَأَما الإزل بِكَسْر الْهَمْزَة فالكذب، قَالَ الشَّاعِر: يقولونَ إزلٌ حبُّ ليلى وذكرُها ... وَقد كَذَبوا مَا فِي مَوَدَّتِها إزْلُ وَمن الْأَزَل بِمعنى الضّيق قَول زُهَيْر: تجدهم على خيَّلتهم إزاءها ... وَإِن أفسدَ المالَ الجماعاتُ وَالْأَزَلُ يرْوى هم إزاءها وعَلى أَن تَجعل فِي مَوضِع اسْم مَرْفُوع، إِلَّا أَنَّهُ نصبَ على الظّرْف، واستقامَ فِيهِ الْوَجْهَانِ كخلف وَإِمَام، قَالَ لبيد: فَغَدَتْ كلا الفرجين تحسبُ أَنَّهُ ... مولى المخافةِ خلفُها وأمامُها وَهَذَا من الْبَاب الَّذِي أَتَى على السعَة، قَالَ الله تَعَالَى: " بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " " سبأ:33 " وَإِذا جعل إزاؤها بِمعنى الْمُخْتَص بالاسمية دون الظّرْف، وَجعل مَكَانَهُ اسْم مَحْض لَا يكون ظرفا وَكَانَ على أفعل أَو فِيهِ لَام وَألف اتجه فِيهِ وَجْهَان من الْإِعْرَاب: الرّفْع على أَنَّهُ خبر الِابْتِدَاء الَّذِي هُوَ هم، وَهِي لغةُ أهلِ نجدٍ وَبني تَميم، والنصبُ على أَنَّهُ مفعولٌ " تَجدهم " الثَّانِي، وَيكون هم فصلا، وَهَذِه عبارَة الْبَصرِيين من النَّحْوِيين، فأمّا كوفيّوهم قيسمّونها الْعِمَاد، وكلُّ مَا أَتَى فِي الْقُرْآن من هَذَا الْبَاب فَهُوَ مَنْصُوب فِي قراءتنا ورسم مَصَاحِفنَا، وَقد حكى رَفعه فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود ورسم مصحفه، فَفِي قراءتنا:

أبو الينبغي والمأمون

" وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ " " الزخرف: 76 " وَفِي مَا رُوِيَ عَن عبد الله: " وَلَكِن كَانُوا هم الظالِمُون ". وممّا فِي الشّعْر نصبا قولُ الشَّاعِر: وجدنَا آل مرَّة حِين خَافُوا ... جريرتَنَا هُمُ الأُنُفَ الكراما وَمن الْمَرْفُوع قَول الآخر: أجدَّك لن تزالَ نجيَّ تيم ... تبيتُ اللَّيْل أنتَ لَهُ ضَجيعُ وَفِيمَا ألّفناهُ من عُلُوم الْقُرْآن استقصاء هَذَا الْبَاب بحججه وشواهده. فَقَالَ الثَّالِث: إِذا احتفرتَ منكبًا فلجّفِ ... من عَن يَمِين الجَلَدِ المحصَوْصِفِ ثُمَّ اعتقم قِيدَ الذراعِ واكشفِ ... عَن مثل رأسِ الكودن المقرَّف وَثِقْ بعيشٍ غَمْرُهُ لَمْ ينزفِ فَخَرجُوا عَنْهُ، فَقَامَ الْغُلَام إِلَى حَيْثُ وصفوا وحفر كَمَا أمروا، فاستخرج صنمًا كرأسِ الكودن من ذهب لَهُ عينان من جَوْهَر أَحْمَر، فَأصْبح الْغُلَام وَالله أَكثر أهل الحواءِ مَالا وَأَحْسَنهمْ حَالا. قَالَ القَاضِي: قَوْله: فلجِّف أَي بَالغ وأعمق، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يحجُّ مأمومةً فِي قَعْرها لجفٌ ... فاستُ الطَّبِيب عَلَيْهَا كالمغاريد وَالْجَلد المحصوصف من الأَرْض: الصّلب الجَدَد. وَقَوله " ثُمَّ اعتقم قيد الذِّرَاع " أَي ذلله بحفرك إيّاهُ بعد أَن كَانَ فِي استصعابه بِمنزلة الْعَقِيم الَّذِي لَا يفتح لشدّته، وَقيد الذِّرَاع: قدره ومقياسه ويُقال قيد وقدى كَمَا قَالَ الشَّاعِر: وإنِّي إِذا مَا الْمَوْت لَمْ يكُ دونهقدى الشبر أحنى الْأنف أَن أتأخَّرا وَمِنْه قاب، قَالَ الله تَعَالَى: " فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى " " النَّجْم:9 ". وَقد بيّنا مَا فِي هَذِه الْكَلِمَة من اللُّغَات فِي غير هَذَا الْموضع. والكوادن: المقاريف من الْخَيل، وَكَذَلِكَ الهجين مِنْهَا، تقصّر فِي كرمها وفضلها عَن عتاقها، ورؤوسها أعظمُ من رُؤُوس الْعتاق، فَلذَلِك شبَّه بِهِ الشَّاعِر مَا شبّه. وقيلَ فِي قَوْله فِي أوّل الْخَبَر " واحتلبَ لَبَنًا فوغره " أَنَّهُ أسخنه وأودعه إناءه، وأنّه أشارَ بقوله: إِن بأقصى ذَا الكهيفِ هجلا إِلَى كَثْرَة مَا أومئ بِهِ إِلَيْهِ. قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: قَوْله هلموا جَاءَ على اللُّغَة النجدية، وَقد بيّنا فِي مجَالِس قبل هَذَا مَا فِي هَلُمَّ من اللُّغَات بِما يُغني عَن إِعَادَته. وَقَوله مدمومة الأوصال إِشَارَة إِلَى الشَّاة الَّتِي أَمرهم بشيها. وَقَوله: " وَقرب إِلَيْهِم غمره " الغمرُ: القدحُ الصَّغِير كَمَا قَالَ الشَّاعِر: يَكْفِيهِ حزَّة فلذٍ إِنْ ألمَّ بِهَا ... من الشواءِ وَيُروى شُرْبَهُ الْغُمَرُ أَبُو الينبغي والمأمون حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِم بن خرداذبه قَالَ: كَانَ أَبُو

سيل باليمن يكشف عن جثمان شخص

الينبغي يحمَّق، وَكَانَ أحد الدَّوَاهِي والمجّان، وَكَانَ يتكسَّب بالحمق، فَلَمَّا قتل مُحَمَّد بن زبيدة وَصَارَ الأمرُ إِلَى الْمَأْمُون ذكر لَهُ أَبُو الينبغي فَأمر بإحضاره، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وسلَّم أمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ بعضُ الجلساء: قُم فَأَنْشد أَمِير الْمُؤمنِينَ، فاقل: يَا رقيع، أَمِير الْمُؤمنِينَ يَقُول لي: اجْلِسْ وَأَنت تقولُ لي قُم. فَقَالَ الْمَأْمُون: بَلِ اجْلِسْ وَأنْشد، فَقَالَ: نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأَنْشَأَ يَقُول: كُنْتُم أَنْتُم ثلاثهْ ... كلّكم نسلُ الملوكْ ذهب الموتُ بواحدْ ... مَا أرى ذاكَ يَسُوكْ فَقَالَ الْمَأْمُون: اغرب قبحك الله، وَأمر بِهِ فَأخْرج، ثُمَّ قَالَ: لَا وَالله مَا يَنْبَغِي أَن نخيِّبه فقد قَالَ على جُنُونه شَبِيها بِالْحَقِّ، وَلَا وَالله أعطوهُ عشرَة آلَاف فقبضها وَانْصَرف. وَهُوَ يَقُول: شَبيه بِالْحَقِّ، لَا وَالله إِلَّا الْحق كلّه. سيل بِالْيمن يكْشف عَن جثمان شخص حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الأنبَاريّ قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عُبَيْد عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ: أَقْبَلَ سيلٌ بِالْيَمَنِ فِي وِلايَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَبْرَزَ لَنَا عَنْ بَابِ الْبَلَقِ، وَهُوَ الرُّخَامُ، فظننا كَنْزًا، فَكَتَبْنَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُعْلِمُهُ ذَاكَ، فَكَتَبَ إِلَيْنَا لَا تُحَرِّكُوهُ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْكُمْ أُمَنَاءٌ مِنْ قِبَلِي. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ أُمَنَاؤُهُ فَتَحْنَاهُ فَإِذَا نَحْنُ برجلٍ عَلَى سريرٍ طُولُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَعَلَيْهِ سَبْعُونَ حُلَّةً مَنْسُوجَةً بِالذَّهَبِ، وَفِي يَدِهِ الْيُمْنَى لوحٌ وَفِي يَدِهِ الْيُسْرَى مِحْجَنٌ، وَفِي اللَّوْحِ مَكْتُوبٌ مَا هَذِهِ تَرْجَمَتُهُ: إِذَا خَانَ الأَمِيرُ وَكَاتِبَاهُ ... وَقَاضِي الأَرْضِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ فويلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ... لِقَاضِي الأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ قَالَ: وَإِذَا عِنْدَ رَأْسِهِ سَيْفٌ أَشَدُّ خُضْرَةً مِنَ الْبَقْلَةِ، وَعَلَى السَّيْفِ مَكْتُوبٌ: هَذَا سَيْفُ هُودِ بْنِ عَادِ بْنِ إِرَمَ. المجلِسُ السَّادس والتسعُون حَدِيثُ اتَّزِنْ وَأَرْجِحْ حَدَّثَنَا الْمُعَافَى قَالَ، حَدَّثَنَا أبي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ الْوَرَّاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرِ بْنِ أُنَاسٍ السَّعْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ، عَنِ الأَعْرَابِيِّ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّوق، قَالَ: فَقعدَ إِلَى البززين فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، قَالَ: وَكَانَ لأَهْلِ السُّوقِ رجلٌ يَزِنُ بَيْنَهُمُ الدَّرَاهِمَ يُقَالُ لَهُ فُلانٌ الْوَزَّانُ، فَدَعَا بِهِ لِيَتَّزِنَ ثَمَنَ السَّرَاوِيلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتَّزِنْ وَأَرْجِحْ "، قَالَ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَحَدٍ فَمَنْ

شرح وإعراب

أَنْتَ " قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقُلْتُ: حَسْبُكَ مِنَ الرَّهق وَكْفًا فِي دِينِكَ أَلا تَعْرِفُ نَبِيَّكَ، هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقَبِّلَهَا، فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " مَهْ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا الأَعَاجِمُ بملوكها، وَإِنِّي لست بِملك، أَنَا رجلٌ مِنْكُمْ ". قَالَ: فَقَعَدَ الْوَزَّانُ فَاتَّزَنَ وَأَرْجَحَ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا انْصَرَفْنَا تَنَاوَلْتُ السَّرَاوِيلَ لأَحْمِلَهَا عَنْهُ فَمَنَعَنِي وَقَالَ: " صَاحِبُ الشَّيْءِ أحقُّ بِحَمْلِهِ إِلا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا عَنْهُ فَيُعِينُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ قَالَ: نَعَمْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَشَكَكْتُ فِي قَوْلِهِ " وَمَعَ أَهْلِي " إِنِّي أُمِرْتُ بِالتَّسَتُّرِ فَلَمْ أَجِدْ ثَوْبًا أَسْتَرَ مِنَ السَّرَاوِيلِ. شرح وإعراب قَالَ القَاضِي: قَول أبي هُرَيْرَة للوزان: " حَسبك من الرهق " يَعْنِي الهجومَ على الْبَاطِل، والمبادرة إِلَى غشيان الشرِّ والإسراع إِلَى تقحمه. وَمِنْه قَوْله جلّ اسْمه: " فَزَادُوهُمْ رَهَقًا " " الْجِنّ:6 " وَقَوله: " فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا " " الْجِنّ:13 " وَقَوله " وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قترٌ " " يُونُس: 26 ". وَقَول أبي هُرَيْرَة: " حَسبك مِنَ الرَّهَقِ وَكْفًا فِي دِينِكَ " الوكف: الْعَيْب، قَالَ الشَّاعِر: الحافظو عورةَ العشيرةِ لَا ... يأتيهمُ من ورائهم وَكَفُ نصب الْعَوْرَة لِأَنَّهُ أَرَادَ الحافظونَ العورةَ من الوكف، وَمثله الفارجو بابَ الأمرِ الْمُبْهم. وَقد رُوِيَ عَن الْأَعْمَش أَنَّهُ قَرَأَ " إِنَّا مرسلو النَّاقة " وَقَرَأَ عمَارَة بن عقيل: " وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ " " يس:40 " وَهَذَا الْفَصْل بَاب من أَبْوَاب النَّحْو وَاسع وفروعه ومسائله وشواهده ودلائله كَثِيرَة، وَلَهَا مَوضِع غير هَذَا هِيَ مشروحة فِيهِ، ويسميه البصريون من اللغويين بَاب الصّفة المشبهة باسم الْفَاعِل. وَسَرَاويل فِي الأَصْل اسْم أعجمي أشبه من كَلَام الْعَرَب مَالا ينْصَرف، وَهِي بِالْفَارِسِيَّةِ شروال فبنتها الْعَرَب على مَا ينْصَرف من كَلَامهَا، فَإِذا صغَّرتها صرفتها إِلَّا أَن يكون اسْم رجل. وَفِي هَذَا الْخَبَر مَا دلَّ على أَن السَّرَاوِيل من الملابس المختارة، فَيَنْبَغِي لكلِّ ذِي دين وفطرة سوية من الْمُسلمين أَن يَجعل السَّرَاوِيل من أَمْثِلَة لبوسه للأثر الْوَارِد فِيهِ ولأنَّ فِيهِ من ستر العورات والإدفاء من القرّ فِي السيرات مَا لَيْسَ فِي غَيره. سَرَاوِيلُ قَيْسٍ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَلاءِ الْأَضَاحِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد عَبْد اللَّه بْن شَبِيبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيم الدروقي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو نُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ يُكَنَّى أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: بَعَثَ قَيْصَرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ سَرَاوِيلَ أَطْوَلِ رجلٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: مَا أَظُنُّنَا إِلا قَدِ احْتَجْنَا إِلَى سَرَاوِيلِكَ، قَالَ: فتنحَّى فَجَاءَ بِهَا فَأَلْقَاهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَرْحَمُكَ

رواية أخرى للخبر السابق

اللَّهُ مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا؛ أَلا ذَهَبْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ ثُمَّ بَعَثْتَ بِهَا إِلَيْنَا؟ فَقَالَ قَيْسٌ: أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قيسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ وَأَلا يَقُولُوا غَابَ قيسٌ وَهَذِهِ ... سَرَاوِيلُ عَادِيٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ وَإِنِّي مِنَ الحيِّ الْيَمَانِينَ سيدٌ ... وَمَا النَّاسُ إِلا سيدٌ وَمَسُودُ فَكِدْهُمْ بِمِثْلِي إِنَّ مِثْلِي عَلَيْهِمُ ... شديدٌ وَخَلْقِي فِي الرِّجَالِ مَدِيدُ قَالَ: فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ أَطْوَلَ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ فَوَضَعَهَا عَلَى أَنْفِهِ فَوَقَعَتْ بِالأَرْضِ. قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِسَرَاوِيلَ، فَلَمَّا جِيءَ بِهَا قَالَ لَهُ قَيْسٌ: نحِّ عَنْكَ ثِيَابَكَ هَذِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا قريشٌ فأقوامٌ مُسَرْوَلَةٌ ... واليثربيون أَصْحَاب التباين فَقَالَ قَيْسٌ: تِلْكَ الْيَهُودُ الَّتِي تَعْنِي بِبَلْدَتِنَا ... كَمَا قريشٌ هُمُ أَهْلُ السَّخَاخِينِ رِوَايَة أُخْرَى للْخَبَر السَّابِق وَقد رُوِيَ لنا هَذَا الْخَبَر من وُجُوه، وَهَذَا الَّذِي حَضَرنَا مِنْهَا، وَجَاء من طريقٍ آخر وَفِيهِ زِيَادَة وَخلاف فِي سياقته وَبَعض مَعَانِيه وَأَلْفَاظه. فَمن تامِّ مَا رُوِيَ فِيهَا أَن قَيْصر كتب إِلَى مُعَاوِيَة: إِنِّي قد وجهتُ إِلَيْك برجلَيْن: أَحدهمَا أقوى رجل ببلادي، والآخرُ أطول فِي أرضي، وَقد كَانَت الْمُلُوك تتجارى فِي مثل هَذَا وتتحاجى بِهِ، فَأخْرج إِلَيْهِمَا مِمَّن فِي سلطانكَ من يُقَاوم كلَّ وَاحِد مِنْهُمَا، فَإِن غلب صاحباك حملتُ إليكَ من المَال وأسارى الْمُسلمين كَذَا وَكَذَا، وَإِن غلبَ صَاحِبَايَ هادنتني ثَلَاث سِنِين. فَلَمَّا ورد كتاب قَيْصر على مُعَاوِيَة أهمه وشاور فِيهِ أَصْحَابه، فَقيل لَهُ: أما الأِّيد فادعُ لمناهضته إمَّا مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة وإمّا عبد الله بن الزبير، فَقَالَ: إِذا كَانَ الأمرُ هَكَذَا فالمنافيُّ أحبُّ إِلَيْنَا، فأحضر مُحَمَّد بن عَليّ والأيّدُ الرُّومِي حَاضر، فَأخْبرهُ بِما دَعَاهُ لَهُ. فَقَالَ مُحَمَّد للرومي: مَا تشاءُ، فَقَالَ: يجلسُ كلُّ وَاحِد منا وَيدْفَع يَده إِلَى صَاحبه فَمن قلع صَاحبه من مَوْضِعه أَو رَفعه عَن مَكَانَهُ فقد فلج عَلَيْهِ، وَمن عجز عَن ذَلِكَ وقهر صَاحبه قُضِيَ بالغلبة لَهُ، فَقَالَ مُحَمَّد: هَذَا فَجعل يُمارسه ويَجتهد فِي إِزَالَته عَن مَوْضِعه فَلم يَتَحَرَّك مُحَمَّد، وَظهر عجز الرُّومِي لِمن حضر. فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد: اجْلِسْ الْآن، فَجَلَسَ وَأخذ بِيَدِهِ فَمَا لبث أَن اقتلعه وَرَفعه فِي الْهَوَاء ثُمَّ ألقاهُ على الأَرْض. فسر مُعَاوِيَة وحاضروهُ من الْمُسلمين. وَقَالَ مُعَاوِيَة لقيس بن سعد والرومي الطوَال: تطاولا، فَقَالَ قيس: أَنا أخلعُ سراويلي ويلبسها هَذَا العلج، فَإِن مَا بَيْننَا يبين بذلك؛ ثُمَّ خلع سراويله وَأَلْقَاهَا إِلَى الرُّومِي فلبسها، فبلغت ثدييه وانسحبَ بَعْضهَا فِي الأَرْض، فاستبشرَ النَّاس بذلك. وَجَاءَت الْأَنْصَار إِلَى قيس فَقَالَت لَهُ تبذَّلت بَين يَدي مُعَاوِيَة، وَلَو كنت مضيتَ إِلَى مَنْزِلك وبعثتَ بالسراويل إِلَيْهِ، فَقَالَ:

مدح بما يشبه الذم

أَرَدْتُ لِكَيْمَا يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا ... سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ شُهُودُ وَأَلا يَقُولُوا غَابَ قيسٌ وَهَذِهِ ... سَرَاوِيلُ عاديٍّ نَمَتْهُ ثَمُودُ وَإِنِّي مِنَ الْقَوْم اليمانينَ سيد ... وَمَا النَّاس إِلَّا سيد ومسود وفضَّلني فِي الناسِ أُصَلِّي ووالدي ... وباعٌ بِهِ أعلو الرِّجَال مديد مدح بِما يشبه الذمّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بْن دُرَيد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَنْ أبي عُبَيْدة قَالَ: وَفد عُبَيْد اللَّه بْن زِيَاد بن ظبْيَان من بني عَابس بن مَالك على عتاب بن وَرْقَاء التَّيْمِيّ فأعطاهُ عشْرين ألفا، فلمّا أَرَادَ توديعه قَالَ لَهُ: وَالله مَا أحسنتَ فأمدحكَ وَلَا أسأتَ فأهجوكَ، وَإنَّك لأقربُ الْبعدَاء وأحبُّ الْبغضَاء. بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْحِجَازَ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُوكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاتِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُوكَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْطَقَكَ يَا مُعَاوِيَةُ بالحقِّ، وعرَّفك حَقَّنَا وَفَضْلَنَا، وَأَنَّا أَهْلُ الْبَيْتِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ حَرَمَكُمْ هَذَا الأَمْرَ الَّذِي عرَّضتم لَهُ أَكْتَافَكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُوكَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ عَزَائِمِ قُدْرَةِ اللَّهِ مَا يَذُودُنَا عَنِ الدُّنْيَا وَمَوَارِدِ الْهَلَكَةِ أَنَّ قَالَ: " قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خيرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلاً " " النِّسَاء:77 "؛ فو الله يَا مُعَاوِيَةُ لَوْلا طَاعَةُ اللَّهِ لَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَغْرِفَ بِدَلَوِكَ فِي طَوِيٍّ شدَّ عَلَيْهِ هاشمٌ رِشَاءً؛ فَتَضَاحَكَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: أُمَازِحُكَ فَلا تَحْلُمُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُوكَ: عَمَّنْ أَحْلُمُ؟ عَمَّنْ يَرَى أَنَّ لَهُ الْفَضْلَ؟! ثمَّ نفض ثَوْبه ايخرج فَجَذَبَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ عِنْدِي ثَوْبٌ مِنْ عَصْبِ الْيمن وثوبان من نسج الْعَجَمِ فَأَهْدِيهِمَا إِلَيْكَ. فَلَبِسَهُمَا أَبُوكَ وَغَدَا عَلَيْهِ فِيهِمَا فَقَالَ الشَّاعِرُ: فِي ذَلِكَ إِنَّ الثِّيَابَ بِآلِ هَاشِمَ زِينَةٌ ... تَزْهُو وَيَضْعُفُ حُسْنُهَا فِي الْمَشْهَدِ وَبَنُو أُمَيَّةَ فِي الثِّيَابِ تَرَاهُمُ ... شِبْهَ الْقُرُودِ أَذِلَّةً فِي الْمَحْتِدِ هَاشِمٌ، قُرَيْش. باهلة ... هَلْ تصرف قَالَ القَاضِي: لَمْ يصرف هَذَا الشَّاعِر " هاشمًا " فِي شعره، أَرَادَ الْقَبِيلَة، وَلَو أَرَادَ الحيّ أَو اسْم الْأَب لصرفه، وَإِن لَمْ يصرف مَعَ هَذِه النِّيَّة لَمْ يُصِبْ - فِي قَول الْخَلِيل وسيبويه

وَجُمْهُور الْبَصرِيين - لِأَن الشَّاعِر لَهُ أَن يصرف فِي الشّعْر مَا لَا ينْصَرف فِي الْكَلَام، وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ صَرْفِ المنصرف. وَكَانَ الْأَخْفَش يُجيزُ ذَلِكَ وَهُوَ مذهبُ الْكُوفِيّين، وَقد اسْتشْهدُوا بأَشْيَاء وَردت عَلَيْهِم فِيهَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع استقصاء هَذَا الْبَاب لكنّا آثرنا ذكر جملَة مِنْهُ يقفُ بِهَا ذُو الْفَهم على الأَصْل فِيهِ، وَيجْرِي عَلَيْهِ قِيَاس بَاقِيه. وَالَّذين أَبَوا ترك صرف مَا لَا ينْصَرف فِي الشّعْر يعتلونَ بأنَّ الشَّاعِر إِذا اضْطر إِلَى مَا يُتَنَكّبُ فِي منثور الْكَلَام رَجَعَ إِلَى أَصله وَلَيْسَ لَهُ مُفَارقَة الأَصْل وهدمه؛ وَالْأَصْل فِي الْأَسْمَاء الصّرْف، فَإِذا عَرَضَ فِي شيءٍ مِنْهَا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ استجيزَ فِي الشّعْر كوب الصّرْف حَملا على الأَصْل. فأمّا ترك صرف الْمصر وف فنقضُ مَا بني الْكَلَام عَلَيْهِ فِي أَصله. وَالَّذين أَجَازُوا هَذَا تعلقوا بِأَبْيَات أنشدوها على هَذَا الْوَجْه الَّذِي عابهم عَلَيْهِ يه مخالفوهم. وَقد دفع الْأَولونَ مَا رَوَوْهُ عَنْهُم وأنشدوا كثيرا مِنْهُ على خلاف إنشادهم. فأمَّا وَجه ترك صرف هَاشم فِي الْبَيْت الَّذِي أَتَى فِي هَذَا الْخَبَر وَنَظِيره من الْأَسْمَاء فَلِأَنَّهُ ذهب بِهِ مَذْهَب الْقَبِيلَة دون اسْم الرجل، وَدون حمله على أَن اسْم الْحَيّ. وَإِن مثل هَذَا فِي الشّعْر كَثِير. وَهَذَا كَقَوْلِهِم حضرت قُرَيْش ومعدُّ وثقيفُ وَمَا لَا يُقال فِيهِ بَنو فلَان، أَلا ترى أَنَّهُ لَا يُقال بَنو قُرَيْش وَلَا بَنو ثَقِيف. وَقَالَ الشَّاعِر: غلب المساميحَ الوليدُ سماحةً ... وَكفى قريشَ المعضلاتِ وسادَها وَقَالَ آخر: بَكَى الخزُّ من روحٍ وَأنكر جلدَه ... وعجَّت عجيجًا من جذامَ المطارفِ وَقَالَ الْأَعْشَى: ولسنا إِذا عدَّ الْحَصَا بأقلَّةٍ ... وَإِن معدَّ اليومَ مودٍ دليلُهَا وَمثله باهلة، وَهُوَ اسْم امرأةٍ لَا يُقالُ فِيهِ بَنو باهلة إِلَّا أَنَّهُ لَا يصرف وَإِن جُعِلَ اسمَ الحيّ من أجل التَّأْنِيث. وَنَظِير مَا وَصفنَا سبأ قد صُرِفَ وَترك صرفه، وَاخْتلف الْقُرَّاء فِيهِ فَصَرفهُ بَعضهم وَلم يصرفهُ بَعضهم، وأجراهُ بَعضهم على مَذْهَب الْحِكَايَة، وروى فَرْوَة - صَوَابه فَرْوَة بن مُسَيك الْغَطَفَانِي - عَن النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سَأَلَ عَن سبأ أهوَ اسْم أَرض أم امْرَأَة، فَقَالَ: لَيْسَ بِأَرْض وَلَا امْرَأَة وَلكنه رجلٌ ولد عشرَة فتيامن مِنْهُم أَرْبَعَة وتشاءم سِتَّة. وَقد أَتَى فِي الْعَرَبيَّة مصروفًا وَغير مَصْرُوف قَالَ النَّابِغَة: من سبأ الحاضرينَ مأربَ إِذْ ... يبنونَ من دون سيله العَرِمَا وَلم يذكر شَيْئا مِمَّا جَاءَ مِنْهُ مصروفًا فِي الشّعْر إِذْ لَا حجَّة فِيهِ من أجل جَوَاز صرف مَا ينْصَرف فِيهِ. وَبَيت النَّابِغَة هَذَا يشْهد لقَوْل من قَالَ: العرمُ المسنَّاة أَو الْبناء، ونصبه العرم بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ يبنون كَأَنَّهُ قَالَ: يبنون العرم من دون سيله. وقصة مأرب والعرم من مَشْهُور الْقَصَص، قَالَ الْأَعْشَى:

المجلس السابع والتسعون

فَفِي ذَاك للمؤتسي أُسْوَة ... ومأرب قفَّي عَلَيْهَا العَرِمْ قفى مثل عفى، وأوّل القصيدة: أتهجرُ غانيةً أَن تلهمّ ... أم الحبلُ واهٍ بِهَا مُنْجَذِمْ أم الصّبر أحجى فَإِن امْرَءًا ... سينفعه علمه إِن علم وَذكر بعد هَذَا أبياتًا تشتملُ على جملَة من بنائِهم. وَقد اخْتلف فِي معنى العرم فقيلَ هُوَ الْبناء، وَقيل هُوَ المسناة بلغَة أهل الْيمن، وَقد قَالَ الْأَعْشَى فِي ذَلِكَ: رخامٌ بَنَتْهُ لَهُم حمير ... إِذا جَاءَ دفَّاعه لَمْ يَرِم وَقد يرْوى: إِذا جَاءَ ماؤهم. وَقيل العرم الفارة وأنَّها خرقت من المسناة موضعا فاتسع وَصَارَ نبعًا مُفْسِدا بلغَة أهل الْيمن، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي ذَلِكَ: سعى جرذٌ فيهم لَيْلَة ... فخانَ بِهم جارفٌ منهدمْ ومِمَّا يُضارع هَذَا الْبَاب فِي بعض فصوله مَا أَتَى من ذكر أَسمَاء الْأُمَم ذَوي الْملَل الْمُخْتَلِفين فِي الآراء والنحل كالمجوس وَالْيَهُود، قَالَ الشَّاعِر: أصاحَ ترى بُرَيْقًا هبَّ وَهنا ... كنار مجوسَ تستعرُ استعارًا وَقَالَ آخر: فرَّت يَهودُ وأسلمتْ جيرانَها ... صمّى لما فعلتْ يهودُ صمامِ فَلم يصرف يهود على مَا بَيْننَا. وَقَالَت امْرَأَة من الْأَنْصَار: رَحل الصومُ حامدًا مَحْمُودًا خرج الصَّوْم حامدًا مَحْمُودًا دخل الشرُّ فِي بيوتِ يهودا وَقَالَ كَعْب بن مَالك الأَنْصَارِيّ يؤنب الْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ فِي مدحه قُرَيْظَة وبكائه عَلَيْهِم، وَيُشِير إِلَى أَن مدحه الْأَنْصَار كَانَ أولى بِهِ. أُولَئِكَ أولى من يهودَ بمدحةٍ ... إِذا أَنْت يَوْمًا قُلْتَها لَمْ تؤنَّب ونظيرُ هَذَا ثَمود، وكلامنا فِيهِ مستقصًى فِيمَا ألفناهُ من علومِ الْقُرْآن وَذكر مَنْ صرفه وَمن لَمْ يصرفهُ فِي شَيْء من الْقُرْآن، وَمن صرفه فِي بعض الْمَوَاضِع وَلم يصرفهُ فِي بَعْضهَا، وَهُوَ وَاسع جدًّا وإنَّما نذكرُ من هَذِه الْأَنْوَاع مَا يَدْعُو النَّاظر فِي كتَابنَا إِلَى التبغي فِي طلبه والحرص على استفادته، وَقد تركتُ الإطالة بشرحه فِي غير مَوْضِعه. الْمجْلس السَّابع والتسعُون لَا يَدْخُلُ قَلْبَ امْرِئٍ الإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هَارُونَ أَبُو جَعْفَرٍ الإِسْكَافِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَوْطَا قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ شَاهِينَ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ

أبو الأسود الدئلي وبنو قشير

عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ قريشٍ إِذَا تَلاقَوْا بَيْنَهُمْ تَلاقَوْا بوجوهٍ مُسْتَبْشِرَةٍ، فَإِذَا لَقَوْنَا لَقَوْنَا بِغَيْرِ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احمرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ: " لَا يَدْخُلُ قَلْبَ امرئٍ الإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ". قَالَ القَاضِي: وَإِن مَوَدَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقَاربه وإخلاص الْمُوَالَاة لآله من أَرْكَان الْملَّة وخالص الشَّرِيعَة، وَإِن من انحرف عَن هَذَا وزاغ عَنْهُ وَصَدَفَ عَن التديّن بِهِ متقربًّا باعتقاده إِلَى الله وَرَسُوله فقد خسرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة " ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " " الْحَج:11 ". أَبُو الْأسود الدئلي وَبَنُو قُشَيْر حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِم عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: كَانَ أَب الْأسود ينزل فِي بني قُشَيْر، وَكَانُوا عثمانية، وَكَانَ أَبُو الْأسود علويَّ الرَّأْي، وَكَانَ بَنو قُشَيْر يسيئونَ جواره ويؤذونه ويرجمونه بِاللَّيْلِ، فعاتبهم على ذَلِكَ فَقَالُوا: مَا رجمناك وَلَكِن الله رجمك، قَالَ: كَذبْتُمْ لأنكم إِذا رجمتموني أخطأتموني وَلَو رجمني الله لمَّا أخطأني. ثُمَّ انتقلَ عَنْهُم إِلَى هُذَيْل وَقَالَ فيهم: شتموا عليا ثُمَّ لَمْ أزجرهم ... عَنْهُ وَقلت مقالةَ المتودِّدِ الله يعلمُ أَن حبّي صادقٌ ... لبني النَّبِي وَللْإِمَام الْمُهْتَدي قَالَ القَاضِي رَحِمَهُ الله: وَقد رُوِيَ لنا من طَرِيق آخر أَن أَبَا الْأسود قَالَ فِي هَذَا الْمَعْنى وَفِي بني قُشَيْر: يقولُ الأرذلونَ بَنو قشيرٍ ... طوالَ الدهرِ مَا تَنْسَى عليا بَنو عمِّ النَّبِيّ وأقربوه ... أحبُّ الناسِ كلِّهم إليَّا أحبُّ مُحَمَّدًا حبًّا شَدِيدا ... وعباسًا وحمزةَ والوصيا فإنْ يكُ حبهم رشدا أُصِبْه ... ولستُ بمخطئٍ إِن كَانَ غيا أَو مَتى تفِيد الشَّك ويُقالُ إِن مُعَاوِيَة قَالَ لَهُ لَمّا أنْشد هَذَا الْبَيْت: قد شَككت، فَقَالَ: مَا شَككت، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ " " سبأ:24 " أَفَهَذَا شكّ؟. وَالَّذِي احتجَّ بِهِ أَبُو الْأسود بيّن الصِّحَّة، وَالْإِنْسَان يقولُ مثل هَذَا على المناصفة وتحسين المخاطبة والإرهاص لتمكين الْحجَّة وَنفي الشُّبْهَة وملاينة الْخصم، فإنَّها مِمَّا قد تعطفه إِلَى المقاربة، وتثنيه عَن اللَّدد والمشاغبة. وَقد يَقُول الرجل لِمن ركب مَعَه الْبُهْتَ فِي مناظرته والمكابرة فِي منازعته: قد زعمتَ أَنَّهُ إِذا جُمِعَ بَين النَّار والقطن أَنَّهُ لَا يَحْتَرِق الْقطن، فنحنُ نجمعُ بَينهمَا فَنَنْظُر أيحترقُ أم لَا، فَإِن لَمْ يَحْتَرِق فالقولُ مَا قلت، وَإِن احترقَ فالقولُ فِيهِ على مَا قُلْنَا. وقائلُ هَذَا لَيْسَ يَحتاجَ بجمعه بَين هذَيْن الشَّيْئَيْنِ إِلَى عِلْمِ شيءٍ جَهله، وَلَا

دَفْعِ شكٍ عَرَضَ لَهُ، وَلكنه لاستظهاره قصد حَسْمَ شَغَبِ خَصْمِهِ، وردَّه إِلَى الحقِّ عَن باطله. قَالَ الله تَعَالَى ذكره لنَبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا " " الْأَحْقَاف:8 " وَقَالَ عزَّ اسْمه " أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افتريته فعليَّ إجرامي وَأَنا بريٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ " " هود:35 " وَقَالَ جلّ ثَنَاؤُهُ فِي قصَّة يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قدَّ مِنْ قبلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قدَّ مِنْ دبرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادقين " " يُوسُف:26 - 27 ". أَلا ترى إِلَى الْمُسَاوَاة فِي الشَّرْطَيْنِ وجوابَهما، وَإِلَى الْحِكْمَة وَالْمُبَالغَة فِي التفقه وَجَمِيل المحاورة، والتبدية بِذكر المبطلة وَتَقْدِيم الْإِخْبَار عَن تصديقها إِن كَانَت لَهَا الْحجَّة، وَهَذَا بابٌ وَاسع. وَقد قَالَ قَائِلُونَ إِن قَوْله أَو إيَّاكُمْ بِمعنى وَإِيَّاكُم، وَزَعَمُوا أَن أَو بِمعنى الْوَاو، فادَّعوا مثل هَذَا فِي مَوَاضِع من الْقُرْآن كَثِيرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: " مَثَلُهُمْ كمثلٍ الَّذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " " الْبَقَرَة:17 " ثُمَّ قَالَ: " أَوْ كصيِّبٍ مِنَ السَّماء " " الْبَقَرَة:19 " وَكَقَوْلِه: " فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أشدُّ قَسْوَةً " " الْبَقَرَة:74 " وَقَوله تَعَالَى: " وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ ألفٍ أَوْ يَزِيدُونَ " " الصافات:147 " وَقَوله تَعَالَى: " فَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا " " الْإِنْسَان:24 " وَزَعَمُوا أَن أَو قد تَأتي بِمعنى الْوَاو، واستشهدوا بقول الشَّاعِر: فَلَو كَانَ البكاءُ يردُّ شَيْئا ... بكيتُ على بجيرٍ أَو عفاقِ على المرءين إِذْ مضيا جَميعًا ... لشأنِهما بشجوٍ واشتياق الْمَعْنى عل بحير وعفاق، وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بقوله: " على الْمُؤمنِينَ "، وَمثله قَول جرير: نَالَ الْخلَافَة أَو كَانَت لَهُ قدرا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر وأبى مُحَقّقَةُ النَّحْوِيين هَذِه الطريقةَ، وتأوّلوا كلَّ شيءٍ مِمّا أَتَى هَؤُلاءِ بِهِ وتلوه واستشهدوا بِهِ وَرَوَوْهُ على خلاف تأويلهم. وإنَّما أوقعَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَن " أَو " تكون بِمعنى الْوَاو فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من خلاف الْقيَاس الْمُمَيز بَين الْأَلْفَاظ الْمُخْتَلفَة الْمعَانِي فِي أُصُولهَا، وَإِنَّا تقاربت فِي بعض وجوهها، وجودُهم ألفاظًا اشتبهت عَلَيْهِم لتقاربها، فخلطوا بَعْضهَا بِبَعْض، وَلم ينعموا النّظر فِيهَا، فيحصّلوا تمييزها، ويقوا على مَا يختصّ بِهِ كلُّ نوعٍ مِنْهَا، ويتبّينوا أَوْجُهَ تقاربها وعلَّةَ اشتراكِها وتداخلها، وَذَلِكَ كقولِهم: اجْلِسْ فِي السوقِ أَو الْمَسْجِد، وجالس الْحَسَن أَو ابْن سِيرِين، وخالطَ الفقهاءَ أَو النَّحْوِيين، وكلِ اللَّحْم أَو الشَّحْم، وَالتَّمْر أَو الزَّبِيب، والرُّطب أَو العنبَ. وَهَذَا بابٌ يُسَمَّى بَاب الْإِبَاحَة وَلَيْسَ من بَاب الشَّك وتَخير أحد الْمَذْكُورين وحظر الْجمع بَينهمَا. فلمَّا لَمْ يُحْكِمُوا معانيَ هَذَا النَّوْع على حَقِيقَتهَا، وأغفلوا ملاحظةَ تفصيلها وتَمييزها ذَهَبُوا عَن وَجه الصَّوَاب فِيهَا. ولتفصيل مَا يشْتَمل هاذ الْبَاب عَلَيْهِ وَشرح علله وَاسْتِيفَاء شعبه وأقسامه موضعٌ هُوَ أخصّ بِهِ.

المنصور وواعظ منافق

الْمَنْصُور وواعظ مُنَافِق حدَّثنا الْحُسَيْن بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أبي قَالَ: بَينا الْمَنْصُور ذاتَ يومٍ يَخْطُب وَقد علا بكاؤه إِذْ قَامَ رجلٌ فَقَالَ يَا وصّاف تَأمر بِما تجتنبه، وتَنْهَى عمّا ترتكبه، بِنَفْسِك فابدأ ثُمَّ بِالنَّاسِ. فَنظر إِلَيْهِ الْمَنْصُور وتأمّله مليًّا وَقطع الْخطْبَة ثُمّ قَالَ: يَا عبد الْجَبَّار، خُذْهُ إِلَيْك. فَأَخذه عبد الْجَبَّار، وَعَاد إِلَى خطبَته حَتَّى أتمّها وَقضى الصَّلَاة، ثُمَّ دخلَ ودعا بِعَبْد الْجَبَّار فَقَالَ لَهُ: مَا فعل الرجل؟ قَالَ: محبوسٌ عندنَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ: أملِ لَهُ ثُمَّ عرِّض لَهُ بالدنيا فَإِن صَدَفَ عَنْهَا وقلاها فلعمري إِنَّه لمريد، وَإِن كَانَ كَلَامه ليَقَع موقعًا حسنا؛ وَإِن مالَ إِلَى الدُّنْيَا وَرغب فِيهَا إِ ن لي فِيهِ أدبًا يزعه عَن الْوُثُوب على الْخُلَفَاء وطَلَبِ الدُّنْيَا بِعَمَل الْآخِرَة. فَخرج عبد الْجَبَّار فَدَعَا بِالرجلِ وَقد دَعَا بغدائه فَقَالَ لَهُ: مَا حملكَ على مَا صنعت؟ قَالَ: حقّ كَانَ الله فِي عنقِي فأدّيته إِلَى خَلِيفَته، قَالَ: ادنُ فكُلْ من هَذَا عَلَيْك من أكل الطَّعَام إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهِ، قَالَ: وَمَا عَلَيْك من أكل الطَّعَام إِن كَانَت نيّتك حَسَنَة فَلَا يفثأكَ عَنْهَا شَيْء. فَدَنَا فأكلَ، فَلَمَّا أكلَ طمع فِيهِ. فَتَركه أيّامًا ثُمَّ دعاهُ وَقَالَ: لَهِيَ عَنْك أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَنت مَحْبُوس، فَهَل لَك فِي جاريةٍ تؤنسك وتسكن إِلَيْهَا؟ قَالَ: مَا أكرهُ ذَلِكَ، فأعطاهُ جَارِيَة ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ: هَذَا الطَّعَام قد أكلت وَالْجَارِيَة قد قبلت، فَهَل لَك فِي ثيابٍ تكتسيها وتكسو عِيَالك إِن كَانَ لَك عِيَال وَنَفَقَة تستعين بِهَا على أَمرك إِلَى أَن يَدْعُو بك أَمِير الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: مَا أكرهُ ذَلِكَ، فأعطاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عَلَيْك أَن تصنع خلَّة تبلغ بِهَا الْوَسِيلَة من أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أردْت الوسيلةَ عِنْده إِذا ذكرك؟ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: أولّيكَ الحسبةَ والمظالِم فَتكون أحدَ عمّاله تأمرُ بمعروفٍ وَتَنْهَى عَن مُنكر، قَالَ: مَا أكره ذَلِك؛ فولاّه الَّذِي تكلَّم بِما تكلم بِهِ فأمرتَ بحبسه قد أكلَ من طَعَام أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلبس من ثِيَابه، وعان فِي نعْمَته. قَالَ القَاضِي: الصَّوَاب عِنْدِي وعاش فِي نعْمَته. وَصَارَ أحدَ ولاتِهِ، وَإِن أحبَّ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أدخلهُ عَلَيْهِ فِي زيّ الشِّيعَة فعلت، قَالَ: أدخلهُ. فَخرج عبد الْجَبَّار إِلَى الرجل فَقَالَ: قد دَعَا بك أميرُ الْمُؤمنِينَ وَقد أعلمته أَنَّك أحد عمّاله على المظالِم والحسبة، فَادْخُلْ عَلَيْهِ فِي الزيّ الَّذِي يُحبّ. فألبسه قبَاء بأَربند وعلَّق خنجرًا فِي وَسطه وسيفًا بِمعاليق، وأسبلَ جمَّته، وَدخل فَقَالَ: السّلام عَلَيْكَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ورَحْمَةُ الله، فَقَالَ: وَعَلَيْك، ألسْتَ الْقَائِم بِنَا والواعظ لنا ومذكِّرنا بأيّام الله على رُؤُوس الْمَلأ؟! قَالَ: نعم، قَالَ: فكيفَ حُلْتَ عَن مذهبك؟ قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَكرت فِي أَمْرِي فَإِذا أَنا قد أَخْطَأت فِيمَا تكلّمت بِهِ، ورأيتني مصيبًا فِي مُشَاركَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمَانَته. فَقَالَ: هَيْهَات، أَخْطَأت استُك الحفرة، هِبناكَ يومَ أعلنتَ الكلامَ، وظننّا أَنَّك

أمنيات متفاوتة

أردتَ الله بِهِ فَكَفَفْنَا عَنْك، فلمّا تبيَّن لنا أَنَّك الدُّنْيَا أردْتَ جعلناكَ عِظةً لغيرك حتَّى لَا يجترئ بعدكَ مجترئٌ على الْخلَافَة. أخرجه يَا عبد الجبّار فَاضْرب عُنُقه، فَأخْرجهُ فَقتله. أُمْنِيَّاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ حدَّثنا محمَّد بْنُ الْقَاسِمِ الأَنْبَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاق قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ قَالَ: قَعَدَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ، مَا شَيْءٌ أُصِيبُهُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، أُصِيبُهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِطِيبِ نَفْسِهِ؛ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: لَكِنِّي لَسْتُ هَكَذَا، مَا شَيْءٌ أُصِيبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصْبِحَ عَرُوسًا بِعَقِيلَةٍ مِنْ عَقَائِلِ الْعَرَبِ؛ ورجلٌ جالسٌ فَقَالَ: وَلَكِنِّي لَسْتُ هَكَذَا، مَا شَيْءٌ أُصِيبُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْفَضْلِ عَلَى الإِخْوَانِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكَ لَا أمَّ لَكَ، قَالَ: فَقَدْ قَدَرْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَتْوَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ لِلرَّشِيدِ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن مَسْعُودٍ الزَّرَقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْعَقِيلِيُّ، وَكَانَ مِنْ ظُرَفَاءِ النَّاسِ وَشُعَرَائِهِمْ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الرَّشِيدُ الْمَدِينَةَ أَعْظَمَ أَنْ يَرْقَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قباءٍ أَسْوَدَ وَمِنْطَقَةٍ. فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ وَمِنْطَقَةٌ مُخَنْجِرًا فِيهَا بِخِنْجَرٍ، فَقَالَ المعاذي التَّيْمِيّ: ويلٌ وعولٌ لأبي البخْترِي ... إِذا توافَى الناسُ للمحشرِ من قولِهِ الزّورَ وإعلانِهِ ... بِالْكَذِبِ فِي النَّاس على جعفرِ وَالله مَا جالسه سَاعَة ... للفقه فِي بدوٍ وَلَا محْضر يَا قاتلَ الله ابنَ وهبٍ لقد ... أعلنَ بالزّورِ وبالمنكر يزْعم أَن الْمُصْطَفى أحمدًا ... أتاهُ جِبْرِيل التقي الْبري عَلَيْهِ خفّ وقبا أسودٌ ... مخنجرًا فِي الحقو بالخنجرِ يَتَزَوَّجُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَشِيرَ مِائَةَ رَجُلٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْمُقْرِئُ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مَعْشَرٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَلَفَ رَجُلٌ أَنْ لَا يتزوَّج حَتَّى يَسْتَشِيرَ مِائَةَ رَجُلٍ، فَاسْتَشَارَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَجُلا ثُمَّ خَرَجَ وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَسْتَقْبِلُنِي أَسْتَشِيرُهُ، فَإِذَا هُوَ برجلٍ قَدْ طيَّن رَأْسَهُ وَرَكِبَ قَصَبَةً، وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يَضْرِبُ الْقَصَبَةَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ سَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ تَأَخَّرْ عَنِ الْفَرَسِ لَا يَرْمَحُكَ؛ فَرَكَضَ عَلَى قَصَبَتِهِ شَوْطًا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَهُ: هَاتِ حَاجَتَكَ. قَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ أَلا أَتَزَوَّجُ حَتَّى أَسْتَشِيرَ مائَة رجل، فاستشرت تِسْعَة وَتسْعُونَ رَجُلا وَأَنْتَ تَمَامُ الْمِائَةِ. فَقَالَ لَهُ: صَاحِبُ الْوَاحِدَةِ إِذَا حَاضَتْ حَاضَ مَعَهَا، وَإِنْ مَرِضَتْ مَرِضَ مَعَهَا، وَإِنْ غَابَتْ غَابَ مَعَهَا، وَصَاحِبُ اثْنَتَيْنِ قَاضٍ، وَصَاحِبُ الثَّلاثِ مَلِكٌ، وَصَاحِبُ الأَرْبَعِ مُسَافِرٌ. قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَقَدِ اسْتَشَرْتُ تِسْعَةً وَتسْعُونَ رَجُلا مَا كَانَ فِيهِمْ أَعْقَلَ مِنْكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا أَرَادَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَقْضُونِي فَفَعَلْتُ هَذَا لِكَيْ أَنْجُوَ مِنْهُمْ. رِوَايَة أُخْرَى للقصة السَّابِقَة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن الْجَوْهَرِي عَن مُحَمَّد بن حاتِم عَن شُجَاع بن الْوَلِيد عَن حريش بن أبي الْحَرِيش قَالَ: كَانَ رجلٌ فِي من كَانَ قبلنَا حلفَ أَن لَا يتزوَّج امْرَأَة حَتَّى يَستَشيرَ مائَة نفس، وَإنَّهُ اسْتَشَارَ تِسْعَة وَتسْعُونَ رجلا فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فلمّا بَقِي رجلٌ وَاحِد قَالَ: أوَّل من يفجأني من هَذَا الطَّرِيق أَسْتَشِيرهُ ثُمَّ آخذ بقوله. فتلقاهُ رجل شيخ على قَصَبَة، وَمَعَهُ صبيان حوله. قَالَ لَهُ: إِنِّي حلفتُ أَن لَا أَتزوّج حَتَّى أستشير

الفرزدق لا يساجل الفضل اللهبي

مائَة رجل، وَقد استشرتُ تِسْعَة وَتِسْعين رجلا فَاخْتَلَفُوا فَقلت: أول من يفجأني من هَذَا الطَّرِيق أَسْتَشِيرهُ، فجَاء شيخٌ راكبٌ على قَصَبَة، ثُمَّ لَمْ يجد بُدًّا فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ: يَا عبد الله إِنِّي أريدُ أَن أَتزوّج فأشِرْ عليَّ، فَقَالَ لَهُ: النساءُ ثَلَاث، ثُمَّ مضى. قَالَ: قلت فِي نَفسِي وَالله مَا قَالَ لي أحدٌ مثل مَا قالة هَذَا لأتبعنَّه، قَالَ: فاتبعته حَتَّى لحقته، قلت: يَا عبد الله قلتَ لي النساءُ ثَلَاث، قَالَ: نعم واحدةٌ لكَ وَوَاحِدَة عَلَيْك وَوَاحِدَة لَا لَك وَلَا عَلَيْك. قَالَ: ثُمَّ مضى فاتبعته فَسَأَلته عَن تَفْسِير مَا قَالَ، فَقَالَ: أمَّا الْبِكْرُ فَهِيَ لكَ وَلَا عَلَيْك، وأمّا الحنَّانة فَهِيَ الثّيب الَّتِي قد كَانَ لَهَا زوجٌ فَهِيَ لَا لَك وَلَا عَلَيْك، وأمَّا المنانة فالثيبُ الَّتِي لَهَا ولدٌ فَهِيَ الَّتِي عَلَيْك وَلَا لَك، خلِّ سبيلَ الْجواد. قَالَ: فاتبعته فَقلت: يَا عبد الله من أَنْت وَمَا قصّتك؟ قَالَ: مَاتَ قَاضِي بني إِسْرَائِيل أَو قَالَ: فَقيل من أَنْت؟ فَقيل فلَان، فأرادوا أَن يَجعلوني قَاضِيا فكرهتُ ذَلِكَ فصنعتُ مَا رَأَيْت فِرَارًا مِنْهُم. الفرزدق لَا يساجل الْفضل اللهبي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الحكيمي قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي سَعْد قَالَ، وَحَدَّثَنِي ابْن عَائِشَة قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَة النَّحْوِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي من سمعَ الفرزدقَ يَقُول: أتيتُ الفضلَ بن الْعَبَّاس اللهبي وَهُوَ يمتح بدلوٍ من زَمْزَم، وَهُوَ يَقُول: وَأَنا الأخضرُ من يعرفنِي ... أَخْضَر الْجلْدَة فِي بَيت الْعَرَب من يساجلني يساجل ماجدا ... يمْلَأ الدَّلْو إِلَى عقد الكرب وَرَسُول الله جدي جدّه ... وعلينا كَانَ تنزيلُ الْكتب قلت: من يُسَاجِلْكَ فرجلي فِي كَذَا وَكَذَا من أُمّه قَالَ: أتعرفني لَا أمّ لَك؟ قَالَ: قلت:

كانت العرب تقول

وَكَيف لَا أعرفك وَقد فرَّغ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي أبويكَ سُورَة من كِتَابه فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: " تبَّت يَدَا أَبِي لهبٍ " " المسد:1 " قَالَ: فضحكَ وَقَالَ: أَنْت الفرزدق، قلت: نعم، قَالَ: قد علمتُ أَن أحدا لَا يحسنُ هَذَا غَيْرك. معنى فرغ أَي لَيْسَ فِي السُّورَة غير ذكر أبي لَهب وَذكر امْرَأَته. قَالَ القَاضِي: وَقد ألطفَ الفرزدق فِيمَا خاطبَ بِهِ الْفضل، لِأَنَّهُ لَما لَمْ يُمكنهُ مساجلته، وَقد فَخر بنسبه من هَاشم وقرباه من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَى بِمَا يمضُّه ويفلُّ من غربه. كَانَت الْعَرَب تَقُول حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْن مُسلم الْعَبْدي قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الفَضْل الْهَاشِمِي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو بكر الْحَسَن بن عَليّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عبد الله وَزعم أَن رجل من أهل الْجَبَل، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: سمعتُ أَبَا ربيعَة النَّحْوِيّ يَقُول: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: من لَمْ يكنْ عقله أكملَ مَا فِيهِ كَانَ هَلَاكه بأكملِ مَا فِيهِ. قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبي: فَحدثت بِهذا الحَدِيث الأصمعيَّ فَقَالَ: إِن هَذَا لحسن وَعِنْدِي آخرُ يُشبههُ: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: من كَانَت فِيهِ خصْلَة هِيَ أكمل من عقله فالحري أَن تكون سَبَب منيته. قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبي فَحدثت بِهَذَيْنِ الْحَدِيثين أَبَا عُبَيْدَة فَقَالَ: هَذَانِ حسنان وَعِنْدِي آخر يشبههما: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: من لَمْ يكن أغلب خِصَال الْخَيْر عَلَيْهِ عقله كَانَ أغلب فِي خِصَال الْخَيْر عَلَيْهِ حتفه. قَالَ أَبُو عبد الله قَالَ أبي: فحدثتُ بِهذه الأحاديثَ أَبَا دلف فَقَالَ: هَذِه حسان، وَعِنْدِي آخر أحسن مِنْهَا: كَانَت الْعَرَب تَقُولُ: كل شَيْء إِذا كثر رخص إِلَّا الْعقل فَإِنَّهُ إِذا كثر غلا. أَعْرَابِي يصف امْرَأَة جَمِيلة حَدَّثَنَا أَحْمَد بن مُحَمَّد بْن أَبِي شَيْبَة قَالَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن حَيَّان قَالَ، حَدثنَا أَبُو حام السجسْتانِي عَن أبي عبد الرَّحْمَن الْعُتْبِي قَالَ: كَانَ أَعْرَابِي يشبب بِامْرَأَة، فقيلَ لَهُ: صفها، فَقَالَ: كَانَ وَالله وَجههَا السقمَ لمن رَآهَا، ولفظها البرءَ لمن ناجاها، وَكَانَت فِي الْقرب أبطن من الحشا، وَفِي النأي أبعدَ من السما، وَلَقَد كنت آتيها فِي أَهلهَا فيتجهَّمني لسانها ويَمنيني طرفها، فتعتريني لذَلِك فَتْرَة فتذكرني الصِّبَا وَهوى يهتك مني ستر الحيا. أَبْيَات فِيهَا بعض معنى الْخَبَر السَّابِق قَالَ القَاضِي: وَقد أُنْشِدْتُ ثلاثةَ أبياتٍ الْبَيْت الثَّالِث يضارع بعض مَا أَتَت بِهِ أَلْفَاظ هَذَا الْخَبَر وَهِي: وتنالُ إِن نظرتْ بلحظتها ... مَا لَا ينالُ بحدِّه النصلُ وَإِذا نظرتَ إِلَى محاسنها ... فكلِّ مَوضِع نظرةٍ قتل ولقلبها حلمٌ تصدُّ بِهِ ... عَن ذِي الْهوى ولطرفها جَهْلُ

ما قاله بزرجمهر قبيل موته

وَمَا أَتَى من هَذَا الضَّرْب كَثِير، وَقد أَتَيْنَا مِنْهُ فِي أَوَائِل مجالسنا هَذِه ورسمنا من منظومه لنا ولغيرنا. مَا قَالَه بزرجمهر قبيل مَوته حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن أَحْمَد الْكَلْبِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عبد الله قَالَ، حَدَّثَنِي عَليّ بن مُحَمَّد قَالَ، قَالَ أنو شرْوَان لبزرجمهر لَما أَرَادَ قَتله: إِنِّي قاتِلُكَ فَتكلم بِشَيْء تُذْكَرُ بِهِ، فَقَالَ: أيُّها الْملك إِن الدُّنْيَا حَدِيث حسن وقبيح، فَإِن استطعتَ أَن تكونَ حَدِيثا حسنا فَكُنْهُ. قَالَ أَبُو عبد الله: فَذكر هَذَا الْكَلَام لِابْنِ عَائِشَة فَقَالَ: صَدَقَ وَالله، وَهُوَ من قَول الله عَزَّ وَجَلَّ: " وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صدقٍ فِي الآخِرِينَ " " الشُّعَرَاء: 84 " وَأنْشد ابْن عَائِشَة: ألمْ تَرَ أنَّ تخلُد بعدهمْ ... أَحَادِيثهم والمرءُ لَيْسَ بِخالِدِ وَأنْشد أَيْضا: وَإِذا الْفَتى لَاقَى الْحِمامَ رأيتهُ ... لَوْلَا الثَّنَاء كَأَنَّهُ لَمْ يولدِ الْمجْلس الثامِن والتسعُون حَدِيث أبي مطر عَن عَليّ وَهُوَ يتجول فِي الْأَسْوَاق حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ الْهَمَذَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَمَّدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ يَقُولُ، سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: قَدِمَ شيخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَطَرٍ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ يَرْوِي حَدِيثًا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ. فَأَخَذَنِي فَضَمَّنِي إِلَيْهِ وَبَكَى ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ وَلَيْسَ لِي بِهَا مَعْرِفَةٌ فَكُنْتُ آوِي إِلَى الْمَسْجِدِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عِمَارَتُهُ بِاللَّيْلِ كَعِمَارَتِهِ بِالنَّهَارِ مِنْ بَيْنِ مصلٍّ أَوْ ذَاكِرِ فِقْهٍ أَوْ مُتَعَبِّدٍ. فَدَخَلْتُ السُّوقَ وَأَنَا غلامٌ ذيَّالٌ صَاحِبُ سُكَيْنِيَّةٍ، فَإِذَا رجلٌ مِنْ خَلْفِي يَقُولُ: ارْفَعْ إِزَارَكَ فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ وَأَتْقَى لِرَبِّكَ، وَخُذْ مِنْ شَعْرِكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا. فالتفتُّ فَإِذَا رجلٌ أَصْلَعُ ضَخْمُ الْبَطْنِ مؤتزرٌ أَسْفَلَ مِنْ ثَدْيَيْهِ، عَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَفِي يَدِهِ مِخْفَقَةٌ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَجَنَّبْتُ الطَّرِيقَ فَحَلَلْتُ شَعْرِي وَفَرَّقْتُهُ، وَرَفَعْتُ إِزَارِي وَشَمَّرْتُهُ، وَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ دَارَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَكَانَتِ الإِبِلُ تُبَاعُ بِهَا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الإِبِلِ إِيَّاكُمْ وَالْحَلِفَ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ السِّلْعَةَ وَيَمْحَقُ الْبَرَكَةَ، ثُمَّ أَتَى النَّحَّاسِينَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّحَّاسِينَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُزَيِّنُوا سِلْعَتَكُمْ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، أَلا إِنَّنِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غشَّنا ". ثُمَّ أَتَى التَّمَّارِينَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ التَّمَّارِينَ، تَصَدَّقُوا يَرْبُ كَسْبُكُمْ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ. فَلَمَّا كَادَ يَجُوزُهُمْ إِذَا هُوَ بأمةٍ تَبْكِي، قَالَ مَا لَكِ؟ قَالَتْ: ابْتَعْتُ مِنْ هَذَا تَمْرًا بِدِرْهَمٍ فَأَتَيْتُ بِهِ أَهْلِي فَقَالُوا: ردّيه. فقا ل: يَا تَمَّارُ، خُذْ تَمْرَكَ وَارْدُدْ عَلَيْهَا

سند آخر للحديث السابق

فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَمْرٌ. فَأَنْكَرَهُ التَّمَّارُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ وَقَالَ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ: اذْهَبْ إِلَى شَأْنِكَ، ثُمَّ عَرَفَهُ فَأَقْبَلَ يَعْتَذِرُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُ؟ فَقَالُوا: ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْكَ، يَسْأَلُكَ أَنْ تَرْضَى عَنْهُ، قَالَ: فَمَا أَرْضَانِي عَنْهُ وَعَنْ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ إِذَا وَفَّى لِلْمُسْلِمِينَ بِشُرُوطِهِمْ وأدَّى حُقُوقَهُمْ. ثُمَّ مَضَى مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْقَصَّابِينَ فَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَالنَّفْخَ والغشَّ. فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ زَكَا الْيَهُودِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّفْخَ لَا يُزِيدُ فِيهِ وَلا يُنْقِصُ مِنْهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ فَمَا هُوَ؟ قَالَ: يُزِينُهُ، قَالَ: فَذَاكَ الْغِشُّ. ثُمَّ أَتَى السَّمَّاكِينَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ الْحيتَان، وَلَا تَبِيعُوا فِي سُوقِنَا الطَّافِيَ فَإِنَّهُ مَيِّتٌ. ثُمَّ أَتَى الْبَزَّازِينَ فَجَلَسَ إِلَى شَيْخٍ فَقَالَ: بِعْنِي قَمِيصًا بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ وَأَحْسِنْ بَيْعِي، فَنَاوَلَهُ قَمِيصًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُومُ عليَّ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ لَكَ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ، قَالَ: نَقَّصْتَ مِنْ رَأْسِ مَالِكَ دِرْهَمًا مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ عَرَفْتَنِي، لَسْتُ أَنَا الَّذِي أَبْتَاعُ مِنْكَ شَيْئًا. فَجَلَسَ إِلَى آخَرَ فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصًا بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَلَبِسَهُ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي كَسَانِي مِنْ رِيَاشِهِ مَا أتجمَّل بِهِ فِي النَّاسِ وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي. ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَكَذَا. ثُمَّ أَتَى الرَّحْبَةَ فَهَتَفَ: يَا قَنْبَرُ، يَا قَنْبَرُ آتِنِي بِطَهُورٍ، فَأَقْبَلَ بِإِنَاءٍ مِنْ خَزَفٍ فَأَهْوَى ليصبَّ عَلَيْهِ، فَتَنَاوَلَهُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ فَغَسَلَهُمَا حَتَّى أَنْقَاهُمَا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا، وَتَمَضْمَضَ ثَلاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، يَسْتَقْبِلُ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ بِكَفَّيْهِ وَيَسْتَدْبِرُهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ جَرِعَ مِنْ فَضْلِ وُضُوئِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ. فَأَتَاهُ شَيْخٌ فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّكَ أَتَيْتَ ابْنِي وَهُوَ لَا يَعْرِفُكَ فَابْتَعْتَ مِنْهُ قَمِيصًا وَإِنَّهُ أَغْلَى عَلَيْكَ، إِنَّمَا يَقُومُ عَلَيْنَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَخُذْ هَذَا الدِّرْهَمَ. قَالَ: لَا، أَخَذْتُ رِضَايَ وَأَخَذَ الْغُلامُ حَاجَتَهُ. ثُمَّ أَخَذَ مؤذته ابْن النباح فِي لإِقَامَة، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي سَرَقْتُ جَمَلا فَبِعْتُهُ وَأَكَلْتُ ثَمَنَهُ، قَالَ: يَا قَنْبَرُ دُونَكَ الرَّجُلَ أَوْقِدِ النَّارَ وأعدَّ المحدَّ حَتَّى آتِيَكَ، فَدَخَلَ فصلَّى بِالنَّاسِ وَصَلَّيْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ خَرَجَ مُبَادِرًا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَيْهِمَا، فَإِذَا الرَّجُلُ يَقُولُ: يَا قَنْبَرُ، مَا تَرَاهُ صَانِعًا بِي، قَالَ: لَا وَلَكِنِّي مَا سَرَقْتُ شَيْئًا قَطُّ، إِذْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: يَا قَنْبَرُ مَا فَعَلَ الرَّجُلُ؟ عليَّ بِهِ. قَالَ: هُوَ ذَا، هُوَ يزْعم مَا سَرَقْتُ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ: وَيْحَكَ مَا دَعَاكَ إِلَى مَا قُلْتَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْكَرْتُ عَقْلِي، قَالَ: آللَّهِ، قَالَ: الله. فَنَاشَدَهُ الله ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: آللَّهِ مَا سَرَقْتُ شَيْئًا قَطُّ. قَالَ: يَا قَنْبَرُ أَخْلِ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". سَنَدٌ آخَرُ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ قَالَ، حَدَّثَنَا غَالِبُ بْنُ عُثْمَانَ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْعُكْلِيُّ التَّمَّارُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو مَطَرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الجهنيَّ الْبَصْرِيُّ قَالَ: قَدِمْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ

وفود مالك بن عوف على الرسول

فَأَتَيْتُ الْكُوفَةَ وَلَمْ يَكُنْ لِي بِهَا مَعْرِفَةٌ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَوْ نَحْوَهُ. وُفُودُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ على الرَّسُول حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْعُكْلِيُّ عَنِ الْحِرْمَازِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَفَدَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ بِنْ يَرْبُوعِ بْنِ وَاثِلَةَ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ رَئِيسُ هوزان يَوْمَ حُنَيْنٍ، بَعْدَ إِسْلامِهِ إِلَى النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ: مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلا سَمِعْتُ بواحدٍ ... فِي النَّاسِ كلِّهم كَمِثْلِ مُحَمَّدِ أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ لمجتدٍ ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ وَإِذَا الْكَتِيبَةُ حَدَّدَتْ أَنْيَابَهَا ... بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كلِ مُهَنَّدِ فَكَأَنَّهُ ليثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسَطَ الأَبَاءَةِ خادرٌ فِي مَرْصَدِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَكَسَاهُ حُلَّةً. شرح لفظتين قَالَ القَاضِي: الأباءة الغيضة أَو الْقطعَة من الْقصب، والأباءُ الْقصب، قَالَ الشَّاعِر: يَا مَنْ تَرَى ضربا يُرَعْبِلُ بعضُهُ ... بَعْضًا كمعمعةِ الأباءِ الْمُحْرَقِ والخادر: المستكنُّ فِي غيضته أَو غابته وَهِي كالخدر لَهُ، قَالَت الخنساء فِيمَا ترثي بِهِ أخاها صخرًا: فتىٌ كَانَ أَحْيَا من فتاةٍ حيّيةٍ ... وأشجعَ من ليثٍ بخفَّان خادِرِ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْشِدُ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَيَنْتَقِدُهُ ابْنُ الأَزْرَقِ حَدَّثَنَا عليّ بْن مُحَمَّد بْن الجهم أَبُو طَالِب الْكَاتِب قَالَ، حَدَّثَنَا عُمَر بْن شبة قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى الزُّهْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَيَّارٍ عَنْ عُمَرَ الْبَرَكَا قَالَ: بَيْنَمَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَعِنْدَهُ ابْنُ الأَزْرَقِ وناسٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يَسْأَلُونَهُ إِذْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ فِي ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ مُوَرَّدَيْنِ أَوْ مُمَصَّرَيْنِ. قَالَ الْقَاضِي: الْمُمَصَّرَانِ: اللَّذَانِ فِيهِمَا صُفْرَةٌ. يَسِيرُ حَتَّى سلَّم وَجَلَسَ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ أَنْشِدْنَا، فَأَنْشَدَهُ: أَمِنْ آلِ نعمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ ... غَدَاةَ غدٍ أَوْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ الأَزْرَقِ فَقَالَ: اللَّهَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِنَّا لَنَضْرِبُ إِلَيْكَ أَكْبَادَ المطيِّ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِنَسْأَلَكَ عَنِ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ فَتَتَثَاقَلَ عَنَّا، وَيَأْتِيكَ مُتْرِفٌ مِنْ مُتْرِفِيِّ قُرَيْشٍ فَيُنْشِدُكَ: رَأَتْ رَجُلا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَخْزَى وَأَمَّا بالعشيِّ فَيَخْسَرُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَكَذَا قَالَ، قَالَ:

شرح ألفاظ تتصل بالبيت السابق

رَأَتْ رَجُلا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بالعشيِّ فَيخْصَرُ قَالَ: مَا أَرَاكَ إِلا وَقَدْ حَفِظْتَ الْبَيْتَ، قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شِئْت أَن أنْشدك القصيدة أنشدتكما، قَالَ: فَإِنِّي أَشَاءُ، قَالَ: فَأَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ حَتَّى جَاءَ عَلَى آخِرِهَا، ثمَّ أقبل على ابْن رَبِيعَةَ فَقَالَ: أَنْشِدْ، فَقَالَ: تُشَطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَلدَّارُ بَعْدَ غدٍ أَبْعَدُ. فَقَالَ: كَذَاكَ قُلْتُ أَصْلَحَكَ اللَّهُ، أَسَمِعْتَهُ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ كَذَلِكَ يَنْبَغِي. شرح أَلْفَاظ تتصل بِالْبَيْتِ السَّابِق قَالَ القَاضِي: وَقد روى بعضُ الروَاة بَيت ابْن أبي ربيعَة فَقَالَ: أيّما إِذا الشَّمْس، وَأَيّمَا بالعشيّ، وَهِي لغةٌ مَعْرُوفَة. وَقَوله فيضحى قيل: معناهُ يمسّه الْحر، وَقيل: تعلوهُ الشَّمْس وَهُوَ ضاحٍ لَهَا غيرُ مستتر مِنْهَا، والضحُّ، الشَّمْس، والعربُ تَقُولُ: الضحّ والدحّ. وَرُوِيَ أَن عبد الله بن عمر رأى رجلا قد استظلَّ من الشَّمْس وَهُوَ محرم فَقَالَ لَهُ: أضحِ لِمن أَحرمت لَهُ. وَمن هَذَا قَول الله عَزَّ وَجَلَّ. " وأنَّك لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى " " طه:119 " أَي لَا يصيبك فِيهَا حرٌّ ولَا يعلوك شمسٌ؛ وَقد قَالَ جلّ اسْمه فِي أهل الْجنَّة: " لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا " " الْإِنْسَان:13 ". والزمهرير: الْبرد الشَّديد، وَمن وقِي أذاهما فقد أنعم الله عَلَيْهِ، قَالَ الْأَعْشَى: مبتّلة الخلقِ مثل المهاةِ ... لَمْ تَرَ شمسًا وَلَا زَمهريرا وَقد زعم بَعضهم أَن الزَّمْهَرِير من أَسمَاء الْقَمَر، وَأنْشد فِي هَذَا الْمَعْنى: وليلةٍ فِيهَا الظلامُ مُعْتَكِرْ ... قطعتُها والزمهريرُ مَا زَهَرْ وأمّا الخَصَرُ فَإِنَّهُ البردُ القارس، يُقال: قد خَصِرَ الرجلُ يخصر إِذا أَصَابَهُ الْبرد، كَمَا قَالَ الفرزدق: إِذا أنسوا نَارا يقولونَ ليتها ... وَقد خَصِرَتْ أيديهمُ نارُ غالِبِ وَيُقَال: ماءٌ خصر أَي بَارِد، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس: فَلَمَّا استطابا صبَّ فِي الصحن نِصْفُهُ ... وَجَاءُوا بنصفٍ غير طرقٍ وَلَا كَدِرْ بِماءِ سحابٍ زلَّ عَن ظهرِ صخرةٍ ... إِلَى بطنِ أُخْرَى طيّبٍ ماؤُها خَصِرْ أحسن مَا قيل فِي وصف المَاء قَالَ بَعضهم: هَذَا أحسنُ مَا قيل فِي صفة المَاء. وَقَالَ قَائِلُونَ: بَلْ أحسنُ مَا قيل فِي صفة المَاء أبياتٌ أتتْ فِي خبرٍ حدَّثناه أَبُو بكر ابْن الأَنْبَارِيّ لَمْ يَحْضرْني إسنادُهُ، وَقد ذكرتُهُ فِي بعض مجالسنا هَذِه، وَهُوَ أَنَّهُ ذكر أَن عاتكةَ المرية عَشِقَتِ ابْن عمّها فأرادها عَن نَفسهَا، فأنشأت تَقُولُ:

الحجاج وابن الحنفية وشكوى الثاني لعبد الملك

مَا بردُ ماءٍ أيّ مَاء تَقوله ... تنزّلَ من غرٍّ طوالِ الذوائبِ بمنحدرٍ من بطنِ وادٍ تقابلتْ ... عَلَيْهِ رياحُ الصيفِ من كلِّ جانبِ ترقرق ماءُ المزنِ فيهنَّ والتقت ... عليهنَّ أنفاسُ الرياحِ الغرائبِ نَفَتْ جريةُ الماءِ القذى عَن متونه ... فَلَيْسَ بِهِ عيبٌ يحسُّ لشارب بأحسنَ مِمّن يقصر الطرفُ دونَهُ ... تُقَى الله واستحياءُ مَا فِي العواقبِ الْحجَّاج وَابْن الْحَنَفِيَّة وشكوى الثَّانِي لعبد الْملك حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّد عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن بشر الْوَرَّاقُ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ خَلِيفَةَ الدَّارِمِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ قَالَ: خَرَجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا صَارَا فِي الطَّرِيقِ قَالَ الْحَجَّاجُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: لَقَدْ بَلَغَنِي أَن اباك كَانَ إِ ذَا فَرَغَ مِنَ الْقُنُوتِ يَقُولُ كَلامًا حَسَنًا أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْرِفَهُ، فَتَحْفَظُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا أَوْحَشَ لِقَاءَكُمْ، وَأَفْظَعَ لَفْظَكُمْ، وأشدَّ خُنْزُوَانَتَكُمْ، مَا تعدُّون النَّاسَ إِلا عَبِيدًا، وَلَقَدْ خُضْتُمُ الْفِتْنَةَ خوضاً وقتلتم الْمُهَاجِرين والنصار. فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَنْكَرَ لَفْظَهُ وَأَحْفَظَهُ، فَوَقَفَ وَسَارَ الْحَجَّاجُ. وَرَجَعَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لِلآذِنِ: اسْتَأْذِنْ لِي، فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ قَبْلُ وَخَرَجْتَ آنِفًا، فَمَا ردَّك وَقَدِ ارْتَفَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَسْتُ أَبْرَحُ حَتَّى أَلْقَاهُ. فَكَرِهَ الآذان غَضَبَ الْخَلِيفَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ مستأذنٌ عَلَيْكَ، فَقَالَ: أَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي قَبْلُ، لَقَدْ ردَّه أمرٌ، إِيذَنْ لَهُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ تَحَلْحَلَ عَنْ مَجْلِسِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الْحَجَّاجُ أَسْمَعَنِي كَلامًا تكمَّشت لَهُ، وَذَكَرَ أَبِي بِكَلامٍ تَقَمَّعْتُ لَهُ، وَمَا أَحَرْتُ حَرْفًا، قَالَ: فَمَا قَالَ لَكَ حَتَّى أَعْمَلَ عَلَى حَبْسِهِ؟ قَالَ: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ الرُّمَّانُ وَنَخَسَهُ شَوْكٌ، فَخَبَّرَهُ عَمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: عليَّ بِالْحَجَّاجِ السَّاعَةَ. فَأَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ حِينَ خَلَعَ ثِيَابَهُ فَحَمَلَهُ حَمْلا عَنِيفًا، وَانْصَرَفَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ. فَجَاءَ الْحَجَّاجُ فَوَقَفَهُ بِالْبَابِ طَوِيلا ثُمَّ قَالَ: إِيذَنْ لَهُ، فَدَخَلَ فسلَّم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا أَنْعَمَ اللَّهُ بعمروٍ عَيْنًا ... تَحِيَّةَ السُّخط إِذَا الْتَقَيْنَا يَا لُكَعُ وَهِرَاوَةَ الْبَقَّارِ، مَا أَنْتَ وَمُحَمّد ابْن الْحَنَفِيَّةِ؟! قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ إِلا خَيْرًا، قَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَهُوَ أَصْدَقُ مِنْكَ وَأَبَرُّ، ذَكَرْتَهُ وَذَكَرْتَ أَبَاهُ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ أَبِيهِ؛ وَمَا جَرَى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: سَأَلْتُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ شيءٍ بَلَغَنِي كَانَ أَبُوهُ يَقُولُهُ بَعْدَ الْقُنُوتِ، قَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّ ذَاكَ مقتٌ مِنْهُ لَنَا وَلِدَوْلَتِنَا، فَأَجَبْتُهُ بِالَّذِي بَلَغَكَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَسَأْتَ وَلَؤُمْتَ، وَاللَّهِ لَوْلا أَبُوهُ وَابْنُ عَمِّهِ لكنَّا حَيَارَى

شروح وتعليقات

ضُلالا، وَمَا أَنْبَتَ الشَّعْرَ عَلَى رؤوسنا إِلا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ، وَمَا أعزَّنا بِمَا تَرَى إِلا رَحِمُهُمْ وَرِيحُهُمُ الطَّيِّبَةُ، وَاللَّهِ لَا كلَّمتك كَلِمَةً أَبَدًا، أَوْ تَجِيئَنِي بِالرِّضَا مِنْهُ، وتسلَّ سَخِيمَتَهُ. قَالَ: فَمَضَى الْحَجَّاجُ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَلْفَاهُ وَهُوَ يتغدَّى مَعَ أَصْحَابِهِ، قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَتَى بِرِسَالَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَنِي أَنْ أسلَّ سَخِيمَتَكَ، وَأَقْسَمَ أَنْ لَا يُكَلِّمَنِي أَبَدًا حَتَّى آتِيَهُ بِالرِّضَى مِنْكَ، وَأَنَا أحبُّ، بِرَحِمِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلاَّ عَفَوْتَ عَمَّا كَانَ، وَغَفَرْتَ ذَنْبًا إِنْ كَانَ. فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ عَلَى شَرِيطَةٍ فَتَفْعَلَهَا، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَلَى صُرْمِ الدَّهْرِ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ الْحَجَّاجُ فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِرِضَاهُ وَسَلَلْتُ سَخِيمَتَهُ وَأَجَابَ إِلَى مَا أُحِبُّ وَهُوَ أَهْلُ ذَلِكَ. قَالَ: فأيُّ شيءٍ آخِرُ مَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: رَضِيَ عَلَى شَرِيطَةٍ، عَلَى صُرْمِ الدَّهْرِ، فَقَالَ: شنشنةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَمَ، انْصَرِفْ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ دَخَلَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: أَتَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَرَضِيتَ وَأَجَبْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، قَالَ: ثُمَّ مَالَ إِلَيْهِ فَقَالَ: هَلْ تَحْفَظُ مَا سَأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا مَنَعَنِي أَن أبثه غياه إِلا مَقْتِي لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ ثَمُودَ. فَضَحِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ ثُمَّ قَالَ: يَا سُلَيْمَانُ - لِغُلَيْمٍ لَهُ - كَاتِبًا وَدَوَاةً وَقِرْطَاسًا، قَالَ: فَكَتَبَ بِخَطِّهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ إِذَا فَرَغَ مِنْ وِتْرِهِ رَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ حَاجَتِي الْعُظْمَى الَّتِي إِنْ قَضَيْتَهَا لَمْ يضرَّني مَا مَنَعْتَنِي، وَإِنْ مَنَعْتَنِي لَمْ يَنْفَعْنِي مَا أَعْطَيْتَنِي. فَكَّاكَ الرِّقَابِ، فكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، ربِّ مَا أَنَا إِنْ تَقْصِدَ قَصْدِي بِغَضَبٍ مِنْكَ يَدُومُ عليَّ، فوعزَّتك مَا يُحَسِّنُ مُلْكِكَ إِحْسَانِي، وَلا تُقَبِّحُهُ إِسَاءَتِي، وَلا يُنْقِصُ مِنْ خَزَائِنِكَ غِنَايَ، وَلَا يُزِيدُ فِيهَا فَقْرِي. يَا مَنْ هُوَ هَكَذَا اسْمَعْ دُعَائِي وَأَجِبْ نِدَائِي، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَارْحَمْ غُرْبَتِي وَوَحْشَتِي وَوِحْدَتِي فِي قَبْرِي، هَا أَنَا ذَا يَا ربِّ بِرُمَّتِي. وَيَأْخُذُ بِتَلابِيبِهِ ثُمَّ يَرْكَعُ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: حَسَنٌ وَاللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. شُرُوح وتعليقات قَالَ القَاضِي: قَول مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَلَيْهِ السَّلام: " أسمعني كلَاما تكمشتُ لَهُ " أَي انقبضتُ مِنْهُ، يُقَال لما تغضَّن وتشنّج من الْفَاكِهَة وَغَيرهَا قد تكمّش فَهُوَ متكمّش. وَقَوله: " ذكر أبي بِكَلَام تقمّعت لَهُ " يُقال: قد تقمَّع الرجل وانقمعَ إِذا انخزلَ وانكسر. وَقَول عبد الْملك: " يَا لكع " يريدُ يَا عبد أَو يَا لئيم. وَقَوله " " وهراوة البقّار " يَعْنِي عصار الرَّاعِي الَّتِي يذودُ بِهَا الْبَقر، يُرِيد أَنَّهُ لَا يصلح إِلَّا لأداني الْأُمُور. وَمَا رواهُ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة من قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ السّلام فِي دَعَاهُ: " هَا أَنَا ذَا يَا ربٌ برمّتي " العربُ تَقُولُ: أَخذ فلَان كَذَا وَكَذَا برمَّته، يُرِيدُونَ أَخذه كلّه واستوفاهُ وَلم يُغادر شَيْئا مِنْهُ؛ وَكَذَلِكَ قَوْلهم أَخذه بأسره، والأسرُ الْقَيْد، وَبِه سُمّي الأسيرُ أَسِيرًا وَهُوَ الْآخِذ بِمعنى الْمَأْخُوذ، وَكَانُوا يشدّونه بالقدِّ إِذا

المجلس التاسع والتسعون

أسروه. وأمّا الرمة فالحبل الْبَالِي كَانُوا يشدُّون الْأَمْتِعَة بِهِ، وَمِنْه قَول ذِي الرّمة: أَشْعَث بَاقِي رمَّة التَّقْلِيد وَقيل: إنَّما سُمّي ذَا الرمَّة لقَوْله هَذَا، وَهُوَ غيلَان بن عقبَة، فأمَّا الرِّمَّة بِالْكَسْرِ فالعظمُ الْبَالِي، ويُقال: رمَّ الْعظم يرمّ وَهُوَ رَمِيم، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: والنيبُ إِن تعرُ مني رمَّةً خلقا ... بعد المماتِ فَإِنِّي كنتُ أتَّئر وَهَذَا من أَبْيَات الْمعَانِي ومعناهُ أَن النيب، وَهِي جمع نَاب، وَهِي النَّاقة المسنَّة، يُقالُ لَهَا ذَلِكَ كَأَنَّهَا لَمْ يبْق مرُّ السنين عَلَيْهَا إِلَّا نابًا كَمَا يُقال فلَان رَأس وَفُلَان بطن، وَمن الناب قَول جرير: لقد سرَّني أَلا تعدَّ مجاشعٌ ... من المجدِ إِلَّا عَقْرَ نابٍ بِصَوْأَرِ وَقَالَ أَيْضا: تعدونَ عَقر النيب أفضلَ مجدكم ... بَني ضوطرى لَوْلَا الكميَّ المقنعّا قَالَ: كَانَت تأكلُ عظامَ الْمَوْتَى طلبا لموحتها فَقَالَ هَذَا الشَّاعِر: إِن تَعْرُ منّي رمةً خَلَقًا، يريدُ إِن تأكلَ عِظَامِي بعد موتِي، فإنّي كنتُ أتئر أَي آخذ مِنْهَا بِثَأْرِي سلفا فِي حَياتِي، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرهَا للأضياف. وَقَوله: " أتَّئر " افتعل من الثأر وَأَصله اثتئر فقلبت الثَّاء تَاء وأدغمت فِي الَّتِي بعْدهَا، وَكَذَلِكَ مدَّكر أَصله مُذْتكر، ومظلّم أَصله مظتلم. وَلما وَصفنَا من الْقلب عِلّة هِيَ مرسومة فِي موضعهَا. وَمن الْعَرَب من يَقُول أثّتر بالثاء، ومذّكر بِالذَّالِ، ومطّلم بِالطَّاءِ إِلَّا أَن الْمُخْتَار أفْصح فِي الْقيَاس، وَالْأَشْهر فِي الرِّوَايَة مدّكر ومتئر ومظَّلم وَمثله مدّخر ومذّخر، قَالَ زُهَيْر بْن أَبِي سلمي يَمدحُ هرم بن سِنَان: هُوَ الجوادُ الَّذِي يُعطيكَ نائلةٌ ... عفوا وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فيظَّلم يُروى على الْوَجْهَيْنِ والظاءُ أشهرهما، وَالْمَشْهُور من الْقُرَّاء فِي قَوْل الله تَعَالَى: " فَهَلْ مِنْ مدَّكر " " الْقَمَر: 15، 17، 22، 32، 40، 51 " الدَّال، وَكَذَلِكَ وَله تَعَالَى: " وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ " " آل عمرَان:49 ". الْمَجْلِس التَّاسِع والتسعُون حَدِيثٌ الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَالِدٍ الْبَزَّازُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَاصِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأَنْبِيَاءُ إخوةٌ لعلاَّتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاس بِعِيسَى ابْن مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَهُوَ خَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي، وَهُوَ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ فَإِنَّهُ رجلٌ مربوعٌ يَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ، يَكَادُ رَأْسُهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بللٌ، يَمْشِي بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، يَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَفِيضُ الْمَالَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ

العلات والأخياف وصلة ذلك بالميراث

وَيُقَاتِلُ عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى تَهْلِكَ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا، فَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِي الأَرْضِ، فَتَرْعَى الإِبِلُ مَعَ الأُسُودِ، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ مَعَ الحيَّات فَلا تَضُرُّهُمْ شَيْئًا، فَيَلْبَثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يتوفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ ". العلات والأخياف وصلَة ذَلِكَ بِالْمِيرَاثِ قَالَ القَاضِي، قَالَ أَبُو بكر: قَوْله إخْوَة لعلاَّت، يَقُول العربُ هم إخْوَة لعَلَّات إِذا كَانَت أمهاتُهم مختلفاتٍ وأبوهم وَاحِد، فَإِذا كَانَ الآباءُ مختلفينَ والأمُ وَاحِدَة قيل: هم إخْوَة لآحاد. وَقَالَ بَعضهم: يُقال فِي هَذَا الْمَعْنى هم إخوةٌ لأخياف وإخوة لأعيان. وشتى معناهُ مختلفات. قَالَ القَاضِي: الْمَعْرُوف من كَلَام الْعَرَب أنَّهم يقولونَ للإخوة الَّذِينَ أبوهم وَاحِد وأمهاتهم شتَّى بَنو العلاتِ كَمَا قَالَ الشَّاعِر: والناسُ أولادُ علاَّت فَمن علمُوا ... أنْ قَدْ أقلَّ فمحقورٌ ومهجورُ وهم بَنو الْأُم أمّا إنْ رَأَوْا نَشَبًا ... فذاكَ بالغيبِ محفوظٌ ومنصورُ فَإِذا كَانَت الْأُم وَاحِدَة والآباءُ مختلفينَ فهم الأخيافُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: أَفِي الشدائد أخيافًا لواحدةٍ ... وَفِي الولائمِ أَوْلَادًا لعلاَّت ويُقالُ للْفرس إِذا كَانَت إِحْدَى عَيْنَيْهِ زرقاء وَالْأُخْرَى محلاء أخيف. وَإِذا كَانَ أَبُو الْإِخْوَة وَاحِدًا وأمهم وَاحِدَة فهم الْأَعْيَان. وَجَاء عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَعْيَانُ بَنِي الأُمِّ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بَنِي الْعَلاتِ ". وَقد استدلَّ بِهَذَا الحَدِيث بعضُ من ذهبَ إِلَى قَول عبد الله بن مَسْعُود وَمن قَالَ مثل قَوْله من الْخلف وَالسَّلَف فِي ابْني عمٍّ أَحدهمَا أخٌ لأم أنَّ المالَ كلَّه لِابْنِ الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم دون الآخر، وَحمله مخالفوهم على أَنَّهُ جَاءَ فِي الْأَخ للْأَب وَالأُم، وَالْأَخ للْأَب، وَجَمَاعَة غَيرهم من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين. ولكلُّ فريق مِنْهُم عللٌ يوردونها وحججٌ يأْتونَ بِهَا، وَقد رسمناها فِي موَاضعهَا من كتبنَا، وَذكرنَا مَا نختاره مِنْهَا. مزِيد من التَّفْسِير وَالتَّعْلِيق قَالَ ابْن الأَنْبَارِيّ فِي الْخَبَر الَّذِي قدمنَا رِوَايَته عَنْهُ، وَقَوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يمشي بَين مُمَصَّرَتَيْنِ " معناهُ بَين شقتين فيهمَا صفرةٌ يسيرَة، والممشَّق عِنْد الْعَرَب المصبوغُ بالمغرة، والمغرة يُقال لَهَا الْمشق. قَالَ القَاضِي: قَول النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وتهلكُ فِي زَمَانه الْملَل كلُّها " صريحُ البيانِ على أنَّ اليهودَ وَالنَّصَارَى والمجوسَ وسائرَ الْمُشْركين ذَوُو مللٍ مُخْتَلفَة وَلَيْسوا أهلَ ملةٍ وَاحِدَة، وَإِن جَمَعَهُم الْكفْر، وَأَنه لَا توارث بن أحدٍ مِنْهُم وَمن هُوَ على غير مِلَّته، لقَوْل النَّبِيّ: " لَا يتوارث أهل ملتين شَتَّى "؛ وَقد روينَا هَذَا القَوْل عَن الْحَسَن وَمَالك وَأبي عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ وَبِه نقُول. وَكَانَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يرونَ الْكفْر كلَّه مِلَّة وَاحِدَة ويوقعون التوارثَ بَينهم، وَإِلَيْهِ يذهب أصحابُ الشَّافِعِي، وَهَذَا قولٌ فَاسد، وشرحُ الْبَيَان عَن هَذَا الْبَاب

هبوط عيسى ابن مريم

مرسومٌ فِي مَوْضِعه. هُبُوطُ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن الْهَيْثَمِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يهْبط عِيسَى ابْن مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرقيَّ دِمَشْقَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَفِظْنَاهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بِالدَّالِ وَتَفْسِيرُهُ بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ. حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ هُبُوطِ عِيسَى وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْقَاسِم قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَرَتَائِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ هَيْثَمُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْرَقُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ يَحْيَى - قَالَ أَبُو مَرْوَانُ: وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى حِمْصَ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يهْبط عِيسَى ابْن مَرْيَمَ بَيْنَ مَهْرُوذَتَيْنِ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَفِظْنَاهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالذَّالِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، يَعْنِي بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ. مَعَاني الصير قَالَ أَبُو بكر: فَهَذَا مِمَّا فسر فِي الحَدِيث بِما لَا يُعرف إِلَّا مِنْهُ كالحروف الَّتِي جَاءَت مفسَّرةً فِي الحَدِيث، مِنْهَا: من اطَّلع فِي صير بَاب فقئت عينه فَهِيَ هدر. وَمِنْهَا أَن سالِم بن عبد الله رأى رجلا مَعَه صيرٌ فذاقَ مِنْهُ فَقَالَ: كَيفَ تبيعه؟ فالصيرُ الأول الشقّ، وَالثَّانِي الصحناة. وَمِنْهَا أَن عمر رضوَان الله عَلَيْهِ سَأَلَ المفقودَ الَّذِي استهوته الْجِنّ مَا شرابهم؟ فَقَالَ: الجدف، ففسَّلا هُوَ نَبَات بِالْيمن لَا يحْتَاج اليذ يَأْكُلهُ أَن يشرب عَلَيْهِ، ويُقال هُوَ كل مَالا يذكر الله عَلَيْهِ من الْآنِية والأشربة. وَمِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْأَمريْنِ من السقا والثُّقا، تَفْسِير الثّقا الْحُرْف " قيل: هُوَ الرشاد "؟ قَالَ القَاضِي: جعل أَبُو بكر ابْن الأَنْبَارِيّ الصير مِمَّا لَا يُعْرَفُ تَفْسِيره إِلَّا فِي الحَدِيث الَّذِي جَاءَ تَفْسِيره فِيهِ، فَذكر هَذَا أَبُو بكر على سَعَة حفظه وإتقانه وَضَبطه، وَكَانَ يذهبُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت أشياءُ ظاهرةٌ مَعْلُومَة وينكرها مَعَ اشتهارها، فأخذنا عَنهُ راويتها بأسانيدها؛ على أننا لَمْ نر فِي من يشار إِلَيْهِ بِحفظ الرِّوَايَات والآداب أحسنَ مِنْهُ حفظا، وَلكنه بشرٌ يجْرِي عَلَيْهِ من السَّهْو وَالنِّسْيَان مَا يَعْرَى من مثله الإِنْسَان. والصيرُ معروفٌ مَشْهُور، فأمّا الصير الَّذِي أَتَى فِي حَدِيث الِاطِّلَاع ففسر بِأَنَّهُ الشق فقد أصابَ مفسره الْمَعْنى أَو قاربه. فأمّا الصحناة فتسميتها صيرًا مِمّا يعرفهُ أهل الْعلم، وَقد ذكره قومٌ من أهل الْفِقْه وَغَيرهم، وأصلُ الصير الَّذِي بدأنا بِذكرِهِ عِنْدِي الحدّ، وَقد جَاءَ فِي الشّعْر مَا يشْهد بِهذا ويدلُّ عَلَيْهِ، قَالَ زُهَيْر:

يسمى الولد عليا ويكنيه أبا الحسن

وَقد كنت من سلمى سِنِين ثَمانيًا ... على صِيرِ أمرٍ مَا يمرُّ وَمَا يَحْلو يُسَمِّي الْوَلَدَ عَلِيًّا وَيُكَنِّيهِ أَبَا الْحَسَنِ فَيَعْرِضُ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهِ جَائِزَةً إِنْ غَيَّرَهُمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الربعِي قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى بْنِ الْمَنْصُورِ قَالَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ قَالَ، حَدثنِي أَي وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وُلِدَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَسَمَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلِيًّا وكناه أبي الْحَسَنِ، وَوُلِدَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام غلامٌ فسمَّاه عَلِيًّا وَكَنَّاهُ بِأَبِي الْحَسَنِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فوجَّه إِلَيْهِمَا أَنِ انْقُلا اسْمَ أَبِي تُرَابٍ وَكُنْيَتَهُ عَنِ ابْنَيْكُمَا وَسَمِّيَاهُمَا بِاسْمِي وَكَنِّيَاهُمَا بِكُنْيَتِي، ولكلِّ واحدٍ مِنْكُمَا أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ عَلَيْهِمَا بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ سَارَعَ إِلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فسمَّى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ وَأَخَذَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ أَبَى ذَلِكَ وَقَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْن أبي طَالِب عَلَيْهِ السّلام عَنِ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَا من قومٍ يَكُونُ فِيهِمْ رجلٌ صالحٌ فَيَمُوت فيخلّف فيهم مَوْلُود فيسمونه إِلا خَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِالْحُسْنَى "، وَمَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا. فَأَتَى الرَّسُولُ مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ بِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فردَّ الرَّسُولَ وَقَالَ: فَانْقُلْ كنيته عَن كنيته وَلَك خَمْسمِائَة أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ قَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ وَكَنَّاهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ. مقتل أبي مُسلم وَكَيف تَم حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عمر بن عَرَفَة الأَزْدِيّ قَالَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاس المنصوري قَالَ: لَمَّا قتل الْمَنْصُور أَبَا مُسْلِم قَالَ: رَحِمك اللَّه أَبَا مُسلم، فَإنَّك بايعتنا وبايعناك، وعاهدتنا وعاهدناك، ووفيتَ لنا ووفينا لَك، فَإنَّك بايعتنا على أَنَّهُ من خرج علينا قَتَلْنَاهُ، وَأَنَّك خرجت علينا فقتلناك، وحكمنا لَك حكمك لنا على نَفسك. قَالَ: وَلما أَرَادَ الْمَنْصُور قَتله دسَّ رجَالًا من القواد مِنْهُم شبيب بن واج وتقدَّم إِلَيْهِم فَقَالَ: إِذا سمعتهم تصفيقي فاخرجوا إِلَيْهِ فَاضْرِبُوهُ. فَلَمَّا حضر حاوره طَويلا حَتَّى قَالَ لَهُ فِي بعض قَوْله: وَقتلت وُجُوه شِيعَتِنَا فلَانا وَفُلَانًا، وَقتلت سُلَيْمَان بن كَثِير، وَهُوَ من رُؤَسَاء أنصار دولتنا، فقتلت لاهزًا، قَالَ: إنَّهم عَصَوْنِي فقتلتهم، وَقد كَانَ قبل ذَلِكَ قَالَ الْمَنْصُور لَهُ: مَا فعل سيفان بَلغنِي أَنّك أخذتهما من عبد الله بن عَليّ؟ قَالَ: هَذَا أَحدهمَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، يَعْنِي السيفَ الَّذِي هُوَ متقلّدٌ بِهِ. قَالَ: أرنيه، فَدفعهُ إِلَيْهِ فَوَضعه الْمَنْصُور تَحت مُصَلَّاهُ وسكنت نَفسه. فلمّا قَالَ مَا قَالَ، قَالَ الْمَنْصُور: يَا للعجب أتقتلهم حِين عصوكَ وتعصيني أنتَ فَلَا أَقْتلك؟! ثُمَّ صفق فَخرج الْقَوْم وبدورهم إِلَيْهِ شبيبٌ فَضَربهُ فَلم يزدْ على أَن قَطَعَ حمائلَ سَيْفه. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: اضربه قطع الله يدك، فَقَالَ أَبُو مُسلم: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ استبقن لعدوّك قَالَ: وأيُّ عدوٍّ أعدى مِنْك؟ فضربوهُ بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى قطعوهُ

خطبة المنصور بعد قتل أبي مسلم

إربًا إربًا. فَقَالَ الْمَنْصُور: الحمدُ لله الَّذِي أَرَانِي يَوْمك يَا عدوَّ الله. واستؤذنَ لعيسى بن مُوسَى. فلمّا دخلَ وَرَأى أَبَا مُسلم على تِلْكَ الْحَال، وَقد كَانَ يكلم الْمَنْصُور فِي أمره لعناية كَانَت مِنْهُ بِهِ، استرجعَ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: احْمَد اللَّه فَإنَّك إنّما هجمتَ على نعمةٍ وَلم تهجم على مُصِيبَة، فَفِي ذَلِكَ يَقُول أَبُو دلامة: أَبَا مجرمٍ مَا غيَّر الله نعْمَة ... عَلَى عَبده حَتَّى يغيِّرها العَبْدُ أَبَا مجرمٍ خوفتني الْقَتْل فانتحى ... عليكَ بِمَا خَوَّفْتِني الأسَدُ الوَرْدُ خطْبَة الْمَنْصُور بعد قتل أبي مُسلم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى الصولي بإسنادٍ لَمْ يحضرني فِي هَذَا الْوَقْت ذكره لخَبر الْمَنْصُور وقتلِهِ أَبَا مُسلم، ثمَّ حَدَّثَنَا أَيْضا بِإِسْنَاد هَذِه صفته قَالَ: خطبَ لَمنصورُ الناسَ بعد قتلِ أبي مُسلم فَقَالَ: أيُّها النَّاس لَا تَخرجوا من أُنْسِ لطاعةِ إِلَى وَحْشَة الْمعْصِيَة، وَلَا تَمشوا فِي ظلمَة الْبَاطِل بعد سعيكم فِي ضِيَاء لحقّ. إِن أَبَا مُسلم أحسن مبتديًا وأساءَ معقبًا. وأخذَ من النَّاس بِنَا أَكثر مِمَّا عطانا، ورجحَ قَبِيح بَاطِنه على حَسَنِ ظَاهره، وَعلمنَا من خَبِيث سَرِيرَته وَفَسَاد نيَّته مَا لَو علمه اللائمُ لنا فِيهِ لعذرنا فِي قَتله، وعنَّفنا فِي إمهاله. وَمَا زَالَ ينْقض بيعَته ويحفر ذمَّته حَتَّى أحلَّ الله لنا عُقُوبَته وأباحنا دَمه، فحكمنا فِيهِ حُكمَهُ فِي غَيره، ولَم يَمنعنا الحقُّ لَهُ من إِمْضَاء الحقِّ فِيهِ، وَمَا أحسن مَا قَالَ النَّابِغَة الذبياني فِي النُّعْمَان: فَمن أطاعكَ فانفعْهُ بطاعتِه ... كَمَا أطاعكَ وادْلُلْهُ على الرَّشد وَمن عصاكَ فعاقِبْهُ معاقبةً ... تَنْهَى الظلومَ وَلَا تَقْعُدْ على ضَمَد ثُمَّ نزل: خطْبَة أُخْرَى للمنصور بعد قتل أبي مُسلم حَدَّثَنَا الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوب بن جَعْفَر عَن أَبِيه قَالَ: خطبَ الناسَ المنصورُ بعد قتل أبي مُسلم فَقَالَ: أيُّها النَّاس لَا تنفّروا أطرافَ النعمةِ بقلة الشُّكْر فتحلَّ بكم النقمَة، وَلَا تسرُّوا غشَّ الْأَئِمَّة، فَإِن أحدا لَا يسرُّ مُنْكرا إِلَّا ظهر فِي فَلَتاتِ لِسَانه وصفحاتِ وَجهه وطوالِعِ نظره. وإنَّا لن نجهلَ حقوقكم مَا عَرَفْتُمْ حقَّنا، وَلَا ننسى الْإِحْسَان إِلَيْكُم مَا ذكرْتُمْ فضلنَا، وَمن نازعنا هَذَا القميعص أوطأنا أم رَأسه خبيء هَذَا الغمد. وَإِن أَبَا مُسلم بَايع لنا على أَنَّهُ من نكثَ بيعتنا وأضمر غشَّاً لنا فقد أباحنا دَمه، ثُمَّ نكث وغدر، وَكفر وفجر، فحكمنا عَلَيْهِ لأنفسنا حُكْمَهُ على غَيره. كِتَابٌ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يحيى الصولي قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ، حَدثنِي عَليّ بن بْنُ الْمَغَانِيِّ قَالَ: كَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ حِينَ اسْتَوْحَشَ مِنْهُ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ كُنْتُ اتَّخَذْتُ أَخَاكَ إِمَامًا، وَجَعَلْتُهُ عَلَى الدِّينِ دَلِيلا لِقَرَابَتِهِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي

معنى حتف أنفه

زَعَمَ أَنَّهَا صَارَتْ إِلَيْهِ، فَأَوْطَأَنِي عَشْوَةَ الضَّلالَةِ، وَأَوْهَقَنِي فِي رِبْقَةِ الْفِتْنَة، وَأَمرَنِي أَنْ آخُذَ بِالظَّنَّةِ وَأَقْتُلَ عَلَى التُّهْمَةِ وَلا أَقْبَلَ الْمَعْذِرَةَ، فَهَتَكْتُ بِأَمْرِهِ حرماتٍ حَكَمَ اللَّهُ بِصِيَانَتِهَا،، وَسَفَكْتُ دِمَاءً فَرَضَ اللَّهُ حَقْنَهَا، وَزَوَيْتُ الأَمْرَ عَنْ أَهْلِهِ، وَوَضَعْتُهُ مِنْهُ فِي غَيْر مَحَلِّهِ. فَإِنْ يَعْفُ اللَّهُ عَنِّي فبفضلٍ مِنْهُ، وَإِنْ يُعَاقِبْ فَبِمَا كَسَبَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ بِظَلام لِلْعَبِيدِ. ثُمَّ أَنْسَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا حَتَّى جَاءَهُ حَتْفُ أَنْفِهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَذَكَرَ مِثْلَ الْمُتَقَدِّمِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. معنى حتف أَنفه قَالَ القَاضِي: قَول هَذَا الْقَائِل: " حَتَّى جَاءَهُ حتف أَنفه " يَنْبَغِي أَن يكونَ على قَول أهلِ الْعلم خطأ من قَائِله، وَذَلِكَ أنَّهم ذكرُوا أَنَّهُ يُقالُ لِمَنْ لَمْ يُقْتَلْ وَمَات على فرَاشه: " مَاتَ حتف أَنفه، وَمَات حتف أنفيه ". وَذكر بعضُ الْمُتَقَدِّمين فِي علم اللُّغَة وَأهل الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ أَن هَذَا مِمَّا أَتَى فِي أَلْفَاظ مَعْدُودَة تكلَّم بِهَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجدوا سَابِقًا إِلَيْهَا غَيره، وَأَبُو مُسلم على هَذَا لَمْ يَأْته حتفُ أَنفه، وإنَّما كَانَ بنسيانه عَظِيم جِنَايَته على نَفسه وتعرّضِهِ لما لَهَا قبلَ لَهُ بِهِ وطمعِهِ فِي الْأَمْن مِمَّا الخوفُ مِنْهُ أولى بِهِ، فَتوجه إِلَى جَبَّار من الْمُلُوك قد وتره، وأسرفَ فِي خطابه الَّذِي كَاتبه بِهِ، مَعَ مَا كَانَ مِنْهُ مِمَّا اضطغنه هَذَا الْملك عَلَيْهِ، واسترسلَ فِي إتْيَان حَضرته، وأضاعَ وَجه الحزم، واستأنسَ للخصم، وسلَّم عدَّته الَّتِي كَانَ يَحمي بِهَا نَفسه إِلَى من أَتَى عَلَيْهَا وفجعه بِهَا، فَقتله أفظعَ قتلة. فَكيف يُقالُ فِيهِ جَاءَهُ حتفُ أَنفه مَعَ مَا بيَّنَّاه من معنى هَذِه الْكَلِمَة واختصاصها بِما تختصُّ بِهِ. وبيِّن أَن قَوْلهم " مَاتَ حتف أَنفه " مخالفٌ فِي الْمَعْنى قَوْلهم " قتل " قَول السمأل بن عادياء: وَمَا مَاتَ منا سيّدٌ حتفَ أَنفه ... وَلَا طلَّ منا حَيْثُ كَانَ قتيلُ وَهَذَا فِي دلَالَته على الْفَصْل بِمنزلة قَول الْعَامَّة: " مَاتَ فلَان على فرَاشه " ليفصلوه مِمّن قتل. وَلَو كَانَ هَذَا القائلُ فِي هَذَا الْموضع قَالَ " حَتَّى جَاءَهُ حتفه أَو منيته، أَو حتف نَفسه "، أَوْ مَا أشبه هَذَا من الْأَلْفَاظ المنبئة عَن هَذَا الْمَعْنى، لوصل إِلَيْهِ بغيته وأصابَ فِي الْعبارَة عَمَّا قصد لَهُ، وَسلم من تخطئة أهل الْعلم لَهُ. الْمهْدي يَسْتَدْعِي مولى فائد ليُغَنِّيه صَوتا معينا حدَّثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْن أبي طَاهِر قَالَ، حَدَّثَنِي حَمَّاد بْن إِسْحَاق عَن أَبِيه قَالَ، حَدَّثَنِي الرّبيع بن الْفضل قَالَ: أَمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ المهديُّ بالتقدُّم إِلَى خَليفَة الْعَامِل على الْبَاب أَن يكتبَ إِلَى صَاحبه كتابا عَن نَفسه فِي إشخاص أبي سعيد مولى فائد، فَلم يَك شَيْء حَتَّى وافى أَبُو سعيد فَأدْخلهُ خليفةُ الْعَامِل عليَّ. فتوهّمت عِنْد نَظَرِي إِلَيْهِ أنّه قَاضِي الْحَرَمَيْنِ، فدخلتُ من سَاعَتِي إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وأعلمته، فَأمرنِي بِصَرْف النَّاس وإدخاله. قَالَ: فقرّب أميرُ الْمُؤمنِينَ مَجْلِسه وأحفى سؤالَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: غنني أَبَا سعيد:

عرار رسول الحجاج إلى عبد الملك

لقد طفتُ سَبْعًا قلتُ لما قضيتها ... أَلا ليتَ سعيي لَا عليَّ وَلَا ليا وإنَّ الَّذِي يَبْغِي رضايَ بذكرها ... لأكرمُ من أَهلِي عليَّ وماليا فَقَالَ: وأغنيك أحسنَ مِنْهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، جعلني الله فدَاك. قَالَ: أَنْت وَذَاكَ، فَغَنّاهُ: قدم الطويلُ فأشرقت واستبشرت ... أرضُ الحجازِ وَبَان فِي الأسحار غيث الحيا وضياءُ كلِّ مُلمَّة ... سهل القيادِ ومألفُ الزوّار قَالَ القَاضِي: فأجاده وَأحسنه، غير أَن الْمهْدي قَالَ: هَذَا حسن وَلَكِن غنني " لقد طفت سبعا " قَالَ لَهُ: وأحسنُ مِنْهُ، جعلني الله فدَاك. قَالَ لَهُ: أَنْت وَذَاكَ، فغناه: إنَّ هَذَا الطَّوِيل من آل حفصٍ ... نشر الجودَ بَعْدَمَا كَانَ مَاتَا وَبنى المجدَ مُشْبهًا لِأَبِيهِ ... مثلَ مَا يشبهُ النباتُ النباتا قَالَ القَاضِي: هَكَذَا رواهُ، وأنشر أفْصح. فأحسنه وأجاده، فَقَالَ الْمهْدي: وَيحك يَا أَبَا سعيد، مَا تركتُ فِي إحسانٍ مزيدًا وَلَكِن غنّني: " لقد طفتُ سبعا " فغنّاه: إنَّ الطويلَ من آل حفصٍ فاعملوا ... سَاد الْحُضُور وساد فِي الْأَسْفَار قَالَ، فَقَالَ لَهُ الْمهْدي: أَنْت تحسنُ يَا أَبَا سعيد، وَلَكِن لَيْسَ تغنيني الَّذِي أشتهي. فَقَالَ لَهُ الْفضل منتهرًا، غنِّ أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا يَأْمُرك بِهِ. فَقَالَ أَبُو سعيد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا وَالَّذِي أكرمك بخلافته مَا لي إِلَى ذَلِكَ سَبِيل. قَالَ: وَكَيف؟ قَالَ: لِأَنِّي رأيتُ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَام، وَكَانَ فِي يَده شَيْء، فَأَهوى إليّ ليضربني بِهِ وَهُوَ يَقُول: لقد طفتُ سبعا، مَاذَا صنعتَ يَا بني؟ فقلتُ: اعفُ عَنِّي، فوباعثكَ بالحقِّ لَا غنَّيت هَذَا الصوتَ أبدا. قَالَ: فردَّه عني وَقَالَ: عَفا الله عَنْك. فرأيتُ الْمهْدي يبكي وتغلبُهُ دموعُهُ وَهُوَ يكفُّها، ثُمَّ وَصله وَصَرفه. عرار رَسُول الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبُو بكر الْبَزَّاز قَالَا، حَدَّثَنَا أَبُو العيناء قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: كتب الْحجَّاج إِلَى عبد الْملك كتابا ووجَّه بِهِ مَعَ رَسُوله. فَجعل عبد الْملك يقرأُ الكتابَ ويستنشي الخبرَ من الرَّسُول فيجدُ شَرحه أشفى من كتاب الْحجَّاج، وَكَانَ أسود، فَأَنْشَأَ عبد الْملك يَقُول: وَإِن عرارًا إنْ يكنْ غيرَ واضحٍ ... فَإِنِّي أُحبّ الجَوْنَ ذَا المنكبِ العَمَمْ فَقَالَ الرَّسُول: أَنا عرار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَأبي قَالَ فيَّ هَذَا الشّعْر، فأُعجبَ بذلك عبد الْملك. مُعَاوِيَةُ يَعِيبُ أَهْلَ الْيَمَنِ فَيَعِيبُ الْيَمَنِيُّ قَوْمَ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْكِلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ، حَدَّثَنَا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: مَا كَانَ أَجْهَلَ قَوْمَكَ حَيْثُ قَالُوا: " ربَّنا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا " سبأ:19 " وَحَيْثُ مَلَّكُوا أَمْرَهُمُ

المجلس المائة وبه تمام المجالس

امْرَأَةً. فَقَالَ: أَجْهَلُ مِنْهُمْ قَوْمُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ " الْآيَة " الْأَنْفَال:32 " أَلا قَالُوا: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَاهْدِنَا لَهُ. تَمّ الْمجْلس بِحمد الله وَحسن توفيقه. الْمجْلس الْمِائَة وبهِ تَمامُ المجالِس زَكَاةُ الرَّأْسِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ الْعَطَّارُ قَالَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بن مُحَمَّد بن كزال البزازقال، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى يَعْنِي الْمَرْوَزِيَّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ، قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: مَا سُنَّةُ الْفِطْرَةِ فَقَالَ: سَأَلَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ إِنَّ أُمَّتِي يُكَذِّبُونَ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَخَافُ أَنْ يَرِدُوا عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يتمَّ صَوْمُهُمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مُرْهُمْ فَلْيُعْطُوا كلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ برٍّ يَكُونُ كفَّارة لِذُنُوبِهِمْ فِي صَوْمِهِمْ حَتَّى تُعْتَقَ رِقَابُهُمْ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هِيَ زَكَاةُ الرَّأْسِ نَجَاةٌ مِنَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ أحبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ مَخْلَدٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَلَكِنْ فِيهِ تَرْغِيبٌ، وَأْسَأْلُ اللَّهَ السَّلامَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ رَجُلٌ ضَعِيفٌ وَأَبُوهُ أَيْضًا. هَلْ ضعف الرَّاوِي يَجْعَل الحَدِيث ضَعِيفا قَالَ القَاضِي: الَّذِي ذكره ابْن مخلد من تَضْعِيف إِسْمَاعِيل بن يَحْيَى رَاوِي هَذَا الحَدِيث على مَا ذكر عِنْد أهل صناعَة الحَدِيث. وَكثير من العامَّة وَمن لَا نظرَ لَهُ من النقلَة يظنّ أنَّ مَا ضعف رَاوِيه فَهُوَ باطلٌ فِي نَفسه مقطوعٌ على إِنْكَاره من أَصله، وَهَذَا جهلٌ مِمّن ذهبَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَن رَاوِيا مَعْرُوفا بِالْكَذِبِ فِي رواياته لَو روى خَبرا انْفَرد بِهِ مِمَّا يُمكن أَن يكون حقًّا وَأَن يكون بَاطِلا لوَجَبَ التَّوَقُّف عَن الحكم بِصِحَّتِهِ وَالْعَمَل بِما تضمنه، وَلم يجز الْقطع على تَكْذِيب رَاوِيه وَالْحكم بتكذيب مَا رواهُ. مبلغ زَكَاة الْفطر فأمَّا تَقْدِير مَا يخرج من زَكَاة الْفطر من الْبر بِأَنَّهُ نصفُ صاعٍ فقد رُوِيَ هَذَا الْمِقْدَار عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جهاتٍ متواترة وبأسانيد متظاهرة، وَهُوَ القَوْل المستفيض فِي الصحاة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء السّلف من الْمُسلمين، وَإِلَيْهِ يذهبُ أَئِمَّة الْفُقَهَاء الْعِرَاقِيّين وَغَيرهم من الْمُفْتِينَ، وَبِه نقُول. وَكَانَت طَائِفَة كَبِيرَة الْعدَد ترى أَن مَا يخرج فِي صَدَقة الْبُرّ بِمنزلة مَا يخرج فِيهَا من التَّمْر، ومِمّن ذهبَ إِلَى هَذَا مالكٌ والشافعيّ، الّذي يخْتَار إِخْرَاج صاعٍ مِمن وجد سَعَة من غير أَن توجب عَلَيْهِ أَكثر من ذَلِكَ. وَقد بينّا مَا يجب إِخْرَاجه فِي هَذِه

معنى بيت يفسره الأصمعي

الصَّدَقَة من أَنْوَاع الأقوات، وَذكرنَا اخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِكَ والاحتجاجَ لكلّ ذِي مَذْهَب فِيهِ وَعَلَيْهِ فِي موَاضعه من كتبنَا فِي الْفِقْه مشروحًا ملخّصًا. معنى بَيت يفسره الْأَصْمَعِي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْحَسَن بْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْد الرَّحْمَن عَنْ عَمه الْأَصْمَعِي أَن رجلا وقفَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَن معنى هَذَا الْبَيْت: وماذا عَلَيْهَا من قلوصٍ تمرَّغت ... بعِكمين أَو أَلقتهما بالصحاصحِ فَقَالَ لَهُ عمي: هَذَا الرجلُ كَانَ مُفردا، وَكَانَت عِنْده امرأةٌ فطلَّقها ونكحَ أُخْرَى، فَلَقِيت الْمَرْأَة الأولى صاحبًا للرجل فَقَالَت: مَا فعلتْ صاحبةُ فلَان؟ قَالَ: هِيَ كَمَا يحبّه، فَقَالَت: كلا لقد تمرّغت بعكمين أَي سَاءَ خُلُقها عَلَيْهِ وكرهته، فَبلغ ذَلِك الرجل، وَكَانَ اسْمه الْمَرْأَة الأولى أَسمَاء، فَقَالَ: نعرَّض أسماءُ الركابَ عشيَّةً ... تسائل عَن ضِغْنِ النساءِ النواكح وماذا عَلَيْهَا من قلوصٍ تمرَّغت ... بعِكمين أَو ألقتهما بالصحاصح وَهَذَا مثلٌ، وَلَيْسَ هُناكَ قلوصٌ وَلَا عكمان. مصير مُسَافر بن عَمْرو وَحَدَّثَنَا ابْن دُرَيْد قَالَ، أَخْبَرَنَا السكن بْن سَعِيد عَنْ مُحَمَّد بْن عَبّاد عَن هِشَام بن مُحَمَّد قَالَ: كَانَ مُسَافر بن أبي عَمْرو بن أُميَّة بن عبد شمس من فتيَان قُرَيْش جمالا وسخاءً وشعرًا. فعشق هِنْد بنت عتبَة حَتَّى شُهِرَ أَمرهمَا، فاستحيا وَخرج إِلَى الْحيرَة ليسلوها. فنادم عَمْرو بن هِنْد، وَكَانَ لَهُ مكرمًا؛ ثُمَّ إِن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب تزوَّج هندًا فِي غيبةِ مُسَافر هَذِه. وَخرج أَب سُفْيَان إِلَى الْحيرَة تَاجِرًا، فلقي مُسَافر بن أبي عَمْرو فَسَأَلَهُ عَن مَكَّة وأخبار قُرَيْش، فخبره من ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وإنّي تزوّجتُ هِنْد ابنةَ عتبَة. فأسفَ مُسَافر من ذَلِكَ ومرضَ حَتَّى سُقي بَطْنه، وَقَالَ: أَلا إِن هندًا أَصبَحت مِنْك مَحرَما ... وأصبحتَ من أدنى حموّتها حما وأصبحتَ كالمسلوبِ جفنَ سلاحِهِ ... يقلِّب بالكفّين قوسًا وأسهما فَدَعَا عَمْرو بن هِنْد الأطباءَ فَسَأَلَهُمْ عَن حَاله فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ دَوَاء إِلَّا الكيّ، فَقَالَ لَهُ: مَا ترى؟ قَالَ: افْعَل. فَدَعَا لَهُ طَبِيبا من الْعِباد فأَحْمى مكاويه حَتَّى صَارَت كالنار، ثُمَّ قَالَ: أمسكوهُ لي، فَقَالَ لَهُ مُسَافر: لستُ أحتاج إِلَى ذَلِكَ. فَجعل يضعُ عَلَيْهِ المكاوي، فلمّا رأى الطبيبُ صبره هاله ذَلِكَ، فَقَالَ مُسَافر: قد يَضْرِطُ العَيْر والمكواة فِي النَّار، فأرسلها مثلا. قَالَ: فَلم يغنه ذَلِكَ شَيْئا. فَخرج يريدُ مَكَّة فأدركه الْمَوْت بزبالة، فَدفن بِهَا ونعي إِلَى أهل مَكَّة، وَكَانَ أَبُو طَالب ابْن عبد الْمطلب لَهُ نديمًا، فَقَالَ يرثيه:

الرمان والزيتون

لَيْت شعري مسار بن أبي عَم ... روٍ وليتٌ يَقُولهَا المحزونُ كيفَ كَانَت مرَارَة الْمَوْت فِي فِي ... ك وماذا بعد المماتِ يكون رَجَعَ الْوَفْد سَالِمين جم يعاً ... وخليلي فِي مرمسٍ مدفونُ ميت صدقٍ على هبالة قد حا ... لت فيافٍ من دونه وحزون مروةٌ تدفعُ الخصومَ بأيدٍ ... وبوجهٍ يزينهُ الْعرنِين بوركَ الميّتُ الْغَرِيب كَمَا بور ... ك نَضْحُ الرمَّان وَالزَّيْتُون الرُّمَّان وَالزَّيْتُون قَالَ القَاضِي: وَالْمَشْهُور من الرِّوَايَة فِي هَذَا الْبَيْت " كَمَا بورك نَضْرُ الرُّمَّان وَالزَّيْتُون "، وَذكر الرُّمَّان وَالزَّيْتُون لتقدّمهما فِي أنواعهما وَعظم منافعهما وسعة الِانْتِفَاع بأصولِهما وفروعهما. وورق هَاتين الشجرتين من أقوى الْأَشْيَاء اشتباهًا وكلُّ واحدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ صَاحبه، وَبَين ثَمرتيهما من الِاخْتِلَاف والتفاوت مَا لَا يخيل، وَذَلِكَ من بديع حِكْمَة الله تَعَالَى وإتقان صَنعته ولطيفِ قدرته. وَقد قَالَ الله حجلّ ثَنَاؤُهُ: " وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كلِّ شيءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخل مِنْ طَلْعِهَا قنوانٌ دانيةٌ وجنَّاتٍ مِنْ أعنابٍ والزَّيتون والرَّمان متشابهاً وَغير متشابهٍ " " النعام:99 ". فَهُوَ مشتبه فِي ورقة غير متشابه فِي أَنْوَاعه وطعومه وَصُورَة ثَمرته، فسبحانَ الحكيمِ فِي تَدْبيره، المحسن فِي تَقْدِيره، الْمُنعم على خلقه، والنّاظر لَهم بسبوغ رزقه. تَمام الْخَبَر السَّابِق رَجعْنَا إِلَى الْخَبَر: قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ، قَالَ الشَّرْقِي بن الْقطَامِي: البيتان الأوّلان لِهشام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي، وَكَانَت عِنْده أَسمَاء بنت مخربة النهشلية، فَولدت لَهُ أَبَا جهل والْحَارث، فَغَضب عَلَيْهَا فِي أمرٍ من الْأُمُور فَجَعلهَا كَظهر أمّه، وَهُوَ أول ظهارٍ كَانَ فِي الْعَرَب، فَجَعَلته قُرَيْش طَلَاقا. فَأَرَادَتْ أسماءُ الرحلةَ إِلَى أَهلهَا، فَقَالَ لَهَا هِشَام: أَيْن الْموعد؟ فَقَالَت: الْمَوْسِم، فَقَالَ لَهَا ابناها أَبُو جهل والْحَارث أقيمي مَعنا، فأقامت. فَقَالَ لَهَا الْمُغيرَة: لأزوجنّك غُلَاما لَيْسَ بِدُونِ ابْني هِشَام، فزوَّجها ابْنه أَب ربيعَة، فَولدت لَهُ عبد الله وعياشًا، فَذَلِك قَول هِشَام بن الْمُغيرَة: أَلا زعمتْ أسماءُ أنْ سَوف نَلْتَقِي ... أحاديثَ طسمٍ إِنَّما أَنْت حالِمُ وَقَالَ: أَلا أَصبَحت أَسمَاء حجرا محرّمًا " الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلين ". وُفُود أم سِنَان المذحجية على مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بن مُحَمَّد سَعِيدٍ الْكَلْبِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْغَلابِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا

الْعَبَّاس بْن بكار قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدِينِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ: حَبَسَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ غُلامًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ فِي جِنَايَةٍ جَنَاهَا بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَتْهُ جَدَّةُ الْغُلامِ أمُّ أَبِيهِ، وَهِيَ أُمُّ سِنَانٍ بِنْتُ خَيْثَمَةَ بْنِ خَرَشَةَ الْمَذْحِجِيَّةُ، فَكَلَّمَتْهُ فِي الْغُلامِ فَأَغْلَظَ لَهَا وَزَبَرَهَا. فَخَرَجَتْ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهَا، فَلَمَّا جَلَسَتْ قَالَ: يَا بِنْتَ خَيْثَمَةَ، مَا أَقْدَمَكِ أَرْضِي وَقَدْ عَهِدْتُكِ تَشْنَأِينَ قُرْبِي، وَتَحُضِّينَ عَلَيَّ عَدُوِّي. قَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَخْلاقًا طَاهِرَةً وَأَعْلامًا ظَاهِرَةً، لَا يَجْهَلُونَ بَعْدَ عِلْمٍ، وَلا يَسْفَهُونَ بَعْدَ حِلْمٍ، وَلا يَتَعَقَّبُونَ بَعْدَ عَفْوٍ، وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاتِّبَاعِ سُنَنِ آبَائِهِ لأَنْتَ. قَالَ: صَدَقْتِ، نَحْنُ كَذَلِكِ، فَكَيْفَ قَوْلُكِ: عَزَبَ الرُّقَادُ فَمُقْلَتِي لَا تَرْقُدُ ... وَاللَّيْلُ يَصْدَرُ بِالْهُمُومِ وَيُورِدُ يَا آلَ مَذْحِجَ لَا مقَام فشمرا ... إِنَّ الْعَدُوَّ لآلِ أَحْمَدَ يَقْصِدُ هَذَا عليٌّ كَالْهِلالِ تَحُفُّهُ ... وَسْطَ السَّمَاءِ مِنَ الْكَوَاكِبِ أَسْعُدُ خَيْرُ الْخَلائِقِ وَابْنُ عمِّ محمّدٍ ... وَكَفَى بِذَلِكَ والعدوُّ يُهَدِّدُ مَا زَالَ مُذْ عَرَفَ الْحُرُوبَ مظفَّراً ... وَالنَّصْرُ فَوْقَ لِوَائِهِ مَا يُفْقَدُ قَالَتْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤمنِينَ، وَإِنَّا لنمطع بِكَ خَلَفًا. قَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ الْقَائِلَةُ: إِمَّا هَلَكْتَ أَبَا الْحُسَيْنِ فَلَمْ تَزَلْ ... بالحقِّ تُعْرَفُ هادياً مهديّا فَاذْهَبْ عَلَيْك السَّلَام ربِّك مَا دَعَتْ ... فَوْقَ الْغُصُونِ حمامةٌ قُمْرِيَّا قَدْ كُنْتَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ خَلَفًا لَنَا ... أَوْصَى إِلَيْكَ بِنَا فَكُنْتَ وَفِيَّا فَالْيَوْمَ لَا خلفٌ نُؤَمِّلُ بَعْدَهُ ... هَيْهَاتَ نَمْدَحُ بَعْدَهُ إِنْسِيَّا قَالَتْ: يَا أَمِيرَ، لسانٌ نَطَقَ، وقولٌ صَدَقَ، وَلَئِنْ تَحَقَّقَ فِيكَ مَا ظَنَنَّا فَحَظُّكَ أَوْفَرُ، وَاللَّهِ مَا أَوْرَثَكَ الشَّنَاءَةَ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ إِلا هَؤُلاءِ، فَادْحَضْ مَقَالَتَهُمْ، وَأَبْعِدْ مَنْزِلَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ازْدَدْتَ بِذَلِكَ مِنَ اللَّهِ قُرْبًا، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ حُبًّا. قَالَ: إِنَّكِ لَتَقُولِينَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ مُدِحَ بِبَاطِلٍ، وَلا اعْتُذِرَ إِلَيْهِ بِكَذِبٍ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِنَا وَضَمِيرِ قُلُوبِنَا. كَانَ وَاللَّهِ عَلِيٌّ أحبَّ إِلَيْنَا مِنْكَ إِذْ كَانَ حَيًّا، وَأَنْتَ أحبُّ النَّاسِ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِكَ إِذْ أَنْتَ بَاقٍ. قَالَ: فَمن شَكْوَاكِ؟ قَالَتْ: مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ. قَالَ: وَبِمَ اسْتَحْقَقْتِ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا؟ قَالَتْ: بِحُسْنِ حِلْمِكَ، وَكَرَمِ عَفْوِكَ. قَالَ: وَإِنَّهُمَا لَيَطْمَعَانِ فِي ذَلِكَ؟ قَالَتْ: هُمَا وَاللَّهِ لَكَ مِنَ الرَّأْيِ عَلَى مِثْلِ مَا كُنْتَ عَلَيْهِ لِعُثْمَانَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَارَبْتِ فَمَا حَاجَتُكِ؟

رجع الخبر

قَالَتْ: إِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ تَبَنَّكَ بِالْمَدِينَةِ تبنُّك مَنْ لَا يُرِيدُ الْبَرَاحَ مِنْهَا، لَا يَحْكُمُ بِعَدْلٍ، وَلا يَقْضِي بِسُنَّةٍ، يَتَتَبَّعُ عَثَرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، حَبَسَ ابْنِي فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَلْقَمْتُهُ أَخْشَنَ مِنَ الْحَجَرِ، وَأَلْعَقْتُهُ أمرَّ مِنَ الصَّابِ. " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الصَّابُ الْحُضَضُ ". قَالَ الْقَاضِي: الْحُظَظُ بِالظَّاءِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ. قَالَ أَبُو ذويب الْهُذَلِيُّ: نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُشْتَجِرًا ... كَأَنَّ عَيْنَيْكَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ مَذْبُوحٌ مَشْقُوقٌ، وَالذَّبْحُ الشَّقُّ، قَالَ الشَّاعِرُ: كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا والفكِّ ... فَأْرَةَ مسكٍ ذُبِحَتْ فِي سكِّ رَجْعُ الْخَبَرِ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي بِالْمَلامَةِ، وَأَتَيْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِتَكُونَ فِي أَمْرِي نَاظِرًا وَعَلَيْهِ مُعْدِيًا. قَالَ: صَدَقْتِ لَا أَسْأَلُكِ عَنْ ذَنْبِهِ، وَلا أَسْأَلُكِ الْقِيَامَ بِحُجَّتِهِ؛ اكْتُبُوا لَهَا بِإِخْرَاجِهِ. قَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّى لِي بِالرُّجْعَةِ وَقَدْ نَفِدَ زَادِي وكلَّت رَاحِلَتِي؟ فَأَمَرَ لَهَا بِرَاحِلَةٍ مُوَطَّأَةٍ وَخَمْسَةِ آلافِ دِرْهَمٍ. عُرْوَة يشكو خالَ هِشَام إِلَى هِشَام حَدثنَا أَبُو النَّضر القيلي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيّا الْغلابِي قَالَ، حَدَّثَنَا عبيد الله بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ الْغلابِي: وَحَدَّثَنَا الْعُتْبِي عَن أَبِيه قَالَا: دخل عبد الله بن عُرْوَة بن الزبير " قَالَ ابْن عَائِشَة: وأمّه ابْنة الْمُغيرَة بن شُعْبَة " على هِشَام بن عبد الْملك، وَقد كَانَ إِبْرَاهِيم بن هِشَام أضرَّ بِهِ وَهُوَ على الْمَدِينَة. فَقَالَ لَهُ عبد الله: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إنَّكَ قد ولّيت خالكَ مَا بَين الْمَدِينَة إِلَى عدن فَلم يمنعهُ كثيرُ مَا فِي يَده من قَلِيل مَا فِي أَيْدِينَا إِن نازعته نَفسه اختلاس مَا فِي اختلاسه هَتْكُنا، فأنشدك الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تصلَ رحِمًا بقطيعة أُخْرَى، فو الله مَا سخى بِأَنْفُسِنَا عَن الْأَمْوَات إِلَّا مَا كفّ وجوهَ الْأَحْيَاء، وَلِأَن نَموتَ مرفوعين أحبُّ إِلَيْنَا من أَن نعيشَ مخفوضين. فَقَالَ هِشَام لعبد الله: إِنَّه لَا سلطانَ لخالي عَلَيْك بعد يَوْمك هَذَا. فَقَالَ لَهُ عبد الله: فَإِن قَالَ نقُول وَإِن مدَّ يَده مدننا بِأَيْدِينَا؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ عبد الله لِأَخِيهِ يَحْيَى قُلْ، فَجَثَا بَين يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا وإخوانًا لنا قد تكلمُوا ... حَدِيثا على أَمر الضلاة والْهُدَى يقولونَ كُنَّا سادةً فِي نديِّنا ... وَمَا ذاكمُ مرّ الحَدِيث وَلَا حلا قعُودا بأبوابِ الفجاج وخيلنا ... تساقى كؤوسَ الموتِ تدعسُ بالقنا فَلَمَّا أَتَاهُم فيئهم برماحنا ... تكلّم مكفيُّ بعيبٍ لِمن كفى فَضَحِك هِشَام هِشَام وَقَالَ لَهُ: أَحْسَنت، ثُمَّ أَمر لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم وَقَالَ لكَاتبه: اكْتُبْ إِلَى إِبْرَاهِيم بن هِشَام يحسنْ إِلَيْهِ ويرفعْه فَفعل.

لقمان وزوجته التي تخونه

أَخْبَرَنَا الْحُسَيْن بن الْقَاسِم الْكَوْكَبِيّ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن أقبان النَّخعِيّ قَالَ: أَنْشدني لمروان بن أبي حَفْصَة فِي ابْن أبي دواد لمّا نالته الْعلَّة الْبَارِدَة: لسانُ أحمدَ سيفٌ مسَّه طبعٌ ... من علّةٍ فجلاها عَنْهُ جاليها مَا ضرَّ أحمدَ بَاقِي علّةٍ درست ... وَالله يُذْهِبُ عَنْهُ رَسْمَ بَاقِيهَا مُوسَى بن عمرَان لَمْ يُنْقِصْ نبوَّته ... ضَعْفُ اللسانِ بِهِ قد كَانَ يمضيها قد كَانَ مُوسَى على علاَّت مَنْطِقه ... رسائلُ الله تَأتيه يُؤدّيها لُقْمَان وَزَوجته الَّتِي تَخونه حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَسَن بن عليل الْعَنزي قَالَ، حدَّثنا عَليّ بن الصَّباح قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْبَدْر هِشَام بن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ قَالَ: كَانَ لُقْمَان بن عَاد بن عاديا، وَكَانَ منبني صيدى بن عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح رجلا غيورًا وَكَانَ لَا يتَزَوَّج امْرَأَة إِلَّا فجرت، فتزوّج جَارِيَة صَغِيرَة لَا تَدْرِي مَا الرِّجَال، وَبنى لَهَا بَيْتا فِي رَأس جبل، وَجعل لَهُ خطافًا، وَكَانَ يصعدُ إِلَيْهِ وَينزل مِنْهُ بالسلاسل، فإ ذَا تنحى عَنْهُ نحَّى السلاسلَ. فَبَصر بِهَا غلامٌ من عَاد فعشقها فَقَالَ لأَهله: لَئِن لَمْ تَجمعوا بيني وَبَين امْرَأَة لُقْمَان بن عَاد لأجابنَّ عَلَيْكُم حَربًا ترقّص أشياخكم. قَالُوا: كَيفَ الوصولُ إِلَيْهَا؟ قَالَ: بِأَن تَجعلوني بَين سيوفٍ تودعونها لقمانَ إِلَى أجل ثُمَّ تستردُّونها مِنْهُ حِين يحين ذَلِكَ. فجعلوه بَين سيوفٍ وَجَاءُوا بهَا لُقْمَان فأوعوه إيّاها مَعهَا، فَإِذا جَاءَ لُقْمَان توارى. فلمّا انْقَضى الْأَجَل جَاءَ أهلُهُ يطلبونَ السيوف فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهَا وَهُوَ فِيهَا. ثُمَّ إِن لُقْمَان كَانَ ذَات يَوْم جَالِسا فِي ذَلِكَ الْموضع على سريرٍ لَهُ مَعَ امْرَأَته، فَرفع رَأسه فَإِذا تخامةٌ تنوسُ فِي السّقف، فَقَالَ لَهَا: مَا هَذِه؟ قَالَت: منّي. قَالَ أَبُو بكر: النوس حَرَكَة الشَّيْء المتدلي. قَالَ: فتنخَّمي فَفعلت فَلم تصنع شَيْئا. قَالَ: يَا ويلاه، السيوف دهتني. ثُمَّ احتملها فألقاها من ذَلِكَ الْموضع فَقَتلهَا. فَنزل غَضْبَان شديدَ الْغَضَب فَلَقِيته ابْنَته صُحْر فَقَالَت: مَا لي أراكَ يَا أبةِ شديدَ الْغَضَب؟ قَالَ: وَأَنت أَيْضا من النِّسَاء، فأخذَ حجرا فضربَ رَأسهَا فَقَتلهَا. فَضربت بِهَا الْعَرَب الْمثل فَقَالُوا: مَا أذنبت إِلَّا ذنبَ صحر، ويضربونه لِمن يُعاقَب ويُؤاخَذ وَلَا ذنبَ لَهُ. وَفِي ذَلِكَ يَقُول خفاف بن ندبة للْعَبَّاس بن مرداس السّلمِيّ: وعبّاس يدبُّ لي المنايا ... وَمَا أذنبتُ إِلَّا ذنبَ صُحْرِ لُقْمَان ولقيم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي قَالَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بن سعيد أَن لُقْمَان بن عَاد خاطرَ

هل كان لقمان مجوسيا

لقيما ابْن أُخْته فِي مائةٍ من الْإِبِل على السَّبق إِلَى مَوضِع أَيهمَا سبق إِلَيْهِ أَخذهَا. فسبقه لقيم واستاقَ الْإِبِل، فَقدم بِهَا ونَحر وَأهْدى وطبخ وَأطْعم. فَأتى لُقْمَان ابْنَته صحر، فَقدمت إِلَيْهِ لَحمًا مطبوخًا. فَقَالَ: من أَيْن هَذَا اللَّحْم؟ قَالَت: قدم لقيم بِالْإِبِلِ فنحرَ وَأهْدى وَأطْعم، فَهَذَا اللَّحْم من عِنْده. فتأسّف وَغَضب وَضرب برأسها وقتلها، فَضربت الْعَرَب فِي ذَلِكَ الْمثل، وَفِيهِ يَقُول أَبُو دَهْبَل الجُمَحِي، قَالَ أحْمَد بن سعيد: أنشدناهُ الزبير بن بكار لَهُ، قَالَ ابْن الأَنْبَارِيّ: وأنشدناه أَحْمَد بن يَحْيَى أَيْضا عَن الزبير بن بكار لأبي دهبل الجُمَحِي: اذهبي بِاللَّه فاستسمعي ... خبّريه بِالَّذِي فعلا واسأليه فيمَ يَصْرِمُنَا ... قد وَصَلْنَاهُ كَمَا وصلا وتجنَّى حينَ لنتُ لَهُ ... ذنبَ صحرٍ يَبْتَغِي العللا قَالَ القَاضِي: ولقمان بن عَاد ولقيم معروفان مشهوران عِنْد الْعَرَب، وَلَهُمَا أَخْبَار كَثِيرَة، وَالْعرب تُكثر فِي كَلَامهَا وَأَشْعَارهَا ذكرهمَا، وتضربُ أَمْثَالًا كَثِيرَة بِهما، وَقد قَالَ بعضُ من هجا بني تَميم. إِذا مَا مَاتَ ميتٌ من تَميم ... فسرَّك أَن يعِيش فجِئ بزادِ بخبزٍ أَو بلحمٍ أَو بتمرٍ ... أَو الشَّيْء الملفَّف فِي البجاد تراهُ يطوّفُ الْآفَاق طرًّا ... ليأكلَ رأسَ لُقْمَان بن عَاد ولقيم هُوَ ابْن لُقْمَان من أُخْته، ولقمان أَبوهُ وخاله، وَذَلِكَ فِيمَا ذكر أهلُ السّير قَالُوا: كَانَ لأخت لُقْمَان زوجٌ مُحْمِق يولدها الحمقى. يُقَال فِي هَذَا الْمَعْنى رجلٌ محمقٌ وَامْرَأَة مُحْمِقة، كَمَا قَالَ الشَّاعِر: لستُ أُبَالِي أَن أكونَ مُحْمِقَهْ ... إِذا رَأَيْت خصْيةً معلَّقه فَقَالَت لامْرَأَة أَخِيهَا لُقْمَان: هبي لي لَيْلَة من بعل، قَالَت: وَكَيف السبيلُ إِلَى ذَلِكَ وَفِيهِ تلفي وتلفك؟! قَالَت: السَّبِيل إِلَى ذَلِكَ أَن تسقيه الْخمر، فَإِذا كَانَ يثمل مِنْهَا رفعت الْمِصْبَاح من الْبَيْت وأخليتِ لي فرَاشه، فَفعلت ذَلِكَ. وَأَوَى لُقْمَان إِلَى فرَاشه فَوَقع عَلَيْهَا وَهُوَ يظنّ أنّها امْرَأَته، لكنه لَمْ يخفَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ فِي سكره، حِين بَاشَرَهَا: هَذَا هنٌ جَدِيد. فاشتملت على لقيمٍ من أَخِيهَا، فَأَتَت بِهِ أدهى من لُقْمَان وَأفضل، وَفِي ذَلِكَ يَقُول النمر بن تولب: لقيم ابْن لقيمان من أُخْته ... فكانَ ابنَ أختٍ لَهُ وابنما عَشِيَّة حمِّق فاستضحكت ... إِلَيْهِ فغرَّ بهَا مظلما فأحبلها رجلٌ نابه ... فَجَاءَت بِهِ رجلا مُحْكما هَلْ كَانَ لُقْمَان مجوسيًا قَالَ القَاضِي: قد حُكيَ أَن فائلاً ذكر أَن لُقْمَان بن عَاد كَانَ مجوسيًا، وإنَّما توهم هَذَا

لاستيلاده أُخْته، وَلَيْسَ الْأَمر على مَا توهّمه، وَلَكِن السَّبَب فِيهِ مَا ذكرنَا. وَقد ذكر الفرّاء فِي قصَّة أَصْحَاب الْكَهْف فِي قَوْله تَعَالَى: " أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا " " الْكَهْف6:19 " أنَّ الَّذِينَ كَانُوا بَينهم كَانُوا مجوسًا، وَذكر أنَّ من لَمْ يكن من أهل الْكتاب يُقال لَهُ مَجُوسِيّ. وَهَذَا خطأ من قَائِله لأنَّ الْمَجُوسِيَّة ملَّةً مَخْصُوصَة متميّزة عَن غَيرهَا كاليهودية والنصرانية. وَهَذَا آخر مَا يسَّر اللَّه تَعَالَى إملاءه من كتاب الجليس الصَّالح الْكَافِي والأنيس النّاصح الشَّافي، وللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحَمد والمنَّة وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قوَّة باللَّه العليّ الْعَظِيم. تمّ

§1/1