الجرح والتعديل للقاسمي

القاسمي، جمال الدين

طبعة سنة 1399 هـ - 1979 م مؤسسة الرسالة - بيروت شارع سوريا بناية صمدي وصالحة

الجرح والتعديل للشيخ جمال الدين القاسمي هذا بحث جليل، ومطلب خطير، طالما جال في النفس التفرغ لكتابة شيء فيه يكون لباب اللباب في هذا الباب الذي اختلف فيه الناس، لما غلب التعصب على النفوس ونبذوا مشرب كبار المُحَدِّثِينَ رواة السُنَّة، وهداة الأمة، حتى سنحت لي فرصة كتبت فيها ترجمة حافلة للإمام البخاري جعلتها مفصَّلة بتراجم منوعة كان منها (تخريج البخاري عمَّن رُمي بالابتداع) وهم الذين أُسَمِّيهُمْ (المبدّعين) (¬1) ذكرت ثمة ما يناسب تأليف الترجمة، ثم رأيت أن المقام ¬

_ (¬1) بتشديد الدال المفتوحة أي المنسوبين للبدعة وإنما آثرنا هذا على تسمية الأكثرين لهم بالمبتدعين لأني لا أرى أنهم تعمَّدُوا البدعة لأنهم مجتهدون يبحثون عن الحق فلو أخطأوه بعد بذل الجهد كانوا مأجورين غير ملومين فلا يليق تسميتهم مبتدعة بل مُبدَّعة كما سيمر بك البرهان عليه.

1 - منشأ النبز بالابتداع:

يستدعي زيادة بسط وإسهاب، ودرأ شبهٍ واحتمالات أوردها بعض الفقهاء خالف فيها الحقيقة، فخشيت أن يطول بإيرادها - في ترجمة البخاري - الكلام، ويشبه الخروج عن الموضوع فأفردت تتمة هذا البحث في مقالة خاصة تحيط به من أطرافه، وترده على أنحائه وهذا البحث من جملة المباحث العلمية التي نسيها الخلف أو أضاعوها، ولا غرو أن يذهل عن الغايات من يقصر في البدايات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 1 - مَنْشَأُ النَّبْزِ بِالابْتِدَاعِ: من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها، لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى وأعظم استجابة؛ لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل، فحاولت الاستئثار بالذكرى، والتفرد بالدعوى، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها، والإيقاع بسواها، حسب ما تسنح لها الفرص، وتساعدها الأقدار، إن كان بالسنان، أو اللسان. وأول من فتح هذا الباب - باب الغلو في إطالة اللسان

2 - من شهر الرواية عن المبدعين، وقاعدة المحققين في ذلك:

بالمخالفين - الخوارج فأتى قادتهم عامَّتهم من باب التكفير، لتستحكم النفرة من غيرهم، وتقوى رابطة عامَّتهم بهم، ثم سَرى هذا الداء إلى غيرهم، وأصبحت غلاة كل فرقة تكفِّر غيرها وتفسقه أو تبدعه أو تضلله لذاك المعنى نفسه، حتى قيض الله تعالى من الأئمة من قام في وجه أولئك الغلاة، وزيَّف رأيهم، وعرف لخيار كل فرقة قدرهم، وأقام لكل منهم ميزان أمثالهم. 2 - مَنْ شَهَّرَ الرِّوَايَةَ عَنْ المُبَدَّعِينَ، وَقَاعِدَةُ المُحَقِّقِينَ فِي ذَلِكَ: كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، فَخَرَّجَ عن كل عالم صدوق ثبت من أي فرقة كان، حتى ولو كان داعية، كعمران بن حطان وداود بن الحصين. وملأ مسلم " صحيحه " من الرُواة الشيعة (¬1) فكان الشيخان عليهما الرحمة والرضوان بعملهما هذا قدوة الإنصاف وأسوة الحق الذي يجب الجري عليه، لأنَّ مجتهدي كل فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أو أخطأوا بنص الحديث النبوي. ثم تبع الشيخين على هذا المُحققون من بعدهما حتى قال شيخ ¬

_ (¬1) راجع " شرح تقريب النووي ": ص 119.

3 - آفات الجرح إلا بقاطع:

الإسلام الحافظ ابن حجر في " شرح النخبة ": التحقيق أن لا يرد كل مكفَّر ببدعته، لأنَّ كل طائفة تدَّعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف (قال): والمعتمد أنَّ الذي تُردّ روايته من أنكر أمرًا متواترًا من الشريعة معلومًا من الدين بالضرورة، واعتقد عكسه. وأما من لم يكن كذلك، أو ينضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله. اهـ. * * * 3 - آفَاتُ الجَرْحِ إِلاَّ بِقَاطِعٍ: قال الإمام ابن دقيق العيد: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المُحَدِّثُونَ والحكام. وقال الإمام النووي في " التقريب "، وشارحه السيوطي: أخطأ غير واحد من الأئمة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح، كما جرَّح النسائي أحمد بن صالح المصري بقوله: غير ثقة ولا مأمون. وهو ثقة إمام حافظ احتج به البخاري ووثَّقه الأكثرون، قال ابن الصلاح: وذلك لأنَّ عين السخط تبدي مساوئ، لها في الباطن مخارج صحيحة، تُعمي عنها بحجاب السخط، لا أنَّ ذلك يقع منهم تعمدًا للقدح مع العلم ببطلانه. اهـ. وقال الإمام ابن دقيق العيد: والوجوه التي تدخل الآفة

4 - الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي:

منها خمسة: (أحدها) الهوى والغرض وهو شرها، وهو في تاريخ المتأخرين كثير. (الثاني) المخالفة في العقائد. (الثالث) الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر. (الرابع) الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم وأكثر ذلك في المتأخرين، لاشتغالهم بعلوم الأوائل، وفيها الحق والباطل. (الخامس) الأخذ بالتوهم مع عدم الورع. وقد عقد ابن عبد الرؤوف بابًا لكلام الأقران المعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أنَّ أهل العلم لا يقبل جرحهم إلا ببيان واضح (¬1) 4 - الوُجُوهُ التِي يُعْرَفُ بِهَا ثِقَةُ الرَّاوِي: قال السيوطي: قال في " الاقتراح ": (¬2) تُعرف ثقة الراوي بالتنصيص عليه من راويه، أو ذكره في تاريخ الثقات، أو تخريج أحد الشيخين له في الصحيح، وإنْ تُكُلِّم في بعض من خرج له فلا يلتفت إليه، أو تخريج من اشترط الصحة له، أو من خرج على كتب الشيخين. اهـ. فتمت النعمة بتعديل رجال " الصحيحين " ونبذ كل وهم سواه، وبذلك عرف للرجال فضلهم، ولأولي العلم قدرهم، وسن للناس طرح التعصب والتحزب، والتصافح ¬

_ (¬1) " تدريب الراوي " للسيوطي: ص 262. (¬2) كتاب " في أصول الحديث " للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد (كشف الظنون).

5 - زيادة إيضاح في حكمة التخريج عن المبدعين وفوائد ذلك:

على الأخوة الإيمانية، وتبادل الآراء والأفكار، واستماع الحكم ومدارك الاستنباط والاجتهاد من ذويها، على هذا جرى أئمة الحديث، وقادة الروايات، الذين جمعوا ما جمعوا لدلالة الأمَّة على هدي نبيها وسُنَّة رسولها - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أقواله وأفعاله، حتى أصبحت مرجع الفروع والأحكام، ومعوَّل الأئمة الأعلام. 5 - زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي حِكْمَةِ التَّخْرِيجِ عَنْ المُبَدَّعِينَ وَفَوَائِدُ ذَلِكَ: إنَّ تخريج أئمة السُنَّةِ وحفاظ الهدي النبوي - حديث من نُبِذُوا بالابتداع على طبقاتهم - فيه حكمة بليغة، وفائدة عظيمة، ألا وهي النهم بالعلم، والسعي وراءه والجد في طلبه، والتنبه لحفظه من الضياع، وسن نبذ التعصب، والتشيع والتحزب، والتقاط الحكمة من أي قائل. قال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر في كتاب " جامع العلم وفضله " في (باب جامع في الحال التي تنال بها العلم) ما مثاله: وروينا عن علي - رَحِمَهُ اللهُ - أنه قال في كلام له: «العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أنْ يأخذ الحكمة مِمَّن سمعها منه». وعنه أيضًا أنه قال: «الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط». اهـ، فأئمة الحديث رأوا أنَّ السُنَّة من الحكمة بل هي الحكمة - في تفسير الإمام الشافعي كما أوضح ذلك في " رسالته "

6 - عقوق الخلف بهجر مذهب السلف:

الشهيرة (¬1) في (باب بيان ما فرض الله من اتباع سُنَّة نبيه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فلذا عمدوا إلى تلقيها من كل ذي علم، واشترطوا للعناية بها أنْ تكون من مسلم عدل صدوق، ثبْت في روايته، ولم يبالوا بما غُمز أو نُبز أو رُمي به، علمًا بأنَّ المسائل النظرية، أو التي دخل على أصولها تأويل بنظر المأول هي من المجتَهد فيها، والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ، فعلام يُترك الأخذ عن المأجور، وقد يكون رأيه هو الحق، ومذهبه هو الأدق - ما دام الأمر فيه احتمال ولا قاطع، أو اعترض النص ما رجعه ظاهرًا - كما يعلمه من أعار نظر الإنصاف مآخذ الأئمة ومداركهم - وقد أوضح جملاً من ذلك الإمام تقي الدين ابن تيمية في كتاب " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " (¬2) فكان أئمة الحديث بهذا - أعني التلقي عن كل عالم ثبت - مثال الإنصاف وكبر العقل، وقدوة كل من يلتمس الحكمة، ويتطلب العلم، فجزاهم الله أحسن الجزاء. 6 - عُقُوقُ الخَلَفِ بِهَجْرِ مَذْهَبِ السَّلَفِ: سبق أني قلت في هذا المعنى كلمة في كتابي " نقد النصائح ¬

_ (¬1) مطبوعة مرتين. (¬2) مطبوع مرتين في الهند ومصر.

الكافية " (¬1) بعد أنْ سَبَرَتْ رجال من خَرَّجَ لهم الشيخان أو أحدهما في " صحيحيهما " - مِمَّن نُبِزَ بالابتداع - وهي قولي: فترى من هذا أنَّ التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخرون بين الأمَّة عقوا به أئمتهم وسلفهم - أمثال البخاري ومسلم والإمام أحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرُواة الأبرار، وقطعوا به رحم الأخوة الإيمانية الذي عقده تعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله، ولم يُفَرِّقْ بين أحد من رسله، فإذن كل من ذهب إلى رأي محتجًّا عليه، ومبرهنًا بما غلب على ظنه، بعد بذل قصارى جهده وصلاح نيته في توخي الحق فلا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه، واتضحت له المحجَّة في غيره، أنْ يجادله بالتي هي أحسن ويهديه إلى سبيل الرشاد، مع حفظ الأخوَّة، والتضافر على المودة والفتوة: هذا ما قلته ثمة مِمَّا يُبيِّنُ أنه لو كانت الفِرق التي رُميت بالابتداع تهجر لمذاهبها وتُعادى لأجلها لَمَا أخرج البخاري ومسلم وأمثالهما لأمثالهم. نعم إنَّ هؤلاء المُبَدَّعِين وأمثالهم لم يكونوا معصومين من الخطأ حتى يعدوهم الانتقاد، ولكن لا يستطيع أحد أنْ يقول: إنهم تَعَمَّدُوا الانحراف عن الحق، ومكافحة ¬

_ (¬1) مطبوع بدمشق.

7 - رد القول بمعاداة المبدعين:

الصواب عن سوء نِيَّةٍ، وفساد طوية، وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم: إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا، وبهذا كان ينتقد على كثير من الأعلام سَلَفًا وَخَلَفًا لأنَّ الخطأ من شأن غير المعصوم، وقد قالوا: المجتهد يخطئ ويصيب، فلا غضاضة ولا عار على المجتهد إنْ أخطأ في قول أو رأي، وإنما الملام على مَنْ ينحرف عن الجادة عَامِدًا مُتَعَمِّدًا، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك في مجتهد ظهر فضله وزخر علمه. 7 - رَدُّ القَوْلِ بِمُعَادَاةِ المُبَدَّعِينَ: قدمنا أنَّ رواية الشيخين وغيرهما عن المُبَدَّعِينَ تنادي بواجب التآلف والتعارف، ونبذ التناكر والتخالف، وطرح الشنآن والمحادَّة، والمعاداة والمضارة، لأنَّ ذلك إنما يكون في المحاربين المحادِّين، لا في طوائف تجمعها كلمة الدين، ومن الأسف أنْ يغفل عن هذا الحق من غفل، ويدهش لسماعه المُتَعَصِّبُونَ وَالجَامِدُونَ، ويحق لهم أنْ يذعروا لهذا الحق الذي فَاجَأَهُمْ لأنه مات منذ قضى عصر الرواية والرُواة، وانقضى زمن المُحَدِّثِينَ وَالحُفَّاظَ، ودال الأمر بعد الأخبار النبوية للآراء والأقوال، وصار الحق - بعد أنْ كانت الرجال تعرف به - يعرف بالرجال، وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نِسْيًا مَنْسِيًّا، ونُشر لواء التعادي والتباغض في الأُمَّةِ وكان مطويًّا، وَسَبَّّبَ على الأُمَّةِ من التفرق والانقسام، ما أورثها الضعف

والانفصام، فبعد أَنْ كان التسامح في التلقي عن الحكماء والفضلاء من أي طبقة - رُكْنًا رَكِينًا في حضارة الإسلام، خلفه التخاذل والتدابر والتعصب والملام، ولم يكف ذاك حتى ادُّعِيَ أنه من الدين، مع أَنَّ الدين يأمر بالتآخي ونبذ التفرق في محكم كتابه المبين. (ومن العجب) أنْ يقول قائل: لا يلزم من الرواية عنهم عدم معاداتهم، أي يجوز أَنْ نَرْوِي عَنْ رَاوٍ، مع التدين بمعاداتنا له، وبغضنا إياه! (فنجيب عنه) بأنَّا لا نعرف من قال ذلك من السلف، ولا من ذهب إليه من الأئمة، والرواية يُرَادُ بها هنا تلقي أقوال النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتِهِ، وهديه، وتشريعه، وأقضيته، وفتاويه وشمائله، لتتخذ دِينًا يُدَانُ الله به، وشريعة يُقْضَى بها في التنازع، ومرجعًا تُحَلُّ به المشكلات، فهل يُتلقى ذلك عمن يجب علينا معاداته في الدين؟ وكيف يتصور أنْ نأخذ الدين عمن نرى أنه عدو للدين؟ سبحان الله ما هذا التناقض، إِنَّ من يأمرك الدين بِأَنْ تعاديه لا يبيح لك أَنْ تأخذ دينك وشريعتك وعقيدتك عنه، وَمِنَ المُسَلَّمِ بِأَنَّ هذا الراوي أَدَّاهُ اجتهاده إلى ما رأى، ومن أَدَّاهُ اجتهاده إلى ما رأى كيف يُعَادَى، وقد بذل قصارى جهده، وليس قصده إِلاَّ الحق، والتقرب إلى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وكيف يُعَادَى من أثبت له الشارع الأجر ولو

8 - رد القول بتفسيق المبدعين:

كان مخطئًا؟ وإنما يُعَادَى الآثم لا المأجور. 8 - رَدُّ القَوْلِ بِتَفْسِيقِ المُبَدِّعِينَ: أغرب من ذلك قول البعض بتفسيق من يبدعه، وإنْ بلغ ذروة الاجتهاد، وأصبح معذورًا لاَ مَلاَمَ عليه عند الله والملائكة وَالنَبِيِّينَ، لا بل قد تَفَضَّلَ عليه الشارع بالأجر. ومتى عهد تفسيق مجتهد إذا أخطأ في المسائل الاجتهادية؟ وهل يمكن لمثل البخاري - وهو ما هو في نقد الرجال - أنْ يَضُمَّ إلى " صحيحه " من مجتهدي الفِرَقِ من كان فَاسِقاً ليصبح جانب من كتابه مَرْوِيًّا للفسقة وقد جمعه ليجعله حُجَّةً بينه وبين ربه؟ وهل يُعْقَلُ أنْ يجعل رواية الفاسق حُجَّةً عند المولى؟ هذا ما يلزم من تفسيق من يفسق من الرُواة فليحكم المتعصب النظر، وليتدبر في المآل، قبل أنْ يأخذ في المقال. نعم: ذهبت طائفة إلى تفسيق من خالفهم في شيء من مسائل الاعتقاد - كما نقله الإمام ابن حزم في كتابه " الفصل " (¬1) إلاَّ أنه قول مردود؛ ولذا قال الإمام ابن حزم - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَىَ أَنَّهُ لاَ يُكَفَّرُ وَلاَ يُفَسَّقُ مُسْلِمٌ بِقَوْلِ قَالَهُ فِيْ اعْتِقَادٍ أَوْ فُتْيَا، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ اجْتَهَدَ فِيْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَدَانَ بِمَا رَأَىَ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) جزء 3 ص 247.

9 - خطر النبز بالفسق ومعنى الفسق:

الحَقُّ فَإِنَّهُ مَأْجُوْرٌ عَلَىَ كُلِّ حَالٍ: إِنْ أَصَابَ الْحَقَّ فَأَجْرَانَ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَأَجْرٌ وَاحِدٌ». قَالَ: «وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِيْ لَيْلَىَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْشَّافِعِيِ وَسُفْيَانَ الْثَّوْرِيِّ وَدَاوُدُ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيْعِهِمْ -، وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ مِنْ عَرَفْنَا لَهُ قَوْلاً فِيْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ مِنْ الصََّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، لاَ نَعْلَمُ مِنْهُمْ فِيْ ذَلِكَ خِلاَفًا أَصْلاً». اهـ ـ كلامه. فأين هذا من التَسَرُّعِ في التفسيق، وتقليد من قاله من المتأخرين المقلدين، الذين ليسوا بأئمة متبوعين، ولا قولهم حُجَّةً في الدين، ولا استندوا إلى دليل أو برهان {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). 9 - خَطَرُ النَّبْزِ بِالفِسْقِ وَمَعْنَى الفِسْقِ: إنَّ النَّبْزَ بالفسق ليس بالأمر السهل، لأنَّ الفسق كثيرًا ما جاء في القرآن الكريم مقابلاً للإيمان - كآية: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} (¬2) وأمثالها، ولذا قيل بأن عطف قوله تعالى {وَالْفُسُوقَ} على قوله {الْكُفْرَ} عطف تفسير - في آية: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} (¬3) وإن احتمل أَنْ يكون غيره إشارة إلى نوع آخر، إلاَّ أَنَّ النظائر والأشباه في موارده في التنزيل تدل على أنه عطف تفسير، وَهَبْ أنه كان غير الكفر فهو شيء قريب منه، ونوع أنزل منه بدرجة، وناهيك به. ¬

_ (¬1) [سورة البقرة، الآية: 111]، [سورة النمل، الآية: 64]. (¬2) [سورة السجدة، الآية: 18]. (¬3) [سورة الحجرات، الآية: 7].

فَسَقَ فُسُوقًا مِنْ بَابِ قَعَدَ خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالاسْمُ الْفِسْقُ وَيَفْسِقُ بِالْكَسْرِ لُغَةٌ حَكَاهَا الْأَخْفَشُ فَهُوَ فَاسِقٌ وَالْجَمْعُ فُسَّاقٌ وَفَسَقَةٌ وإليك ما قاله فيه أئمة اللغة وفلاسفتها. ققال الجوهري في " الصَحَاحِ ": «فَسَقَ الرَّجُلُ فَجَرَ، وَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَيْ: خَرَجَ». وفي " المصباح ": «فَسَقَ فُسُوقًا: خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، خَرَجَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالاسْمُ الْفِسْقُ ... ، وَيُقَالُ أَصْلُهُ خُرُوجُ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ. يُقَالُ: فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا». وفي " القاموس ": «الفِسْقُ، بالكسرِ: التَّرْكُ لأَمْرِ اللهِ تعالى، والعِصْيانُ، والخُرُوجُ عَنْ طََرِيقِِ الحَقِّ، أَوِ الفُجُورِ، كَالفُسُوقِِ». وقال الإمام الراغب الأصفهاني في " مفرداته ": «فَسَقَ فُلاَنٌ: خَرَجَ عَنْ حَجْرِ الْشَّرْعِ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَسَقَ الرَّطْبُ: إِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ. وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْكُفْرِ». (قَالَ): «وَالفِسْقُ يَقَعُ بِالقَلْيِلِ مِنَ الذُّنُوبِ وَبِالكَثِيرِ، لَكِنْ تُعُورِفَ فِيْمَا كَانَ كَثِيرًا، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْفَاسِقَ لِمَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الشَّرْعِ وَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ أَخَلَّ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ أَوْ بِبَعْضِهِ. وَإِذَا قِيَلَ لِلْكَافِرِ الأَصْلِيِّ فَاسِقٌ - فَلأَنَّهُ أَخَلَّ بِحُكْمِ مَا أَلْزَمَهُ الْعَقْلُ وَاقْتَضَتْهُ الفِطْرَةُ». (إِلَىَ أَنْ قَالَ): «[فَالفَاسِقُ] أَعَمُّ مِنَ الكَافِرِ». اهـ. وقال الإمام محمد بن مُرتضى اليماني في كتابه " إيثار الحق " في (فَصْلٌ فِيْ الْفِسْقِ) مَا نَصُّهُ: «وَأَمَّا الْعُرْفُ المُتَأَخِّرُ: فَالَفِسْقُ يَخْتَصُّ بِالكَبِيرَةِ مِنَ المَعَاصِي مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَالفَاسِقُ يَخْتَصُّ بمُرْتَكِبِهَا». اهـ. فأنت ترى من هذا كله أَنَّ الفسق مدلوله الكبائر والمعاصي

العظائم لأنه دائر بين الكفر وما يقرب منه، وإذا كان هذا مدلوله الشرعي، ومعناه العرفي، فكيف يجوز أَنْ يوصف به عالم ثَبْتٌ ثِقَةٌ من ذوي الألباب وأولي الاجتهاد لِمُجَرَّدِ أنه أداه اجتهاده إلى رأي يخالف غيره مع أنه لم يقصد إلا الحق، ولم يتوخَّ إلا ما رآه الأَوْفَقَ، إذ لم يَأْلُ جُهْدًا في اهتمامه بما يراه الصَّوَابَ، وَإِنْ كان في نظر غيره على خلاف ذلك، إذ هذا من لوازم المسائل النظرية، ومتى عُهِدَ أن يُفَسَّقَ المُخَالِفَ فِيهَا أَوْ يُضَلَّلَ، لا جرم أنه بدعة قبيحة، وجناية في الدين كبيرة. وقد قال كثير من أئمة التفسير في قوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (¬1) هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلْرَّجُلِ: يَا فَاسِقُ. رواه ابن جرير عن مجاهد وعكرمة. وقال قتادة: «يَقُولُ تَعَالَى: لاَ تَقُلْ لأَخِيكَ المُسْلِمَ: ذَاكَ فَاسِقٌ، ذَاكَ مُنَافِقٌ، نَهَى اللهُ المُسْلِمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدَّمَ فِيهِ» (¬2). وقال ابن زيد: «هُوَ تَسْمِيَتُهُ بِالأَعْمَالِ السَيِّئَةِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، زَانٍ فَاسِقٌ» (ثم قال ابن جرير): «وَالتَّنَابُزُ بِالأَلْقَابِ هُوَ دُعَاءُ المَرْءِ صَاحِبَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ مِنْ اسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، وَعَمَّ اللهُ بِنَهْيِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَصِّصْ بِهِ بَعْضَ الأَلْقَابِ دُونَ بَعْضٍ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لأَحَدِ المُسْلِمِينَ أَنْ يَنْبَزَ أَخَاهُ بِاسْمٍ يَكْرَهُهُ، أَوْ صِفَةٍ يَكْرَهُهَا». (ثم قال): «وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3) أَيْ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ نَبْزِهِ أَخَاهُ بِمَا نَهَى اللهُ عَنْ نَبْزِهِ مِنَ الأَلْقَابِ، أَوْ لَمْزِهِ إِيَّاهُ أَوْ سُخْرِيَّتِهِ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ¬

_ (¬1) [سورة الحجرات، الآية: 11]. (¬2) [" جامع البيان في تأويل القرآن " لابن جرير الطبري: تحقيق أحمد محمد شاكر: 22/ 301، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، مؤسسة الرسالة]. (¬3) [سورة الحجرات، الآية: 11].

فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه. ولما لم يكن عند من يرمي أخاه بالفسق إلا الظن. جاء النهي عن سوء الظن إثر تلك الآية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (¬1) ولما كان الرمي بالفسق مدعاة لتفرق القلوب، وإثارة الشحناء على عكس حكمة الله تعالى في خلقه الخلق للتعارف والتآلف، جاء ذلك على إثر ما تقدم بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2). فليتدبر المُتَّقِي هذه الآيات الكريمة وليقف عند أوامرها وزواجرها، وليعتبر وليستعبر. قال السيد الطباطبائي في " المفاتيح " (¬3): «الفسق أن يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أما مع عدمه، بل مع اعتقاد أنه طاعة، بل من أمهات الطاعات فلا. والأمر في المخالف للحق كذلك؛ لأنه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أن اعتقاده من أهم الطاعات سواء كان اعتقاده صادرًا عن نظر أو تقليد، ومع ذلك لا يتحقق الفسق، وإنما يتفق ذلك ممن ¬

_ (¬1) [سورة الحجرات، الآية: 12]. (¬2) [سورة الحجرات، الآية: 13]. (¬3) في النقل عن هذا السيد الإمامي الكبير - رَحِمَهُ اللهُ - حُجَّة على متعصبة الإمامية في تفسيقهم مخالفهم أيضاً.

يعاند الحق مع علمه به، وهذا لا يكاد يَتَّفِقُ، وإن تَوَهَّمَهُ من لا علم له. اهـ. فترى من العجب بعد ما ذكرناه أن يُوسَمَ بالفسق من لا يحل وَسْمُهُ بِهِ؛ لأن معناه لا ينطبق عليه بوجه ما، على أنه ورد تسمية رُوَّاةِ الحديث خلفاء فيما رواه الطبراني والخطيب وابن النجار وغيرهم عن عَلِيٍّ مرفوعًا «اللَّهُمَّ ارْحَمْ خُلَفائِي الذِينَ يَأتُونَ مِنْ بَعْدِي، يَرْوُونَ أحادِيثي وسُنَّتِي ويُعَلِّمُونَها النَّاسَ». إذا علمت هذا فماذا يقال في هؤلاء المُفَسِّقِينَ؟ أجهلوا المعنى العُرْفِيَّ للفسق، أم تجاهلوا؟ أم اجتهدوا فأداهم اجتهادهم أم قَلَّدُوا؟ لا غَرْوَ أنهم جهلوا وَقَلَّدُوا، ويا ليتهم قَلَّدُوا إِمَامًا مَتْبُوعًا، بل قَلَّدُوا أواخر المقلدة الجامدة المتعصبة. ولو نظروا في تراجم الرجال، وتدبروا سيرة كثير من أولئك المُبَدَّعِينَ الأبطال، لعلموا أن رميهم بالفسق يكاد أن يهتز له العرش. خذ لك مَثَلاً من شيوخ المعتزلة عمرو بن عبيد، وانظر في ترجمته إلى زهده وتقواه. قال الذهبي في " الميزان ": «وقد كان المنصور الخليفة العباسي الشهير يخضع لزهد عمرو وعبادته يقول شعرًا: [كُلُّكُم يَمْشِي رُوَيْد] * ... * ... * كُلُّكُم يَطْلُبُ صَيْد غَيْرَ عَمْرِو بن عُبَيْد وذكر ابن قتيبة في " المعارف " أن المنصور رَثَى عمرو بن عبيد فقال شِعْرًا:

صَلَّى الإِلَهُ عَلَيْكَ مِنْ مُتَوَسِّدٍ * ... * ... * قَبْرًا مَرَرْتُ بِهِ عَلَى مَرَّانِ قَبْرًا تَضَمَّنَ مُؤْمِنًا مُتَحَنِّفًا * ... * ... * صَدَقَ الإِلَهُ وَدَانَ بِالْقُرْآنِ فَلَوْ أَنَّ الدَّهْرَ أَبْقَى صَالِحًا * ... * ... * أَبْقَى لَنَا حَقًّا أَبَا عُثْمَانَ هذا هو التوثيق - أعني توثيق الملوك - لأن كلام الملوك ملوك الكلام. وما غمز به فكله - إن أنصفت - من عَصَبِيَّةِ التَمَذْهُبِ، والجمود في التعصب. نحن لا نقول هذا تَحَزُّبًا للمعتزلة أو لغيرهم معاذ الله فإنا في الرأي مستقلون، ولسنا بمقلدين ولا متحزبين، ولكن هو الحق والإنصاف، وما قولك في قوم يرون مرتكب الكبيرة كَافِرًا أَوْ مُخَلَّدًا في النار؟ أليس في هذا نهاية التعظيم للدين، وغاية الابتعاد عن المعاصي، والإشعار بامتلاء القلب من خشية الله بما يزع عن الكذب والافتراء؟ بلى! وألف بلى! فَأَنَّى يَسْتَجِيزُ عاقل بعد ذلك تفسيقهم وهم على ما رأيت من التمسك بدين الله، والتصلب في المحافظة على حدوده؟ فتدبر وأنصف، على أن خبر الفاسق مرغوب عنه في نظر العقل، ساقط الاحتجاج به في أصول الشرع، ولذا أمرنا بأن نَتَبَيَّنَهُ ولا نلوي عليه بادئ بَدْءٍ، فكيف يحكم صاحبه فِي السُنَّةِ والأحكام؟ قال الإمام الحُجَّة مسلم في " مقدمة صحيحه " في باب وجوب

الرواية عن الثقات، وترك الكَذَّابِينَ، والتحذير من الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما مثاله: اعلم وفقك اللهُ أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المُتَّهَمِينَ - أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يبقي منها ما كان عن أهل التُّهَمِ وَالمُعَانِدِينَ من أهل البدع (¬1) (قال): والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬2)، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3)، قال: فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة. والخبر إن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيها - إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم. ثم روي ¬

_ (¬1) من هنا يعلم أنَّ رواة " الصحيحين " المتكلم فيهم لا يوصفون الابتداع - لأنَّ مسلماً - رَحِمَهُ اللهُ - أوجب أنْ لا يروي عن مبتدع، فبالأولى البخاري - لأنَّ شرطه أدق، ولذلك قلت في عنوان المقالة (المبدعون) أعلاماً بأنَّ خصومهم لَقَّبُوهُمْ بِالمُبْتَدِعَةِ، وإلاَّ فهم مجتهدون والمجتهد وإنْ أخطأ لا يوصف بالابتداع - كما أسلفناه، ونبسطه الآن. اهـ منه. (¬2) [سورة الحجرات، الآية: 6]. (¬3) [سورة الطلاق، الآية: 2].

عن سلام قال: بلغ أيوب أني آتي عَمْرًا (¬1)، فأقبل عَلَيَّ يَوْمًا فقال: أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه، فكيف تأمنه على الحديث. فدل ذلك على أن من ائتمنه الشيخان على الحديث، فقد ائتمنوه على الدين، ومن ائتمن على الدين فليس فاسقًا ولا مبتدعًا. (ثم قال الإمام مسلم): «وَإِنَّمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ - يَعْنِي العُلَمَاءُ - الْكَشْفَ عَنْ مَعَايِبِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَنَاقِلِي الأَخْبَارِ، وَأَفْتَوْا بِذَلِكَ حِينَ سُئِلُوا لِمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْخَطَرِ، إِذِ الأَخْبَارُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا تَأْتِي بِتَحْلِيلٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ، أَوْ أَمْرٍ، أَوْ نَهْيٍ، أَوْ تَرْغِيبٍ، أَوْ تَرْهِيبٍ، فَإِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ قَدْ عَرَفَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ جَهِلَ مَعْرِفَتَهُ كَانَ آثِمًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، غَاشًّا لِعَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ، إِذْ لاَ يُؤْمَنُ عَلَى بَعْضِ مَنْ سَمِعَ تِلْكَ الأَخْبَارَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا، أَوْ يَسْتَعْمِلَ بَعْضَهَا، وَلَعَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا أَكَاذِيبُ لاَ أَصْلَ لَهَا، مَعَ أَنَّ الأََخْبَارَ الصِّحَاحَ مِنْ رِوَايَةِ الثِّقَاتِ وَأَهْلِ الْقَنَاعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى نَقْلِ مَنْ لَيْسَ بِثِقَةٍ وَلَا مَقْنَعٍ». اهـ. فهل بعد هذا يجوز غمز بعض من روى لهم الشيخان من ¬

_ (¬1) هو عمرو بن عبيد المتقدم وكلام أيوب فيه من كلام المعاصرين بعضهم في بعض وهو مطروح كما نَبَّهَ عليه ابن عبد البر في كتاب " جامع بيان العلم ".

أولئك الأعلام المُبَدِّعِينَ؟ لاَ جَرَمَ أنه لأمر ما عُنِيَ البخاري ومسلم بالتخريج عنهم، وأخذ السُنَّةَ منهم، وتبليغها لِلأُمَّةِ، وجعلها حُجَّةً بينه وبين رَبِّهِ، وما ذاك إلا إجلالاً لفضلهم، وإنصافًا لقدرهم. انظر كيف يتحمل مثل البخاري عن أعلام الشيعة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج، ويجعل حديثهم حُجَّةً، وَمَرْوِيُّهُمْ سُنَّةً، ويفخر بذكر أسمائهم في أسانيده ويخلد لهم أجمل الذكر، في أشرف مُصَنَّفٍ. انظر هذا وقابل بينه وبين جمود المتأخرين، ورميهم علماء الفرق بالفسق والابتداع والضلال، وَهَجْرِهِمْ لِعُلُومِهِمْ، وَصَدِّ النَّاسِ عَنْهُمْ، حتى فات الناس - وَا أَسَفًا - عِلْمٌ جَمٌّ، وخير كثير، ولئن دُوِّنَ مَا دُوِّنَ من معارفهم، فما بقي من فوائدهم في خزائن صدورهم مِمَّا كان يستثار بالأخذ عنهم، وينال بمجالسهم - أوسع وأوفر، أفليس في جمود هؤلاء على ما ذكر عقوق لسلفهم الصالح؟ بلى! وما يضرون إلا أنفسهم لو كانوا يشعرون، بما ذكرناه استبان لك الخطأ في نبز رُوَّاةِ الصحيح بالفسق والابتداع، وأنه تعصب يجب التنبيه له والحذر منه. نحن إنما نصدع بهذا - تَفَقُّهًا مِنْ مَشْرَبِ البخاري ومذهبه، وموافقة له في رأيه الذي لا شك في أنه الصواب الذي تدعو إليه الأُخُوَّةُ الإيمانية، والإنصاف مع كل رَاوٍ مجتهد من هذه الأُمَّةِ لا يروم إلا الحَقَّ، ولا يسعى

إلا إليه، ولا يتحمل الأذى والاضطهاد إلا لأجله - إذ لم يصب من رأيه وما دعا إليه لا دنيا، وَلاَ جَاهًا، وَلاَ مُلكًا، فأي دليل أدل على حسن نيته من هذا؟ وبالجملة فتسمية المُتَفَقِّهَةِ بَعْضَ الرُوَّاةِ فَسَقَةً جَهْلٌ بما قاله الأُصُولِيُّونَ من أنَّ الفاسق مردود الشهادة والرواية (¬1) ومن قبل الشيخان وغيرهما خبره وحكموه في السُنَّةِ، وأخذوا عنه، فهل يكون فاسقًا؟ على أن إجماعهم على تلقي " الصحيحين " بالقبول موجب لتعديل رُوَّاتِهِمَا جَمِيعًا؛ لأنَّ التلقي بالقبول فرع صحة الحديث، وهو إنما يكون من صحة سنده، وهو من عدالة رجاله وتوثيقهم. ولذا قالوا فيمن خَرَّجَ له الشيخان: «جَازَ القَنْطَرَةَ». بمعنى أنه لا يلتفت إلى ما غُمِزَ فيه. وبالجملة فمشرب المُحَدِّثِينَ في التسامح وَنَبْذِ التَّعَصُّبِ هو الذي تقتضيه الأصول، وتقبله العقول، وَمَا أُحْدِثَ مِنَ النَّبْزِ بِالفُسُوقِ للبعض فلا سند له - لأن دعوى فسق الإنسان إنما يكون بإتيانه ما فَسَّقَهُ الشارع به، ونص عليه كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ نَصًّا قَاطِعًا لا يحتمل التأويل وأما مسائل الاجتهاد فلا يصح ذلك فيها بوجه من الوجوه. والحاصل أن لا تفسيق ولا تضليل، مع الاجتهاد والتأويل، ¬

_ (¬1) " المستصفى ": جـ 1 ص 158.

وإن كان ليس كل اجتهاد صَوَابًا، ولا كل تأويل مقبولاً، ولكن كلامنا في ذات المجتهد والمأول. فمن لم يَأْلُ جُهْدًا فلا ملام عليه ولا كلام، لا بل يُتَحَمَّلُ منه الدين، ويُتلقى عنه الهَدْيَ النَّبَوِيَّ، ويحكم في السُنَّةِ، على هذا جرى البخاري ومسلم وغيرهما من أقطاب الحديث والأثر، وهو الصواب، بلا ارتياب. وقد نقل الغزالي في " المستصفى " (¬1) عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الأَهْوَاءِ إلاَّ الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ الرَّافِضَةِ لأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ» (ثم قال): «وَيَدُلُّ [أَيْضًا] عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الصَّحَابَةِ قَوْلَ الْخَوَارِجِ فِي الأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ وَكَانُوا فَسَقَةً مُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَى قَبُولِ ذَلِكَ دَرَجَ التَّابِعُونَ لأَنَّهُمْ مُتَوَرِّعُونَ عَنْ الكَذِبِ جَاهِلُونَ بِالْفِسْقِ». اهـ. فترى من هذا أن الصحابة قبلوا خبرهم، وما ضَرَّهُمْ تسمية الفقهاء لهم بالفسقة، لأنه فسق بمعنى مخالفة غيرهم، وهذا الإطلاق اصطلاحي للفقهاء، وربما رجع الخلاف - في تسمية أولئك فُسَّاقًا - لَفْظِيًّا، وإلاَّ فيستحيل إرادة الفسق الحقيقي المانع للشهادة والرواية - كما قدمنا - ومعلوم أنه لا يكون ¬

_ (¬1) جـ 1 ص 160.

10 - جواب شبهة:

مَذْهَبٌ حُجَّةً عَلَى مَذْهَبٍ، وَلاَ عُرْفٌ بُرْهَانًا عَلَى عُرْفٍ، وإنما الحُجَّةُ والبرهان قواطع الكِتَابِ وَالسُنَّةِ. ولما كان البحث المذكور في غاية من الدقة، ترى الكلام في مطولات الأصول مضطربًا متشعب الأقوال، حتى اختلفوا لذلك في ماهية العدالة، ويقرب لمذهب المُحَدِّثِينَ فيها قول بعض أهل العراق: «العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط - مع سلامته عن فسق ظاهر». اهـ. 10 - جَوَابُ شُبْهَةٍ: رُبَّ قَائِلٍ يقول: كيف لا يفسق هؤلاء وقد خالفوا بتأويلهم النصوص من الكِتَابِ وَالسُنَّةِ؟ فنقول: قَدَّمْنَا ما يمنع تسميتهم فَسَقَةً شَرْعًا وَلُغَةً، ولذا جاء في " مُسَلَّم الثبوت " من كتب الأصول، ما مثاله: «لك أن تمنع كون المتدين من أهل القبلة فاسقًا بالعرف المتقدم الذي عليه القرآن الكريم، وهو شموله للكافر والمؤمن المرتكب الكبيرة». اهـ. وقال حُجَّة الإسلام الغزالي في " الإحياء ": «مهما اعترضت على القدري في قوله: الشَرُّ مِنَ اللهِ، وكذلك في قولك: إِنَّ اللهَ يُرَى، وفي سائر المسائل، إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق

11 - جواب شبهة أخرى:

مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعًا». اهـ. وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم، وأما عند أنفسهم فغيرهم هو المخالف وهم الموافقون، وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كِتَابًا أَوْ سُنَّةً عَامِدًا مُتَعَمِّدًا، فهم مجتهدون مثابون؛ إذ لم يَأْلُوا جُهْدًا فيما ذهبوا إليه، وإن كنت لا تقول به وترى الحُجَّةَ فيما أنت عليه، على أن ما تسميه أنت نَصًّا هم يرونه ظاهرًا، إذ دعوى نَصِّيَّةَ الشيء ليست بالأمر اليسير، لأن النص هو القاطع في معناه، المفيد لليقين في فحواه، وهذا إنما يكون في محكمات الدين، وأصوله التي لم يختلف فيها الفِرَقُ كُلُّهَا، وأما ما عداه فكلها ظواهر، وقد يراها البعض باجتهاده نَصًّا، وليس اجتهاد مجتهد بقاضٍ على اجتهاد آخر. وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطولات الخلاف، ويطالع مآخذ المجتهدين، ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ - فإنه جدير لو كان في الصين أَنْ يُرْحَلَ إليه، وَأَنْ يُعَضَّ بِالنَّواجِذِ عَلَيْهِ، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم إنما هو إلى الحق وَالهُدَى، كما أسلفنا وبالله التوفيق. 11 - جَوَابُ شُبْهَةٍ أُخْرَى: يزعم بعضهم بأنه: يحتمل أن يكون الراوي تحمل عن

المُبَدَّعِ قبل تمذهبه بذلك المذهب، وهذا جهل بمذاهب الرواة، ومشارب الرجال، فإن كل من أَلَّفَ في نقد الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنه كان على مذهب كذا، أو أن الحافظ الفلاني تَحَمَّلَ عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا، ومثل هذا إنما يؤخذ عن النقلة الأثبات كالمصنفين في أحوال الرجال، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال، ولذا تراهم يقولون في ترجمة الراوي: كَانَ خَارِجِيًّا. ونحو ذلك قولاً واحدًا. وحبذا أن يكون ما ذكره مأثورًا عن إمام مُؤَرِّخٍ مشهور، وأما القول بالاحتمال، فإذا فُتح أَوْرَثَ الاضمحلال، لكل ما يُعَوَّلُ عليه في الاستدلال، ومثل ذلك ما يقال: يحتمل أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة! فهذا يزيد عما قَدَّمْنَا من الجهل بمذاهب الرُوَّاةِ تجهيل أئمة الحديث، ووصمهم بما هم بَرَآءٌ من الغباوة والبلاهة، وأنهم يتحملون عمن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه، وأنهم كَحَاطِبِ لَيْلٍ، نعوذ بالله من ذلك، وأي عاقل يَجْرُؤُ على مثل ذلك في البخاري صاحب " التاريخ " في الرجال؟ بل من دونه من أرباب السنن وغيرهم ممن تكلم في الجرح والتعديل، وَمَيَّزَ بين صحيح الحديث وضعيفه، لثقة رجاله أو ضعفهم، وهل يعقل في صحاح، وسنن، ومسانيد، وموطآت، عليها مدار أدلة الأحكام، وَحُجَجِ الفروع، صنفت على الأسانيد المنوعة والمكررة بالأسماء وَالكُنَى

والألقاب - أن يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحملونه - مع أن العَامِّيَّ وَالأُمِّيَّ نراه إذا خدم عَالِمًا لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره، فكيف بعالم مؤلف، لا بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها، ويزاحم من تقدمه من الأئمة في التخريج وَالرَدِّ والاستدراك والتفريع والتأصيل؟ ألا يدري مذهب رجال إسناده ونحلتهم، وهم عمدته في الاستدلال، وركنه في الاحتجاج؟؟ بلى! ثم بلى! وهو أجلى من أن يبرهن عليه، أو يرد على من كابر فيه، ولقد كان علم الجرح والتعديل، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوئل ما يدريه طلاب الحديث وَمُرِيدُو التحمل عن الحفاظ، ولكن من أين يدري أبناء هذا الجيل، ما كان عليه السلف من فنون التحصيل، وقد اندرست تلك العلوم، ولم يبق منها ولا الرسوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما قول بعضهم: فكيف يستدل بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة مع قيام هذه الاحتمالات؟ وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسك بالمحتمل الذي لا تقوم به حُجَّة؟ فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات،وأنها أشبه بالأوهام والخيالات، والتلاعب في الحقائق الواضحات، والمحتمل الذي تقوم به حُجَّةٌ هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو تأويل مقبول، جارٍ على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره.

12 - رفع وهم في عبارة للبخاري:

وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة، وأمر واضح، فلا يقال له احتمال، وإنما هو تلاعب وهوس خيال، يقول أئمة الجرح والتعديل في كتبهم عن رَاوٍ - مِمَّنْ خَرَّجَ له الشيخان أو أحدهما -: إِنَّهُ شِيعِيٌّ، أَوْ خَارِجِيٌّ، أَوْ قَدَرِيٌّ، أَوْ مُرْجِئٌ، ثم يأتي من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال، وهو لم يضرب في هذا الفن بسهم، ولا يمكن أن يُرْجَعَ إليه في رأي ولا علم، كيف لا وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمة الفن في هذا الباب، لأنه أمر لم يبق فيه مجال ولا نظر ولا احتمال، وهذا من البديهيات الغنية عن الحُجَّةِ والبرهان. 12 - رَفْعُ وَهْمٍ فِي عِبَارَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وأما زعم أن قول البخاري في " جزء رفع اليدين ": «كَانَ زَائِدَةُ (¬1) لاَ يُحَدِّثُ إِلاَّ أَهْلَ السُنَّةِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ» يخالف ما استنبطناه - فعجيب جِدًّا لأنه لا شاهد فيه، ولا يناسب بحثنا حتى يخالفه، لأن زائدة - رَحِمَهُ اللهُ - كان يمتنع عن تحديث غير أَهْلِ السُنَّةِ، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إياه - وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في طلب الحديث الذين يبغون التلقي والسماع، وقد انْتَمُوا إلى غير مذهب أَهْلِ السُنَّةِ، فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداء بمن رآه من سلفه كذلك، ولا منازعة في الوجدانيات ولا يكلف المرء ما لا يطيقه، فمن كانت نفسه ¬

_ (¬1) [زَائِدَةُ بنُ قُدَامَةَ أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ: الإِمَامُ، الثَّبْتُ، الحَافِظُ، أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، الكُوْفِيُّ. حَدَّثَ عَنْ: زِيَادِ بنِ عِلاَقَةَ، وَعَاصِمِ بنِ أَبِي النَّجُوْدِ، وَسِمَاكِ بنِ حَرْبٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيْعِيِّ، وَشَبِيْبِ بنِ غَرْقَدَةَ، وَأَبِي طُوَالَةَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَمَنْصُوْرِ بنِ المُعْتَمِرِ، وَحُصَيْنٍ، وَبَيَانِ بنِ بِشْرٍ، وَإِسْمَاعِيْلَ السُّدِّيِّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَعَاصِمِ بنِ كُلَيْبٍ، وَالمُخْتَارِ بنِ فُلْفُلٍ، وَمُوْسَى بنِ أَبِي عَائِشَةَ، وَعَطَاءِ بنِ السَّائِبِ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقِيْلٍ، وَخَلْقٍ كَثِيْرٍ. وَعَنْهُ: ابْنُ المُبَارَكِ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَحْيَى بنُ أَبِي بُكَيْرٍ، وَمُصْعَبُ بنُ المِقْدَامِ، وَمُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍو الأَزْدِيُّ، وَحُسَيْنُ بنُ عَلِيٍّ الجُعْفِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ سَابِقٍ، وَخَلَفُ بنُ تَمِيْمٍ، وَطَلْقُ بنُ غَنَّامٍ، وَأَبُو الوَلِيْدِ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ يُوْنُسَ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم. قَالَ عُثْمَانُ بنُ زَائِدَة الرَّازِيُّ: قَدِمتُ الكُوْفَةَ قَدْمَةً، فَقُلْتُ لِسُفْيَانَ: مَنْ تَرَى أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِزَائِدَةَ بنِ قُدَامَةَ، وَسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ. انظر: " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط: 7/ 375، ترجمة رقم 139، الطبعة الثالثة: 1405 هـ / 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة].

لا تحب إسماع من كان كذلك، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع، لا سيما لتلاميذ لم يَتَأَهَّلُوا بَعْدُ للنظر والوقوف على التحقيق، فمثلهم إنما يكون مُقَلِّدًا لاَ مُجْتَهِدًا، وأما حفاظ شيوخ، ذَوُو علم ورسوخ، أوتوا من العلم والفضل ما أَهَّلَهُمْ للتحمل عنهم، والاستفادة من علمهم، بحيث طارت شهرتهم، وتفوقوا على غيرهم، فلا دخل لكلام زَائِدَةَ فيهم، ولا يشملهم مشربه، وهكذا نحن نقول: لا ينبغي لأستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ أغرار، انتحلوا غير ما يراه الحق بدون نظر أو فكر، بل تقليدًا أو اتباعًا لكل ناعق. وأما من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة، وكان على جانب عظيم من العلم، وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه، والتلقي منه، كما فعل الأئمة أمثال البخاري، وأشياخه، فكلام زَائِدَةَ مِنْ وَادٍ، وما نقوله من وَادٍ آخر. وهكذا يقال فيمن حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ، وأما قوله: ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف، وإلاَّ أخرجوهم من مجالسهم، فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله: «وَإِلاَّ أَخْرَجُوهُمْ»، وهل يخرج إلاَّ المتعلم الضعيف في العلم والفهم، المتطفل على ما ليس له بأهل؟ وشتان بين من يخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف وبين من يرحل إليه وَيَتَحَمَّلُ عنه منهم - كرجال

الشيخين وغيرهما من هؤلاء، ولو أطرد الابتعاد عن هؤلاء أو إبعادهم لما تلقى عنهم أمثال الشيخين، وَخَلَّدَ أَسْمَاءَهُمْ وَمَرْوِيَّهُمْ في أصح الكتب بعد التنزيل الكريم، وقد يكون مُرَادُ البخاري بِأَهْلِ الخِلاَفِ أَهْلَ الرَّأْيِ جُمُودًا وَتَقْلِيدًا المُؤْثِرِينَ آراء الفقهاء على صحيح السُنَّةِ، لأنَّ كتابه المذكور وهو " جزء رفع اليدين " في مناقشة أهل الرأي وَحَجِّهِمْ بصحيح السُنَّةِ على رأيهم. وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي (¬1)، فلا تكاد تجد اسْمًا لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى المُنْصِفُ عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أَنْ يَتَحَمَّلَ عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في ¬

_ (¬1) كالإمام أبي يوسف والإمام محمد بن الحسن فقد فقد لينهما أهل الحديث - كما ترى في " ميزان الاعتدال " - ولعمري لم ينصفوهما وهما البحران الزاخران، وآثارهما تشهد بِسَعَةِ عِلْمِهِمَا وَتَبَحُّرِهِمَا، بل بتقدُّمهما على كثير من الحفاظ. وناهيك كتاب " الخراج " لأبي يوسف و " موطأ " الإمام محمد. نعم كان ولع جامعي السُنَّةِ بمن طوف البلاد، واشتهر بالحفظ، والتخصص بعلم السُنَّةِ وجمعها، وعلماء الرأي لم يشتهروا بذلك لا سيما وقد أشيع عنهم أنهم يُحَكِّمُونَ الرَّأْيَ فِي الأثر، وإنْ كان لهم مرويات مسندة معروفة، رضي الله عن الجميع، وحشرنا وإياهم مع الذين أنعم الله عليهم.

جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المُحَدِّثِينَ تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أَنْ يكون وَقْفًا على فئة مُعَيَّنَةٍ دون غيرها، وَالمُنْصِفُ من دَقَّقَ في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بَعْدُ. ومما نعده تَعَصُّبًا ما حكام الإمام البخاري في " جزء رفع اليدين " المذكور من إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتى يُسْتَتَابُوا، وحمل قاضي مكة سليمان بن حرب على الحَجْرِ على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إِلاَّ من سلطة دولة الأَثَرِيِّينَ وَقْتَئِذٍ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، وَنَبْذِ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أنْ يفتي كُلٌّ بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف أو اضطهاد - لاَ جَرَمَ أَنَّ سُنَّةَ كل قوم - آنسوا من أنفسهم قوة وسلطانًا أنْ يستعملوا لِبَثِّ مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته، ولا سيما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم وهو مستبد في علمه وما يمضيه فحدث هناك ولا حرج. انظر إلى القدرية لما دالت لهم دولة

العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم، فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام وَأُوذُوا مِمَّا دَوَّنَهُ التاريخ وأحصاه على هؤلاء المُتَعَصِّبِينَ، وكان نقطة سوداء في تاريخ حياتهم، وإنْ كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود، وتنوير الأذهان بعلوم الأوائل مِمَّا أخذوا بتعريبه، وجهدوا في نشره، إِلاَّ أنَّ الغُلُوَّ كان رائدهم، والبطش قائدهم، ولكن هي السكرة، التي يذهب معها صحيح الفكرة، (أعني سكرة الدولة والغلبة، والسلطة والقوة)، فما من دولة إِلاَّ ونقم عليها شيء من ذلك، كما يدريه من سَبَرَ أخبار الدول وفلسفة حياتهم، ومظهر آرائهم وآمالهم. وكذلك قُُلْ عن الفتنة التي فَرَّ من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز حينما دالت دولة الحنفية، وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية. قال التاج السبكي في " طبقاته " (¬1) في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي: «إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخِلْعَ وظهر له القبول عند الخاص والعام، حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم». (قال): «فبدا له خصوم واستظهروا له بالسلطان عليه وعلى أصحابه»، (قال): «وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ ¬

_ (¬1) في ترجمة محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الإمام الكبير أبو سهل: جـ 3 ص 85 و 86.

والتدريس، وعزلوا من خطابة الجامع»، (قال): «وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع، فخيلوا إلى أولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا»، (قال): «وهذه هي الفتنة التي طار شررها، وطال ضررها، وعظم خطبها، وقام في سَبِّ أَهْلِ السُنَّةِ خطيبها، فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أَهْلِ السُنَّةِ في الجُمَعِ، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نَصْرِ السُنَّةِ قِيَامًا مُؤَزَّرًا، وتردد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قِبل السلطان (طغرلبك) بالقبض على الرئيس الفراتي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين، وأبي سهل بن الموفق، ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائبًا في بعض النواحي، فلما قرأ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش، فأخذوا بالأستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يَجُرُّونَهُمَا وَيَسْتَخِفُّونَ بِهِمَا، وَحُبِسَا بالقهندر. وأما إمام الحرمين فإنه كان أحس بالأمر فاختفى وخرج على طريق كرمان إلى الحجاز، وبقيا في السجن متفرقين أكثر من شهر» (¬1). وفي " شرح الإقناع " (¬2) قال ابن عقيل: «رأيت الناس لا ¬

_ (¬1) [" طبقات الشافعية الكبرى " تاج الدين السبكي (المتوفى: سَنَةَ 771 هـ)، تحقيق الدكتور محمود محمد الطناحي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، 4/ 209، الطبعة الثانية 1413هـ، هجر للطباعة والنشر والتوزيع]. (¬2) ص 1309 من مطولات كتب الحنابلة في الفروع.

13 - درء وهم واشتباه:

يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أقول العوام بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة في أيام ابن يونس، فكانوا يستطيلون بالبغي على أصحاب الشافعي في الفروع حتى ما يمكنوهم من الجهر بالبسملة والقنوت - وهي مسألة اجتهادية - فلما جاءت أيام النظام، ومات ابن يونس وزالت شوكة الحنابلة، استطال عليهم أصحاب الشافعي استطالة السلاطين الظلمة، فاستعدوا بالسجن، وآذوا العوام بالسعايات والفقهاء بالنبذ بالتجسيم، (قال): «فتدبرت أمر الفريقين، فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم، وهل هذه إلا أفعال الأجناد يصولون في دولتهم، ويلزمون المساجد في بطالتهم». اهـ. ولدينا من القصص في عجائب ما روى التاريخ من التعصب ما لا يسعنا إلا إمساك القلم عن نشره إبقاء على هذه البقية الباقية، وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكل ذلك من التفرق الذي نهى عنه الدين لما يستتبعه من الإزراء التي تعمل في أساسه المتين، ويكفي ما جنت وتجني الأُمَّةُ من ويلاته إلى هذا الحين، حتى فشلت وذهب ريحها أمام أعدائها الكافرين، والمستعان بالله. 13 - دَرْءُ وَهْمٍ وَاشْتِبَاهٍ: يقول بعضهم: إنَّ مُسْلِمًا روى عن ابن عباس أنه قال في

نَجْدَةَ الحَرُورِيِّ: «[وَاللهِ] لَوْلاَ أَنْ أَرُدَّهُ عَنْ نَتْنٍ يَقَعُ فِيهِ مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ، وَلاَ نُعْمَةَ عَيْنٍ». قال النووي: «كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهُهُ لِبِدْعَتِهِ وَهِيَ كَوْنُهُ مِنَ الخَوَارِجِ». والجواب: أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع، وإلاَّ لما خَرَّجَ لثقاتهم وعلمائهم الشيخان وغيرُهما، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد؟ على أَنَّ نَجْدَةَ ليس من رجال الرواية عند المُحَدِّثِينَ، فقد ضَعَّفَهُ الذهبي في " ميزان الاعتدال " وقال عنه: ذكر في " الضعفاء " للجوزجاني، على أنَّ الحال وصل إليه في قومه أنْ يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب " الفرق " للإمام أبي منصور البغدادي، و" الملل والنحل " للشهرستاني وغيرهما، فلا نعمة عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكْرَهُ كل خارجي لبدعته لما أخرج لأثباتهم أئمةُ السُنَّةِ في الصحاح والمسانيد، ويكفي أن الإمام مالكًا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عُدَّ مِمَّنْ يرى رأيهم، كما رواه الإمام المبرد في " كامله " (¬1). ومن عزا لك ما يأثره، وأراك مصدره، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم. ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعِينَ بأمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهجر الثلاثة الذين خُلِّفُوا، ورفض تكليمهم حَتَّى تِيبَ عَلَيْهِمْ، مع أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما، لأن ¬

_ (¬1) جـ 2.

14 - ثمرة الرفق بالمخالفين:

البحث في الرُوَّاةِ المجتهدين الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه، فهل كان المُخَلَّفُونَ كذلك؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذنب محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا صحيحًا يدان الله به، وتنال النجاة والزلفى بسببه؟ فالإنصاف يا أولي الألباب الإنصاف، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف. غريب أمر المُتَعَصِّبِينَ وَالغُلاَةِ الجَافِينَ، تراهم سراعًا إلى التكفير والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم، وجهل مشرب البخاري ومسلم، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة، ولا قوة إلا بالله. 14 - ثَمْرَةُ الرِّفْقِ بِالمُخَالِفِينَ: قال بعض علماء الاجتماع: يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين بفكره، ويعتقد أنه يعمل صَالِحًا وَيُسْدِي معروفًا وينقذ من جهالة وَيَزَعُ عن ضلالة، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف دَاعِيًا للتنافر ما

دام صاحب الفكر يعتقد ما يدعو إليه، ولو كان على خطأ في غيره، لأن الاعتقاد في شيء أثر الإخلاص، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى؛ ليتغلب عليه بالبرهان، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صَوَابًا، ويراه غيره خطأً، أو يقرب منه، وفي ذلك من امتثال الأوامر الرَبَّانِيَةِ، والفوائد الاجتماعية ما لا يحصى، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا قَلَّ تَعَادِيهُمْ، واتفقت على الخير كلمتهم، وتناصفوا وتعاطفوا، فكيف تريد مني أن أكون شريكك، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟ دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يُصَرِّحُ بما يعتقد، فإما أن يقنعك وإما أن تقنعه، ولا تعامله بالقسر، فما قط انتشر فكر بالعنف، أو تفاهم قوم بالطيش والرعونة، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن، يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه، لأن ذلك من طبع البشر مهما تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم. وَبَعْدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، هو من أهم العوامل في رُقِيِّ البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها في كل مجتمع، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها

15 - حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين:

من شأن الجاهلين لا العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ. مع تلخيص وزيادة. ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (¬2) وقوله - جَلَّ ذِكْرُهُ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها. 15 - حَمْلَةُ الأَعْلاَمِ المُحَقِّقِينَ عَلَى المُتَفَقِّهَةِ المُكَفِّرِينَ: لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف الأولى من الهجرة ضَجَّتْ عقلاء الفقهاء، وَصَوَّبَتْ سهام الرُدُودِ في وجوه زاعمي ذلك، حَتَّى قَالَتْ الحَنَفِيَّةُ - عَلَيْهِمْ الرَّحْمَةُ - مَا مَعْنَاهُ: «لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُكَفَّرَ المَرْءُ فِي أَمْرٍ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَجْهًا، وَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ لاَ يُكَفَّرُ، يُرَجَّحُ عَدَمُ التَّكْفِيرِ عَلَى التَّكْفِيرِ لِخَطَرِهِ فِي الدِّينِ». ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من العصور مثل القرن الثامن للهجرة. ومن سَبَرَ تاريخ ¬

_ (¬1) [سورة العنكبوت، الآية: 46]. (¬2) [سورة البقرة، الآية: 83]. (¬3) [سورة الحجرات، الآية: 11].

الحافظ ابن حجر المُسَمَّى بـ " الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة " أخذه من ذلك المقيم المقعد، إذ يرى أنَّ العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه من الإفك عليه، والسعاية به فيما يكفرُه ويُحِلُّ دَمَهُ، حتى صار يخشى على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا مِنْ رَاحِمٍ أَوْ مُنْصِفٍ - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دَائِمًا وثيقة أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يُكَفِّرُهُ، ولقد أريقت دماءٌ مُحَرَّمَةٌ، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أَعْوَامًا وسنين، حتى عَجَّ لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها ويستدرجها في غَيِّهَا، ولم تحسب للأيام ما خُبِّئَ لَهَا فِي طَيِّهَا، إِلَى أَنْ امْتَلأَ إِنَاؤُهَا، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت على دولتها الدائرة، وَمَحَقَ اللهُ بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها للدولة الصالحة العاقلة، فَأَمَّنَتْ النَّاسَ على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود بزبدها وغثائها. سيقول بعض الناس مِمَّنْ تَغُرُّهُ القُشُورُ، ولم تقف مداركه على لباب روح العصور: إنَّ تلك الدماء المراقة والأرواح المُهْدَرَةِ، لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالبَيِّنَةِ

والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟ يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة، وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفِعُوا بِتَشْوِيقِ المُتَصَوْلِحِينَ وَالمُتَمَفْقِرِينَ (¬1)، وَالحَشْوِيَّةِ البَكَّائِينَ، احْتِيَالاً وَقَنْصًا لِلْمُغَفَّلِينَ. ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل الداعين إلى الكِتَابِ وَالسُنَّةِ، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن قاعدة المحققين هي عدم البَتِّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن خلدون في " مقدمته ". نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلاَّ لما فضح نبذًا منها الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب " البهجة "، و" اللامية "، و" الديوان "، و " المقامات " فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه والإيهام في مقالة بديعة ¬

_ (¬1) المتمفقر: كالمتمسكن مُدَّعِي الفقر أي التصوف وليس من أهله.

أنشأها في القاضي الرباحي المالكي (¬1) سماها " الحرقة للخرقة ". ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على نبيه محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه، وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم، والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور، والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة، والنثر والنظم لِلْذَّبِّ عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم،" وهذه رسالة " أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي ¬

_ (¬1) راجعها في ص 190 من المجموعة الأدبية التي طبعت في مطبعة الجوائب عام 1300 هـ، مشتملة على " لامية العرب " و " شرحها " و" شرح المقصورة الدريدية " و " ديوان ابن الوردي "، و " ديوان الخشاب ورسائله ".

مناداة اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول، إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم، وغيرة على حَمَلَةِ العُلُومِ، وسميتها: " الحرقة للخرقة " فقلت: اعلموا يا ولاة الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر (¬1) لْلأُمَّةِ، ووفقكم لدفع الإصر وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وَكَدَّرَ الشُرْبَ، بجراءته التي طمت وطمت، وَعَمَايَتِهِ التي عمت وغمت، وفتنته التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم، وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة: يَا حَامِلَ النَّائِبَ فِي حُكْمِهِ * ... * ... * أَنْ يَقْتُلَ النَّفْسَ التِي حُرِّمَتْ غَشَشْتَهُ وَاللهِ فِي دِينِهِ * ... * ... * بُشْرَاكَ بِالنَّارِ التِي أُضْرِمَتْ ¬

_ (¬1) كانت مصر في عهد المؤلف وهو القرن الثامن عاصمة دولة المماليك.

(إلى أن قال الزين ابن الوردي): ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير الصفر. حاكم يصدر منه * ... * ... * خلف كل الناس حفر يتمنى كفر شخص * ... * ... * والرضا بالكفر كفر (ثم قال): إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب الأفاعي السود: أدركوا العلم وصونوا أهله * ... * ... * من جهول حاد عن تبجيله إنما يعرف قدر العلم من * ... * ... * سهرت عيناه في تحصيله ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له: فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار: يحبس في الردة من * ... * ... * شاء بغير شاهد لا كان من قاضٍ حكى الـ * ... * ... * ـفقاع جد بادر

أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد بذلك أهل الدين، والقراء المجودين: جَرَحْتَ الأَبْرِيَاءَ فَأَنْتَ قَاضٍ * ... * ... * عَلَى الأَعْرَاضِ بِالأَغْرَاضِ ضَارِي أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ عَادِلٌ * ... * ... * (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية، وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما المالكية منهم، ولقد كان قضاة المذاهب يحيلون الأمر في التعزير والتأديب إلى القاضي المالكي لما اشتهر في الفقه المالكي من مضاعفة النكال، وشدة التأديب في باب التعزير؛ إذ بسط للقاضي يده فيه بسطًا لم يوجد في مذهب غيره، فلذا كان محبو الانتقام والتشفي يعمدون إلى إحالة القضية إلى القاضي المالكي لما يعلمون ما وراء قضائه، مِمَّا فصل بعضه الإمام ابن الوردي كما قرأت، على أن الأمر في التعصب لم يقف عند القاضي المالكي وحده لنتعصب ضده، وإنما كان هو الأقوى تعصبًا والأشد تصلبًا، وإلا فإن مظهر ذاك العصر كان التعصب لجميعهم، فقد حكى الشيخ الشعراني - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى في مقدمة " طبقاته الكبرى " المسماة بـ " لواقح الأنوار "

ما مثاله: وقد أخبرني شيخنا الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري بمصر المحروسة أن شخصًا وقع في عبارة موهمة للتكفير، فأفتى علماء مصر بتكفيره، فلما أرادوا قتله قال السلطان جقمق: هل بقي أحد من العلماء لم يحضر؟ فقالوا: نعم، الشيخ جلال الدين المحلي شارح " المنهاج "، فأرسل وراءه فحضر، فوجد الرجل في الحديد بين يدي السلطان، فقال الشيخ: ما لهذا؟ قالوا: كفر، فقال: ما مستند من أفتى بتكفيره، فبادر الشيخ صالح البلقيني من مشاهير الشافعية، وقال: قد أفتى والدي شيخ الإسلام الشيخ سراج الدين في مثل ذلك بالتكفير، فقال الشيخ جلال الدين - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: يا ولدي أتريد أنْ تقتل رَجُلاً مُسْلِمًا مُوَحِّدًا يحب الله ورسوله بفتوى أبيك؟ حلوا عنه الحديد، فجردوه، وأخذه الشيخ جلال الدين بيده وخرج والسلطان ينظر، فما تجرأ أحد يتبعه - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وقد عُدَّ الشعراني من الأعلام الذين أكفرهم الجامدون المتعصبون ما يقرب من الثلاثين، فمنهم القاضي عياض، اتهموه بأنه يهودي؛ لملازمته بيته للتأليف نهار السبت، وذكر أن المهدي قتله. ومنهم الإمام الغزالي كَفَّرَهُ قضاة المغرب وأحرقوا كتبه، ومنهم التاج السبكي رموه بالكفر مِرَارًا، وسجن أربعة أشهر (¬1)، وكل هذا إنما كان بزعم المُتَعَصِّبِينَ بشهادات ¬

_ (¬1) ذكر السُبكي محنته هذه في آخر منظومة له في الفقه، عندي الكراسة الأخيرة منها.

وأقضية وفتاوى، ولكن سرعان ما فضحهم التاريخ وكشف عوارهم، كما حكاه الشعراني وغيره، والحمد لله الذي جعل الباطل زَهُوقًا. وهكذا يمر بتواريخ تلك القرون ما لا يحصى من حوادث من أقيمت عليهم الفتن، واتهموا بما اتهموا به، مع أن الحدود تدرأ بالشبهات، ونعني بالحدود ما نص عليه في الكتاب العزيز وَالسُنَّةِ الغَرَّاءَ، فإذا كانت في تلك المكانة وقد شرع فيها محاولة درئها بالشبهات، فكيف بحدود لا سند لها إلا بالاجتهاد، وليس لها أصل قاطع، ولا نص محكم، فلا ريب أنها أولى بالدرء، وأجدر بالدفع، ولا يدري المرء ما الذي حملهم على نسيان هذه الموعظة حتى عكسوا القضية، وأصبحوا يكبرون الصغير، ويعظمون الحقير، ويهولون الأمور، ويدعون بالويل والثبور، مِمَّا لا يقومون بعشره للمنكرات المجمع عليها، والكبائر التي يُجَاهَرُ بِهَا، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولما تشددت القضاة المالكية في هذا الباب، أصبحوا هدفًا لأولي الألباب، حتى قال الإمام ابن الوردي في ذاك القاضي المتقدم الرباحي: إن المالكية بدمشق كتبوا إليه: «يا مغلوب، لقد بغضت مذهب مالك إلى القلوب، وقطعت المذاهب الأربعة عليه بالخطأ، وزالت بهجته عند الناس

وانكشف الغطا ... إلخ». والسبب في ذلك ما ابتدعه الملك الظاهر برقوق من توظيف قضاة أربعة على المذاهب الأربعة مِمَّا لم يعهد قبله في دولة من الدول، حتى نشأ من ذلك ما نقمه عليه الأعلام، وعدوه من التفرقة في الإسلام، قال التاج السبكي في " طبقاته " (¬1)، في ترجمة قاضي القضاة بالديار المصرية تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي المُتَوَفَّى سَنَةَ 566، ما مثاله: وفي أيامه جدد الملك الظاهر القضاة الثلاثة في القاهرة، ثم تبعتها دمشق وكان الأمر متمحضًا للشافعية، فلا يعرف أن غيرهم حكم في الديار المصرية منذ وليها أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي في سَنَةَ 284 إلى زمان الظاهر إلا أن يكون نائب يستنيبه بعض قضاة الشافعية في جزئية خاصة، وكذا دمشق لم يَلِهَا بعد أبي زرعة المشار إليه إلا شافعي غير التلاشا عوني التركي، الذي وليها يويمات وأراد أن يجدد في جامع بني أمية إِمَامًا حَنَفِيًّا، فأغلق أهل دمشق الجامع، وعزل القاضي (¬2). (قال السبكي) ¬

_ (¬1) جـ 5 ص 134. (¬2) تأمل هذا التعصب واسترجع وحوقل، أين غاب عنهم فضل سائر الأئمة [المَتْبُوعِينَ] الأربعة وغيرهم، وكيف نسوا أن الناس عيال عليهم، تستمد من بركة فقههم واستنباطهم وتأصيلهم وتفريعهم؟ ما أجمد قَوْمًا يزعمون أنهم تَعَبَّدُوا بمذهب واحد، أو اتباع إمام واحد، أَوَ مَا عَلِمُوا أَنَّ كُلَّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا تَعَبَّدَ النَّاسَ بِتَنْزِيلِهِ الكَرِيمِ وَهَدْيِ نَبِيِّهِ المَعْصُومِ.

واستمر جامع بني أمية في يد الشافعية، كما كان في زمن الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قال: ولم يكن يلي قضاء الشام والخطابة والإمامة بجامع بني أمية إلا من يكون على مذهب الأوزاعي إلى أن انتشر مذهب الشافعي، فصار لا يلي ذلك إلا الشافعية. (ثم قال السبكي): وقد حكي أن الملك الظاهر رؤي في النوم فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: عذبني عذابًا شديدًا بجعل القضاة أربعة، وقال: فرقت كلمة المسلمين. اهـ. ولا يخفى على ذي بصيرة ما حصل من تفرق الكلمة، وتعدد الأمراء واضطراب الآراء، وقد قال أبو شامة لما حكى ضم القضاة، أنه ما يعتقد أن هذا وقع قط. قال السبكي: وصدق فلم يقع هذا في وقت من الأوقات، قال: وبه حصلت تعصبات المذاهب، والفتن بين الفقهاء، فإنه يؤيد ما قدمناه من اتخاذ هذه آلة للفتن والتشفي من المخالفين، حتى أدال الله من تلك الدولة للسلطان سليم خان، فنسخ كل ذلك، وقصر الأمر على قاضٍ حنفي واحد، ولا ريب أن هذا كان من النعم الكبيرة، إذ قمعت به فتن خطيرة، وحسمت به شرور وفيرة، نعم لم يزل في الأمر حاجة إلى الكمال، وهو سعي أولي الحل والعقد بعقد مؤتمر علمي من كبار فقهاء المذاهب المعروفة، وتأليف مجلة تستمد من فقه سائر الأئمة الأربعة وغيرهم مِمَّا فيه

رحمة ويسر، ومشي مع المصالح والمنافع، ودفع المضار في أبواب المعاملات، فبذلك تظهر محاسن الدين في الأقضية والأحكام، ويعرف أنه دين المدنية في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة وساعة القيام، وإن اليوم الذي تتحقق فيه هذه الأمنية لهو أسعد الأيام، والمستعان بالله ذي الجلال والإكرام. اهـ.

فهرس

فهرس ميزان الجرح والتعديل ................................................... 3 منشأ النبز بالابتداع ...................................................... 4 من شهر الرواية عن المُبَدَّعِين وقاعدة المُحققين في ذلك ........ 5 آفات الجرح إلاَّ بقاطع .................................................... 6 الوجوه التي تعرف بها ثقة الراوي .................................... 7 إيضاح في حكمة الرواية عن المُبَدَّعِين ............................... 8 عقوق الخلف بهجر مذهب السلف ..................................... 9 رد القول بمعاداة المبدّعين .............................................. 11 رد القول بتفسيق المُبَدَّعِين ............................................. 13 خطر النبز بالفسق ومعناه .............................................. 14 جواب شُبهة ............................................................... 25 جواب شُبهة أخرى ....................................................... 26 رفع وهم في عبارة البخاري ............................................ 29 درء وهم واشتباه ......................................................... 35 ثمرة الرفق بالمخالفين .................................................. 37 حملة الأعلام المُحققين على المتفقهة المُكفِّرين .................... 39

§1/1