الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون

محمد عزير شمس

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال (8) الجامعُ لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون جمعه ووضع فهارسه محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران إشراف وتقديم بكر بن عبد الله أبو زيد تمويل مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

بسم الله الرحمن الرحيم مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجح الخيرية sulaiman bin abdul aziz al rajhi charitable foundation حقوق الطبع محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجح الخيرية الطبعة الثانية شهر شوال- 1422 هـ دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع مكه المكرمة ص. ب 2928 هاتف 5505305 فاكس 5542209 الصف والإخراج دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع

تقديم فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي، وعضو هيئة كبار العلماء

تقديم فَضيلة الشيخ العَلامَة بَكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي، وعضو هيئة كبار العلماء الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد: فهذه بقية خير مما ترك الأولون على امتداد نحو سبعة قرون من عام 661 حتى عام 1300، حَوَتْ خمسًا وسبعين صحيفة مشرقة من صحائف الأبرار، مدونة في خمسة وسبعين كتابًا من كتب السير والتاريخ والأخبار، أوعبت أكثر من سبع مئة صفحة، كتبها خمسة وخمسون عالمًا من علماء الإسلام من شتى الأقطار، عربًا وعجمًا، شامًا وعراقًا، ومصرًا وحجازًا ويمنًا، مشرقًا ومغربًا، على ختلاف مذاهبهم الإسلامية، وتنوع مشاربهم العَقَدِية، كُلٌّ حسب وُسْعه، ومبلغ علمه، وجادَّته في تأليف كتابه، جميعها في سيرة شيخ الإسلام، الإمام الحجة، المجدد للمحجة، وارث علم النبوة، الناصر للسنة، القامع للبدعة، المجتهد المطلق، الشهير بشيخ الإسلام، وبابن تيمية، وبهما، وبإمام الدنيا في زمانه، أحد أذكياء العالم وأفراده في الحفظ والعلم والعمل، المُحَلَّى قبل بلوغه الثلاثين من عمره بما يبلغ الصفحات بجميل الأوصاف في علمه وعمله واجتهاده، وتجديده وجهاده، وإيمانه وصبره، وتألهه، وزهده، وورعه، وشجاعته، وكرمه، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر،

تتابع تدوين هذه الصحف المباركة من يوم ولادته إلى يوم وفاته على النحو الآتي حسب وفياتهم

والتعظيم لحرمات الله، الملقب بتقي الدين، والمكنى بأبي العباس، أحمد ابن الشيخ الإمام المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم، ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية بن الخضر ابن علي بن عبد الله، النُّمَيْري نسبًا، الحَرَّاني مولدًا، ثم الدمشقي منشأً ومدفنًا، الحنبلي مذهبًا، ثم المجتهد، المشتهر بابن تيمية المجدد. المولود في يوم الاثنين 10/ 3 / 661 المتوفى في ليلة الاثنين 20/ 11 / 728 عن سبعة وستين عامًا وثمانية أشهر وعشرة أيام -رحمة الله تعالى عليه-. تتابع تدوينُ هذه الصحف المباركة من يوم ولادته إلى يوم وفاته على النحو الآتي حسب وَفَيَاتهم: 1 - فرسالة تلميذه ابن شيخ الحزَّامين الحنبلي المتوفى سنة 711 - رحمه الله تعالى- وصية لأتباع الشيخ بالثبات على نصرة السنة، وأن في نصرة الشيخ والذب عنه إحياء للسنة، مع أن تلميذه هذا أسن منه. وقد استهلها بالوصية بالتقوى، وأن يكون للعبد ساعة من ليل أو نهار يخلو فيها بربه، ففيها من جلاء أصداء القلوب ما الله به عليم، وأن حفظ هذه الساعة غير ساعات الصلوات المكتوبة لأن وقتها قد يهجم على العبد وقلبه، فيجذب عن الإقبال على الله، لكن هذه الساعة إذا هجم عليها العبد، عرف مدى آثارها على ساعات صلواته. ثم لفت إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم في سنته والعمل بها، وما يحصل بذلك من آثارِ رحمةِ الله على القلب من الخشية والصدق. وأنه يجب الاعتدال بين أمور ثلاثة: المصالح الدنيوية، والفضائل

العلمية، والتوجهات القلبية. ثم أفاض -رحمه الله تعالى- في شكر ما أنعم الله به من ظهور شيخ الإسلام أمام صفوف المُحْدِثين في الدين: فقهاء، وصوفية، وجهمية، وحلولية، ومظالم الأمراء والأجناد، والمبتدعة في العبادات ... ويوصيهم بالصبر، فإن البلاء قَدْ عَمَّ الأرض، وأتباع الشيخ المجدد مثل الشامة البيضاء في الجلد الأسود. ولن يعرف قدر هذا الرجل إلا من عرف حقيقة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووالله ثم والله إنه لا يوجد في عصره من تُستجلى السنن النبوية المحمَّدية من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، وما هو بالمعصوم. ثم ذَكَر الموقف الدفاعي عن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مُتَّكِئًا على من كتب كراسة في عَدِّ مثالب الشيخ مدلسًا لها بذكر شيء من الفضائل؛ ليظهر إنصافه، فيوقع في قلوب الطلاب الوحشة من الشيخ وعلمه، وذكر -رحمه الله تعالى- أن هذا لا يحصل إلا من تغير عقل أو فهم أو صدق أو تقدم سِن، وَشَرَحَ هذا بما يتعين الوقوف عليه، وهذه من اللفتات النفيسة. ومن اللفتات النفيسة -أيضًا- ما ذكره من أنه ما من شخص في نفسه شيء على آخر إلا ويجد عليه بعض الأشياء، لكن عند المحاققة نجدها جزئيات تُغْمَر في بحر علمه وعمله وفضله، والعصمة لأنبياء الله ورسله، والكمال لله وحده. وبالجملة فهذه الرسالة أنشأها تلميذه الواسطي، ولا أراها في الدفاع عن شيخ الإسلام والوصية به وبتلامذه وكتبه، والحذر من مكايد خصومه إلا واسطةَ العقد من هذا "الجامع"؛ لما فيها من نفاذ البصيرة، وحسن الدفاع، ومراغمة المخالف بالحجة، فرحمه الله رحمة واسعة آمين.

2 - وما كتبه تلميذه الغياني الحنبلي -رحمه الله تعالى- تضمن مواقف جهادية كثيرة لشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- تفرد بها في تكسير الأحجار، ومعالم الوثنية التي يتعلق بها العوام، وإزالة كثير من البدع والضلالات، وهي في دمشق: العمود المُخَلَّق بالباب الصغير، وفي مسجد الكف، وصخرة مسجد النارنج، وصنم عند مسجد النارنج، وعمود آخر مُخَلَّق، وما يسمى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإطعام العدس من سماط الخليل، وكان ساعده الأيمن في ذلك أخوه شرف الدين -رحمه الله تعالى-. وفي مصر: بيانه عن مشهد الحسين، وكشف حال بني عُبيد وأنهم باطنية، ثم مناظرته مع ثلاثة من رهبان الصعيد وهو في قاعة الترسيم، وحضور الشيخ الدِّباهي من الشام إلى مصر ليصلح بين الشيخ والمنبجي. 3 - ورسالة تلميذه ابن مُرِّي الحنبلي -رحمه الله تعالى- على نحو رسالة ابن شيخ الحزامين، لكنها تميزت بالوصية بعلم الشيخ وكتبه وحفظه في تلاميذه البارزين، وأن يُجْمَع كلامه بعضُه إلى بعض مهما تكرر مع المقابلة وتكثير نُسَخِها. ويوصي بتلميذه أبي عبد الله بن رُشَيِّق؛ لأنه خزانة ذخائر كتب ابن تيمية، وهو قليل ذات اليد، فليساعدوه حتى يتفرغ لجمعها ونسخها، لكن ابن رشيق توفي سنة 749 - رحمه الله تعالى- والدَّين في ذمته، وهو في ذمة من فرَّط في مساعدته وسَدِّ خُلَّته -سامح الله الجميع-. وأوصى برد الشيخ على عقائد الفلاسفة، وبَيَّن نُسَخَه، وأن يراجع في كتبه كذلك المزي وابن القيم، وشرف الدين، وقال: "ووالله -إن شاء الله- ليقيمن الله لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهُّمه واستخراج

مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم ... " اهـ. وقد تحقق ذلك -بحمد الله- فَبَرَّ قَسَمُ ابن مُرِّي، فجمعت كتب شيخ الإسلام، واشتغل بها وبتحقيقها العلماء، كما جمعت مسائل الإمام أحمد مع نهيه عن الكتابة عنه. ونظائر ذلك كثيرة وهو من تأييد الله لهذا الدين، وعباده الصادقين. 4 - وعصريه النويري الشافعي في: "نهاية الأرب" ساق سبب سجن شيخ الإسلام بمصر عن مشاهدة وعيان، ثم اعتقالاته في دمشق وأسبابها مفصلة. 5 - وكلمة تلميذه في القاهرة ابن سيد الناس المالكي في أجوبته، فيها أن أبا الحجاج المزي حمله على رؤية ابن تيمية، فلما رآه صار فوق وصفه، وأخذ في وصف حظه من العلوم بعبارة فائقة، وبيان مواقف الناس منه، وتأليبِ خصومِهِ السلطةَ عليه، وظهوره عليهم. 6 - وترجمه عصريه الجزري الشافعي، ترجمة متوسطة تميزت بما حصل له ولبعض تلاميذه من سجن ومحن بسبب الفتوى في شد الرحال. 7 - وترجمه تلميذه البرزالي الشافعي، وتميزت بما حصل لشيخ الإسلام من المواقف الجهادية للتتر وغيرهم، وما حصل له من خصومه من جدل ومحاضر وسجن وإيذاء وأسباب ذلك. 8 - وترجمه عصريه الدواداري، بنحو ما لدى النويري، والجزري، والبرزالي. 9 - رسالة عصريه ابن حامد الشافعي إلى أبي عبد الله بن رُشَيِّق،

يعبر فيها عن انبهاره بكتب إمام الدنيا، ومباحثه في الرد على الفرق، وأنه لما حج عام 728 عرم السفر إلى دمشق، لكن بلغته وفاته فعدل إلى داره الكوفة، وطلب في رسالته فهرست مصنفات الشيخ وما تيسر منها. 10 - وعصريه عبد الباقي اليماني الشافعي، حلَّاه بما خصه الله به من المزايا علمًا وعملًا، وأن ابن حزم اتفق له ما اتفق للشيخ حذو القذة بالقذة. 11 - سيرته لتلميذه ابن عبد الهادي الحنبلي -من آل قدامة- أَوْفَى التراجم مادة، وقد رجع فيها إلى زميله الذهبي. 12 - تلميذه الذهبي الشافعي، ترجمه في تسعة كتب، عمدتها ترجمته في: "ذيل تاريخ الإسلام" وقد تميزت بالدفاع عنه. 13 - تلميذه ابن رُشَيِّق المغربي المالكي، أفرد رسالة في تسمية ما وقع له من مؤلفات شيخه. وقد أفاد هذا "الجامع" في مقدمته توثيق نسبتها إليه، وغلط من نسبها مطبوعة لابن القيم، بما تتابع المعاصرون عليه، منهم كاتب هذا التقديم. 14 - تلميذه ابن فضل الله العُمَري الشافعي لا الحنبلي، فاقت بطولها، والدفاع عنه، وساقها بأسلوب مسجوع على طريقة الترسُّل المليح، مع إضافة معلومات دقيقة. 15 - تلميذه ابن الوردي الشافعي، تميزت بطولها، والدفاع عن شيخه، وإضافات مهمة. 16 - تلميذه الوادي آشي المالكي، ترجمه في برنامجه ببضعة سطور، جمع فيها بين الثناء عليه، وتابع خصومَه بأنه كان يتبع شاذ الفتوى.

17 - تلميذه ابن القيم الحنبلي، نظم في النونية أمهات كتبه، وذكر مزاياها. 18 - تلميذه بالقاهرة مغلطاي الحنفي، استجازه فأجازه، وذكرها، وقال: لشيوع علمه استغنى عن التعريف بحاله. 19 - تلميذه الصفدي الشافعي، ترجمه في كتابين له، وتميزت بأمور أربعة: طولها، والدفاع عنه، وإضافة معلومات جديدة حكاها عن رصيفه الإمام شمس الدين ابن القيم، وعجيب أن هذه التراجم مع كثرتها لم يكثر ذِكْر ابن القيم فيها مع مزيد اختصاصه بشيخه. وكان سياق الصفدي بأسلوب السجع والترسل. 20 - تلميذه ابن شاكر الكُتْبي الشافعي، ترجمه في كتابين: "فوات الوفيات" و"عيون التواريخ"، اعتمد في الأول على "الوافي بالوفيات" للصفدي، والثاني مختصرًا. 21 - عصريه اليافعي اليماني الشافعي، ترجمة مختصرة. وله فيها متابعة لخصوم شيخ الإسلام في النيل منه. 22 - عصريه الفيومي الشافعي صاحب: "المصباح المنير" ترجمه مختصرًا. 23 - تلميذه ابن كثير الشافعي. ذكره في أحداث اثنتين وثلاثين سنة في تاريخه من ولادته سنة 661 إلى وفاته سنة 728 وهي مشبعة بالوقائع وما جَرَيات حياته، ومن قرأ خبر وفاته جهش بالبكاء -رحم الله الجميع-. 24 - عصريه الملك الرسولي الشافعي، ترجمه مختصرًا، أثنى فيها على علومه ومناقبه وصفاته ووصف جنازته.

25 - تلميذ تلامذته وعصريه شيخ والده ابن حبيب الشافعي، ترجمه في كتابين محليًا له بجميل النعوت، والإشادة بشتى العلوم. وهما ترجمتان مختصرتان، منسوخة إحداهما من الأخرى. 26 - عصريه ابن بطوطة المالكي تعرض لذكره في رحلته بما انْتُقِدَ عليه، وشُكَّ في نسبته إليه. 27 - تلميذ تلامذته ابن رجب الحنبلي. ترجمه ترجمة مطولة مُشْبَعة، نافس فيها ابن عبد الهادي. 28 - ترجمه المؤرخ الخزرجي الشافعي اليماني مختصرًا، فيها الثناء على الشيخ وعلومه، وهي قرية من ترجمة الملك الرسولي، وكأن أحداهما منقولة عن الأخرى. 29 - تلميذ تلامذته التقي الفاسي المالكي. ترجمة موجزة. 30 - تلميذ تلامذته ابن ناصر الدين الشافعي. ترجمة حسنة تميزت بالذب عنه. 31 - تلميذ تلامذته وناصر مذهبه المقريزي الشافعي. له ترجمة مطولة، مشبعة بالوقائع والأحداث في "المقفى الكبير"، ومختصرة في "الخطط"، و"السلوك". 32 - وترجمه ابن نصر الله الحنبلي في مختصره لذيل ابن رجب بنصها عن ابن رجب، وفقًا لشرطه في مقدمته في بعض التراجم. 33 - تلميذ تلامذته الحافظ ابن حجر الشافعي. ترجمه مطولًا في "الدرر". وفي تقريظه للرد الوافر مختصرًا متميزًا بالدفاع عنه؛ وما يمس

شيخ الإسلام هو فيه ناقل وليس بقائل. 34 - تلميذ تلامذته العيني الحنفي. ترجمه مختصرًا في "عقد الجمان". وفي تقريظه للرد الوافر دفاعًا عنه. 35 - تلميذ تلامذته البلقيني الشافعي، في تقريظه للرد الوافر مختصرًا دفاعًا عنه. 36 - وترجمه ابن تغري بردي الحنفي في ثلاثة من كتبه تراجم مختصرة. 37 - وترجمه ابن مفلح الحنبلي. ترجمة حسنة. 38 - ترجمه الحَرَضي اليماني الشافعي مختصرًا، تابع فيها اليافعي اليماني، إلا أنه رد عليه بنقل كلام أحد علماء اليمن المنصفين. 39 - والتونسي المالكي في سطرين، على الجادة في كتابه. 40 - والسيوطي الشافعي في بضعة سطور، على الجادة في كتابه. 41 - وترجمه ابن سباط، بذكر خبر وفاته -رحمه الله تعالى- وهو درزي. 42 - والنعيمي الشافعي في ثلاث صفحات. 43 - والعليمي الحنبلي ترجمة مطولة في "المنهج الأحمد"، ومختصرة في "الدر المنضد". على نحو ابن رجب. 44 - والداودي الشافعي ترجمة مختصرة. 45 - وبا مخرمة الشافعي اليماني، مختصرة، منقولة من اليافعي اليماني.

من هذا العرض يتبين الآتي

46 - والعدوي الشافعي ترجمة مختصرة. 47 - وابن العماد الحنبلي ترجمة مطولة. 48 - والمكناسي المالكي بسطور الوادي آشي. 49 - والغزي الشافعي بثلاثة سطور. 50 - والدهلوي الحنفي المُحَدِّث برسالة مفردة باسم "مناقب ابن تيمية" وهي في إعلان موالاته لسلامة معتقده. 51 - وياسين الموصلي الشافعي، ترجمة مختصرة. 52 - والشوكاني المُحَدِّث. ترجمه ترجمةٌ مطولةٌ متميزةٌ بذكر مناقبه والدفاع عنه. 53 - والكشميري المحدِّث، ترجمة حافلة مطوَّلة. 54 - وصِدِّيق المحدِّث ترجمه في كتابين "أبجد العلوم"، و"التاج المكلَّل" مطولًا فيهما، مشبعًا ترجمته بالدفاع عنه. 55 - الآلوسي الحنفي ترجمه ترجمة مطولةً متميزة بالدفاع عنه. وهذه التراجم لدى الشوكاني، والكشميري، وصِدِّيْق، والآلوسي، حافلة بنقول مختارة من الذهبي، وابن عبد الهادي، وغيرهما، وليس فيها ما يضاف لسوابقها مع طولها. من هذا العرض يتبين الآتي: 1 - أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ترجم له سبعة عشر

عالمًا من تلامذته وأصحابه، وهذه ميزةٌ قَلَّ أن تكون لِعَالم آخر، وهي أوثق المصادر في مواد التراجم، وتنافس الترجمة الذاتية في الاعتبار والتوثيق. 2 - وترجم له عشرة من معاصريه الذين فات عليهم اللقاء به. 3 - ومترجم في طبقات المفسرين، والمحدثين، وفقهاء الحنابلة باعتبار منزلته من هذه العلوم. 4 - وفي كتب التراجم العامة، ترجم له علماء المذاهب الأربعة: أربعة من الحنفية، وسبعة من المالكية، وثمانية وعشرون من الشافعية، وأحد عشر من الحنابلة. 5 - ومنهم من ترجمه في أكثر من كتاب، فالصفدي، وابن شاكر الكتبي، وابن حبيب، وابن حجر، والعليمي، وصِدِّيق كلُّ واحد منهم ترجمه في كتابين له. والمقريزي وابن تغري بردي كل واحد منهما ترجمه في ثلاثة كتب له، والذهبي ترجمه في تسعة كتب له. 6 - وهذه التراجم منها التراجم الموعبة المطولة المشبعة بالمعلومات وهي ثلاث وعشرون ترجمة جلها لتلاميذه، وأوفاها على الإطلاق ترجمة تلميذه ابن عبد الهادي، ولم ينافسه إلا ابن رجب -رحم الله الجميع- وابن كثير في تاريخه، وهذه الثلاث هي عيون تراجمه. 7 - ومنهم من حفلت ترجمته بنواحي متعددة، ومنهم من تميزت ترجمته له بذكر الوقائع والأحداث كما لدى الأئمة: ابن كثير، والنويري، والبرزالي، والمقريزي -رحمهم الله تعالى-. 8 - ومنهم من كانت ترجمته في ناحية بعينها، مثل ابن رُشَيِّق في تسمية مؤلفاته، والغياني في جهاده في تكسير الأحجار وغيرها من الظواهر الوثنية.

ومن هذه السيرة الجامعة الحافلة في هذا "الجامع" تستفاد الأمور الآتية

9 - ومنها ما كان سياق مؤلِّفها لها على طريقة السجع والترسل، وذلك في جواب ابن سيد الناس في ترجمته، وابن فضل الله، والصفدي، لكن لابن فضل الله فضل بيان، وانقياد ألفاظ، وكذا في كتابي ابن حبيب مع إيجازهما. 10 - ومنها تراجم مختصرة، بل بعضها برقيات في سطور معدودة، حسب طريقة المؤلف في كتابه. 11 - وجميع هذه التراجم تفيد سيرة عطرة زكية، وفي بضع تراجم شابها -مع اختصارها- رَشْح من ضرائر الباطل، والبلاء المتناسل لدى خصومه، الذين عز عليهم الإذعان للدليل، فراغ عليهم ضربًا باليمين. مثل كلمة قيدها تلميذه الآفاقي الوادي آشي من أنه ركب شاذ الفتوى، وتابعه على هذا الشقاء عصريه اليافعي، ثم المكناسي بلا عزو، وهذا قول رَثٌّ، سرعان ما تساقط في ساحة قائله، وأصبح ما حكم بشذوذه بالأمس، هو المعتمد فتوى وقضاء اليوم، مثل: الطلاق الثلاث بلفظ واحد، والحلف به، وأن المشروع هو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا شدّ الرحال إليه، وهكذا والله أعلم. ومن هذه السيرة الجامعة الحافلة في هذا "الجامع" تستفاد الأمور الآتية: الأمر الأول: الوقوف على المعلومات الجامدة، التي تساق لأي مُتَرْجَم، وإن تفاوت المترجِمون فيها، كُلٌّ حسب ما وهبه الله له. ومما يحسن ذكره هنا: 1 - أن سياق نسبه ثمانية آباء كما تقدم من سياق تلميذه ابن عبد الهادي دون غيره.

2 - نسبته "النميري" من إفادات تلميذ تلامذته ابن ناصر الدين، وتابعه عليها العدوي في: "الزيارات". 3 - و"تيمية" لقب لجده محمد، وهو الخامس من آبائه، وفي تعليلها قولان مشهوران. 4 - و"الحراني" نسبة إلى بلدة مشهورة في الجزيرة بين الشام والعراق، وليست هي التي بقرب دمشق ولا التي في تركيا، ولا التي بقرب حلب. 5 - ونَعْتُهُ -رحمه الله تعالى-: كان أبيض البشرة، أسود الرأس واللحية قليل شيب اللحية، شعر رأسه إلى شحمة أذنيه، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، أبيض العينين، جَهْوَرِيَّ الصوت فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة ثم يقهرها بحلم وصفح، كأن عينيه لسانان ناطقان، إدا أخذ يتكلم ازدحمت العبارة في فمه. 6 - لم يرث العلم عن كَلاَلَةٍ، وإنما نشأ في بيت علم منهم أبوه وجده المجد. 7 - والدته: الشيخة الصالحة ست النِّعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية المتوفاة بدمشق سنة 716. وقد ولد لها تسعة ذكور، ولم ترزق بنتًا قط، منهم ثلاثة أشقاء شيخ الإسلام وهو أكبرهم، وزين الدين عبد الرحمن، وشرف الدين عبد الله، ومن أخوته لأمه بدر الدين قاسم بن محمد بن خالد المتوفى بدمشق سنة 717. 8 - تفرع آل تيمية إلى دوحتين: آل عبد الله، وآل محمد، وشيخ الإسلام من آل عبد الله، وقد أحصيت مُشَجَّرَهم في: "المدخل المفصل: 1/ 532 - 536 " وبينت وجود آل تيمية إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري.

9 - تجمع التراجم أن الشيخ هاجر مع والده وأهل بيته من حران إلى دمشق أثناء سنة 667 والشيخ في السابعة من عمره، وذلك بسبب جور التتار. 10 - نشأ -رحمه الله تعالى- في تصوُّن تام وعفاف وتألُّه واقتصاد في المأكل والملبس، بَرًّا بوالديه تقيًّا ورعًا عابدًا ناسكًا صوامًا قوامًا. 11 - أخذ عن أكثر من مائتي شيخ، كلهم دماشقة، وجُلُّهم حنابلة، وكان أول سماعه من ابن عبد الدايم بدمشق، وهو في السابعة من عمره، ومجموع من سمي منهم في هذا "الجامع" ستة وثلاثون شيخًا. 12 - أوائل في حياته تدل على النبوغ المبكر: • تعلم الخط والحساب في الكُتَّاب. • حفظ القرآن وهو في الصِّغر. • أتقن العلوم من التفسير والحديث والفقه والأصول والعربية والتاريخ والجبر والمقابلة والمنطق والهيئة وعلم أهل الكتابين، والملل الأخرى، وعلم أهل البدع، وغيرها وهو ابن بضع عشرة سنة، حتى أنه حذق العربية في أيام، وفهم كتاب سيبويه في أيام، وفي الحديث سَمِع المسند مرات وما ضبطت عليه لحنة متفق عليها، وكان إقباله على التفسير إقبالًا كليًّا منقطع النظير. • ناظر واستدل وهو دون البلوغ. • أفتى في سن السابعة عشرة من عمره أي سنة 677. • دَرَّس في الحادية والعشرين من عمره أي سنة 681 بعد موت أبيه في المدرسة السكرية، وتولى مشيختها يوم الاثنين 2/ 1 / 683.

الأمر الثاني: الوقوف على مواطن القوة في ترجمته

• بدأ درس التفسير بالجامع الأموي في 10/ 2 / 691 أي وهو ابن ثلاثين سنة، واستمر سنين متطاولة. • حَجَّ مرة واحدة سنة 692 أي وعمره 31 سنة، وبعد عودته من الحجِّ آلت إليه الإمامة في العلم والدين. • نشر العلم في: دمشق، ومصر، والقاهرة، والإسكندرية، وفي سجونها، وفي الثغر. • دَرَّس بالمدرسة الحنبلية في يوم الأربعاء 17/ 8 / 695. • أول رحلاته إلى مصر في القاهرة والإسكندرية مرتان سنة 700، ثم عاد إلى دمشق، ثم رجع إلى مصر سنة 704، وكانت إقامته بها نحو سبع سنين وسبع جمع أي إلى سنة 712 متنقلًا في جلها بين سجون القاهرة والإسكندرية. • بدأ في التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة. وهكذا من البدايات المبكرة الدالة على نبوغه، وتأهله للاجتهاد والتجديد والإمامة في العلم والدين. الأمر الثاني: الوقوف على مواطن القوة في ترجمته: في الحديث الذي أخرجه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن". ومن نظر في ترجمة شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وجد أن الله -سبحانه- قد منحه أسباب القوة التي تبنى عليها قبة النصر وهي:

الثبات، واللهج بذكر الله -تعالى-، وطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاتفاق مع أنصار الإسلام والسنة، والصبر، وقد قال الله - تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال/ 45 - 46]. ومن مظاهر القوة في شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: - ما رزقه الله من قوة البدن واعتداله، وقوة الأداء في صوته، فقد كان جَهْوَريًّا، يستولي على قلوب سامعيه. - قوة الحفظ فقد بَهَرَ الفضلاء بذلك، وقلما حفظ شيئًا فنسيه، وقد كان يحفظ "المحلى" لابن حزم ويستظهره، وكان أول محفوظاته من الحديث: "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، وقل من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوًا، مع شدة استحضاره له وقت الدليل. - قوته في فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وسرعة إدراكه؛ ولهذا قيل عنه: "كأن عَيْنيه لسانان ناطقان". - تواريخ لها مدلولاتها على قوته ونبوغه المبكر: • ناظر وهو دون البوغ، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه. • أفتى في سن السابعة عشرة من عمره، أي سنة 677، وكان الشرف أحمد بن نعمة المقدسي الحنبلي المتوفى سنة 694 هو الذي أذن له بالفتيا وكان يفتخر بذلك.

• بدأ التأليف وهو في سن السابعة عشرة من عمره أي سنة 677. • دَرَّس وهو في الحادية والعشرين من عمره، أي سنة 681. وكان أول دروسه بعد وفاة أبيه في مدرسة الحديث السكرية، وتولى مشيختها في يوم الاثنين 2/ 1 / 683. • بدأ درس التفسير في 10/ 2 / 691 أي وعمره ثلاثون سنة، واستمر مدة سنين متطاولة وقد انعقدت له الإمامة في التفسير وعلوم القرآن الكريم، وقد أقبل عليه إقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق؛ ويقال: إنه وضع تفسيرًا مطولًا أتى فيه بالغريب العجيب. - قوته في الطلب والتلقي والأخذ عن الشيوخ، حتى دار في دمشق على أكثر من مائتي شيخ. - قوته في البحث والقراءة والمطالعة، فلا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث. - قوته في ضبط النفس والسيطرة عليها من ملاذ الدنيا، فلا لذة له إلا في نشر العلم وتدوينه والعمل به. ولهذه القوة مظاهر: • رفضه للأعطيات. • قناعته بما له من المعلوم الذي يسدُّ حاجته على يد أخيه الشرف وهو القائم بشؤونه ومصالحه. • ما تزوج ولا تسرَّى قط لا رغبة عن هذه السنة، لكنه مثقل الظهر بهموم العلم والدعوة والجهاد.

- قوته في مواقفه الجهادية، والمغازي الإسلامية، وكسر شوكة الملاحدة والباطنية، كما في وقعة شقحب، والكسروان، وموقفه مع غازان، حتى وصفت شجاعته بأنها "خالدية". - قوته في حياته الجادة التي لا تعرف الهزل، فضلًا عن سافل الأخلاق من الغيبة والنميمة، فقد كان -رحمه الله تعالى- في غاية التنزه من الغيبة والنميمة، وما عرفت عثرة له في شيء من ذلك، وكانت مجالسه عامرة بالخير لا يجرؤ المغتابون على غشيانها. - قوته في مواقفه مع الولاة، في النصح والأمر والنهي. - قوته في تعبده، وتألهه، ومداومة الذكر، والأوراد، لا يشغله عن هذا شاغل ولا يصرفه صارف. فأين من يظهر القوة في الحق وإذا حضرت العبادات تثاقلت أعضاؤه، وأصيب بالخمول، على حد ما ذكره الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- من العجائب التي شهدها وعد منها: أنه رأى مغنيًّا بالمدينة يعلم الجواري الغناء وعمره 90 سنة وهو قائم، فإذا حضر وقت الصلاة، صلى وهو جالس -نعوذ بالله من الحرمان-. كما في "طبقات السبكي": (2/ 99). - قوته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها، وهذه وحدها تعطي طالب العلم دفعة إلى إدامة النظر في كتبه وقراءتها مرة بعد أخرى. - قوته في التأليف: بدأ -رحمه الله تعالى- التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان من أفراد الدهر في كثرة تأليفه، فلا يُعْلم في الإسلام من صنَّف نحو ما صنف ولا قريبًا منه، وقد قدرت مؤلفاته بخمسمائة

الأمر الثالث: مواطن الضعف في سيرته حسب ميول الناظرين

مجلد، وبأربعة آلاف كراس أو أكثر، وقد بلغ ما يكتبه في اليوم والليلة أربع كراريس وكان يكتب مؤلفاته من حفظه، وكان ذا قلم سريع الكتابة إذا رقم، يكاد يسابق البرق إذا لمع، لكن كان خطه في غاية التعليق والإغلاق. وكانت مؤلفاته في غاية الإبداع وقوة الحجاج وحسن التصنيف والترتيب، غير مشوبة بِكَدَرٍ، بل خالصة من الشَّبه والشُّبه، وكثير منها مسودة لم يبيض، وله في غير مسألة مصنف مفردٌ أو أكثر. ومن مؤلفاته ما ألفه في قَعْدة، مثل: "الحموية" ألفها بين الظهرين سنة 698 وعمرة ثمان وثلاثون سنة، وألَّف لأهل الآفاق عدة كتب، تَلْبيةً لطلبهم، منها: لأهل واسط: العقيدة الواسطية، والحموية لأهل حماة، والمراكشية لأهل مراكش، والتدمرية لأهل تدمر، وهكذا. وألَّف بعض كتبه وهو في السجن، منها: في السجن بمصر: الرد على البكري، والرد على الأخنائي، وألَّف منهاج السنة النبوية وهو في مصر، وألَّف ما لا يحصى في السجن بالقلعة بدمشق. وقد جرت له بسبب بعض مؤلفاته وفتاويه محن من السجن، والنيل من العرض بغير حق، كما جرى له بسبب الحموية، والواسطية، وبسبب فتواه في الطلاق بالثلاث، وبالحلف بالطلاق، وفتوى الزيارة وشد الرحال، وغيرها. هذا مع ما حصل له في بعض سجناته من منع الدواة والقلم، وإخراج ما عنده من الكتب والورق. الأمر الثالث: مواطن الضعف في سيرته حسب ميول الناظرين: • ضعفه في نظر عشاق المناصب والولايات، فقد عرضت عليه

الأمر الرابع: السبق العلمي

مناصب علمية فأباها، وقال: يقوم بها غيري، أما نشر العلم وتصحيح الاعتقاد، ورد الناس إلى الله ورسوله فالناس أحوج ما يكونون إليه. فآلت ميزة خلَّدت ذكره في العالمين، وغاب أصحاب الولايات بأبهتهم بما لهم وما عليهم -مَنَّ الله على الجميع بعفوه ومغفرته-. • ضعفه في نظر طلاب المادة، فقد عُرِضَت عليه المرتبات، والأعطيات، فأباها؛ لأنه -رحمه الله تعالى- يعلم أنه إذا أخذت اليد، ضعفت مقاومة الباطل، واهتز موقف الناصح. فليعتبر من يقول: "أنا لها". • ما تزوج -رحمه الله تعالى- ولا تسرى، وهذه لذة لا يفوِّتها عامة أهل الدنيا؛ ولهذا لم يعرف أنه يتحدث عنده في هذه الملاذ ونحوها؛ كما قال بعض السلف: "جنبوا مجالسكم ذكر البطون والفروج" وهذا خلق رفيع وشرف في النفس. الأمر الرابع: السَّبْق العلمي: وهذا من أبرز المزايا في حياة شيخ الإسلام العلمية والعملية، فكان له سبق التجديد في تحقيق التوحيد بعد طول غياب، وحماية جنابه، وحماية حماه بدقائق أصبحت نورًا يقتدي به المصلحون. وقابله الخصوم: بافتراآت على الشيخ من خلال دعاوي كاذبة، مثل: دعوى بغض النبي صلى الله عليه وسلم - وأين الإثبات!؟ ودعوى أنه يمنع زيارة القبور وإنما منع البدعية لا الشرعية. ودعوى أنه يمنع من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإنما منع شدَّ الرِّحال إليه. ودعوى أنه يوالي النصارى، وأنَّى يكون ذلك وله "الجواب الصحيح لمن بدَّل دينَ المسيح"؟!. وسَبق التجديد في الفقهيات وهي لا تحصى كثرة، وقابلها الخصوم

الأمر الخامس: استجلاء العبر والدروس

بأنه خرق الإجماع، وقد نافح عنه العلامة برهان الدين إبراهيم بن تلميذ شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية في رسالة محررة نافعة باسم: "اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية". وسَبْق التجديد في علوم المنطق والفلسفة، هدم من خلال ردوده عليهم عددًا من نظرياتهم وقواعدهم. الأمر الخامس: استجلاء العِبَر والدروس: يمكن استجلاء الآتي: 1 - ما نال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- منزلة الإمامة في العلم والدين إلا من آثار التقوى واليقين والصبر في ذات الله على المكاره؛ ولهذا قال: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين". 2 - من أعظم أسباب الفوز والنصر، الزهد في المناصب والولايات، والكف عن زخرفها، وكما كان شيخ الإسلام كذلك، فقد كان أئمة الإسلام على هذه الجادة منهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- ولهذا قيل في ترجمته: "أتته الدنيا فأباها، والولايات فقلاها". فمسكين من يتطلع إليها ويقول: أنا لها، ومغبون -والله- من دفع ثمنها مُقدّمًا بالتنازل عن شيء من دينه، والملاينة على حساب علمه ويقينه، وكُلُّ امرىء حسيب نفسه. 3 - البذاذة من الإيمان، والاقتصاد في أمور المعاش من وظائف أهل الإسلام، وهكذا كان شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- مجتنبًا الترفه في المعاش، وتطلب الملاذ، فما أحلاه من أدب.

4 - إنها "العصامية لا العظامية". ليس الفتى من يقول: كان أبي ... إن الفتى من يقول: ها أنذا فسحقًا لعشاق: "الطبقية" الذين يتغنون بأمجاد أسلافهم وقد تسفلوا، ويستعلون على الناس بأهليهم وأذوائهم، وقد تقذروا، أما من جمع بين الحسنيين، وفاز بالفضيلتين، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وهكذا كان شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- فلم يركن إلى الدنيا، وأخذ يتغنى بآبائه فيقول: والدي مفتي الحنابلة، وجدي المجد شيخ الإسلام ... بل سلك جادة العلم والإيمان حتى صار زينة لأهل الإسلام. 5 - لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال به، ولا تكل من البحث فيه، وقل أن يدخل في علم إلا ويفتح له فيه؛ ولهذا قال الذهبي: "ما رأيته إلا ببطن كتاب". وفي غير هذا "الجامع" قال السخاوي في: "الجواهر والدرر: 1/ 117 " بسنده عن الشمس ابن الديري قال: سمعت علاء الدين البسطامي ببيت المقدس يقول: وقد سأله هل رأيت الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فقال: نعم، قلت: فكيف كانت صفته، فقال: هل رأيت قبة الصخرة قلت: نعم، قال: كان كقبة الصخرة مُلِيء كُتبًا ولها لسان يَنْطِق" انتهى. هذا مع انصراف عن أمور الدنيا انصرافًا كليًّا؛ إذ ليس له من المعلوم إلا اليسير، وقد تكفل أخوه شرف الدين بشؤونه. وهذا يفيد الدرس الآتي: وهو عدم اجتماع الضدين فكما أن: حُبُّ الكتابِ وحبُّ ألحان الغنا ... في قلب عبد ليس يجتمعان

فحب العلم وإشغال القلب والبدن بالمال وجمعه وتنميته، والمكاثرة فيه لا يجتمعان، فكلما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع من ذاك، فَلْنَبْكِ على حالنا؟. 6 - ولما سافر -رحمه الله تعالى- إلى مصر سنة 700 نزل عند عم تلميذه ابن فضل الله العمري، وكان سفره للحض على الجهاد، فَرُتِّبَ له مرتب، وأعطيات، فلم يقبل منها شيئًا. فهل يعتبر من ابتلوا بالتسول على مستوى رفيع، ويتنمر على معارفه وإخوانه، والرفعاء منهم يعلمون أنه في الظاهر: مطاع متبوع، وهو في الباطن عبد تابع ذليل مطيع. على أن الأرض لا تخلو من المتأسِّين بالصالحين، الذين تجردوا من هذه الحظوظ. 7 - دروس وعبر مما ناله -رحمه الله تعالى- من الأذايا في ذات الله -تعالى-: إن عالمًا يفتح الله عليه بميراث علم النبوة، وينظر في واقع الحياة فيرى من ظلمات الإعراض عن الوحي والتنزيل ما الله به عليم: حلولية، اتحادية، طرقية بدعية، جهمية، معتزلة، أشاعرة، مقلدة متعصبة، وكل يرى أن ما هو عليه هو الحق، ثم يأتي حامل الضياء، فيكاسر هؤلاء وهؤلاء، لا شك سيكون له خصوم وخصوم مما أدى إلى سجنه تارة، والترسيم عليه تارة، ومناظرته تارة، وإذايته بالمحن الأخرى تارة أخرى، وإغراء السفهاء، وتسليط الدهماء، وهكذا من صنوف الأذى، ومن كل ذلك قد نال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-.

وهذا بيان سجناته وأسبابها وآثارها

ومن نظر في سِيَر المصلحين وما أُلِّف من كتب مفردةٍ في إذايتهم مثل كتاب "المحن" لأبي العرب وغيره لم ير عالمًا لحقه من صنوف الأذايا من سجن وغيره مثل شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-. وحسبي هنا أن أستقرىء من هذا "الجامع" وقائع سجنه والترسيم عليه: لما بلغ -رحمه الله تعالى- الثانية والثلاثين من عمره وبعد عودته من حجته، بدأ تعرضه -رحمه الله تعالى- لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال، والترسيم عليه: "الإقامة الجبرية". خلال أربعة وثلاثين عامًا، ابتداء من عام 693 إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين 20/ 11 / 728 وكان سجنه سبع مرات: أربعٌ بمصر بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب عسى أن يفتر عنهم، وأن يقصر لسانه وقلمه عَمَّا هم عليه، لكنه لا يرجع. وهذا بيان سجناته وأسبابها وآثارها: السجنة الأولى: في دمشق عام 693 لمدة قليلة، بسبب واقعة عساف النصراني، الذي شهد عليه جماعة أنه سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ الخبر شيخ الاسلام -رحمه الله تعالى- اجتمع هو والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على نائب السلطان بدمشق، عز الدين أيبك الحموي فطلب النائب إحضاره، فحضر عساف ومعه مجيره "أمير آل علي" فضربهما الناس بالحجارة؛ لهذا طلب النائب الشيخين: ابن تيمية والفارقي، فضربهما بين يديه، وَرَسَّمَ عليهما بالعذراوية ثم استدعاهما

السجنة الثانية: في القاهرة لمدة عام وستة شهور

النائب وأرضاهما، وادعى النصراني الإسلام، ثم قتل في طريقه إلى الحجاز، قتله ابن أخيه. وعلى إثر هذه الواقعة أَلَّف شيخ الإسلام: "الصارم المسلول على شاتم الرسول" فانظر إلى آثار رحمة الله. ويستفاد من هذا أن المحتسب إذا نصح بأمر، فلم يقبل منه، وناله في سبيله بعض الأذى فليحتمل ذلك بنفس رضية، ولن يخلو قيامه بالحق من أثر بإحسان. السجنة الثانية: في القاهرة لمدة عام وستة شهور من يوم الجمعة 26/ 9 رمضان سنة 705 سُجن في برج أيامًا، ثم نقل إلى الجُبِّ بقلعة الجبل ليلة العيد 1/ 10 / 705 ومعه أخواه الشرف عبد الله والزين عبد الرحمن، واستمر إلى يوم الجمعة 23/ 3 / 707. وكان خادمه وتلميذه إبراهيم الغياني من المرافقين له في سفره هذا إلى مصر. وسببها: ما ذكره ابن كثير في حوادث سنة 705 في المجلس الثالث فلينظر بطوله من هذا الجامع ص / 359 - 360. وهي بسبب مسألة العرش ومسألة الكلام ومسألة النزول، وفيها من المواقف البطولية، والصدق في ذات الله ما يملأ النفس بالإيمان والمجد في العمل. وكان مما جرى فيها أن أخاه الشرف، ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيح وقال له: بل قل: "اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق". فلِلَّه ما أعظمه من أدب جم، وما أعظمه من خلق رفيع، وهضم للنفس، وبحث عن الحق. وإن هذه -وأيم الله- فائدة تساوي رحلة، وأين هذه

السجنة الثالثة: بمصر لمدة أيام قليلة

من حالنا إذا نيل من الواحد شيء غضب وسخط، وجلب أنواع الدعاء على عدوه، فاللهم اجعل لنا ولمن آذانا فيك نورًا نهتدي به إلى الحق. السَّجْنَة الثالثة: بمصر لمدة أيام قليلة ابتداء من 3/ 10 / 707 بسبب استعداء السلطة عليه من المتصوفة بالقاهرة؛ لمنعه الاستغاثة والتوسل بالمخلوقين، وكلامه في ابن عربي، فعقد له مجلس فاختلف الحضور بين براءته، وإدانته، وكان في طرف الإدانة القاضي البدر ابن جماعة. عندئذ خُيِّر بين أمور ثلاثة: العودة إلى دمشق، أو البقاء بالإسكندرية بشروط، أو الحبس فاختار الحبس، فألح عليه جماعة من رفاقه ليسير معهم إلى دمشق ويقبل الشروط فوافقهم فركب خيل البريد ليلة 18/ 10 / 707. وبسببها ألف كتابه في الاستغاثة المعروف باسم: الرد على البكري. السجنة الرابعة: بمصر في قاعة الترسيم من آخر شهر شوال سنة 707 إلى أول سنة 708 أي لمدة تزيد عن شهرين. ذلك أنه لما اختار بعد السجنة الثالثة السفر إلى دمشق بشروط، رَدُّوْه من مثاني الطريق يوم ليلة سفره 18/ 10 / 707 بمشورة نصر المنبجي الحلولي، الذي يحتل مكانة عند الوالي، فَعُرِض الشيخ على قضاة المالكية، فاختلفوا، فلما رأى الشيخ ذلك قال: "أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة" فعكف عليه الناس، زيارة، وتعلمًا، واستفتاءً. وفيه حصلت له قصة مع رهبان النصارى الثلاثة، وقد ساقها تلميذه الغياني مع وقائع أخرى في نحو عشر صفحات فلتنظر في هذا الجامع: ص / 89 - 96. السجنة الخامسة: الترسيم عليه بالإسكندرية في 1/ 3 / 709 إلى

8/ 10 / 709 دون مرافق معه تحت نظر الولاية. وهذه مكيدة أخرى من نصر المنبجي، والجاشنكير، يتربصان من يغتاله، وفي هذه الحال جاء عنده بعد أيام شمس الدين بن سعد الدين الحراني، وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية وجاءت المشايخ التدامرة وأخروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أو نفيك، أو حبسك، فقال لهم: أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص دعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدًا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت، تقلبت على صوف، فيئسوا منه وانصرفوا. وما هي إلا شهور ويتولى الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 709 فأفرج عن الشيخ واستدعاه للقاهرة، وقتل الجاشنكير شَرَّ قِتْلة، وَحَمَلَ نصرًا المنبجي ومات في زاويته. وأراد الناصر أن ينتقم من القضاة والفقهاء الذين كانوا يوالون الجاشنكير، فاستفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، ففهم الشيخ مقصوده، فشرع في مدحهم والثناء عليهم، وأنهم لو ماتوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا فهم في حل من جهتي. وكان القاضي ابن مخلوف المالكي يقول بعد ذلك: "ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبْق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا". عندئذٍ نزل الشيخ القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والخلق على اختلاف طبقاتهم يترددون عليه وهو يقول: "أنا أحللت كل من آذاني"، "ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه". وحصل له من الإجلال والتعظيم ما يطول وصفه، وبَسَطَه ابن كثير في سنوات 709 - إلى سنة 712.

السجنة السادسة: بدمشق لمدة خمسة أشهر وثمانية وعشرين يوما

واستمر إلى أن قدم دمشق صحبة السلطان لملاقاة التتر في 8/ 10 / 712 أي بعد غيبة في مصر دامت نحو سبع سنين، سُجِن ورُسِمَ عليه خلالها أربع مرات، استغرقت نحو سنتين ونصف، وكان أخواه معه حتى عاد إلى دمشق. وحصل خلال إقامته هذه بمصر خير كثير، ونشر للعلم عظيم، وفيها كانت جملة كبيرة من مؤلفاته منها: "منهاج السنة النبوية" و "الإيمان" و "الاستقامة" و "تلبيس الجهمية" و "الفتاوى المصرية" وغيرها مما ذكره ابن رجب في ترجمته. السجنة السادسة: بدمشق لمدة خمسة أشهر وثمانيةٍ وعشرين يومًا، من يوم الخميس 7/ 12 / 720 إلى يوم الاثنين 10/ 1 / 721 بسبب مسألة الحلف بالطلاق، وأنتجت هذه مجموعة كبيرة من الكتب والفتاوى والردود الحافلة، منها: "الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق". السجنة السابعة: بدمشق لمدة عامين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، ابتداء من يوم الاثنين 6/ 8 / 726 إلى ليلة وفاته -رحمه الله تعالى- ليلة الاثنين 20/ 11 / 728 بسبب مسألة الزيارة، وأنتجت تأليف كتابه: "الرد على الإخنائي". وفيها حصل له من الفتوح الربانية بالعلم، والعبادة، ما يبهر العقول، وصدر منه من الكتب والرسائل والفتاوى العجب العجاب، مع أنه في آخر وقته مُنِعَ القلم والدواة والكتب والرقاق. وهذه السياقات تفيد أن طريق الإصلاح شاق وطويل، ومحفوف بالمخاطر، والأذايا، والمكاره، ولكن ليس معنى هذا أن يشحن امرؤ نفسه بالمُشَاقَّة، وليس له رصيد من علم، ولا حصانة من إخلاص ولا لسان

صدق في الأمة، ثم يقول: لي قدوة بشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-!! فإن هذا من التعرض للبلاء بما لا يطاق، وله من المردودات السالبة على مسيرة الدعوة ما لا يخفى، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. 8 - من حياة هذا الإمام التجديدية، ودعوته الإصلاحية، تعرف معنى التجديد، وأنه قفو الأثر، وإحياء السنن، والتوجه مع الدليل وإصلاح ما رثَّ من حال الأمة بالعودة بها إلى الكتاب والسنة، ولهذا صارت دعوته، ومؤلفاته منارًا لأهل الإسلام، ومن هنا تعرف زيوف الدعوات التجديدية المعاصرة من بعض من شابهم لوثة في الفكر والاعتقاد. الدعوة إلى التجديد في الفقه، والتجديد في الأصول، والتجديد في موازين قبول السنة، وهكذا من دعوات تهدم الدين، وتضر بالمسلمين. والله المستعان. وبعد هذا العرض الذي لم أجد بُدًّا من سياقه؛ لشدة تأثري بسيرة هذا الإمام من خلال قراءة هذا: "الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- " أقول: هذه وجهة مباركة في التأليف، ونمط لطيف من التصنيف، باستخراج سيرة العالم المشهور في خدمة العلم والدين من كتب السير العامة؛ مطبوعها، ومخطوطها، وجمعها، وترتيبها الترتيب الزمني بين دفتين في كتاب واحد؛ لتكون أمام الراغب في صعيد واحد، فتوفر جهدًا ووقتًا، وتفيد علمًا، ويستمتع المسلمون بأخبار أئمتهم، وعبير سيرهم، ويستطيع المتأمل من العلماء إضافة كل معلومة إلى مثلها، والموازنة بينها، ويستكمل فائت ترجمةٍ من أخرى، ويستجلي العِبَر منها، والدروس والعِظات من وقائعها، وخطط الحياة من سطورها. وهذا فرع جديد من فروع التأليف في: "علم الرجال" لا أعلمه في كتب المتقدمين، فإن من نظر في كتب أنواع العلوم، مثل: "أبجد

هذا وإن سيرة هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تستفاد من خمسة مصادر

العلوم" وأصوله، لم ير الإشارة إلى هذه الوجهة من التأليف، وهي لدى بعض أهل عصرنا كما ذكره الجامعان -أثابهما الله- في مقدمة هذا "الجامع"، في حق بعض الأعلام، لكن ليست على سبيل الاستقصاء والتتبع للمطبوع والمخطوط، فحصل في جمعها فوت كثير. ولعل هذا النموذج الفائق بين يديك: "الجامع ... " هو الأول من نوعه في التأليف على هذه الجادة: من لي بمثل سَيْرك المُدَلَّلِ ... تمشي رُوَيدًا وتجي في الأول وكم كنت أتمنى ذلك، حتى وفق الله الشيخين الفاضلين الشيخ / محمد عُزَير شمس، والشيخ / علي بن محمد العِمْران، فقاما بجمع هذا الكتاب، وقد حالفهما التوفيق في اختيار شخصية هذا الجامع: "شيخ الإسلام ابن تيمية"، وفي جودة الاستقطاب للتراجم التبعية، وفي حسن الطبع والإخراج، ومقدمته الحافلة، فشكر الله مسعاهما، وأثابهما على هذه الدلالة الموفقة على الخير، والدال على الخير كفاعله. هذا وإن سيرة هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تستفاد من خمسة مصادر هي: المصدر الأول: كتب التراجم والسير العامة، وقد كفانا هذا "الجامع" مؤنتها. المصدر الثاني: الكتب المفردة في ترجمته، وهي خمسة عشر كتابًا خلال القرون المذكورة، كما في مقدمة هذا "الجامع". وكما كانت ترجمته لتلميذه ابن عبد الهادي في كتابه: "مختصر طبقات علماء الحديث" هي أَوْفى التراجم، فإن كتابه المفرد: "العقود الدرية ... "

المصدر الثالث: التقاط ترجمته الذاتية من خلال مؤلفاته

ترجع إليه الكتب المفردة الأخرى، وأرى إعادة تحقيق وطبع: "العقود الدرية ... " ويضم إليه ما زاد عليه من كتب التراجم المفردة المذكورة تحشية في محلها المناسب من هذا الكتاب، حتى يغني عنها. المصدر الثالث: التقاط ترجمته الذاتية من خلال مؤلفاته، وقد انتدب لهذا العمل بعض أفاضل طلبة العلم، وهو في دور الترتيب بعد الاستقراء والجمع. المصدر الرابع: تتبع ترجمته من كتب تلاميذه أمثال ابن القيم، وابن عبد الهادي، وابن مفلح، والصفدي، وابن الوردي، وغيرهم. المصدر الخامس: تتبع ترجمته من خلال تراجم أنصاره وخصومه من تاريخ ولادته سنة 661 إلى تاريخ وفاته سنة 728 بل إلى نهاية القرن الثامن. وهذان المصدران الرابع والخامس بحاجة إلى من ينشط لاستخراجهما. وبعد تكامل هذه المصادر الخمسة، أرى أن يحتسب لها من شاء الله من العلماء، فيصوغ من مجموعها سيرة واحدة موثقة متسلسلة المعلومات، مستوعبة لجميع ما في هذه المصادر باسم: "السيرة الجامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- وما ذلك على الله بعزيز. وختامًا فإن هذا: "الجامع" من الأعلاق النفيسة، التي تهذب النفوس، وتروِّي شجرةَ الإيمان فيها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه بكر بن عبد الله أَبو زيد 3/ 3 / 1420

مقدمة الطبعة الثانية

مُقدِّمة الطبعة الثانية الحمد لله كثيرًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تَبِعهم إلى يوم الدين. أما بعد؛ فقد لقي هذا الكتاب -"الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية"- قبولًا طيِّبًا، ووقع موقعًا حسنًا لدى أهل العلم، ومُحِبِّي شيخ الإسلام ابن تيمية، والدارسين لآثاره وشخصِيَّته وعلومه. وكنَّا قد دَعَونا في مقدمة الكتاب إلى مزيدٍ من تواصل أهل العلم والباحثين بما فات من تراجم الشيخ أو بما يراه المطالعون للكتاب، مما يسدِّد نقصَه ويرأبُ صَدْعَه، ويبلغ به إلى مراتب الصحة والكمال؛ فكان ذلك -ولله الحمد- فوصَلَنا عددٌ من التراجم الفائتة، وهي من المصادر التالية على الترتيب الزمني: 1 - "نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون" (مخطوط). للملك / الأفضل عباس بن علي بن داود بن رسول اليماني (778). 2 - "العِقْد الفاخِر الحَسَن في طبقات أكابر اليمن" (مخطوط). للمؤرِّخ / شمس الدين علي بن الحسن الخزرجي اليماني (812). 3 - "غِرْبال الزَّمان في وَفَيَات الأعيان" (مطبوع). للعلامة / يحيى بن أبي بكر بن محمد الحَرَضي اليماني (893).

4 - "قِلادةُ النَحْر في وَفَيَات أعيان الدَّهر" (مخطوط). للمؤرّخ / عبد الله الطيب بن أحمد با مَخْرمة (947). 5 - "الدرُّ المكنون في مآثر الماضي من القرون" (مخطوط). للشيخ / ياسين بن خير الله الموصلي (بعد 1232). ويعود الفضل في الوقوف على ما تقدم إلى الأخ الأستاذ علي الشَّرَفي اليماني، جزاه الله خيرًا. ومما حصلنا عليه -أيضًا- ترجمة الشيخ من كتاب: 6 - "نُزُلُ من اتقى بكشف أحوال المنتقى" (مطبوع). للشيخ / أبي الفتح عبد الرشيد بن محمود الكشميري (1298). وكان قد فرغ من طبْعِه سنة (1297)، شرح فيه حال "المنتقى" للمجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام- ثم استطرد فترجم لجماعة من "آل تيمية"، وكان منهم الشيخ -رحمه الله- فأطال في ترجمته وأطاب. وكان الفضل في الحصول على هذا الكتاب لفضيلة الشيخ بكر أَبو زيد -حفظه الله-. ورأينا أن ندرج هنا: 7 - نموذجًا من قراءات شيخ الإسلام -رحمه الله- على الشيوخ، وذلك في سنة (680) وعمره تسعة عشر عامًا. ومصدر هذه القراءات هو: "معجم سماعات الحافظ البرزالي"، فقد وقفنا على قطعة يسيرة منه، في نحو (10 ورقات) بخط البرزالي في "ظاهرية دمشق".

والواقف على هذه القراءات يعلم أهمِّيتها البالغة في سيرة الشيخ ... ، ومما فيها: وَصْف البرزاليِّ -رفيق ابن تيمية- له بالإمام وهو في هذا السنن. وكان الفضل في إحضارها لأخينا الشيخ أحمد الحاج. وكان من شأننا في هذه الطبعة: أن أعدنا مقابلة نصوص كتاب "البداية والنهاية" على الطبعة الجديدة التي أخرجها د / عبد الله التركي، بالتعاون مع مركز الدراسات بدار هجر؛ فظهرت لنا فروق كثيرة، وزيادات في مواضع، وتصويبات عديدة أقامت أَوَد كثير من نصوص الكتاب. وهكذا فَعَلْنا في كثير من المصادر الأخرى؛ إذ رجعنا إلى طبعاتٍ عديدة، وقابلنا النصوصَ عليها، فاستفدنا منها في تصحيح الكتاب. كما علَّقنا على عدد من النصوص التي كانت بحاجة إلى تعليق كما في مسألة الفَتْح في المصحف للفأل (ص / 149)، وغيرها. ومن الإضافات العلمية في هذه الطبعة: تصحيح نسبة "رسالة عبد الله ابن حامد- أحد علماء الشافعية" إذ هي موجّهة إلى أبي عبد الله ابن رشَيِّق (749) كاتب شيخ الإسلام، لا إلى أبي عبد الله ابن عبد الهادي صاحب "العقود"، وذكرنا مستند ذلك في موضعه عند سياق رسالة ابن حامد (ص / 241). * وههنا موضع ينبغي تحريرُه، وهو: ما استشكلَه كثيرون؛ إذ ورد في بعض المصادر أن الشيخ -رحمه الله- قد كتب كتابًا فيه عقيدةٌ تُخالِفُ ما دعا إليه وأفتى به طول حياته؛ بل وسُجِن من أجله، فنقول -تحريرًا لهذا الموضع، ودحضًا لمن تتنازعه الأهواء والشُّبَه-: هذا الرجوع قد جاء عند كلٍّ من:

1 - تلميذه ابن عبد الهادي (744) كما في (العقود الدرية: 197) نقلًا عن الذهبي. 2 - الذهبي (748) -تلميذه -كما نقله عنه ابن عبد الهادي (السابق) ونصُّه: " ... وجرَت أمور طويلة، وكُتِبَ إلى الشام كتاب سلطاني بالحطِّ عليه، فقُريء بالجامع وتألم الناسُ له، ثم بقي سنةً ونصفًا (أي: سنة 707) وأُخرج، وكتب لهم ألفاظًا اقترحوها عليه، وهُدِّد وتُوعِّد بالقتل إن لم يكتبها. وأقام بمصر يُقرىء العلم ويجتمع عنده الخَلْقَ. . ." اهـ. 3 - ابن المعلم (725) في "نجم المهتدي ورجم المعتدي" (نسخة باريس رقم 638) والنويري (733) في "نهاية الأرب -كما في الجامع 181 - 182 "، وفيه أن هذا المجلس كان بعد حضور الأمير حسام الدين مهنّا (ربيع الآخر / 707) وأخرج الشيخ (يوم الجمعة 23 / ربيع الأول / 707). ثم نقل النويري مضمون ما في الكتاب الذي يحكي ما في المجلس، وأنه (أي: الشيخ) ذَكَر أنه أشعري، وأنه وضع كتابَ الأشعري على رأسه، وأنه رجع في مسألة (العرش والقرآن والنزول والاستواء) عن مذهبه -مذهب أهل السنة- وكان الكتاب تاريخ (25 / ربيع الأول / 707). ثم عُقِد مجلسٌ آخر، وكتب فيه نحو ما تقدم في (16 / ربيع الآخر / 707) وأُشْهِد عليه. 4 - أما البرزالي (739) -رفيقه- فلم يذكر في حوادث هذه السنين شيئًا (الجامع: 213 - 215).

5 - ذكر الدواداري (بعد 736) في "كنز الدرر- الجامع: 239) أنهم عقدوا له مجلسًا آخر في (12 / ربيع الآخر / 707) بعد ذهاب الأمير حسام الدين، ووقع الاتفاق على تغيير الألفاظ في العقيدة وانفصل المجلس على خير. 6 - لم يذكر ابن كثير (774) -تلميذه- في "البداية والنهاية" شيئًا من أمر رجوعه ذلك. 7 - ذكر ابن رجب (795) في "الذيل- الجامع: 476 - 477 " نحو ما ذكره ابن عبد الهادي في "العقود" فقال: "وذكر الذهبي والبرزالي (¬1) وغيرهما أن الشيخ كتب لهم بخطه مُجملًا من القول وألفاظًا فيها بعضُ ما فيها؛ لمَّا خاف وهُدِّد بالقتل". ولم يذكر نص الكلام، ولا الكتاب. 8 - لم يذكر المقريزي (845) في "المقفَّى الكبير- الجامع: 507 " شيئًا من خبر الرجوع ولا الكتاب. 9 - ذكر الحافظ ابن حجر (852) في "الدرر الكامنة- الجامع: 536 - 537 " نحو ما ذكره النويري في "نهاية الأرب" ثم عزا ابن حجر ما نقلَه إلى "تاريخ البرزالي"!. 10 - ذكر ابن تَغْري بَرْدي (874) في "المنهل الصافي- الجامع: ¬

_ (¬1) تقدم أن البرزالي -في "تاريخه"- لم يذكر شيئًا من أمر الكتاب ولا الرجوع، لكن عزو جماعة من المؤرخين إليه يدل على أنه ذكر شيئًا من ذلك، فلعله ذكره فيما لم نقف عليه من تاريخه، أو في كتابٍ آخر له مثل "معجم الشيوخ".

576 " نحو ما ذكره الحافظ ابن حجر. وسياق نَقْلِه يدل أنه ينقل من كتاب لكمال الدين ابن الزملكاني -وعداؤه للشيخ معروف- فيه ترجمةٌ للشيخ، وقد نقل منها -أيضًا- في "النجوم الزاهرة- الجامع: 580 ". فتبيَّن من هذا العَرْض أن: 1 - من المؤرخين من لم يذكر القِصَّة ولا المكتوب أصلًا. 2 - ومنهم من أشار إليها إشارة فقط دون تفصيلٍ للكتاب الذي كتبه، مع ذِكرهم ما صاحبَ كتابته تلك من التخويف والتهديد بالقتل. 3 - ومنهم من فصَّلها وذَكَر نصَّ المكتوب، لكن دون ذكرهم لما صاحَبَ ذلك من تهديد وتخويف بالقتل!. وعلى هذا؛ يمكننا القول: إن ابن المعلم والنويري قد انفردا من بين مُعاصِري الشيخ بقضية رجوعه، وسياق ما كتبه، وتابعهما على ذلك بعض المتأخرين، وعليه فيمكن تجاه هذه القضية أن تُتخذ أحد المواقف التالية: 1 - أن نكذِّب كلَّ ما ذكره المؤرِّخون جملة وتفصيلًا، ونقول: إن شيئًا من ذلك لم يكن. 2 - أن نُثْبِت أصلَ القِصَّة، دون إثبات أيّ رجوعٍ عن العقيدة، ولا المكتوب الذي فيه المخالفة الصريحة لما دعا إليه الشيخ قبل هذا التاريخ وبعده. 3 - أن نُثْبِت جميعَ ما انفردَ به ابنُ المعلم والنُّويريُّ من الرجوع والكتابة.

فالأول: دَفعٌ بالصدر! والثالث: إثبات للمنفردات والشواذ وتقديمها على الأشهر والأكثر. والذي يثبت عند النقد ويترجَّح هو: الموقف الثاني: أن الشيخ كتب لهم عبارات مُجْمَلة -بعد التهديد والتخويف- لكن ليس فيها رجوع عن عقيدته، ولا انتحال لعقيدةٍ باطلة، ولا كتاب بذلك كلِّه، وذلك لأسبابٍ عديدة هي: 1 - أن هذا الكتاب مخالف لعقيدة الشيخ، التي كان يدعو إليها ويُناضل عنها طوال حياته، قبل هذه الحادثة وبعدها. 2 - أنه لا يوجد في كتاباته ومؤلفاته أيُّ أثرٍ لهذا الرجوع، أو إشارة إلى هذا الكتاب أو إلى ما تضمنه، ولو كان قد حصل مه شيء من الكتابة لهم بذلك، لكان حقيقًا بعد ظهوره على أعدائه -على الأقل- وتمكنه منهم بعد انكسار الجاشنكير ورجوع الناصر أن يطلب هذا الكتاب، أو ينفيه عن نفسه. 3 - أن الشيخ -رحمه الله- قد حصلت له مضايقات كثيرة في مسائل عديدة قبل هذا التاريخ وبعده، سُجن من أجلها وعوتب، فلم يُعرف عنه أنه رجع عن شيء منها، بل غاية أمره أن يسكت عن الإفتاء بها مُدة، ثم يعود إلى ذلك ويقول: لا يسعني كتمان العلم كما في مسألة الطلاق (العقود 325)، فكيف يكتب لهم هذه المرَّة ما يناقض عقيدة أهل السنة، ويقرر مذهب أهل البدع؟!. وما شأن الخصوم عند الشيخ -رحمه الله- إلَّا كما وصفهم هو بنفسه لما قيل له: يا سيدي قد أكثر الناسُ عليك!.

فقال: إنْ هم إلا كالذباب، ورَفَع كَفَّه إلى فيه، ونفخ فيه. (العقود 268). ووَصَف الذهبي ثباتَ الشيخ أمام خصومه فقال: (... حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه ... وهو ثابت لا يُداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الذي أداه إليه اجتهادُه وحِدَّةُ ذهنه وسَعَةُ دائرته في السنن والأقوال". وهذا كلُّه ينبِيك عن مدى صدق ذاك التراجع وذاك المكتوب!!. 4 - ومما يفتّ في عضد هذه الأكذوبة: أن جماعةٌ طلبوا من الشيخ أن يقول: إن هذا الاعتقاد الذي كتبه وناظر من أجله الخصومَ هو اعتقاد أحمد بن حنبل -يعني: وهو مذهب متبوع فلا يُعترض عليه-. فلا يرض الشيخ بهذا؛ بل يصدع بأن هذا هو معتقد سلف الأمة جميعهم، وليس لأحمدَ اختصاصٌ بذلك. (العقود 218 - 219، 242). 5 - إن أقصى ما يمكن قوله في كتابة الشيخ لهم: إنها كتابة إجمالية في مسائل العقيدة بما لا يُنافي الحق والصواب، وانظر نماذج لبعض ما كان يستعمله الشيخ مع خصومه ليدحرهم ويَكْبِتهم وفي أنفسهم ما فيها، في (العقود 212، 215، 240 - 241). ولم يستطع الأعداء أن يجبروه على كتابة أكثر من ذلك الإجمال، ثم وجدوا أنه لا فائدة في إشاعة ذلك المكتوب عنه بالوجه الذي كتبه، فزوَّروا عليه كلامًا، ثم زوَّروا عليه توقيعه، وأشهدوا عليه جماعة لِيَتمَّ لهم ما أرادوا. وقضية الكذب والتقوَّل والتزوير على الشيخ باتت من أشهر خصال

أعدائه، انظر ذلك في مواضع كثيرة في (العقود 200، 204، 207، 209، 328). قال البرزالي في الموضع الأول عن خصومه: "وحرفوا الكلام، وكذبوا الكذب الفاحش". وقال في الموضع الثاني: "واختلفت نقول المخالفين للمجلس، وحرَّفوه، ووضعوا مقالة الشيخ على غير موضعها، وشنّع (¬1) ابنُ الوكيل وأصحابُه بأن الشيخ قد رجع عن عقيدته فالله المستعان". وقال الشيخ -نفسه- في الموضع الثالث: "وكان قد بلغني أنه زُوِّر عليَّ كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير، يتضمن ذكر عقيدةٍ محرَّفة ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أن هذا مكذوب". وقال الشيخ في الموضع الرابع: "أنا أعلم أن أقوامًا يكذبون عليّ، كما قد كذبوا عليّ غير مرة. . .". وقال ابن عبد الهادي في الموضع الأخير: "وعَظُم التشنيع على الشيخ -يعني في مسألة شد الرحل- وحُرِّف عليه، ونُقل عنه ما لم يقله". كما ضُبِط عليهم الكذب والتزوير وتحريف الكلام في مواضع أخرى كثيرة (¬2)، فليس غريبًا أن يزوِّروا عليه هذه المرة ما زوَّروا، ويُشهدوا عليه شهادة الزور. ¬

_ (¬1) كذا بالمطبوع. (¬2) انظر "التسعينية": (1/ 111)، و "الإخنائية": (ص / 104 - 105)، وانظر "موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (1/ 179 - 180 الحاشية) للشيخ عبد الرحمن المحمود.

6 - ومما يؤيد كَذِب هذه الأخْلُوقة: أن هذا الكتاب الذي زعموا كُتِب سنة (707)، فكيف يصح هذا وهم يطالبونه في سنة (708) بكتابة شيءٍ بخطه في المسألة نفسها!!. فإنه لما جاءه المشايخ التدامرة نحو سنة (708) وقالوا: "يا سيدي قد حمَّلونا كلامًا نقوله لك، وحلَّفونا أنه ما يطَّلِع عليه غيرنا: أن تنزِلَ لهم عن مسألة العرش ومسألة القرآن، ونأخذ خطك بذلك، نوقف عليه السلطان ونقول له: هذا الذي حَبَسْنا ابن تيمية عليه، قد رجع عنه، ونَقْطع نحن الورقة (¬1). فقال لهم الشيخ: تدعونني أن أكتب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يُعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟! ودقَّ بعمامته الأرضَ، وقام واقفًا ورفع برأسه إلى السماء، وقال: اللهم إني أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا شيءٌ ما أعمله ... " ثم دعا عليهم. ولما قالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك أو نفيك أو حبسك، فقال لهم: "أنا إن قُتِلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة ... ". فيئسوا منه وانصرفوا (¬2). فلو كان لهم كتاب بخطه في تلك المسائل -كما زعموا- لم يطلبوا ¬

_ (¬1) فهذا يدل أنهم قد يئسوا من رجوعه عن عقيدته، فغاية ما أرادوه أَخذ شيءٍ: بخطه يعذرهم عند السلطان في حَبْسه، لكن حتى هذا لم يظفروا به من الشيخ -رحمه الله-. (¬2) ذكره إبراهيم بن أحمد الغياني خادم شيخ الإسلام. انظر: "الجامع": (ص / 147 - 148).

منه أن يكتب لهم بخطه كتابًا آخر، فخلصنا أنه لم يكن معهم في المرة الأولى إلا الكذب والتزوير والتحريف. وفي ختام هذه المقدمة نكرر الدعوة إلى مزيد من التواصل، شاكرين ومعترفين بالفضل لكل من أسدى ملاحظة أو فائدة، ونخص بالذكر الأستاذين الكريمين: حسن البار على ملحوظاته القيمة، وخالد الزهراني على ما بذل وسعى في الحصول على تلك الفوائد وغيرها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد. كتبه علي بن محمد العمران ومحمد عزير شمس في 3 / شعبان / 1421 بمكة المكرمة -حرسها الله تعالى-

مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى الحمد لله الذي خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، والصلاة والسلام على من أرسله الله للعالمين بشيرًا ونذيرًا، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بكرةً وأصيلًا. أما بعد؛ فلا يخفى على من سَبَر سِيَر العلماء وتأمَّلها وفحصها، ثم أراد أن يستخرج من جَمَع منهم بين العلم حتى صار من المجتهدين المحققين، وبين العمل حتى صار قدوة للعامِلِين العابدين، فإنه لا يخرج إلا بِبَرَضٍ من عِدٍّ، وقُلٍّ من كُثْرٍ؛ ولا غَرْوَ؛ فإن أولئك الذين جمعوا أطراف الفضائل وخصال الكمال يندر وجودهم، فيكون منهم في الزمان البعيد واحد تِلْوَ آخر. ولا يشك كلُّ مُطَّلع أن شيخَ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميَّة النُّميري الحراني ثم الدمشقي أحد أولئك العلماء المتحقِّقين (¬1) ¬

_ (¬1) (تنبيه): أنفع طرق العلم الموصِلة إلى التحقُّق فيه: أخذه عن العلماء المتحققين به على الكمال والتمام، ويكون العالم مُتحققًا إذا تحلَّى بأمارات وعلامات، وهي ثلات: 1 - العملِ بما عَلِم، حتى يكون قوله مطابقًا لفعله، فإن كان مخالفًا له؛ فليس بأهلٍ لأن يؤخَذ عنه. 2 - أن يكون ممن ربَّاه الشيوخ في ذلك العلم، فهو الجدير إذن أن يتَّصِف بما اتصفوا به، وهذه طريقة السلف. 3 - الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدُّب بأدبه، كما اقتدى الصحابة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون بالصحابة، وهكذا. =

المصلحين، والرواد المجدّدين، الذين أفنوا أعمارهم في العلم والتعليم، والجهاد والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يُعرف في زمنه، بل ولا قبله بقرون -كما صرح به غير واحد- أكثر مه علمًا وعملًا وجهادًا، وشجاعةً وكرمًا، وسيرًا على قانون السلف، وقمعًا لأهل البدع، وكثرةَ تآليف. حازَ الشَّريفَيْنِ مِن عِلْمٍ ومن عملٍ ... وقلَّما يتأتَّى العلمُ والعَمَلُ نقول: فخليقٌ بمن هذه حاله؛ في كثرة محاسنه، وحسن مكارمه، وعظيم مفاخِره، واتصال محامده، وعلوِّ مبانيه = أن يُفْحَصَ عن خَبره، ويُبْحَث عن أثره، ويُنَقَّر عن أمره وحاله وسيرته، لتكون نبراسًا للاهتداء، وعلمًا للاقتداء. "فإن المتأخِّر متى وقف على خبر من تقدَّمه من الفضلاء، أو سمع كيف تشميرهم وإقبالهم على العلم وطلبه؛ تاقت نفسُه إلى الاقتداء بهم، والانسلاك في سلكهم، والتحقيق لفضلهم وتجميلهم ... فقد يحث ... الجبانَ إلى المعركةِ فرسانُ الطِّعان، ويُهيِّج الحادي أشواقَ القوافل، وإن كان عن معنى ما يأتي به غافل" (¬1) اهـ. فلما أردنا سلوك هذا السبيل، والولوج في هذا المَهْيَع، لاحت لنا طرائق شتَّى في جمع مادة الترجمة والإحاطة بمتفرِّقاتها، ولَمِّ شَعَثِها، إلا أن طريقة عصريَّة قد بدت لنا لتنهض بهذه المهمة، وهي: جمع تراجِمه المتفرقة في كتب التواريخ والسير والطبقات ونحوها، واستقصاء ¬

_ = انظر: "الموافقات": (1/ 139 - 145)، (5/ 262) للإمام الشاطبي. (¬1) قاله الجَنَدِيُّ السَّكْسَكي (732) في "السلوك": (1/ 65 - 66).

ذلك ما أمكن، ثم سياقتها على الترتيب الزمني لمؤلِّفيها، بداية من عصره، وانتهاءً بنهاية القرن الثالث عشر الهجري (1300). وهذه الطريقة لم نكن أوَّل من اخترعها, ولا أَول من سلكها، بل سبق إليها عددٌ من المعاصرين في دراساتهم عن بعض الشخصيات منها: - ابن الراوندي (298)، كتب عنه عبد الأمير الأعسم: "تاريخ ابن الراوندي الملحد" (ط. بيروت 1975 م). - دراسة عن الحَلَّاج (309)، كتبها المستشرق ماسينون (باريس 1914 م). - المتنبي (354)، كتب عنه عبد الله الجبوري: "المتنبي في آثار الدَّارسين" (ط. بغداد 1978 م). - أبو العلاء المعرِّي (449)، كتب عه مجموعة من الباحثين: "تعريف القدماء بأبي العلاء" (ط. القاهرة 1944 م). - ابن حزم الأندلسي (456)، كتب عنه أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري: "ابن حزم خلال ألف عام" أربعة أجزاء (ط. دار الغرب الإسلامي، 1401). - الغزالي (505)، كتب عنه عبد الكريم العثمان: "سيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه" (ط. دمشق 1961 م). - ابن رُشْد (595)، جمع أهم تراجمه جورج قنواتي في "مؤلفات ابن رشد" (ط. القاهرة 1978 م). - ابن خلدون (808)، جمع أهم تراجمه عبد الرحمن بدوي في

"مؤلفات ابن خلدون" (ط. القاهرة 1961 م). كما اهتم بعض الدارسين ببعض الأعلام فصنعوا ببلوغرافيا، تشير إلى البحوث والدراسات التي كُتِبت عنها في العصر الحديث؛ كما هو الحال في: (الفارابي، وابن سينا، وأبي بكر ابن العربي، والقاضي عياض)، كما أُفردت كتبٌ بإحصاء مؤلفات علم ما -ويكون من المكثرين غالبًا- وبيان ما طُبع منها وما لم يزل مخطوطًا، مثل: (الغزالي، وابن الجوزي، وابن خلدون، والسخاوي، والسيوطي -مرَّات-). ولا يخفى ما لهذه الأعمال المتقدمة من أثر محمود في الدراسات التي ظهرت بعد ذلك عن هذه الشخصيات. وشيخ الإِسلام ابن تيميّة -رحمه الله- أوْلَى من خُدِم بمثل هذه الدراسات والترجمات والإحصائيات؛ فهو العالم حَقًّا، والإمام صِدْقًا. من النَّاسِ مَن يُدعَى الإمام حقيقةً ... ويُدعَى كثيرٌ بالإمامِ مجازًا ولكنْ مَتَى يخفى الصباح إذا بَدَا ... وحلَّ عن الليلِ البهيمِ طِرَازَا ومع كثرة ما كُتِبَ عنه من البحوث والدراسات والتحقيقات = إلا أننا -مع الأسف- نفقد تلك الدراسة الموعبة الشاملة التي ألمحنا إليها، فلم يتقدَم أحدٌ -حتى الآن- بجمع ما تفرَّق في المصادر القديمة في ترجمة شيخ الإِسلام، فكان لنا شرف القيام بهذه المهمة؛ فالحمد لله على توفيقه. ولا يفوتنا هنا أن نُلْمِح إلى ما قام به الدكتور صلاح الدين المنجُد؛ فقد نشر كتابًا بعنوان: "شيخ الإِسلام ابن تيمية: سيرته وأخباره عند المؤَرِّخين" (ط. بيروت 1976 م) جمع فيه سبع عشرة ترجمة ورتبها ترتيبًا

زمنيًّا (¬1). ومع اقتصاره على هذا العدد من التراجم، فقد وقع في عدد غير قليل من الأخطاء، وهي: 1 - أنه أقحم في نصوص هذه التراجم ما ليس منها؛ ففي "الذيل على طبقات الحنابلة"، لابن رجب (795) ادَّعى وجود سقط في آخر الترجمة عند تَعْدَاد ما اسْتُغْرِب للشيخ من أقوالٍ فقهية، وذلك بالاعتماد على زيادة وردت في "شذرات الذهب" لابن العماد (1089) وهو ينقل من "ذيل ابن رجب"!!. وعند الرجوع إلى نسخ الكتاب (نَعني: الذيل) والموثَّقة (¬2)؛ لم نجد تلك الزيادة التي أقحمها المنجِّد اعتمادًا منه على مجرَّد الظن!. 2 - أنه أسقط من بعض المصادر نصوصًا مهمة، ويتضح ذلك في كتابين: الأول: كتاب "أعيان العصر وأعوان النصر" (مخطوط) (¬3) للصفدي (764). حيث حذف منه ما يُعادل نصف الترجمة بحجة أنه تكرَار لما في "الوافي بالوفَيَات"، والواقع خلاف ذلك ففي "الأعيان" زيادات كثيرة، خلا عنها "الوافي "، منها قصيدة ضادية للمؤلف في رثاء شيخ الإِسلام، لا توجد في المصادر الأخرى، وانفرد بها هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) ثلاثٌ منها لا تُعدُّ من التراجم، وهي: النصيحة الذهبية (وفي ثبوتها نظر كبير)، وزغل العلم، والإعلان بالتوبيخ؛ لذا لم ندخلها في هذا "الجامع". (¬2) وهذه النسخ الموثقه عند الأستاذ الدكتور عبد الرحمن العثيمين -وفقه الله- وقد راجعها بنفسه، وأفاد عدم وجود تلك الزيادات. وهو يعمل الآن على تحقيق الكتاب على أفضل نسخه الخطية يسَّر الله له ذلك. (¬3) طبع حال نشر هذا "الجامع" في دار الفكر بدمشق.

أهمية هذا الجامع

الثاني: كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير، فقد حذف منه نصوصًا مهمة، ولعله غفل عنها، منها قصة عسَّاف النصراني، وهي التي في إثرها ألَّفَ شيخُ الإِسلام كتابَه "الصارم المسلول على شاتم الرسول". 3 - التصحيف والتحريف الواقع في الترجمات، وهو كثير!! ويكفي أن يُقارن القاري بين ما أثبتناه من "أعان العصر" للصفدي، وبين ما نشره منه. وهذا مثال واحد، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. وبعد؛ فكتابه لا يحتوي إلا على سبع عشرة ترجمة -كما سلف- ففاته الكثير مما كتبه تلاميذ شيخ الإِسلام، والمعاصرون له، ومَنْ بعدهم، مما له أهمية كبيرة في الكشف عن المزيد مما يتعلق بترجمة شيخ الإِسلام وآثاره. كما ستراه مجموعًا في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى؛ فكان مجمل ما لم يذكره في كتابه وهو في مجموعتنا هذه: اثنين وستين كتابًا. • أهمية هذا الجامع: يتلخص عملنا في هذا الكتاب في جمع كل ما يتعلَّق بترجمة شيخ الإِسلام في المصادر القديمة؛ من القرن الثامن إلى نهاية القرن الثالث عشر، سواء أكانت ترجمة ضمن كتابٍ، أو رسالة في مدح الشيخ والثناء عليه والوصاية به والتشوّق إلى لقائه، أو مذكرات عن حياته، أو فهرسًا لمؤلفاته. وكان اعتمادنا في هذا الجمع على الاستقراء والتتبُّع لكتب التواريخ والتراجم، وفهارس المخطوطات، وتقليب أجلادٍ وأجلادٍ من الكتب المطبوعة والمخطوطة بُغْية الحصول على ما تقدّم مما له علاقة بترجمته، وبذلنا في هذا السبيل غاية الوسع رجاء اكتمال مادته، وحصول ما رُمْناه من فوائد وعوائد، وهي كثيرة أهمها:

* أنه يقدم للباحث ثبتًا كاملًا بكل الترجمات المتفرقة في المصادر لهذا الإِمام، مما يُغْنيه عن الرجوع إلى عشرات الكتب المطبوعة والمخطوطة، فيوفر عليه الجهد والوقت. * نشر عددٍ من الترجمات المخطوطة، وهي تُعَدُّ من المصادر المهمة في ترجمته، وقد بلغ عددها: اثنتي عَشرة ترجمة. * أنه بضمِّ هذا الكتاب إلى التراجم المفردة للشيخ -وأهمُّها كتاب ابن عبد الهادي (744) "العقود الدرية" -يُمثِّل ترجمةً شاملة متكاملة لشيخ الإِسلام ابن تيمية يُسْتَغْنَى بها, ولا يحتاج معها إلى غيرها. * أن هذا الجمع يُظهر لنا الكتب الأصيلة التي قدمت لنا معلومات موثقة ومستوعبة، ويُظهِر التراجم الأخرى التي لا تعدو أن تكون اختصارًا أو انتقاءً أو تَكْرَارًا أو تحريفًا لما في المصادر الأصيلة. * أن هذا الجمع يُعطي الباحث الفرصة السانحة والمجال الأرحب للمقارنة بين هذه المصادر، والكشف عن مقدار اقتباس المتأخر من المتقدم، ومن ثَمَّ يتنبه إلى عدم الاعتماد على المصادر المتأخرة في بحوثه وتحقيقاته ما أمكنه ذلك. * أنه يعطي الباحث -أيضًا- فرصةَ اعتبار المعلومات في هذه التراجم فيعرف الموثق منها والمزيف، وما تفرَّدت به بعض المصادر، وما حُكي في البعض الآخر على الاحتمال وجُزِم به في مكان آخر، وما رُوي مُجملًا في مصدر، وفُصِّل في مصدرٍ آخر، وهكذا. * أنه يعطي الباحث فرصة لتكوين صورة صادقة متكاملة عن المترجَم له، وكيف كان أولئك المؤرخون والعلماء ينظرون إليه وإلى آرائه؛ على

اختلاف مذاهبهم، ومشاربهم، وعصورهم، وثقافاتهم، ولماذا كان الاهتمام به وبأفكاره وبكتبه قويًّا أو ضعيفًا في حقبة ما أو مكان ما؟. * أن هذا المجموع يمكّننا من دراسة كتبه وآثاره (¬1)، وتوثيق نسبتها إليه، وحصرها بدقة. * أنه يُصحِّح كثيرًا من الأخطاء والتصحيفات الواقعة في كثير من الكتب لتكرر المعلومات وتشابهها. * تصحيح نسبة كتاب "مؤلفات شيخ الإِسلام" المنسوب لابن القيم. كما أن هذا "الجامع" يُصوِّبُ خطأً قديمًا تتابع الباحثون عليه، وهو أنه منذ أن نشر الدكتور صلاح الدين المنجد "أسماء مؤلفات شيخ الإِسلام ابن تيميَّة" المنسوب لابن قيم الجوزية (751) -رحمه الله- في "مجلة المَجْمع العلمي العربي" بدمشق (28/ 1953 / 371 - 395) (¬2) = لم يشكّ أحدٌ من الباحثين في صحة هذه النسخة إلى ابن القيم، بل اعتمدوه في دراساتهم عن شيخ الإِسلام، أو عن تلميذه ابن القيم، وذلك على مدار نحو نصف قرنٍ من الزَّمان!!. وقد اعتمد المنجد في نشرته تلك على نسخةٍ خطِّيةٍ موجودة في دار الكتب الظاهرية برقم (4675 - عام)، وهي بخط الشيخ جميل العَظْم (¬3) صاحب كتاب: "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون مصنَّفًا فمئة فأكثر"، نسخها سنة (1315). ¬

_ (¬1) انظر "فهرس الكتب": (ص / 779 - 809). (¬2) ثم أُفرد في رسالة. (¬3) وقد جَزَم العظمُ بنسبتها إلى ابن القيم، وعليه اعتمد المنجد!.

وهذه النسخة لا تعدو أن تكون تهذيبًا وترتيبًا للكتاب الأصل في "مؤلفات شيخ الإِسلام"، ويترجَّح لنا أن الشيخ جميل العظم قد هذبها لتكون مادة يقتبس منها في كتابه السالف الذكر. وتحققنا أنها تهذيب بعد وقوفنا على نسخة أُخرى من الكتاب، في دار الكتب الظاهرية -أيضًا- برقم (11479)، وهي عبارة عن "دفتر منوعات" بخط الشيخ العلَّامة طاهر الجزائري -رحمه الله- كتبه سنة (1318)، أوله: "أسماء مؤلفات شيخ الإِسلام" (ق / 1 - 8)، وكتب الشيخ طاهر بعد البسملة: "الظاهر أن هذه الرسالة لتلميذه ابن القيِّم" (¬1). فقمنا بالمقابلة بين هذه النسخة، وبين نسخة العَظْم -التي اعتمدها المنجد- فوجدنا في نسخة الجزائري زياداتٍ كثيرة، في المقدمة، وفي ذكر بعض الكتب، وفي معلومات عن كثير من الكتب، فعلمنا أن نُسْخة العظم ما هي إلا تهذيب للكتاب الأصل (¬2). هذا أمرٌ. والأمر الثاني: أنا وجدنا الإِمام ابن عبد الهادي (744) في كتابه "العقود الدرية" (¬3) قد اقتبس نصوصًا من هذه الرسالة، ونسبها إلى أبي ¬

_ (¬1) تحرَّفت "ابن القيم" إلى "إبراهيم" في فهرس مخطوطات الظاهرية (قسم التاريخ): (2/ 524 - 526)، وهكذا نسَبَ المفهرِس هذه الرسالة إلى شخصية وهمية لا وجود لها!!. (¬2) انظر نموذجًا من الفروق بين النسختين في مقدمة "قاعدة في الاستحسان" لشيخ الإسلام ابن تيمية: (ص / 10 - 11) (ط. دار عالم الفوائد 1419) تحقيق: محمَّد عُزَير شمس. (¬3) (ص / 27 - 28) (ط. مكتبة المعارف)، ما بين الأقواس سنه.

عبد الله بن رُشَيِّق، فقال: "قال الشيخ أبو عبد الله بن رُشيق -وكان من أخصِّ أصحاب شيخنا وأكثرهم كتابةً لكلامه وحرصًا على جمعه-: كتب الشيخ -رحمه الله- نقول السلف مجردة عن الاستدلال على جميع القرآن، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال. ورأيتُ له سورًا وآيات يُفسِّرها، ويقول في بعضها: كتبته للتذكُّر، ونحو ذلك. ثم لما حُبس في آخر عمره؛ كتبتُ له أن يكتب على جميع القرآن [مرتبًا] على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بيِّن بنفسه، وفيه ما قد بيَّنه المفسرون في غير كتاب؛ ولكن بعض الآيات أشكلَ تفسيرها على جماعةٍ من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنِّف الواحد في الآية تفسيرًا، ويفسِّر [نظيرها بغيره]، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبيَّن معاني نظائرها. وقال: قد فتح الله عَلَيَّ في هذه المرة من معاني القرآن ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا، وأرسل إلينا شيئًا [كثيرًا] مما كتبه في هذا الحَبْس، وبقي شيءٌ كثير في [سلة] الحكم عند الحكام لما أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربعَ عشرة رِزْمة. ثم ذكر الشيخ أبو عبد الله ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ" اهـ. نقول: هذا النصُّ برمَّته في "مؤلفات ابن تيمية" المنسوب لابن القيم! فتبيَّن من هذا أنه لابن رُشيق لا لابن القيم.

وابنُ رُشَيِّق هذا هو: أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله بن أحمد سِبْط ابن رُشَيِّق المالكي (¬1)، المتوفى سنة (749). وكان ابن رُشَيِّق -كما يقول ابن كثير (¬2) -: "أبْصر بخط شيخ الإِسلام منه، إذا عَزَب شيءٌ منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريعَ الكتابة، لا بأس به، ديِّنًا عابدًا كثير التلاوة حسن الصلاة، له عيال وعليه ديون، رحمه الله وغفر له آمين" اهـ. ولا تسعفنا المصادر التي ذكرت ابن رشيق (¬3) بمعلومات كافية عنه، أكثر مما لخَّصه ابن كثير، إلا أن المصادر تُجمع على أن ابن رُشَيِّق هذا كان ملازمًا لشيخ الإِسلام، عارفًا بخطه، بل أعرف من الشيخ نفسه، مكثرًا من كتابة كلامه، لا يختلف عليه أصحاب الشيخ أنفُسُهم في هذه الأمور, وقد تقدم كلام ابن عبد الهادي وابن كثير، ثم وجدنا كلامًا غاية في ¬

_ (¬1) واسمه هذا منقول من خطه في آخر رسالة "الاجتماع والافتراق" لشيخ الإسلام. انظر: "الأعلام": (1/ 144) للزركلي، وكذا في آخر "رسالة في العقل والروح" بخطِّه كما في مجموعة الرسائل المنيرية: (2/ 49)، (وقد تحرَّف فيها "ابن رشيق" إلى "مرشق"). (¬2) "البداية والنهاية": (14/ 241) ط. الريان، ووقع في: "عبد الله بن رُشَيِّق" وهو خطأ مطبعي لا ريب، والصواب: أبو عبد الله، كما جاء في السطر الذي يليه، وعلى هذا الوهم ترجم له الزركلي في "الأعلام": (4/ 86) في من اسمه: عبد الله, وحتى يستقيم له هذا حَذَف: "أبو" التي جاءت على الصواب في السطر الثاني من كلام ابن كثير!!. (¬3) انظر لترجمته: "العقود الدرية": (ص / 27)، و"المشتبه": (ص / 317) للذهبي ونعته بـ: "صاحبنا الفقيه" و "البداية والنهاية": (14/ 241)، و"ذيل مشتبه النسبة": (ص / 27) لابن رافع، و"توضيح المشتبه": (4/ 195)، لابن ناصر الدين، وحاشيته، و"تبصير المنتبه": (2/ 605 - 606) لابن حجر، و"تاريخ ابن قاضي شُهْبة": (2: 1/ 655 - 656)، و"رسالة ابن مُرِّي إلى تلاميذ شيخ الإسلام": (ص / 152، 153، 1550154) في مجموعتنا هذه.

الأهمية للشيخ شهاب الدين ابن مُرِّي الحنبلي في رسالته التي وجهها إلى تلاميذ الشيخ -بعد وفاته- وفيها حثهم على الاهتمام بكتب الشيخ والاعتناء بها ونسخها، والاستعانة بالشيخ أبي عبد الله (¬1) ابن رشيق فإنه أعلم الجماعة بهذا الأمر على الإطلاق، قال: "فاحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله -أيَّده الله- وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموا لهذا المهم الجليل بأكثر ما تقدرون عليه، ولو تألمتم أحيانًا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنِّه فريدًا, ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق". وقال: "وإذا جُمِعت هذه المؤلفات العزيزة الكثيرة، ونقل من المسوَّدات ما لم يُنْقَل، وقُبِل رأيُ أبي عبد الله في ذلك كله؛ لأنه على بصيرة من أمره، وهو أخبر الجماعة بمظانّ المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها". وقال: "والشيخ أبو عبد الله -سلَّمه الله- فهو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم، فأعدوه وأزيلوا ضرورته ... " إلى آخر ما قال وكله ¬

_ (¬1) ذكره ابن مري في رسالته أكثر من مرة بالكنية، ولم يصرِّح باسمه، فظن الباحثون أن المقصود به: ابن القيم، وهو خطأ، والمقصود به؛ ابن رشيق بدلائل كثيرة في النص، أهمها: 1 - أنه وصفه بالمعرفة التامة بخط الشيخ، وأنه أبرز الجماعة في الاضطلاع بهذه المهمة الشاقة، وهذا أمر تفرّد به ابن رُشَيِّق باتفاق أصحاب الشيخ -كما سبق-. 2 - أنه ذكر أن أبا عبد الله هذا قليل ذات اليد، يجب مساعدته من الجماعة ليتفرغ للقيام بهذه المهمة، وهذا موافق لما ذكره ابن كثير من كثرة عياله وأنه مات مَدِينًا. 3 - أنه قد ذكر في رسالته هذه ابن القيم بقوله: "ورُوْجع الشيخان الصالحان، الفاضلان المحققان: شرف الدين، وشمس الدين بن أبي بكر؛ فإنهما أحذق الجماعة على الإطلاق في المناهج الحقية وغيرها، وأذكرهم للباحث الأصولية" اهـ -وأبعد النُّجْعة المغلِّق على رسالة ابن مُرِّي في المراد بشمس الدين بن أبي بكر-!!. فهذه دلائل واضحة، وبالله التوفيق والاستعانة.

شاهد لما ذكرنا. فثبت بما تقدّم جميعه أن "مؤلفات ابن تيمية" لأبي عبد الله بن رُشَيِّق لا لابن القيم، فيجب على الباحثين تصويب هذا الخطأ، ونسبة الكتاب في بحوثهم وتحقيقاتهم -عن ابن القيم أو شيخه- إلى مؤلفه الحقيقي. لكن مما يؤسف له: أن النسخة الثانية من هذا الكتاب وهي التي بخط الشيخ طاهر الجزائري، لا تُمير إلا النصف الأول من هذه الرسالة المهمة، وليس فيه سوى ما يتعلق بالقرآن فقط، وقد كتب الشيخ طاهر الجزائري في آخر هذه النسخة: "انتهى ما يتعلق بالكتاب العزيز، وهذا الذي أردنا نقله الآن لغرضٍ. حُرِّر في ليلة 26 رمضان سنة 1318 ". وليتَه لم يقتصر على هذا القدر، ونرجو أنه لم يضع الأصل المنسوخ منه، الذي كان ضمن مجموع ذكره الشيخ طاهر الجزائري نفسه في هذا "الدفتر" وقال عنه (ق 30 ب): "في المجاميع عند بعض إخواننا". ثم ذكر محتويات بعض المجاميع، منها: "المجموع الثالث"، وسرد محتوياته، وهي كما يلي (31 أ - ب): 1 - المناقلة بالأوقاف، لأحمد بن قدامة الحنبلي (كراس 2). 2 - رسالة في الوقف، للتقي [ابن تيمية] , أولها: إفصل في إبدال الوقف حتى المساجد بمثلها أو خيرٍ منها". آخرها: "وقد قرَّب ابنا آدم قربانًا". كتبت سنة 866 بخط أبي بكر بن زيد الجراعي. 3 - رسالة الاحتجاج في بيان الوقف للتقي [ابن تيمية] أيضًا، أولها: "مسألة: واقف وقفَ وقفًا على أولاده ثم على ... " (كراس 2). 4 - سئل عن قوله - عليه السلام -: "إن [الله] ينادي يوم القيامة بصوتٍ

يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب؛ أنا الملك، أنا الديان" ونحو ذلك من الأحاديث، فإن بعض الناس قال: لا يثبت لله صفة بحديث واحد". أجاب بعد الحمد: "الأصل في هذا الباب أن لا يتكلم الإنسان إلَّا بعلم ... " (ورقة 12). 5 - رسالة في أسماء كتبه. وكنّا نقلناها، كراس ناقص قليلًا. 6 - العقيدة الواسطية. 7 - عقيدة الشيخ موفق الدين [ابن قدامة] (ورقة 7). 8 - الرسالة القبرصية، أرسلها في تاريخ سنة تسع عشرة وسبع مئة، وكُتبتْ سنة 788. 9 - رسالة في زيارة بيت المقدس. (ورقة 6). 10 - مسألة: روى البخاري عن أبي هريرة ... "ما ترددتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدِي ... ". وبعده حديث الدجال. (ورقة 6). 11 - في إشهار الحجاج السلاحَ عند مجيئهم إلى تبوك وغير ذلك. (ورقة 4). 12 - فصل في تقبيل الجامدات واستلامها. (ورقة 2). 13 - كتاب فيه كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية على حديث عمران بن حصين، وهي الرسالة العرشية. 14 - رسالة في العمل بالخطوط، لعلاء الدين ابن مفلح. 15 - كتاب أحكام أطفال المشركين، لمحمد المنبجي بخطه.

16 - كتاب صفة المفتي والمستفتي، لنجم الدين ابن حمدان الحراني الحنبلي. وقد بحثنا كثيرًا عن هذه المجموعة النفيسة في فهارس المخطوطات، فلم نجد لها ذكرًا، ولعلَّ الله يوفق أحد الباحثين للعثور عليها، وأحببنا أن نذكر جميع محتوياتها هنا؛ لِيُستَعان بها في البحث والتنقيب. وحتى يظهر هذا الأصل -الذي نسخ عنه كل من الشيخ طاهر الجزائري والشيخ جميل العظم- اعتمدنا في نشرتنا على نسخة الشيخ طاهر حتى تنتهي، ثم كان الاعتماد في الباقي على نسخة الشيخ جميل العظم. ولم نقم بإثبات الفروق بين النسختين في الجزء المشترك بينهما، فإن الشيخ جميل العظم تصرَّف في إثبات العناوين تصرُّفًا كبيرًا، حيث اختصرَ وهذَّبَ، ورتَّبَ، وحذفَ -كما تقدم-. أما نشرة الدكتور صلاح الدين المنجد فقد سقطت منها عناوينُ خمسة كتب، وأسطر عديدة من مواضع مختلفة في وصف الكتب والرسائل. وفيها تحريفات كثيرة لا مجال لذكرها هنا، ومن أراد ذلك فليقابل بينها وبين أصلها الذي بخط الشيخ جميل العظم أو نشرتنا الجديدة لهذه الرسالة ضمن هذا المجموع. • مصادر ترجمة شيخ الإِسلام: تتنوع وتكثر مصادر ترجمة عَلَمٍ ما باعتباراتٍ كثيرة؛ علمية واجتماعية وبلدانية ومذهبية. فيُترجم تراجم مستقلّة؛ باعتبار كثرة التلاميذ الملازمين حضرًا وسفرًا، وكثرة مواد الترجمة.

ويُترجم في التواريخ العامة باعتبار أثره في سير الأحداث، ونشاطه العلمي، وكثرة تآليفه. ويُترجم في طبقات الفقهاء، لاتصافه بالفقه، أو التزامه بمذهب معيَّن، وتعدد ترجمته في الكتب المقصورة على علماء فنٍّ ما باعتبار اتصافه بتلك الفنون. ولقد حظي شيخ الإِسلام -رحمه الله- بالترجمة في كتب كثيرة على اختلاف أنواعها المتقدمة، من قبل وفاته بمدة، وحتى كتابة هذه الأسطر، على اختلاف مواد هذه التراجم من حيث الطول والقِصَر، وأصالة المعلومات، والالتفات إلى أهم الأحداث. فكان النَّصيب الأوفى من الجودة في تلك التراجم لتلاميذ شيخ الإِسلام ومعاصريه؛ كالبرزالي، وابن عبد الهادي، والذهبي، وابن فضل الله، والبزَّار، وابن الوردي، والصفدي، وابن كثير. وبعض تراجم معاصريه ما هي إلا نقلٌ من التراجم الأصيلة السابقة؛ إذ ليس المقصود فيها أكثر من الوفاء بشرط الكتاب، كما هو الحال في تاريخ ابن شاكر، والفيومي، وعبد الباقي اليماني، واليافعي. إلا أن هذه الكتب تزودنا بحقائق عن هؤلاء المؤلفين، ومواقفهم من شيخ الإِسلام؛ لأنهم من مذاهب وبلدانٍ شتّى، ثم هي لا تخلو من فائدة جديدة يضيفها صاحب الترجمة، فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. أما التراجم المتأخرة عن عصر شيخ الإِسلام؛ فأبرزها ترجمة الحافظ ابن رجب في "ذيله"، فقد أفاد فيها وأجاد، وكذلك ترجم له

وقد قمنا بتتبع مصادر ترجمة شيخ الإسلام

ابن حجر في "الدرر" ترجمة طويلة، وكذا المقريزي في "المقفَّى"، والعليمي في "المنهج". وهكذا تتابع التراجم على وتيرة واحدة من القرن الحادي عشر حتى نهاية الثالث عشر، إلا ما كان من الشوكاني (1250)، والكشميري (1298)، والقِنَّوْجي (1307) فإنَّهم لاحتفائهم بالشيخ، كان لترجمته في كتبهم حلاوة وعليها طلاوة. وقد قمنا بتتبع مصادر ترجمة شيخ الإِسلام، وسنذكر كل ما وقفنا عليه من ذلك، سواء أكان مخطوطًا أو مطبوعًا أو مفقودًا على سبيل الإحصاء، وهي على ثلاثة أقسام: الأول: التراجم المفردة. الثاني: التقاريظ والرسائل المفردة عن بعض أحواله ومؤلفاته. الثالث: سِيْرته وأخباره في كتب التواريخ والسير ونحوها. (تنبيه): ما كان داخلًا في مجموعتنا هذه وضعنا قبله علامة (*). القسم الأول: التراجم المفردة 1 - العقود الدرية من مناقب شيخ الإِسلام أحمد بن تيميَّة (¬1). للحافظ / أبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي (744). 2 - الدُّرة اليتيميَّة في سيرة ابن تيمية. ¬

_ (¬1) طبع بتحقيق محمَّد حامد الفقي (1356). وسماه الآلوسي في "غاية الأماني": (1/ 387) بـ "الدرر البهية في ترجمة شيخ الإِسلام ابن تيمية" لأنّه وجد على ظهر إحدى النسخ هذا الاسم، والاسم الصحيح ما تقدم. ثم تابعه على هذا الاسم بعض المعاصرين؛ فوهموا.

للحافظ / محمَّد بن أحمد الذهبي (748). هكذا ذكره البغدادي في "إيضاح المكنون": (1/ 462)، و"هدية العارفين": (2/ 154)، وذكره د / بشار عواد في رسالته "الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام": (ص / 207) غير أنه قال: "وهو في آل تيمية"! وأحال على الكتابين المتقدمَيْن! وليس فيهما ما يُفيد ذلك، بل فيهما التصريح بأنه يريد شيخ الإِسلام فقط. وهو من مصادر ابن الوردي في "تتمة المختصر" كما صرّح في آخره. وانظر "أبجد العلوم": (ص / 598). 3 - الأعلام العليّة في مناقب ابن تيميّة (¬1). للحافظ / عمر بن علي البزار (749). 4 - ترجمة شيخ الإِسلام ابن تيمية. للحافظ / إسماعيل بن كثير الدمشقي عماد الدين (774). قال في "البداية والنهاية": (14/ 146): "وممن توفي فيها -أي سنة 728 - من الأعيان: شيخ الإِسلام العلامة تقي الدين ابن تيمية -كما تقدم ذكره في الحوادث- وسنُفْرِد له ترجمة على حِدة إن شاء الله تعالى" اهـ. فهل أفرده؟ 5 - مناقب ابن تيميّة (¬2). ¬

_ (¬1) طبع أكثر من مرة. (¬2) ذكر بعض الباحثين أن منه نسخة في جامعة ييل الأمريكية برقم (243) بخط المؤلف ولم نطلع عليه، وفي بعض الفهارس أنها نسخة من الكتاب الآتي ذكره برقم " 11 ".

للعلامة / الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب (779). 6 - "الكلام على بناء ابن التدمري مدرسة الشيخ تقي الدين ابن تيمية بالقصَّاعين" (¬1). للشيخ / محمَّد بن أبي بكر التدمري الشافعي (787). 7 - القصيدة التائية في إنكار تكفير العلاء البخاري لابن تيمية. للشيخ / عمر بن موسى بن الحسن القرشي ابن الحِمصي (861) في مئة بيت (¬2). 8 - الانتصار في ذكر أحوال قامع المبتدعين وآخر المجتهدين ابن تيمية (¬3). للشيخ / عبد الرحمن المقدسي الحنبلي. 9 - الرد الوافر على من زعم أَن مَنْ سمَّى ابن تيمية شيخ الإِسلام كافر. للحافظ / ابن ناصر الدين الدمشقي (842) ذكر السخاوي في "الجواهر والدرر" 3/ 1264 أنه ترجمة مفردة، و "الرد الوافر" مطبوع مُتَدَاوَل. 10 - الاختيارات المرضية في أخبار التقي ابن تيمية. للعلامة / محمَّد بن علي بن طولون الحنفي (953). ¬

_ (¬1) مخطوط في (53 ق) بخط المؤلف سنة (786) في الظاهرية. انظر "فهرس التاريخ": (2/ 677)؛ وبعد الاطلاع على الكتاب -أخيرا- ظهر لنا أنه لا ينوي على ترجمة الشيخ، وإنما فيه الكلام على البناء الجديد للمدرسة، وما دار حوله من الخلاف. (¬2) ذكرها في "الضوء اللامع": (6/ 139 - 142)، و"الأعلام": (5/ 68). (¬3) منه نسخة في معهد المخطوطات برقم (913) ميكروفلم في (250 ق)، انظر: "فهرس المخطوطات": جـ 2 ق 3/ 34.

ذكره في كتابه "الفلك المشحون" (¬1): ص / 74، وقال: "وهو في المسوّدة". 11 - الشهادة الزَّكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية (¬2). للشيخ / مَرْعي الكَرْمي الحنبلي (1033). 12 - الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية (¬3) للشيخ / مرعي الكرمي الحنبلي (1033). 13 - ابن تيمية (¬4). للشيخ / محمَّد راغب باشا الحنفي (1176). 14 - القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيميّة الحنبلي (¬5) ¬

_ (¬1) طبعة دار ابن حزم (1416). (¬2) طبع بالمكتب الإسلامي. (¬3) طبع في مؤسسة الرسالة (1405) تحقيق: نجم خلف، وهو بتمامه في "غاية الأماني": (2/ 153 - 243) للآلوسي. وهو لا يعدو أن يكون مختصرًا من "العقود الدرية" لابن عبد الهادي, و"الأعلام العلِيَّة" للبزار، وترجمة الشيخ من "مسالك الأبصار" لابن فضل الله. (تنبيه): وقد نُشِر مؤخرًا فصلٌ من هذا الكتاب على أنه كتاب مستقل بعنوان: محنة شيخ الإِسلام ابن تيمية" بذيل "قاعدة في الوسيلة" لابن تيمية، ولم يعرف محققُه: الشيخُ علي الشبل، اسمَ المؤلف!!. (¬4) مقدمة "درء التعارض" (1/ 24 - 26). (¬5) مخطوط بقلمٍ معتادٍ سنة (1186)، ضمن مجموع في مكة روضة خيري بمصر, رقم (353) في (143 ق). كذا ذكره بعض الباحثين، وهو كتاب صفي الدين البخاري الآتي ذكره، وللتافلاتي تقريظ عليه في آخره. وترجمة التافلاتي في "سلك الدرر": (4/ 102)، و"الأعلام": (7/ 69).

للشيخ / محمد بن محمَّد المغربي التافلاتي الحنفي (1191). 15 - القول الجلي في ترجمة شيخ الإِسلام ابن تيمية الحنبلي (¬1). للشيخ / صفي الدين الحنفي البخاري (1200). وهنا تنبيهات: الأول: في مكتبة الحرم المكي برقم (2784)، ورقة بعنوان: "ترجمة ابن تيمية"، وهي نقل عن الشيخ مرعي الحنبلي من كتاب له في "الموضوعات" ذكر فيه شيخ الإِسلام وأثنى عليه. الثاني: هناك "ترجمة لشيخ الإِسلام" ملحقة بآخر فتاواه: "الجواهر المضية". (مخطوطة: بوردور، رقم (815/ 2)، كتبت سنة 790 هـ) انظر: "نوادر المخطوطات في مكتبات تركيا": 1/ 47 لرمضان شِشِن. الثالث: "ترجمة شيخ الإِسلام ابن تيمية" في الظاهرية برقم (11471) (ق 1 - 34 ب) بخط الشيخ طاهر الجزائري ضمن دفتر منوعات، انظر: "فهرس التاريخ": (258). الرابع: ذكر د / شاكر مصطفى في كتابه "التاريخ العربي والمؤرخون": (3/ 214) أن للضياء المناوي -عصري شيخ الإِسلام- (746) ترجمة مفردة للشيخ، ولم نقف على هذا في مصادر ترجمته! وذكر أيضًا: أن ابن عبد الهادي اختصرها!. ¬

_ (¬1) طبعه العلامة القنوجي على نفقته، بهامش "جلاء العينين" (بولاق 1298) ص 2 - 89. ثم تتابعت طبعاته.

القسم الثاني: التقاريظ والرسائل المفردة عن بعض أحواله ومؤلفاته

القسم الثاني: التقاريظ والرسائل المفردة عن بعض أحواله ومؤلفاته: * 1 - التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار (¬1). للشيخ / أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي الحنبلي، المعروف بابن شيخ الحزَّامِين (¬2) (711). * 2 - رسالة ابن مُرِّي إلى تلاميذ شيخ الإِسلام (¬3). للشيخ / أحمد بن محمَّد بن مُرِّي شهاب الدين الحنبلي (بعد 730). * 3 - رسالة من عبد الله بن حامد إلى أبي عبد الله [ابن رشيق] في الثناء على شيخ الإِسلام (¬4). لعبد الله بن حامد (أحد علماء الشافعية). * 4 - أجوبة ابن سيد الناس اليعمري على سؤالات ابن أيبك الدمياطي. للعلامة / أبي الفتح ابن سيد الناس اليَعْمُري الشافعي (734). * 5 - نماذج من قراءة شيخ الإِسلام على شيوخه من "معجم سماعات البرزالي". للحافظ / علم الدين البرزالي (739). ¬

_ (¬1) ساقه ابن عبد الهادي في "العقود": (ص / 291 - 321). ونُشِر مستقلا مرات. (¬2) كذا ضبطه ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه 3/ 165، وليس "الحِزَامِيين" كما في عامة الكتب. (¬3) طبعها محمَّد حامد الفقي عام (1372)، وأعاد نشرها محمَّد الشيباني في الكويت. (¬4) هي ملحقة بـ "العقود": (502 - 507). ووُجِدَت -أيضًا- على ظهر نسخة من العقود الدرية. وانظر كلانا في تعيين المكتوب إليه في (ص / 241).

6 - مؤلفات ابن تيمية. للحافظ / محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (744). قال في "العقود الدرية": (ص / 64): "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأُبين ما صنّفه منها بمصر، وما ألفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن, وأُرتبه ترتيبًا حسنًا غير هذا الترتيب بعون الله تعالى وقوَّته ومشيئته" اهـ. فهل ألَّفه أم اخترمته المنية قبل الوفاء بذلك؟. 7 - القبَّان في أصحاب التقي ابن تيميّة (¬1). للحافظ / محمَّد بن أحمد شمس الدين الذهبي الشافعي (748). * 8 - فصلٌ فيما قام به ابن تيمية وتفرد به (¬2). لخادم شيخ الإِسلام إبراهيم بن أحمد الغياني. (بعد 730). * 9 - مؤلفات شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3). للشيخ / أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله بن أحمد سبط ابن رُشَيِّق المالكي (749). ¬

_ (¬1) ذكرها السخاوي في "الإعلان بالتوبيخ": (ص / 290)، ووصفها بكونها (ورقة). والقبَّان هو: الميزان. (¬2) مخطوط ضمن "الكواكب الدراري (41 / ق 125 - 130) لابن زكنون (837) [نسخة الظاهرية 587] , منسوخة في القرن التاسع، وطبعه محب الدين الخطيب مرات بعنوان "ناحية من حياة شيخ الإِسلام ابن تيمية". (¬3) نشرت منسوبة إلى ابن قيم الجوزية قبل 45 سنة، والصواب نِسبتها إلى أبي عبد الله ابن رشيق المالكي، وتقدّم شرح ذلك (ص / 8 - 15).

القسم الثالث: سيرته وأخباره في كتب التواريخ والسير ونحوها

* 10 - تقريظ الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي للرد الوافر لابن ناصر الدين (¬1). * 11 - تقريظ العلامة محمود بدر الدين العَيْني الحنفي (¬2). * 12 - تقريظ العلامة صالح البلقيني الشافعي (¬3). وقد عَدَدْنا هذه التقاريظ بمنزلة الترجمة لما فيها من المعلومات عن حياة الشيخ والذب عنه. واستأنسنا بقول القِنَّوْجي في "أبجد العلوم": (3/ 138): "وهذه التقاريظ المشارُ إليها، كلها بمنزلةِ ترجمة مفيدة، وهي تُفْصِحُ عن عُلُوِّ مكان شيخِ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العلوم والمعلومات" اهـ. القسم الثالث: سِيرته وأخباره في كتب التواريخ والسِّيَر ونحوها: * 1 - نهاية الأرب في فنون الأدب. للعلامة / شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (733). * 2 - تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه. لشمس الدين محمَّد بن إبراهيم المعروف بابن الجزري (739). 3 - معجم شيوخ البِرزالي (¬4). ¬

_ (¬1) نشرت بذيل "الرد الوافر" لابن ناصر الدين. (¬2) نشرت بذيل "الرد الوافر" لابن ناصر الدين. (¬3) نشرت بذيل "الرد الوافر" لابن ناصر الدين، وهذه الثلاثة هي أهم التقاريظ، فلذا اكتفينا بها. (¬4) منه قطعة في الظاهربة بدمشق برقم (3798)، انظر "الفهرس": (2/ 687) التاريخ وملحقاته، ولم نتمكن من الحصول عليه. وللبرزالي عدد من المعاجم، ومنها معجم =

للحافظ / القاسم بن محمَّد بن يوسف البِرْزالي (739). وأثبتنا في هذه الطبعة "نموذج من قراءة ابن تيمية على شيوخه" مستخرجة من سماعات البرزالي على الشيوخ في سنة (680) انظر ص 216. * 4 - المقتفِي (¬1). (مخطوط) له أيضًا. وهو المعروف بتاريخ البرزالي، وهو ذيل على كتاب "الروضتين" لأبي شامة المقدسي (665)، وقف فيه إلى سنة (739) وهي سنة وفاته. وفيه مادة وافرة فرَّغ كثيرًا منها ابنُ كثيرٍ في "تاريخه" وترك شيئًا آخر، وتصلح ترجمته في هذا الكتاب أن تفرد بكتاب. * 5 - كنز الدُّرَر وجامع الغُرَر. لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري (بعد 736). ¬

_ = مختصر فيه الشيوخ الذين اتفق هو وأُخته على الرواية عنهم يقع في (5) ق، ولدينا صورته. (¬1) منه نسخة خطية في مجلدين إلى سنة (721) إلا أنها مع نقصها عَسِرة القراءة، لإصابتها برطوبةٍ أثرت على المداد فدخل بعضه في بعض، وقد أُخذ ما اتضح من النسخة رسالة علمية بجامعة أم القرى واعتدنا عليها في كتابنا هذا، وذكر الميمني -ومثله الدكتور شاكر مصطفى- أنه وقف على مجلد ضخم في 614 ورقة في مكتبة كوبرولو زاده محمَّد باشا برقم 1037، لعله من تاريخ البرزالي من سنة 726 إلى 738 هـ. (انظر: بحوث وتحقيقات 1/ 188). قلنا: ثم ظهر أخيرًا أن هذه القطعة جزء من تاريخ ابن الجزري (739) رفيق البرزالي، انظر تفصيل ذلك وتحقيقه في مقدمة د / عمر عبد السلام تدمري "لتاريخ حوادث الزمان" لابن الجزري.

* 6 - لقطة العجلان في مختصر وفيات الأعيان. (مخطوط) للعلامة / عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني الشافعي (743). * 7 - مختصر طبقات علماء الحديث (¬1). للحافظ / محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (744). * 8 - ذيل تاريخ الإِسلام. (مخطوط) (¬2). * 9 - معجم شيوخ الذهبي. * 10 - تذكرة الحفاظ. * 11 - ذيل العبر في خبر من عَبَر (¬3). * 12 - دُول الإِسلام. ¬

_ (¬1) وقد دللنا على أن هذا هو الاسم الصحيح، لا ما أُثبت على المطبوعة، في مكان آخر، وانظر "العنوان الصحيح للكتاب": (ص / 92) (ط. دار عالم الفوائد 1419) لأخينا الشيخ حاتم الشريف. (¬2) طبع أخيرًا طبعة سقيمة، ثم نشر الأخ الباحث أبو عبد الرحمن محمد الثاني مقالًا في ملحق التراث بجريدة البلاد في (13/ 1 / 1420 رقم 15623) ينفي فيه أن يكون لتاريخ الإِسلام ذيلًا واستدل بدلائل عديدة، ثم رددت عليه في الملحق نفسه بتاريخ (9/ 6 / 1421 رقم 16111) فلينظره من أراد. (علي العمران). وقد استل هذه الترجمة بعضهم، كما ظهر ذلك بالمقارنة، ومنه نسخة في (الظاهرية، مجموع 3128 - عام) (ق 70 - 75)، انظر: "فهرس المجاميع": (2/ 215)، و"فهرس الطب": 468. (¬3) "عبر" -بالعين المهملة- هذا هو الصواب، وخلافه وهم، انظر: "الذهبي ومنهجه في تاريخ الإِسلام": (ص / 178) للدكتور بشار عواد.

* 13 - الأعلام بوفيات الأعلام. * 14 - المعين في طبقات المحدثين. * 15 - ذكر من يُعتمد قَوْلُه في الجرح والتعديل (¬1). * 16 - المعجم المختصّ بالمحدثين. 17 - سير أعلام النبلاء (¬2). جميعها للحافظ / محمَّد بن أحمد الذهبي الشافعي (748). * 18 - برنامج الوادي آشي. للشيخ / محمَّد بن جابر الوادي آشي شمس الدين المالكي (749). ¬

_ (¬1) طبعت مفردة، وضمن أربع رسائل في علوم الحديث، تحقيق أَبي غدة. (¬2) وها هنا تنبيه وهو: أن المطبوع من السير (عن مؤسسة الرسالة) لا يمثل كامل الكتاب، بل بقي منه ما يمثل نحو (40) سنة وهذه مفقودة من نسخة الكتاب المعتمدة حتى الآن، وهناك قطعة من "السير" تبدأ من نحو سنة (660 إلى 740) وهذه القطعة مشوشة الترتيب كثيرة البياضات عسرة القراءة، وفي كون هذه القطعة هي المكملة للكتاب نظر كببر (انظر مقدمة بشار). وهذه القطعة المشار إليها طبعت أخيرًا ملحقةً بالسير في طبعة مكتبة الباز، عَمِل على السير العَمْروي، وعَمِل على هذه القطعة الجديدة عبد السلام علُّوش، إلا أن هذه القطعة لم توجد فيها ترجمة شيخ الإِسلام؛ لأن الأوراق من وفيات (727 - 730) ساقطة من النسخة، ولعلها بفعل فاعل!. غير أن المحقق حاول أن يكمل ذاك النقص؛ فاجتلب نصوصًا منقولة عن الذهبي في المصادر، فأثبتها في الكتاب! وهذا تصرُّف غير مرضيِّ، إذ لم نطلع على أحدٍ صرّح بالنقل عن "السير" في ترجمة الشيخ -فيما وقفنا عليه-.

* 19 - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (¬1). (مخطوط). للعلامة المنشئ / أحمد بن يحيى بن فضل الله العُمَري الشافعي (749). * 20 - تتمَّة المختصر في أخبار البشر. للعلامة / عمر بن الوَرْدي الشافعي (749). * 21 - النونية. للإمام / شمس الدين محمَّد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية الحنبلي (751). * 22 - الإيصال لكتاب ابن سليم وابن نقطة والإكمال. (مخطوط). للعلامة / علاء الدين مُغُلْطاي الحنفي (762). ثم طبع الكتاب أخيرًا بدار الفكر المعاصر في ستة مجلدات. * 23 - الوافي بالوَفَيَات (¬2). للعلامة / خليل بن أيبك الصفدي صلاح الدين الشافعي (764). * 24 - أعيان العصر وأعوان النصر. (مخطوط) له. وفيه يترجم لمعاصريه من سنة (696 - 764) بعبارات مسجوعة من أوّل الكتاب إلى آخره، فأفقده التزام ذلك كثيرًا من الفوائد، ولكنه في ترجمته لشيخ الإِسلام أورد بعض المعلومات التي لا توجد في المصادر ¬

_ (¬1) استل بعضهم هذه الترجمة من هذا الكتاب، ومنها نسخة خطية بمكتبة الملك فهد بالرياض، ضمن مخطوطات المعارف. (¬2) ويسمى بالتاريخ الكبير.

الأخرى، وانفرد بالقصيدة الضادية في رثاء الشيخ. * 25 - فَوَات الوَفَيَات (¬1). للشيخ / محمَّد بن شاكر الكتبي الشافعي (764). * 26 - عيون التواريخ. (مخطوط) (¬2) له. * 27 - مرآة الجَنان. للشيخ / أبي محمَّد عبد الله اليافعي اليمني الشافعي (768). * 28 - نثر الجمان في تراجم الأعيان. (مخطوط) (¬3). للعلامة / أحمد بن محمَّد الفيُّومي المقرئ (771). * 29 - البداية والنهاية. للحافظ / أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي الشافعي (774). * 30 - نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون. (مخطوط). للملك / الأفضل عباس بن علي بن داود بن رسول الشافعي اليماني (778). * 31 - درّة الأسلاك في دولة الأتراك. (مخطوط). ¬

_ (¬1) واستل بعضهم هذه الرجمة، ومنها نسخة في مكتبة الحرم المكي برقم (1114 - عام) (12 ق) (173 ب- 184 أ) بتاريخ 1292 هـ. انظر: "فهرس المكتبة الصديقية": (المجاميع / 16). (¬2) طبع منه ثلاثة أجزاء متفرِّقة؛ لكن ترجمة شيخ الإسلام ليست في المطبوع منه. (¬3) قطعة من الكتاب تحتوي على السنوات (701 - 745).

للشيخ / الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب الشافعي (779). * 32 - تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه. له. * 33 - رحلة ابن بطوطة المسمَّاه: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. للرَّحَّالة / محمَّد بن عبد الله الطنجي (779). * 34 - الذيل على طبقات الحنابلة. للعلامة / عبد الرحمن بن شِهاب الدين أحمد الدمشقي المعروف بابن رجب الحنبلي (795). * 35 - العِقد الفاخر الحسن في طبقات أكابر اليمن. (مخطوط). للمؤرخ / شمس الدين علي بن الحسن الخزرجي الشافعي اليماني (812). * 36 - ذيل التقييد لرواة السنن والمسانيد. للعلامة / تقي الدين الفاسي المالكي (832). * 37 - التبيان لبديعة البيان. (مخطوط). للحافظ / محمَّد بن أبي بكر بن ناصر الدِّين الدمشقي الشافعي (842). * 38 - السلوك لمعرفة دول الملوك. للعلامة / أحمد بن علي المقريزي تقي الدين الشافعي (845). * 39 - المقفَّى الكبير. له. * 40 - الاعتبار بذكر الخِطَط والآثار, له.

* 41 - مختصر طبقات الحنابلة لابن رجب (مخطوط). للعلامة / أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي (846). * 42 - الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة (¬1). للحافظ / أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي (852). * 43 - عِقد الجمان. (مخطوط). للعلامة / بدر الدين محمود العيني الحنفي (855). * 44 - المنهل الصَّافي والمستوفَى بعد الوافي. للعلامة / أبي المحاسن يوسف بن تَغْري بَرْدِي الحنفي (874). * 45 - الدليل الشافي من المنهل الصافي، له. وهو مختصر من الذي قبله. * 46 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهِرة. له. * 47 - المقصد الأرْشد في ذِكر أصحاب الإِمام أحمد. للعلامة / برهان الدين إبراهيم بن مفلح الحنبلي (884). * 48 - دستور الأعلام. (مخطوط). ¬

_ (¬1) وقد استل بعضهم هذه الترجمة، ومنها نسختان، إحداهما في دار الكتب، والأخرى في أوقاف بغداد، غير أن المستل قد زاد فيها مرثيَّة ابن الوردي، وتصرَّف في بعض العبارات، وطُبعت مؤخَّرًا عن دار ابن حزم (1419). وانظر: "ابن حجر ودراسة مصنفاته": (1/ 554 - 556).

للشيخ / محمَّد بن عمر بن عَزَم المكي المالكي (891). * 49 - غِربال الزمان في وَفَيات الأعيان. للعلامة / يحيى بن أبي بكر بن محمد الحَرَضي الشافعي اليماني (893). * 50 - طبقات الحفاظ. للحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي (911). * 51 - تاريخ ابن سباط، المسمَّى: صِدْق الأخبار. لحمزة بن أحمد الغَرْبي (¬1) (926). * 52 - الدَّارس في تاريخ المدارس. للعلامة / عبد القادر بن محمَّد النُّعيمي (927). * 53 - المنهج الأحمد في ذكر أصحاب الإِمام أحمد. للعلامة / مجير الدين عبد الرحمن العليمي الحنبلي (928). * 54 - الدُّرُّ المنضَّد في ذكر أصحاب الإِمام أحمد، له. وهو مختصر من الذي قبله. * 55 - طبقات المفسرين. للعلامة / شمس الدين محمَّد بن علي الداوودي الشافعي (945). * 56 - قلادة النحر في وفيات أعيان الدَّهر. (مخطوط). ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في الأعلام: 2/ 276، واختلف فيه، فقيل: ابن أسباط، وقيل: ابن شباط.

للمؤرخ / عبد الله الطيب بن أحمد با مخرمة (947). * 57 - الزيارات. للشيخ / محمَّد العدوي الزوكاوي الشافعي (1032). * 58 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب. للعلامة / أبي الفلاح عبد الحي بن العِمَاد الحنبلي (1089). * 59 - درَّة الحِجَال في غرة (¬1) أسماء الرجال. للشيخ / أبي العباس أحمد بن محمَّد المكناسي المعروف بابن القاضي المالكي (1125). * 60 - دِيوان الإِسلام. للعلامة / محمَّد بن عبد الرحمن الغَزِّي الشافعي (1167). * 61 - الدر المكنون في مآثر الماضي من القرون. (مخطوط). للشيخ / ياسين بن خير الله الموصلي الخطيب (بعد 1232). * 62 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. للإمام المجتهد / محمَّد بن علي الشوكاني اليماني (1250). * 63 - نُزُل من اتقى بكشف أحوال المنتقى. للعلامة / عبد الرشيد بن محمود الكشميري (1298). ¬

_ (¬1) سقطت "غُرَّة" من اسم الكتاب في المطبوعة! والصواب إثباتها وانظر "العنوان الصحيح للكتاب": (ص / 90).

وبعد هذا العرض يبقى عندنا نوعان من الكتب والدراسات

* 64 - التاج المكلل من جواهر مآثر الطِّراز الآخر والأوّل. للعلامة / صديق بن حسن بن علي القنَّوْجي (1307). 65 - تقصار جيود الأحرار من تذكار جنود الأبرار، له بالفارسية. 66 - إتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء المحدثين، له بالفارسية -أيضًا-. * 67 - أبجد العلوم. له. * 68 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين. للشيخ / السيد نعمان خير الدين بن محمود الآلوسي الحنفي (1317). ... وبعد هذا العرض يبقى عندنا نوعان من الكتب والدراسات: النوع الأول: كتب وردت فيها معلومات وشذرات تتعلق بحياة شيخ الإِسلام، فمنها ما هو في كتب الشيخ نفسِه، وقد تصدَّى لجمع ذلك أحد طلبة العلم، على ما أخبرنا به الشيخ بَكْر أبو زَيْد. ومنها ما هو منثور في كتب أصحابه وتلاميذه ومن بعدهم، خاصة كتب العلامة ابن القيم، وقد كنا تصدينا لجمع هذا الصنف فحصلنا على نقول وفيرة ونصوص عزيزة، وقد أدرجناها هنا بَادِىء ذِي بَدْء، ثم عدلنا عن هذا ورأينا أن تفرَد ببحث مستقلٍّ. النوع الثاني: البحوث والدراسات الحديثة عن شيخ الإِسلام في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، لم نذكر شيئًا منها هنا، وهي كثرة كاثرة تصلح أن تفرَد ببحث -أيضًا-.

منهج العمل

• منهج العمل: كانت فكرة حَصْر مصادر ترجمة شيخ الإِسلام المفردة والمضمَّنة كتب التواريخ ونحوها، سواء المخطوط والمطبوع، هي بداية هذا العمل ونواته وكان ذلك قبل خمس سنوات، فلما اكتملَ الجمعُ، رأينا أن نضم شمل هذه الترجمات، لتكون في سِفْرٍ واحد أمام نظر المطالع، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الفائدة وجليل الأثر -وقد تقدَّم-. ويتلَخّص عملنا في إثبات هذه النصوص في النقاط الآتية: 1 - الفترة الزمنية لهذه الترجمات تبدأ من حياة شيخ الإِسلام، حيث كانت أول ترجمةٍ وقفنا عليها هي لابن شيخ الحزَّامِين (711) -أي في حياة الشيخ- وتنتهي بنهاية القرن الثالث عشر الهجري سنة (1300)، وكانت آخر التراجم لنعمان خير الدين الآلوسي (1317) وذلك في كتابه "جلاء العينين"، وقد ألفه قبل نهاية القرن سنة 1297. 2 - لم نُدْخِل في مجموعتنا هذه التراجمَ المفردةَ؛ لأنها تعدُّ قائمة بنفسها كـ "العقود الدرية" لابن عبد الهادي -وهو أوسعها- و"الكواكب الدرية" لمرعي الكرمي وغيرهما مما تقدَّم إحصاؤه قريبًا. 3 - راعينا في إثبات هذه النصوص تواريخ وَفَيَات مؤلفيها، ومن لم تتبيّن وفاتُهُ؛ اجتهدنا في إثباتها في مكانها الملائم. 4 - أثبتنا هذه النصوص بتمامها دون حذفٍ أو اختصارٍ أو تصرُّف وأشرنا في الحاشية إلى مصدر هذه الترجمة سواء المطبوع أو المخطوط، مع ذكر مكان الطبع وتاريخه، ورقم المخطوط ومكان وجوده. ونحن إذ نثبت هذه التراجم برمتها، بعُجَرِها وبُجَرِها، وحقها وباطلها، فإن ذلك لأمور:

الأول: للاطلاع عليها فَيُعْرَف المنصِف من المجحف، فيُؤخَذ الحقُّ ويبقى، وأما الباطل فيذهب جُفَاءً. الثاني: للنظر فيما يتعرَّض له أولياء الله، وعلماء الإِسلام المجاهدون من صنوف الأذى؛ من تعذيب وحَبْس وطَعْن، وغيرها من أنواع الابتلاءات، ثم ما واجهوا به ذلك كله من الصبر والرِّضا، شأنهم شأن رسل الله الكرام، قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل". وأن ما يقع من الكلام عليهم بالباطل والهوى والتقليد؛ ما هو إلا زيادة في حسناتهم ورِفعة في درجاتهم -إن شاء الله تعالى- وأنَّ ذلك لا يضرهم عند الله ولا عند الناس. وأن من كان منهم -أي الذَّامين- مقلدًا في الذم والطعن لمن سبقه؛ فقد تبينت الآن حقائق الأمور، ورجع المنصف عن قدحه، وأما من بقيَ من الخلف ذامًّا شانئًا؛ فما هو إلا مبتدعٌ صاحب هوى في الغالب، أو غير مطلع على جليَّات الأمور وحقائقها، فحُقَّ للشيخ أن يتمثَّل بقول الشاعر: أثريتُ مَجْدًا فَلَمْ أعْبأ بما سَلَبَتْ ... أيدي الحَوَادثِ مِنِّي فهو مُكتَسَبُ وبقوله: فَمَاذا على الأعداءِ أَن يتقوَّلوا ... عَلَيَّ وَعِرْضي نَاصِح الجيبِ وَافِرُ

وبقوله: راجَعْتُ فِهْرِس آثارِي فما لَمَحت ... بصيرتي فيه ما يُزْرِي بأعْمَالي الثالث: فوائد أخرى ذكرناها عند الحديث عن فوائد هذا العمل (ص / 6 - 7). 5 - صححنا هذه الترجمات جميعًا، وقمنا بمقابلة بعضها على بعض عند وقوع تحريف أو تصحيف، وذلك رجاء الوصول إلى نصٍّ أقربَ إلى السلامة، ورجعنا في أثناء ذلك إلى عدة طبعاتٍ للكتاب، وكتب أخرى مساعدة. ولم نُشِر إلى تلكم الأخطاء لكثرتها وشيوعها، إلا في النادر لقصدٍ، حتى الطبعات المحققة لم تَخْلُ من كثيرٍ من التصحيفات!!. أما ما كان له وجهٌ في العربية أو المعنى؛ فلم نتصرَّف فيه، بل أبقيناه كما هو، مع الإشارة إلى ذلك. 6 - بذلنا غايةَ الوُسْع في التصحيح إلا أنه قد بقي في النصوص بعض العبارات التي لا تخلو من إشكال، ولم نهتدِ إلى صوابها، أو إلى تحرير معناها. 7 - كان الوُكد منصبًّا على ما سبق من النقاط، فلم نلتفت إلى التعليق على النصوص، إلا عند الحاجة المُلِحَّة، وكان ذلك بعبارة وجيزة تكفي المنصِف. 8 - ألحقنا بالكتاب ثلاثة فهارس: أ - فهرس موضوعيّ تفصيلي دقيق، مُقسّم بعناية إلى فقرات، منذ ولادة شيخ الإِسلام وحتى وفاته، ونذكر تحت كلِّ فِقْرةٍ منها

أماكن وجودها وتكررها في جميع كتب هذا "الجامع"، فيمكن القاريء أو الباحث أن يصنع ترجمةً للشيخ من خلال هذا الفهرس، تحتوي على أدقِّ التفاصيل في حياته. ب - فهرس لكتب شيخ الإِسلام الواردة في نصوص هذا "الجامع" مرتبًا على حروف الهجاء. جـ - فهرس الكتب المضمّنة هذا "الجامع". وختامًا نحمد الله على توفيقنا لإنجاز هذا العمل، الذي نرجو أن يكون رائدًا في بابه، يستعينُ به كلُّ دارسٍ عن شيخ الإِسلام، أو باحث في تراجم المجددين العِظام. ولا يفوتنا أن نتقدم بخالص الشكر والدعاء لكل من أسهم في إنجاح هذا الكتاب وهم كثير، ونخص بالذكر هنا فضيلة العلامة / بكر بن عبد الله أبو زيد -وفقه الله لمراضيه- فقد كان متابعًا للعمل من بواكيره وحتى تم على سوقه. وكذلك الشيخ الدكتور / صالح بن حامد الرفاعي الذي أتحفنا ببعض الترجمات، جزى الله الجميع خيرًا، وكتب ذلك في موازين حسناتهم، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه. وندعو القراء والباحثين إلى إفادتنا باقتراحاتهم وآرائهم، أو بما فاتنا من ترجمات الشيخ، فالعلم رحمٌ بين أهله، والمؤمن مرآة أخيه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمَّد. وكتب محمَّد عُزَير شَمْس وعليُّ بن مُحَمَّد العِمْرَان في مكة المكرمة -حرسها الله تعالى- ص. ب (2928)

نماذج من المصادر المخطوطة

نماذج من المصادر المخطوطة

تعليقات البرزالي لسماعاته على شيوخه

لقطة العجلان، لعبد الباقي اليمني

ذيل تاريخ الإسلام (تشستربتي) للذهبي

ذيل تاريخ الإسلام (ليدن) للذهبي

أسماء مؤلفات شيخ الإسلام، لابن رشيق

مسالك الأبصار، لابن فضل الله

الإيصال، لمغلطاي

أعيان العصر، للصفدي

عيون التواريخ، لابن شاكر

نثر الجمان، للفيومي

نزهة العيون، للأفضل الرسولي

درة الأسلاك، لابن حبيب

العقد الفاخر الحسن، للخزرجي

التبيان [ميكروفلم بجامعة أم القرى] التبيان لبديعة الزمان، لابن ناصر الدين [عارف حكمت]

مختصر طبقات الحنابلة، لابن نصر الله الحنبلي

عِقد الجمان، للعيني

دستور الأعلام، لابن عَزَم

قِلادة النحر, لبامخرمة الدر المكنون, لياسين الموصلي

الجامع لِسِيرَة شيخِ الإسْلَامِ ابْن تَيْمِيَّةَ خلال سَبعَة قرون جمَعَه ووضع فهارسَه محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران إشراف وتقديم بكر بن عبد الله أبو زيد

1 - التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار

التَّذْكِرةُ والاعْتِبَارُ والانْتِصَارُ للأبْرَارِ (¬1) للعلاّمة/ أَحمد بن إِبراهيم الواسطيّ المعروف بابن شيخ الحَزَّامين بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمدُ لله وسبحان الله وبحمده، تقدَّس في عُلُوِّه وجلاله، وتعالى في صفات كماله، وتعاظم في سُبُحات فردانيَّتِهِ وجماله، وتكرّم في إفضاله وجمال نَواله، جَلَّ أن يُمثَّل بشيء من مخلوقاته، أو يُحاط به، بل هو المحيطُ بمبتدعاته، لا تَصَوَّرُهُ الأوهام، ولا تُقلُّه الأجرامُ، ولا يَعقل كُنْهَ ذاته البصائر ولا الأفهام. الحمدُ لله مؤيِّد الحقِّ وناصره، ودافعِ الباطل وكاسره، ومُعزِّ الطائع وجابره، ومُذلِّ الباغي ودائره، الذي سَعِد بِحَظْوَةِ الاقتراب من قُدُسه مَن قام بأَعباء الاتباع في بُنيانه وأُسِّه، وفاز بمحبوبيتِهِ في ميادين أُنسه مَنْ بذل ما يهواه في طلبه من قلبه وحسِّه، وتثَبَّت في مَهامِهِ الشكوك منتظراً زوال لَبْسِهِ، سبحانه وبحمده له المَثَلُ الأعلى، والنورُ الأتمُّ الأجلى، والبرهان الظاهر في الشريعة المُثلى. وأَشهد أَنْ لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، الذي شهدت لوحدانيته ¬

_ (¬1) ساقه ابن عبد الهادي بتمامه في "العقود الدُّرية": (ص/ 291 - 321) وطبع مستقلًّا مرَّات.

الفِطَرُ، وأَسلم لربوبيته ذوو العقل والنظر، وظهرت أَحكامه في الآي والسور، وتمَّ اقتداره في تنزُّل القَدَر. وأَشهد أَن محمداً صلى الله عليه وسلم عبدُه ورسولُه، الذي شهدت بنبوته الهواتفُ والأحْبار، فكان قبل ظهوره يُنْتَظر، وتلاحقت عند مبعثه معجزاته من حنين الجِذع وانقياد الشجر، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الخشية والحذر، والعلم المُنَوَّر، فهم قدوة التابع للأثر. وبعد: فهذه رسالة سَطَرَها العبد الضعيف الراجي رحمة ربه وغفرانه، وكرمه وامتنانه: أَحمدُ بن إبراهيمَ الواسِطي، عامله الله بما هو أَهله، فإِنه أَهل التقوى وأهلُ المغفرة. إِلى إِخوانه في الله السَّادة العلماء، والأئمة الأتقياء، ذوي العلم النافع، والقلب الخاشع، والنور الساطع، الذين كساهم الله كسوَة الاتباع، وأَرجو مِنْ كرمه أن يحققهم بحقائق الانتفاع: السيد الأَجَلِّ العالم، الفاضل فخر المُحدِّثين، ومصباح المتعبدين، المتوجه إِلى رب العالمين، تقي الدين أَبي حَفْص عمر بن عبد الله بن عبد الأحد بن شُقَيْر. والشيخ الأَجَلِّ، العالم الفاضل السالك الناسك ذي العلم والعَمَل، المُكتسي من الصفات الحميدة أَجمل الحُلَل، الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الأحد الآمِدي. والسيد الأخ، العالم الفاضل، السالك الناسكِ، التقيِّ الصالح، الذي سيما نورِ قلبه لائحٌ على صفحات وجهه، شرف الدين محمد ابن المُنَجَّى.

والسَّيد الأخ، الفقيه العالم النبيل، الفاضل فخر المُحَصِّلينَ، زين الدين، عبد الرحمن بن محمود بن عُبيْدان البَعْلَبَكِّي. والسيد الأخ العالم الفاضل، السالك الناسك، ذي اللُّبِّ الراجح والعمل الصالح، والسكينة الوافرة، والفضيلة الغامرة، نور الدين محمد ابن محمد بن محمد بن الصَّائِغ. وأخيه السيد الأخ، العالم التقي الصالح، الخيِّر الدَّيِّن، العالم الثقة، الأمين الراجح، ذي السَّمْت الحسن، والدين المتين في اتباع السُّننِ، فخر الدين محمد. والأخ العزيز الصالح، الطالب لطريق ربه، والراغب في مرضاته وحُبه، العالم الفاضل، الولد شرف الدين محمد بن سعد الدين سعد الله ابن بُخَيْخٍ (¬1). وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإِمام، الأمَّة الهُمام، مُحيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مُفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق، وموصلها بالأُصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يَقْضي بالحق ظاهراً، وقلبُه في العلى قاطن، أُنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرُهم، ونسيتِ الأمةُ حذْوَهم وسُبُلَهُم، فذكرهم بها الشيخُ، فكان في دارسِ نهجهم سالكاً، ولِموضات حذوهم مُحييًا، وَلأعِنَّةِ قواعدهم مالكاً: الشيخ الإمام تقي الدين أَبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ¬

_ (¬1) بموحّدة، ثم خاء معجمة، ثم ياء مثناة من تحت، آخره خاء معجمة. ضبطه ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه" (1/ 369).

ابن تَيْمِيَّةَ، أَعاد الله علينا بركته، ورفع إِلى مدارج العلى درجته، وأَدام توفيق السَّادة المبدوءِ بذكرهم وتسديدهم، وأَجزل لهم حظَّهم، ومزيدَهم. السلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته، جَعَلَنا الله وإِياكم ممن ثبت على قَرْع نوائب الحق جأشُه، واحتسب لله ما بذله من نفسه في إقامة دينه، وما احْتَوَشَتْهُ من ذلك وحاشَه، واحتذى حذو السُّبَّق الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين تأخذهم في الله لومةُ لائم، فما ضَرَّهم مَنْ خذلهم ولا مَن خالفَهم، مَعَ قِلَّةِ عددهم في أَوَّل الأمر، فكانوا - مع ذلك - كلٌّ منهم مجاهد بدين الله قائم، ونرجو من كرم الله تعالى أنْ يُوفِّقَنا لأعمالهم، ويرزق قلوبنا قِسطًا من أَحوالهم، ويَنْظِمَنا في سِلكهم، تحت سَجْفِهِم ولوائهم، مع قائدهم وإمامهم سيد المرسلين، وإمام المتقين، محمدٍ صلوات الله عليه وعلى آله وأَصحابه أَجمعين. أُذّكِّرُكُم - رَحمكُم الله - بِما أنتم به عالمون، عملاً بقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وأَبدأُ مِن ذلك بأَن أُوصي نفسي وإِياكم بتقوى الله، وهي وصية الله تعالى إِلينا وإِلى الأمم مِن قَبْلنا، كما بَيَّنَ سبحانه وتعالى قائلاً وموصيًا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]. وقد علمتم تفاصيل التقوى على الجوارح والقلوب، بحَسَبِ الأوقاتِ والأحوال: من الأقوال، والأعمال، والإرادات، والنِّيَّاتِ.

وينبغي لنا جميعاً أن لا نقنعَ من الأعمال بصوَرِها حتى نطالبَ قلوبَنا بين يدي الله تعالى بحقائقها؛ ومع ذلك قلتكن لنا همة عُلْوِيَّةٌ، تترامى إِلى أوطان القُرْبِ، ونفحات المحبوبية والحُبِّ، فالسعيدُ من حَظِيَ مِن ذلك بنصيب، وكان مولاه منه على سائر الأحوال قريباً بخصوص التقريب، فيكتسي العبدُ من ذلك ثمرةَ الخشية والتعظيم، للعزيز العظيم، فالحبُّ والخشية ثابتان في الكتاب العزيز والسنة المأثورة، قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وفي الحديث «أَسألك حبَّك وحبَّ من احبك وحبَّ عمل يُقَرِّبني إِلى حبك» وفي الحديث: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتُم كثيراً، ولخرجتم إِلى الصُّعُداتِ تجأرون إِلى الله». ومعلومٌ أن الناس يتفاوتون في مقامات الحب والخشية، في مقام أعلى من مقام، ونصيبٍ أرفعَ مِن نصيب، فلتكن همةٌ أحدِنا من مقامات الحب والخشية أعلاه، ولا يقنع إلا بِذرْوَتِهِ وذُراه، فالهمم القصيرةُ تقنع بأيسر نصيب، والهِمَمُ العَليَّةُ تعلو مع الأنفاس إِلى قريب الحبيب، لا يَشْغَلنا عن ذلك ما هو دونه من الفضائل، والعاقلُ لا يقنع بأمر مفضول عن حال فاضل، ولتكن الهمةُ مُنقسمةً على نَيْل المراتب الظاهرة، وتحصيل المقامات الباطنة، فليس من الإِنصاف الانصبَابُ إِلى الظواهر والتشاغل عن المطالِب العُلْوِيَّة ذوات الأنوار البواهر. وليكن لنا جميعًا بين الليل والنهار ساعة، نخلو فيها بربِّنا جل اسمه وتعالى قُدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة هُمومَنا، وَنَطَّرِحُ أشغالَ الدنيا من قلوبنا، فنهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإِنسانُ حالَه مَعَ رَبِّهِ، فَمَنْ كان له مع رَبِّهِ حالٌ، تَحَرَّكتْ في تلك

الساعة عزائمُه، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائرُه، وطارت إِلى العلى زَفَراتُه وكوامِنُهُ، وتلك الساعة أُنموذجٌ لحالة العبد في قبره، حين خُلُوِّه عن ماله وحِبِّه، فمن لم يُخْلِ قلبَه لله ساعةً من نهار، لما احْتوشَه من الهموم الدنيويةِ وذوات الآصار، فليعلم أنه ليس له ثَمَّ رابطةٌ علوية، ولا نصيبٌ من المحبة ولا المحبوبية، فليبكِ على نفسه، ولا يرضى منها إِلا بنصيب من قُرب ربه وأُنْسهِ. فإذا حَصَلَتْ لله تلك الساعةُ، أمكن إيقاعُ الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشوع، والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع. فلا ينبغي لنا أن نَبْخَل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعةً بساعة واحِدَة لله الواحد القهار، نعبدُه فيها حَقَّ عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الفرائض على ذلك النهج في رعايته، وذلك طريقٌ لنا جميعًا إن شاء الله تعالى إِلى النفوذ، فالفقيه إذا لم ينفُذْ في علمه حَصَلَ له الشَّطْرُ الظاهر، وَفَاتَهُ الشَّطْرُ الباطن، لاتِّصاف قلبه بالجمود، وبُعْدِهِ في العبادة والتلاوة عن لين القلوب والجلود، كما قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] وبذلك يرتقي الفقيهُ عن فقهاءِ عصرنا، ويتميَّزُ به عنهم، فالنافذ من الفقهاء له البصيرة المُنوَّرة، والذَّوق الصحيح، والفراسة الصادقة، والمعرفة التامة، والشهادة على غيره بصحيح الأعمال وسقيمها، وَمَنْ لم يَنْفُذْ لم تكن له هذه الخصوصية، وأَبْصَرَ بعضَ الأشياء وغاب عنه بعضها. فيتعينُ علينا جميعًا طلبُ النفوذ إِلى حضرة قُربِ المعبود، ولقائه

بذوق الإِيقان، لنعبدَه كأنَّنا نراه، كما جاء في الحديث. وبَعد ذلك: الحَظْوَةُ في هذه الدار بلقاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبًا في غيب، وسِرًّا في سِرٍّ، بالعُكُوف على معرفة أيامه وسننه واتِّباعها، فتبقى البصيرةُ شاخصةً إليه، تراه عيانًا في الغيب، كأنها معه صلى الله عليه وسلم، وفي أيامه، فيجاهدُ على دينه، ويبذل ما استطاع من نفسه في نُصْرتِه. وكذلك مَنْ سَلَك في طريق النفوذ يُرجَى له أَنْ يلقىَ ربّه بقلبه غيبًا في غيب، وسرًّا في سرٍّ، فَيُرْزَقُ القلبُ قسطًا من المحبة والخشْيةِ والتعظيم اليقيني، فيرى الحقائقَ بقلبه من وراء سترٍ رقيق، وذلك هو المُعَبَّرُ عنه بالنفوذ، ويصل إِلى قلبه من وراء ذلك الستر ما يغمُرُه من أنوار العَظَمة والجلال، والبهاء والكمال، فيتنوَّر العلمُ الذي اكتسبه العبد، ويبقى له كيفيةٌ أخرى زائدةٌ عَلَى الكيفية المعهودة من البهجة والأُنس والقوة في الإِعلان والإِسرار. فلا ينبغي لنا أن نتشاغلَ عن نَيْلِ هذه الموهبة السَّنِيَّةِ، بشواغل الدنيا وهُمومها، فنَنْقَطِعَ بذلك - كما تقدم - بالشيء المفضول عن الأمر المهم الفاضل، فإذا سَلَكْنا في ذلك برهة من الزمان، ورزقَنا الله تعالى نفوذاً، وتمكُّنًا في ذلك النُّفوذِ فلا تعودُ هذه العوارضُ الجزيئاتُ الكونياتُ تُؤثِّر فينا إِنْ شاء الله تعالى، وليكن شأنُ أحدنا اليوم: التعديلَ بين المصالح الدنيوية والفضائل العلمية، والتوجُّهات القلبية، ولا يقنع أحدُنا بأَحد هذه الثلاثة عن الآخَرِيْنِ، فيفوتَه المطلوبُ، ومتى اجتهد في التعديل فإنه - إن شاء الله تعالى - بِقَدْرِ ما يحصل للعبد جزءٌ من أحدهم، حصَّل جزءًا من الآخر، ثم بالصبر عَلَى ذلك تجتمعُ الأجزاء المُحصَّلة، فتصير مرتبة عالية عند النهائية - إن شاء الله تعالى -.

هذا، وإن كنتم - أيدكم الله تعالى - بذلك عالمين، لكنَّ الذكرى تنفع المؤمنين. فصل واعلموا - أيدكم الله - أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر، حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود، لكنْ مَنْ لم يسافر إلى الأقطار، ولم يتعرف أحوال الناس، لا يدري قَدْرَ ما هو فيه من العافية، فأنتم - إن شاء الله تعالى - في حقِّ هذه الأمة الأولى كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وكما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 41]. أصبحتم إخواني تحت سَنْجق (¬1) رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى - مع شيخكم وإمامكم، وشيخِنا وإمامنا المبدوءِ بذكره رضي الله عنه، قد تميزتم عن جميع أهل الأرض: فقهائها وفقرائها، وصوفيتها، وعوامِّها، بالدين الصحيح. وقد عرفتم ما أحدث الناسُ من الأحداث، في الفقهاء والفقراء والصوفية والعوامِ، فأنتم اليوم في مقابلة الجَهْمِيَّةِ من الفقهاء، نصرتم الله ورسولَه في حفظ الله ما أَضاعوه من دين الله، تُصلحون ما أَفسدوه من تعطيل صفات الله. ¬

_ (¬1) أي: تحت رايته.

وأَنتم أَيضًا في مقابلة مَن لم يَنْفُذْ في علمه من الفقهاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمد على مجرد تقليد الأئمة فإنكم قد نصرتم الله ورسولهَ في تنفيذ العلم إِلى أصوله من الكتاب والسنة، واتخاذ أقوال الأئمة، تأَسِّيًا بهم لا تقليدًا لهم. وأَنتم أَيضًا في مقابلة ما أحدَثَتْه أَنواع الفقراء من الأَحمدية والحريرية من إِظهار شغار المُكاء والتَصْدِية ومؤاخاة النساء والصبيان، والإِعراض عن دين الله إِلى خرافات مكذوبة عن مشايخهم، واستنادهم إِلى شيوخهم وتقليدهم في صائب حركاتهم وخطئها، وإعراضهم عن دين الله الذي أَنزله من السماء، فأنتم بحمد الله تُجاهدون هذا الصِّنْفَ أيضًا كما تجاهدونَ مَنْ سبق، حفظتم من دين الله ما أضاعوه، وعرفتم ما جهلوه، تُقَوِّمون من الدين ما عَوَّجوه، وتُصلحون منه ما أَفسدوه، وأنتم أيضًا في مقابلة رَسْمِيَّة الصوفية والفقهاء، وما أحدثوه من الرسوم الوضعية، والآصار الابتداعية، من التصنُّع باللباس، والإطراق والسجادة لنيل الرزق من المعلوم، ولُبْسِ البقيار، والأكمام الواسعة في حَضْرةِ الدرس، وتنميق الكلام، والعَدْو بين يدي المدرس راكعين، حِفْظًا للمناصب، واستجلابًا للرزق والإدْرار!! فخلط هؤلاء في عبادة الله غيرَه، وتألَّهوا سواه، ففسدت قلوبُهم من حيثُ لا يشعرون، يجتمعون لغير الله، بل للمعلوم (¬1)، ويلبسون للمعلوم، وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاةَ المعلوم، فضيَّعوا كثيرًا من دين الله وأَماتوه، وحفظتم أنتم ما ضيَّعوه، وقوَّمتم ما عوَّجوه. ¬

_ (¬1) أي: لما يأخذونه من زهيد المال.

وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته الزنادقةُ من الفقرا والصوفية من قولهم بالحلول والاتحاد، وتأله المخلوقات. كاليونُسية، والعَرَبية، والصَّدْرية، والسَّبْعينية، والتِّلِمْسَانية. فكلُّ هؤلاء بَدَّلوا دينَ الله تعالى وَقَلبوه، وأعرضوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاليونُسية: يتألهون شيخَهم، ويجعلونه مظهرًا للحق، ويستهينون بالعبادات، ويظهرون بالفَرْعَنة والصَّوْلةِ، والسفاهة والمُحالات، لِمَا وَقَرَ في بواطنهم من الخيالات الفاسدة، وقِبْلَتُهُمُ الشيخُ يونُس. ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم والقرآن المجيد عنهم بمعزِلٍ، يُؤمنون به بألسنتهم، ويكفرون به بأفعالهم. وكذلك الاتحاديةُ، يجعلون الوجودَ مَظْهَرًا للحق، باعتبار أن لا مُتحرِّك في الكون سواه، ولا ناطق في الأشخاص غيرُه، وفيهم مَنْ لا يفرق بين الظاهر والمظهر، فيجعلُ الأمرَ كموجِ البحر، فلا يُفرّقُ بين عين الموجة وبين عين البحر، حتى إن أحدهم يتوهَّم أنه الله، فينطق على لسانه، ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي لأنه يعتقد ارتفاعَ الثَّنوية، فمَنِ العابد ومَنِ المعبود؟ صار الكلُّ واحدًا!! اجتمعنا بهذا الصنف في الرُّبُط والزوايا!!. فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضًا تنصرون الله ورسوله، وتذبُّون عن دينه، وتعملون عَلَى إصلاح ما أفسدوا وعَلَى تقويم ما عَوَّجوا فإن هؤلاء مَحَوْا رَسْمَ الدين، وقَلعوا أثره، فلا يُقال: أَفسدوا ولا عَوَّجوا بل بالغوا في هدم الدين ومَحْوِ أَثَرِهِ، ولا قُربةَ أفضلُ عند الله

من القيام بجهاد هؤلاء بِمهما أمكن، وتبيين مذاهبهم للخاص والعام، وكذلك جهاد كل من ألحد في دين الله وزاغ عن حدوده وشريعته، كائنًا في ذلك ما كان من فتنة وقول، كما قيل: إذا رَضِيَ الحبيبُ فلا أُبالي ... أقام الحيُّ أَم جَدَّ الرَّحيل وبالله المستعان وكذلك أنتم بحمد الله قائمون بجهاد الأمراء والأجناد، تصلحون ما أفسدوا من المظالم والإِجحافات، وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله بما أمكن، وذلك لبعد العهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن اليوم له سبع مئة سنة، فأنتم بحمد الله تجددون ما دَثَرَ من ذلك ودُثر. وكذلك أنتم بحمد [الله] قائمون في وجوه العامة، مما أحدثوا من تعظيم الميلاد، والقَلَنْدس، وخميس البيض، والشَّعانين (¬1)، وتقبيل القبور والأحْجار، والتوسل عندها. ومعلوم أن ذلك كلِّه من شعائر النصارى والجاهلية، وإنما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُوَحَّد الله ويعُبَدَ وحدَه، ولا يُؤَلَّهَ معه شيءٌ من مخلوقاته، بعثه الله تعالى ناسخًا لجميع الشرائع والأديان والأعياد، فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أَفسد الناسُ من ذلك. وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدعَ من مارقي الفقهاء، أهل الكيد والضِّرار لأولياء الله، أهل المقاصد الفاسدة، والقلوب التي هي عن نصر الحق حائِدةٌ. ¬

_ (¬1) أسماء لأعيادٍ بدعيَّة.

وإنما أَعرض هذا الضعيفُ عن ذكر قيامكم في وجوه التتر والنصارى، واليهود، والرافضة، والمعتزلة، والقَدَرية، وأصناف أهل البدع والضلالات، لأن الناس متفقون على ذمِّهم، يعمون أنهم قائمون برد بدعتهم، ولا يقومون بتوفية حقِّ الردِّ عليهم كما تقومون، بل يعلمون ويجبنُونَ عن اللقاء فلا يجاهدون، وتأخذهم في الله اللائمة، لحفظ مناصبهم، وإبقاءً على أغراضهم. سافرنا البلاد فلم نر من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء - حق القيام - سواكم، فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء إِن شاء الله، بقيامكم بنصرة شيخكم وشيخنا - أيده الله - حق القيام، بخلاف مَن ادَّعى من الناس أنهم يقومونَ بذلك. فصبرَا يا إخواني على ما أقامكم الله فيه، من نصرة دينه وتقويم اعوجاجه وخُذلان أَعدائه، واستعينوا بالله، ولا تأخُذْكم فيه لومةُ لائم، وإنما هي أيامٌ قلائل، والدين منصورٌ، قد تولّى الله إقامَته ونصرَه، ونُصرةَ مَنْ قَامَ به من أوليائه، إن شاء الله ظاهرًا وباطنًا. وابذُلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأموال، والأفعال، والأقوال، عسى أن تُلحَقوا بذلك بِسَلَفِكُمْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد عرفتم ما لَقُوْا في ذات الله، كما قالَ خُبَيْبٌ حين صُلب على الجِذع. وذلك في ذات الإِله وإن يشأ يُبارِكْ على أوصال شِلْوٍ مُمَزَّعِ وقد عرفتم ما لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن الضُّرِّ والفاقة في شِعْبِ بني هاشم، وما لقي الأولون من التعذيب والهجرة إِلى الحبشة، وما لقي المهاجرونَ والأنصارُ في أُحُد، وفي بئر مَعُونة، وفي قتال أهل الرِّدَّة،

وفي جهاد الشام والعراق، وغير ذلك. وانظروا كيف بذلوا نفوسَهم وأموالَهم لله، حُبًّا له، وشوقًا إليه، فكذلك أنتم، رحمكم الله، كلٌّ منكم على قدر إمكانه واستطاعته، بفعله، وبقوله، وبخطه، وبقلبه، وبدعائه. كلُّ ذلك جهادٌ. أرجو أن لا يخيبَ مَنْ عامل الله بشيءٍ من ذلك، إذ لا عيشَ إلا في ذلك، ولو لم يكن فيه إلا هِمَمُكم، مزاحِمةً لأهل الزيغ، مُشوِّشة لهم، تبغضونهم في الله، وتطلبون استقامتهم في دين الله، وذلك من الجهاد الباطن إن شاء الله تعالى. فصل ثم اعرفوا إخواني حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك، واعرفوا طريقَكم إِلى ذلك، واشكروا الله تعالى عليها، وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب، وكشف به عن البصائر عمى الشبهاتِ وحيرةَ الضلالاتِ، حيثُ تاه العقلُ بين هذه الفرق، ولم يهتد إِلى حقيقة دين الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن العَجَب أن كلاًّ منهم يدّعي أنه على دين رسول الله، حتى كَشَفَ الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده. واعلموا أنَّ في آفاق الدنيا أقوامًا يعيشون أعمارَهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدعَ حقيقةُ الإِسلام، فلا يعرفون الإِسلام إلا هكذا. فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبع مئة مِنَ الهجرة مضنْ بيَّن لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إِلى نهج شريعته، وبيَّن لكم

بهذا النُّور المحمدي ضلالات العبّاد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم. وأَرجو أَن تكونوا أَنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وهم بالشام إن شاء الله تعالى. فصلٌ ثم إذا علمتم ذلك، فاعرِفوا حقَّ هذا الرجل الذي هو بين أظهُركم وقدرَه، ولا يعرف حقَّه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره، فمن وقع دينُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قلبه بموقع يستحقُّه، عرفَ حقَّ ما قام به هذا الرجلُ بين أظهر عباد الله، يُقوِّم معوجَّهم، ويصلحُ فسادَهم، ويَلُمُّ شَعَثهم، جهد إمكانه، في الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدينُ، وجُهلت السُننُ، وعُهدت البدع، وصار المعروفُ منكَرًا، والمنكر معروفًا، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإنّ أَجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخَطَرُه لا يُعرف، هذا إِذا عرفتموه أَنتم من حيثية الأَمر الشَّرعي الظاهر، فهنا قوم عرفوه من حيثية أخرى من الأمر الباطن، ومن يقوده إِلى معرفة أسماء الله تعالى وصفاته، وعظمة ذاته، واتصال قلبه بأشعة أنوارها، والاحتظاء من خصائصها وأعلى أذواقها، ونفوذه من الظاهر إِلى الباطن، ومن الشهادة إِلى الغيب، ومن الغيب إِلى الشهادة، ومن عالم الخلق إِلى عالم الأمر، وغير ذلك مما لا يمكن شرحُه في كتاب. فشيخُكم - أَيدكم الله تعالى - عارفٌ بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية، ومثلُ هذا العارفِ قد يُبْصر ببصيرته تنزُّلَ الأمر بين طبقات السماء

والأرض. كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. فالناس يُحِسُّون بما يجري في عالم الشهادة، وهؤلاء بصائرهم شاخصة إِلى الغيب، ينتظرون ما تجري به الأقدارُ، يشعرون بها أحيانًا عند تنزلها. فلا تُهوِّنوا أمر مثل هؤلاء في انبساطهم مع الخلق؛ واشتغال أوقاتهم بهم، فإنهم كما حُكي عن الجُنَيد - رحمه الله - أَنه قيل له: «كم تنادي على الله تعالى بين الخلق؟ فقال: أنا أنادي على الخلق بين يدي الله»؟. فاللهَ اللهَ في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حُرُماته في الغيب والشهادة، وحبِّ مَنْ أحبَّه، ومجانبة من أبغضه وتنقّصه، وردّ غِيبته، والانتصار له في الحق. واعلموا رحمكم الله، أن هنا مَنْ سافر إِلى الأقاليم، وعرف الناس وأذواقَهم وأشرف على غالب أحوالهم، فواللهِ، ثم واللهِ، لم يُرَ تحت أديم السماء مثلُ شيخكم: علمًا وعملاً، وحالاً، وخُلُقًا، واتِّباعًا، وكرمًا وحِلْمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدقُ الناس عَقْدًا، وأصَحُّهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامِه همَّةً، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم اتباعًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلى النبوةُ المحمديةُ وسنتُها من

أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة. وبعد ذلك كلِّه فقولُ الحقِّ فريضةٌ، فلا نَدَّعي فيه العصمة عن الخطأ، ولا ندَّعي إكماله لغاياتِ الخصائص المطلوبة، فقد يكونُ في بعض الناقصين خصوصيةٌ مقصودةٌ مطلوبةٌ، لا يتمُّ الكمال إلا بهاتِيكَ الخصوصيةِ، وهذا القَدْرُ لا يجهله منصفٌ عارف، ولولا أن قول الحق فريضة، والتعصبَ للإِنسان هوىً، لأعرضت عن ذكر هذا - لكن يجبُ قولُ الحق إن ساءَ أو سَرَّ - والله المستعان. إذا علمتم ذلك - أيدكم الله تعالى - فاحفظوا قلبه، فإن مثل هذا قد يُدْعَى عظيمًا في ملكوت السماء، واعملوا على رضاه بكل ممكن واستجلبوا وُدَّهُ لكم، وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه، فإن مثل هذا يكون شهيدًا، والشهداءُ في العصر تَبَعٌ لمثله، فإنْ حصلت لكم محبته رجوت لكم بذلك خصوصيةً أكتمها ولا أذكرها، وربما يَفْطَنُ لها الأذكياءُ منكم، وربما سمحت نفسي بذكرها، كيلا أكتم عنكم نصْحي. وتلك الخصوصية: هي أن تُرْزَقوا قسطًا من نصيبه الخاص المحمدي مع الله تعالى، فإن ذلك إِنما يسري بواسطة محبة الشيخ للمريد، واستجلاب المريد محبةَ الشيخ بتأتِّيه معه، وحفظ قلبه وخاطره، واستجلاب وُدِّه ومحبته، فأرجو بذلك لكم قسطًا مما بينه وبين الله تعالى، فضلاً عما تكسبونه من ظاهر علمه وفوائده وسياسته، إن شاءَ الله تعالى. وأرجو أنكم إذا فتحتم بينكم وبين ربكم تعالى بصحيح المعاملة بحفظ تلك الساعة في الصلوات الخمس والتهجُّد أن ينفتح لكم معرفة

حقيقة هذا الرجل ونبئِهِ إن شاء الله تعالى. وإنما ذكرت حفظ الساعة - وإِن كان في الصلوات الخمس كفايةٌ إذا قام العبد فيها لحقِّ الله تعالى - وذلك لأن الصلوات قد تهجُمُ على العبد وقلبُه مأخوذٌ في جواذب الظاهر، فلا يعرفُ نصيبَ قَلْبِهِ من ربه فيها، فإذا كان للعبد ساعةٌ بين الليل والنهار عَرَفَ فيها نصيبَ قلبه من ربه، فإذا جاءت الصلواتُ، عرف فيها حاله وزيادته ونقصانه باعتبار حالته مع ربه في تلك الساعة، وبالله المستعان. فصلٌ وإذا عرفتم قَدْرَ دين الله تعالى الذي أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفتم قدر حقائق الدين الذي يُعَبَّر عنه بالنفوذ إِلى الله تعالى، والحظوة بقربه، ثم عرفتم اجتماعَ الأمرين في شخص مُعيَّن، ثم عرفتم انحرافَ الأمة عن الصراط المستقيم، وقيامَ الرجل المُعيَّن الجامعِ للظاهر والباطن في وجوه المنحرفين، ينصر اللهَ تعالى ودينه، ويقوِّم مُعوجهم يلثمُّ شعثهم، ويصلح فاسدهم، ثم سمعتم بعد ذلك طعنَ طاعن عليه من أصحابه أو من غيرهم، فإنه لا يخفى عنكم مُحِقٌّ هو، أو مبطل؟ إن شاء الله. وبرهان ذلك: أن المُحقَّ طَالبَ الهدى والحق يَعرِض عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره، إما بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطف عن ذلك النقص الذي رآه فيه، أو بلغه عنه، فإن وجد هناك اجتهادًا، أو رأيًا أو حجة، قنع بذلك، وأمسك، ولم يُفْشِ ذلك إِلى غيره، إلا مع إقامةِ ما بَيَّنَه من الاجتهاد، أو الرأي، أو الحجة، ليَسُد الخَلَل بذلك. مثل هذا يكون طالب هدى، محبًّا، ناصحًا، يطلب الحق، ويروم

تقويم أستاذه عن انحرافه بتعريفه وتفويضه، كما يروم أستاذُه تقويمَه، كما قال بعضُ الخلفاء الراشدين (¬1) - ولا يحضرني اسمه -: «إذا اعوجَجْتُ فقوِّموني». فهذا حقٌّ واجبٌ بين الأستاذ والطالب، فإن الأستاذ يطلب إقامة الحق على نفسه ليقوم به، ويتَّهمُ نفسه أحيانًا، ويتعرّف أحواله من غيره، مما عنده من النَّصَفَةِ وطلب الحق، والحذر من الباطل، كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم، وإصلاح الفاسد من الأعمال والأقوال ومِنْ براهينِ المُحِقِّ: أن يكون عدلاً في مدحه، عدلاً في ذمِّه، لا يحمله الهوى - عند وجود المُراد - على الإِفراط في المدح، ولا يحمله الهوى - عند تعذُّر المقصود - على نسيان الفضائل والمناقب، وتعديد المساوئ والمثالب. فالمُحِقُّ في حالَتَيْ غضبهِ ورضاهُ ثابتٌ على مدح مَنْ مدحه وأثنى عليه؛ ثابت على ذم من ثلبه وحطّ عليه. وأما مَنْ عَمِلَ كُرَّاسةً في عَدِّ مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف، في هذا الزمان المظلم، ثم ذكر مع ذلك شيئًا من فضائله، ويعلم أنه ليس المقصودُ ذكرَ الفضائل، بل المقصودُ تلك المثالب، ثم أخذ الكُرَّاسةَ يقرؤها على أصحابه واحدًا واحدًا في خَلْوة، يوقف بذلك هَمَّهُمْ عن شيخهم، ويُريهم قدحًا فيه، فإني أستخير الله تعالى وأجتهد رأييَ في مثل هذا الرجل، وأقول انتصارًا لمن ينصرُ دينَ الله، بين أعداءِ الله في رأس السبع مئة، فإن نصرة مثل ¬

_ (¬1) جاء نحوه عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-.

هذا الرجل واجبة على كل مؤمن، كما قال وَرَقَةَ بن نوفل: «لئن أَدْرَكَني يومُك لأنصُرنَّك نصرًا مُؤَزّرًا» (¬1). ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تَعَدِّي الحدود والإِخلاد إِلى الهوى. أَقولُ: مثل هذا - ولا أُعَيِّن الشخصَ المذكور بعينه - لا يخلو من أمور: أحدها: أن يكون ذا سنٍّ تغيَّر رأيه لِسنِّه؛ لا بمعنى أنه اضطرب بل بمعنى أن السنَّ إذا كَبِرَ يجتهد صاحبه للحق، ثم يضعُه في غير مواضعه، مثلاً يجتهد أن إنكارَ المنكرِ واجبٌ، وهذا منكر، وصاحبه قد راج على الناس، فيجب عَلَيَّ تعريفُ الناس ما راج عليهم، وتَغِيبُ عليه المفاسد في ذلك. فمنها: تخذيلُ الطَّلَبة، وهم مضطرون إِلى محبة شيخهم، ليأخذوا عنه، فمتى تغيرت قلوبُهم عليه وَرَأَؤا فيه نقصًا حُرموا فوائدَه الظاهرةَ والباطنة: وخِيفَ عليهم المقتُ من الله أولاً، ثم من الشيخ ثانيًا. المفسدة الثانية: إذا شعر أهلُ البِدَع الذين نحن وشيخُنا قائمون الليلَ والنهارَ بالجهاد والتوجُّه في وجوههم لنصرة الحق: أنَّ في أصحابنا مَنْ ثلب رئيس القوم بمثل هذا، فإنهم يتطرَّقون بذلك إِلى الاشتفاء مِنْ أهل الحق ويجعلونه حُجَّة لهم. المفسدة الثالثة: تعديل المثالب في مقابلة ما يستغرقها وما يزيد عليها بأضعاف كثيرة من المناقب، فإن ذلك ظلم وجهل. والأمر الثاني من الأمور الموجبة لذلك: تغير حاله وقلبه، وفساد ¬

_ (¬1) رواه البخاري في أول صحيحه.

سلوكه بحسد كان كامِنًا فيه، وكان يكتمه بُرهة من الزمان، فظهر ذلك الكمين في قالبِ، صورته حق ومعناه باطل. فصلٌ وفي الجملة - أيَّدكم الله - إذا رأيتم طاعنًا على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولاً، ثم في فهمه، ثم في صدقه، ثم في سِنِّه، فإذا وجدتم الاضطرابَ في عقله، دَلَّكم على جهله بصاحبكم، وما يقول فيه وعنه، ومثله قلَّة الفهم، ومثله عدم الصدق، أو قصوره، لأن نقصان الفهم يؤدي إِلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه، ومثله العلة في السنّ فإنه يشيخ فيه الرأيُ والعقلُ كما تشيخ فيه القُوى الظاهرة الحسِّيةُ، فاتَّهموا مثل هذا الشخص واحذروه، وأعرضوا عنه إعراض مداراةٍ بلا جدلٍ ولا خصومةٍ. وصفةُ الامتحان بصحة إدراك الشخص وعقله وفهمه: أَنْ تسألوه عن مسألة سلوكية، أو علمية، فإذا أجاب عنها فأَوْرِدوا على الجواب إشكالاً متوجِّهًا بتوجيه صحيح، فإن رأيتم الرجل يروح يمينًا وشمالاً، ويخرُج عن ذلك المعنى إِلى معانٍ خارجة، وحكايات ليست في المعنى حتى ينسى ربُّ المسألةِ سؤالَه، حيث تَوَّهَهُ عنه بكلامٍ لا فائدة فيه، فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه، ولا على مدحه، فإنه ناقصُ بالفطرة، كثيرُ الخيال، لا يثبُت على تحرِّي المدارك العلمية، ولا تُنكروا مثل إنكار هذا، فإنه اشتهر قيام ذي الخُوَيْصِرة التَّميمي إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله له: «اعدل - فإنك لم تعدِلْ - إن هذه قسمةٌ لم يُرَدْ بها وجهُ الله تعالى» (¬1) أو نحو ذلك. ¬

_ (¬1) متفقٌ عليه.

فوقوع هذا وأمثالِه من بعض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم. فإنه قال: «لتركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذوَ القُذَّة بالقُذَّة» (¬1)، وإن كان ذلك في اليهود والنصارى، لكنْ لَمَّا كانوا منحرفين عن نَهْج الصواب، فكذلك يكون في هذه الأمة من يحذو حَذوَ كل منحرف وجد في العالم، متقدّمًا كان أَو متأخّرًا، حَذو القُذَّة بالقذة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلوه. يا سبحانَ الله العظيم! أين عقولُ هؤلاء؟ أَعَمِيَت أبصارُهم وبصائرُهم؟ أفلا يرون ما الناسُ فيه من العَمَى والحيرة في الزمان المظلم المُدْلَهِمِّ، الذي قد ملكت فيه الكفارُ معظَم الدنيا؟ وقد بقيت هذه الخُطَّة الضيقة، يَشُمُّ المؤمنون فيها رائحةَ الإِسلام؟ وفي هذه الخُطَّة الضيقة من الظُّلُمات من علماء السوء والدُّعاة إِلى الباطل وإقامته، ودَحْض الحق وأهله مالا يُحْصَرُ في كتاب، ثم إِن الله تعالى قد رَحِمَ هذه الأمةَ بإِقامة رجل قويِّ الهمة، ضعيف التركيب، قد فرَّق نفسَه وهمَّهُ في مصالح العالم، وإصلاح فسادهم، والقيام بمهماتهم، وحوائجهم، ضِمْنَ ما هو قائم بصد البدع والضلالات، وتحصيل موادِّ العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم، ويردهم إِلى الدين الأول العتيق جهْد إِمكانه!! وإِلا فأين حقيقةُ الدين العتيق؟ فهو مع هذا كله قائمٌ بجملة ذلك وَحْدَه، وهو منفرد بين أهل زمانه، قليلٌ ناصرُه، كثيرٌ خاذلهُ، وحاسدُه، والشامتُ فيه!!. فمثل هذا الرجلِ في هذا الزمان، وقيامُه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه، أيقال له: لِمَ يردُّ على الأحمدية؟ لمَ لا تعدِلُ في القسمة؟ لِمَ ¬

_ (¬1) متفق عليه.

تَدخل على الأمراء؟ لِمَ تُقَرِّبُ زيدًا وعَمْرًا؟ أفلا يستحي العبدُ من الله؟ يذكر مثل هذه الجزئياتِ في مقابلة هذا العِبْء الثقيل؟ ولو حُوقِقَ الرجلُ على هذه الجزئيات وُجد عنده نصوصٌ صحيحةٌ، ومقاصدُ صحيحةٌ ونِيَّاتٌ صحيحةٌ!! تغيب عن الضعفاء العقول، بل عن الكُمَّلِ منهم، حتى يسمعوها. أما رَدُّه على الطائفة الفُلانية أيها المُفرِطُ التائهُ، الذي لا يدري ما يقول، أفيقوم دينُ محمد بن عبد الله الذي أُنزل من السماء، إلا بالطعن على هؤلاء؟ وكيف يظهر الحق إن لم يُخْذَلِ الباطل؟ لا يقولُ مثل هذا إلا تائهٌ، أو مُسنٌ أو حاسدٌ. وكذا القسمةٌ للرجل، في ذلك اجتهادٌ صحيحٌ، ونظرٌ إلى مصالح تترتب على إعطاء قوم دون قوم، كما خَصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الطُّلَقاء بمئة من الإِبل، وحَرَمَ الأنصار! حتى قال منهم أحداثُهم شيئًا في ذلك، لا ذووا أحلامهم، فيها قام ذو الخُوَيْصرة فقال ما قال!. وأما دخولُه على الأمراء، فلو لم يكن، كيف كان شمَّ الأمراءُ رائحةَ الدين العتيق الخالص؟ ولو فتَّش المفتش، لوجد هذه الكيفيةَ التي عندهم من رائحة الدين، ومعرفة المنافقين، إنما اقتبسوها من صاحبكم. وأما تقريبُ زيدٍ وع، ونفرض أنك مصيب في ذلك، إذ لا نعتقد العصمةَ إلا في الأنبياء، والخطأُ جارٍ على غيرهم، أَيُذْكَرُ مثلُ هذا الخطأ في مقابلة ما تقدم من الأمور العظام الجِسَام؟

لا يذكر مثلَ هذا في كُرَّاسة ويُعدِّدُها، ثم يدور بها على واحد واحد، كأنه يقول شيئًا، إلا رجلٌ نسأل الله العافية في عقله، وخاتمَة الخير على عمله، وأن يردَّه عن انحرافِه إِلى نهج الصواب، بحيث لا يبقى مَعْشَرُهُ يَعِيبُهُ بعلمه، وتصنيفه، من أولي العقول والأحلام. ونستغفرُ الله العظيم، من الخطأ والزلل، في القول والعمل، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن عبد الهادي بعد أن أورد هذه الرسالة، في "العقود الدُّرِّيَّة" (ص/ 321): "هذا آخر الرسالة التي سماها مؤلفها "التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار"، فرحم الله من قام بحمل الإصرار، وتصحيح التوبة بالاستغفار إلى عالم الأسرار، نفع الله من وقف عليها، وأصغى إلى ما يفتح منها ولديها. آمين".

2 - فصل: فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الأحجار

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرد به وذلك في تكسير الاحجار (¬1) لخادم شيخ الاسلام: إبراهيم بن أحمد الغياني {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]. {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وصلى الله على محمد عبده ورسوله، خير الخلق وأكرمهم على الله المصطفى المأمون، صلاة دائمة مادامت الأيام والدهور والسنون. أما بعد؛ فهذا فصل فيما قام به الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه - وتفرّد به دون غيره من العلماء - رضي الله عنهم - الذين كانوا قبله وفي زمانه، وذلك بتكسير الأحجار التي كان الناس يزورونها، ويتبركون بها، ويقبلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها الخَلُوق، ويطلبون عندها قضاء ¬

_ (¬1) من "الكواكب الدراري" المجلد 41 / ق 125 - 130 (مخطوطة الظاهرية 587). ونشره محب الدين الخطيب في القاهرة سنة 1368 بعنوان "ناحية من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية".

حاجاتهم، ويعتقدون أنَّ فيها - أوْ لها - سرًّا، وأن من تعرَّض لها بسوء - بقالٍ أو فعال - أصابته في نفسه آفة من الآفات!! فشرع الشيخ يعيب تلك الأحجار، وينهى الناس عن إتيانها، أو أن يُفعل عندها شيء مما ذُكر، أو أن يُحسَنَ بها الظن. فقال له بعض الناس: إنه قد جاء في حديث أن أم سلمة سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ بالتين والزيتون، فأخذت تينة وزيتونة وربطت عليهما وعلقتهما حِرْزًا. وبقيت كلما جاء إليها أحد به مرض تحطه عليه فيبرأ من ذلك المرض. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، فقالت: سمعتك تقرأ بالتين والزيتون، فقلتُ: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك إلا وفيه سرّ أو منفعة، فعملت تينة وزيتونة لي حرزًا، وأحسنت ظني به، ونفعت بذلك الناسَ. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «لو أحسن أحدكم ظنَّه بِحَجَرٍ لنفعه الله به» فقال الشيخ: هذا الحديث كله - من أوله إلى آخره - كذب مختلق، وإفك مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أم سلمة - رضي الله عنها -. والذي صحَّ وثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عزَّ وجل أنه قال: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني. . .» الحديث. و «أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي خيرًا». وقال: «لا يموتنَّ أحدُكم إلا ويحسن ظنَّه بالله الذي تفرَّد بخلقه، وأوجده من العدم ولم يكن شيئًا، وبيده ضرُّه ونفعه»، كما قال إمامنا وقدوتنا إبراهيم خليل الرحمن: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 78 - 82]. فهذا الرب العظيم الكبير المتعال، الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، يُحسن العبد به ظنه، ما يحسن ظنه بالأحجار، فإن

الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار. وقد قال الله تعالى في الأحجار وفيمن أحسنوا بها الظنَّ حتى عبدوها من دونه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]. وقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُسْتجمر من البول بثلاثة أحجار، ما قال أحسنوا ظنكم بها، بل قال: استجمروا بها من البول. وقد كسر النبي صلى الله عليه وسلم الأحجار التي أحسن بها الظن حتى عُبدتْ حول البيت وحرَّقها بالنار. فبلغ الشيخَ أن جميع ما ذكر من البدع يتعمدها الناس عند العمود المُخَلَّق الذي داخل (الباب الصغير) الذي عند (درب النافدانين). فشدَّ عليه وقام، واستخار الله في الخروج إلى كسره، فحدَّثني أخوه الشيخ الإمام القدوة شرف الدين عبد الله ابن تيمية قال: فخرجنا لكسره، فسمع الناسُ أن الشيخ يخرج لكسر العمود المخلّق، فاجتمع معنا خلق كثير. قال: فلما خرجنا نحوه، وشاع في البلدان: ابنُ تيمية طالعٌ ليكسر العمود المُخَلَّق، صاح الشيطانُ في البلد، وضجّت الناس بأقوال مختلفة، هذا يقول: «مابقيت عين الفيجة تطلع»، وهذا يقول: «ماينزل المطر، ولا يثمر شجر»، وهذا يقول: «ما بقي ابن تيمية يفلح بعد أن تعرَّض لهذا»، وكل من يقول شيئًا غير هذا. قال الشيخ شرف الدين: فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالب الناس، خشية أن ينالهم منه في أنفسهم آفة من الآفات، أو ينقطع بسبب كسره بعض الخيرات. قال: فتقدَّمنا إليه، وصِحنا على الحجَّارين: «دونكم هذا الصنم»

فما جَسَر أحد منهم يتقدم إليه. قال: فأخذت أنا والشيخ المعاول منهم، وضربنا فيه، وقلنا: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]. إن أصاب أحدًا منه شيء نكون نحن فداه. وتابعنا الناسُ فيه بالضرب حتّى كسرناه، فوجدنا خلفه صنمين حجارة مجسَّدة مصوَّرة، طول كل صنم نحو شبر ونصف. وقال الشيخ شرف الدين: قال الشيخ النووي: «اللهم أقم لدينك رجلاً يكسر العمود المخلّق، ويخرب القبر الذي فيه جيرون» فهذا من كرامات الشيخ محي الدين (أي النووي). فكسرناه ولله الحمد، وما أصاب الناس من ذلك إِلا الخير. والحمد لله وحده. فصل قد بلغ الشيخ أن في المسجد الذي خلف (قبة اللحم) في (العلافين) يُعْرف باسم (مسجد الكف) بلاطة سوداء، وقد شاع بين الناس أن إنسانًا من قديم الزمان رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وحدثه بأمور فقال: يا رسول الله إن حدَّثتُ الناس بالذي حدَّثتني لا يصدّقونني، فقال له: هذا كفِّي اليمينُ في هذه البلاطة دليلاً على صدقك. وحط كفه فيها، فغاص، فبقي فيها موضع كف وخمس أصابع، وانعكف الناسُ عليه - كما ذكر - بالنذر له والتبرك به، والاستسقاء. فبلغ ذلك الشيخ، فطلع إليه ومعه جماعته وأخوه الشيخ شرف الدين فسمعته غير مرة يحدِّث يقول: لما نظرت إليها قلت: هذا الكف منحوت، مصنوع، مكذوب. فإن النحّات جاء يعمله كف يمين فعمله كف شمال. فبقي معكوسًا يجيء الخِنْصر موضع الإبهام، والإبهام موضع الخنصر. فكسرها، وما بقي لها ذكر ولا أثر. ولله الحمد.

فصل وكانت صخرة كبيرة عظيمة في وسط محراب (مسجد النارنج) فيتوجه المصلي إليه ضرورة، وعليها ستر أسود مرخيّ ودَرَابزين (¬1) حولها. وقد استفاض بين الناس أنه حُطّ عليها رأس الحسين - عليه السلام - فانشقت له، وأنها متى انشقت كلها قامت القيامة. ولها في كل سنة - يومَ عاشوراء - عيدٌ يجتمع فيه الناس، ويبقون في ذلك اليوم وفي غيره من الأيام يتبرّكون بها ويقبلونها، وينذرون لها النذور، ويلطخونها بالخَلَوق، ويدعون عندها. فبلغ ذلك الشيخ؛ فطلب الحجَّارين من القلعة، وخرج إليها ومعه شرف الدين في جماعة كبيرة. فأول شيء عمله قلع الدرابزين من حولها ونتش الستر عنها ورماه. وصاح على الحجارين: «دِهّ عليه!» (¬2)، فتأخروا عنها، فتقدم هو وأخوه شرف الدين وضربها بنعله وقال: «إن أصاب أحدًا منها شيء أصابنا نحن قبله». فتقدم إليها عند ذلك الحجارون، وحفروا عليها. فإذا هي رأس عمود كبير قد حفر له ونزل في ذلك المكان، فكسروه، وحملوه على أربع عشرة بهيمة وأحرقوه كلسًا. قال الشيخ: بعض الرافضة عمل هذا في هذا المكان، ولوح بين الناس أن رأس الحسين حطوه على هذا الحجر، حتى يضل به جهال الناس. قال: والرافضة من عادتهم أنهم يخربون المساجد ويعمرون المشاهد ويعظمونها بخلاف المساجد، وقد قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]. ولم يقل: «مشاهد ¬

_ (¬1) هو الحاجز على جانبي الشيء، يقي من السقوط ونحوه. (¬2) كذا في الأصل.

الله». وقال {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]. ما قال: «وأن المشاهد لله». وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بنى لله مسجدًا ولو كَمِفْحَص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة» ما قال: من بني لله مشهدًا بني الله له بيتًا في الجنة. وتكلم وهو جالس في هذا المكان، وقال من هذا الجِنس شيئًا كثيرًا. وقال: زيارة القبور زيارة شرعية مأمور بها، وزيارة بدعية منهيّ عنها، فالزيارة الشرعية هي التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه زار قبر أمه فقال: «استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة»، فالكافر يزار قبره ليتذكر به الآخرة، ولا يُدْعَى له ولا يستغفر له، بخلاف المؤمن فإنه يزار قبره ليتذكر به الآخرة، ويدعى له، ويستغفر له، ويترحم عليه، ويسأل الله له من كلِّ خير، فإن زيارة قبره من جنس الصلاة عليه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله منا ومنكم المستقدمين والمستأخرين، ونسأل الله لنا ولكم العافية. الهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم». فهذا كله حق للمؤمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم عليّ معروضة عليَّ. قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمتَ؟ فقال: تقولون إني بليت؟ قالوا: نعم. قال: إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل لحون الأنبياء». وقد روى ابن عبد البرّ حديثًا وصححه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مامن رجل مؤمن يمرّ بقبر رجل مؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام».

وأما الزيارة البدعية؛ فهي أن تُزار القبور للتبرك بها، أو الدعاء عندها، أو الاستغاثة بأهلها، أو النذر لها - مثل زيت أو كسوة أو شمع أو دراهم - أو يشعلون عندها السَّرُج، أو يصلون عندها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جميع ذلك فقال: «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليا المساجد والسرج» وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وقال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا: قالت عائشة رضي الله عنها: «ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا». فهذه الزيارة على هذا الوجه بدعية منهيٌّ عنها. فصل وكان تحت الطاحون التي قبلي (مسجد النارنج) في الماء عند فراش الطاحون صنم حجر يُعظَّم ويستسقى به، فكان بعض الناس يكون عنده مولود صغير وقد طال به المرض، فيأتون به حتى يغطسوه عند الصنم في الماء ويشفى، ويحطون عند الصنم خبزًا وحلوى وغير ذلك. فخرج إِليه الشيخ شرف الدين أخو الشيخ تقي الدين فكسره وخلّص أولاد الناس منه. وكان عمود في حارة الفرما يقال له: (العمود المخلق) وكان حاله كما ذكر، فكسره وأراح الناس. فصل وكان مع أناس حجارين حجر رخام وقد قمّعوه بقصدير، وفي وسط الحجر أثر قدم، دائرين به في البلاد، ويدخلون به على بيوت الكبراء والسعداء في الأسواق، ويقولون لهم: هذا موضع قدم نبيكم،

فيبقى الناس يقبلونه ويتبركون به ويعطونهم الأموال لأجل ذلك، فأمسكهم الشيخ، فكسر ذلك الحجر، وتهارب أصحابه من قدام الشيخ مخافة أن يضرهم. فصل وجاء إنسان إلى الشيخ يومًا بخبزٍ يابس فقال: «يا سيدي قد جِبتُ هذا من صماط الخليل على اسمك». فقال له: «مالي به حاجة. أنا حاجتي إلى الدين الذي كان عليه الخليل، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله أمة محمد بمتابعتها. مالي حاجة بهذا الخبز، والخليل ما عمل هذا، ولا أمر بهذا العَدَس، ولا كان يطعم ويضيف غير اللحم. قال الله تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26]. وأما العَدَس فإنه شهوة اليهود، وقد سئل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه فقيل له: جاء حديث: أن العَدَس قدَّسه سبعون نبيًا (¬1)، فقال: «لا، ولا نصف نبي». فصل ولما كان الشيخ في ديار مصر كان ينهى عن إتيان المشاهد وتعظيمها، ويأمر بإتيان المساجد وتعظيمها. وأعظم المشاهد بالقاهرة مشهد الحسين فإن أمره عظيم، فإن جميع ما ذكر من البدع والضلال يقام عنده وأضعاف ذلك، حتى إذا غلَّظ أحدٌ اليمين على الحالف يحلفه عند مشهد الحسين، فكان الشيخ ينهاهم عن ذلك وينكره بجنانه وحاله، وقال: إن السلف ومن اتبعهم كانوا إذا حلَّفوا أحدًا وغلَّظا عليه اليمين يحلّفونه بين المحراب والمنبر، ولم يحلفوه عند قبور أو أثر. ¬

_ (¬1) موضوع، انظر "المقاصد الحسنة": (ص/ 485) و "الفوائد المجموعة": (ص/ 161).

قال: وأما الحسين - رضي الله عنه وعن سلفه ولعن قاتله - فما حُمل رأسه إِلى القاهرة، فإنّ القاهرة بناها الملك المعز في أوائل المائة الرابعة، والحسين - عليه السلام - قتل يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، ودفنت جثة الحسين حيث قتل. وقد روى البخاري في «تاريخه»: أن رأس الحسين حُمل إلى المدينة ودفن بها في البقيع عند قبر أمه فاطمة - رضي الله عنها -. وبعض العلماء يقول: إنه حُمِل إِلى دمشق ودفن بها. فبين مقتل الحسين وبين بناية القاهرة نحو مئتين وخمسين سنة. فإنه من المتواتر أن القاهرة بُنِيت بعد بغداد، وبعد البصرة والكوفة وواسط، فأين هذا من هذا؟! وقد ذكر صاحب الكتاب الذي سماه: (العَلَم المشهور، في فضل الأيام والشهور) (¬1) وصنف هذا الكتاب للملك الكامل - رحمه الله -، ذكر فيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد الملاحدة الزنادقة ملوك مصر في أواخر سنة خمسين وخمس مئة، وقوَّض الله دولة بني عُبيد بعد بنائهم لهذا المشهد بنحو أربع عشرة سنة. وهذا مشهد الكذب والمين، ماهو مشهد الحسين. وكلا العلماء في ذمّ بني عبيد القدَّاح مشهور، وفي ذم مذاهبهم وما كانوا عليه. قال الشيخ أبو حامد الغزالي: «ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض». وكان الشيخ أبو عمرو عثمان بن مرزوق رحمه الله في زمن بني عُبيد في ديار مصر، وكان يفتي أنه لا تحل ذبائح بني عبيد، ولا نكاحهم، ¬

_ (¬1) هو ابن دِحية الكلبي ت (643)، والكتاب لا يزال مخطوطًا، ومنه عدة نُسخ.

ولا يصلى خلفهم. وكان يغلظ في أمرهم. وبلغ نور الدين بن زنكي حالهم وماهم عليه، فسأل العلماء في قتالهم وأخذ البلاد منهم، فأفتاه العلماء بذلك، وكتبت بذلك محاضر، وأثبتت على الحكام. فسيّر صلاح الدين ومعه جيش عظيم فغزاهم وفتح البلاد منهم. وبعض الجهال يظن أن بني عبيد كانوا شرفاء من ذرية فاطمة وأنهم كانوا صالحين، وإنما كانوا زنادقة ملاحدة قرامطة باطنية وإسماعيلية ونصيرية، ومن عندهم طلع الرفض إلى الشام، وإلا قبل ذلك ما كان يعرف الرفض في الشام. وبقاياهم في ديار مصر إِلى اليوم. وكانت قصورهم بين القصرين. وكانوا ينادون «كل من لعن وسب، فله دينار وأردب». فبينما إنسان منهم يلعن عائشة، وإنسان مغربي أنكر عليه، فتحاملوا إِلى عند الحاكم، فقال له الحاكم: «لم أنكرت عليه!» قال له المغربي: «إن امرأة جدي اسمها عائشة، وقد ربتني وأحسنت إليَّ، فلما سمعته يلعنها ما هان عليَّ». فقال له الحاكم: «ذا ما يلعن امرأة جدك أنت، ذا يلعن امرأة جدي أنا». فقال له المغربي: «منك إِليه!». ورأيت رجلاً من أهل القاهرة جاء إِلى الشيخ بالقاهرة بعد مجيئه من إسكندرية فقال له: «إن أبي حدثني عن أبيه أن هذا المشهد بناه بنو عبيد، وأن رأس الحسين ما جاء إلى ديار مصر، لكن جرت لي واقعة. أني وأنا صغير كنت أجري فوق سطح هذا المشهد، وماله عندي حُرْمة بما حدثني أبي عنه، فبينما أنا نائم ليلة وأنا أرى عجوزًا زرقاء العينين شمطاء الرأس، ومعها قيد، فحطته في رجلي وقالت: تتوب ولا تعود تجري فوق سطح المشهد؟ فقلت: التوبة، التوبة، مابقيت أعود. فقعدت وأنا مرعوب».

فقال الشيخ: «وهذا أيضًا حجة لي على صحة ما أقوله، فإن هذه شيطانة هذا الموضع، وهي التي تزينه للناس. وكذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد - رضي الله عنه - بقطع (العُزَّى) فقال له: لما قطعت العزَّى أيّ شيءٍ رأيتَ خرج؟ فقال: خَرَجَتْ عجوز شمطاء هاربة نحو اليمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تلك شيطانة العُزَّى». وسمعت الشيخَ غير مرَّة يحكيها للناس. فصل في كشف حال بني عبيد سمعت الشيخ يحكي غير مرة في مجالسه يقول: زرت يومًا المارستان المنصوري، فجاء إِليِّ أناس فقالوا لي: تصدَّق وزر المارستان العتيق: فرحت معهم أزوره، فقالوا لي: ألا تزور قبور الخلفاء؟ - يعنون بين عبيد - فرحت معهم إِلى قبورهم، فوجدت قبورهم إِلى القطب الشمالي. فتكلم عليهم وعلى مذاهبهم فقال الحاضرون: نحن نعتقد أن هؤلاء قوم صالحون، لأنا إذا مغلت عندنا الخيل (¬1) نجيء بها إلى قبور هؤلاء فتبرأ، فلولا أنهم صالحون ما برأت الدواب من المغل عند قبورهم. فقلت: وهو أيضًا حجة على صحَّة ما أقوله فيهم، فإن المغل من بَرْد يحصل للدواب، فإذا جيء بها إِلى قبور اليهود والنصارى في الشَّام، وإلى قبور المنافقين كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية، فإن الدّوابَّ إِذا سمعت أصوات المعذَّبين في قبورهم تفزع فيحصل لها حرارة تذهب بالمغل الذي حصل لها. ¬

_ (¬1) المغل: مغص يأخذ الدواب.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يومًا راكبًا على بغلته فحادت حتى كادت تلقيه عن ظهرها، فقالوا: ما شأنها يا رسول الله؟ فقال: إنها سمعت أصوات يهود تعذَّب في قبورها. وقال: إنهم ليعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم. فما يروح أصحاب الدّوابّ بها إلى قبر الشافعي ولا إلى قبر أشهب فإن عند قبورهم تنزل الرحمة. وتكلَّم شيئًا كثيرًا من هذا الجنس ما ينحصر، وهذا شيء منه. فصل ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم دخل إلى عنده ثلاثة رهبان من الصعيد. فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار وماهم على الدِّين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح. فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك. فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شَبَهٌ منكم، وهذا ماهو دين إبراهيم الذي كان عليه فإن الدين الذي كان إبراهيم عليه: أن لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له. ولا ندَّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا كوكبًا، ولا نشرك معه نبيًّا من الأنبياء ولا صالحًا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. وإن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره مثل إنزال المطر، وإنبات النبات، وتفريج الكربات، والهدى من الضلالات، وغفران الذنوب، فإنه لا يقدر أحد من جميع الخلق على ذلك، ولا يقدر عليه إلا الله. والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - نؤمن

بهم ونعظمهم ونوقرهم ونتبعهم ونصدِّقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم كما قال نوح وصالح وهود وشعيب: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 3]. فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله. فلو كفر أحد بنبيٍّ من الأنبياء وآمن بالجميع مانفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي. وكذلك لو آمن بجميع الكتب وكذب بكتاب كان كافرًا حتَّى يؤمن بذلك الكتاب وكذلك الملائكة واليوم الآخر. فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خيرٌ من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه. ثم انصرفوا من عنده. فصل لما كان الشيخ في قاعة الترسيم، وكان الشيخ العارف والقدوة شمس الدين الدباهي (¬1) قد طلع من الشام إِلى مصر حتى يصلح بين الشيخ وبين الشيخ نصر المنبجي، فكتب ورقة فيها: «الطفيلي على الله محمد بن الدباهي يسأل من الشيخين الصالحين - شيخ المشايخ أبي الفتح نصر المنبجي وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية - أنهما يتفقان على طاعة الله ورسوله بحسب ما يمكنهما» وذكرَ أشياءَ يلتزمانها بحسب الإمكان ويتفقان عليها. وجاءت الورقة إلى الشيخ فقال: «إني أجيب إلى ذلك»، فراح بها إلى الشيخ نصر، فوجد عنده المشايخ التدامرة: أبا بكر والشيخ إبراهيم أولاد بروان، فقام الشيخ نصر من مجلسه وأقعد الشيخ شمس الدين فيه وعظَّمه تعظيمًا كبيرًا، فأوقفه على الورقة، فقال له: «يا سيدي، ولم كتبت إلى الشيخ مثل هذه وما سُمع بعدُ مِنّا كلام ¬

_ (¬1) محمد بن أحمد بن أبي نصر الدباهي البغدادي ت 711 هـ. ذيل طبقات الحنابلة: (2/ 361).

كثير؟» فقال له: «اكتب أنك أجبتَ إلى ذلك» فقال: «إن كتب الشيخ كتبت» فقال له: «الله على ما تقول وكيل؟» فقال: «نعم» فسيَّر الورقة إلى الشيخ، فكتب: «أجبت غلى ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم. وكتبه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية». وجاب الرسولُ الورقةَ إليه، فقال له الشيخ شمس الدين: «اكتب مع الشيخ مثل ما قلتَ وعاهدت الله عليه». فقال: «مابقيت أكتب شيئًا». فقال له شمس الدين «عاديتك في الله»، وكشف رأسه وقال: «ثم نبتهل، ثم نبتهل» وقام ونزل من عنده. فسيّر الشيخ نصر إلى والي المدينة أن يكبس بيت ابن تيمية، ويمسك أصحابه ويحطهم في الحبس. فسير الوالي نائبه، فكبس البيت، وكان قصدهم أن يمسكوا شرف الدين أخا الشيخ، فهرَّبوه من فوق السطح، وأمسك أصحاب الشيخ وجاءَ بِهم إلى الوالي، فحطهم في قاعة عند بيته، ومنعوا الناس من الدُّخول إلى عند الشيخ ثم بعد أيام عُزل الوالي. فسيَّب الجماعة، فتأخر عنده زين الدين أخو الشيخ، فسير إلى القاضي ابن مخلوف برسالة الشيخ نصر، فإمسك زين الدين وحبسه عند الشيخ في قاعة الترسيم. وفي تلك الأيام سرق مملوك زين الدين له قماش نفتة مروزي وغيره وسافر به، ومرض زين الدين، فطلب الحمام فراح السجَّان وخادم الشيخ - إبراهيم بن أحمد الغياني - إلى القاضي، فقال له خادم الشيخ: هذا إن كان في حبسك؛ فاكتب له ورقة اعتقال، وإن كان ماهو في حبسك فلم ترسم عليه؟ ماهو في حبسي أنا، بلغني أنه يطلب يخدم أخاه، ما استحللت منعه. فقال له: أخوه رجل تاجر يريد وحده عشرة تخدمه، والشيخ أنا أخدمه، وقد قال نائب السلطان وغيره: إنهم ما رسموا بحبس زين الدين، والشيخ يفتي بأن

القماش الذي سرق لزين الدين يلزمك، ويقول السجّان: ماهو في حبسي، ولا نخليه يطلع. فقال له: إذا نزلت في بيتي غدًا تعالى إلى عندي مع السجان. قال إبراهيم: ثم حدثنا الشيخ بذلك فقال لزين الدين: قم اطلع، هذا القاضي قد تبرّأ من قضيتك. فقال السجان: حتى يروح إلى القاضي مثلما رأيتم. فقال الشيخ: إن الظلمة وأعوان الظلمة يحطون يوم القيامة في توابيت من نار. ثم يقذفون في الجحيم قال الله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22 - 23]. فقال أنا ما أجسر أقول له هذا. ثم إنه رسم بأن يخرج، فقال الشيخ: مابقي يخرج. فأرسل القاضي ابنه محب الدين يسأله مرارًا متعددة حتى خرج. وفي تلك الأيام جاء المشايخ التدامرة - إبراهيم وأبو بكر - إلى الشيخ وقالوا له: «قد اجتمعنا بهؤلاء القائمين عليك، وقالوا قد بُلشنا به، والناس تلعننا بسببه، وقد قلن: إنا قد أخذناه بحكم الشرع في الظاهر، فليبصر شيئًا لا يكون علينا ولا عليه فيه رد فيكتبه لنا ونتفق نحن وهو عليه». فلما قالوا له ذلك قال لهم: «أنا منشرح الصدر، وما عندي قَلَق، وهم برّا الحبس فَلِمَ يقلقون؟» وكتب: «عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه لاتشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم». رواه مسلم. فخرجوا من عنده على ذلك. ثم إنهم بعد أيام جاءوا إلى عنده وقالوا له: قد وقفوا على الورقة وقالوا: «هذا رجل مِحْجاج خصِم، وماله قلب يفزع من الملوك، وقد اجتمع بغازان ملك التتر وكبار دولته وما خافهم، ومتى اجتمع بالسلطان والدولة قرأ

عليهم كتاب «الفصوص» الذي كانت الفتنة بسببه قتلونا أو قطعونا من المناصب، ويقال عنا: إنه ما خرج من الحبس حتى دخلتم تحت ما شرط عليكم. ابعثوا أنتم اشرطوا عليه ما أردتم، فإن لم يدخل تحته تكونوا قد عُذِرتم فيه. فلما أخبره بذلك المشايخ التدامرة قالوا: يا سيدي قد حملونا كلامًا نقوله لك: وحلّفونا أنه ما يطلع عليه غيرنا: أن تنزل لهم عن مسألة العرش ومسألة القرآن ونأخذ خطَّك بذلك، نوقف عليه السلطان ونقول له: هذا الذي حبسنا ابن تيمية عليه قد رجع عنه ونقطع نحن الورقة. فقال لهم: تدعونني أن أكتب بخطي أنه ليس فوق العرش إله يعبد، ولا في المصاحف قرآن، ولا لله في الأرض كلام؟ ودق بعمامته الأرض وقام واقفا ورفع برأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك على أنهم يدعونني أن أكفر بك وبكتبك ورسلك، وأن هذا الشيء ما أعمله. اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين. نفذت فيهم سهام الله. والله لتقلبن دولة بيبرس أسفلها أعلاها. ويكون أعز من فيها أذل من فيها ولينتقمنّ الله من الكبير والصغير، وكم أجد عليهم وما أدعو عليهم». فقلت أنا وشرف الدين بن سعد الدين: شيخُ الإسلام النصاري عُرِض على السيف أربع عشرة مرة لا يقال له: «وافقنا» إلا اسكت ويقول: أُقْتَل ولا يسعني أن أسكت عمن خالفني. وكان الشيخ سَكَتَ عنهم في دمشق، وما كان جرى شيء من هذا، وهم انفلتوا فينا بالسبّ القبيح والشتم، وما عليه أضر من أصحابه. ثم خرجوا من عنده. وبعد ذلك جاء عند الشيخ رجلٌ يقال له الشيخ عليّ الفرّا له

منامات خوارق فقال: رأيت في منامي كأن البحر قد زاد حتى دخل الماء في جميع حارات المدينة، وهو أسود مثل القطران وهو يغلي مثل القدر على النار، والشيخ راكب سفينة وقد ركب معه جماعة يسيرة وهو يقول: النجاء النجاء. وقد طلعتْ به من بابا سعادة حتى جاءت إلى باب اللوق، وإذا بالسلطان سنقر راكب فيلاً وخلفه راكب القاضي ابن مخلوف والشيخ نصر، وأنا أقول: يا سيدي كيف نعمل حتى نخرج من هذا الكدر الذي نحن فيه إلى البحر الصافي وهذا الفيل في طريقنا؟ وأنت تقرأ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]. إلى آخرها، وما أصبت السفينة إلا أنها قد صارت في البحر الكبير. ثم بعد أيام جاء عند الشيخ شمس الدين بن سعد الدين الحراني وأخبره أنهم يسفرونه إلى الإسكندرية. وجاءت المشايخ التدامرة وأخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أو نفيك. أو حبسك، فقال لهم: «أنا إن قتلت كانت لي شهادة، وإن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إلى قبرص لدعوت أهلها إلى الله وأجابوني، وإن حبسوني كان لي معبدًا، وأنا مثل الغنمة كيفما تقلبت تقلبت على صوف»، فيئسوا منه وانصرفوا. فلما كان بعدُ في صلاة المغرب جاء نائب والي المدينة بدر الدين المحب بن عماد الدين بن العفيف ومعه جماعة فقال: يا سيدي باسم الله. فقال له الشيخ: إلى أين؟ قال: إلى الإسكندرية قد رسم السلطان بذلك الساعة. فقال له: لو كنتم أخبرتموني بذلك حتى تجهزت للسفر وأخذت معي نفقة. فقال له: قد أمرت لك ولأصحابك ما يكفيك. فقال له: أنا الليلة ما أسافر. فقال له: ما يمكنني أن أخالف مرسوم السلطان. فقال له معك مرسوم بأن تُسخطني؟ فقال: لا. وقام خرج من

عنده. فغلق السجان باب الحبس، وراح. فلما كان ثاني يوم، جاء عبد الكريم أين أخت الشيخ نصر وحلف أن الشيخ نصر ماعنده علم من هذا، وانصرف. فلما كان بعد صلاة العصر وقفت أبكي. فقال لي الشيخ: لاتبك، ما بقيت هذه المحنة تبطئ، فقلت له أفتح لك في المصحف؟ فقال: افتح. فطلع قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 127 - 128]، فقال: افتح في موضع آخر، فطلع قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] إلى آخرها، فقال: افتح آخر، فطلع قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ. . .} [الفتح: 29]. إلى آخرها (¬1). فلما صلَّينا المغربَ بقي يدعو بدعاء الكرب، وأنزل الله عليه من النور والبهاء والحال شيئًا عظيمًا. وأشرت إلى المُحْبَسِين، كأن وجهه شمع يجلوه ¬

_ (¬1) قال الشيخ في "مجموع الفتاوى": (23/ 66): "وأما استفتاح الفأل في المصحف: فلم يُنْقل عن السلف فيه شيءٌ وقد تنازع فيه المتأخرون. وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعا، ذكر عن ابن بطة أنه فَعَله، وذكر عن غيره أنه كرهه. فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة. والفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمرا أو يعزم عليه موكلا على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره: مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك"، كما لقي في سفرة الهجرة رجلًا فقال: "ما اسمك"؟ قال: يزيد. قال: "يا أبا بكر! يزيد أمرِّنا" ... " اهـ. وانظر: "الإبداع في مضار الابتداع": (ص/ 74)، و"السنن والمبتدعات": (ص/ 123)، و"منسك ابن جماعة".

مثل العروس، حتى إذا راق الليل، جاء نائب الوالي فقال: «باسم الله»، فبقوا يودّعونه ويبكون ويدعون عليهم بدعاء مختلف، أقله أن يسلبه الله نعمته. وركب على باب الحبس، فقال له إنسان: «يا سيدي هذا مقام الصبر». فقال له: «بل هذا مقام الحمد والشكر، والله إنه نازل على قلبي من الفرح والسرور شيء لو قُسِم على أهل الشام ومصر لفضل عنهم، ولو أن معي في هذا الموضع ذهبًا وأنفقته ما أديت عشر هذه النعمة التي أنا فيها». وخرج من باب سعادة، وركبنا في البحر إلى ذلك البر فَلقِيَنا أميرٌ يقال له بدر الدين طبر أمير عَشَرة مقدّم مائة، فمنعنا من السفر مع الشيخ وقال: ما معي مرسوم أن يجيء أحد مع الشيخ فقال الشيخ: «يا إبراهيم انزل إلى الشام، وقل لأصحابنا: وحق القرآن - ثلاث مرات - مابقيت هذه المحنة تبطئ، وتنفرج قريبًا فوق مافي النفوس، ويقلب الله مملكة بيبرس أسفلها أعلاها، وليجعلنّ الله أعز من فيها أذل من فيها» فلما رجعنا بعد أن ودَّعناه انكسر في تلك الليلة البحر، ونقص الماء، وغلا الخبز وغيره، ومابقي شيءٌ لتقى، وبقيت الناس تلعنهم ويقولون: غرَّقوا ابن تيمية في البحر، مابقي يطلع، فطلع جماعة من أكابر إسكندرية وصلحائها التقوا الشيخ، وقعد في البرج الأخضر حتى طلع السلطان الناصر من الكرك، وهرب بيبرس من السلطنة وسيَّر بطلبه مكرَّمًا.

3 - رسالة من الشيخ أحمد بن محمد بن مري الحنبلي

رسالة من الشيخ أحمد بن محمد بن مُرِّي الحنبلي (بعد 728) إلى تلاميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أيها الإخوان: لا تنسَوا تقريراتِ شيخِنا الحاذقِ الناقدِ الصادقِ - قدَّسَ اللهُ روحَه - لمعاني قوله تبارك وتعالى في بيان الحِكم الأربع التي أودعها الله سبحانه في ضمن انكسار عَسْكَرِ الرسول في يوم أُحدِ، وهي قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} (¬2). فلا تُهملوا أمرَ الفكرة الصالحةِ، في هذه المعاني الشريفة وغيرها، ولا تجزعوا لما حَصَلَ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموتُ، وهو المتكفلُ سبحانه بنصرِ الدِّين وأهلِهِ، والمختبر لعبادِهِ فيما يَبْتليهم بِهِ، والخبير بجملةِ مصالحهم، والرؤوف بهم، والهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، والسعيد من قام بما عليه إلى وفاته، ومن أراد عظيم الأجر التام، ونصيحة الأنام، ونشر علم هذا الإمام، الذي ¬

_ (¬1) نشرها محمد حامد الفقي في "مجموعة رسائل علمية" (القاهرة 1368 هـ، ص 147 - 154)، بالاعتماد على نسخة بخط الشيخ جمال الدين القاسمي منقولة من نسخة منقولة من خط المؤلف، مخرومة من أولها مع محوٍ في أثنائها، استخرجها القاسمي من مجموع بديع، وقام بتصحيحها. (¬2) سورة آل عمران: 140 - 141.

اختطفه من بيننا محموم الحِمام، ويخشى دُروسَ كثيرٍ من علومِهِ المتفرقةِ الفائقةِ، مع تكررِ مرورِ اللَّيالي والأيام، فالطريقُ في حقِّه: هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار والكبار على جليتها من غيرِ تصرُّفٍ فيها ولا اختصار، ولو وُجِدَ فيها كثيرٌ من التكرار، ومقابلتها تكثير النُّسَخِ بها وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباهِ في مكانٍ واحدٍ، واغتنام حياةِ من بقي من أكابر الإخوان، فكأننا جميعًا بِكمال الفَوْتِ وقد حان، ويكفينا ما عندنا على ما فرطنا من عظيم الأسفِ. فلِوَجْهِ الله معشرَ الإخوانِ لا تعاملوا الوقت الحاضر بما عاملتم به الوقتَ الذي قد سلف فإن حياته رحمه الله ورضي عنه كانت مأمولةً لاستدراك الفارطات الفائتات، وتكميل الغايات والنهايات، فاغتنموا تحصيل كلِّ مهمةٍ في وقتِها بلا كسل ولا مَلَلٍ، ولا تشاغُلٍ ولا بخل. لأن هذا المهم الكبيرَ أحقُّ شيء يُبْذَل في تحصيله المالُ الكثير، وقد علمتم مضرةَ التعليل والتسويف وكون ذلك من أكبر القواطعِ عن مصالح الدنيا والآخرة. فاحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله (¬1) - أيده الله - وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم الجليل بأكثر ما تقدرون عليه ولو تأَلَّمتم أحيانًا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق، وكل أحوال الوجود لابد فيها من العوارض والأنكاد، فاحتسبوا مساعدته عند الله تعالى، وانهضوا بمجموع كلفته، فإن الشدائد تزول، والخيرات تغتنم، فاكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم. ¬

_ (¬1) علق عليه القاسمي بقوله: "يعني ابن القيم أجلَّ تلامذة شيخ الإسلام" والصواب أنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيق المالكي (ت 749)، ناسخ مؤلفات شيخ الإسلام وصاحب كتاب: "مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" المنسوب خطأ لابن القيم، انظر: المقدمة: (ص/ 8 - 15).

وأنا استودع الله دينَه وما عنده، وأوصيه بالصبر أيضًا وبمعاملة اللهِ سبحانه فيما هو فيه، وإن قصَّر الإخوان في حقه (¬1)، وليطلب نصيبَهُ من الله تعالى متكلاً عليه في رزقه المضمون، ومُجْمِلاً في الطلب، لأن ما قسم لابد أن يكون. وإنَّ مما أحث هممكم الصالحة عليه: تحصيل كراريس «الرد على عقائد الفلاسفة» لأنَّهُ ليس في الوجود بهذا المؤلف نسخة كاملة غير النسخة التي بخطي وكانت في الخرستان الشمالي من مدرسة شيخنا، وأخبرني الشيخ شرف الدين (¬2) - رحمه الله تعالى - أنه أودع المجموع في مكان حريز، وقد شحَّ عليّ بإنفاذ هذه الكراريس وقتَ الذهاب إلى الشام، ولا قوة إلا بالله، والكراس الرابع منها أخذه أبو عبد الله من يدي وهو عنده، ونسخة الأصل التي بخط الشيخ هي في القطع الكبير، وكانت هناك أيضًا، وقد بقي من آخر نسختي أقل من ورقة، فأوصلوا ذلك إلى أبي عبد الله، ليُكمل النسخة إلى عند قوله: «فهذا باب، وذاك باب، والله أعلم بالصواب». وللطويسي نسخة بخط كَيّسٍ، وكملوها، لأنه مؤلف لا نظير له، ولا يكسر الفلاسفة مثله. ومن الله نسأل المعونة على جمع شمل هذه المصالح الجليلة بعد شتاتها، ونعوذ به من عوارض القواطع وآفاتها، لأن الفَوْتَ صعب، ¬

_ (¬1) توفي ابن رشيق وبقي عليه دَين (كما في البداية والنهاية 14/ 229). وهذا يدل على تقصير الإخوان في حقه، وأنه كان يعاني من شظف العيش ومرارة الحياة بسبب قلة المال لديه. ولذا حثَّ الشيخ ابن مرّي زملاءه على مساعدته. (¬2) الشيخ شرف الدين هو أخو الشيخ ابن تيمية -عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني. (ت 727 هـ). شذرات الذهب (6/ 76 - 77).

وغائلة التفريط رديئة، وانتهاز الفرص من أهم الأمور وأجمعها لمصالح الدنيا والآخرة، وما يعقلها إلا العالمون، وسيندم المفرطون في استدراك بقايا هذه الأمور الكاملة والمقصرون، كما ندم المتخيلون بطول حياة الشيخ والمغترون. وهذه الأمور التي قد أشرت إليها في هذه الأوراق الخفيفة هي أغلى أبواب النصيحة وأتمها فيما أعلم، لأن الذاهب مضى، والوقت سيف منتضى، وكل من ذهب بعده من أكابر الإخوانِ ما عنه عوض، والدهر في إدبار، والشرور في زيادة. وإذا جمعت هذه المؤلفات العزيزة الكثيرة، ونقل من المسوَّدات ما لم يُنْقَلْ، وقُبِلَ رأيُ أبي عبد الله في ذلك كله؛ لأنه على بصيرة من أمره، وهو أخبر الجماعة بمظان المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها، وقوبل كل ما يكتب مع أصلح الجماعة، أو على نسخة الأصل، وروجع شيخنا الحافظ جمال الدين (¬1) الذي هو بقية الخير لثقته وخبرته وشفقته وتحرقه على ظهور هذه المواد الصالحة في الوجود، ولسعة علمه وإحاطته بكثير من مقاصد شيخنا المؤلف، وروجع الشيخان العالمان، الفاضلان المحققان: شرف الدين (¬2)، وشمس الدين بن أبي بكر (¬3) فإنهما أحذق الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذكرهم للمباحث الأصولية، فيما يشتبه من المقاصد خوفًا من التصحيف وتغيير بعض المعاني، وروجع غيرهم من أكابر الجماعة أيضًا، كان في ذلك خير كثير، واستدراكٌ كبير، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) جمال الدين الحافظ المزي (ت 742 هـ). (¬2) القاضي شرف الدين بن عبد الله بن شرف الدين حسن بن الحافظ أبي موسى (ت 731 هـ). (¬3) شمس الدين بن أبي بكر هو ابن القيم (ت 751 هـ).

والشيخ أبو عبد الله سلمه الله، هو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم، فساعِدوه وأزيلوا ضرورتَه، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته، واقبلوا نصيحتي فيما أتحققه من هذا كله، كما كنت أتحقق أن اغتنام أوقات الشيخ وجمعها على التآليف والإتقان والمقابلة خير من صرفها في مجرد المفاكهة اللذيذة والمنادمة، والنفوس فرطت كثيرًا في ذلك الحال. والله المسؤول بأن يكفيها مضرة كمال الفَوْتِ الذي لا عوض عنه بحال، إنه رؤوف رحيم، جوادٌ كريمٌ. فإن يسَّر الله تعالى وأعانَ على هذه الأمور العظيمة صارت إنْ شاء اللهُ تعالى مؤلفات شيخنا ذخيرةً صالحةً للإسلام وأهلِهِ، وخزانةً عظيمة لمن يؤلف منها وينقل، وينصر الطريقة السلفية على قواعدها ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعة الله» وقال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقومَ الساعة». والله سبحانه يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)}. وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله فكذلك ينتفع بكلامه من بعده إن شاء الله تعالى. فاتبعوا أمر الله، واقصدوا رضا الله بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفاتِ الكبار، وأشتاتِ المسائل الِّغار، ومن نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد مُلِئَ، ولله الحمد، من الفوائد والفرائد والشوارد، فأيقظوا الهمم، وابذلوا الموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب العظيم الذي لا نصير له، فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب. والتمام على رب الأرباب ومسبب الأسباب وفاتح الأبواب، الذي يقيم دينه، وينصر كتابه وسنة نبيه على الدوام، ويثبت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام، وكلٌّ مَجزيٌّ في القيامة بعمله، وما ربك بظلامٍ للعبيد.

وقد علم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهى في حال حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير، فنقلوا علمه وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره لأجل ذلك، والوجودُ هو على هذه الصفة قديمًا وحديثًا. فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه ولله الحمد مقبول طوعًا وكرهًا، وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته، ووالله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لِنَصْرِ هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم (¬1). وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدَدَه غير الله تعالى. ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أُخرِج طريدًا، ثم مات بعد ذلك غريبًا، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مرّ في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن، وذلك لكمال صحته، وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب. ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير إن شاء الله تعالى، لأنه كان بنى جملة أموره على الكتاب والسنة، ونصوص أئمة سلف الأمة. وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخالَفَة أحدٍ من الناسِ في نصر هذه الطريقة، وتبيين الحقيقة. ¬

_ (¬1) وقد كان ذلك، ولله الحمد.

وقد عُلِم أن لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة، والبسط والتحقيق، والإتقان والكمال، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب، بحقائق فصل الخطاب، ما ليس لأكثر المصنفين، في أبواب مسائل أصول الدين، وغيرها من مسائل المحققين، لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد بالعقليات الصحيحة التي توافق ذلك بغيها، ويجتهد على دفع كل ما يعارض ذلك من شبه المعقولات، ويلتزم حَلَّ كلِّ شبهة كلامية وفلسفية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ويلتزم أيضًا الجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ويجزم بأن فرض دليلين قطعيين متعارضين من المحال إن كانا عقليين أو عقليًا ونقليًا، قال: لأن الدليل هو الذي يجب ثبوت مدلوله، فإمَّا أن لا يكونا قطعيين، وإمَّا أن لا يكون مدلولهما متناقضين. وعلى هذا المقصد الجليل بنى كلامه المتين، وتقاسيمه العجيبة في أول قاعدته الكبيرة الباهرة التي ألفها في دفع «تعارض العقل للنقل». فكانت مقاصده وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجبًا من عجائب الوجود. وكان يقول: لا يتصور أن يتعارض حديثان صحيحان قط إلا أن يكون الثاني منهما ناسخًا للأول: قال: والإمام أحمد بن حنبل كان في زمنه يصرح به، ويلتزم تحقيقه، وأنا في زمني ألتزم حكم هذه القاعدة أيضًا، والنهوض بالجواب عن كل ما يعارضها. وكان رحمه الله ورضي عنه، يذب عن الشريعة ويحمي حوزة الدين بكل ما يقدر عليه، وكان كما علم من حاله لا يخاف في هذا الباب لومة لائم، ولا ينثني عما يتحقق عنده، ولم يزل على ذلك إلى أن قضى نحبه، ولقي ربه، فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ونصر مقاصده، وأيد قواعده، والله سبحانه يعلم حسن قصده، وصحة علومه

ورجحان دليله، وهو ناصر الحق وأهله، ولو بعد حين. وجميع ما وقع من هذه الأمور فيه من الدلالة إن شاء الله على شمول أمره، وظهور كلمة هذه العلوم الباهرةِ أكثر مما فيه من الدلالة على خلاف ذلك، ولا قوة إلا بالله، غير أن الأشياء المقدورة، تفتقر إلى أسبابها المعلومَة، ولهذا كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم وهو في العريش يوم بدر يجتهد على الاستغاثة بالله التي كانت أكبر أسباب النصرة في ذلك اليوم، بعد أن عرفه الله تعالى، قبل ذلك، جلية مصارع القوم. ولما التزمه أبو بكر من ورائه قائلاً له: «يا رسول الله، أهكذا مناشدتُك ربَّكَ، فإنه وافٍ لك بما وعدك»، لم يترك استغاثته بربه، لعلمه أن الأمور المقدَّرة لابد أن تقع بأسبابها اللازمة لها، المعروفة بها. ومصداق ذلك ما أنزله سبحانه في تقرير هذا الأمر، وتحقيق هذه القاعدة، وهو قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} لأنه سبحانه بيّن حكم الأسباب المتقدمة والمتأخرة، ورد الأمر إلى حقائق التوحيد، بقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وهذا هو نهاية مطالب هذا الباب، واتباع هذه الأحكام الثابتة على هذه الصفة المؤيدة، هو بلا شك أعلى مراتبِ العبودية، وأنفعها وأرفعها في حق مجموع البرية. فأثروا من استعمال هذا الأمر الجليل، وحسبُنا الله ونعمَ الوكيلُ. والحمد لله وحده، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله، وسلامه على جميع الصالحين.

4 - نهاية الأرب في فنون الأدب

نِهَايةُ الأَرَبِ في فنون الأدبِ (¬1) للعلامة/ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهَّاب النُّوَيري (733) ذكر توجه العساكر الشامية إلى بلاد الكسروان (¬2) وإبادة من بها وتمهيدها كان أهل جبال الكسروان قد كثروا وطَغَوا واشتدت شوكتهم، وتطرقوا إلى أذى العسكر الناصري عند انهزامه في سنة تسع وتسعين وست مئة، وتراخى الأمر وتمادى وحصل إغفال أمرهم فزاد طُغْيَانُهم وأظهروا الخروج عن الطاعة، واغَترُّوا بِجبالِهِم المنيعة، وجموعهم الكثيرة، وأنه لا يمكن الوصول إليهم، فحُهِّز إليهم الشريف زين الدين ابن عدلان، ثم توجه بعده في ذي الحجة سنة أربع وسبع مئة الشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري، وتحدثا معهم في الرجوع إلى الطاعة فما أجابوا إلى ذلك، فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل جهةٍ ومملكةٍ من الممالك الشامية، وتوجه نائب السلطنة الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من دمشق بسائر الجيوش في يوم الاثنين ثاني المحرم وجمع جمعًا كثيرًا من الرجال، فيقال: إنه ¬

_ (¬1) (32/ 97 - 118، 33/ 211 - 213، 265 - 266، 276 - 277) نشر دار الكتب المصرية بالقاهرة ط. الأولى 1998 تحقيق د. فهيم شلتوت. (¬2) وهي جبال تتصل بسلسلة جبال لبنان، وتسكنها طائفة الدروز.

اجتمع من الرجال نحو خمسين ألفًا، وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرديين وتوجه الأمير سيف الدين أسندَمُر بعسكر الفتوحات من الجهة التي تلي بلاد طرابلس. وكان قد نُسِب إلى مُبَاطَنَتِهم، فكُتِبَ إليه في ذلك، فجرَّدَ العزمَ وأراد أن يفعل في هذا الأمر ما يمحو عنه أثرَ هذه الشناعة التي وقعت، وطلع إلى جبل الكسروان من أصعب مسالكه، واجتمعت عليهم العساكر فقُتِلَ منهم خَلْق كثير، وتبدد شملهم وتمزقوا في البلاد، واستخدم الأمير سيف الدين أسندَمُر جماعةً منهم بطرابلس بجامكية وجراية من الأموال الديوانية، وسماهم رجال الكسروان، وأقاموا على ذلك سنين وأقطع بعضهم أخبارًا من حلقة طرابلس، وتفرق بقيتهم في البلاد، واضمحلَّ أمرُهم وخمل ذكراهم، وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في رابع عشر صفر من الستة وأقطع جبال الكسروانيين والجرديين لجماعة من الأمراء التركمان وغيرهم، منهم: الأمير علاء الدين بن معبد البعلبكِّي، وعز الدين خطاب، وسيف الدين بُكْتُمُر الحُسامي، وأُعْطُوا الطبلخانات وتوجهوا لعمارة إقطاعهم وحفظ ميناء البحر من جهة بيروت. وفي هذه السنة (¬1) كانت بدمشق فتنة بين جماعة من الفقراء الأحمدية والشيخ تقي الدين ابن تيمية، وذلك أنهم اجتمعوا في يوم السبت تاسع جمادي الأولى عند نائب السلطنة، وحضر الشيخ تقي الدين فطلبوا منه أن يسلم إليهم حالهم، وأن تقي الدين لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وأرادوا أن يظهروا شيئًا مما يفعلونه فقال لهم الشيخ: إن اتباع الشريعة لا يسع الخروج عنه، ولا يُقَرُّ أحد على خلافه، وهذه ¬

_ (¬1) سنة (704).

البدَع التي تفعلونها من دخول النار وإخراج الزبد من الحلق؛ لها حِيَل ذَكَرَها، وقال: من أراد منكم دخول النار فليغسل جسده في الحمام ثم يدلكه بالخل يم يدخل بعد ذلك، فإن قدر على الدخول دخلت معه، ولو دخل بعد ذلك لم يرجع إليه، بل هو فعل من أفعال الدجال، فانكسرت حِدَّتهم وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من أعناقهم، وعلى أن من خرج منهم عن الكتاب والسنة قوبل بما يستحقه، وضبط المجلس المذكور وما وقع فيه وما التزم الفقراء الأحمدية الرفاعية به، وصنف الشيخ جزءًا يتعلَّق بهذه الطائفة وأفعالهم. ذِكْر حادثة الشيخ تقي الدين أحمد ابن تيميَّة، وما اتفق لطائفة الحنابلة، واعتقال تقي الدين، وما كان من خبره إلى أن أُفْرِج عنه أخيرًا كانت هذه الحادثة التي نذكرها في سنة خمسٍ وسبع مئة وانتهت في أواخر سنة تسع وسبع مئة، وكان لوقوعها أسباب وموجبات ووقائع اتفقت بالقاهرة ودمشق، وقد رأينا أن نذكر هذه الواقعة ونشرح أسبابها من ابتداء وقوعها إلى انتهائها ولا نقطعها بغيرها، وإن خرجت سنة ودخلت أخرى. السببُ المحركُ لهذه الواقعة الموجبُ لطلب الشيخ تقي الدين المذكور إلى الديار المصرية فقد اطلعت عليه من ابتدائه وهو: أن بعض الطلبة واسمه: عبد الرحمن العينوسي سكن بالمدرسة الناصرية التي تقدم ذكرها بالقاهرة وكنت بها، وبها قاضي القضاة زين الدين المالكي وغيره، فاتفق اجتماعي أنا والقاضي شمس الدين محمد بن عدلان

الكناني القرشي الشافعي بمنزلي بالمدرسة المذكورة في بعض الليالي، وهو أيضًا ساكن بالمدرسة ومعيد بها، فحضر عبد الرحمن المذكور إلينا ومعه فُتيا وقد أجاب الشيخ تقي الدين عنها فأخرجها من يده وشرع يذكرُ الشيخَ تقي الدين وبَسْط عبارته وعِلْمه، وقال: هذه من جملة فتاويه ولم يُرِد فيما ظهر أذاه وإنما قصد - والله أعلم - نضر فضيلته، فتناولها القاضي شمس الدين ابن عدلان منه وقرأها فإذا مضمونها (¬1): بسم الله الرحمن الرحيم، ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - أن يبينوا ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلمًا بأوضح عبارة وأبينها، من أن مافي المصاحف هو كلام الله القديم أم هو عبارة عنه لا نفسه؟ وأنه هو حادث أو قديم؟ وأن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] هو استواء حقيقة أم لا؟ وأن كلام الله عز وجل بحرفٍ وصَوْت أم كلامه صفة قائمة لا تفارق؟ وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول شيئًا منه ويقول: أومن به كما أنزل؛ هل يكفيه ذلك في الاعتقاد أم يجب عليه التأويل؟ وأن السائل رجل متحيِّر لا يعرف شيئًا وسؤال بجواب لين بيقلد قائله افتونا مأجورين رحمكم الله. فأجاب الشيخ تقي الدين ماصورته: الحمد لله ربِّ العالمين، الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره مادل عليه كتاب الله وسنة رسوله واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله على من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم، وهو أن القرآن ¬

_ (¬1) توجد هذه الفتوى في "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (12/ 235 - 245).

الذي أنزله الله على محمد عبده ورسوله كلام الله وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلى المطهرون، وأنه قرآن مجيد في لوح محفوظ، وأنه في أم الكتاب لدى الله تعالى حفيظ، وأنه في الصدور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «استذكروا القرآن فهو أشد تفلُّتًا من صدور الرجال من النعم من عُقلها»، وقال: «الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب»، [و] أن مابين لوحي المصحف الذي كتبه الصحابة كلام الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مَخافةَ أن تناله أيديهم». فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب، وأَمَّا تفصيل ماوقع في ذلك من النزاع فكثير، منه [ما] يكون كِلا الإِطلاقَين خطأ، ويكون الحق في التفصيل، ومنه مايكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق ويكون كل منهما ينكر حقَّ صاحبه، وهذا من التفرُّق والاختلاف الذي ذمه الله ونهى عنه؛ فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} [البقرة/ 176] وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران/ 105] وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران/ 103] وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة/ 213] فالواجب على المسلم أن يلم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وما تنازعت فيه الأمة وتفرَّقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواقع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى، وقد بسطت القول من جنس هذه المسائل

ببيان ماكان عليه سلف الأمة الذي اتفق عليه العقل والسمع، وبيان مايدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة، ولكن نذكر هنا جُمْلةً مختصرة بحسب حال السائل، والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة (¬1) بالنص والإجماع، ومَنْعهم من الخوض في التفصيل الذي يُوْقع بينهم الفرقة والاختلاف، فإن الفرقة والاختلاف من أعظم مانهى الله عنه ورسوله. والتفصيل المختصر فنقول: من اعتقد أن المِداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية؛ فهذا ضال مخطئ مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين الأولين وسائر علماء المسلمين ولم يقل أحد قطُّ من علماء المسلمين: إن ذلك قديم، لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم ومن نقلَ قِدَم ذلك عن أحدٍ من علماء أصحاب الإمام أحمد ونحوهم؛ فهو مخطئ في هذا النقل أو متعمد الكذب، بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أئمة أصحابه تبديع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهَّموا من قال: اللفظ بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروذي - أخص أصحاب الإمام أحمد به - في ذلك رسالةً كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في «كتاب السنة» الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من [أئمة] السنة في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القولَ بأن «لفظي بالقرآن غير مخلوق» فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا وبدَّعَ من قال ذلك، وأخبر أن أحدًا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف من يزعم أن صوت العبد القديم؟ وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء: أنّ المِداد الذي في ¬

_ (¬1) في المطبوع: بالحمل على الثابت.

المصحف القديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام أحمد وغيره أنكروا ذلك، وما علمتُ أنَّ عالمًا نقل ذلك إلا مابلغنا عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم. وقد ميَّز الله - تعالى - في كتابه بين الكلام والمِداد، فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف/ 109] فهذا خطأ من هذا الجانب، وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور، كما أن الله معلوم بالقلوب، وأنه مَتْلُوّ بالألسن، كما أن الله مذكور بالألسن، وأنه مكتوب في المصحف، كما أن الله مكتوب في المصحف، وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله في هذه المواضع، فهذا أيضًا مخطئ في ذلك، فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بيِّن واضح، فإن الأعيان لها أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في البنان، فالعلم يطابق العين، واللفظ يطابق العلم، والخط يطابق اللفظ. فإذا قيل: إن العين في الكتاب كما في قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)} [القمر/ 52] فقد عُلِم أن الذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للعلم، فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهي اللفظ والخط، وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة غيرهما، بل نفس الكلام يجعل في الكتاب، وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجهٍ (¬1) آخر إلا إذا أريدَ أن الذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ ¬

_ (¬1) في الأصل: من غير وجهٍ! والمثبت من الفتاوى.

الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)} [الشعراء/ 192 - 197] فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد. فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ولكن في زبر الأولين صحَّ ذكر القرآن وخبره، كما فيها ذكر محمد وخبره، كما أن أفعال العباد في الزبر كما قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)} [القمر/ 52] فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزُّبُر وبين كون الكلام نفسه في الزبر، كما قال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} [الواقعة/ 77 - 78] وقال: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)} [البينة/ 2 - 3] فمن قال: إن المِداد قديم؛ فقد أخطأ، ومن قال: ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المِداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ، بل القرآن في المصحف، كما أن سائر الكلام في الأوراق كما عليه الأمة مجتمعة، وكما هو في فِطَر المسلمين، فإن كلَّ مرتبة لها حكم يخصها، وليس وجود الكلام من الكتاب كوجود الصفة بالموصوف، مثل [وجود] العلم والحياة بمحلها حتى يقال: إن صفة الله حلَّت بغيره أو فارقته، ولا وجوده فيه كالدليل المحض، مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى، حتى يقال: ليس فيه إلا ماهو علامة على كلام الله، بل هو قسم آخر، ومن لم يُعْط كل مرتبة فيما يستعمل فيها أداة الظرف (¬1) حقها، فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان، ووجود العرض بالجسم، والصورة بالمرآة، ويفرق بين رؤية الشيء بالعين يقظة ورؤيته بالقلب يقظة ومنامًا، ونحو ذلك، وإلا اضطراب عليه الأمر. ¬

_ (¬1) في الأصل: أداء الطرق! والمثبت من الفتاوى.

وكذلك سؤال السائل عما في المصحف، هل هو حادث أو قديم؟ سؤال مجمل. فإن لفظ «القديم» أولاً [ليس] (¬1) مأثورًا عن السلف، وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو كلام الله حيث تُلى، وحيث كُتِب، وهو قرآن واحد وكلام [واحد] وإن تنوَّعت الصور التي يُتْلَى بها، ويكتب من أصوات العباد ومدادهم، فإن الكلام كلام من قاله مبتدءًا، لا كلام من بلغه مؤديًا، فإن سمعنا محدثًا يحدث بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» قلنا: هذا كلام رسول الله لفظه ومعانيه، مع عِلْمنا أن الصوت صوت المبلِّغ لا صوت رسول الله، وهكذا كل من بلَّغ كلامَ غيره من نظم ونثر. ونحن إذا قلنا: هذا كلام الله، لِمَا نسمعه من القارئ من قراءةٍ في المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو مع قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومِداد الكاتب، فمن قال: صوت القارئ ومداد الكاتب كلام الله الذي ليس بمخلوق فقد أخطأ، وهذا الفرق الذي بينه الإمام أحمد لمن سأله وقد قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص/ 1] فقال: هذا كلام الله غير مخلوق؟ فقال: نعم، فنقل السائل عنه أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فدعا به أحمد وزبره زَبْرًا شديدًا وطلب عقوبته وتعزيره وقال: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ فقال: لا ولكن قلت لي لما قرأت: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} هذا كلام الله غير مخلوق، فقال: فلِمَ تنقل عني مالم أقله؟! فبيَّن الإمام أحمد أن القائل إذا قال - لما يسمعه من المبلغين والمؤدِّين -: هذا كلام الله، فالإشارة إلى الحقيقة التي تكلم بها الله وإن ¬

_ (¬1) من الفتاوى، وبه يستقيم المعنى.

كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحركته وصوته، فإذا أشار إلى شيءٍ من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق، فقد ضل وأخطأ، فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، والقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في الصُّحُف ولا يقال: إن شيئًا من المداد والورق غير مخلوق، بل كل ورق ومِداد في العالم فهو مخلوق، ويقال أيضًا: القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق. ويَتبيَّن هذا الجوابُ بالكلام على المسألة الثانية وهي قوله: إن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا؟ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيًا وإثباتًا خطأ، وهي من البدع المولَّدة الحادثة بعد المئة الثالثة لما قال قوم من متكلمة الصفاتية: إنّ كلام الله الذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن، والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره ونهيه وخبره، ليست إلا مجرد معنى واحد، هو صفة واحدة قامت بالله، إن عبَّر عنها بالعِبْرية كانت التوراة، وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن، وأن الأمر والنهي والخبر صفات لها لا أقسام لها، وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله تعالى ولم يتكلم بها وليست كلامه؛ إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت. عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد وهذا لم يقله عالم. والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب «الصحيح» في كتاب «خلق أفعال العباد» وغيره وسائر الأئمة قبلهم

وبعدهم اتباع النصوص الثابتة وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله تعالى؛ حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلامًا لغيره ولكن أنزله على رسله، وليس القرآن اسمًا لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعاني فقط، بل مجموعهما، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما، وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك هو أصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكما لايشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبَّه اللهَ بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته، وقد بينتُ في الجواب المبسوط مراتبَ مذاهب أهل الأرض في ذلك، وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفس الأنبياء تفيض عليهم المعاني من العقل الفعال فتصير في نفوسهم حروفًا كما أن ملائكة الله عندهم مايحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية، وهذا من جنس قول فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر/ 25] فحقيقة قولهم إن القرآن تصنيف الرسول لكنه كلام شريف صادر عن نفس صافية، وهؤلاء هم الصابئة فنفرت (¬1) منهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه مايخلقه من الهواء أو غيره، فأخذ بعض ذلك قوم من متكلمة الصفات فقالوا: ¬

_ (¬1) في الفتاوى: فتقربت.

بل نصفه، وهو المعنى كلام الله، ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلق من خلقه. وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال: إنه قديم لم يزل ولا يتعلق بالمشيئة؟ أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء؟ على قولين مشهورين في ذلك، وفي السمع والبصر ونحوهما ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة، وذكرهما أبو بكر [عبد العزيز] عن أهل السنة من أصحاب أحمد وغيرهم. وكذلك النزاع بين أهل الحديث والصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة في جنس هذا الباب وليس هذا موضع بسط ذلك الفصل. وأما سؤاله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه/ 5] فهو حق أخبر الله به، وأهل السنة متفقون على ماقاله ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس وغيرهما من الأئمة: أن الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة، فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يُقلّه أو أنه محصور في سماء تُظلّه أو أنه محصور في شيءٍ من مخلوقاته، أو أنه تحيط به جهة من جهات مصنوعاته؛ فهو مخطئ ضال، ومن قال: إنه ليس على العرش رب ولا فوق السموات خالق بل ماهنالك إلا العدم المحض والنفي الصرف؛ فهو معطِّل جاحد لرب العالمين مُضاهٍ لفرعون الذي قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر/ 36 - 37] بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته على عرشه بائنٌ من

مخلوقاته ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين، وأهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأوَّل «استوى» بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق السموات؛ فهو جهمي ضال مضل. وأما سؤاله عن إجراء القرآن على ظاهره؛ فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين. ولفظ الظاهر في عرف المتأخرين قد صار فيه اشتراك؛ فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو في خصائص المخلوقين حتى يشبّه الله بخلقه فهذا ضلال، بل يجب القطع بأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل قد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن يخالف حقًّا بقية حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا تدركه العباد؛ إذ ليست حقيقته كحقيقة شيء منها، وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عُرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكَلِم عن مواضعه ولا يُلحد في أسماء الله تعالى، ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة، فهذا مصيب في ذلك وهو الحق وهذه جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انتهت الفتوى.

فلما وقف القاضي شمس الدين ابن عدلان على هذه الفتيا أنكر منها مواضع، وعرضها على القاضي زين الدين المالكي، فقال قاضي القضاة: أحتاج أن يثبت عندي أن هذا خط تقي الدين المذكور، فإذا ثبت ذلك رتبت عليه مقتضاه، وانفصل المجلس في تلك الليلة على هذا. ثم شهد جماعة عند قاضي القضاة أن الجواب المذكور بخط تقي الدين المذكور فثبت ذلك عنده وأشهد على نفسه به في شعبان من السنة، واجتمع قاضي القضاة زين الدين بالأمراء وعرَّفهم ما أنكره من فُتياه، فرُسِمَ بطلبه إلى الأبواب السلطانية وتوجه البريد بذلك، فتوقف نائب السلطنة بالشام الأمير جمال الدين في إرساله، واتفق وصول الأمير سيف الدين الطنقش الجمالي أستاذ دار نائب السلطنة بالشام إلى الأبواب السلطانية في الشهر المذكور في بعض المهمات وملك السلطان مخدومه من أملاكه بالشام أماكن احتاج إلى إثباتها على قاضي القضاة زين الدين المالكي فاجتمع بي بسبب ذلك، فدخلت على قاضي القضاة وعرَّفته مكانة سيف الدين المذكور ومنزلته من أرباب الدولة، ومحل مخدومه والتمست منه الإذن له في الدخول وإكرامه إذا دخل عليه فأذن له في الدخول، فلما دخل عليه أطَّرَحَه ولم يكترث لدخوله، وكلَّمه بكلام غليظ فكان مما قال له عند دخوله عليه: أنت أستاذ دار جمال الدين؟ قال: نعم، قال: لا بيَّض الله وجهه. وحَمَّله رسالة لمخدومه فقال: قل له عني أنت تعرف كيف كنت، وأنني اشتريتك للسلطان الملك المنصور وكنت على حالٍ من الضرورة في جنديتك وإمرتك ثم خوَّلك الله تعالى من نِعَمه وأفاض عليك منها ما أنت عليه الآن، وألحقكَ بأكابر الملوك ونُعِتَّ بملك الأمراء، ثم أنت تدافع عن رجلٍ طلبته لقيام حق من حقوق الله عليه، والله لئن لم ترسله ليعجلن الله

تعالى هلاكك. . .، إلى غير ذلك مما قاله في وقت خروجه، فالتزم الأمير سيف الدين الطنقش أنه عند وصوله إلى دمشق لا يبيت ابن تيمية بها، ويرسله إليه. ثم لم يقنع قاضي القضاة بذلك إلى أن اجتمع بالأمراء، وجدَّد معهم الحديث في أمر تقي الدين، فاقتضى ذلك إرسال الأمير حسام الدين لاجين العمري أحد الحُجَّاب بالأبواب السلطانية إلى دمشق بمثالٍ شريف سلطاني بطلبه، فتوجه ووصل إليها في خامس شهر رمضان. هذا هو السبب الموجب لطلبه وانحمال قاضي القضاة زين الدين المالكي عليه، نقلتُه عن مشاهدةٍ واطلاع. واتفق في هذه المدة له وقائع بدمشق، نحن نوردها ملخَّصة بمقتضى ما أورده الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم الجزري في «تاريخه» (¬1) ليجمع بين أطراف هذه الحادثة أسبابها بمصر والشام، وهو أنه لما كان في يوم الاثنين امن شهر رجب عُقِد مجلس بين يدي نائب السلطنة بدمشق حَضَره القضاة والعلماء والشيخ تقي الدين المذكور وسُئل عن عقيدته، فأملى شيئًا منها ثم أَحضر عقيدته «الواسطية» وقرئت في المجلس وحصل البحث في مواضع منها، وأُخِّرت مواضع إلى مجلس آخر، ثم اجتمعوا في يوم الجمعة ثاني عشر الشهر، وحصل البحث وسُئل عن مواضع خارجة عن العقيدة، ونُدِب للكلام معه الشيخ صفي الدين الهندي، ثم عدل عنه إلى الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، فبحث معه من غير مسامحة، فأشهد الشيخ تقي الدين على نفسه من ¬

_ (¬1) وهو: "تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه" -لم يوجد كاملًا- وأثبتنا ما وُجِد منه في محله من هذا الكتاب.

حضر المجلس أنه شافعي المذهب يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، فحصل الرِّضى منه وعنه بهذا القول وانفصل المجلس. ثم حصل بعد ذلك من بعض أصحاب الشيخ تقي الدين كلام وقالوا: ظهر الحقُّ مع شيخنا فأحضر الشيخ كمال الدين القزويني نائب قاضي القضاة نجم الدين أحدَهم إلى المدرسة العادلية وعزَّره وفعل قاضي القضاة الحنفي مثل ذلك باثنين من أصحابه، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشرين الشهر قرأ الشيخ جمال الدين المِزِّي فصلاً في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» من كتاب البخاري (¬1)، وكان ذلك بالجامع الأموي تحت النسر في المجلس العام المعقود لقراءة «صحيح البخاري» فغضب بعض الفقهاء الحاضرين، وقال نحن قُصِدنا بهذا التكفير، فبلغ ماقاله قاضي القضاة نجم الدين الشافعي فأحضره ورسم باعتقاله، فبلغ ابن تيمية الخبر فقام حافيًا وتبعه أصحابه، وأخرجه من الحبس، فغضب القاضي وتوجَّه إلى نائب السلطنة واجتمع هو وتقي الدين فاشتط تقي الدين عليه وذكر نائبه جلال الدين وأنه آذى أصحابه، فرسم نائب السلطان بإشهار النداء في البلد بالكف عن العقائد والخوض فيها، ومن تكلم في ذلك سفك دمه ونهب ماله. وأراد بذلك تسكين هذه الفتنة ثم عُقِد مجلس في ثاني يوم، الثلاثاء سلخ رجب بالقصر الأبلق بحضور نائب السلطنة والقضاة والفقهاء وحصل البحث في أمر العقيدة وطال البحث فوقع من الشيخ صدر الدين كلام في معنى الحروف فأنكره الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني فأنكر صدر الدين القول، فقال كمال الدين لقاضي القضاة نجم الدين بن صصري: ¬

_ (¬1) كذا! وصوابه: للبخاري، وهو كتاب مفرد وليس من "الصحيح".

ماسمعتَ ما قال؟ فتغافل عن إجابته لتنكسر الفتنة، فقال ابن الزملكاني: ماجرى على الشافعية قليل إذ صرت رئيسهم يريدُ بذلك ابنَ الوكيل - فيما يزعم - فظن قاضي القضاة أنه أراده بكلامه فأشهد عليه أنه عزل نفسه عن القضاء، وقام من المجلس، فرسم نائب السلطنة بعوده، فأدركه الأمير ركن الدين بيبرس العلائي الحاجب وغيره من الأمراء وأعادوه إلى المجلس، وجرى كلام كثير ثم ولاه نائب السلطنة القضاء، وحكم قاضي القضاة الحنفي بصحة ولايته ونفذها المالكي، فلما وصل إلى داره انقطع عن الحكم وطالع نائب السلطنة في أمره فعاد الجواب السلطاني باستمراره في القضاة في ثامن عشرين شعبان. ثم وصل الأمير حسام الدين لاجين العمري في خامس شهر رمضان بطلب قاضي القضاة نجم الدين وتقي الدين ابن تيميَّة، وتضمن المثال السلطاني بأن يطالع بما وقع من أمر تقي الدين المذكور في سنة ثمان وتسعين وست مئة بسبب عقيدته، وأن تكتب صورة العقيدتين الأولى والثانية فأراد نائب السلطنة أن يدافع عنه ويكتب في حقه فوصل مملوكه سيف الدين الطنقش من الديار المصرية وأخبر باشتداد الحال عليه وقيام الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وذكر له كلام قاضي القضاة زين الدين، فعند ذلك أمر بإرساله وإرسال قاضي القضاة نجم الدين، فتوجَّها في يوم الاثنين ثاني عشر شهر رمضان فتوجه القاضي نجم الدين في الخامسة من النهار وتوجه تقي الدين في التاسعة وصحبته جماعة من أصحابه منهم تقي الدين بن سُنْقُر، وزين الدين بن زين الدين بن مُنَجَّى، وشمس الدين التدمري، وفخر الدين وعلاء الدين أولاد شرف الدين الصايغ، وابن بُخَيْخ، وشرف الدين عبد الله أخو الشيخ، وكان وصولهم إلى القاهرة في يوم الخميس ثاني عشري شهر رمضان وعُقِد

مجلس بدار النيابة بقلعة الجبل وحضره الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وغيره من الأمراء والقضاة والعلماء وذلك بعد صلاة الجمعة الثالث والعشرين من الشهر، فادَّعى القاضي شمس الدين محمد ابن عدلان دعوى شرعية على تقي الدين في عقيدته عند قاضي القضاة زين الدين في المجلس، وطالبه بالجواب فنهض تقي الدين قائمًا وقال: الحمد لله، وأرادَ أن يذكرَ خطبة ووعظًا، ويذكر عقيدته في أثناء ذلك، فقيل له: أجب عما أدُّعِيَ عليك به ودَعْ هذا فلا حاجة لنا بما تقول، فأراد أن يعيد القول في الخطبة فمُنِعَ وطُولِبَ بالجواب، فقال: عند من الدعوى عَلَيَّ؟ فقيل عند قاضي القضاة زين الدين المالكي، فقال هو عدوي وعدو مذهبي، فلم يرجع إلى قوله، ولما لم يأت بجواب أمر قاضي القضاة زين الدين باعتقاله على رد الجواب، فأقيم من المجلس واعتقل هو وأخواه شرف الدين عبد الله وعبد الرحمن وحُبِسُوا في برج، فتردد إليه بعض الناس فاتصل ذلك بقاضي القضاة زين الدين فأمر بالتضييق عليه، فنقل إلى الجب في ليلة عيد الفطر وكتب مثال شريف سلطاني وسير إلى دمشق في أمر تقي الدين والحنابلة، ونسخته (¬1): بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثيل، فقال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى/ 11] نحمده على أن ألهمنا العملَ بالسنة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير ¬

_ (¬1) هذا المرسوم صاغه فقهاء السلطة، وعلماء البدعة (المأجورون)، ولا غرابة فنظائره ماثلة، والتاريخ يُعيدُ نفسَه!!.

وينزه خالقه عن التحييز في جهة لقوله عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} [الحديد/ 4] ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر في آلاء الله، ونهى عن التفكر في ذاته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيد الله بهم من قواعد الدين الحنيف ماشرع، وأخمد بهم كلمةَ من حاد عن الحق ومال إلى البدع، وبعد: فإن العقيدة الشرعية وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العَلِيَّة ومذاهب الدين المرضية هي الأساس الذي يبنى عليه، والموئل الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق الذي من سلكها فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابًا أليمًا، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها وتصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف، وتُزَان قواعد الأمة بالائتلاف، وتغمد بواتر البدع، ويفرق من فرقها ما اجتمع، وكان التقي ابن تيمية في هذه المدة قد بَسَطَ لسانَ قلمه، ومدَّ عنان كَلِمِه، وتحدث في مسائل الذات والصفات، ونصَّ في كلامه على أمور منكرات، وتكلَّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاء بما تجنبه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، واتفق على خلافه إجماع العلماء والحكام، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام، وخالف في ذلك علماء عصره، وفقهاء شامه ومصره، وبعث رسائله إلى كل مكان، وسمَّى فتاويه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان. ولما اتصل بنا ذلك وما سلكه مريدوه من هذه المسائل وأظهروه، من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه استخف قومَه فأطاعوه، حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالرحف والصوت والتجسيم، قمنا في الله تعالى مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وأنِفْنا

أن يشيع عمن تضمه ممالكنا هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون وتلونا قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام/ 103] وتقدمت مراسمنا باستدعاء ابن تيمية المذكور إلى بابنا عندما سادت فتاويه شامًا ومصرًا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو همٍ إلا وتلا: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)} [الكهف/ 74] ولما وصل إلين، أمرنا بجمع أولي الحل والعقد، وذوي التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام وحكام الأنام، وعلماء الدين، وفقهاء المسلمين، وعُقِد له مجلس شَرْع، في ملأ من الأئمة وجَمْع، فثبت عند ذلك عليه جميع مانُسِب إليه، بمقتضى خط يده الدال على منكر معتقده، وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه عليه تالين: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} [الزخرف/ 19] وبلغنا أنه كان استتيب فيما تقدم، وأخرَّه الشرع الشريف لما تعرض لذلك وأقدم، ثم عاد بعد منعه، ولم تدخل تلك النواهي في سمعه، ولما ثبت ذلك في مجلس الحكم العزيز المالكي، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور ويُمْنع من التصرف والظهور ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ماسلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبه به في اعتقاد مثل هذا أو يغدو له في هذا القول متبعًا، ولهذه الألفاظ مستمعًا، أو يسرى في التجسيم مسراه، أو أن يفوه بجهة العلو مخصصًا أحدٌ كما فاه، أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف، أو يوسع القول في ذات أو وصف، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن طريق الحق المستقيم، أو يخرج عن آراء الأئمة، أو ينفرد عن علماء الأمة، أو يحيِّز الله في جهة، أو يتعرَّض إل حيث أو كيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا إلا السيف، فليقف كل أحد عند هذا الحد ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل

من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة، أو الخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به من التمسُّك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فإنه من خرج عن أمر الله تعالى فقد ضل سواء السبيل، وليس له غير السجن الطويل من مستقر ولا مقيل. رسمنا بأن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية وتلك الجهات بالنهي الشديد والتخويف والتهديد لمن يتبع ابن تيمية في الأمر الذي أوضحناه، ومن تبعه فيه تركناه في مثل مكانه وأحللناه ووضعناه من عيون الأمم كما وضعناه، ومن أصرَّ على الدفاع وأبى إلا الامتناع أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم وإسقاطهم من مراتبهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا قضاء ولا إمامة ولا شهادة ولا ولاية ولا رتبة ولا إقامة فإننا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد، وأبطلنا عقيدته التي أضل بها كثيرًا من العباد أو كاد، ولتكتب المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك، وتسير إلينا بعد إثباتها على قضاة الممالك، وقد أعذرنا وحذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا، وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أبلغ واعظ وزاجر، وأحمد ناهٍ وآمر، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، وكتب في ثامن عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة. ولما وصل هذا المثال إلى دمشق قُرِئ على المنابر كما رسم فيه وأُشْهِر وأُعْلن، وأما قاضي القضاة نجم الدين ابن صصري فإنه عومل بالإكرام وخلع عليه ونزل بدار الحديث الكاملية بقاعة التدريس بها، وأذن له السلطان أن يحكم بالقاهرة فأثبت مكاتيب كثيرة وجلس كتاب الحكم بين يديه، وخرجّت إسجالاته وشهدتُ عليه في بعضها، ثم عاد إلى دمشق على خيل البريد، وكان وصوله إليها في يوم الجمعة سادس ذي القَعْدة. وفي أثناء هذه الحادثة في غُضُون هذه المدة كان للحنابلة

في القاهرة مع قاضي القضاة زين الدين المالكي وقائع أُهيْن فيها بعض أعيانهم واعتقل وعزر بعضهم. وكان ممن تعصب لتقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة بالشام قاضي القضاة شمس الدين محمد ابن الحريري الحنفي، وأثبتَ محضرًا له مما هو عليه من الخير، وكتبَ في أعلاه بخطه ثلاثة عشر سطرًا يقول في جملتها: إنه منذ ثلاث مئة سنة ما رأى الناس مثله، وأراني قاضي القضاة زين الدين المالكي هذا المحضر، وغضب منه وسعى في عزل قاضي القضاة الحنفية بدمشق شمس الدين ابن الحريري، فعُزِل وفُوِّض قضاء القضاة الحنفية بدمشق بعده لقاضي القضاة شمس الدين محمد ابن إبراهيم الأذرعي الحنفي مدرس المدرسة الشبلية، فوصل تقليده إلى دمشق في ثاني ذي القَعْدة. وأما تقي الدين فإنه استمر في الجبِّ بقلعة الجبل إلى أن وصل الأمير حسام الدين مهنا إلى الأبواب السلطانية في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبع مئة فسأل السلطان في أمره وشفع فيه فأمر بإخراجه فأخرج في يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر، وأُحْضِر إلى دار النيابة بقلعة الجبل وحصل بحث مع بعض الفقهاء ثم اجتمع جماعة من أعيان العلماء ولم تحضره القضاة وذلك لمرض قاضي القضاة زين الدين المالكي، ولم يحضر غيره من القضاة، وحصل البحث وكتب خطه ووقع الإشهاد عليه وكتب بصورة المجلس مكتوب مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم شهد من يضع خطه آخره انه لما عقد مجلس لتقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني الحنبلي بحضرة المقر الأشرف العالي المولوي الأميري الكبيري العالمي العادلي السيفي ملك الأمراء سَلاَّر الملكي الناصري نائب السلطة المعظمة أسبغ الله ظله، وحضر فيه جماعة من السادة العلماء الفضلاء أهل الفتيا بالديار المصرية

بسبب ما نُقِل عنه وَوُجِد بخطُه الذي عرف به قبل ذلك من الأمور المتعلقة باعتقاده أن الله تعالى يتكلم بصوت وأن الاستواء على حقيقته وغير ذلك مما هو مخالف لأهل الحق، انتهى المجلس بعد أن جرت فيه مباحث معه ليرجع عن اعتقاده في ذلك إلى أن قال بحضور شهود: أنا أشعري ورفع كتاب الأشعرية على رأسه وأشهد عليه بما كتب به خطًا وصورته: الحمد لله، الذي أعتقده أن القرآن معنى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت، كتبه: أحمد ابن تيمية، والذي اعتقده من قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه/ 5] أنه على ما قاله الجماعة، أنه ليس على حقيقته وظاهره، ولا أعلم كُنْهَ المراد منه بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى. كتبه احمد بن تيمية. والقول في النزول كالقول في الاستواء أقول فيه ما أقول فيه ولا أعلم كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله تعالى، وليس على حقيقته وظاهره، كتبه: أحمد ابن تيمية وذلك في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة. هذا صورة ماكتب به بخطه، وأشهد عليه أيضًا أنه تاب إلى الله تعالى مما ينافي هذا الاعتقاد في المسائل الأربع المذكورة بخطه (¬1) وتلفظ بالشهادتين المعظمتين وأشهد عليه أيضًا بالطواعية والاختيار في ذلك ووقع ذلك كله بقلعة الجبل المحروسة من الديار المصرية حرسها الله تعالى بتاريخ يوم الأحد الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وشهد عليه في هذا المحضر جماعة من الأعيان المُفْتين والعدول، وأفرج عنه واستقر بالقاهرة بدار شقير، ثم عُقد له مجلس ¬

_ (¬1) فصلنا القول في هذا الرجوع والمكتوب، وبينا كذبه واختلاقه في مقدمة الطبعة الثانية ص/ 39 - 47.

ثالث بالمدرسة الصالحية بالقاهرة في يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر وكتب بخطه نحو ماتقدم ووقع الإشهاد فيه عليه أيضًا، وسكن الحال مدة ثم اجتمع جماعة من المشايخ والصوفية مع الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله في نحو خمس مئة نفر وتبعهم جمع كثير من العوام وطلعوا إلى قلعة الجبل في العشر الأوسط من شوال من السنة، واجتمع الشيخ المذكور وأعيان المشايخ بنائب السلطان وقالوا: إن تقي الدين يتكلم في حق مشايخ الطريقة وأنه يقول: لا يُسْتغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إلى قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الشافعي، واقتضى الحال أن رُسِمَ بتفسيره إلى الشام على خيل البريد فتوجه وكان قاضي القضاة زين الدين المالكي في ذلك الوقت في حال شديدة من المرض وقد أشرف على الموت، فبلغه ذلك عقيب إفاقة من غشي كان قد حصل له فأرسل إلى الأمير سيف الدين سلاَّر وسأله في رده فأمر برده إلى القاهرة فتوجه البريد وأعاده من مدينة بلبيس فوصل وقاضي القضاة زين الدين مغلوب بالمرض فأرسل إلى نائبه القاضي نور الدين الزواوي فحضر به إلى مجلس قاضي القضاة بدر الدين وحررت الدعوى عليه في أمر اعتقاده وما وقع منه، فشهد عليه الشيخ شرف الدين ابن الصابوني، وقيل: إن الشيخ علاء الدين القُوْنوي يشهد عليه فاعتقل بسجن الحاكم بحارة الديلم وذلك في ثامن عشر شوال سنة سبع وسبعمائة، واستمر به إلى سلخ صفر سنة تسع وسبع مئة، فأُنهيَ عنه أن جماعة يحضرون إليه بالسجن وأنه يَعِظُهم ويتكلَّم في أثناء وعظه بما يشبه ماتقدم من كلامه، فأمر بنقله إلى ثغر الإسكندرية واعتقاله هناك، فجهز إلى الثغر في هذا التاريخ وحبس ببرج شرقي واستمر به إلى أن عادت الدولة الناصرية، ثالثًا فتحدث مع السلطان في يوم السبت ثامن عشر شوال سنة تسع وسبع مئة فأكرمه السلطان وجمع القضاة وأصلح بينه وبين قاضي القضاة

زين الدين المالكي فأشرط عليه قاضي القضاة أن يتوب عما تقدم من الكلام فيه ويتوب عنه ولا يعود إليه، فقال السلطان: قد تاب وانفصل المجلس على خير، وسكن الشيخ تقي الدين بالقاهرة ببعض القاعات، وتردد الناس إليه واستمر إلى أن توجه السلطان إلى الشام في سنة ثنتي عشرة وسبع مئة، فتوجه بِنيَّة الغزاة، وأقام بدمشق إلى أن سطرنا هذه الأحرف في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وكان له في غضون هذه المدة بدمشق وقائع نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى، ولنرجع إلى تتمة سياقة الحوادث في سنة خمس وسبعمائة. ذكر اعتقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية وفي هذه السنة (¬1) - في يوم الاثنين السادس من شعبان - اعْتُقِل الشيخ تقي الدين أحمد بن تَيْميَّةَ بقلعة دمشق المحروسة، حسب الأمر الشريف السلطاني، واعْتُقِل معه أخوه زين الدين عبد الرحمن، ومنع من الفُتْيا واجتماع الناس به. وسبب ذلك: أنه أفتى أنه لا يجوز زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قبر إبراهيم الخليل، ولا غيرهما من قبور الأنبياء والصالحين (¬2)، وتوجه بعض أصحابه وهو الشمس محمد بن أبي بكر إمام المدرسة الجَوْزية (¬3) في هذه السنة لزيارة البيت المقدس، فرقى منبرًا في حرم القدس الشريف، ووعظ الناس وذكر هذه المسألة في أثناء وعظه، وقال: ها أنا ¬

_ (¬1) سنة 726. (¬2) لم يمنع الشيخ الزيارة، بل منع شد الرحل، وهذا واضح في جميع كتبه لكل ذي عينين!!. (¬3) هو ابن القيم -رحمه الله-.

من هنا أرجع ولا أزور الخليل، وجاء إلى نابُلُسَ، وعمل مجلس وعظ، وأعاد كلامه، وقال: ولا يزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يزار إلا مسجده، فقصد أهل نابلس قتله، فحال بينهم وبينه مُتَوَلِّيها، وكتب أهل القدس وأهل نابلس ودمشق بما وقع منه، فطلبه قاضي القضاة شرف الدين المالكي، فتغيب عنه، وبادر بالاجتماع بقاضي القضاة شمس الدين محمد بن مسلم الحنبلي قاضي الحنابلة، وتاب عنده، وقبل توبته، وحَقَن دمَه، ولم يُعَزِّره. فنهض الفقهاء بدمشق عند ذلك، وتكلموا على الشيخ تقي الدين، وكتبوا فتيا تتضمن ماصدر منه، وذكروا هذه المسألة وغيرها، فأفتى العلماء بكفره!! وعُرِضت الفتيا على نائب السلطنة بالشام، الأمير سيف الدين تنكز، فطالع السلطان بذلك، فجلس السلطان في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رجب بالميدان الذي هو بذيل قلعة الجبل، وأحضر القضاة والعلماء، وعرض عليهم ماورد في أمره من دمشق، فأشار قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي باعتقال تقي الدين المذكور، فرسم باعتقاله ومنعه من الفتيا، ومنع الناس من الاجتماع به، وأن يُؤَدَّب من هو على معتقده، وتوجيه البريد بذلك، فوصل إلى دمشق في يوم الاثنين سادس شعبان، فاعتقل، وقرئ المثال السلطاني بعد صلاة الجمعة العاشر من الشهر على السدة بجامع دمشق. ثم طلب قاضي القُضاة القزويني جماعةً من أصحاب تقي الدين في يوم الجمعة الرابع والعشرين من الشهر إلى المدرسة العادلية، وكانوا قد اعْتُقِلوا بسجن الحكم، فادُّعِيَ على العماد إسماعيل (¬1) صهر الشيخ ¬

_ (¬1) هو الإمام ابن كثير، صاحب التفسير.

جمال الدين المِزِّي أنه قال: إن التوراة والإنجيل لم يُبَدَّلا، وأنهما كما أنزلا، فأنكر، فشهد عليه بذلك، فضرب بالدِّرّة، وأشهر وأطلق. وادعى على عبد الله الإسكندري، والصلاح الكتبي (¬1)، وغيرهما بأمور صدرت منهم، فثبت ذلك عليهم، فضربوا بالدِّرَّة، وأُشْهِروا في البلد. وطُلِب الشمسي إمام المدرسة الجوزية، وسئل عما صدر منه في مجلس وعظه بالقدس ونابلس، فأنكر ذلك، فشهد عليه من حضر مجلسيه بما تلفظ ممن كان قد توجه من عدول دمشق لزيارة البيت المقدس، فثبت ذلك عليه فضُرِبَ بالدرة، وأُشْهِر على حمار بدمشق والصالحية، وقُيِّد، واعتُقِل بقلعة دمشق، فلم يزل في الاعتقال إلى يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين، فأفرج عنه في هذا اليوم، وحضر إلى قاضي القضاة الشافعي، فشرط عليه شروطًا، فالتزمها، وأُطْلِق. وفيها (¬2) في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة ورد مرسوم شريف سلطاني إلى دمشق بمنع الشيخ تقي الدين أحمد ابن تيمية من الكتابة مطلقًا في التصنيف والفتيا، فأخذ ما عنده من الكتب والأوراق والدواة والأقلام وأُوْدِع ذلك عند متولي قلعة دمشق، فكان عنده إلى مستهل شهر رجب، ثم أرسل المتولي ذلك إلى قاضي القضاة علاء الدين، فجعل الكتب في خزانة المدرسة العادلية، لأنها كانت عارية، وأما الأوراق التي كانت بخطه من تصانيفه فكانت نحو أربع عشرة ربطة، فنظر القضاة والفقهاء فيها، وفُرِّقت بينهم. ¬

_ (¬1) هو ابن شاكر الكتبي المؤرِّخ. (¬2) سنة 728، وهو في الحبس.

وكان سبب ذلك أنه وجد له جواب عما رده عليه قاضي القضاة تقي الدين المالكي، فأعلم السلطان بذلك، فاستشار قاضي القضاة، فأشار بذلك، فرسم به، فحينئذ عدل الشيخ عن ذلك إلى تلاوة القرآن. وفيها (¬1) في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صاحبها عن العشرين من ذي القَعْدة كانت وفاة الشيخ العالم الورع تقي الدين أحمد ابن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي في معتقله بدمشق، ومرض سبعة عشر يومًا، ولما مُنع من الكتابة والتصنيف عكف على تلاوة كتاب الله تعالى، فيقال إنه قرأ ثمانين ختمة، وقرأ من الحادية والثمانين إلى سورة الرحمن، وأكملها أصحابه الذين دخلوا عليه حال غسله وتكفينه، وتولى غسله مع المغسل الشيخ تاج الدين الفارقي، والشيخ شمس الدين بن إدريس، وصُلِّيَ عليه في عدة مواضع؛ فصلى عليه أولاً بقلعة دمشق وأم الناس في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمَّام الصالحي الحنبلي، ثم حُمِل إلى الجامع الأموي، ووضعت جنازته في أول الساعة الخامسة، وامتلأ الجامع بالناس، وغلقت أسواق المدينة، وصلى عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل وأخرج من باب الفرج، وازدحم الناس حتى تفرَّقوا في أبواب المدينة وصُلِّيَ عليه بعد صلاة الظهر، ثم حمل فخرجوا من باب النصر وباب الفراديس وباب الجابية، وامتلأ سوق الخيل بالناس، وصُلِّي عليه مرة ثالثة وأم الناس في الصلاة عليه أخوه الشيخ زين الدين عبد الرحمن، وحُمِل إلى مقبرة الصوفية، فدُفِن قريبًا من وقت العصر لازدحام الناس عليه. ¬

_ (¬1) سنة 728.

ومولده بحران في يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم مع والده في حال صغره، واشتغل عليه وسمع من جماعة من المشايخ، وكان شيخًا حافظًا مُفْرِط الذكاء، حسن البديهة، وله تصانيف كثيرة منها ما ظهر، ومنها مالم يظهر، وشهرته بالعلم تغني عن بَسْط القلم فيه، وكان علمه أرجح من عقله (¬1)، وقد قدمنا من أخباره ووقائعه ما يغني عن إعادته، وكانت مدة اعتقاله من يوم الاثنين سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة إلى حين وفاته سنتين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، رحمه الله تعالى. ولما مات أُفْرِج عن أخيه الشيخ زين الدين عبد الرحمن في يوم الأحد سادس عشرين ذي القَعْدة، وكان قد اعتقل معه، فلما مات كان يخرج في كل يوم إلى تربة أخيه، ويعود عشية النهار يبيت بقلعة دمشق، إلى أن حضر نائب السلطنة من الصيد، فأفرجَ عنه. ¬

_ (¬1) كلمة قالها الجزري، فنلقَّفها من بَعْده، وقد قال الذهبي عن تاريخ ابن الجزري: "وفي تاريخه عجائب وغرائب"! اهـ. انظر: "ذيل تاريخ الإسلام": (ق / 102 ب).

5 - أجوبة ابن سيد الناس اليعمري عن سؤالات ابن أيبك الدمياطي

أجوبة ابن سيِّد النّاس اليَعْمَري عن سؤالات ابن أَيبك الدمياطي (¬1) للعلامة/ أَبي الفتح ابن سيِّد النَّاس اليَعْمَرِي (734) [قال ابن سيِّد الناس، بعد ثنائِه على المزِّي:] وهو الذي حداني على رؤية شيخ الإسلام: تقي الدين أَبي العباس أَحمد بن عبد الحليم بن تيمية. فألفيته ممن أدرك من العلم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا. إِنْ تكلَّم في التفسير؛ فهو حامل رايته، أَو أفتى في الفقه؛ فهو مُدْرك غايته، أو ذاكر بالحديث؛ فهو صاحب علم وذو روايته، أَو حاضر بالنِّحل والملل؛ لم يُر أَوسع من نِحْلَتِه في ذلك ولا أَرفع من درايته، برز في كل فنِّ على أَبناء جِنسه، ولم تر عين ما رآه مثله، ولا رأَت عينه مثل نفسه. كان يتكلم في التفسير؛ فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويَرِدون من بحر علمه العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أَنْ دبَّ إِليه من أَهل بلده داء الحسد، وأَكبَّ أَهل النظر منهم على ما يُنْتقد عليه في حنبليته من أُمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا؛ أَوسعوه بسببه ملامًا، وفوَّقوا لتبديعه سِهامًا. وزعموا أَنَّه خالف طريقتهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، ¬

_ (¬1) (2/ 221 - 224) تحقيق د/ محمد الراوندي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، 1410.

وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إِلى طريقةٍ، ويزعمون أَنهم على أدقَّ باطن منها وأَجْلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها - على ما زعم - بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أَمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتَّبوا محاضر، وأَلَّبوا الرويبضة للسَعي بها بين الأكابر، وسعوا لفي نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية فنُقِل، وأُودع السجن ساعةَ حضوره واعتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من عُمَّار وسكَّان المدارس، من مجامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص/ 69]. وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبّت إِليه عقارب مكره فردّ الله كيد كلٍّ في نحره، ونجاه على حد من اصطفا، والله غالب على أًَمره. ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إَلا إلى محنة، إلى أن فوِّض أمره لبعض القضاة فتقلَّد ما تقلَّد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى ربه تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كلِّ فجٍّ عميق، يتبركون بمشهده يوم تقوم الأَشهاد، ويتمسكون بشرجعه (¬1) حتّى كسروا تلك الأَعواد!! وذلك في ليلة العشرين من ذي ¬

_ (¬1) أي: سريره. وهذا التبرُّك محرمٌ شرعًا! وهذا ما بيَّنه شيخ الإسلام في كتبه. انظر: "مجموع الفتاوى": (26/ 121).

القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بقلعة دمشق المحروسة، وكان مولده بحرَّان في عاشر شهر ربيع الأَوَّل من سنة إحدى وستين وست مئة - رحمه الله وإِيَّانا -. قرأت على الشيخ الإمام حامل راية العلوم، ومدرِك غاية الفهوم؛ تقي الدين أَبي العباس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية - رحمه الله - بالقاهرة - قدِم علينا - قلت: أَخبركم الشيخ الإِمام زين الدين أَبو العباس أَحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي. ح قال أبو الفتح: وأَخبرنا الشيخان أبو الفرج عبد اللطيف إِجازة، وأَخوه أبو العز عبد العزيز سماعًا غير مرة قالوا: أنا أَبو الفرج عبد المنعم ابن عبد الوهاب بن سعد بن صدقة بن كليب. قال ابن عبد الدائِم وعبد اللطيف: سماعًا، وقال عبد العزيز: إِجازة. قال: أَنا أبو القاسم علي بن أَحمد بن محمد بن بيان الرزاز قراءة عليه وأنا أَسمع، قال: أَنا أَبو الحسن محمد بن محمد بن مخلد قال: أَنا أبو علي إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل الصفَّار، ثنا أبو علي الحسن بن عَرَفَة العبدي، ثنا إِسماعيل بن عيّاش عن بحير بن سعد الكلاعي عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة الحضرمي عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة». رواه أبو داود في الصلاة عن أَبي بكر بن أبي شيبة، والترمذي عن ابن عرفة كلاهما عن إِسماعيل بن عيَّاش، وقال: حسن غريب. فوقع لنا موافقة عالية للترمذي، وبدلاً لأَبي داود.

6 - تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه

تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفيات الأكابر والأعيان من أبنائه (¬1) لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الجزري القرشي (739) في يوم الاثنين السادس من شعبان (سنة 726) قدم البريد من مصر إلى دمشق وعلى يده مرسوم سلطاني أن يعتقل الشيخ تقي الدين ابن تيمية، فلما كان بعد صلاة العصر حضر ناصر الدين مشد الأوقاف، والأمير بدر الدين (أمير مسعود) (¬2) ابن الخطير الحاجب إلى عند الشيخ وعرَّفوه صورة الحال، فأظهر أن في هذا خير كثير (¬3)، وأحضروا له مركوبًا، فركب معهم إلى قلعة دمشق، فأخليت له دار يجري إليها الماء، وكان في جملة المرسوم أن يكون معه ولد أو أخ وخادم يخدمه، وأن يُجرى عليهم كفايتهم، فاختار أخوه زين الدين عبد الرحمن المقام معه لخدمته. وكان السبب في ذلك أنه قد أفتى فتيا وذكر فيها (أنه) (¬4) ¬

_ (¬1) 2/ 111 - 114، 123، 263 - 264، 273، 306 - 310، نشر المكتبة العصرية- بيروت 1419، ط. الأولى، تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري. والحواشي المثبتة من المحقق. (¬2) عن الهامش. (¬3) كذا، والصواب: "خيرًا كثيرًا". (¬4) عن الهامش.

لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث (¬1) مساجد. الحديث المشهور. وأن زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام لايشد إليها الرحال كقبر أبونا (¬2) إبراهيم الخليل والنبي عليه السلام وغيرهما من الأنبياء والصالحين صلى الله عليهم أجمعين. واتفق أن الشمس محمد إمام الجوزية (¬3) سافر إلى القدس الشريف ورَقَا في الحرم على منبر ووعظ، وفي أثناء وعظه ذكر هذه المسألة، وقال: ها أنا هاهنا أرجع ولا أزور الخليل إساءة أدب عليه صلى الله عليه وسلم. وجاء إلى نابلس وعُمِل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى أنه قال: ولا يزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسجده، فقاموا (¬4) عليه الناس، فحماه منهم والي نابلس سيف الدين بهادر، وكتبوا أهل القدس ونابلس إلى دمشق يعرفوهم (¬5) صورة ماوقع منه، فطلبه القاضي المالكي، فتودد منه وطلع إلى الصالحية إلى القاضي الحنبلي وتاب عليه يديه وأسلم، فقبل توبته وحكم بإسلامه وحَقْن دمه لم يعزره لأجل الشيخ. فحينئذ قامت الفقهاء الشافعية والمالكية وكتبوا فتيا في الشيخ تقي الدين بن تيمية لكون أنه هو أول من تكلم بهذه المسألة وغيرها، فكتب عليها الشيخ الإمام برهان الدين (أبي (¬6) إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين عبد الرحمن الفزاري الشافعي) (¬7) نحو أربعين سطرًا بأشياء كثيرة أنه ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: "ثلاثة". (¬2) كذا، والصواب: "أبينا". (¬3) انظر عن المدرسة الجوزية في: الدارس 2/ 23، ومنادمة الأطلال 227. (¬4) كذا، والصواب: "فقام". (¬5) الصواب: "يعرفونهم". (¬6) كذا، والصواب: "أبو". (¬7) ما بين القوسين عن الهامش.

يقولها ويفتي بها، وآخر الكلام أفتى بتكفيره، ووافقه شهاب الدين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه، وكذلك الصدر المالكي، وغيرهم، وحملت الفتيا إلى نائب السلطنة، فأراد أن يُعقد لهم مجلس ويُجمع القضاة والعلماء في ذلك، فرأى أن الأمر يتسع الكلام فيه، ولابد من إعلام السلطان، فأخذ الفتوى وجعلها في المطالعة، وسيرها إلى السلطان، عز نصره، فجمع لها القضاة، ولم يحضر المالكي فإنه كان مريضًا، فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكتب على ظهرها: القائل بهذه المقالة صال مُضِلّ (¬1) مبتدع، ووافق الحنفي والحنبلي، فقال الأمير بهادر لقاضي القضاة بدر الدين: ما ترى في أمره؟ فقال: يُحبس، فإنه من العلماء وقد أفتى، فقال مولانا الناصر، عز نصره: وكذا كان في نفسي أن أفعل به، فكتب إلى نائب السلطنة بما اعتمده من حبسه، وفي (يوم) (¬2) الجمعة عاشر شعبان بعد (صلاة) (¬3) الجمعة قرئ كتاب السلطان على السُّدَّة في حديثه. وفي يوم الجمعة الرابع والعشرين من شعبان قعد قاضي القضاة جلال الدين بعد الصلاة بالمدرسة العادلية (¬4)، وأحضروا جماعة من جماعة تقي الدين بن تيمية كانوا معتقلين في حبس الشرع، فادُّعي على العماد إسماعيل صهر جمال الدين المزي أنه قال: إن التوراة والإنجيل مابدلت وإنها بحالها كما أنزلت، وشهدوا عليه، وثبت ذلك في وجهه، فعُزِّر بالمجلس بالدرة، وأخرج طيف به، ونادوا: هذا جزاء من قال ¬

_ (¬1) في الأصل: "طال مطل". (¬2) عن الهامش. (¬3) عن الهامش. (¬4) هي العادلية الكبرى بدمشق. انظر عنها في: الدارس 1/ 271، ومنادمة الأطلال 123.

إن التوراة والإنجيل مابدلت، وبعد ذلك سيبوه. وأحضر عبد الله الإسكندري وادُّعي عليه أنه قال عن مؤذني الجوامع: هؤلاء كفرة، أو أنهم كفار بسبب أنهم يقولوا (¬1) في المنارة: ألا يارسول الله أنت وسيلتي، وشيء (¬2) آخر من هذا الجنس. فذكر أنه اعترف بذلك وبغيره عند قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي، وأنه أسلم على يده وقبل توبته وحقن دمه، وأبقى على جهاته وزوجتيه، فسيروا إلى الحنبلي يسألوه (¬3) عن ذلك. وأحضر بعده الصلاح الكتبي (¬4) وادُّعي عليه أنه قال: لا فرق بين حجارة سقاية جيرون (¬5) وحجارة صخرة بيت المقدس، فأنكر فقامت عليه البينة بذلك. وأحضر بعدهم إمام الجوزية الشمس محمد بن أبي بكر الذي عمل الفتنة من أصلها وادُّعي عليه في المجلسين الذين (¬6) عملهما بالقدس الشريف ونابلس فأنكر، وكان من قطوعه أنه قد سافر جماعة من أهل دمشق كلهم فقهاء وعدول، من جملتهم مدرس الطرخانية الحنفية (¬7) وغيره، فحضروا مجلسه بنابلس، فأنكر، فشهدوا عليه بما قال، وثبت ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: "يقولون". (¬2) كذا، والصواب: "وشيئًا". (¬3) كذا، والصواب: "يسألونه". (¬4) هو المؤرخ محمد بن شاكر بن أحمد المتوفى سنة 764 هـ. صاحب: عيون التواريخ، وفوات الوفيات. (¬5) جيرون، قربة من غوطة دمشق. (¬6) كذا، والصواب: "اللذين". (¬7) انظر عن المدرسة الطرخانية في: الدارس 1/ 415، ومنادمة الأطلال 179.

ذلك، وجاء الحنبلي إلى عند ملك الأمراء وقال: أمنا حكمت بإسلامهم وهو مظلومين (¬1) بحبسهم فنازعوه (¬2) القضاة، وجرى أمور يطول شرحها. وأخذوا (¬3) المالكية إمام الجوزية إلى حبسهم، فعاد الحنبلي سيرًا إلى قاضي القضاة جلال الدين يسأله أن يتم المسلّم عنده ولا يؤديهم إلى المالكي، فعاد جلال الدين عزَّر عبد الله الإسكندري على حمار غير مقلوب، والصلاح الكتبي، وآخر أساء الأدب، وقال: كل من قال عن ابن تيمية شيء (¬4) فهو كاذب وأضربه بمداس، وضربوهم جميعهم بالدرة في قُفِيِّهم على الحمير وردوا إلى الحبس، وأحضر بعدهم إمام الجوزية وعزَّره عنده بالعادلية بالدرة، ثم أركبه حمار وطاوفه (¬5) البلد، وراحوا به إلى الصالحية، وآخر النهار رد إلى الحبس، وأعلموا نائب (¬6) السلطنة بما فعلوه. وبعد ذلك حضر (ناصر الدين) (¬7) مشد الأوقاف تسلَّم إمام الجوزية وودّاه إلى القلعة فحبس المذكور مقيدًا، وسيَّبوا الباقي، وسكنت القضية. وفي تاسع ذي القعدة قدم نائب السلطنة إلى دمشق من الصيد والقنص، وسير الحاجب بدر الدين الخطير إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى الحبس مرتين، ولم يعلم ماجرى. ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: "وهم مظلومون". (¬2) كذا، والصواب: "فنازعه". (¬3) في الأصل: "وأخذ". (¬4) كذا، والصواب: "شيئًا". (¬5) كذا، والصواب: "حمارًا وطوّفه". (¬6) كُتبت في آخر الصفحة السابقة ثم شطب فوقها. (¬7) فوق السطر.

وفي يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة سير نائب السلطنة للقاضي جمال الدين (يوسف) (¬1) بن جملة الشافعي نائب الحكم العزيز، وناصر الدين مشد الأوقاف (للشيخ تقي الدين بن تيمية) وسألوه عما أفتا (¬2) وما يعتقده فكتب بخطه ثمانين سطرًا بصورة ما أفتى وما يعتقده وغير ذلك، فسيرها ملك الأمراء طي مطالعته للسلطان، عز نصره. وفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة (728) ورد المرسوم السلطاني بمنع الشيخ تقي الدين بن تيمية أن يصنف أو يكتب، فحضر إليه من أخذ جميع ما كان عنده من كتاب وورق ومن دواة وأقلام، وتركت عند والي القلعة إلى مستهل رجب سيرها متولي القلعة إلى عند قاضي القضاة علاء الدين (القونوي) (¬3) الشافعي، فجعل الكتب في خزانة العادلية لأن أكثرها كانت عند الشيخ عارِية، والرزم التي بخطه وتصنيفه طالعوها حتى يردوا عليه ماقاله خلاف الإجماع. وكان سبب ذلك أنه رد على قاضي القضاة (تقي الدين الإخنائي) (¬4) المالكي بالديار المصرية في كتاب كان قد صنفه في الزيارة، وجرى حديث يطول شرحه وتفصيله، وكان له في ذلك خيرة كبيرة لأنه اشتغل بالصلاة وتلاوة القرآن الكريم إلى حيث مات، رحمه الله تعالى وإيانا (¬5). ¬

_ (¬1) عن الهامش. (¬2) عن الهامش. (¬3) عن الهامش. (¬4) عن الهامش. (¬5) الخبر في: البداية والنهاية 14/ 134.

وفي يوم الأحد سادس عشرين ذي القعدة (728) أفرج عن الشيخ زين الدين عبد الرحمن أخو (¬1) الشيخ تقي الدين بن تيمية، وكان من بعد موت أخيه كل ليلة يروح يبات في القلعة بسبب غيبة نائب السلطنة في الصيد، ولما حضر أفرج عنه. وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة (سنة 728) تُوفّي الشيخ الإمام، العالم، العامل، العلامة، الزاهد، العابد، الورع، الخاشع، الناسك، القدوة، العارف، المحقق، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبو (¬2) البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي بقلعة دمشق، في القاعة التي كان محبوسًا فيها الثلث الأخير من الليل، وكان له مدة سبع (¬3) عشر يومًا بالحمى. كذا أخبرني أخوه الشيخ زين الدين عبد الرحمن، وذكر لي أن من حيث منع من الكتابة والتصنيف (في يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة) (¬4) قرأ إحدى وثمانين ختمة، وكان قد بقي من الختمة الأخيرة من سورة الرحمن إلى الحمد، فقرأ أصحابه الذين دخلوا إليه ليبصروه قبل تغسيله وإلى حيث فرغ من غسله وتكفينه تمام الختمة المباركة إن شاء الله تعالى. والذي تولى غسله مع المغسل الشيخ الصالح تاج الدين (محمود) (¬5) ¬

_ (¬1) الصواب: "أخي". (¬2) الصواب: "أبي". (¬3) الصواب: "سبعة". (¬4) عن الهامش. (¬5) عن الهامش.

الفارقي، والشيخ شمس الدين ابن الرزير خطيب جامع كريم الدين، فغسلوه، وكفنوه، وتقدم في الصلاة عليه الشيخ الصالح محمد بن تمام الصالحي الحنبلي، وصلى عليه جميع من في قلعة دمشق، ثم حمل وأخرج منها إلى جامع دمشق، ووضعت الجنازة أول الخامسة، وقد امتلأ الجامع بالناس، وغلقت جميع أسواق دمشق ولم يبق حانوت مفتوح، إلا أن يكون نصراني (¬1)، لأن اليهود كانوا في عيد المظلة. وأما دكاكين المراوزة والحريريين والقزازين وجميع أرباب الأنوال والحاكة والصناع، وجميع أرباب الصنائع، وسكان الأحكار ظاهر دمشق، وأهل الصالحية بأجمعهم حضروا إلى الجامع المعمور لأجل الصلاة عليه، وامتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، لأن أهل الصالحية من أهل الأحكار يصلون يوم الجمعة في جوامعهم، وفي هذا اليوم حضروا إلى الجامع بأجمعهم، ولعل من لا له عادة بالصلاة حضر لأجل الصلاة عليه، وصلى عليه (قاضي القضاة الشيخ علاء الدين القونوي الشافعي) (¬2) عقيب صلاة الظهر بالجامع، ثم حضروا (¬3) الأمراء والحجاب والنقباء بالعصي والدبابيس حول نعشه، وحملوه (¬4) الترك من الأمراء والمقدمين على رؤوسهم تبركًا به، والأجناد يضربون الناس، ولولا ذلك لما قدروا يصلوا به إلى قبره من كثرة الزحام والتبرك به. وكانت سويقة باب البريد قد أخربوها، فشق على الناس ذلك، وحملوه وخرجوا به من باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية من ¬

_ (¬1) الصواب: "نصرانيًّا". (¬2) عن الهامش. (¬3) الصواب: "حضر". (¬4) الصواب: "حمله".

كثرة الناس. وامتد العالم إلى سوق الخيل وامتلأ، فصلى عليه أخوه زين الدين عبد الرحمن، ثم حمل من سوق الخيل فمُرَّ به تحت القلعة المحروسة. والله العظيم، لقد رأيت الناس قاعدين على الطريق يمينًا وشمالاً، الرجال والنساء مختلطين كأنهم ينتظرون عبور السلطان، ومنهم من يبكي، ومنهم من يضج ويصيح، ومن يتأسف، ومنهم من يتفرج. فلما وصلت إلى مقبرة الصوفية رأيتها وقد امتلت بالعالم، وقد حفروا قبره إلى جانب أخيه الشيخ شرف الدين. وحضر أخوه زين الدين وحوله نُقباءُ يحموه (¬1) من الناس، حتى شاهد القبر قبل وضع أخيه، وتأخرت الجنازة إلى قريب العصر حتى وضع في قبره وألحدوه وطم عليه ولقنوه، وبعد ذلك انصرف الناس أولاً بأول متأسفين عليه. وكنت من حيث حضرت إلى الجامع المعمور شرعت في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فقريت (¬2) إلى حيث دفن وانصرفت من عند قبره ألف مرة ومائة مرة وأحد عشر (¬3) مرة، قل هو الله أحد، والمعوذتين، وفاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وأهديت ثواب ذلك جميعه إليه، وطلبت له من الله تعالى المغفرة والمفاداة والرضوان، ووصلت إلى بيتي أذان العصر. وبعد انصرافي ذكروا أن بعض الأمراء أحضروا خيمة كبيرة نصبت على قبره، وحضر جماعة من القراء وختموا على قبره. وأنه أحضر لهم مأكول كثيرًا (¬4) من الطعام وغيره، وحضروا بكرة النهار وتُليت ختمات كثيرة عند قبره، وفي الصالحية، وفي بيوت أصحابه، ¬

_ (¬1) الصواب: "يحمونه". (¬2) الصواب: "فقرأت". (¬3) الصواب: "إحدى عشرة". (¬4) الصواب: "كثير".

وإهدي ثوابها له، وتردد الناس إلى قبره أيام (¬1) كثيرة. ورأوا له منامات صالحة كثيرة لم أضبطها. مولده يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران، وقدم مع والده إلى دمشق صغيرًا، واشتغل عليه، وسمع منه، ومن الشيخ شمس الدين ابن أبي عمر، ومن شمس الدين ابن عطاء، ومن شمس الدين بن علان، وابن أبي اليسر، وابن عبد، وابن عبد الدائم، وابن البخاري، وابن الواسطي، وابن الصيرفي، وابن المقداد، والهروي، وابن عساكر، وجماعة كثيرة. وأجاز له جماعة، وقرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث، وكتب الطباق، ولازم السماع مدة سنين، واشتغل بالعلوم على والده وغيره، وحصل في أول وقت ما لا حصّله غيره في سنين كثيرة. وكان عنده ذكاء مفرط، وبديهة حسنة، وعنده طرف جيد من التفسير، والفقه، والأصول، والنحو، واللغة، والخلاف، فكان فيه إمامًا ماهرًا، وأما علوم الحديث فكان يعرف الحديث الصحيح من السقيم، ويذكر رجاله، العدل فيهم والضعيف، وهو في ذلك إمامًا مبرزًا (¬2). وكان في أكثر العلوم له فيها اليد الطولى. وصنف تصانيف كثيرة في علوم شتَّى. وكان علمه أكثر من عقله (¬3). وكان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، ومن ذكره كان دائمًا يقول: ياحي ياقيوم، برحمتك أستغيث، لا إله إلا أنت ياذا الجلال والإكرام، ثم يشخص إلى السماء حتى يغيب بكليته. وكان من غرائب الزمان وعجائبه. ¬

_ (¬1) الصواب: "أيامًا". (¬2) الصواب: "إمام مبرز". (¬3) سبق التعليق على هذه العبارة ص/ 187.

عاش سبع وستون (¬1) سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام، وخرج من بطن أمه يوم الاثنين وحبس الآن يوم الاثنين سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة، فيكون مدة اعتقاله سنتين وثلاث (¬2) شهور وخمس عشرة (¬3) يومًا، وبينه وبين أخيه الشيخ شرف الدين عبد الله سنة وستة أشهر وأربعة أيام، لأنه توفي في الرابع عشر من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة، رحمهم الله تعالى وإيانا والمسلمين أجمعين. (شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، حافظ وقته، ومحدث زمنه، له اليد العالية في العلوم، صالحًا زاهدًا ورعًا متقشفًا متقيًا (¬4)، قائم بالحق آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم. [له] الفتاوى المشهورة والتصانيف المذكورة. لم يكن في وقته أحفظ منه، ولا لنقل في التفسير وأقوال العلماء فيه، ولا في الحديث واختلاف الصحابة منه، ولا في الفقه واختلاف الفقهاء منه) (¬5). ¬

_ (¬1) الصواب: "سبعًا وستين". (¬2) الصواب: "وثلاثة". (¬3) الصواب: "وخمسة عشر". (¬4) الصواب: "صالح زاهد ورع متقشف متق". (¬5) ما بين القوسين كُتب على هامش الصفحة 128 من المخطوط.

7 - المقتفي لتاريخ أبي شامة

المُقْتَفِي لتاريخ أبي شامة (¬1) تأليف: علم الدين القاسم بن محمد البرزالي (739) وفي يوم السبت منتصف ربيع الآخر (سنة 699) شرع في نهب الصالحية والعيث والفساد فيه، وكسروا الأبواب وقلعوا الشبابيك وأخذوا بسط الجامع، وحصل لهم في الصالحية شيء كثير من القمح والذخائر والمطعومات والكتب، والتجأ الناس إلى دير الحنابلة من جوانب الصالحية، فاحتاط التتار به يوم الثلاثاء ثامن عشر ربيع الآخر، ودخلوا إليه ونهبوا منه، وخرج إليهم في هذا اليوم يوم الثلاثاء شيخ المشايخ المذكور وجماعة (¬2) بين الظهر والعصر، فأدركوا وردوا عنهم وهرب التتار بين أيديهم وتوجهوا إلى قرية المزة فنهبوا وأسروا وتوجهوا إلى داريا فدخل أهلها إلى الجامع فاحتاطوا به ودخلوه ونهبوا وأسروا وقتلوا أيضًا. وفي يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الآخر خرج جماعة منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى ملك التتار وكان نازلاً بتل راهط بالمرج فدخل عليه وأراد أن يشكي إليه ماوقع فلم يمكن من ذلك، وأشار ¬

_ (¬1) القسم الأول من الجزء الثاني من الكتاب، إعداد: يوسف إبراهيم الشيخ عبد الزاملي، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى 1415. (¬2) على رأس هذه الجماعة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، انظر عقد الجمان 4/ 34.

الوزير سعد الدين، ومشير الدولة الرشيد بأن لا يخاطب الملك بشيء من ذلك فانه يحصل لكما، ونحن نتولى إصلاح الأمر، ولكن لابد من إرضاء المغُل فإن منهم جماعة لم يحصل لهم شيء إلى الآن، وعاد الشيخ تقي الدين ومن معه إلى البلد ليلة السبت الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر. (ص 55). في يوم الخميس ثاني رجب (سنة 699) طلب الأعيان من القضاة والعلماء والرؤساء بأوراق عليها علامة الأمير سيف الدين قبجق إلى داره، فحضر جماعة منهم حلفوا للدولة المحمودية بالنصح وعدم المداجاة وغير ذلك، وفي يوم الخميس المذكور توجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مخيم بولاي بسبب الأسرى واستفكاكهم وكان معهم خلق من الأسري فأقام ثلاث ليال. (ص 84). وفي بكيرة الجمعة المذكورة [السابع عشر من رجب سنة 699] دار الشيخ تقي الدين ابن تيمية بدمشق على ماجدد من الخمارات فبدد الخمور وكسر الجرار وشق الظروف وعزر الخمارين هو وجماعته، ولازم الناس هذه الليالي المبيت على الأسوار وأظهروا عددًا حسنة وتحملاً وكان الشيخ تقي الدين وأصحابه يمشون على الناس ويقرأ الشيخ عليهم سور القتال وآيات الجهاد وأحاديث الغزو والرباط والحرس، ويحثهم على ذلك ويحرضهم. ونودي بكرة السبت الثامن عشر من رجب بالأمر بزينة البلد مع ملازمة السور فشرع الناس في الزينة (ص 88). واستهل شهر صفر (سنة 700) والأخبار قد وصلت بقصد التتار البلاد، والناس بدمشق مهتمون بأمر الهرب إلى الديار المصرية والكرك

وغيرهما، والأراجيف تتبع بعضها بعضًا، والإزعاج وافر، والصدور ضيقة، وغلت الأكرية وبلغ كرى المَحَارَة إلى مصر خمس مائة درهم، وبلغ ثمن الجمل ألف درهم، وثمن الحِمَار خمس مائة درهم، وباع الناس الأمتعة بالثمن البخس من الحلي والنحاس والقماش، وطاشت الألباب، وتحير الناس، وتفرقت القلوب، وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مكانه بالجامع يوم الاثنين ثاني صفر يفسر آيات الجهاد، ويحض الناس على لقاء العدو، وعلى الغزو والإنفاق في سبيل الله، ويوجه وجوب قتالهم ويقلل عددهم، ويضعف أمرهم، ويوبخ من قَصَد الهرب، ويحضه على إنفاق مقدار مايخرجه في ذلك الغزو، واستمر يجلس أيامًا متوالية. (ص 122). واستهل جمادى الأولى (سنة 700) والناس في رجفات وخوف ووجل وشدة، وأرباب المناصب قد ضاقت صدورهم وتمنوا الهرب، وأن يؤذن لهم في ذلك، والناس في خوف من عدم قدوم العسكر والسلطان، ومن لم يتحيل أولاً قام وتحيل وباع ورهن، وقاسى الناس شدة شديدة، ويقولون: أين العسكر وما هذه أحوال من نيته الحضور؟! وهؤلاء قد تركوا الشام وإنما يقاتلون عن ديار مصر وما شابه ذلك، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية مستهل جمادى الأولى إلى المرج إلى المخيم فاجتمع بنائب السلطنة وسكنه وثبته، وأقام عنده إلى بكرة الأحد ثالث الشهر فودعه وساق على خيل البريد إلى الجيش المصري فما أدركهم إلا بعد دخولهم القاهرة. (ص 131). وفي بكرة الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الأولى وصل كتاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى دمشق، متضمنًا أنه دخل القاهرة على البريد في سبعة أيام والثامن، وأن وصوله كان يوم الاثنين حادي

عشر جمادى الأولى، وأنه اجتمع بجميع أركان الدولة، وذكر لهم حاجة المسلمين إلى الإعانة والغوث، وحصل بسببه همم علية ونودي بالغزاة وجرد جماعة وقويت العزائم ونزل بالقلعة، وفي ظهر يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الأولى وصل الشيخ تقي الدين المذكور إلى دمشق على البريد بعد أن أقام بقلعة القاهرة ثمانية أيام وتكلم مع السلطان والنائب والوزير والأمراء الأكابر أهل الحل والعقد في أمر الجهاد وكسر هذا العدو المخذول وقهره والظفر به وإصلاح أمر الجند وتقوية ضعائفهم، والنظر في أرزاقهم، والعدل في ذلك، وأمرهم بانفاق فضول أموالهم في هذا الوجه، وتلا عليهم آية الكنز، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الآيات، وكان خروجه من ديار مصر في يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأولى. (ص 134). وفي جمادى الأولى (سنة 702) وقع بيد نائب السلطنة الأمير جمال الدين الفرم كتاب إليه صورة نصيحة على لسان قطز من مماليك الأمير سيف الدين قبجق، وفيه أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والقاضي شمس الدين ابن الحريري يكاتبان قبجق ويختارانه لنيابة الملك ويعملان على الأمر، وأن الصدر كمال الدين ابن العطار والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني يطالعان بأخبار الأمير وأن جماعةً من الأمراء معهم في هذه القضية، وذكروا جماعة من مماليك الأمير وخواصه، وأدخلوهم في ذلك، فلما قرأ الأمير هذا الكتاب وفهمه علم بطلانه وأسرَّه إلى بعض الكتاب وطلب التعريف بمن فعله، فاجتهد في ذلك حتى وقع الخاطر والحدس على فقير يعرف باليعفوري ممن كان نُسب قبل ذلك إلى فضول وتزوير فمُسك، فوجد معه مسوَّدة بالكتاب المذكور

بعينه فضرب فأقر على شخص آخر يعرف بأحمد القباري كان أيضًا قد نسب إليه زور ودخول فيما لا يعنيه، فضرب الآخر فاعترف وعين جماعة من الأكابر أشاروا عليهما بذلك، وكان قصدهم تشويش خاطر الأمير على خواصه والسعي في إهلاك المذكورين في الكتاب، فانجلت القضية للأمير وعرف الآمر فيها معرفة شافية وعزر الفقيرين المذكورين في مستهل جمادى الآخرة، ثم بعد التعزير أمر بتوسيطهما وتعليقهما في اليوم المذكور، وكذلك أيضًا عر التاج ابن المناديلي الناسخ في التاريخ المذكور وقطعت يمينه وهو الذي كان كتب لهما الكتاب، وخطه معروف. (ص 191 - 192). واصبح الناس بدمشق يوم الأحد المذكور (25 شعبان سنة 702) في أمر كبير لقرب العدو وتأخر السلطان وجمهور الجيش، فشرعوا وتحركوا في الجفل، وذكروا أن هذا الجيش الذي قد اجتمع بالمرج ودمشق ليس لهما طاقة بلقاء هذا العدو وإنما سبيلهم أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة، فاختبط البلد، فلما تعالى النهار اجتمع الأمراء بالميدان وتحالفوا على لقائهم، وشجعوا أنفسهم ونودي بالبلد أن لا يجفل أحد ولا يسافر أحد فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلَّفوا جماعة من الفقهاء والعامة على حضور الغزاة، وتوجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى جهة العسكر الواصل من حماة فأدركه بالقطيفة (¬1) والمرج فاجتمع بهم وأعلمهم بما اتفق عليه الأمراء بدمشق فوافقوا على ذلك. وفي يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان اختبط الناس كثيرًا ¬

_ (¬1) القطيفة: قرية دون ثنية العقاب للقاصد إلى دمشق في طرف البرية من ناحية حمص، انظر ياقوت: معجم البلدان 4/ 378.

وجفل جميع أهل القرى والحواضر، واعتكر الناس بأبواب البلد ودخل كثير من الناس إلى القلعة وامتلأت المنازل والطرق وحصل التنازع في ذلك وتشوشت القلوب بسبب أن جماعة من الجيش توجهوا إلى الكسوة (¬1) وناحيتها فتكلم الناس أن هؤلاء يريدون اللحاق بالسلطان وبقية الجيش، وهذا يقتضي ترك البلد ومن فيه وراء ظهورهم وانزعج الناس لذلك، ومن الناس من ذكر أن القصد أن يختاروا موضعًا للوقعة يكون أصلح من المرج فإن فيه حفرًا ومياهًا كثيرة. وذكروا أن التتار ظلوا بعيدًا حتى ذكروا أنه وصل منهم طائفة إلى القطيفة، ومنهم من يقول: إنهم على قارا، ونزل الجيش بأسره على الجسور قبلي دمشق فسكن الناس بين الظهر والعصر، فلما كان بعد العصر شرع الناس يتحدثون في رحيلهم من هناك، فمن الناس من يقول أنا كنت فيهم وهم ثابتون لا يتغيرون من هناك أصلاً، ومنهم من يقول قد شرع المصريون في الرحيل والشاميون يتبعونهم بلاشك واضطرب الناس، وكان الشيخ تقي الدين في البلد وأما القضاة فكانوا أخرجوا مع الجيش وبات الناس ليلة الخميس، ففي أول الليل رأى الناس نيرانهم وخيمهم، وفي آخره لم يروا لهم أثراً، فأصبح الناس بكرة الخميس وقد اشتد المر واضطرب البلد وغلقت الأبواب وازدحم الناس في القلعة، وهرب من قدر وخرج الشيخ تقي الدين بكرة إلى جهتهم ففتح له باب النصر بمشقة وحصل له لوم من الناس لكونه كان من موانع الجفل، وبقي البلد لا متولي فيه والناس رعاع، وغلا السعر حتى بيع الخبز ثلاث أوراق بدرهم وانحصر الناس فلا يجسر أحد على الخروج إلى بستانه ولا مزرعته ولا ¬

_ (¬1) الكسوة: قرية وهي أول منزل تنزل القوافل فيه إذا خرجت من دمشق إلى مصر، انظر ياقوت: معجم البلدان 4/ 461.

داره وخرج الشلوح واللصوص إلى البساتين يقطعون الفواكه قبل أوانها، وكذلك الزرع والبقول وغير ذلك، والناس في حيرة، وحيل بينهم وبين خبز الجيش وانقطعت الطريق إلى الكسوة في ساعة واحدة، فيرجع هذا وهو مجروح، وآخر وهو مشلح، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر. (ص 198 - 199). وفي يوم الاثنين رابعه وصل الناس من الكسوة ودخل الشيخ تقي الدين وأصحابه بكرة النهار والناس يهنؤنهم ويدعون لهم، وخرج خلق كثير من البلد إلى مكان الوقعة للفرجة والعيان والمكاسب، ووصل نائب الشام الأمير جمال الدين الأفرم والعسكر الشامي وتوجهوا إلى جهة المرج، ونودي أن لا يبيت بالبلد منهم أحد إلا شنق، وذكر أن ذلك للاسراع خلف المنهزمين، ونودي من أراد الغزاة فليخرج إلى ....... (¬1). (ص 202). وفي ليلة الأحد رابع رجب (سنة 704) أُحْضِر المجاهد إبراهيم القطان صاحب الدلق الكبير إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقص شعره المفتل وشاربه المسبل وأظفاره، وأمره بترك الصياح والفحش وأكل ما يعير العقل، وترك لبس الدلق الكبير، وأُخِذَ وفُتِقَ وكان قِطَعًا كثيرة، فيه بسط وعبي. وفي يوم السبت سابع عشر رجب أُحْضِر الشيخ محمد الخباز البلاسي إلى الشيخ تقي الدين أيضًا، فتاب على يده، وأشهد عليه بترك المحرمات واجتنابها، وأنه لا يخالط أهل الذمة ولا يتكلم في تعبير ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة بالأصل.

الرؤيا ولا في شيء من العلوم بغير معرفة، وكتب عليه مكتوب شرعي بذلك. (ص 245). وفي يوم الاثنين السادس والعشرين من رجب (سنة 704) حضر الشيخ تقي الدين ابن تيمية وجماعة بمسجد النارنج جوار المصلى، وحضر معهم بعض الحجارين وقطعوا الصخرة التي كانت هناك وأزالوها واستراح الناس من زيارة شيء لا أصل له، والاعتقاد فيه بغير طريق شرعي. (ص 246). توجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى الجبلية الجرديين والكسراونيين وصحبته الأمير قرقوش في مستهل ذي الحجة (سنة 704) ثم توجه بعدهم إلى الجهة المذكورة الشريف زين الدين ابن عدنان في نصف ذي الحجة. (ص 253). وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى (705) اجتمع جماعة من الأحمدية الرفاعية عند نائب السلطنة بالقصر، وحضر الشيخ تقي الدين ابن تيمية وطلبوا أن يسلم إليهم حالهم، وأن الشيخ تقي الدين لا يعارضهم ولا ينكر عليهم، وأرادوا أن يظهروا شيئًا مما يفعلونه فانتدب لهم الشيخ وتكلم باتباع الشريعة وأنه لا يسع أحدًا الخروج عنها بقول ولا فعل، وذكر أن لهم حيلاً يتحيلون بها في دخول النار وإخراج الزَّبد من الحلوق، وقال لهم: من أراد دخول النار فليغسل جسده في الحمام، ثم يدلكه بالخل ثم يدخل، ولو دخل لا يلتفت إلى ذلك، بل هو نوع من فعل الدجال عندنا، وكانوا جمعًا كبيرًا، وقال الشيخ صالح شيخ المنيبع: نحن أحوالنا تنفق عند التتار ماتنفق قدام الشرع، وانفصل المجلس على أنهم يخلعون الأطواق الحديد، وعلى أن من خرج عن

الكتاب والسنة ضربت رقبته، وحفظ هذه الكلمة الحاضرون من الأمراء والأكابر وأعيان الدولة، وكتب الشيخ عقيب هذه الواقعة جزءًا في حال الأحمدية ومبدئهم وأصل طريقتهم، وذكر شيخهم وما في طريقهم من الخير والشر وأوضح الأمر في ذلك. (ص 263 - 264). وفي يوم الاثنين ثامن رجب (سنة 705) طُلب القضاة والفقهاء وطُلب الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى القصر إلى مجلس نائب السلطنة، فلما اجتمعوا عنده سأل الشيخ تقي الدين على التعيين عن العقيدة، فأحضر الشيخ عقيدته «الواسطية» وقرئت في المجلس، وبحث فيها وبقي مواضع أخرت إلى مجلس آخر ثم اجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر رجب المذكور، وحضر هذا المجلس أيضًا الشيخ صفي الدين الهندي، وبحثوا معه وسألوه عن أشياء ليست في العقيدة، وجعلوا الشيخ صفي الدين يتكلم معه ثم اتفقوا على الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني فحاققه وبحث معه من غير مسامحة ورضوا بذلك عن الشيخ كمال الدين وعظموه وأثنوا عليه وعلى بحثه وفضائله، وخرجوا من هناك والأمر قد انفصل، وانصرف الشيخ تقي الدين إلى منزله. والذي حمل الأمير على هذا الفعل كتاب ورد عليه من مصر في هذا المعنى، وكان السبب فيه القاضي زين الدين المالكي قاضي ديار مصر والشيخ نصر المنبجي، وبعد ذلك عزر بعض القضاة بدمشق لشخص ممن يلوذ بالشيخ تقي الدين وطلب جماعة وأطلقوا، ووقع هرج في البلد، وكان الأمير نائب السلطنة قد خرج للصيد وغاب نحو جمعة ثم حضر. وفي يوم الاثنين الثاني والعشرين من رجب قرأ المحدث جمال الدين المزي فصلاً في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد»

تصنيف البخاري، وكانت قراءته لذلك في المجلس المعقود لقراءة الصحيح تحت النسر، فغضب لذلك بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: نحن المقصودون بهذا، ورفعوا الأمر إلى قاضي القضاة الشافعي فطلبه ورسم بحبسه، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين فتألم له وأخرجه من الحبس بنفسه، وخرج إلى القصر فاجتمع هو وقاضي القضاة وأعاد المزي إلى حبسه بالقوصية فبقي أيامًا، وذكر الشيخ تقي الدين ماوقع في غيبة الأمير في حق بعض أصحابه من الأذى فرسم الأمير فنودي في البلد أنه من تكلم في العقائد حل ماله ودمه ونهبت داره وحانوته وقصد الأمير تسكين الناس بذلك. (ص 266). وفي يوم الثلاثاء سابع شعبان عقد للشيخ تقي الدين مجلس ثالث بالقصر ورضي الجماعة بالعقيدة، وفي هذا اليوم عزل قاضي القضاة نجم الدين ابن صصري نفسه عن الحكم بسبب كلامه سمعه من بعض الحاضرين، وفي السادس والعشرين من شعبان ورد كتاب السلطان إلى قاضي القضاة باعادته إلى الحكم وفيه: إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين وقد بلغنا ماعقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وما قصدنا بذلك إلا برآءة ساحته. (ص 268). وفي يوم الاثنين خامس رمضان (سنة 705) وصل كتاب السلطان بالكشف عما كان وقع للشيخ تقي الدين في ولاية جاغان، وفي ولاية القاضي إمام الدين وبإحضاره وإحضار قاضي القضاة إلى الديار المصرية، فطلب نائب السلطنة جماعة من الفقهاء وكتب ماذكروه مما وقع في أيام جاغان.

وفي يوم الاثنين ثاني عشر رمضان توجه قاضي القضاة والشيخ تقي الدين على البريد ودخل الشيخ تقي الدين مدينة غزة يوم السبت، وعمل في جامعها مجلسًا، ووصلا معًا إلى القاهرة يوم الخميس الثاني والعشرين من رمضان، وعقد للشيخ تقي الدين مجلسًا بالقلعة وأراد أن يتكلم فلم يمكن من البحث والكلام على عادته، وحبس في برج أيامًا ثم نقل إلى الجب ليلة عيد الفطر هو وأخوه. وأكرم قاضي القضاة نجم الدين وجدد له توقيع وخلع عليه وسافر إلى دمشق فوصلها يوم الجمعة سادس ذي القعدة وقرئ تقليده بمقصورة الخطابة يوم الجمعة ثالث عشر ذي القعدة، وقرئ عقيبه الكتاب الذي وصل معه وفيه مخالفة الشيخ تقي الدين في العقيدة وإلزام الناس بذلك خصوصًا أهل مذهبه والوعيد بالعزل والحبس، وفيه أن يُنادى بذلك في البلاد الشامية، وكان قد نودي قبل صلاة الجمعة بالجامع والأسواق، ووصلت الأخبار بكثرة المتعصبين بالديار المصرية على الشيخ تقي الدين وأنه حصل أذى كثير للحنابلة، وحبس تقي الدين عبد الغني ابن الشيخ شمس الدين الحنبلي وألزموا جميعهم بالرجوع عن عقيدتهم في القرآن والصفات وأشار القضاة على رفيقهم قاضي القضاة شرف الدين الحراني الحنبلي بموافقة الجماعة، وكان قليل العلم فوافق وألزم جماعة من أهل مذهبه بذلك وأخذ خطوطهم ووقع أمر لم يجر على الحنابلة مثله، وكان ذلك بقيام الأمير ركن الدين الجاشنكير في القضية بسعي القاضي المالكي والقروي المالكي وجماعة من الشافعية. (ص 270). وفي سلخ رمضان (706) أحضر الأمير سيف الدين سلار القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي ومن الفقهاء الباجي والجزري

والنمراوي وتكلم في إخراج الشيخ تقي الدين من الحبس، فاتفقوا على أنه يشترط عليه أمور ويُلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك فلم يجب إلى الحضور، وتكرر الرسول إليه في ذلك ست مرات وصمم على عدم الحضور في هذا الوقت، فطال عليهم المجلس وانصرفوا من غير شيء. (ص 297). وفي الثامن والعشرين من ذي الحجة وصل الشيخ تاج الدين محمود بن عبد الكريم بن محمود الفارقي من الديار المصرية وكان توجه لأجل زيارة الشيخ تقي الدين والقيام في نصرته، فأقام مدة ثم رجع والأمر على حاله، وفي هذا اليوم أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب إليه من الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الجب، وأُعلم بذلك جماعة ممن حضر مجلسه وأثنى عليه، وقال مارأيت مثله ولا أشجع منه، وذكر ماهو عليه في السجن من التوجه إلى الله تعالى وأنه لا يقبل شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الادرار السلطاني، ولا تدنس بشيء من ذلك. (ص 305). وفي يوم الخميس السابع والعشرين من ذي الحجة طلب أخوا الشيخ تقي الدين ابن تيمية وهما شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن من الحبس إلى مجلس نائب السلطنة، وحضر القاضي زين الدين المالكي، وجرى بينهم كلام كثير وأعيدا إلى موضعهما. (ص 306). واجتمع قاضي القضاة بدر الدين بالشيخ تقي الدين ابن تيمية في دار الأوحدي بالقلعة بكرة الجمعة رابع عشري صفر (سنة 707) وتفرقا قبل الصلاة وطال بينهما الكلام. (ص 311).

وفي أوائل ربيع الأول وصل الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى إلى دمشق وتوجه إلى القاهرة، فوصلها في تاسع عشر الشهر المذكور، وحضر بنفسه إلى السجن إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية فأخرجه بعد أن استأذن في ذلك، فخرج يوم الجمعة الثالث والعشرين من الشهر إلى دار نائب السلطنة بالقلعة، وحضر بعض الفقهاء وحصل بينهم بحث كثير، وفرقت صلاة الجمعة بينهم، ثم اجتمعوا إلى المغرب ولم ينفصل الأمر، ثم اجتمعوا بمرسوم السلطان يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر مجموع النهار، وحضر جماعة أكثر من الأولين، حضر نجم الدين ابن الرفعة، وعلاء الدين الباجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين ابن عدلان، وصهر المالكي وجماعة من الفقهاء، ولم تحضر القضاة وطُلبوا واعتذر بعضهم بالمرض وبعضهم تبع أصحابه، وقبل عذرهم نائب السلطنة، ولم يكلفهم بالحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم، وانفصل المجلس على خير، وبات الشيخ عند نائب السلطنة، وكتب كتابًا إلى دمشق بكرة الاثنين السادس والعشرين من الشهر يتضمن خروجه، وأنه أقام بدار ابن شقير بالقاهرة، وأن الأمير سيف الدين سلار رسم بتأخره عن الأمير مهنا أيامًا ليرى الناس فضله ويحصل لهم الاجتماع به، ووصل مهنا إلى دمشق يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر، وأقام ثلاثة أيام وسافر، ثم عُقد للشيخ تقي الدين مجلس ثالث يوم الخميس سادس ربيع الآخر بالمدرسة الصالحية بالقاهرة. (ص 312 - 313). وفي شوال شكى شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الآملي وابن عطاء وجماعة نحو الخمس مائة من الشيخ تقي الدين ابن تيمية وكلامه في ابن العربي وغيره إلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إلى الحاكم

الشافعي، وعُقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت شيء منها، لكنه اعترف أنه قال لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم استغاثة بمعنى العبادة ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال ليس في هذا شيء، ورأى قاضي القضاة بدر الدين أن هذه إساءة أدب وعنفه على ذلك فحضرت رسالة إلى القاضي أن يعمل مع ماتقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له مايقال لمثله، ثم إن الدولة خيروه بين أشياء وهي الاقامة بدمشق أو الاسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزمًا ماشُرط فأجابهم فأركبوه خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال، ثم أرسل خلفه من الغد بريد آخر فرده، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء فقال له بعضهم: ماترضى الدولة إلا بالحبس، فقال قاضي القضاة وفيه مصلحة له واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أن يحكم عليه بالحبس فامتنع، وقال: مايثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس وأتبع ماتقتضيه المصلحة فقال نور الدين المأذون له في الحكم: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ماترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حُبِس، وأذن في أن يكون عنده من يخدمه، وكان جميع ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة، واستمر الشيخ في الحبس يُسْتَفتى ويقصده الناس ويزورونه وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان الناس. (ص 334 - 335).

8 - نموذج من قراءة شيخ الإسلام ابن تيمية علي شيوخة

نموذج من قراءة شيخ الإسلام ابن تيمية على شيوخه مستخرجة من تعليقات البرزالي لسماعاته على مشايخه سنة (680) (¬1) قال البرازلي (225 أ): وسمعت على ابن الدرجي كتاب «البيوع» لابن أبي عاصم - وهو جزءان - بإجازته من الصيدلاني عن الحداد عن أبي نعيم عن أحمد بن بندار الشعار عنه بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) من وقف الضياء بخطه، في يوم الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى بجامع دمشق. كتبه ابن البرزالي. قال البرزالي (225 ب): سمعت على ابن الدرجي كتاب «المحبين مع المحبوبين» لأبي نعيم بإجازته من الصيدلاني عن الحداد عن أبي نعيم عن احمد بن بندار الشعار عنه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) من وقف الضياء في يوم الجمعة، خامس جمادى الولى بجامع دمشق كتبه ابن البرزالي. ¬

_ (¬1) (ق/ 225 أ- 234 ب) وهذه القطعة تمثّل السماعات في سنة (680) -كما صرح به ق (231 أ) - من شهر جمادى الأولى إلى شعبان فقط. والنسخة بخط البرزالي، وقد أصابتها الرطوبة من جانبها الأعلى فأتت على كثير من الكلمات. فما لم نتمكن من قراءته أو أصابته الرطوبة وضعنا مكانه نقاطًا.

قال البرازلي (225 ب): وسمعتُ في هذا التاريخ (السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى) على الشيخ فخر الدين علي بن أحمد بن عبد الواحد جزءًا فيه «فوائد محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم» بإجازته من اللبان، باجازته من الشيروي بسماعه من أبي سعيد بن شاذان الصيرفي بسماعه من لفظ الأصم عنه، أوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»، وآخره: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وُعِك أبو بكر وبلال»، وذلك بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) من نسخته بالسميساطية. . . المسعودي بالجامع المظفّري. كتبه ابن البرزالي قال البرزالي (226 أ): وسمعتُ على ابنِ شيبان المجلسَ الأول من «أمالي الضبي» بسماعه من ابن طبرزد، عن الأنماطي عن ابن البغوي عنه من نسختي، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى بدكانه بالصالحية. كتبه ابن البرزالي. قال البرزالي (226 ب): وسمعتُ على ابن شيبان جزءًا فيه أربعة مجالس من «أمالي أبي بكر الخطيب» أملاها بدمشق - وهو الجزء الخامس - بسماعه من ابن طبرزد عن أبي منصور بن خيرون عنه بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى، بدكانه بسفح قاسيون. كتبه ابن البرزالي قال البرزالي (227 أ): وسمعتُ على ابن علاّن الجزء الأول من حديث «أبي حفص

الكناني» بسماعه من ابن ملاعب وإجازته من ابن الخضر وابن صِرْما بسماعهم من الأرموي، عن جابر بن ياسين عنه بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) في العشر الأوسط من جمادى الأولى بدار الحديث الأشرفية بدمشق. كتبه ابن البرزالي. قال البرزالي (228 أ): وسمعت على ابن علاَّن الجزء الأول من «فوائد العياد» تخريج البيهقي بإجازته من منصور بن الفُرَاوي بسماعه من جدِّه عنه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) في يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، بمنزله بدرب البقسماطي بدمشق. كتبه ابن البرزالي. قال البرزالي (228 أ): وسمعت عليه (ابن الدرجي) في هذا التاريخ (يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة) والمكان (بجامع دمشق) جزءًا فيه من «عوالي أبي بكر القباب» بإجازته من أبي زرعة عبيد الله بن محمد بن اللّفْتُواني، بسماعه من أبي بكر بن أبي ذر الصالحاني بسماعه من أبي طاهر بن عبد الرحيم عنه، أوله: «لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ. . .» وآخره: «من ظلم معاهدًا فأنا حجيجه. . .» من وقف ابن الجوهري بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) كتبه ابن البرزالي. قال البرزالي (231 أ): وسمعت عليه (شمس الدين ابن علان) جزءًا فيه «فضائل رجب» لعبد العزيز الكناني، بإجازته من الخشوعي، بسماعه من جمال الإسلام، بسماعه منه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) في يوم الجمعة منتصف الشهر

رجب بمنزله بدرب البقسماطي بدمشق. كتبه ابن البرزالي. وقال: وسمعته عليه بالقراءة والتاريخ والمكان أربعة أحاديث من جزء من «حديث أبي مسلم الكاتب»، بإجازته من القاسم بن عساكر، بإجازته من أبي سهل محمد بن إبراهيم بن سعدون الأصبهاني، بسماعه من أبي الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرزاي بسماعه منه، من نسختي، وهي بخط ابن الجوزي، كتبه ابن البرزالي. وقال البرزالي (231 ب): وسمعتُ على الشيخ الإمام. . . «القناعة» لأبي بكر بن السني بسماعه من ابن رواحه، وإجازته من ابن الصقيل، بسماعه من. . . أحمد بن موسى بن مردويه، بسماعه من أبي القاسم علي بن عمر بن إسحاق الهمذاني عنه من نسخة وقف ابن. . . . . بقراءة (الإمام تقي الدين ابن تيمية) في يوم الأحد سابع عشر رجب بجامع دمشق. كتبه ابن البرزالي. وقال البرزالي (231 ب): وسمعت على ست العرب بنت يحيى بن قايماز الكندية بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) جزءًا فيه «نسخة خالد بن مرداس السراج» بسماعها من. . . . . بسماعه من أبي الفتح عبد الله بن محمد بن البيضاوي، عن ابن النقور، عن ابن الجرَّاح الوزير، عن البغوي عنه من نسختي في عشيَّة السبت الثالث والعشرين من رجب بمنزلها بدمشق. كتبه ابن البرزالي.

وقال البرزالي (231 ب): وسمعتُ (عليه الخطيب بدر الدين بن عبد اللطيف بن محمد بن محمد ابن المغيرك خطيب حماه) بقراءة (تقي الدين ابن تيميّة) جزءًا فيه «بغية المرتاد للحديث العالي الصحيح الإسناد» من. . . من «مسند الشافعي» عن ابن. . . . . عن أبي زُرْعة، وصح ذلك من نسختي يوم الجمعة التاسع والعشرين من رجب بالمدرسة التقوية (¬1) بدمشق. كتبه ابن البرزالي. وقال البرزالي (231 ب): وسمعتُ على ست العرب الكندية المجلس الثالث من «أمالي القاضي أبي يعلى بن الفراء»، بحضورها على الكندي، بسماعه من القاضي أبي بكر الأنصاري وعنه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) في عشية السبت، الثالث والعشرين من رجب بمنزلها بدمشق. كتبه ابن البرزالي. وقال البرزالي (231 ب): وسمعت على الشيخ تقي الدين ابن مزيز وولده تاج الدين أحمد «الأربعين البلدانية» لابن عساكر، بسماع الأول وإجازة الثاني من أبي المظفَّر عبد المنعم بن محمد بن محمد بن حمزة بن أبي المضاء، بسماعه منه. وبسماع الأول من النفيس محمد بن الحسين بن رواحه، بإجازته منه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) في مجلسين، يوم السبت ويوم الأحد سابع عشر رجب المبارك على المسلمين بجامع دمشق. ¬

_ (¬1) انظر "الدارس": 1/ 216. و "خِطط دمشق": ص/ 112.

وقال (231 ب): وسمعتُ على الشيخ جمال الدين أحمد بن أبي بكر بن سليمان بن الحموي «جزءَ طالوت بن عباد الصيرفي» بسماعه من ابن مندويه عن نصر البَرْمكي عن ابن النقور عن ابن حبان عن البغوي عنه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) في يوم الجمعة التاسع والعشرين من رجب بجامع دمشق. وقال (232 أ): [وسمعت على الشيخ إسحاق] إبراهيم بن إسماعيل بن الدرجي، ونجم الدين أبي المعالي عبد العالي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي كتاب «السنن» عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - رواية محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عنه، وفيه شيء من روايته عن غيره. . . . وصح بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) يوم الجمعة غرة رجب بجامع دمشق. وقال (234 أ): وسمعت على الشيخ رشيد الدين محمد بن أبي بكر بن محمد بن سليمان العامري كتاب «الأمثال والاستشهادات» لأبي عبد الرحمن السلمي بسماعه من ابن الحرستاني بإجازته من المشايخ الثلاثة: أبي الأسعد وعبد الرزاق حافِدَيْ أبي القاسم القشيري، وأبي الخير جامع بن أبي نصر بن أبي إسحاق الصوفي بسماعهم من أبي سعيد محمد بن عبد العزيز الصفّار عنه، وذلك بقراءة (الإمام تقي الدين ابن تيمية)، من نسخة ابن سونج في يوم الأحد ثاني شعبان بالمدرسة المجاهدية (¬1) بدمشق. ¬

_ (¬1) انظر: "خِطط دمشق": ص/ 159 - 162 للعُلَبي.

ثم سمعت كتاب «الأمثال والاستشهاد» للسلمي المذكور مرة أخرى في يوم الخميس سادس شعبان بالمدرسة المذكورة على الشيخ كمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عباس العاقوسي بحضوره على ابن الحرستاني في الثالثة، بسنده أعلاه، بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) من نسخة ابن سونج (¬1). وقال أيضًا: وسمعت على كمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عباس العاقوسي جزءًا فيه «منتخب من الجزء الرابع من معجم أبي سعيد بن الأعرابي» بسماعه من أبي نصير محمد بن عبد الله بن الشيرازي بسماعه من الضياء بن أبي الحسين هبة الله بن الحسن بن عساكر بإجازته من الخِلَعي عن ابن النحاس عنه من نسختي وفيه أربعة عشر حديثَا، وذلك بقراءة (تقي الدين ابن تيمية) يوم الاثنين ثالث شعبان. وسمعتُ عليه بالقراءة والتاريخ مجلسًا من «أمالي. . . الثلاثة» وآخره على الأرض، بسماعه من ابن الحرستاني بإجازته في الثانية. . . وعبد المنعم القشيري بن أبي بكر السقافي، والموفق بن سعيد، وأبي بكر السبعي وأبي نصر الحرضي، ومسعود السجزي بسماعهم من أبي بكر الصيرفي عنه، وذلك بالمدرسة المجاهدية بدمشق. وقال (234 ب): وسمعتُ على أم الخير ست العرب بنت يحيى بن قايماز الكندية ¬

_ (¬1) في الأصل: من نسخة ولابن سونج.

جميع «المئة المنتقاة» من الجزء الأول والثاني من حديث قتيبة، وهي موافقات سوى الخمسة الأخيرة منها فإنها أبدال، بإجازتها من أبي روح عن الفضيلي عن مُحَلِّم عن الخليل السجزي عن السَّرَّاج عنه بقراءة (تقي الدين ابن تيمية)، يوم الثلاثاء رابع شعبان بمنزلها بدمشق. (وقبل هذا): وسمعت على ابن الدرجي أربعة أحاديث من عوالي (¬1) في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شعبان. . . بقراءة (تقي الدين ابن تيمية). ¬

_ (¬1) تآكلت الورقة.

9 - كنز الدرر وجامع الغرر

كَنْز الدُّرر وجامِعُ الغُرَر (¬1) لأبي بكر بن عبد الله بن أَيْبَك الدَّوادَاري (بعد 736) ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة ولمّا تحقّق الأمر عند أهل دمشق اشتدَّ خوفهم وكثرت الأراجيف واختلفت الأقوال. فمنهم من قال: إنّ غازان مسلم، وإنّ غالب جيوشه كذلك، وإنَّهم لم يتبعوا المسلمين من المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدًا. وكثرت الأقاويل في ذلك. فلمّا كان يوم السبت رابع اليوم من الوقعة وقعت صيحة عظيمة بالبلد، وخرجت النساء مهتكات لمّا بلغهم أنّ التتار دخلوا البلد. ولم يكن لذلك ضجّة، وانفرجت في ساعةٍ، لكن بعدما مات في ذلك اليوم على أبواب دمشق جماعة نحو عشرين نفر، منهم شخص يسمّى النجم المحدِّث البغداديّ. وذلك لعظم الازدحام بالأبواب. وكان ليلة السبت قد خرج من البلد جماعة من أعيان الناس وكبار البلد وهم قاضي القضاة إمام الدين، والقاضي جمال الدين المالكيّ، وتاج الدين بن الشيرازيّ، ووالي البلد ووالي البرّ والمحتسب مع جماعةٍ كبيرةٍ من بياض الناس، وتوجّهوا إلى الديار المصريّة. وفي ليلة الخميس، أحرقوا المحابيس، باب سجن باب الصغير، وخرجوا منه في عِدّة مايتي وخمسين نفر، وتوجّهوا إلى باب ¬

_ (¬1) (9/ 18 - 349) نشر قم الدراسات الإسلامية بالمعهد الألماني للآثار بالقاهرة، 1379، تحقيق هانس رُوبرت رويمر.

الجابية وكسروا الأقفال وفتحوا الباب وخرجوا. وأصبح الناس يوم الأحد لا يدرون ماهم فيه، ولا ماذا يفعلون. واجتمع الناس في ذلك اليوم في مشهد عليّ، وتشاوروا في أمر الخروج إلى غازان. فكان ممّن اجتمع ذلك اليوم مَن يُذكر وهم: القاضي بدر الدين ابن جماعة، والشيخ زين الدين الفارقيّ، والشيخ تقيّ الدين ابن التيميّة، وقاضي القضاة نجم الدين بن صصري، والصاحب فخر الدين بن الشيرجيّ، والقاضي عزّ الدين بن الزكيّ، والشيخ وجيه الدين بن منجَّي، والصدر عزّ الدين بن القلانسيّ، وأمين الدين بن شقير الحرّانيّ، والشريف زين الدين بن عدنان، والشيخ نجم الدين [بن] أبي الطيّب، وناصر الدين عبد السلام، والصاحب شهاب الدين بن الحنفي، والقاضي شمس الدين ابن الحريري، والشيخ الصالح شمس الدين قوام النابلسي، وجماعة كبيرة من القراء والفقهاء والعدول، وأجمعوا رأيهم على الخروج إلى غازان. فلما كان نهار الاثنين صلوا صلاة الظهر وتوجهوا إلى الله عز وجل وخرجوا ليتقنوا أمر صلاح البلد. (9/ 18 - 19). ثم إن التتار طلعوا إلى جبل الصالحية، وفعلوا فيه من الأفعال القبيحة مايطول شرحه مما تقشعر لهول سماعه الأبدان. فخرج الشيخ تقي الدين ابن التيمية إلى عند شيخ الشيوخ وصحبته جماعة من أهل البلد، وشكوا إليه الحال. فخرج إليهم في يوم الثلاثاء وسط النهار. فلما بلغ التتار الذين كانوا بجبل الصالحية مجي شيخ الشيوخ هربوا بعد أن أخرجوا جميع مساكنه ونهبوا ساير أمواله وسبوا حريم أهله وأولادهم وبناتهم، وجرت عليهم أمور عظام لا يطاق سماعها، أضربت عن ذكر جميع ذلك. (9/ 28). وحكى الشيخ علم الدين البرزالي، قال: اجتمعتُ يوم الخميس

الخامس والعشرين من الشهر بالشيخ تقي الدين ابن التيمية، فذكر أنه اجتمع ببهاء الدين قطلوشاه، وذكر له أنه من عظم جنكزخان، ولحية قطلوشاه أجرود ولا شعرةَ بوجهه أصلاً، وأنه كان له في ذلك العهد من العمر اثنتين وخمسين سنة، وأنه ذكر له أن الله عز وجل ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن جنكزخان جده كان مسلمًا، وكل من خرج من ذريته مسلمين، ومن خرج من طاعته فهو خارجي، وذكر أيضًا اجتماعه بالملك غازان، والوزير سعد الدين، ورشيد الدولة الوزير المتطبب، وكذلك بالشريف قطب الدين ناظر الخزانة، والكاتب صدر الدين، والنجيب الكحال اليهودي، وشيخ الشيوخ نظام الدين محمود، وأصيل الدين بن النصير الطوسي ناظر الأوقاف، وهؤلاء كانوا أعيان دولة الملك غازان، وذكر أيضًا أنه رأى عند قطلوشاه صاحب سيس الملعون، وهو أشقر أزرق كث اللحية ومعه طايفة من الأرمن عليهم الذلة والمسكنة. وكان سفر قطلوشاه ظهر يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من الشهر. وكان سبب اجتماع الشيخ تقي الدين بهؤلاء الأسرا، وقال: إنهم يكتبون في جميع فرامينهم بقوة الله وبميثاق الملة المحمدية! وذكر أنه اجتمع بشخص منهم فيه دين وسكون وصلاة حسنة، فسأله: ما السبب في خروجك وقتالك المسلمين وأنت كما أرى منك؟ فقال: أفتانا شيخنا بتخريب الشأم وأخذ أموالهم، لأنهم لايصلون إلا بالأجرة، ولا يؤذنون إلا لذلك ولا يتفقهون إلا بمثل ذلك. (9/ 32 - 33). وفي العشر الأخير من الشهر المذكور (¬1) نزل أيضًا جماعة من القلعة وقتلوا جماعة من التتار وحصلت خبطة عظيمة، ومسك جماعة من الذين كانوا ¬

_ (¬1) جمادى الآخرة، سنة (699).

ينسبون إلى المشي مع التتار، وجبيت أيضًا جباية أخرى لبوليه مقدم التتار. ودخل الخطيب بدر الدين بن جماعة والشيخ ابن التيمية إلى القلعة ومشوا في الصلح بين أرجواش ونواب التتار. فلم يوافق أرجواش رحمه الله على ذلك، ولم يزل الأمر كذلك إلى مستهل شهر رجب الفرد. وفي الثاني من الشهر طلب قبجق أعيان البلد وحلفهم للدولة المحمودية بالنصح وعدم المداجاة. وفي يوم الخميس توجه الشيخ تقي الدين ابن التيمية إلى مخيم بولاي مقدم التتار يسأل المأسورين، وكانوا خلقًا كثيرًا. وتحدث بولاي في أمر يزيد بن معاوية مع الشيخ، وسأله: هل يجوز لعنته أم لا؟ ففهم الشيخ أن فيه موالاة، فكلمه بما لاق بخاطره بغير شيء يكره. فقال: هؤلاء أهل دمشق هم قتلة الحسين بن علي صلوات الله عليه. فقال له الشيخ: إنه لم يكن من أهل دمشق من حضر قتلة الحسين عليه السلام، وقتل عليه السلام بأرض كربلا من العراق. فقال: صحيح، وكانوا بنو أمية خلفاء الدنيا، وكانوا يحبون سكنى الشام. فقال الشيخ: وماذا يلم من ذلك في قتلة الحسين، وهذه الشام ما برحت أرضًا مباركة ومحل الأولياء والصلحاء بعد الأنبياء صلوات الله عليهم. ولم يزل به حتى سكن غضبه على أهل الشأم. ثم ذكر للشيخ أن أصله مسلم من أهل خراسان. وجرى بينه وبين الشيخ كلام كثير. (9/ 35 - 36). ذكر واقعة الشيخ تقي الدين ابن التيمية رحمه الله وذلك لما كان يوم الاثنين ثامن شهر رجب الفرد من هذه السنة المذكورة، طُلب القضاة والفقهاء والشيخ تقي الدين ابن التيمية إلى

مجلس الأمير جمال الدين الأفرم نايب الشام المحروس بدمشق، وكان اجتماعهم بالقصر الأبلق. ثم سألوا الشيخ تقي الدين ابن التيمية عن عقيدته. فأملى شيئًا منها. ثم أحضر عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس المذكور، وبحث فيها وتأخر منها مواضع إلى مجلس آخر. ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور. وحضر المجلس أيضًا صفي الدين الهندي. وبحثوا مع الشيخ تقي الدين وسألوه عن مواضع خارجًا عن العقيدة. وجعل الشيخ صفي الدين يتكلم معه كلامًا كثيرًا ثم إنهم رجعوا عنه واتفقوا أن كمال الدين بن الزملكاني يحاققه من غير مسامحة، ورضوا بذلك الجميع. وانفصل الأمر بينهم أنه أشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، يعتقد مايعتقده الإمام الشافعي رضي الله عنه، ورضوا منه بهذا القول، وانصرفوا على ذلك. فعند ذلك حصل من أصحاب الشيخ تقي الدين كلام كثير وقالوا: ظهر الحق مع شيخنا، فأحضروا واحدًا منهم إلى عند القاضي جلال الدين الشافعي في العادلية، فصفعه وأمر بتعزيره، فشفعوا فيه. وكذلك فعل الحنفي بآخر وآخر من أصحاب الشيخ تقي الدين. ثم لما كان يوم الاثنين ثاني وعشرين الشهر قرأ الجمال المِزِّيُّ المُحَدِّث فصلاً في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» تصنيف البخاري رضي الله عنه، قرأ ذلك في مجلس العام تحت النسر. فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وقالوا: ما قرئ هذا الفصل إلا ونحن المقصودون بهذا التكفير، قال: فحملوه إلى قاضي القضاة الشافعي، فرسم بحبسه. فبلغ الشيخ تقي الدين ذلك، فقام حافيًا في جماعة من أصحابه أخرج المذكور من الاعتقال. فعند ذلك اجتمع القاضي بملك الأمراء، وكذلك الشيخ تقي الدين والنقباء عند ملك الأمراء،

واشتط تقي الدين على القاضي، وذكر نايبه جلال الدين وأنه آذى أصحابه بسبب غيبة نايب السلطان في الصيد. فلما حضر نايب السلطان رسم بطلب كل من أكثر كلامه من الطايفتين، وأمر باعتقالهم، ونودي في البلد بمرسوم سلطاني: من تكلم في العقائد حل ماله ودمه ونهب داره وهتكت عياله. وقصد نايب السلطان بذلك إخماد الفتنة الثايرة. ثم لما كان سلخ شهر رجب اجتمع القضاة والفقهاء وعقدوا مجلسًا بالميدان بحضور ملك الأمراء وبحثوا في العقيدة. فجرى من الشيخ صدر الدين بن الوكيل كلام في معنى الحروف وغيره. فأنكر عليه كمال الدين ابن الزملكاني القول في ذلك. ثم قال للقاضي نجم الدين بن صصري قاضي القضاة: أما سمعت ما قال؟ فكأن نجم الدين تغافل عن ذلك طلبًا لإخماد الشر. فقال كمال الدين بن الزملكاني: ما جرى على الشافعية قليل كون أن تكون رئيسها، إشارة على ماكان ادعاه صدر الدين بن الوكيل فظن القاضي نجم الدين أن الكلام له، فقال: اشهدوا على أنني قد عزلت نفسي! وقام من المجلس فلحقه الحاجب الأمير ركن الدين بيبرس العلائي وعلاء الدين أيدغدي بن شقير وأعادوه إلى المجلس. وجرى كلام كثير بعد ذلك يطول شرحه. ثم إن ملك الأمراء ولاه الحكم، وحكم القاضي الحنفي بذلك وصحة الولاية، وأنفذها المالكي وقبل الولاية بحضور ملك الأمراء. فلما عاد إلى داره لاموه أصحابه. وخشى على نفسه ورأى أن الولاية لاتصح، فعاد طلع إلى تربته بسفح قاسيون، فأقام بها وصمم على العزل. فلما كان بعد ثلاثة أيام رسم ملك الأمراء لنوابه بالمباشرة إلى حيث يرد جواب مولانا السلطان. فأما نايبه جلال الدين فإنه باشر الحكم، وأما تاج الدين فامتنع.

فلما كان ثامن عشرين شهر شعبان المكرم وصل البريد من الأبواب العالية أعلاها الله تعالى وعلى يده كتابين، كتاب لملك الأمراء وكتاب للقاضي نجم الدين بعودته إلى الحكم العزيز. ومضمون الكتاب في فصل منه يقول: قد فرحنا باجتماع رأى العلماء عقيدة الشيخ تقي الدين. فباشر القاضي نجم الدين يوم الخميس مستهل شهر رمضان المعظم، وسكنت الفتنة. فلما كان خامس رمضان، وصل من الأبواب العالية بريد، وهو الأمير حسام الدين لاجين العمري يطلب القاضي نجم الدين بن صصري والشيخ تقي الدين بن التيمية وكمال الدين بن الزملكاني. وفي المرسوم الوارد يقول: وتعرفونا ماكان وقع في زمان جاغان في سنة ثمان وتسعين وست ماية بسبب عقيدة ابن التيمية - وفيه إنكار عظيم عليه - وأن تكتبوا صورة العقيدتين: الأولة والثانية. - فعند ذلك طلبوا القاضي جلال الدين الحنفي وسألوه عما جرى في أيامه. فقال: نقل إلي عنه كلام، وسألناه فأجاب عنه. وكذلك القاضي جلال الدين الشافعي لما طلب أحضر نسخة العقيدة التي كانت أحضرت في زمان أخيه. ثم إنهم تحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب بسببهم ويسد هذا الباب، فأجاب على ذلك. فلما كان يوم السبت عاشر رمضان المعظم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد المنصور، وأخبر أن الطلب على الشيخ تقي الدين حثيث، وأن القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي قد قام في هذا الأمر قيامًا عظيمًا، وأن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير معه في هذا الأمر، وأخبر بأشياء كثيرة جرت مما وقع بمصر في حق الحنابلة، وأن بعضهم أهين، وأن القاضي المالكي والحنبلي جرى بينهما كلام كثير. فلما سمع الأمراء ذلك رجع عن المكاتبة بسببهم وأمر بتجهيزهم إلى الأبواب العالية وتوجهوا. فلما كان يوم الجمعة سابع شهر شوال

وصل البريد، وأخبر أن كان وصول القاضي نجم الدين والشيخ تقي الدين إلى الديار المصرية يوم الخميس ثاني وعشرين رمضان المعظم من هذه السنة المذكورة. (9/ 133 - 136). ذكر ما جرى للشيخ تقي الدين بمصر المحروسة وذلك أنه لما وصل في ذلك التاريخ المذكور، عقد له مجلس في دار النيابة بحضور الأمير سيف الدين سلاَّر، وأحضروا العلماء والأئمة القضاة الأربعة، وحضر الأمير ركن الدين بيبرس. فتكلم القاضي شرف الدين بن عدلان الشافعي، وادعى على الشيخ تقي الدين دعوى شرعية في أمر عقيدته. فعند ذلك قام الشيخ تقي الدين وحمد الله تعالى وأثنى عليه وتلجلج (¬1). ثم أراد أن يذكر الله ويذكر عقيدته في فصل طويل. فقالوا له: يا شيخ. الذي بتقوله معلوم، ولا حاجة إلى الإطالة، وأنت قد ادعى عليك هذا القاضي بدعوى شرعية، أجيب عنها! - فأعاد القول في التحميد وحاد عن الجواب، فلم بمكن في تتمة تحاميده. فقال: عند من هي هذه الدعوى؟ فقالوا: عند القاضي زين الدين المالكي، فقال: عدوي وعدو مذهبي، فكرروا عليه القول مرارًا، ولم يزدهم على ذلك شيئًا وطال الأمر. فعند ذلك حكم القاضي المالكي باعتقاله على رد الجواب. فقتال الشيخ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} فأقاموه من المجلس واعتقل، وسجن أيضًا إخوته في برج من أبراج القلعة. فبلغ القاضي أن جماعة من الأمراء يترددون إليه وينقلون له المآكل الطيبة. فطلع القاضي واجتمع بالأمير ركن الدين في قضيته وقال: هذا ¬

_ (¬1) هذه من مفاريد المؤلِّف! وإلا فجميع التراجم لا تذكر إلا ثباتَه وقوَّته.

يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره. فنقلوه هو وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجب بالقلعة. وكان بعد قيام ابن التيمية من المجلس قد تكلم قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة رحمه الله في مسائل القرآن العظيم وشيء من عقيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه. فقيل لقاضي القضاة الحنفي: ماتقول؟ قال: كذا اعتقد. فقيل لقاضي القضاة شرف الدين الحنبلي: ماتقول؟ فتلجلج، فقال له الشيخ شمس الدين القروي المالكي: ثم، جدد إسلامك! وإلا لحقوك بابن التيمية وأنا أحبك وأنصحك، فخجل. فلقنه القاضي بدر الدين بن جماعة القول، فقال مثل قوله، وانفصل الحال. ثم كتب إلى دمشق كتاب يتضمن أن مولانا السلطان - خلد الله ملكه - قد رسم: أي من اعتقد عقيدة ابن التيمية حل ماله ودمه. وبعد صلاة الجمعة حضروا القضاة جميعهم بمقصورة الخطابة بجامع دمشق ومعهم الأمير ركن الدين بيبرس العلائي أمير حاجب الشام يوم ذاك. وجمعوا جميع الحنابلة، وأحضر تقليد قاضي القضاة نجم الدين بن صصري باستمراره على القضاء وقضاء العسكر ونظر الأوقاف مع زيادة المعلوم، وقرأه زين الدين أبو بكر. وقرئ عقيبه نسخة الكتاب الذي وصل فيما يتعلق بمخالفة عقيدة الشيخ تقي الدين ابن التيمية وإلزام الناس بذلك، خصوصًا الحنابلة. فكان ماهذا نسخته: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي تنزه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}.

نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبي والمصير. ونُنزِّه الخالق عن التحيير في جهة لقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)}. ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي نهج سبل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكر في آلاء الله ونهى عن التفكر في ذاته. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيد اللهم بهم قواعد الدين الحنفي ماشرع، فأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع. وبعد: فإن العقائد الشرعية، وقواعد الإسلام المرعية، وأركان الإسلام العلية، ومذاهب الدين المضية، هي الأساس الذي يبني الإيمان عليه، والمؤمل الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق التي من سلكها: {فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابًا أليمًا. فلهذا يجب أن تنفذ احكامها ويؤكد زمامها، وتصان عقائد هذه الأمة عن الاختلاف، وتزان قواعد الأمة بالائتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرق من قوتها ماجمع. وكان التقي ابن التيمية في هذه المدة قد سلط لسان قلمه، ومد عنان كلمه، وتحدث في مسائل الذات والصفات، ونص في كلامه على أمور منكرات، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما

يخفيه السلف الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على خلافه اجتماع العلماء والحكام، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخف به عقول العوام، فخالف في ذلك علماء عصره، وأئمة شأمه ومصره، وبعث رسائله إلى كل مكان، وسمى فتاويه أسماء: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}. ولما اتصل بنا ذلك، وما سلكوه ومريدوه من هذه المسالك، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا في الله تعالى مستعظمين لهذا النبإ العظيم. فأنكرنا هذه البدعة، وأنفنا أن نسمع عن من تضمه ممالكنا هذه السمعة. وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)} فإنه جل جلاله تنزه عن العديل والنظير {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}. وتقدمت مراسمنا باستدعاء التقي ابن التيمية المذكور إلى أبوابنا عندما شاعت فتاويه شامًا ومصرًا، وصرح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلا وتلا: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)}. ولما وصل إلينا، تجمع أولوا الحل والعقد، وذوو التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام، وحكام الأنام، وعلماء الدين، وفقهاء المسلمين، وعقد له مجلس شرع، في ملأ من الأمة والجمع، فثبت عند ذلك عليه، جميع مانُسِبَ إليه، بمقتضى خط يده، الدال على معتقده، وانفصل ذلك الجمع، وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه عليه: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}.

وبلغنا أنه كان قد استتيب فيما تقدم، وأخره الشرع الشريف لما تعرض إلى ذلك وأقدم. ثم عاد بعد ردعه ومنعه، ولم تدخل تلك النواهي في سمعه. فلما ثبت ذلك في مجلس الحكم العزيز المالكي، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرف والظهور. ومرسومنا هذا يأمر بأن لايسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبه به في اعتقاد مثل ذلك، أو يغدو له في هذا القول متبعًا، أو لهذه الألفاظ مستمعًا، أو يسري في التجسيم مسراه، أو أن يفوه بجهة للعلو، مخصصًا أحدًا كما فاه، أو يتحدث إنسان في صوت أو حرف، أو يوسع القول في ذات أو وصف، أو يطلق لسانه بتجسيم، أو يحيد عن طريق الحق المستقيم، أو يخرج عن رأي الأمة، أو ينفرد عن علماء الأئمة، أو يحيز الله تعالى في جهة، أو يتعرض إلى حيث وكيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا غير السيف. فليقف كل أحد عند هذا الحد، فـ {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} فليزم كل من الحنابلة بالرجوع عما أنكره الأئمة من هذه العقيدة، والخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله به من التمسك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فإنه من خرج عن أمر الله تعالى {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)} وليس له منا غير السجن الطويل من مقيل. ومتى أصروا على الامتناع، وأبوا إلا الدفاع، فليس لهم عندنا حكم ولا قضاء ولا إمامة، ولا نسنح لهم في بلادنا بشهادة ولا منصب ولا إقامة، ونأمر بإسقاطهم من مراتبهم، وإخراجهم من مناصبهم. وقد حذرنا وأعذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا.

فليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أعظم زاجر وأعدل ناه وآمر. وليبلغ للغائب الحاضر. والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه. وكتب هذا المرسوم عدة نسخ، ونفذ إلى سائر الممالك الإسلامية. وتولى قراءة هذا المرسوم الوارد بدمشق القاضي شمس الدين محمد بن شهاب الدين محمود الموقع، وبلغ عنه ابن صبيح المؤذن. وأحضروا الحنابلة بعد ذلك، واعترفوا عند قاضي القضاة جمال الدين المالكي بأنهم جميعهم يعتقدون ما يعتقده الإمام أحمد ابن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وهو قوله: آمنت بالله وما جاء عن الله عن من آمن بالله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (9/ 137 - 143). ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة وذلك أن بعض أصحاب الشيخ تقي الدين ابن التيمية أحضر للشيخ كتابًا من تصانيف الشيخ محي الدين ابن العربي يسمى «فصوص الحكم» وذلك في سنة ثلاث وسبع مئة. فطالعه الشيخ تقي الدين، فرأى فيه مسائل تخالف اعتقاده. فشرع في لعنة ابن العربي وسب أصحابه الذين يعتقدون اعتقاده. ثم اعتكف الشيخ تقي الدين في شهر رمضان وصنف نقيضه وسماه «النصوص على الفصوص» وبين فيه الخطأ الذي ذكره ابن العربي. وبلغه أن شيخ الشيوخ كريم الدين شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة المحروسة له اشتغال بمصنفات ابن العربي، وأنه يعظمه تعظيمًا كبيرًا وكذلك الشيخ نصر المنبجي. ثم إن الشيخ تقي الدين صنف كتابين فيهما إنكار كثير على تأليف ابن العربي، ولعنه

فيهما مصرحًا ولعن من يقول بقوله، وسير الكتاب الواحد للشيخ نصر المنبجي والآخر للشيخ كريم الدين. فلما وقف عليه الشيخ نصر حصل عنده من ذلك أمر عظيم، وتألم له تألمًا بالغًا وحصل له إنكار شديد. وكان الشيخ نصر كما قد تقدم من الكلام منزلته عند الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير العالية. وأن بيبرس لايقوم ويقعد إلا به في سائر حركاته. وكان سائر الحكام من القضاة والأمراء وأرباب المناصب يترددون إلى عند الشيخ نصر لأجل منزلته عند بيبرس الجاشنكير. فحضر عنده القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي عقيب وقوف الشيخ نصر على كتاب الشيخ تقي الدين، فأوقف القاضي على الكتاب المذكور. فقال له القاضي: أوقف الأمير ركن الدين عليه وقَرِّرْ معه ما أحببت، وأنا معك كيف شئت. وألزم الأمير ركن الدين بطلبه إلى الديار المصرية وتسأله عن عقيدته. فقد بلغني أنه أفسد عقول جماعة كبيرة، وهو يقول بالتجسيم، وعندنا من اعتقد هذا الاعتقاد كفر ووجب قتله. فلما حضر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عند الشيخ نصر الدين على عادته، أجرى له ذكر ابن التيمية وأمر عقيدته، وأنه أفسد عقول جماعة كبيرة، ومن جملتهم نائب الشام وأكبر الأمراء الشاميين، والمصلحة تقتضي طلبه إلى الأبواب العالية ويطلب منه عقيدته، وتقرأ على العلماء بالديار المصرية من المذاهب الأربعة، فإن وافقوه وإلا يستتيبوه ويرجعوه ليرجع عن مذهبه واعتقاده سائر من لعب بعقله من الناس أجمعين. ثم ذكر له ذنوبًا أخر حتى حَرَّضَ بيبرس على طلبه. ثم بعد ذلك جرت فتن للحنابلة بمدينة بلبيس. ثم انتقل الحال إلى القاهرة، وحصل لبعض الحنابلة إهانة واعْتُقِلَ منهم جماعة. وجرت فتن عظيمة بين الأشاعرة والحنابلة بالشام، وكان النائب غائبًا بالصيد. فلما

حضر أمر بإصلاح ذات البين، وأقر كل طائفة على حالها. وجرى في القاهرة أيضًا على الحنابلة أمور شنيعة، وألزموهم بالرجوع عن العقيدة وأن يقولوا: إن القرآن العظيم هو المعنى القائم بالنفس، وإن ما في الصحف عبارة عنه، وإن ماهو في الصحف موجود ومحفوظ في الصدور ومقر بالألسنة مخلوق، وإن القديم هو القائم بالنفس، وألزموا بنفي مسألة العلو والتصريح بذلك، وأن جميع ماورد من أحاديث الصفات لايجري على ظاهرها بوجه من الوجوه. وجرى عليهم كل مكروه. وكان القاضي شرف الدين الحنبلي قليل البضاعة في العلم، ولم يدري ما يجيب به، وكان أكبر من تحدث فيهم وألزمهم بذلك، القاضي زين الدين المالكي رحمه الله، انتصارًا للشيخ نصر في ذلك الوقت. وكان القاضي زين الدين عالمًا جيدًا وفقيهًا حسنًا رضي الله عنه، يتحدث في المذاهب الأربعة. وكذلك ساعدوه جماعة من الشافعية. فكان هذا سبب أصول الفتن المذكورة، وسيأتي ذكر بقية ماجرى لتقي الدين ابن التيمية في سنة ست وسبع مائة إن شاء الله تعالى. (9/ 143 - 145). ذكر سنة ست وسبع مائة وفيها في آخر يوم من شهر رمضان المعظم، أحضر الأمير سيف الدين سلاَّر، الموالي القضاة الثلاثة الشافعي والمالكي والحنفي، ومن الفقهاء الباجي والجزري والنمراوي، وتكلم معهم في إخراج الشيخ تقي الدين ابن التيمية، فاتفقوا على أن يُشْتَرط عليه أمور ويلزم بالرجوع عن العقيدة. فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلموا معه في ذلك. فلم يجب إلى الحضور، وتكرر إليه الرسول ست دفعات، وهو مصمم على عدم الحضور، وطال عليهم المجلس، فانصرفوا على غير شيء. (9/ 146).

وفيها (¬1) في العشر الأوائل من شهر ربيع الأول، وصل الأمير حسام الدين مهنا بن الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا إلى الأبواب العالية، واجتمع بالمقام الأعظم السلطاني، وحصل له من الإقبال والإنعام شيء كثير. وخاطب مولانا السلطان في أمر الشيخ تقي الدين ابن التيمية، فأنعم مولانا السلطان به بإطلاقه. فتوجه إليه الأمير حسام الدين مهنا بنفسه إلى السجن، وأخرجه يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول، وأحضر إلى دار النيابة بحضرة الأمير سيف الدين سلار وأحضر له بعض الفقهاء، وحصل بينهم كلام كثير وبحث زايد يضيق هذا المجموع عن بعضه، وقربت صلاة الجمعة فافترقوا. ثم اجتمعوا وبحثوا إلى المغرب ولم ينفصل لهم أمر. ثم اجتمعوا يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر، وحضروا جماعة فقهاء أخر، وحضر الشيخ نجم الدين بن رفعة، وعلاء الدين الباجي، وفخر الدين بن أبي سعد، وشمس الدين الخطيب الجزري، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين عدلان وصهر المالكي وجماعة أخر في تعدادهم طول كثير. ولم تحضر الموالي القضاة، وطلبوهم فاعتذروا. وقبل عذرهم نائب السلطان، ولم يكلفهم إلى الحضور. وتباحثوا في ذلك اليوم في مجلس الأمير سيف الدين سلار، وانفصل المجلس على خير. وبات الشيخ تقي الدين عند نائب السلطان، وكتب بيده كتابًا إلى دمشق مضمنًا خروجه من السجن. وأقام بعد ذلك بدار ابن شقير بالقاهرة. ورسم نائب السلطان بتأخيره عن التوجه مع مهنا لمصلحة في ذلك. وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، عقد له مجلس آخر ¬

_ (¬1) سنة سبعٍ وسبع مئة.

بالمدرسة الصالحية بعد الصلاة. وكان مهنا قد سافر، وبحثوا معه. ووقع الاتفاق على تغيير الألفاظ في العقيدة، وانفصل المجلس على خير. واستقر بعد ذلك بالقاهرة، والناس يجتمعون به ويهرعون إليه، ولم يزل كذلك إلى أن سافر في سنة اثنتي عشرة وسبع مائة. واستقر إلى أن توفي رحمه الله تعالى في تأريخ مايأتي ذكره. (9/ 150 0 151). وفيها (¬1) توفي الشيخ تقي الدين ابن التيمية، رحمه الله تعالى. (9/ 349). ¬

_ (¬1) سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة.

10 - رسالة من عبدالله بن حامد (أحد علماء الشافعية) إلى أبي عبدالله ابن رشيق في الثناء على شيخ الإسلام

رسالة من عبد الله بن حامد أَحد علماء الشافعية إلى أبي عبد الله [ابن رُشَيِّق] في الثناء على شيخ الإسلام (¬1) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من أَصغر العباد عبد الله بن حامد إلى الشيخ الإمام العالم العامل، وقدوة الأَفاضل والأماثل، مجمّل المجالس والمحافل، المحامي عن دين الله، والذَّابّ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعتصم بحبل الله، الشيخ المبجل المكرم أَبي عبد الله، أسبغ الله عليه نعمه، وأَيَّد بإصابة الصواب لسانه وقلمه، وجمع له بين السعادتين، ورفع درجته في الدارين بمنِّه ورحمته. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أَمَّا بعد، فإِني أَحمد إِليك الله الذي لا إله إلا هو، ثم وافاني كتابك وأَنا إليك بالأشواق، ولم أّزل ¬

_ (¬1) هي ملحقة بـ "العقود الدرية": (ص/ 502 - 507)، ونشرها د/ محمد رشاد سالم في مقدمة "درء التعارض": (1/ 40 - 43)، وضمنها العلامة الألوسي كتابه "غاية الأماني" (1/ 387 - 389). ومنها نسخة خطية في مكتبة كوبريلي برقم 1142/ 6 (ق 188 ب- 190 أ). والمكتوب إليه "أبو عبد الله" هو ابن رشيق لا ابن عبد الهادي، فقد طُلِب منه إنفاذ فهرس مؤلفات الشيخ وبعض كتبه، وابن رشيق هو المعروف بذلك. والرسالة ليست ضمن "العقود" بل ملحقة به، فالكتاب ينتهي بصفحة 497، وما بعدها ملحق به من قبل بعض القراء أو النساخ. وانظر "نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا" (1/ 48)، ففيه ذكر رسالة ابن رشيق في الردّ عليها، وهذا يُرجح ما ذكرنا.

مسائلاً ومستخبرًا الصادرَ والوارد عن الأنباء، طاب مسموعها، وسرَّ ما يسرّ منها. وما تأخر كتابي عند هذه المدّة مللاً ولا خللاً بالمودّة، ولا تهاونًا بحقوق الإخاء، حاشا لله أنْ يشوب الأُخوّةَ في الله جفاء، ولا أَزال أَتعلل بعد وفاة الشيخ الإمام - إِمام الدنيا رضي الله عنه - بالاسترواح إِلى أَخبار تلامذته وإخوانه وأَقاربه وعشيرته والخصيصين به، لما في نفسي من المحبة الضرورية التي لا يدفعها شيءٌ، على الخصوص لمَّا اطلعت على مباحثه واستدلالاته التي تُزلزِل أركان المبطلين، ولا يثبت في ميادينها سفسطة المتفلسفين، ولا يقف في حلباتها أقدام المبتدعين من المتكلِّمين. وكنت قبل وقوفي على مباحث إِمام الدنيا - رحمه الله - قد طالعت مصنفات المتقدمين، ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الفلسفة ونُظَّار أَهل الإسلام؛ فرأيت فيها الزخارف والأباطيل والشكوك التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أَن تخطر بباله، فضلاً عن القوي في الدين؛ فكان يتعب قلبي ويحزنني ما يصير إليه الأَعاظم من المقالات السخيفة والآراء الضعيفة، التي لا يعتقد جوازَها آحادُ الأمة، وكنت أَفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أَصحاب الإمام أحمد - رحمه الله - على الخصوص، لاشتهارهم بالتمسك بمنصوصات إِمامهم في أُصول العقائد فلا أَجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون إِذ يؤصِّلون أُصولاً يلزم فيها ضد ما يعتقدون، أو يعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، فإِذا جمعتُ بين أَقاويل المعتزلة والأشعرية، وحنابلة بغداد وكرَّامية خراسان أَرى أَن إجماع هؤلاء المتكلمين في المسأَلة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسوؤني ذلك،

وأَظل أَحزن حزنًا لا يعلم كنهه إِلا الله، حتّى قاسيت من مكابدة هذه الأُمور شيئًا عظيمًا لا أستطيع شرح أَيسره، وكنت ألتجئ إِلى الله سبحانه وتعالى وأتضرّع إليه، وأَهرب إلى ظواهر النصوص، وألقى المعقولات المتباينة، والتأويلات المصنوعة فتنبو الفطرة عن قبولها، ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصَّريح في أمهات المسائل، غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولاً وتصميمًا للعقد عليه، حيث لا أراه مأثورًا عن الأئمة وقدماء السَّلف، إلى أن قدَّر الله سبحانه، وقوع مصنّف (¬1) الشيخ الإِمام - إمام الدنيا رحمه الله - في يدي، قبيل واقعته الأَخيرة بقليل، فوجدت فيه ما بهرني من موافقة فطرتي لما فيه، وعزو الحقّ إلى أئمة السنة وسلف الأُمة، مع مطابقة المعقول والمنقول! فبهت لذلك سرورًا بالحقّ، وفرحًا بوجود الضَّالّة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل - رحمه الله - محبة ضروريّة، تقصر عن شرح أَقلّها العبارات ولو أَطنبت، ولما عزمت على المجاهرة إِلى لقيه، وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعِد. ولما حججت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إِلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته، ببذل مهما أَمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته - رحمه الله تعالى - مع الرجوع إلى العراقِ، قبيل وصولي الكوفة، وجدت عليه مالا يجده الأخ على شقيقه - استغفر الله - بل ولا الوالد الثّاكِل على ولده، وما دخل في قلبي من الحزن لموت أَحدٍ من الولد والأقارب والإِخوان كما وجدته عليه - رحمه الله تعالى - ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي؛ ¬

_ (¬1) لعلَّه يقصد "درء تعارض العقل والنقل".

إِلا ويتجدد لي حزن قديمُه كأنه محدث، ووالله ما كتبتها إلا وأَدمعي تتساقط عند ذكره أَسفًا على فراقه وعدم ملاقاته، فإنّا لله وإنّا إِليه راجعون، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وما شرحت هذه النبذة من محبة الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - إلا ليتحقق بعدي عن الملل (¬1) الموهوم، لكن لما سبق الوعد الكريم منكم بإِنفاذ فهرست مصنفات الشيخ - رضي الله عنه - وتأخر ذلك عني، اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقيّة، أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكتّ عن الطلب خشية أن يلحق أَحدَا ضرر - والعياذ بالله - بسببي، لما كان قد اشتهر في تلك الأحوال، فإن أَنعمتم بشيءٍ من مصنفات الشيخ - رحمه الله تعالى - كانت لكم الحسنة عند الله تعالى علينا بذلك، فما أَشبه كلام هذا الرجل بالتِّبر الخالص المصفى!. وقد يقع في كلام غيره من الغش، والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحقّ بحرص وعدم هوى، ولا أزال أتعجّب من المنتسبين إلى حبّ الإنصاف في البحث، المُزْرِين على أهل التقليد؟ المعقولات التي يزعمون أن مستندَهم الأَعظمَ الصريحُ منها، كيف يباينون ما أَوضحه من الحق وكشف عن قِناعه؟ وقد كان الواجب على الطلبة شدّ الرحال إليه من الآفاق ليرو العجب، وما أَشبه حال المباينين له من المنتسبين إلى العلم، الطالبين للحقّ الصريح الذي أَعياهم وجدانه بحال قوم ذبحهم العطش والظمأ في بعض المفازات، فحين أشرفوا على التلف لمع لهم شطّ كالفرات أو دجلة أو كالنيل، فعند معاينتهم لذلك اعتقدوه سرابًا لا ¬

_ (¬1) كذا في نسخة، وفي العقود: "الملك". ولعلها: "المَلَق" يعني: أنه لا يقصد التملُّق لأحدٍ من أصحاب النسخ.

شرابًا، فولّوا عنه مدبرين، وتقطّعت أَعناقهم عطشًا وظمأً!! فالحكم لله العلي الكبير، وما أَرسلنا الكتب المقابلة من الطرفين ففيه تعسُّف! (¬1) وتمهدون العذر في الإطناب. فهذا الذي ذكرته في حالي مع الشيخ كالقطرة من البحر، وإن أَنعمتم بالسلام على أَصحاب الشيخ وأَقاربه - كبيرهم وصغيرهم - كان ذلك مضافًا إلى سابق إنعامكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأنتم في أَمان الله ورعايته، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا. ¬

_ (¬1) كذا في الأصول، وفي العبارة غموض.

11 - لقطة العجلان في مختصر وفيات الأعيان

لقْطة العَجْلاَنِ في مُخْتَصَرِ وَفَيَاتِ الأَعْيَانِ (¬1) للعلاّمة / عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني (743) الحافظ تقي الدين ابن تيمية، أَبو العبّاس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيميّة الحرّاني الدِّمشقي. شيخ العلوم الإِسلامية، وأَساس القواعد الدينيَّة، وابن بجدة الأَحاديث النَّبويّة، جَمَع من المعقول والمنقول، وردَّ على فلاسفة الحكماء فيما يتعلّق بالمعقول، إِذا تكلَّم في مسألةٍ فحدِّث عن البحر ولا حرج، وإِذا استمرَّ في معنىً من المعاني لا يكاد سامعه يقول عنه خَرْج، مع فصاحة لسانٍ، وبلاغةٍ ملكت أَزِمَّة التِّبيان. وأَمَّا الزّهد في الدّنيا، ورفض زخرفها، فإِليه الغاية، وعنده يوجد في هذا الشَّأن النهاية، أَجْمَعَ من شاهد معارفه، وتحقّق عوارفه: أَنّه نسيج وحده، وفريد وقته في علمه ومجده. كان له اطلاع على مذاهب الإِسلام، وإِتقان لمسالك الحلال والحرام، ودراية بالتَّوراة والأَنجيل. وعلى الجملة؛ لم يسمح الزمن له بمثيل، تقصر العبارة عن ذكر صفاته على التَّفصيل، فلذلك جاء لسان العلم بها مسرودَة على طريق ¬

_ (¬1) نسخة الخزانة العامة بالرباط برقم (627 / ق) [ق 106 ب- 107 أ].

الإِجمال، ولو شُرع في تفاصيلها لأوْقِرَ منه الأَحمال فالأَحمال. ما زال يَسْبِقُ حتَّى قال حاسِدُهُ ... له طريقٌ إِلى العلياءِ مُخْتصرُ خصَّه الله مع هذه المزايا بكرمٍ يستقلّ الدّنيا لوافده ويستنزرُ الكبريت الأَحمر لقاصده، مع أَمرٍ بالمعروف، وإِغاثة للملهوف، واتِّباعٍ لسنن الصَّحابة، واقتفاءٍ لآثار أُولي الإِنابة، ما ورث العلم عن كلالة، بل بيتُه لأَهِلَّة العلوم هالة. ونقل الحافظ أَبو عبد الله محمد بن أَحمد بن عثمان الذَّهبي الدِّمشقي أَنَّ مصنَّفاته تُنِيْفُ على خمس مئة مجلَّد. ولد سنة ستين (¬1) وست مئة بحرَّان، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبع مئة بدمشق بقلعتها، لأمور جرت بينه وبين علماء عصره وعُقدت له مجالس فيما يتعلَّق بمسائل عديدة أُصولية وفروعيَّة، واستقرّ آخر الأَمر على أن يُبنى له في القلعة مكان ويُمنع منه من أَراد الوصول إِليه، وأقبل بعد ذلك على التَّصنيف والاكثار منه، يُقال: إِنَّه وضع تفسيرًا مطوَّلً أتى فيه بالغريب والعجيب. ولقد سبقه من قبله الإمام أَبو محمد علي بن حزم فيما اتفق له حذو القذَّة بالقذَّة، عفا الله عن الجميع، وغفر لهم، إِنَّه وليُّ الإِجابة. ¬

_ (¬1) الصواب: إحدى وستين.

12 - مختصر طبقات علماء الحديث

مختصر طَبَقَاتِ عُلَمَاءِ الحَدِيث (¬1) للعلاَّمة / محمَّد بن أَحمد بن عبد الهادي الحنبلي (744) ابن تَيْمِيَّة شيخُنا الإِمام الرَّبَّاني، إِمام الأئمة، ومُفتي الأُمة، وبحرُ العلوم، سَيِّد الحُفَّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريدُ العَصْر، وقريع الدَّهر، شيخ الإِسلام، قُدْوة الأنام، عَلاَّمة الزَّمان، وتَرْجُمان القرآن، عَلَمُ الزُّهَّاد، وأَوْحد العُبَّاد، قامعُ المبتدعين، وآخر المُجْتهدين، الشَّيخ تقي الدين؛ أّبو العَبَّاس، أَحمد بن الشَّيخ الإِمام شهاب الدين أَبي المحاسن عبد الحليم بن الشَّيخ الإِمام شيخ الإِسلام مجدالدين أَبي البركات عبد السلام بن أَبي محمَّد عبد الله بن أَبي القاسم الخَضِر بن [محمَّد بن الخضر] بن عليّ بن عبد الله الحَرَّاني؛ نزيل دمشق، وصاحب التَّصانيف الَّتي لم يُسْبق إِلى مثلها. قيل: إِنَّ جَدَّه محمَّد بن الخَضِر حَجَّ - وله امرأة حامل - على درب تَيْماء، فرأى هناك جاريةً طِفْلة قد خرجت من خِبَاءٍ، فلما رجع إِلى حَرَّان وجد امرأته قد ولدت بنتًا، فلما رآها قال: يا تَيْمِيَّة، يا تَيْمِيَّة، فلُقِّب بذلك. ¬

_ (¬1) (4/ 279 - 296) نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1417. وانظر "العنوان الصحيح للكتاب": (ص/ 92) في الكلام على عنوان الكتاب.

وقال ابنُ النَّجَّار: ذُكر لنا أَنَّ محمَّدًا هذا كانت أمّه تسمى تَيْمِيَّة، وكانت واعظة، فنسب إِليها، وعُرِفَ بها. ولد شيخنا بِحَرَّان يوم الاثنين عاشر - وقيل ثاني عشر - ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة. وقدم مع والده وأهله إِلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حَرَّان مُهَاجِرين بسنن جَوْر التَّتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدَّواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفتِ العجلة، فابتهلوا إِلى الله واستغاثوا به فنجوا وسَلِموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين؛ جُزْءَ ابنِ عرفة، وغير ذلك. ثمَّ سمع شيخنا الكثير من: ابن أَبي اليُسْر، والكمال بن عبد، والشَّيخ شمس الدين الحَنْبَلي، والقاضي شمس الدين بن عطاء الحَنفِي، والشَّيخ جمال الدين بن الصَّيْرفي، ومجد الدين بن عَسَاكر، والنَّجيب المِقْداد، وابن أَبي الخير، وابن علان، وأَبي بكر الهَرَوي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدين البُخَاري، وابن شَيْبَان، والشرف بن القَوَّاس، وينب بنت مكي، وخَلْق كثير. وشيوخه الَّذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ: وسمع «مسند الإِمام أَحمد» مَرَّات، و «معجم الطَّبَراني الكبير»، والكتب الكبار، والأجزاء، وعني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مدة سنين، وقرأ «الغيلانيات» في مجلس، ونسخ وانتقى، كَتَبَ الطِّباق والأثبات، وتعلَّم الخَطَّ والحساب في المكتب، واشتغل

بالعلوم، وحَفِظ القُرْآن، وأقبل على الفِقْه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي (¬1) ثمَّ فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتَّى فهِمَه، وبرع في النَّحْو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليًا حتَّى حاز فيه قصب السَّبْق، وأحكم أُصول الفقه، وغير ذلك، هذا كلُّه وهو بَعْدُ ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفُضَلاء من فَرْط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه. نشأ في تصوُّنٍ تام، وعفاف تألُّهٍ، واقتصاد في المَلْبَس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفَا صالحًا سلفيًا، بَرًّا بوالديه، تقيًا، ورعًا، عابدًا ناسكًا، صَوَّامًا قَوَّمًا، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تكاد نَفْسُه تشبع من العِلْم، ولا تَرْوى من المطالعة، ولا تَمَلُّ من الاشتغال، ولا تَكِلُّ من البحث، وقلَّ أن يَدْخُلْ في علم من العلوم، في باب من أبوابه إِلاَّ ويُفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله. وكان يحضر المدارس والمحافل في صِغَرِه، فيتكلَّم ويناظر، ويُفْحِمُ الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيانُ البلد في العِلْم، وأفتى له نحو سبع عشرة سنة، وشَرَع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت. ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرَّس بعده بوظائفه؛ وله إِحدى وعشرون سنة، واشْتَهر أمره، وبَعُدَ صيته في ¬

_ (¬1) هو أبو محمد.

العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجُمَع على كرسي من حِفْظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقُّفٍ ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدَّرْس بتُؤَدَةٍ وصوتٍ جَهْوَري فصيح. وحَجَّ سنة إِحدى وتسعين (¬1) وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإِمامة في العِلْم، والعمل، والزُّهْد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتَّواضع، والحِلْم، والأناة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصِّدْق والأمانة والعفَّة والصِّيانة، وحُسْن القَصْد والإِخلاص، والابتهال إِلى الله، وشِدَّة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسُّك بالأثر، والدُّعاء إِلى الله، وحُسْن الأخلاق، ونفع الخلق والإِحسان إليهم. وكان - رحمه الله - سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجًى في حُلُوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحَقِّ ونُصْرة الدِّين، طَنَّت بذكره الأمصار، وضَنَّت بمثله الأعصار. وقال شيخنا الحافظ أَبو الحَجَّاج: ما رأيتُ مِثْلَه، ولا أرى هو مِثْلَ نَفْسِه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسُنَّة رسوله، ولا أتبه لهما منه. وقال العَلاَّمة كمال الدين بن الزَّمْلِكاني: كان إِذا سُئل عن فنٍ من العِلْم ظَنَّ الرَّائي والسَّامع أَنَّه لا يعرف غيرَ ذلك الفن، وحَكَمَ أن أحدًا لا يعرفه مِثْله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يُعرف أّنَّه ناظر أحدًا ¬

_ (¬1) كذا هنا، وفي "البداية والنهاية" و"المقفى": سنة اثنتين وتسعين.

فانقطع معه، ولا تكلَّم في عِلْم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إِلاَّ فاق فيه أهلَه والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطُّولى في حُسْن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين، ووقعت مسألة فرعية في قسمةٍ جرى فيها اختلافٌ بين المُفتين في العَصْر؛ فكتب فيها مجلَّدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حدٍّ من الحدود؛ فكتب فيها أيضًا مُجَلَّدة كبيرة، ولم يخرجْ في كلِّ واحدةٍ عن المسألة، ولا طوَّلَ بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيءٍ، وأتى في كل واحدةٍ بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها. وقرأت بخطِّ الشَّيخ كمال الدين أيضًا على كتاب «رفع الملام عن الأئمة والأعلام» لشيخنا: تأليف الشَّيخ الإمام العالم، العلاَّمة الأَوْحد، الحافظ المُجْتهد، الزَّاهد العابد، القُدْوة، إِمام الأئمة، قُدْوة الأُمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدِّين، بركة الإِسلام، حُجَّة الأعلام، بُرْهان المتكلمين، قاع المبتدعين، محيي السُّنَّة، ومَنْ عَظُمَتْ به لله علينا المِنَّة، وقامت به على أعدائه الحُجَّة، واستبانت ببركته وهدية المَحَجَّة، تقي الدين أبي العَبَّاس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السَّلام ابن تيميَّة الحَرَّاني، أعلى الله مناره، وشَيَّد به من الدين أركانه. ماذا يقولُ الواصفونَ له ... وصِفاته جلَّتْ عن الحَصْرِ هو حُجّةٌ لله قاهِرَةٌ ... هُو بيننا أُعجوبةُ الدَّهْرِ هو آيةٌ في الخَلْقِ ... ظاهِرَةٌ أَنْوارها أرْبَتْ على الفَجْرِ

وهذا الثَّناء عليه وكان عمره نحو الثَّلاثين سنه، وقد أثنى عليه خَلْقٌ من شيوخه، ومن كبار علماء عَصْره كالشيخ شمس الدين ابن أَبي عمر، والشيخ تاج الدين الفَزَاري، وابن مُنَجَّى، وابن عبد القوي، والقاضي الخُوَيِّي، وابن دقيق العيد، وابن النَّحَّاس، وغيرهم. وقال الشَّيخ عماد الدين الواسطي - وكان من الصلحاء العارفين - وقد ذكره: هو شيخنا السيِّد الإِمام، الأُمة الهمام، محيي السُّنَّة، وقامع البِدُعة، ناصر الحديث، مُفْتي الفِرَق، الفاتق عن الحقائق وموصلها بالأُصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظَّاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهرًا وقلبه في العُلَى قاطن، أُنموذج الخلفاء الرَّاشدين، والأئمة المهديين، الشَّيخ الإِمام تقي الدين أَبو العَبَّاس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام ابن تيميَّة أعاد الله بركته، ورفع إِلى مدارج العُلى درجتَه. ثمَّ قال في أثناء كلامه: واللهِ ثمَّ واللهِ ثمَّ واللهِ لم أَرَ تحت أديم السَّماء مِثْلَه عِلْمًا وعملاً وحالاً وخُلُقًا وكرمًا وحِلْمًا في حقِّ نَفْسه، وقيامًا في حَقِّ الله عند انتهاك حرماته. ثمَّ أطال في الثناء عليه. وقال الشَّيخ عَلَم الدين (¬1) في «معجم شيوخه»: أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن محمَّد بن تيميَّة الحَرَّاني الشَّيخ تقي الدين أَبو العَبَّاس، الإِمام المُجْمَع على فَضْله ونُبْله ودينه، قرأ الفِقْه وبَرَعَ فيه، والعربية والأُصول، ومَهَرَ في عِلْمَي التفسير ¬

_ (¬1) البرزالي.

والحديث، وكان إمامًا لا يلحق غُبَاره في كلِّ شيء، وبَلَغ رُتْبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إِذا ذكر التفسير أبهت النَّاس من كثرة محفوظه، وحُسْن إيراده، وإعطائه كلَّ قولٍ ما يستحقُّه من التَّرْجيح والتَّضْعيف والإِبطال، وخَوْضه في كل عِلْم، كَانَ الحاضرون يقضون منه العَجَب، هذا مع انقطاعه إِلى الزُّهد والعِبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرُّد من أسباب الدُّنيا، ودعاء الخلق إِلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كلِّ جُمُعة على النَّاس يفسِّر القُرْآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصِدْق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، وأناب إِلى الله خَلْقٌ كثير، وجَرَى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلُّل من الدُّنيا، وردِّ ما يفتح به عليه. وقال علم الدِّين في موضع آخر: رأيتُ في إجازة لابن الشَّهْرَزُوري المَوْصِلي خَطَّ الشَّيخ تقي الدِّين، وقد كَتَبَ تحته الشَّيخُ شمس الدين الذَّهَبيّ: هذا خَطُّ شيخنا الإِمام، شيخ الإِسلام، فَرْد الزَّمان، بحر العلوم، تقيِّ الدين. مولده عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة، وقرأ القُرْآن والفِقْه، وناظر استدلَّ وهو دون البلوغ، وبَرَعَ في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وله نحو العشرين، وصنَّف التَّصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المُصَنَّفات الكبار الَّتي سارت بها الركبان، ولعلَّ تصانيفَه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كُرَّاس وأكثر، وفَسَّر كتاب الله تعالى مدة سنين من صَدْره أيام الجُمَع، وكان يتوقَّد ذكاءً، وسماعاتُه من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إِليها المُنْتَهى، وحِفْظُه للحديث ورجاله وصِحَّته وسُقمِه فما يُلْحق فيه، وأما نَقْلُه للفِقه ومذاهب الصَّحابة والتابعين -

فضلاً عن المذاهب الأربعة - فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنِّحَل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرًا، ويدري جُمْلَةً صالحة من اللُّغة، وعربيته قويةٌ جِدًّا، ومعرفته بالتَّاريخ والسِّيَر فَعَجَبٌ عجيب، وأما شجاعتُه وجهادُه وإقدامه فأمر يتجاوز الوصفَ ويفوق النَّعتَ، وهو أحد الأجواد الأسخياء الَّذين يُضْرب بهم المَثَل، وفيه زُهْد وقَنَاعةٌ باليسير في المأكل والمَلْبَس وقال الذَّهَبيّ في موضع آخر: كَانَ آيةً في الذكاء وسُرْعة الإِدراك، رأسًا في مَعْرفة الكتاب والسُّنَّة والاختلاف، بحرًا من النَّقليات، هو في زمانه فريد عَصْره عِلْمًا وزُهْدًا وشجاعةً وسخاءً، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وكثرة تصانيف. إِلى أن قال: فإِنْ ذُكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عُدَّ الفقهاء، فهو مجتهدهم المُطْلق، وإن حَضَر الحُفَّاظ نَطَقَ وخَرِسُوا، وسَرَد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمِّي المتكلِّمون فهو فَرْدُهم، وإليه مَرْجعهم، وإن لاح ابنُ سينا يَقْدُم الفلاسفة فَلَّسهم وتيَّسَهُم (¬1)، وهَتَك أستارهم، وكشف عُوَارهم، وله يدٌ طُولى في معرفة العربية والصَّرْف واللُّغة، وهو أعظم من أن تَصِفَه كَلِمي، وينبِّه على شَأوه قلمي، فإِنَّ سيرتَه وعلومَه ومعارفَه ومِحَنًه وتنقلاتِه يحتمل أَنْ ترصَّع في مجلَّدتين. وقال في مكان آخر: وله خِبْرَة تامَّة بالرِّجال، وجَرْحهم وتَعْديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٍ بفنون الحديث، وبالعالي والنَّازل، وبالصَّحيح والسَّقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ¬

_ (¬1) أي: أَبطل قولهم. انظر "اللسان".

ولا يُقارِبه، وهو عَجَبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى الكتب السِّتَّة والمُسند بحيث يَصْدُق عليه أن [يقال]: «كلُّ حديثٍ لا يعرفه ابنُ تيميَّة فليس بحديث»؛ ولكن الإِحاطة لله، غير أَنَّه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السَّواقي، وأما التفسير فمسلَّم إِليه، وله في استحضار الآيات من القُرْآن - وقت إقامة الدَّليل بها على المسألة - قوةٌ عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحيَّر فيه، ولفرط إِمامته في التفسير وعَظَمة اطِّلاعه يبيِّنُ خطأ كثيرٍ من أقوال المُفَسِّرين، ويُوهي أقوالاً عديدة، وينصُرُ قولاً واحدًا موافقًا لما دَلَّ عليه القُرْآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أَو من الفِقْه، أَو من الأصلين، أَو من الرَّدِّ على الفلاسفة والأوائل نحوًا من أربعة كراريس أَو أزيد، وما أُبْعِدُ أَنَّ تصانيفه إِلى الآن تبلُغُ خمس مئة مجلَّدة، وله في غير مسألةٍ مصنَّفٌ مفرد في مجلَّد. ثمَّ ذكر بعض مصنفاته وقال: ومنها كتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلَّدتين. قلتُ: هذا الكتاب - وهو كتاب «درء تعارض العقل والنقل» - في أربع مجلدات كبار، وبعض النسخ به في أكثر. ومن مصنَّفاته: كتاب «بيان تَلْبيس الجَهْمية في تأسيس بِدَعهم الكلامية» في ستِّ مجلدات، وبعض النُّسخ به في أكثر، وكتاب «جواب الاعتراضات المِصْرية على الفُتْيا الحَمَوية» في مجلَّدات، وكذلك كتاب «مِنْهاج السُّنَّة النَّبوية في نَقْض كلام [الشِّيَع] والقدرية»، وكتاب في الرَّد على النَّصَارى سماه «الجواب الصَّحيح لمن بدَّل دين المسيح»، ومن مصنَّفاته أيضًا كتاب «الاستقامة» في مجلَّدين، وكتاب في محنته بمصر

في مجلَّدين، وكتاب «الإِيمان» في مجلَّد، وكتاب «تنبيه الرَّجل العاقل على تمويه المجادل في الجدل الباطل» في مجلَّد، وكتاب «الرد على أهل كسروان الرَّافضة» في مجلَّدين، وكتاب في الردِّ على المَنْطق، وكتاب في الوسيلة، وكتاب في الاستغاثة، وكتاب «بيان الدليل على بطلان التحليل»، وكتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول»، وكتاب «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم»، وكتاب «التحرير في مسألة حفير»، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام»، وكتاب السِّياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»، وكتاب «تفضيل صالح النَّاس على سائر الأجناس»، وكتاب «التحفة العراقية في الأعمال القلبية»، وكتاب «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان»، وكتاب «المسائل الإِسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية»، وتُعْرَف بالسَّبْعِينيَّة. وعدد أسماء مصنَّفاته يحتاج إِلى أوراق كثيرة، ولذكرها موضع آخر، وله من المؤلَّفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل والتَّعالِيق ما لا ينحصر ولا ينظبط، ولا أعلم أحدًا من المتقدِّمين ولا من المتَأخِّرين جَمَعَ مثل ما جمع، ولا صنَّف نحو ما صنَّف، ولا قريبًا من ذلك؛ مع أَنَّ تصانيفه كَانَ يكْتُبها من حِفْظه، وكتب كثيرًا منها في الحَبْس وليس عنده ما يحتاج إليه، ويراجعه من الكتب. وقال الشَّيخ فتح الدِّين بن سَيِّد النَّاس - بعد أَنْ ذكر ترجمة شيخنا الحافظ أَبي الحَجَّاج الَّتي تقدَّم ذكرها-: وهو الَّذي حداني على رُؤية الشَّيخ الإِمام شيخ الإِسلام تقي الدين أَبي العَبَّاس أَحمد بن عبد الحليم ابن تيميَّة؛ فألفّيْتُه ممن أدرك من العلوم حَظًّا، وكاد يستوعب السُّنَن والآثار حِفْظًا، إنْ تكلَّم في التفسير [فهو حامل رأيته، أَو أفتى في الفِقْه

فهو مدرك غايته، أَو ذاكر بالحديث فهو صاحب عِلْمِه وذو روايته، أَو حاضر بالنِّحَل والملل لم يُر أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مِثْلَ نفسه، كَانَ يتكلَّم في التفسير] فيحضر مجلِسَه الجمُّ الغفير، ويردون من بحر عِلْمه العَذْب النَّمير، ويرتعون من ربيع فَضْله في روْضة وغدير. إلى أَنْ دبَّ إِليه مِنْ أهل بلاده داء الحسد، وأكبَّ أهلُ النَّظر منهم على ما يُنْقد عليه من أمور المعتقد، فحفِظُوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوَّقُوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أَنَّه خالف طريقهم، وفرَّق فريقَهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه، ثمَّ نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إِلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدقِّ باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها - على ما زعم - بوائق، فآضَتْ إِلى الطَّائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمرَه، وأعمل [كلٌّ] منهم في كُفْره فِكْرَه، فرتَّبوا محاضر، وألَّبوا الرُّوَيْبِضَة للسَّعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إِلى حَضْرة المملكة بالدِّيار المِصْرية، فَنُقِلَ وأُودع السِّجْن ساعةَ حُضُوره واعْتُقل، وعقدوا لإِراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قَوْمًا من عُمَّار الزَّوايا وسكان المدارس، من مُجَامل في المُنَازعة مخاتِلٍ في المخادعَة، ومن مُجاهر بالتَّكْفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه رَيْبَ المضنُون {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص/ 69]. وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبَّتْ إِليه عقارب مكره، فَرَدَّ الله كيد كلٍّ في نحره، ونجاه على يد من اصْطَفَاه،

والله غالب على أمره، ثمَّ لم يَخْلُ بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طوال عمره من محنة إِلاَّ إِلى محنة، إِلى أَنْ فُوِّض أمره لبعض القُضَاة فتقلَّد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزلْ بمحبسه ذلك إِلى حين ذهابه إِلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطَّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور، وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كلٍّ فَجٍّ عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشَرْجَعِهِ (¬1) حتَّى كسروا تلك الأعواد!! ثمَّ ذكر يوم وفاته ومَوْلده، ثمَّ قال: وقرأتُ على الشَّيخ الإِمام حامل راية العلوم، ومُدْرك غاية الفهوم، تقي الدين أَبي العَبَّاس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن تيميَّة - رحمه الله - بالقاهرة - قدم علينا - ثمَّ ذكر حديثًا من جُزْء ابنِ عَرَفة. قلتُ: أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحَمَوية سنةَ ثمانٍ وتسعين في قعدَةٍ بين الظُّهر والعَصْر، وهي جواب سؤال ورد من حماة في الصِّفات، وجرى له بسبب ذلك محنة، ونصره الله وأذلَّ أعداءه، وما حصل له بعد ذلك إِلى حين وفاته من الأمور والمِحَن والتنقلات تحتاج إِلى عِدَّة مجلَّدات، وذلك كقيامه في نوبة غازان سنة تسع، والتقائه أعباء الأمر بنفسه، واجتماعه بالملك وبنائه خطلوشاه وببُولايَ، وإقدامِه وجُرْأته على المغول، وعظيمِ جهاده، وفَعْلِهِ الخيرَ، من إنفاق الأموال، وإطعام الطَّعام، ودفن المَوْتى، ثمَّ توجهه بعد ذلك بعام إِلى الدِّيار المِصْرية، وسوقه على البريد إِليها في جُمُعةٍ لما قَدِمَ التَّتار إِلى أطراف البلاد، واشتدَّ الأمر بالبلاد الشَّامية، واجتماعه بأركان الدَّوْلة، ¬

_ (¬1) أي سريره. انظر التعليق (ص/ 189).

واستصراخه بهم، وحضِّهم على الجهاد، وإخباره لهم بما أَعَّد الله للمجاهدين من الثواب، وإبدائهم له العذر في رجوعهم، وتعظيمهم له، وتردد الأعيان إِلى زيارته، واجتماع ابن دقيق العيد به، وسماعه كلامه، وثنائه عليه الثَّناء العظيم، ثمَّ توجهه بعد أيام إِلى دمشق واشتغاله بالاهتمام لجهاد التَّتار، وتحريض الأمراء على ذلك، إِلى ورود الخبر بانصرافهم، ثمَّ قيامه في وقعة شَقْحب المشهورة سنة اثنتين وسَبْع مئة، واجتماعه بالخليفة السُّلْطان، وأرباب الحَلِّ والعقد، وأعيان الأمراء وتحريضهم لهم على الجهاد، ومَوْعظته لهم، وما ظهر في هذه الواقعة من كراماته وإجابة دُعَائه، وعظيمِ جهاده، وقوَّة إيمانه، وشدَّة نُصْحه للإِسلام، وفرط شجاعته، ثمَّ توجهه بعد ذلك في آخر سنة أربع لقتال الكِسْروانيين وجهادهم، واستئصال شأفتهم، ثمَّ مناظرته للمخالفين سنةَ خمسٍ في المجالس الَّتي عُقِدَتْ له بحضرة نائب السلطنة الأفرم، وظهوره عليهم بالحُجَّة والبيان، ورجوعه إلى قوله طائعين ومكرهين، ثمَّ توجهه بعد ذلك في السَّنَة المذكورة إِلى الدِّيار المِصْرية صحبة قاضي الشَّافعية، وعَقْد مجلس له حين وصوله بحضور القُضَاة وأكابر الدَّوْلة، ثمَّ حبسه في الجُبِّ بقلعة الجبل، ومعه أخواه سنةً ونصفًا، ثمَّ خروجه بعد ذلك، وعقد مجالس له ولخصومه وظهوره عليهم، ثمَّ إقرائه للعِلْم وبَثِّه ونَشْره، ثمَّ عقد له في شَوَّال من سنة سبع لكلامه في الاتِّحادية وطعنه عليهم، ثمَّ الأمر بتسفيره إِلى الشَّام على البريد، ثمَّ رَدَّه من مرحلةٍ وسجنه بحَبْس القُضَاة سنةً ونصفًا، وتعليمه أهلَ الحَبْس ما يحتاجون إِليه من أمور الدِّين، ثمَّ إخراجه منه، وتوجهه إِلى الإِسكندرية، وجَعْلِهِ في برج حَسَنٍ منها ثمانية أشهُرٍ يدخل إِليه مَنْ شاء، ثمَّ توجهه إِلى مِصْر، واجتماعه بالسُّلْطان في مجلس حفل فيه القضاة وأعيان الأمراء، وإكرامه له إكرامَا عظيمًا، ومشاورتِه له في قَتْل

بعض أعدائه، وامتناع الشَّيخ من ذلك، وجَعْله كل من آذاه في حِلٍّ ثمَّ سُكْناه بالقاهرة، وعودِهِ إِلى نَشْر العِلْم ونفع الخَلْق، وما جرى بعد ذلك من قضيةِ البكري وغيرها، ثمَّ توجهه بعد ذلك إِلى الشَّام صحبة الجيش المِصْري قاصدًا للغَزَاة بعد غيبته عن دمشق سَبْع سنين وسبع جُمَع، وتوجهه في طريقه إِلى بيت المقدس، ثمَّ ملازمته بعد ذلك بدمشق لنشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الخَلْق، إِلى أَنْ تكلَّم في مسألة الحَلِف بالطَّلاق، فأشار عليه بعض القُضَاة بتَرْك الإِفتاء بها في سنة ثمان عشرة؛ فقبل إشارته، ثمَّ ورد كتاب السُّلْطان بعد أيام بالمَنْع من الفتوى عليها، ثمَّ عاد الشَّيخ إِلى الإفتاء بها وقال: لا يَسَعُني كِتْمان العِلْم. وبقي كذلك مُدَّةً إِلى ان حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا، ثمَّ أُخرج، ورجع إِلى عادته من الأشغال وتعليم العِلْم، ولم يزل كذلك إِلى أن ظفروا له بجواب يتعلَّق بمسألة شَدِّ الرِّحال إِلى قبور الأنبياء والصَّالحين، كَانَ قد أجاب به من نحو عشرين سنة؛ وكَبُرَتِ القضية، وورد مرسوم السُّلْطان في شعبان من سنة ستٍّ وعشرين بجَعْلِهِ في القَلْعة؛ فأُخليت له قاعة حسنة، وأجري إِليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المُدَّة على العِبادة والتِّلاوة وتصنيف الكتب، والردِّ على المخالفين، وكَتَبَ على تفسير القرآن العظيم جملةً كبيرة تَشْتَمِلْ على نفائسَ جليلة، ونُكَتٍ دقيقة، ومعانٍ لطيفة، وأوضح مواضع كثيرة أشكلت على خَلْقٍ من المفسِّرين، وكَتَب في المسألة الَّتي حبس بسببها مجلَّدات عِدَّة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل المر إِلى أن مُنِعَ من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكُتُب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلمًا ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول: إِنَّ إخراج الكتب من عنده من أعظم

النِّعَم (¬1). وبقي أشهرًا على ذلك، وأقبل على التِّلاوة والعِبادة والتهجُّد حتَّى أتاه اليقين، فلم يفجأ النَّاسَ إِلاَّ نعيُهُ، وما علموا بمرضه، وكان قد مَرِضَ عشرين يومًا، فتأسَّف الخَلْقُ عليه، وحضر جَمْعٌ كبير، فأُذِنَ لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عِنْدَه قبل الغُسْل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثمَّ انصرفوا، وحضر جماعةٌ من النِّساء ففعلن مثل ذلك، ثمَّ انصرفن، واقْتُصِرَ على من يغسله ويعين عليه في غُسْله، فلما فُرِغَ من ذلك أُخرج وقد اجتمع النَّاس بالقَلْعة والطريق إِلى جامع دمشق، وامتلأ الجامعُ وصحنه الكلاَّسة وباب البريد وباب السَّاعات إِلى اللَّبَّادين والفوَّارة، وحضرتِ الجَنازةُ في السَّاعة الرابعة من النَّهار أَو نحو ذلك، ووُضِعَتْ في الجامع، والجُنْد يحفظونَها من النَّاس من شِدَّةِ الزِّحام، وصُلِّيَ عليه أولاً بالقلعة، تقدَّم في الصَّلاة عليه الشَّيخ محمَّد بن تَمَّام، ثمَّ صُلِّيَ عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظُّهرِ، وحُمِلَ من باب البريد، واشتد الزِّحام، وألقى النَّاس على نعشه مناديلَهم وعمائمهم للتبرُّك!! وصار النَّعش على الرؤوس، تارة يتقدَّم وتارة يتأخَّر، وخرج النَّاس من الجامع من أبوابه كلِّها من شِدَّةِ الزِّحام، وكل باب أعظم زحمةً من الآخر، ثمَّ خرج النَّاس من أبواب البلد جميعها من شدة الزِّحام، لكن كَانَ المعظم من الأبواب الأربعة باب الفَرَج الَّذي أُخرجت منه الجنازة، ومن باب الفراديس وباب النَّصْر وباب الجابية، وعَظُمَ الأمر بسوق الخيل، وتقدَّم في الصَّلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين، وحُمِلَ إِلى مقبرة الصُّوفية؛ فدفن إِلى جانب أخيه الإِمام شرف الدِّين - رحمهما الله -، وكان دَفْنُه وقتَ العَصْر أَو قبلها بيسير، وغلَّق النَّاس حوانيتهم، ولم يتخلَّف عن الحضور، إِلا نَفَرٌ قليل، أَو مَنْ عَجَزَ ¬

_ (¬1) أي: ليطلع عليها الجميع؛ طلابُه، وأعداؤه، انظر: "العقود": ص/ 366.

للزِّحام، وحضرها من الرِّجال والنِّساء أكثر من مئتي ألف، وشرب جماعةٌ الماء الَّذي فَضَل غُسْله، واجتمع جماعة بقية السِّدْر الَّذي غُسل به، وقيل إِنَّ الطَّاقية الَّتي كانت على رأسه دفع فيها خمسين مئة دِرْهم، وقيل إِنَّ الخيط الَّذي فيه الزئبق الَّذي في عنقه لأجل القّمْل دُفع فيه مئة وخمسون دِرْهَمًا، وحصل في الجَنَازة ضجيجٌ وبكاء عظيم، وتضرع كثير، وكان وقتًا مشهودًا، وخُتِمَتْ له ختم كثيرةٌ بالصَّالحية والبلد، وتردد النَّاس إِلى قبره أيامًا كثيرة ليلاً ونهارًا، ورؤيت له مناماتٌ كثيرة حَسَنةٌ، ورثاه جماعةٌ بقصائدَ جَمَّةٍ. وكانت وفاته ليلةَ الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسَبْعِ مئة، رحمه الله، ورضي عنه، وأثابه الجَنَّة برحمته.

الإِمام الذَّهَبيّ (748) 1 - ذيل تاريخ الإِسلام. 2 - معجم الشيوخ. 3 - تذكرة الحفاظ. 4 - ذيل العِبر. 5 - دول الإِسلام. 6 - الإعلام بوفيات الأعلام. 7 - المعين في طبقات المحدثين. 8 - ذِكْر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل. 9 - المعجم المختصّ.

13 - ذيل تاريخ الإسلام

ذيل تاريخ الإِسلام (¬1) ابن تَيْميَّة الشَّيخ، الإِمام، العالم، المُفسر، الفقيه، المُجتهد، الحافظ، المحدِّث، شيخ الإِسلام، نادرة العصر، ذو التَّصانيف الباهرة والذكاء المفرط، تقي الدين، أَبو العَبَّاس، أَحمد، ابن العالم المفتي شهاب الدين عبد الحليم، ابن الإِمام شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات عبد السَّلام مؤلف «الأحكام»، ابن عبد الله بن أَبي القاسم الحَرَّاني، ابن تَيْميَّة، وهو لقب لجده الأعلى. مولده في عاشر ربيع الأَوَّل، سنة إِحدى وستين وست مئة بحرَّان، وتحول به أبوه وأقاربه إِلى دمشق في سنة سبع وستين عند جور التَّتار؛ منهزمين في الليل؛ يجرون الذرية والكتب على عجلة؛ فإِنَّ العدو ما تركوا في البلد دواب سوى بقر الحرث، وكلَّت البقر من ثقل العجلة، ووقف الفران (¬2)، وخافوا من أَن يدركهم العدو، ولجأوا إِلى الله، فسارت البقر بالعجلة، ولطف الله تعالى، حتَّى انحازوا إِلى حد الإِسلام. فسمع من: ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليُسر، والكمال ابن عبد، ¬

_ (¬1) منه نسختان؛ الأولى بجامعة ليدن بهولندا برقم 320؛ والأخرى بمكتبة تشستربيتي بأيرلندا، ومنها صورة بجامعة الإمام برقم (4100). ويقال: هو ذيل للسِّيَر. (¬2) كذا في نسخة ليدن، وفي نسخة تشستربيتي غير واضحة.

وابن أَبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإِربلي، وابن علان، وخلق كثير، وأكثر وبالغ. وقرأ بنفسه على جماعة وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، و «سنن أَبي داود»، ونظر في الرجال والعلل. وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين والنبالة، والذكر، والصيانة. ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف؛ حتَّى كَانَ يقضي منه العجب إِذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثمَّ يستدل ويرجع ويجتهد، وحُقَّ له ذلك، فإِنَّ شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه؛ فإنني ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث، وعزوها إِلى الصحيح أَو إِلى المسند، أو إلى السنن منه؛ كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف. وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير، والتوسع فيه، لعل يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين. وأما أصول الديانة، ومعرفتها، ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة وأنواع المبتدعة؛ فكان لا يُشق فيه غباره، ولا يلحق شأوه. هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة الَّتي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذِّ النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية. ولقد سارت بتصانيفه الركبان في فنونٍ من العلم وألوان، لعلَّ تواليفه وفتاويه في الأصول، والفروع، والزهد، والتفسير، والتوكل،

والإخلاص، وغير ذلك تبلغ ثلاثة مئة مجلد، لا بل أكثر. وكان قوَّالاً بالحق، نهاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار. ومن خالطه وعرفه؛ قد ينسبني إِلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه؛ ينسبني إِلى التغالي فيه، وليس الأمر كذلك. مع أنني لا أعتقد فيه العصمة، كلا! فإنه مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدين، بشرٌ من البشر، تعتريه حدة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس، ونفورًا عنه. وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إِجماعٍ؛ فإِنَّ كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه، معترفون بشفوفه وذكائه، مقرّون بندور خطئه. لست أعني بعض العلماء الَّذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقت له، حتَّى استجهلوه وكفّروه ونالوا منه، من غير أَن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد ينصفه ويرد عليه بعلم. وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران - رحم الله الجميع -. وأنا أَقلّ من أَن ينبّه على قدره كلمي، أَو أَن يوضح نبأه قلمي؛ فأصحابه أعداؤه خاضعون لعلمه، مقرّون بسرعة فهمه، وأَنَّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جُوده حاتمي، وشجاعته خالدية. ولكن قد يَنْقِمون عليه أخلاقًا وأفعالاً؛ منصفُهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغاليهم مغرور، وإلى

الله ترجع الأمور. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع. فرحم الله امرأً تكلم في العلماء بعلم، أَو صمت بحلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثمَّ استغفر لهم، ووسَّع نطاق المعذرة، وإِلاَّ؛ فهو لا يدري، ولا يدري أَنَّه لا يدري. وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولا تعذر ابن تَيْميَّة في مفرداته؛ فقد أَقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف! وإن قلت: لا أعذره، لأَنَّه كافر، عدو الله تعالى ورسوله! قال لك خلقٌ من أَهل العلم والدين: ما علمناه والله إِلاَّ مؤمنًا محافظًا على الصلاة، والوضوء، وصوم رمضان، معظمًا للشريعة ظاهرًا وباطنًا. لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك. ولا هو بمتلاعب بالدين؛ فلو كَانَ كذلك؛ لكان أسرع شيء إِلى مداهنة خصومه، وموافقتهم، ومنافقتهم. ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن أَو بالحديث أَو بالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث؛ أُسوةَ مَنْ تقدمه من الأئمة، فإِن كَانَ قد أَخطأ فيها؛ فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كَانَ قد أصاب؛ فله أجران. وإِنَّما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى ولم يُبْدِ حجة، ورجل تكلم في مسألة بلا خميرةٍ من علم ولا توسُّعٍ في نقل؛ فنعوذ بالله من الهوى والجهل.

ولا ريب أَنَّه لا اعتبار بذم أعداء العالم؛ فإِنَّ الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف والقيام عليه. ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه؛ فإِنَّ الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدوها محاسن. وإنما العبرة بأهل الورع والتقوى من الطرفين، الَّذين يتكلمون بالقسط، ويقومون لله ولو على أنفسهم وآبائهم. فهذا الرَّجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهًا بوجه أصلاً، مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا عقلي أَن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوبًا له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده، فاللهُ يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إِذا صرنا إِلى ما صار إِليه. مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفًا أَنَّ خطأه فيها مغفور، بل قد يثبته الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد. مع أنِّي قد أوذيت لكلامي فيه من أَصحابه وأَضداده؛ فحسبي الله!. وكان الشَّيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، فليل الشيب، شعره إِلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهْوَري الصوت، فصيحًا، سريع القراءة. تعتريه حِدَّة، ثمَّ يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء. ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه. وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوه مُسرف مُكثر، كلا والله! توفي ابن تَيْميَّة إِلى رحمة الله تعالى معتقلاً بقلعة دمشق، بقاعةٍ بها،

بعد مرضٍ جدَّ أيامًا، في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القَعْدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة، حتَّى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقلُّ ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفًا، وقيل أكثر من ذلك، وحُمل على الرؤوس إِلى مقابر الصوفية، ودفن إِلى جانب أخيه الإِمام شرف الدين، رحمهما الله تعالى وإيانا والمسلمين.

14 - معجم الشيوخ

معجم الشيوخ (¬1) ابن تَيْميَّة أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم ابن تَيْميَّة، شيخنا الإِمام تقيّ الدين أَبو العَبَّاس الحَرَّاني. فريد العصر عِلمًا ومعرفةً وذكاءً وحفظًا وكرمًا وزهدًا، وفرطَ شجاعةٍ وكثرةَ تآليف والله يصلحه ويسدِّده، فلسنا بحمد الله ممن نَغْلُو فيه، ولا نجفو عنه، ما رُئي كاملاً أئمةُ التَّابعين وتابعيهم، فما رأَيته إلاّ ببطن كتاب. ولد شيخنا في عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة بحرَّان، وتحوَّلوا إِلى دمشق سنة سبعٍ وستين. فسمع من ابن عبد الدَّائم وابن أَبي اليُسر، وخلق كثير، وعُني بالرِّواية، وسمع الكتب و «المسند» و «المعجم الكبير». سمعت جُملةً من مصنفاته، وجزء ابن عَرَفة، وغير ذلك. وكانت وفاته في العشرين من شهر ذي القَعْدة، سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، مسجونًا بقاعة من قلعة دمشق، وشيَّعه أُممٌ لا يُحصون إِلى مقبرة الصوفية، ولم يخلف بعده مثله في العلم، ولا من يُقاربه. ¬

_ (¬1) (1/ 56 - 57)، تحقيق د/ محمد الهيلة، نشر مكتبة الصديق، بالطائف، الطبعة الأولى 1408.

15 - تذكرة الحفاظ

تذكرة الحفَّاظ (¬1) ابن تَيْميَّة الشيخُ الإِمام العلاّمةُ الحافظُ الناقد المجتهدُ المفسّرُ البارعُ شيخ الإِسلام، عَلَم الزُّهَّاد، نادرةُ العصر، تقي الدين أَبو العَبَّاس أَحمد ابن المفتي شهاب الدين عبد الحليم ابن الإِمام المجتهد شيخ الإِسلام مجد الدين عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الحَرَّاني. أَحدُ الأَعلام. وُلد في ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة، وقدم مع أَهله سنة سبع، فسمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليُسر، والكمال بن عبد، وابن الصيْرَفي، وابن أَبي الخير، وخلق كثير. وعُني بالحديث، ونَسَخَ الأَجزاء، ودار على الشّيوخ، وخَرَّجَ، وانتقى، وبرع في الرجالِ وعِلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإِسلام وعلم الكلام وغير ذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأَذكياء المعدودين، والزُّهاد الأَفراد، والشُّجعان الكبار، والكرماء الأَجواد. أَثنى عليه الموافِقُ والمخُالِفُ، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلّها ثلاث مئة مجلد. حدَّث بدمشق، ومصر، والثغر. وقد امتُحن وأُوذِيَ مرّات، وحُبس بقلعة مصر والقاهرة والإسكندرية، وبقلعة دمشق مرّتيْن. وبها توفي في العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، في قاعة، ¬

_ (¬1) 4/ 1496 - 1498، نشر دائرة المعارف العثمانية، تحقيق العلَّامة المعلمي.

معتقلاً. ثمَّ جُهِّز وأُخرج إِلى جامع البلد، فشهده أُمم لا يُحْصَوْن، فحُزروا بستين أَلفًا. ودُفن إِلى جنب أَخيه الإِمام شرف الدين عبد الله، بمقابر الصّوفية، رحمهما الله تعالى. ورُئيت له منامات حسنة، ورُثي بعدة قصائد. وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأَجلها، وهي مغمورة في بحر علمه. فالله تعالى يُسامحه ويرضى عنه. فما رَأَيتُ مثله. وكل أَحدٍ من الأُمّةِ فيؤخذ من قوله ويتُرك. فكان ماذا؟! أَخبرنا أَحمد بن عبد الحليم الحافظ غير مرَّة، ومحمَّد بن أَحمد بن عثمان، وابن فَرح، وابن أَبي الفتح، وخلق قالوا: أَنا أَحمد بن عبد الدَّائم، أَنا عبد المنعم بن كُليب. ح وأَنبأَنا أَحمد بنِ سلامة عن ابن كليب، أَنا على بن بيان، أَنا محمَّد ابن محمَّد، أَنا إِسماعيل ابن الصّفَار، ثنا الحسن بن عَرَفة، ثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأَعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال لي رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّك لَتَنْظُرُ إِلى الطّيْرِ فِي الجَنَّةِ فَتَشْتَهِيه، فَيَخِرُّ بين يَدَيْك مشويًّا».

16 - ذيل العبر

ذيل العبر (¬1) قال في وفيات 728: ومات بقلعة دمشق ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة: شيخ الإِسلام تقيّ الدين أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله ابن تَيْميَّة الحَرَّاني معتقلاً. ومُنع قبل وفاته بخمسة أَشهر من الدَّواة والورق. ومولده في عاشر ربيع الأَوَّل يوم الاثنينِ سنة إِحدى وستين وستّ مئة بحرّان. سمع من ابن عبد الدائم، وابن أَبي اليُسر، وعدة. وبرع في التفسير، والحديث، والاختلاف، والأصليْن، وكان يتوقّد ذكاء. ومصنفاتُه أكثر من مائتي مجلّد. وله مسائل غريبة، نيل من عرضه لأجلها. وكان رأْسًا في الكرم والشجاعة، قانعًا باليسير، شيّعه نحوٌ من خمسين أَلفًا وحُمل على الرؤوس رحمه الله. ¬

_ (¬1) (ص/ 84) نشر دار الكتب العلمية، بيروت 1405.

17 - دول الإسلام

دول الإسلام (¬1) وفي ذي القعدة (سنة ثمان وعشرين وسبعماية) توفي بالقلعة شيخ الإِسلام تقي الدين أَحمد بم عبد الحليم ابن تَيْميَّة الحَرَّاني، عن سبع وستين سنة وأَشهر، وشيّعه خلقٌ أَقل ما حُزروا بستين أَلفًا، ولم يخلف بعده من يُقَاربُه في العلم والفضل. الإعلام بوفيات الأعلام (¬2) وشيخ الوقت تقي الدين ابن تيمية في ذي القعدة (سنة 728). ¬

_ (¬1) (2/ 237)، تحقيق فهيم شلتوت، ومحمد مصطفى نشر إدارة إحياء التراث بقطر (1394). (¬2) ص 308 تحقيق رياض عبد الحميد مراد وعبد الجبار زكار، ط. دار الفكر بدمشق (1412).

19 - المعين في طبقات المحدثين

المُعِيْن في طبقات المحدِّثين (¬1) (ذكره في الطبقة الأخيرة) فقال: - الحافظ العلاَّمة القُدوة، شيخ الإسلام، تقيّ الدين، أحمد بن الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيميَّة الحرَّاني. ذِكْر مَنْ يُعْتَمد قولُه في الجرح والتعديل (¬2) (ذكره في الطبقة الثانية والعشرين) فقال: - والحافظ العَلَم، شيخ الإسلام، تقيّ الدين، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحرَّاني، ابنُ تيميَّة. ¬

_ (¬1) (ص/ 322)، دار الصحوة (1407). (¬2) (ص/ 72)، تحقيق عبد الفتاح أبو غُدَّة.

21 - المعجم المختص

المُعْجَمُ المُخْتَصُّ (¬1) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم ابن تَيْميَّة، الإِمام العلاَّمة الحافظ الحُجَّة فريد العصْر بَحْر العلوم تقيّ الدين أَبو العَبَّاس الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشْقي. وُلد بحرَّان في ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وستمائة. وقدم دمشق مع والدِهِ المُفْتِي شهاب الدّين، فسمع ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليُسْر، والمجْد بن عساكر، وأكثَرَ عن أصحاب حنبل وابن طبرزد ومَنْ بَعدَهم، ونسخ وقرأ وانتقى، وبرع في علوم الآثار والسُّنَنِ، ودَرَّس وأفْتَى وفسَّر وصَنَّف التَّصانيف البديعة وانفَرَد بمسائل فَنِيلَ من عِرْضِه لأَجْلِها، وهو بَشَرٌ له ذُنوبٌ وخطأٌ ومع هذا فوالله ما مَقَلتْ عيني مِثْلَه ولا رأى هو مِثْل نَفْسه. كان إمامًا مُتبَحرًا في علوم الديانة صحيحَ الذّهْن، سريع الإِدراك، سَيَّال الفَهْم، كثير المحاسن، موصوفًا بفَرْط الشجاعة والكرم، فارغًا عن شهوات المأكل والملْبَس والجِماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدْوِينِه والعَمَل بمُقْتَضاه. ذكره أَبو الفتح اليَعْمَري في «جواب سؤالات أَبي العَبَّاس ابن الدمياطي الحافظ» فقال: «أَلْفَيتُهُ ممن أدْرك من العلوم حَظًا، وكادَ يَسْتوعِبُ السُّنَن والآثار حِفظًا، إِن تَكلَّم في التفسير فهو حامِلُ رايَتِه، أَو ¬

_ (¬1) (ص/ 25 - 27)، تحقيق د/ محمد الهيلة، نشر مكتبة الصديق، بالطائف، الطبعة الأولى 1408.

أفتى في الفقه فهو مُدْرِك غَايَتِه، أَو ذاكَرَ بالحديث فهو صاحب عِلْمه وذُو رِوايته، أَو حاضَر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ أوْسَعُ مِن نحْلتِه ولا أرفعُ من درايته، برز في كل فنّ على أبناء جنسه، لم تَرَ عيني مثلَه ولا رأتْ عينُهُ مثل نَفْسِه». قلتُ: قد سُجِن غير مرةٍ ليفْتر عن خُصومِه ويُقْصِر عن بَسْطِ لسانِه وقلَمه وهو لا يرجع ولا يَلْوي على نَاصِحٍ إِلى أَن توفي معتَقَلاً بقلعة دمشق في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وشَيَّعَهُ أُمَمٌ لا يُحْصَون إِلى مقبرة الصُّوفية، غَفَر الله له ورحِمَهُ آمين. حدّثنا أَبو العَبَّاس أَحمد بن عبد الحليم الحافظ سنة خمس وتسعين، وأنا أَحمد بن فَرَح ومحمَّد بن أَبي الفتح ومحمَّد بن عبد الوليّ ومحمَّد بن أَحمد بن عثمان الإِمام، وعلي بن إِبراهيم وعبد الحميد بن حَسّان، وإبراهيم بن يحيى، وعلي بن محمَّد بن غالب، وجبريل الفقيه وعدّةٌ قالوا: أَنا ابن عبد الدَّائم، أنبأنا ابن كُليب. وأنبأني عن ابن كُليْب أَحمد بن سلامة، وأحمد بن عبد السَّلام والخَضِر بن حَمُّوية أَنَّ عليّ بن بيان أخبرهم قال: أَنا محمَّد بن محمَّد، أَنا إِسماعيل بن محمَّد، نا ابن عَرَفة، نا المُبَارك بن سعيد الثوري عن موسى الجهني عن مصعب بن ثور عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَيُمنَعُ أحدُكُم أَن يُكَبّر في دُبُرِ كلّ صَلاَة عشرًا ويُسبّح عشرًا ويَحْمد عشرًا، فذلك في خَمْس صلوات خمسون ومائة بالّلسان وألفٌ وخمسمائة بالميزان، وإذا أَوى إِلى فِراشه كَبَّر أربعًا وثلاثين وحمِدَ ثلاثًا وثلاثين وسَبَّح ثلاثًا وثلاثين، فتلك مائة بالّلسان وألْفٌ في

الميزان. ثمَّ قال: فأيُّكم يَعْمَلُ في يوم وليلة ألْفَيْن وخمسمائة سَيّئة؟». رواه النَّسائي في «اليوم والليلة» عن كريا الخَيَّاط عن الحَسَن بن عرفة. فوقع لنا بدَلاً بعلو دَرجتَيْن.

22 - أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية

أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق المغربي (749) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أما بعد؛ فإن جماعة من محبي السنة والعلم سألني أن أذكر له ما ألَّفه الشيخ الإمام العلامة الحافظ، أوحد زمانه، فريد العصر: تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية - رضي الله عنه -؛ فذكرت لهم إني أعجز عن حصرها وتَعْدادها، لوجوهٍ أبديتها لبعضهم، وسأذكرها إن شاء الله فيما بعدُ. فأكثرهم قالوا: لابدَّ من ذكر ماتعرف، وما لا يدرك كله لا يُترك كله؛ فتعينت إجابتهم، وها أنا أذكر ما يسّر الله عليَّ منها، وإن وجد الواقف على ما أكتب زيادة فليُلحقها، والله المستعان. فمن ذلك ما ألَّفه في تفسير القرآن العزيز غير ما جمعه من أقوال مفسري السلف الذين يذكرون الأسانيد في كتبهم، فكتب على جميع ¬

_ (¬1) توجد منها نسخة في دار الكتب الظاهرية برقم 11479 (بخط الشيخ طاهر الجزائري)، وأخرى فيها برقم 4675 (بخط جميل العظم). ونشرها صلاح الدين المنجد منسوبة إلى ابن القيم، وهو وهم. ونشرته ناقصة، فإنه اعتمد على النسخة الثانية فقط. وسبق الكلام على تحقيق نسبتها لابن رشيق في المقدمة.

القرآن وما أمكنه من النقول عن السلف وذلك شيء كثير. وقال لي مرةً: وقفت على نحو خمسة وعشر (¬1) تفسيرًا مسندة. وقال لي مرةً: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم إبراهيم. ويذكر قصة معاذ بن جبل، وقوله لمالك بن يخامر لما بكى عند موته، وقال: أنا لا أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فاطلب العلم عند أربعةٍ وسمّاهم، فقال: عند أبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام، فإن أعياك العلم عند هؤلاء؛ فليس هو في الأرض، فاطلبه من معلّم إبراهيم. - فكتب الشيخ نقول السلف مجردًا عن الاستدلال، على جميع القرآن. - وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال. - ورأيت له سورًا وآيات يفسرها ويقول في بعضها: كتبته للتذكّر، ونحو ذلك. ثم لما حُبِس في آخر عمره كتبت له: أن يكتب على جميع القرآن مرتبًا على السور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ماهو بيِّن في نفسه، وفيه مابيَّنه المفسرون في غير كتاب؛ ولكن بعض الآيات أشكلت على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدّة كتب ولايَبِيْن له ¬

_ (¬1) كذا.

تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في آيةٍ تفسيرًا وتفسير نظيرها بغيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنّه أهم من غيره، وإذا تبين معنى آية تبين معاني نظائرها. وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المدّة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء مات كثير من العلماء [يتمنونها]، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا، وأرسل شيئًا كثيرًا مما كتب من هذا الجنس، وبقي شيءٌ كثير في سلة الحكم عند الحكّام (¬1) لما أخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهي عندهم إلى هذا الوقت نحو أربع عشرة رِزْمة. 1 - فمما رأيته من التفسير - على الاستعاذة والبسملة أوراق. - قاعدة على الفاتحة؛ في الاسماء التي فيها، وفي قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. * وفي سورة البقرة: - قطعة كبيرة في تفسير أوّلها. - وفي تفسير قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} نحو عشرين ورقة. - وفي قوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} نحو كراسة. ¬

_ (¬1) علق الشيخ طاهر الجزائري هنا: "ولعلها لم تضع".

- وفي قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. - وفي قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}، نحو عشرين ورقة. - وفي قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}. - وفي قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}، نحو ثلاثين ورقة. - وفي آية الكرسيّ، في موضعين، نحو عشرين ورقة. - وفي قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، نحو ثلاثين ورقة. - وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وتُسمَّى «العبودية» نحو سبعين ورقة. - وفي آيات الربا، وتكلم فيها على ربا الفضل، نحو ثلاثين ورقة. * وفي سورة آل عمران: - في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} نحو مجلد. - وفي قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، نحو ستين ورقة. - وفي قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}. - وفي قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، نحو عشر ورقات. * وفي سورة النساء: - في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، نحو مئة ورقة.

- وفي قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ}. - وفي قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا}. * وفي سورة المائدة: - في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}، نحو ثلاثين ورقة. - وفي تفسير السورة وجميع معانيها، ونحو ذلك، مجلد لطيف. * وفي سورة الأنعام: - في قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ}. - وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ}. - وقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)}. - وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}. * وفي سورة الأعراف: - في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}، ثلاث قواعد، أكثر من سبعين ورقة. - وفي قوله: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ}. - وقوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ}. * وفي سورة الأنفال:

- في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}. * وفي سورة براءة: - في قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}، فسّرها مرَّات في قواعد متعددة. - وفي قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ}. - وفي قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}. * وفي سورة يونس - عليه السلام -: - في قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ}. وفي قوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا}. * وفي سورة هود - عليه السلام -: - في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}. - وفي قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}. - وفي قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ}، وتكلم على هذا الاستثناء. - وفي محبسه الأخير عمل قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، في نحو عشرين ورقة. - وفي قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}

والكلام على هذه اللام. * وفي سورة يوسف - عليه السلام -: - فسّرها أو أكثرها، وتكلم على معانيها، بمصر في الجُبّ، في نحو مجلدين. - وفي قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}، وبين أنه من كلام المرأة. - وفي قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}. - وقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}. - وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}. * وفي سورة الرّعد: - في قوله: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ}. وفي قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}. * وفي سورة الحجر: - في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}. - وفي قوله: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)}، ونظائر هذه الآية، كقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)} وقوله {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)}. * وفي سورة النحل: - الآيات الأولى، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}، {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)} الآيات.

- وفي قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا}. - وفي قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ}. * وفي سورة الأنبياء - عليهم السلام -: - في قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ}، في مجلد لطيف، وهي دعوة ذي النون (¬1). - وفي قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، واعتراض ابن الزِّبَعْرى، وجوابه. * وفي سورة الحج: - في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ}، وتكلم على لفظ التأويل، في نحو كراسة (¬2). - وفي قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}، ورقات. * وفي سورة النور: - فسر غالبها في مجلد لطيف (¬3). - وفي قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، خمس ورقات. - وفي قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} في قاعدتين. ¬

_ (¬1) قال الشيخ الجزائري: "رأيتها". (¬2) علق الشيخ الجزائري: "رأيتها في بيروت". (¬3) علق الشيخ الجزائري: "طبع في الهند".

* وفي سورة القصص: - في حمو موسى، هل هو شعيب أم غيره، في كراسة. - وفي قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. - وفي قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا}، مرتين. * وفي سورة العنكبوت: - قوله: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ}. - وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}. - وفي قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. * وفي سورة لقمان: - في قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}. * وفي سورة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة: - {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}. * وفي سورة الأحزاب: - قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، وقصة الخندق. * وفي سورة سبأ: - {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)}. * وفي سورة فاطر:

- {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (¬1). - وفي قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}. * وفي سورة غافر: - قوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}. - وفي قوله في آخر السورة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}. * وفي سورة الشورى: - قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، نحو خمسين ورقة. * وفي سورة الزخرف: - قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)}. * وفي سورة الدخان وسورة الجاثية: - {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ}. - وقوله: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} * سورة الحجرات: - فسّرها في بضعة عشر (¬2) ورقة. * سورة الذاريات: ¬

_ (¬1) علق الشيخ الجزائري: "رأيتها". (¬2) كذا في الأصل.

- قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}، فسرها مرتين، إحداهما في نحو سبعين ورقة. * سورة الواقعة: - قوله: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)}. * سورة المجادلة: - قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ}، فسرها مرات، وتكلم على المعيَّة في جميع مواردها. * سورة الممتحنة: - {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}. * سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}. - فسّرها في مجلد لطيف. * سورة الفجر: - فسّرها وتكلّم مرات على قوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)}. - وقوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)}، وبين أنّ له (¬1) عشرين فضيلة. * سورة: {لَا أُقْسِمُ}: - فسرها بكمالها، وتكلم على قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}. ¬

_ (¬1) كذا.

- وتكلم على قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)}. * سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}. - فسّرها، وبين أنها أول سورة انزلت، وبين أنها تضمنت أُصول الدين، في مجلد لطيف (¬1). * سورة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا}: - فسّرها بكمالها (¬2). * سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}: - فسّرها في نحو ثلاثين ورقة (¬3). * سورة {تَبَّتْ}: - فسّرها في نحو عشر ورقات. * المعوّذتَان: - فسّرها مرات في نحو خمسين ورقة. * {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}: - فسّرها في مجلَّد. ¬

_ (¬1) رمز الشيخ الجزائري بـ (م). (¬2) علق الشيخ الجزائري: وعندي تفسير أولها. (¬3) علق الشيخ الجزائري: "رأتيها".

- وتكلم في مجلد لطيف على كونها تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن بعضه على بعض. - وله قواعد في التفسير مجملة، تكلّم فيها على المصنفات، وعلى المفسرين، وماهو متصل وغير متصل، ومن يعتمد عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو مجلد كبير. - وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى. - وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي والزمخشري؛ أيها أفضل؟ - وله قاعدة في فضائل القرآن. - وقاعدة في أقسام القرآن. - وقاعدة في أمثال القرآن. - انتهى مايتعلق بالكتاب العزيز (¬1). 2 - ومما صنفه في الأصول مبتدئًا أو مجيبًا لمعترض أو سائل - كتاب الإيمان. في مجلد. - كتاب الاستقامة. في مجلدين. - كتاب جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية. أربع مجلدات. ¬

_ (¬1) كتب الناسخ العلامة طاهر الجزائري هنا: "وهذا الذي أردنا نقله الآن لغرض، حرر في ليلة 26 / رمضان، سنة 1318، ولله الحمد.

- كتاب الجواب عما أورده كمال الدين الشريشي على كتابه تعارض العقل والنقل. - كتاب بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية. في ست مجلدات. - كتاب درء تعارض العقل والنقل. أربع مجلدات. - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية. أربع مجلدات. - الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح. في مجلدين. - شرح أول المحصل. في مجلد. - كتاب الرد على أهل كسروان الرافضة. في مجلدين. - الهلاكونية. وهو جواب سؤال ورد على لسان هولاكو ملك التتار. في مجلد. - كتاب في الوسيلة. في مجلد. - كتاب في الرد على البكري في الاستغاثة. في مجلد. - شرح على أول كتاب الغزنوي في أصول الدين. في مجلد لطيف. - كتاب في الرد على المنطق. في مجلد كبير. - شرح عقيدة الأصفهاني. في مجلد. - شرح مسائل في الأربعين للرازي. في مجلدين. - المسائل الإسكندريّة. رد فيه على ابن سبعين وغيره. في مجلد.

- كتاب في محنته في مصر. في مجلدين. وتكلم فيه على الكلام النفسي وأبطله من نحو ثمانين وجهًا. - كتاب الكلام على إرادة الرب وقدرته. نحو مائة ورقة. 3 - قواعد وفتاوى - الكيلانية، وهو جواب في مسألة القرآن. في مجلد لطيف. - قواعد في إثبات المعاد، والرد على ابن سينا في رسالته الأضحوية. نحو مجلد. - تحقيق الاثبات في الأسماء والصفات: التدمرية. بحث فيها في حقيقة الجمع بين القدر والشرع. - الفتيا الحموية. ستون ورقة. كتبها بين الظهر والعصر. - المراكشية. وهي فتيا في الصفات. خمسون ورقة. - فتيا في مسألة العلو. نحو خمسين ورقة. - فتيا تتضمن صفات الكلام مما يستحقه الرب سبحانه. نحو ستين ورقة. - الواسطية. وهي فتيا في عقيدة الفرقة الناجية. نحو ثلاثين ورقة. - جواب في تعليل مسألة الأفعال. نحو ستين ورقة. - جواب في مسألة القرآن. وردت من مصر. نحو سبعين ورقة. - البعلبكية. تكلم فيها على اختلاف الناس في الكلام. نحو عشرين ورقة.

- القادرية. وهي مسألة في القرآن. نحو عشر ورقات. - جواب مسألة في القرآن؛ هل هو حرف وصوت أم لا. نحو ثلاثين ورقة. - الأزهرية. بضع وعشرون ورقة. - البغدادية. وهي مسألة في القرآن. - مسائل في الشكل والنقط. - كتاب إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية. - كتاب إبطال قول الفلاسفة بقدم العالم. في مجلد كبير. - قاعدة في إبطال قول الفلاسفة أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. - قاعدة في القضايا الوهمية. - قاعدة فيما يتناهى ومالا يتناهى. - جواب في العزم على المعصية هل يُعاقب العبد عليه. نحو عشرين ورقة. - قاعدة في أن مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام لا تكون إلا عن ظن واتباع هوى. - قاعدة في أن الإيمان والتوحيد يشتمل على مصالح الدنيا والآخرة. - قاعدة في إِثبات كراميات الأولياء. عشرين ورقة. - قاعدة في أن خوارق العادات لاتدلّ على الولاية.

- قاعدة في الصبر والشكر. نحو ستين ورقة. - قاعدة في الرضا. مجلد لطيف. - قاعدة في أن كل آية يحتج بها مبتدع ففيها دليل على فساد قوله. - قاعدة في أن كل دليلٍ عقلي يحتج به مبتدع، فيه دليل على بطلان قوله. مائة ورقة. - قاعدة في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس. - قاعدة في الخلوات، والفرق بين الخلوة الشرعية والبدعية. - قاعدة في لباس الخرقة والأقطاب ونحوهم. - الصعيدية. وهي قاعدة تتعلق بالتوبة. - قاعدة في الفقراء والصوفية وأيهما أفضل. - قاعدة في محبة الله للعبد ومحبة العبد لله. مجلد لطيف. - التحفة العراقية. نحو ستين ورقة. - قاعدة في الاخلاص والتوكل. نحو خمسين ورقة. - قاعدة في الشيوخ الأحمدية. نحو خمسين ورقة. - قاعدة في تحريم السماع. نحو عشرين ورقة. - تحريم السماع. في مجلد. - تعليقه على فتوح الغيب لسيدي عبد القادر الكيلاني.

- قاعدة في شرح أسماء الله الحسنى. - قاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة». - قاعدة في الاستغفار وشرحه. - قاعدة في أن الشريعة والحقيقة متلازمتان. - قاعدة في الخلة والمحبة وأيهما أفضل. في مجلد. - قاعدة في العلم المحكم. مجلد. - قواعد في خلافة الصدِّيق. مجلد. - رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا. - رسالة في الخضر هل مات أو هو حي. - رسالة في احتجاج الجهمية والنصارى بالكلمة. - رسالة فيمن عزم على فعل محرم ثم مات. - رسالة في أن اسماعيل عليه السلام هو الذبيح. - رسالة في الذوق والوجد الذي يذكره الصوفية. - رسالة في قوله عليه الصلاة والسلام: «من قال أنا خير من يونس بن مَتَّى فقد كذب». - رسالة في الاشتغال بكلام الله وأسمائه وذكره، أيُّ ذلك أفضل. - رسالة في غض البصر وحفظ الفرج ماذا يُعِيْنُ عليه.

- الإربلية. وهي رسالة في الاستواء والنزول هل هو حقيقة أم لا. - رسالة في مسألة الزوال واختلاف وقته باختلاف البلدان. في مجلد لطيف. - رسالة في اللقاء وما ورد فيه في القرآن وغيره. نحو عشرين ورقة. - رسالة في قرب الرب من عابديه وداعيه. مجلد لطيف. - رسالة في الاستواء وإِبطال قول من تأوَّله بالاستيلاء من نحو عشرين وجهًا. - كتاب في الشهادتين وما يتبع ذلك. في مجلد. - رسالة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل هي من الصغائر. وهل يكفر المنازع في تجويز الصغائر عليهم؟ نحو ثلاثين ورقة. - رسالة في الاستطاعة هل هي مع الفعل أو قبله. - رسالة في العين والقلب وأحواله. - رسالة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًا، وهل يسمّى من صحبه إذ ذاك صحابيًا. - رسالة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي متعبدًا بشرع من قبله من الأنبياء. - رسالة في كفر فرعون. - رسالة في ذي الفقار هل كان سيفًا لعلي رضي الله عنه.

- رسالة في وجوب العدل على كل أحد في كل حال. - رسالة في فضل السلف على الخلف في العلم. - كتاب في الإِيمان هل يزيد وينقص. في مجلد. - رسالة في حق الله وحق رسوله وحقوق عباده وما وقع في ذلك من التفريط. - رسالة في أن مبدأ العلم الإلهي عند النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحي، وعند أتباعه هو الايمان. - رسالة في أن كل حمد وذم للمقالات والأفعال لابُدَّ أن يكون بكتاب الله وسنة رسوله. - رسالة في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدي وغيره من الحنفية. نحو خمسين ورقة. - الواسطية. وهي عقيدة. - الحوفية. وهي عقيدة أيضًا. نحو عشرين ورقة. - رسالة في العرش والعالم هل هو كروي الشكل أم لا؟ - رسالة في الخلَّة والامكان العام. - شرح رسالة ابن عبدوس في أصول الدين. - قاعدة فيما لكل أمة من الخصائص، وخصائص هذه الأمة. - قاعدة في الكليّات. مجلد لطيف.

- كتاب في توحيد الفلاسفة على نظم ابن سينا. مجلد لطيف. - رسالة في جواب محيي الدين الأصفهاني. نحو ستين ورقة. - الفرقان بين (¬1) أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. مجلد لطيف. - رسالة في الفرق بين ما يتأوَّل ومالا يتأوَّل من النصوص. نحو عشرين ورقة. - قاعدة في الفناء والاصطلام. نحو ثلاثين ورقة. - قاعدة في العلم والحلم نحو عشرين ورقة. - قاعدة في الاقتصاص من المظالم بالدعاء وغيره. مجلد. - قاعدة في تزكية النفوس. نحو ثلاثين ورقة. - قاعدة في كلام ابن الشريف في التصوّف. كرّاسة. - قاعدة في حق الله وحق عباده. بضع عشرة ورقة. - قاعدة في الزهد والورع. نحو ثلاثين ورقة. - قاعدة في الإيمان والتوحيد، وبيان ضلال من ضل في هذا الأصل. - قاعدة في أمراض القلوب وشفائها. نحو أربعين ورقة. - قاعدة في السياحة ومعناها في هذه الأمة. - قاعدة في خلة إبراهيم عليه السلام وأنه الامام المطلق. ¬

_ (¬1) في الأصل: "بيان".

- قاعدة فيمن امتحن في الله وصبر. - رسالة في المباينة بين الله سبحانه وبين خلقه. نحو أربعين ورقة. - قاعدة في الصفح الجميل والهجر الجميل والصبر الجميل. - قاعدة في اقتران الإيمان بالاحتساب. - رسالة في قوله «أُمرتُ أن أُخاطب الناس على قدر عقولهم» هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. - قاعدة في الرد على أهل الاتحاد. وهي جواب الطوفي. في مجلد لطيف. - رسالة في أصول الدين للعدوية. بقدر أربعين ورقة. - رسالة في الأصول لأهل جيلان. نحو خمسين ورقة. - رسالة لأهل قبرص تتضمن قواعد دينية أصولية، بقدر ثلاثين ورقة. - قاعدة فيما يتعلق بالوسيلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والقيام بحقوقه الواجبة على أمته في كل زمان ومكان، وبيان خصائصه التي امتازت بها على جميع العالمين، وبيان فضل أمته على جميع الأمم. - قاعدة تتعلق بالصبر المحمود والمذموم. - قاعدة تتعلق برحمة الله في ارسال محمد صلى الله عليه وسلم، وأن إرساله أجلّ النعم. - قاعدة في الشكر لله. - رسالة في حالة الحلاّج، ودفع ما وقع به التحاجّ.

- قاعدة في الْعُمَر المكية وهل الأفضل للمجاور وأهل مكة الاعتمار أو الطواف. نحو أربعين ورقة. - قاعدة في الكلام على المرشدة (¬1). - قاعدة في كلام الجنيد لما سُئل عن التوحيد فقال «إفراد الحدوث عن القدم». - قاعدة في التوكل والاخلاص. نحو أربعين ورقة. - في التسبيح والتحميد والتهليل. - قاعدة في أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته. - قاعدة في توحيد الشهادة. - القواعد الخمس. - قاعدة في القدرية وأنهم ثلاثة أقسام: مجوسية، ومشركية، وابليسية. - قاعدة في بيان طريقة القرآن في الدعوة والهداية النبوية وما بينها وبين الطريقة الكلامية والطريقة الصوفية. - قاعدة في وصية لقمان لابنه. - قاعدة في تسبيح المخلوقات من الجمادات وغيره هل هو بلسان الحال أم لا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "المرشد".

- قاعدة في السياحة والعزلة، وفي الفقر والتصوُّف. هل هما اسمان شرعيان. - قاعدة في مشايخ العلم ومشايخ الفقراء وأيهم أفضل. - قاعدة في تعذيب المرء بذنب غيره. - رسالة في العباس وبلال أيهما أفضل. - رسالة لأهل تدمر. - قاعدة في أن جامع الحسنات العدل، والسيئات الظلم. ومراتب الذنوب في الدنيا. - قاعدة في فضل عشر ذي الحجة. وذكر نحو عشرين فضيلة. - قاعدة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الى الإنس والجن. - قاعدة في رجوع البدع الى شعبة من شعب الكفر. - قاعدة في الاجماع. وله ثلاثة أقسام. - رسالة فيمن قال إن بعض المشايخ أحيا ميتًا. - شرح العمدة. في أربع مجلدات. - شرح المحرّر. - الصارم المسلول على شاتم الرسول. - اقتضاء الصراط المستقيم في الردّ على أصحاب الجحيم.

- التحرير في مسألة الخضر (¬1). مجلد. - دفع الملام عن الأئمة الأعلام. مجلد لطيف. - قاعدة فيما يظن من تعارض النص والاجماع. 4 - الكتب الفقهية - قواعد في رجوع المغرور على مَنْ غَرَّه. - قواعد في السنة والبدعة، وفي أن كل بدعة ضلالة. - السياسة الشرعية لإِصلاح الراعي والرعية. - رسالة في فضائل الائمة الأربعة، وما امتاز به كل إمام من الفضيلة. - قاعدة في لفظ الحقيقة والمجاز، والبحث مع الآمدي. نحو ثمانين ورقة. - رسالة في ذبائح أهل الكتاب. - رسالة في قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)}. - رسالة في اهداء الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم. - رسالة في قوله (كما صليت على ابراهيم) وفي أن المشبَّه به أعلى من المشبه. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والصواب "الحضير" كما في المصادر الأخرى.

- رسالة أجوبة مسائل أصفهان. - رسالة أجوبة مسائل الأندلس. - رسالة جواب سؤال الرحبة. - رسالة أجوبة مسائل الصّلط. - رسالة في أرض الموات اذا أحياها ثم عادت هل تملك مرة أخرى. - رسالة في النهي عن أعياد النصارى. - قواعد في تطهُّر الأرض بالشمس والريح. - قواعد في مسائل النذور والضمان. - قاعدة في المائعات والمياه وأحكامها بنحو ستين ورقة. - قاعدة في المائعات والميتة اذا وقعت فيها. نحو عشرين ورقة. - قواعد في الوقف، وشروط الوقف، وفي إِبداله بأجود منه. وفي بيعه عند تعذر الانتفاع. - قاعدة في تفضيل مذهب أحمد، وذكر محاسنه. في مجلد. - قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أفضل من جنس ترك المنهي عنه. في مجلد لطيف. - قاعدة في طهارة بول ما يؤكل لحمه. نحو سبعين ورقة. من ثلاثين حجة. - قاعدة في معاهدة الكفار المطلقة والمقيدة.

- قاعدة في دم الشهيد ومداد العلماء. - قاعدة في وجوب التسمية على الذبائح والصيد. - قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. - قاعدة في تفضيل مذهب أهل المدينة نحو خمسين ورقة. - قاعدة في نواقض الوضوء. - قاعدة في الاجتهاد والتقليد. - قاعدة في الجهاد والترغيب فيه. - قاعدة في المخطيء في الاجتهاد هل يأثم، وهل المصيب واحد. - قاعدة فيما يحلُّ وما يحرم من الأطعمة. - قاعدة في شمول النصوص للأحكام. - قاعدة في طواف الحائض. - قاعدة فيما شرعه الله بلفظ العموم، هل يكون مشروعًا بلفظ الخصوص. - قاعدة في لعب الشطرنج. - قاعدة في مفطرات الصائم. - قاعدة في السفر الذي يجوز فيه القصر والفطر. - قاعدة في الجمع بين الصلاتين.

- قاعدة فيما يُشترط له الطهارة. - قاعدة في مواقيت الصلاة. - قاعدة في الكنائس، وما يجوز هدمه منها. في مجلد. - شمول النصوص في الفرائض. - قاعدة في تقليد مذهب معين هل يجب على العامي أم لا. - قاعدة في حلق الرأس هل يجوز في غير النسك. - قاعدة فيما يحل ويحرم بالنسب والصهر والرضاع. - قاعدة في الجد، هل يجبر البكر على النكاح. - قاعدة في الجهر بالبسملة. - قاعدة في القراءة خلف الامام. - قاعدة فيمن بكر وابتكر، وغسل واغتسل. - قاعدة في ذم الوسواس. - قاعدة في الأنبذة والمسكرات. - قاعدة في قوله عليه الصلاة والسلام «استحللتم فروجهن بكلمة الله». - قاعدة في الحسبة. - قاعدة في المسألة السريجية. - قاعدة في حل الدور. ومسائل الجبر والمقابللة.

5 - وله وصايا منها - وصية لابن المهاجري. - وصية للتجيبي. - وصية لأبي القاسم يوسف السبتي. 6 - وله إجازات منها: - إجازة لأهل سبتة، ذكر فيها مسموعاته. - إجازة كتبها لبعض أهل تبريز. - إجازة لأهل غرناطة. - إجازة لأهل أصبهان. 7 - وله رسائل تتضمن علومًا - الرسالة المدنية. - الرسالة المصرية. - رسالة كتبتها إلى أهل بغداد. - رسالة إلى أهل البصرة. - رسالة كتبها إلى القاضي السروجي الحنفي. - الرسالة العدوية كتبها إلى بيت الشيخ عدي بن مسافر. - رسالة كتبها إلى بيت الشيخ جاكير.

- رسالة كتبها إلى صاحب قبرص في مصالح تتعلق بالمسلمين. - رسالة إلى البحرين وملوك العرب. - رسالة لأهل العراق. - رسالة إلى ملك مصر. - رسالة إلى ملك حماة. - رسالة العرش. - رسالة تكسير الأحجار. - رسالة في المسألة الحرفية. - رسالة في إثبات وجود النفس بعد الموت. - شرح دعاء أبي بكر رضي الله عنه. - الدر المنثور في زيارة القبور. - شرح العقيدة الاصفهانية. - الفرقان بين الحق والباطل. ستين ورقة. - رسالة في عرض الأديان عند الموت. - رسالة في المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر. تَمَّ كتاب «أسماء مؤلفات الإمام أحمد بن تيمية» رضي الله عنه.

23 - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار

مسَالِكُ الأَبْصَار في مَمَالِكِ الأَمْصَار (¬1) للعلاَّمة/ أَحمد بن يحيى ابن فضل الله العُمَري (749) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الحَرَّاني، العلاَّمة الحافظ الحجة المجتهد المفسّر، شيخ الإِسلام نادرة العصر عَلَمُ الزُهّاد، تقي الدين أَبو العَبَّاس ابن تَيْميَّة. هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه، والبدرُ من أيّ الضَّواحِي أتيتَه، جَرَتْ آباؤُه لشّأْو ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مُريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يُقضَى له بِنهايَة. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحًاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ والنهارَ دائبينَ، واتخذ العلمَ والعملَ صاحبيَنِ، إِلى أَن أَنْسى السلفَ بِهُداه، وأَنْأَى الخَلَفَ عن بلوغ مَدَاه. وَثَقَّفَ الله أمرًا باتَ يَكلؤُهُ ... يَمضِي حُساماه فيه السيفُ والقلمُ بهمَّةٍ في الثريَّا أَثر أَخْمَصِها ... وعَزْمَةٍ ليسَ من عاداتِها السَّأَمُ على أَنَّه من بيتٍ نشأتْ منه علماءُ في سالفِ الدُّهُور، ونَسَأتْ منه عُظَماءُ على المشاهير الشُّهور، فأحْيَى معالمَ بيتهِ القديم إذْ دَرَسَ، وجَنَى من فَنَنِه الرَّطيبِ ما غَرَسَ، وأصبحَ في فضله آيةً إِلاَّ أَنَّه آيةُ الحَرَسِ، ¬

_ (¬1) نسخة أيا صوفيا، المكتبة السليمانية باستانبول برقم 3418 (ص 294 - 306).

عَرضَتْ له الكُدَي فزَحْزَحَها، وعارضَتْه البحارُ فضَحْضَحَها، ثمَّ كَانَ أُمَّةً وحدَه، وفردًا حتَّى نزلَ لَحْدَه. أَخْمَلَ من القُرَناءِ كلَّ عَظِيم، وأَخْمَدَ من أهل الفناءِ كلَّ قديم، ولم يكن منهم إلاَّ مَن يُجْفِل عنه إِجفالَ الظَّليم، ويَتَضاءلُ لديه تَضاؤُلَ الغَرِيم. مَا كانَ بعضُ الناسِ إلاّ مِثْلَما ... بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتطِيرُ بين خافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، وتَثْأَرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَزْأرُ أسودُ غِيْلٍ، إِلاَّ أَنَّ صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبَحْرهُ طَمَّ على تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التِّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَدوالَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنَادِلَها، وأَخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأَكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه تَقَدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا ... ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا فجَمعَ أشْتَاتَ المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب، ونَقَلَ عن أئمةِ الإِجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهمِ المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأَحْضَرها، فلو شعَرَ أَبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأَدْنَى عَصْرَهُ إِليه مُقترِبًا، أَو مالكُ لأَجْرِىَ وراءَه ولو كَبَا، أَو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ للأمِّ وَلَدًا ولَيتَني كنت له أبَا، أَو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إِذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لاَ بل داودُ الظاهريُ وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرِستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّةً في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه

هذا إِلى استدراكِه وهذا إِلى رِحَلِه. تَرِدُ إِليه الفتاوى ولا يَرِدُها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه ... فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ يَغدُو مُسَاجلُه بغُرَّةِ صافحٍ ... ويَرُوحُ مُعتَرِفًا بذلَّةِ مُذْنِبِ ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فَأُقْحِمُوا إذْ هَدَرَ فَجْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليَجْنيَ الشهدَ نَحْلُه، ورُفِعَ إِلى السلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ ورُمِيَ بالكبَائِر، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ وما زادَ على أَنَّه اغتابَ. وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إِلى مِصْرَ ثمَّ إِلى الإِسكندرية، وتارةً إِلى مَحْبَسِ القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أَخْبِئَةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بِزُبَانَي المَنُونِ، وهو علة علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء إِلاَّ أَنْ يُصنِّفَه، ويُقرِّطَ به ولو سَمْعَ امْرىٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تَسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، وتَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إِلى أَنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجَذَبَتْهَا إِلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرزايَا. وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، وطَبَعَ على قلبه منه طابعُ الألَمِ، فكان مبدأَ مَرَضِه ومَنْشَأَ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فِقَارَ المنابر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه ما رُئِي. وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به البلدُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرتْ به

أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن أعظم منها مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زِحَامِهَا الأَعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّؤوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات، وتقولُ له الأمم: لا فُقِدت مِن غائب، ولأقلامه النافعةِ: لاَ أَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرات. وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد له غُلَّة بالجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، أَو يمنعه من الفتوى، أَو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوىَ، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل، وكان يَجد لهذا ما لا يُزَاح فيه ضَرَرُ شَكْوَى، ولا يُطفِئُ ضَرَم عَدْوى. وكلُّ امرىٍ حازَ المكارمَ محسود كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها ... حسَدًا وبُغضًا إنه لَدَميمُ كل هذا لتبريزه في الفضل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجْلِيته كالمصباح إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في دفع حُجَّةِ التَّتار، واقتحامه، وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إِلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فرقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُعِ المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي لا يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فجلس إِليه وأومأ بيده إِلى صدرِه، وواجَهَه ودرأَ في نَحْرِه، وطَلَبَ منه الدُّعَا، فرفعَ يديه ودعَا، دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ إليه. ثمَّ كَانَ على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة

أعظم في صدرِ غازانَ والمُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهلُ الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر. هذا مع ماله من جهادٍ في الله لم يُفزِعْه فيه طلل الوشيج، ولم يُجزِعْه فيه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضُروبٍ عاشَرها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماح حاشَرَها، وأصناف خُصومٍ لُدٍّ اقتحمَ معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَهَا قوِيُّ لسانِه، وجِلادَها شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابَرها، وبُلِيَ بأَصاغِرها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، مخالفةِ مِلَلٍ بَيَّنَ لها خطأَ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُّباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتَّى ناموا في نراقدِ الخضُوع، وقاموا وأرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلَى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ. إذا وَثَبَتْ في وجهِ خَطْبٍ تمزَّقَتْ ... على كتفيهِ الدِّرْعُ وانْتَثَر السَّرْدُ إِلاَّ أَنَّ سابقَ المقدور أوقَعَه في خَلَلِ المَسَائِل، وخَطَل خَطَأٍ لا يأمَنُ فيه مع الإكثارِ قائِلٌ، وأظنُّه - واللهُ يَغفِرُ له - عُجِّلَتْ له في الدنيا المقاصَّة، وأخذ نَصِيبَه من بلواها عامَّةً وله خاصَّة، وذلك لحطِّه على بعض سلفِ العلماء، وحَلَّه لقواعدَ كثيرةٍ من نواميسِ القدماء، وقِلَّةِ توقيرِه للكُبَراء، وكثرةِ تكفيرِه للفُقراء، وتزييفه لغالبِ الآراء، وتقريبه لجهَلَةِ العوامِّ وأهلِ المِراء، وما أفتىَ به آخرًا في مسألتَي الزيارةِ والطلاق، وإذاعتِه لهما حتَّى تكلّم فيهما من لا دينَ له ولا خلاق، فسلّط ذُبالَ الأعداءِ على سَلِيطه، وأطلقَ أيديَ الاعتداءِ في تفريطِه،

ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطَهم سَرَفه، فلم يَزَلْ إِلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه تَتصدَّع، ورُفَاتُه لا يتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُرِيغَ له لحُسنِ مُنقَلَبه. وكان لتعمُّدهِ للخلاف، وتَقصُّده بغيرِ طريقِ الأسْلاَف، وتقويتِه للمسائل الضعاف، وتقويضِه عن رؤوسِ السِّعاف، تغيَّرُ مكانته (¬1) من خاطِر السلطان، وتسبَّبُ له التغرُّبَ عن الأوطان، وتُنَفّذُ إِليه سِهامَ الألسنةِ الرواشِق، ورِماحَ الطَّعنِ في يدِ كلِّ ماشق، فلهذا لم يَزَلْ مُنغَّصًا عليه طولَ مُدَّتِه، لاَ تكادُ تَنفرِجُ عنه جوانبُ شِدَّتِه (¬2). هذا مع ما جَمعَ من الورع، وإلى ما فيه من العُلَى، وما حازَه بحذافيرِ الوجود في الجود، كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعامِ والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أهل الحاجةِ في موضعِه، لا يأخذ منه شيئًا إِلاَّ ليهَبه، ولا يَحفظُه إِلاَّ ليُذْهِبَه كُلَّه في سبيل البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إِليه من ثلاثِ الدنيا غير الصلاة. ولقد نافستْ ملوك جَنكِزْ خان عليه، ووَجَّهَت دسائِسَ رُسُلِها إليه، وبعثَتْ تجدُّ في طلبهِ، فنُوسِيَتْ عليه لأمورٍ أعظمُها خوفُ توتُّبِه، وما زال على هذا ومثلِه إِلى أَنْ صَرعَه أجلُه، وأتاهُ بَشِيْرُ الجَنَّةِ يَستعجلُه، فانتقل إِلى اللهِ والظنُّ به أَنَّه لا يُخجِلُه. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وكأنَّ المؤلف نسي السياق، بعد أن طالت عليه العبارة. (¬2) ما سبق من كلام المؤلف، ناتج عن تأثره بما كان عليه أهلُ عصره من معاداةٍ لشيخ الإسلام، واتهامه بما هو منه براء.

وُلِد بحرَّان يومَ الاثنين عاشرَ ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وستمائة، وقَدِم مع والدِه وأهلِه دمشقَ وهو صغير، فسمعَ ابن عبد الدَّائم وطبقتَه، ثمَّ طلبَ بنفسه قراءةً وسماعًا من خلقٍ كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكَتبَ الطباقَ والأثباتَ، ولازمَ السماعَ مدةَ سنين، واشتغل بالعلوم. وكان من أذكى النَّاس، كثير الحفظ قليل النسيان، قلَّما حفظ شيئًا فنسيه. وكان إمامًا في التفسير وعلوم القرآن، عارفًا بالفقه واختلاف الفقهاء والأصلينِ والنحو وما يتعلق به، واللغة والمنطق وعلم الهيئة واجَبْر والمقابلة، وعلم الحساب، وعلم أهلِ الكتابين وأهلِ البدع، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية. وما تكلَّم معه فاضل في فنّ من الفنون إِلاَّ ظنَّ أَنَّ ذلك الفنَّ فنُّه. وكان حُفَظَةً للحديث، مُميّزًا بين صحيحه وسقيمه، عارفًا برجالِه متضلّعًا من ذلك. وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة وفتاويُّ مُشبِعة في الفروع والأصول، كمل منها جملة في الفقه والحديث وردِّ البدع بالكتاب والسنة، مثل: كتاب الصارم المسلول على مُنْتَقِصِ الرسول، وكتاب تبطيل التحليل، وكتاب اقتضاء الصراطِ المستقيم، وكتاب تأسيس التقديس في عشرين مجلدًا، وكتاب الرد على طوائف الشيعة أربع مجلدات، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الكلم الطيب، وكتاب المناسك في الحج. وكان من اعرف النَّاس بالتاريخ، وكثير من مصنَّفاتِه مُسَوَّدة ما بُيِّضَتْ. وتوفي والدُه وهو شاب، فوُلِّيَ مشيخَةَ الحديث بدار الحديث

السكّرية، وحَضَرَ عنده جماعة من الأعيان، فشكروا عِلْمَه، وأثنوا عليه وعلى فضائله وعلومه، حتَّى قال الشَّيخ إِبراهيم الرقّي: الشَّيخ تقي الدين يُؤخذ عنه ويُقلَّد في العلوم، فإِنْ طال عمره ملأ الأرضَ علمًا، وهو علة الحق، ولا بُدَّ ما يُعاديَه النَّاس، فإنه وارثُ علم النُبوَّة. وقال ابن الزَّملَكاني: لقد أُعطِيَ ابنُ تَيْميَّة اليدَ الطولَى في حُسن التصنيفِ وجودةِ العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألانَ الله له العلوم كما ألانَ لداود الحديدَ. ثمَّ كتب على بعض تصانيف ابن تَيْميَّة من نظمه هذه الأبيات: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْرِ هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبَةُ العَصْرِ هو آيةٌ في الخلقِ ... ظاهرةٌ أنوارُها أربتْ على الفَجْرِ ثمَّ نَزَغَ الشيطانُ بينَهما، وغَلبتْ على ابن الزَّمْلَكاني أهويتُه، فمالَ عليه مع مَن مال. ولمَّا سافَر على البريد إِلى القاهرة سنة سبعمائة نزلَ عند عمّي الصاحب شرف الدين تغمَّده الله برحمته، وحضَّ على الجهاد في سبيل الله، وأغلظَ في القولِ، ورُتِّب له مُرَتَّب في كلِّ يوم وهو دينار ومحفيَّة (¬1)، وجاءته بَقْجَة قماش، فلم يَقبل من ذلك شيئًا. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل.

وقال القاضي أَبو الفتح ابن دقيق العيد: لما اجتمعتُ بابن تَيْميَّة رأيتُ رجلاً كلُّ العلوم بينَ عينيه، يأخذ ما يُريد ويَدَعُ ما يريد. وحَضَر عنده شيخنا العلاّمة شيخ النحاة أَبو حيَّان وقال: ما رأتْ عينايَ مثلَه، ثمَّ مدحه أَبو حيان على البديهة في المجلس بقوله: لمَّا أتينا تقيَّ الدينِ لاحَ لنا ... داعٍ إلى اللهِ فردٌ ماله وَزَرُ على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلى صَحِبُوا ... خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا ... أنتَ الإِمامُ الذي [قد] كان يُنتظر قلت: ثمَّ دَارَ بينهما كلامٌ جرى فيه ذكر سيبويه، فتسرَّعَ ابن تَيْميَّة فيه بقولٍ نافرَهُ عليه أَبو حيان، وقطعه بسببه، ثمَّ عادَ أكثرَ النَّاس ذَمَّا له، واتخذه له ذنبًا لا يُغفَر. ولمَّا قَدِمَ غازانُ دمشقَ خرجَ إِليه ابن تَيْميَّة في جماعة من صلحاء الدماشقة، منهم القدوة الشَّيخ محمَّد بن قِوام، فلمَّا دخلوا على غازانَ كَانَ ممّا قال ابن تَيْميَّة للترجمان: قُلْ للقانِ: أنت تزعُم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمامٌ وشيخ مؤذنون على ما بلغَنا، فغَزوتَنا، وأبوكَ وجَدُّك هُولاكو كانا كافرين وما عَمِلاَ الَّذي عملتَ، الَّذي عملتَ، عَاهَدا فَوَفَيا، وأنتَ عاهدتَ فغدرتَ، وقُلتَ فما وفيتَ. وجرتْ له مع غازان وقطلوشاه وبولاي أمورٌ ونُوبٌ، قام فيها كلها لله، وقال الحق ولم يخشَ إلاّ الله.

أخبرنا قاضي القضاةِ أَبو العَبَّاس ابن صصري أنهم لمَّا حضروا مجلسَ غازان قُدِّمَ لهم طعامٌ فأكلوا منه إِلاَّ ابنَ تَيْميَّة، فقيلَ له: لِمَ لا تأكُلُ؟ فقال: كيف آكلُ من طعامكم وكلُّه ممَّا نَهَبتُهم من أغنامِ النَّاس، وطَبختُموه مما قطعتم من أشجار النَّاس. ثمَّ إِنَّ غازان طَلبَ منه الدعاءَ، فقال في دعائه: اللهم إن كنتَ تَعلمُ أَنَّه إِنَّما قاتلَ لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا وجهادًا في سبيلك فان تؤيده وتنصره، وإن كَانَ للملك والدنيا والتكاثر فان تفعل به وتصنع، يدعو عليه وغازان يؤمّن على دعائه ونحن نجمع ثيابنا خوفًا أَنْ يُقتل فيُطَرْطَشَ بدمه. ثمَّ لما خرجنا قلنا له: كدتَ تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، فقال: ولا أَنا أصحبكم، فانطلقنا عُصبةً وتأخر في خاصةِ مَنْ معه، فتسامعت الخوانين والأمراء، فأتوه من كل فج عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما وصل إِلاَّ في نحو ثلثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة، فسلخونا (¬1)، وكان (¬2) لا يسمح لمناظريه في بلوغ مرادهم من ضَرْوِه، ويقول: ما لي وله؟ وكان قاضي القضاة أَبو عبد الله ابن الحريري يقول: إن لم يكن ابن تَيْميَّة شيخ الإِسلام فمن هو؟! ثمَّ بعد ذلك تمكن ابن تَيْميَّة في الشَّام حتَّى صار يَحِلق الرءوس ويضرب الحدود ويأمر بالقطع والقتل. ثمَّ ظهر الشَّيخ نصر المنبجي واستولى على أرباب الدولة بالقاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تَيْميَّة: إِنَّه اتّحادي وإنه ينصر مذهب ابن العربي وابن سبعين، فكتب ¬

_ (¬1) في الأصل: فسلحونا. بالحاء. (¬2) أي: الخان.

إِليه نحو ثلاثمائة سطر يُنكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدع، وأخاف على النَّاس من شرّه، فحسَّنَ القضاة للأمراء طلبَه إِلى القاهرة، وأن يُعقد له مجلس، فعُقد له مجلس بدمشق، فلم يرضَ نصر المنبجي وقال لابن مخلوف: قل للأمراء: إِنَّ هذا يُخشَى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب فطُلِبَ من الفرم نائب دمشق، فعُقِد له مجلس ثانٍ وثالث، بسبب العقيدة الحموية، ثمَّ سكنت القضية إِلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشَّيخ نصر أَنَّ ابن تَيْميَّة يُخرِجهم من الملك ويُقيم غيرَهم، فطُلِب إِلى الديار المصرية، فمانع نائب الشام، وقال: قد عُقِد له مجلسان بحضرتي وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أَنا ناصح لك، وقد قيل إِنَّه يجمع الناسَ عليك، وعقد لهم بيعة، فجزع من ذلك، وأرسله إِلى القاهرة في رمضان سنة خمس وسبعمائة، وكتب معه كتابًا إِلى السلطان، وكُتِب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأَنَّه لم يثبت عليه فيهما شيء، ولا مُنِع من الإفتاء، فما التفت إِلى شيء من ذلك، وسُجِن بالإِسكندرية مدةً ثمَّ عاد إِلى دمشق. وحكي من شجاعته في مواقف الحرب نوبة شَقْحب ونوبة كسروان مالم يُسمع إِلاَّ عن صناديد الرجال وأبطالِ اللقاء وأحلاسِ الحرب، تارةً يباشر القتال، وتارةً يُحرّض عليه. وركب البريد إِلى مهنّا بن عيسى واستحضره إِلى الجهاد، وركب بعدها إِلى السلطان واستنفره، وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره، ولما جاء السلطان إِلى شَقْحب لاقاه إِلى قرن الحرَّة، وجعل يشجّعه ويُثبته، فلما رأى السلطان كثرة التَّتار قال: يا لخالد بن الوليد!! فقال له: لا تقل هذا، بل قل يا الله، واستغثْ

بالله ربِّك، ووحِّده وحدَه تُنْصر، وقل: يا مالكَ يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. ثم ما زال يُقبل تارةً على الخليفة وتارةً على السلطان ويُهدّئُهما ويَربِط جأشهما حتَّى جاءَ نصرُ الله والفتح. وحُكي أَنَّه قال للسلطان: اثبُتْ فأنت منصور، فقال له بعض الأمراء: قل إن شاء الله تعالى، فقال: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، فكان كما قال. وحكى أَبو حفص عمر بن عليّ بن موسى البزّار البغدادي، قال: حدّثني الشَّيخ المقرئ تقي الدين عبد الله بن أّحمد بن سعيد قال: مرضتُ بدمشق مرضةً شديدةً، فجاءني ابن تَيْميَّة، فجلس عند رأسي وأنا مُثْقَل بالحمَّى والمرض، فدعا لي، ثمَّ قال: قم، جاءت العافية، فما كَانَ إِلاَّ أن قام وفارقني، وإذا بالعافية قد جاءت، وشُفِيتُ لوقتي. قلت: وكان يجيئه من المال في كل سنة ما لا يكاد يُحصى، فيُنفقه جميعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجةٍ له، وكان يعود المرضى، ويُشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق النَّاس، ويتألَّف القلوب، ولا ينسب إلى باحثٍ لديه مذهبًا، ولا يحفظ لمتكلِّمٍ عنده زلَّةً، ولا يتشهَّى طعامًا، ولا يمتنع من شيء منه، بل هو مع ما حضر، لا يتجهَّم مَرآه، ولا يتكدَّرُ صفوه، ولا يسأمُ عفوَه. وآخر أمره أَنَّه تكلَّم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأُخِذ وسُجِن بقلعةِ دمشق في قاعة، فتوفي بها في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وحضر جمعٌ كبير إِلى القلعة، وأُذِن لبعضهم في الدخول، وغُسل وصُلّي عليه بالقلعة، ثمَّ حُمِل على أصابع الرجال إِلى جامع دمشق ضَحوةَ النهار، وصُلّي عليه، ودُفن بمقبرة الصوفية، وما وصل

إِلى قبره إِلى وقت العصر، وخرج النَّاس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقًا لا يُحصيهم إِلاَّ الله تعالى، وحْزِر الرجال بستين ألفًا والنساء بخمسة آلاف امرأةٍ، وقيل أكثر من ذلك. ورُؤيت له منامات صالحة. ورثاه جماعات من النَّاس بالشام ومصر والعراق والحجاز والعرب من آل فَضلٍ، رحمة الله عليه. ورثيتُه بقصيدةٍ لي، هي: أهكذا بالدياجي يُحجب القمر ... ويُحبس النوءُ حتى يذهبَ المطرُ؟ أهكذا تُمنع الشمسُ المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانًا فتستَتِرُ؟ أهكذا الدهر ليلاً كلّه أبدًا ... فليس يُعرف في أوقاته سحَر؟ أهكذا السيف لا تَمضِي مضاربُه ... والسيف في الفتك مافي عزمه خَوَر؟ أهكذا القوس ترمى بالعراء وما ... تُصمِي الرَّمايا ومافي باعها قصر؟ أهكذا يترك البحرُ الخِضمُّ ولا ... يُلوَى عليه، وفي أصدافه الدَرر؟ أهكذا بِتَقِيّ الدينِ قد عَبِثتْ ... أيدي العِدى وتعدّى نحوَه الضررُ؟ ألابنِ تيميّة تُرمى سهامُ أذًى ... من الأنام ويُدْمى النابُ والظفُر؟ بذّ السوابق ممتدَّ العبادةِ لا ... ينالُه ملَلٌ فيها ولا ضجر ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيمٍ وزهدٍ ما له خطرُ طريقَةٌ كان يمشي قبل مشيتِه ... بها أبو بكرٍ الصدّيقُ أو عمرُ فردُ المذاهب في أقوال أربعةٍ ... جاؤوا على أثر السُّبَّاقٍ وابتدروا

لمّا بنَوا قبله عُليا مذاهبهم ... بنى وعمّر منها مثلَ ما عمَروا مثل الأَئِمّة قد أحيى زمانَهُمُ ... كأنّه كان فيهم وهو منتَظَر إن يرفعهوهم جميعًا رفع مبتدإٍ ... فحقُّه الرفع أيضًا إِنّه خبرُ أمثلُه بينكم يُلقَى بمَضيَعةٍ ... حتّى يطيح له عمدًا دمٌ هدَرُ يكون وهْوَ أمانيٌّ لغيركُمُ ... تنوبه منكُمُ الأحداثُ والغِير والله لو أنّه في غيرِ أرضكمُ ... لكان منكم على أبوابه زُمَرُ مثل ابن تيميّةٍ يُنسى بمحبسه ... حتى يموت ولم يُكحَل به بصر مثل ابن تيميّة تُرْضى حواسدُه ... بحبسِه ولكُمْ في حبسِه عذر مثل ابن تيميّةٍ في السجن معتقَلٌ ... والسجن كالغمدِ وهو الصارمُ الذكر مثل ابن تيميّةٍ يُرمى بكلِّ أذًى ... وليس يُجلى قذًى منه ولا نظَرُ مثل ابن تيميّةٍ تذوى خمائلُه ... وليس يُلقط من أفنانِه الزهَر مثل ابن تيميّةٍ شمسٌ تغيبُ سُدًى ... وما تَرِقُّ لها الآصال والبُكر مثل ابن تيميّةٍ يمضي وما عبقت ... بمسكه العاطِرِ الأردانُ والطُرَرُ مثل ابن تيميّةٍ يمضي وما نهلَت ... له سيوف ولا خطيّة سُمر ولا تجارى له خيلٌ مسوّمَةٌ ... وجوهُ فرسانها الأوضاحُ والغرَرُ ولا تَخُفّ به الأبطالُ دائرةً ... كأنهُم أنجمٌ في وسطها قمَر ولا تعبّس حربٌ في موافِقِه يومًا ... ويضحكُ في أَرْجائه الظفرُ

حتَى يقوّمَ هذا الدين مِن مَيَلٍ ... ويستقيم على منهاجه البشرُ بل هكذا السلفُ الأبرارُ ما برِحُوا ... يُبلى اصطبارهمُ جهدًا وَهُمْ صبُرُ تأسّ بالأنبياءِ الطُّهر كم بلغَتْ ... فيهم مضرّةُ أقوام وكم هُجروا في يوسف في دخول السجن منقَبة ... لمن يكابدُ ما يلقى ويصطبرُ ما أُهمِلوا أبدًا بل أمهلوا لمدًى ... والله يُعقِبُ تأييدًا وينتصِرُ أيذهبُ المنهلُ الصافي وما نُقعت ... به الظماءُ ويَبْقى الحمأةُ الكدر؟ مضى حميدًا ولم يعلق به وضرٌ ... وكلّهم وضرٌ في الناس أو وَذَر طوْدٌ من الحِلم لا يَرقى له قُننٌ ... كأنّما الطودُ من أحجاره حجرُ بحرٌ من العلم قد فاضت بقيّتُه ... فغاضت الأبحرُ العظمى وماشعروا يا ليت شعريَ هل في الحاسدين له ... نظيره في جميع القوم إن ذُكِروا هلْ فيهمُ لحديث المصطفى أحدٌ ... يميّزُ النقدَ أو يُروى له خبر؟ هل فيهَم من يضمّ البحث في نظرٍ ... أو مثله من يضمّ البحثُ والنظرُ؟ هلاّ جَمعتُمْ له من قومكم ملأً ... كفعل فرعَوْنَ مَعْ مُوسى لتعتبروا؟ قولوا لهم: قال هذا فابحثوا مَعه ... قدّامَنا وانظروا الجهّال إن قدروا تُلقي الأباطيلَ أسحَارٌ لها دَهَشٌ ... فيلقفُ الحقُّ ما قالوا وما سحرُوا فليتهُم مثل ذاك الرهطِ من ملأٍ ... حتى يكون لكم في شأنهم عِبَر وليتهم أذعنوا للحقّ مثلهم ... فآمنوا كلّهم من بعد ما كفرُوا

يا طالما نفروا عنه مجانبةً ... وليتَهم نفَعوا في الضيم أو نفروا هل فيهُمُ صادع بالحقّ مِقولُه ... أو خائض للوغى والحرب تَسْتَعِرُ؟ رمى إِلى نحر غازانٍ مواجهةً ... سِهامَه من دعاءٍ عونُه القدَرُ بتلِّ راهطَ والأعداءُ قد غلبوا ... على الشآم وطار الشرّ والشرر وشَقّ في المرج الأسياف مسلطةٌ ... طوائفًا كلّها أو بعضُها التتر هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم ... مثلُ النساء بظلّ الباب مُستتِر وبعدها كسروانٌ والجبال قد ... أقام اطوادها والطوْد منفطِر واستحصد القوم بالأسياف جهدهُمُ ... وطالما بطلوا طغوى وما بطروا قالوا: قبرناه، قلنا: إنّ ذا عجبٌ ... حقًّا أللكوكب الدرّيّ قد قبرُوا؟ وليس يذهبُ معنًى منه متّقدٌ ... وإنّما تذهبُ الأجسام والصور لم يَبْكِه ندمًا من لا يصبّ دمًا ... يجري به ديَمًا تهمي وتنهمِر لهفي عليك أبا العبّاس كم كرم ... لمَّا قَضَيتَ قضى من عمره العمرُ سَقَى ثراك من الوسمِيّ صيّبُه ... وزانَ مغناك قَطْرٌ كلّه قُطُر ولا يزال له برقٌ يغازله ... حلوُ المراشف في أجفانه حور لِفقدِ مثلِك يا مَن ما له مثل ... تأسى المحاريب والآياتُ والسورُ يا وارثًا من علوم الأنبياء نُهًى ... أورثت قلبيَ نارًا وقدُها الفِكَرُ يا واحدًا لستُ أستَثْنِي به أحدًا ... من الأنام ولا أُبقِي ولا أذرُ

يا عالمًا بنقول الفقهِ أجمعِها ... أعنك تحفظ زلاّتٌ كما ذكروا؟ يا قامعَ البدَع اللاتي تجنّبَها ... أهلُ الزمان، وهذا البدوُ والحضرُ ومُرشد الفرقةِ الضلاّل نهجَهُم ... من الطريق فما حارُوا ولا سهروا الم تكن للنصارى واليهودِ معًا ... مجادلاً، وهمُ في البحث قد حَصِروا وكم فتًى غِرٍّ أبَنتَ له ... رُشدَ المقال فزال الجهلُ والغرَر ما أنكروا منك إِلاّ أَنَّهُمْ جَهِلوا ... عظيم قدرِك لكن ساعدَ القدر قالوا بأنّك قد أخطأتَ مسألةً ... وقد يكون، فهلاّ منك تُغْتَفَرُ؟ غلَطتَ في الدهرِ أو أخطأتَ واحدة ... أَمَا أجَدتَ إصاباتٍ فتعتذرُ؟ ومَن يكون على التحقيق مجتهدًا ... له الثوابُ على الحالَين، لا الوزرُ ألم تكن بأحاديث النبيّ إذا ... سُئِلتَ تعرِفُ ما تأتي وما تذر؟ حاشاك من شبُهٍ فيها ومن شبهٍ ... كلاهُما منك ولا يبقى له أثرُ عليك في البحث أن تبدي غوامضَهُ ... «وما عليك إذا لم تفهم البقر» قدّمتَ لله ما قدّمتَ من عملٍ ... وما عليك بهم، ذمّوك أو شكروا هَل كان مثلُك من يخفى عليه هدًى ... ومن سَمائك تبدو الأنجمُ الزُّهُرُ وكيف تحذر من شيءٍ تزلّ به ... أنت التقيّ فماذا الخوفُ والحذرُ؟

24 - تتمة المختصر في أخبار البشر

تتِمَّةُ المخْتَصَر في أَخْبارِ البَشَر (¬1) للعلاَّمة/ عمر بن المظفَّر ابن الوردي (749) وفيها (¬2) في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي شيخ الإِسلام تقي الدين أَبو العَبَّاس، أَحمد بن المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن تَيْميَّة الحَرَّاني الحنبلي معتقلاً بقلعة دمشق، وغُسل وكُفن وأُخرج وصلَّى عليه أولاً بالقلعة الشَّيخ محمَّد بن تمام، ثمَّ بجامع دمشق بعد الظهر، وأُخرج من باب الفرج، واشتدّ الزحام في سوق الخيل، وتقدّم عليه في الصلاة هناك أَخوه، وأَلقى الناس عليه مناديلهم وعمائمهم للتبرُّك! وتراصّ الناس تحت نعشه، وحُزِرت النساء بخمسة عشر ألفًا، وأَما الرجال فقيل: كانوا مئتي أَلف. وكَثُر البكاء عليه، وخُتمت له عدة ختم، وتردد الناس إِلى زيارة قبره أَيامًا، ورؤيت له منامات صالحة ورثاه جماعة. قلت: ورئيته أَنا بمرئية على حرف الطاء؛ فشاعت واشتهرت، وطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي: عَثَا في عرضه قومٌ سِلاطٌ ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ ¬

_ (¬1) 2/ 406 - 413 (نشر دار المعرفة، بيروت، 1389)، و 2/ 285 - 289 (ط. مصر 1285). (¬2) أي في سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.

تقي الدِّين أَحمد خيرُ حبرٍ ... خُروق المعضلات به تُخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إِلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قضى لألفوا ... ملائكةَ النعيمِ به أَحاطوا قضى نحبًا وليس له قرينٌ ... ولا لنظيره لَفَّ القِماط فتًى في علمه أَضحى فريدًا ... وحلُّ المشكلات به يُناط وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطوا وكان الجن تَفْرق من سَطَاهُ ... بوعظٍ للقلوب هو السِّياط فيالله ما قد ضمَّ لحدٌ ... وياللهِ ما غطَّى البلاط هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسالى ... ولكن في أَذاه لهم نشاط وحَبْسُ الدُّرِّفي الأَصداف فخر ... وعند الشيخ بالسِّجْن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المَنُون ولم يُواطوا نبو تيميةٍ كانوا فبانوا ... نجوم العلم أَدركها انهباط ولكن يا ندامة حابسيه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخباط ألم يك فيكم رجلٌ رشيد ... يرى سَجْن الإِمام فيُسْتَشَاط إمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباط

ولا جاراكم في كسب ... مالٍ ولم يُعهد له بحكم اختلاط ففيم سجنتموه وغظتموه ... أَما لجزا أَذيته اشتراط وسَجْن الشَّيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لِقَدْر مثلكم انحطاط أما والله لولا كتم سري ... وخوف الشر لانحل الرباط وكنتُ أَقولُ ما عندي ... ولكن بأَهل العلم ما حَسُن اشتطاط فما أحد إِلى الإنصاف يدعو ... وكلّ في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... وننبئكم إذا نُصِبَ الصِّراط فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أَردتم أَن تُعاطوا وحلوا واعْقِدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانطوى ذاك البساط وكنت اجتمعت به - رحمه الله تعالى - بدمشق سنة خمس عشرة وسبعمائة بمسجده بالقصاعين، وبحثت بين يديه في فقهٍ وتفسيرٍ ونحو، فأَعجبه كلامي وقبَّل وجهي وإِني لأرجو بركة ذلك، وحكي لي عن واقعته المشهورة في جبل كسروان، وسَهِرت عنده ليلة، فرأَيت من فتوّته ومروءَته ومحبَّته لأهل العلم ولا سيما الغرباء منهم أمرًا كثيرًا، وصلَّيت خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته خشوعًا، ورأَيت على صلاته رِقَّةَ حاشيةٍ تأْخذ بمجامع القلوب. مولده - رحمه الله ورحمنا به (¬1) - بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع ¬

_ (¬1) هذا من التوسل الممنوع.

الأَول سنة إِحدى وستين وست مئة، هاجر والده به وبإخوته إِلى الشَّام من جَوْر التتر، وعني الشَّيخ تقي الدين بالحديث، ونسخ جملةً، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، ثمَّ أَقبل على الفقه، وقرأَ أَيامًا في العربية على ابن عبد القوي، ثمَّ فهمها، وأَخذ يتأمَّل كتاب سيبويه حتَّى فهمه، وبرع في النحو، وأَقبل على التّفسير إقبالاً كلِّيًا حتَّى سبق فيه، وأَحكم أُصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصوُّن تامٍّ وعفاف وتعبُّد واقتصاد في الملبس والمأكل. وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيّرون منه، وأَفتى وله أَقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف ومات والده وله إِحدى وعشرون سنة، وبعُدَ صيته في العالم فطبَّق ذكره الآفاق وأَخذ في تفسير الكتاب العزيز أَيام الجُمع على كرسي من حفظه فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذلك الدرس بتؤدة وصوت جَهْوري فصيح يقول في المجلس أَزيد من كراسين، ويكتب على الفتوى في الحال عدة أُوصال بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق. قال الشَّيخ العلامة كمال الدين بن الزَّمْلَكاني علم الشافعية من خطٍّ كَتبَه في حق ابن تَيْميَّة: كَانَ إِذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أَنَّه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم بأَن لا يعرفه أَحد مثله، وكانت الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، قال: ولا يعرف أَنَّه ناظر أَحدًا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كَانَ من علوم الشرع أَو غيرها إِلاَّ فاق فيه أَهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. انتهى كلامه.

وكانت له خبرة تامَّة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى «الكتب السِّتَّة» و «المسند» بحيث يصدق عليه أَن يقال: «كل حديث لا يعرفه ابن تَيْميَّة فليس بحديث» ولكن الإحاطة لله غير أَنَّه يغترف فيه من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السّواقي. وأَمّا التفسير فسلم إِليه، وله في استحضار الآيات للاستدلال قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة إطلاعه بيَّن خطأَ كثير من أَقوال المفسرين، وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير، أَو من الفقه أَو من الأَصلين أَو من الرّدِّ على الفلاسفة والأَوائل نحوًا من أَربعة كراريس، قال: وما يبعد أَنّ تصانيفه إِلى الآن تبلغ خمس مئة مجلد. وله في غير مسأَلة مصنَّف مفرد كمسألة التحليل وغيرها، وله مصنف في الرد على ابن مطهر العالم الحِلِّي في ثلاث مجلدات كبار، وتصنيف في الرد على «تأْسيس التقديس» للرازي في سبع مجلدات، وكتاب في الرد على المنطق، وكتاب في «الموافقة بين المعقول والمنقول» في مجلدين وقد جمع أَصحابه من فتاويه ست مجلدات كبار. وله باع طويل في معرفة مذاهب الصَّحابة والتابعين قلَّ أَنْ يتكلَّم في مسألة إِلاَّ ويذكر فيها مذاهب الأَربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. قال القاضي المنشي شهاب الدين أَبو العَبَّاس أَحمد بن فضل الله في ترجمته: جلس الشَّيخ إِلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ دواخلِ أجسامِها، وتجِدُ النارُ فتورًا في

ضَرَمِها، والسيوفُ فرقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُعِ المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي لا يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فجلس إِليه وأومأ بيده إِلى صدرِه، وواجّهَه ودرأَ في نَحْرِه، وطَلَبَ منه الدُّعَاء، فرفعَ يديه ودعَا دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه. وله مصنف سماه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» وكتاب «رفع الملام عن الأَئمة الأَعلام» وبقي عدّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأُمور لم يُسبق إِليها، وأَطلق عبارات أَحجم عنها الأَولون والآخرون وهابوا وجَسَر هو عليها، حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه بدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الَّذي أَدى إِليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال، وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية. كَانَ معظِّمًا لحرمات الله دائم الابتهال كثير الاستعانة قوي التوكل ثابت الجأش، له أَوراد وأَذكار يُديمها، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء والجند والأُمراء والتجار والكبراء وسائر العامة تحبه، بشجاعته تُضْرب الأَمثال وببعضها يتشبه أَكابر الأَبطال، ولقد أَقامه الله في نوبة غازان والتقى أَعباء الأَمر بنفسه واجتمع بالملك مرتين وبخطلو شاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأَته على المغل. وكتب ابن الزَّمْلَكاني على بعض تصانيف ابن تَيْميَّة هذه الأبيات: ماذا يقولُ الواصفونَ له ... وصفاته جلَّت عن الحصر

هو حجَّةٌ لله قاهرةٌ ... هو بيننا أُعجوبةُ العصرِ هو آيةٌ في الخلقِ ظاهرةٌ ... أَنوارها أربتْ على الفجرِ ولما سافر ابن تَيْميَّة على البريد إِلى القاهرة سنة سبع مئة وحضَّ على الجهاد رتب له مرتب في كل يوم وهو دينار وتحفة (¬1) وجاءته بقجة قماش فلم يقبل من ذلك شيئًا. وقال القاضي أَبو الفتح بن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تَيْميَّة رأَيت رجلاً كل العلوم بين عينيه يأْخذ ما يريد ويدع ما يريد. وحضر عنده شيخ النحاة أَبو حيَّان وقال ما رأت عيناي مثله. وقال فيه على البديهة أَبياتًا منها: قامَ ابن تيميَّة في نصر شِرْعتنا ... مقام سيِّد تَيْم إذ عَصَتْ مُضَر فأَظهر الحقَّ إذ آثاره دَرَست ... وأَخْمد الشرَّ إذ طارت له الشرر كنا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيء فها ... أَنت الإِمام الذي قد كان يُنْتظر ولما جاء السلطان إِلى شَقْحب والخليفة لاقهما إِلى قرن الحرة، وجعل يثبتهما فلما رأى السلطان كثرة التَّتار قال: يا خالد بن الوليد! قال: قل: يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وقال للسلطان: اثبت فأَنت منصور. فقال له بعض الأمراء: قل إِن شاء الله. فقال: إِن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. فكان كما قال». انتهى ملخصًا (¬2). ¬

_ (¬1) كذا هنا، وقد سبق فيما مضى: "محفية". (¬2) أي كلام ابن فضل الله العمري.

وهو أَكبر من أَن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أَني ما رأَيت بعيني مثله ولا رأَي هو مثل نفسه في العلم، وكان فيه قلَّة مداراة وعدم تؤدة غالبًا، ولم يكن من رجال الدول ولم يسلك معهم تلك النواميس، وأَعان أَعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا تحتملها عقول أَبناء زماننا ولا علومهم، كمسأَلة: التكفير في الحلف بالطلاق، ومسأَلة: أَنَّ الطلاق بالثلاث لا يقع إِلاَّ واحدة، وأَنَّ الطلاق في الحيض لا يقع، وساس نفسه سياسة عجيبة فحبس مرات بمصر ودمشق والإسكندرية، وارتفع وانخفض واستبد برأيه وعسى أَنْ يكون ذلك كفارة له، وكم وقع في صعب بقوة نفسه وخلَّصه الله. وله نظم وسط، ولم يتزوج ولا تسرَّى ولا كَانَ له من المعلوم إِلاَّ شيء قليل وكان أَخوه يقوم بمصالحه، وكان لا يطلب منهم غداء ولا عشاء غالبًا، وما كانت الدنيا منه على بال. وكان يقول في كثير من أَحوال المشايخ إِنها شيطانية أَو نفسانية فينظر في متابعة الشَّيخ الكتاب والسنة فإِن كَانَ كذلك فحاله صحيح وكشفه رحماني غالبًا وما هو بالمعصوم، وله في ذلك عدة تصانيف تبلغ مجلدات، من أَعجب العجب، وكم عوفي من «الصراعِ الجنيِّ» إنسانٌ بمجرد تهديده للجني، وجَرَت له في ذلك فصول ولم يفعل أَكثر من أَن يتلوَ آيات ويقول: إِن لم تنقطع عن هذا المصروع وإِلاَّ عملنا معك حكم الشرع وإِلاَّ عملنا معك ما يرضي الله ورسوله، وفي آخر الأَمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأَنَّ السفر وشد الرحال لذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَد الرِّحال إِلاَّ إِلى ثلاثة مساجد». مع اعترافه بأَنَّ الزيارة بلا شدِّ رحلٍ قربة، فشنعوا عليه بها، وكتب فيها جماعة بأَنه يلزم منعه شائبه تنقيص للنبوَّة فيكفر بذلك.

وأَفتى عدّة بأنه مخطئٌ بذلك خطأَ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة وكبرت القضية فأُعيد إِلى قاعة بالقلعة فبقي بضعة وعشرين شهرًا، وآل الأَمر إِلى أَن مُنِع من الكتابة والمطالعة، وما تركوا عنده كراسًا ولا دواة، وبقي أَشهرًا على ذلك، فأَقبل على التلاوة والتهجد والعبادة حتَّى أتاه اليقين فلم يفجأ الناسَ إِلاَّ نعيُه وما عملوا بمرضه فازدحم الخلق عند باب القلعة وبالجامع زحمة صلاة الجمعة وأَرجح، وشيَّعه الخلق من أَربعة أَبواب البلد وحمل الرؤوس، وعاش سبعًا وستين سنة وأشهرًا، وكان أَسود الرأْس قليل شيب اللحية، ربْعةً، جَهْوري الصوت أَبيض أَعْيَن. قلت: تنقَّص مرة بعض النّاس من ابن تَيْميَّة عند قاضي القضاة كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني وهو بحلب وأَنا حاضر فقال كمال الدين: ومن يكون مثل الشَّيخ تقي الدين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه!! والله لولا تعرضه للسلف (¬1) لزاحمهم بالمناكب. وهذه نبذة من ترجمة الشيخ مختصرةٌ، أكثرها من «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» للإمام الحافظ شمس الدين محمد الذهبي. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ابن الزملكاني يقصد سَلَفَه فيما ذهب إليه هو!!.

25 - برنامج ابن جابر الوادي آشي

برنامج ابن جابر الوادي آشي (¬1) للشيخ/ شمس الدين محمد بن جابر الوادي آشي (749) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن محمَّد بن تَيْميَّة. مفتي الشام، ومحدِّثه، وحافظه، ويركب شواذ الفتاوي (¬2)، ويزعم أَنَّه مجتهد مصيب!! سمع ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليُسر، وابن أَبي الخير، وابن عطاء، وفخر الدين بن عساكر، وفخر الدين بن البخاري، وغيرهم، وله تواليف. ومولده بحرَّان يوم الاثنين العاشر لربيع الأَوَّل عام أَحدٍ وستين وست مئة. ¬

_ (¬1) (ص/ 109 - 110) نشر مركز البحث العلمي وإحياء الترات الإسلامي بمكة المكرمة، (1401)، تحقيق د/ محمد الهيلة. (¬2) لم يفت الشيخ بمسألةٍ إلَّا وله فيها سلفٌ. ولم يشذَّ عنهم برأيٍ لا دليل عليه.

26 - الكافية الشافية

الكافية الشافية (¬1) للعلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم (751) وإذا أردتَ تَرى مصارعَ من خلا ... من أمة التعطيل والكفران وتراهمُ أسْرَى حقيرًا شأنُهم ... أيديهمُ غُلَّتْ إلى الأذقان وتراهمُ تحتَ الرماحِ دَرِيْئَةً ... ما فيهمُ من فارسٍ طَعَّان وتراهمُ تحتَ السيوفِ تَنُوشُهم ... مِنْ عن شمائِلهم وعن أَيْمان وتراهمُ انسلخوا من الوحيينِ والـ ... ـعقل الصحيحِ ومقتضَى القرآن وتراهمُ واللهِ ضُحْكَةَ ساخرٍ ... ولطالمَا سَخِرُوا من الإيْمان قد أوحشتْ منهم رُبُوعٌ زَادهَا الـ ... ـجَبَّارُ إيْحاشًا مَدَى الأزمان وخَلَتْ ديارُهمُ وشُتِّتَ شَمْلُهم ... مَا فيهمُ رجلانِ مجتمعان قد عَطَّلَ الرحمنُ أفئدةً لهم ... من كلِّ معرفةٍ ومن إيمان إذْ عَطَّلوا الرحمنَ من أوصافِه ... والعرشَ أَخْلَوه من الرحمن بل عَطَّلوهُ عن الكلامِ وعن صِفا ... تِ كمالِه بالجهلِ والبهتان ¬

_ (¬1) ص 163 - 165 (ط. القاهرة 1345 هـ).

فَاقْرَأْ تصانيفَ الإمَامِ حقيقةً ... شيخِ الوجودِ العالمِ الربّاني أَعني أبا العباسِ أحمدَ ذلك الْـ ... ـبَحْرَ المحيطَ بسائرِ الخُلْجَان وَاقرأ كتابَ «العقلِ والنقل» الذي ... ما في الوجود له نظيرٌ ثان وكذاك «منهاج» له في رَدِّه ... قولَ الروافضِ شيعةِ الشيطان وكذاك أهل الاعتزالِ فإنه ... أَرداهُمُ في حُفرةِ الجبان وكذاك التأسيس أصبح «نقضُه» ... أُعْجُوبةً للعالم الرباني وكذاك «أجوبةٌ له مصرية» ... في ست أسفار كُتِبنَ سِمانِ وكذا «جوابٌ للنصارى» فيه ما ... يَشفي الصدورَ وإنّه سِفران وكذاك «شرح عقيدةٍ للأصبها ... نِيْ» شارحِ المحصولِ شرحَ بيان فيها «النبوات» التي إثباتها ... في غايةِ التقريرِ والتِبْيان والله ما لأُوِلِي الكلام نظيرُه ... أبدًا وكُتْبُهُمُ بكلِّ مكان وكذا حدوثُ العالَمِ العُلْويّ والـ ... ـسُّفْليّ فيهِ في أتمِّ بيانِ وكذا «قواعدُ الاستقامةِ» إنها ... سِفران فيما بيننا ضخمان وقرأتُ أكثرَها عليه فزادني ... وَاللهِ في عِلمٍ وفي إيمان هذا ولو حَدَّثْتُ نَفْسِي أنه ... قبلي يموتُ لَكان هذا الثاني وكذاك توحيدُ الفلاسفة الأُولَى ... توحيدُهم هو غايةُ الكفران سِفرٌ لطيفٌ فيه «نقضُ أصولهم» ... بحقيقةِ المعقولِ والبرهان

وكذاك «تِسْعِيْنيَّةٌ» فيها له ... ردٌّ علَى من قال بالنفساني تسعون وجها بَيَّنَتْ بطلانَه ... أعنيْ كلامَ النفسِ ذَا الوحدان وكذا «قواعدُه الكبارُ» وإنّها ... أَوفَى من المائتينِ في الحُسْبَان لمَ يتَّسِعْ نَظمِيْ لها فأسوقها ... فأشَرتُ بعضَ إشارةٍ لبيان وكذا «رسائله» إلى البلدان والأ ... طراف والأصحاب والإخوان هي في الورى مبثوثةٌ معلومةٌ ... تُبتاعُ بالغالِي من الأثمان وكذا «فتاواه» فأخبَرنِي الذي ... أضحَى عليها دائمَ الطَّوفان بَلغَ الذي أَلْفَاهُ منها عِدَّةَ الْـ ... أيَّامِ مِن شهرٍ بلا نقصانِ سِفرٌ يُقابِلُ كلَّ يوم، والذي ... قَد فَاتَنِيْ منها بلا حُسبان هذا وليس يُقَصِّرُ «التفسيرُ» عن ... عشْرٍ كبارٍ ليسَ ذا نُقصان وكذا «المفَارِيد» التي في كل مَسْـ ... ـألةٍ فسِفرٌ واضحُ التبيان ما بين عَشْرٍ أو تَزِيدُ بضِعْفِها ... هِيَ كالنجومِ لسالكٍ حَيْران وله المقاماتُ الشهيرةُ في الورَى ... قد قامَها للهِ غيرَ جَبان نَصَرَ الإلهَ ودينَه وكِتابَه ... ورسوله بالسيفِ والبرهان أبدى فضائحَهم وبيَّنَ جهلَهم ... وأرى تناقضَهم بكل زمان وأصارَهم واللهِ تحتَ نعالِ أهْـ ... ـلِ الحقِّ بعدَ ملابسِ التيجان وأصارَهم تحتَ الحضيضِ وطالما ... كانوا همُ الأعلامَ للبلدان

ومن العجائبِ أنه بسِلاحِهم ... أَرْدَاهُمُ تحتَ الحضضِ الداني كانتْ نواصِينا بأيديهم فما ... مِنَّا لهمْ إلا أسيرٌ عان فغدتْ نواصِيْهم بأيدينا فلا ... يَلْقَوْننا إلا بحبل أمان وغدتْ ملوكهُمُ مماليكًا لأنْـ ... ـصَار الرسولِ بمنَّةِ الرحمن وأتتْ جنودُهم التي صَالوا بها ... منقادةً لعساكِر الإيمان يَدرِيْ بهذا مَن له خبرٌ بما ... قد قاله في ربه الفئتان والقِدمُ يُوحِشُنا وليس هناكم ... فحضورُه ومغيبُه سِيَّان

27 - الإيصال لكتاب ابن سليم وابن نقطة والإكمال

الإيصال لكتاب ابن سليم وابن نقطة والإكمال (¬1) للعلامة مُغلْطاي بن قليج المصري (ت 762 هـ) شيخنا الإمام بغير مراء تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، الذي طبَّق ذكرهُ جميع َ الأقطار، وشاع علمُه في جميع الأمصار، فلذلك استغنينا عن التعريف بحاله. رأيتُه بالقاهرة، وأجازني مشافهةً بها، وجئتُه لأوَدِّعَه، وسألتُه الوصيةَ والدعاءَ فقال لي: يا غلامُ، رُوِّيْنا في كتاب الترمذي بإسناد ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس: «يا غلام، إنّي أعلّمك كلماتٍ، احفظِ اللهَ يَحفَظْك، احفظ الله تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فسَلِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، واعلم أَن الأمّة لو اجتمعتْ على أَن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يَضُرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك. رفعتِ الأقلامُ، وجفَّتِ الصحف». هكذا ذكره من غير إسناد، ولم أروِ عنه حديثا علّق إسناده غير هذا، وهو يرويه عن أبي الحسن بن البخاري سماعًا، أبنا ابن طبرزد، أبنا الكروخي، أبنا أبو الفتح الهروي، أبنا أبو عامر الأزدي وأبو نصر الترياقي وأبو بكر الغورجي قالوا: أبنا أبو محمد الجراحي، أبنا أبو العباس المحبوبي، أبنا الترمذي، نا أحمد بن محمد بن موسى، نا ابن المبارك، أنا ¬

_ (¬1) ص 73 - 74 (نسخة الخزانة العامة بالرباط، وهي بخط المؤلِّف).

ليث بن سعد وابن لهيعة عن قيس بن الحجاج. ح وثنا عبد الله بن عبد الرحمن، أنا أبو وليد، ثنا ليث بن سعد حدَّثني قيس بن الحجاج، المعنى واحد، عن حنش الصنعاني عن ابن عباس، فذكره، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد يقع لنا هذا الحديث أعلى من طريقه بثلاث درجات، فكأنّي من حيث العدد سمعتُه من الكروخي، وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين وخمس مئة. أبنا أبو الفتح يونس العَسْقلاني قراءةً عليه وأنا أسمع، أبنا ابن الجُمَّيْزِي وغيره. . . . . . (¬1) عن السِّلفي أبنا أبو العلاء محمد بن عبد الجبار بن محمد الضبي الفرساني، نا أبو عبد الله الجمال، عن عبد الله بن جعفر بن فارس، عن يونس بن حبيب، أنا أبو الوليد الطيالسي، فذكره. ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير واضحة، ولعلها "كلهم" أو "جميعا".

العلامة: خليل بن أَيبك الصفدي (764) - أَعْيَانُ العَصْر وأَعْوَان النَّصر - الوافي بالوَفَيَات

28 - أعيان العصر وأعوان النصر

أعيان العصر وأَعْوَان النَّصْر (¬1) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم. الشَّيخ الأمامُ العالمُ العلامةُ المفسِّر المحدثُ، المجتهدُ، الحافظُ، شيخ الإِسلام، نادرةُ العصر، فريد الدهر، تقيّ الدين أَبو العبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدين ابن الإِمام مجد الدين أَبي البركات ابن تَيْمِيَّة. سمع من ابن عبد الدايم، وابن أَبي اليُسْر، والكمال ابن عَبْد، وابن أَبي الخير، وابن الصيرفي، والشَّيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علاّن، وخلق كثير. وبالغ وأكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب، ونسخ عدة أجزاء، وسنن أَبي داود. ونظر في الرجال والعِلل، وصار من أئمّة النقد ومن علماء الأثر، ومع التديّن والتألّه. ثمَّ أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه. تحوّل به أبوه من حرّان إِلى دمشق سنة سبع وستين وست مئة، وتَيْميَّة لقبٌ لجدّه الأعلى. تمذهب للإِمام أَحمد بن حنبل، فلم يكن أحدٌ في مذهبه أنْبَهَ ولا أنْبَلَ. وجَادَل وجالَدَ شُجعان أقرانه، وجدّل خصومه في وسط ميدانه، وفَرَّجَ مضايقَ البحث بأدلة قاطعة، ونصر أقواله في ظُلمات الشكوك ¬

_ (¬1) ص 66 - 73 نسخة المكتبة السليمانية، مجموعة عاطف أفندي باستانبول، برقم (1809).

بالبراهين الساطعة. كأنّ السُّنة على رأس لسانه، وعلوم الأثر مُساقةٌ في حواصل جنانه، وأقوال العلماء مجلُوّة نُصْب عيانه. لم أرَ أَنا ولا غيري مثل استحضاره، ولا مِثل سَبْقه إِلى الشواهد وسُرعة إحضاره، ولا مِثل عَزْوه الحديث إِلى أصله الَّذي فيه نقطة مداره. وأمّا علم الأصليْن فقهًا وكلامًا، وفهمًا وإعلامًا، فكان عجبًا لمن يسمعه معجزًا لمن يَعُدّ ما يأتي به أَو يجمعه. يُنزِّل الفروع منازلها من أصولها، ويردُّ القياسات إِلى مآخذها من محصولها. وأما الملل والنحل، ومقالات أرباب البِدَع الأُوَل، ومعرفة أرباب المذاهب، وما خُصّوا به من الفتوحات والمواهب؛ فكان في ذلك بحرًا يتموَّج، وسَهمًا ينفذُ على السواء لا يتعوَّج. وأمّا المذاهب الأربعة فإليه في ذلك الإشارة، وعلى ما ينقله الإحاطة والإدارة. وأما نقل مذاهب السلف، وما حدث بعدهم من الخلف؛ فذاك فنُّه، وهو في وقت الحرب مِجَنُّه، قلّ أَنْ قَطَعه خصمُه الَّذي تصدّى له وانتصب، أَو خلص منه مُناظره إلاّ وهو يشكو من الأيْن والنَصَب. وأما التفسير فَيَدُه فيه طولى، وسَرْدُه فيه يجعل العيون إليه حُوْلى. إِلاَّ أنّه انفرد بمسائل غريبة، ورجَّح فيها أقوالاً ضعيفة عند الجمهور معيبة (¬1)، كَادَ منها يقع في هُوّة، ويسلمُ منها لما عنده من النّية المرجوة. ¬

_ (¬1) سبق التعليق على مثل هذه العبارات.

والله يعلم قصْده وما يترجّحُ من الأدلة عنده. وما دمّر عليه شيءٌ كمسألة الزيارة، ولا شُنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إِلى القلعة مُعتقلا، وجفاه صاحُبه وقَلا، وما خرج منها إلاّ على الآلة الحدْباء، ولا دَرَج (¬1) منها إلاّ إِلى البقعة الجدْباء، والتحق باللطيف الخبير، ووَلَّى والثناء عليه كَنشْر العبير. وكان ذا قلم يُسابق البرق إِذا لمع، والودْق إِذا هَمَع. يُملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكرّاسيْن والثلاثة في قعدةٍ، وحدُّ ذهنه ما كَلَّ ولا انثلم. قد تحلّى «بالمحلّى» وتولّى من تقليده ما تولّى، فلو شاء أورده عن ظهر قلب، وأتى بجُملةِ ما فيه من الشناع والثلْب!! وضيّع الزمان في ردّه على النصارى والرافضة، ومَنْ عاند الدين أَو ناقضه، ولو تصدّى لشرح البخاريّ أَو لتفسير القرآن العظيم، لقلّد أعناق أهل العلوم بِدُرِّ كلامه النظيم (¬2). وكان من صغره حريصًا على الطلب، مُجِدًّا على التحصيل والدأب، ولا يُؤْثر على الاشتغال لذة، ولا يرى أَن تَضِيْع لحظة منه في البطالة فذّة. يذهل عن نفسه ويغيب في لذة العلم على حِسه، لا يطلب أكلاً إلاّ إِذا حضر لديْه، ولايرتاحُ إِلى طعام ولاشراب في أبرديْه. قيل: ¬

_ (¬1) في نسخة: "رجع". (¬2) لم يضيِّع شيخ الإسلام الزمان بذلك؛ بل أتى فيه بالعجب العجيب، فمن لي بمثل "منهاج السنة"، و"درء التعارض"، و "الجواب الصحيح"، و"بيان تلبيس الجهمية"؟! وله في التفسير والحديث ما لو وصل إلينا كاملًا لكان في أسفار كثيرة.

إِنَّ أباه وأخاه وأهله، وآخرين ممن يلوذون بظلّه، سألوه أَن يروح معهم يوم سَبت ليتفرّج، فهرب منهم وما ألْوى عليهم ولا عَرَّج. فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلُّفِه، وتركه لاتّباعهم وما في انفراده من تَكَلُّفِه. فقال: أنتم ما تزيّد لكم شيءٌ (¬1) ولا تجدّد، وأنا حفظتُ في غيبتكم هذا المجلّد. وكان ذلك الكتاب «جَنّة النَّاظر وجُنّة المُناظر» وهو مجلّد صغير وأمُره شهير. لا جَرَم أَنَّه كَانَ في أرض العلوم حارثًا وهو همّام، وعلومه - كما يقولُ الناسُ - تدخلُ معه الحمّام. هذا إِلى كرمٍ يضحك البرقُ منه على غَمَائمه، وجودٍ ما يصلح حاتم أَن يكون في فصّ خاتمه، وشجاعةٍ يفرّ منها قَسْوَرة، وإقدام يتأخّرُ عنه عنترة، دخل على محمود غازان وكلّمه كلامًا غليظًا بقوةٍ، وأسمعه مقالاً لا تحمله الأبّوةُ من البنوّة. وكان في ربيع الأَوَّل سنة ثمان وتسعين وست مئة، قد قام عليه جماعةٌ من الشافعيّة وأنكروا عليه كلامه في الصفات، وأخذوا فتياه «الحمويّة»، وردّوا عليه فيها، وعملوا له مجلسًا. فدافع الأفرمُ عنه ولم يُبَلِّغهم فيه أَرَبَا. ونودي بدمشق بإبطال العقيدة «الحموية». فانتصر له جاغان المشدّ. وكان قد مُنع من الكلام. ثمَّ حضر عنده قاضي القُضاة إِمام الدين، وبحثوا معه، وطال الأمر بينهم. ثمَّ رجع القاضي إِمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشَّيخ تقيّ الدين شيئًا عزّرْناه. ثُم إِنَّه طُلب إِلى مصر وهو القاضي نجم الدين ابن صصري، وتوجّها إِلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبع مئة، فانتصر له ¬

_ (¬1) في الأصل: "شيئًا".

الأمير سيف الدين سلاَّر، وحطّ الجاشنكير عليه، وعقدوا له مجلسًا انفصل على حبسه، فحُبس في خزانة البنود، ثمَّ نُقِلَ إِلى الإسكندرية في صَفَر سنة تسع وسبع مئة، ولم يُمَكَّن أحدٌ من أصحابه من التوجّه معه. ثمّ أُفرج عنه، وأقام بالقاهرة مدّة، ثمَّ اعتُقل أيضًا، ثمَّ أُفرج عنه في ثامن شوّال سنة تسعٍ وسبع مئة، أَخرَجه الناصرُ لمّا وَرَد من الكرك، وحضر إِلى دمشق. فلما كَانَ في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبع مئة، جُمع الفقهاء والقُضاة عند الأمير سيف الدين تنكز، وقُرئ عليهم كتابُ السلطان، وفيه فصلٌ يتعلّق بالشيخ تقيّ الدين بسبب فُتياه في مسألة الطلاق، وعوتب على فتياه بعد المنْع، وانفصل المجلس على توكيد المنع. ثمَّ إنّه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبع مئة عُقد له مجلس بدار السعادة، وعاودوه في فُتيا الطلاق [وحاققوه] (¬1) عليها وعاتبوه لأجلها، ثمَّ إِنَّه حُبس بقلعة دمشق، وأقام بها إِلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إِحدى وعشرين وسبع مئة، فأُخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان، وتوجّه إِلى منزله، وكانت مدّة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا. ولمّا كَانَ في يوم الاثنين بعد العصر سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبع مئة في أيّام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلّموا معه في مسألة الزيارة، وكُتب في ذلك إِلى مصر، فورد مرسوم السلطان ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفتين من نسخة أخرى.

باعتقاله في القلعة. فلم يزل بها إِلى أَن مات رحمه الله تعالى في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، بقلعة دمشق، في القاعة الَّتي كَانَ بها محبوسًا. ومولده بحرّان سنة إِحدى وستين وست مئة. وأوّل ما اجتمعتُ أنا به كَانَ في سنة ثماني عشرة أَو سبع عشرة وهو بمدرسته في القصّاعين بدمشق المحروسة. وسألتُه مسألة مُشْكِلة في التفسير، ومسألة مُشْكِلة في الإعراب، ومسألة مُشْكِلة في الممكن والواجب. وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير (¬1). ثمَّ اجتمعتُ به بعد ذلك مرّات، وحضرتُ دروسه في الحنبليّة، فكنتُ أرى منه: عجبًا من عجائب البر والبحـ ... ـر ونوعًا فرْدًا وشكلاً غريبا وكان [كثيرًا] (¬2) ما يُنشد قول ابن صرَّدُرَّ: تموتُ النفوسُ بأوصابِها ... ولم تَشْك عوَّادَها ما بِها وما أنْصَفَتْ مُهْجةٌ تَشْتكي ... أذاها إِلى غيرِ أَحْبابها ويُنْشد أيضًا: مَنْ لم يُقَدْ ويُدسَّ في خيشومه ... رهجُ الخميس فلن يقود خميسا رأيتُه في المنام بعد موته - رحمه الله تعالى - كأنّه في جامع بني أميّة ¬

_ (¬1) يقصد به "الوافي بالوفيات". (¬2) الزيادة من نسخة أخرى.

وانأ في يدي صورة عقيدة ابن حزم الظاهري الَّتي ذكرها في أوّل كتاب «المحلى» وقد كتبتُها بخطيّ، وكتبتُ في آخرها: وهذا نصُّ ديني واعتقادي ... وغيري ما يرى هذا يجوزُ وقد أوقفتُه على ذلك، فتأملها ورآها وما تكلّم بشيء. ذكر شيء من تصانيفه «قاعدة في الاستعاذة». «قاعدة في البسملة». «قاعدة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}». قطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} نحو ثلاثة كراريس. وفي قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} نحو كراستين. وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} سبع كراريس. وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} كراس. «آية الكرسي» كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى آخرها نحو مجلّد. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ستة كراريس. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. «تفسير المائدة» مجلّد كبير. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} سبع كراريس قواعد. «سورة يوسف» مجلد كبير. «سورة النور» مجلد لطيف. «سورة تبت والمعوذتين». «سورة الكافرون». «سورة الإخلاص» مجلد. «سورة العلق وأنها أول سورة أنزلت تضمنتْ أصول الدين» مجلد. «سورة لم يكن». وغير ذلك من آيات مُفرَّقة. كتب الأصول «الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» أربع مجلدات أَملاه في

الجب. «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» وربما سماه «تخليص التلبيس من تأسيس التقديس». «شرح أول المحصل للرازي» بلغ ثلاث مجلدات. «شرح بضع عشرة مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين الرازي». «تعارُض العقل والنقل» أربع مجلدات. «جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي» مجلد. «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح»، ثلاث مجلدات. «منهاج الاستقامة». «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «نقض الاعتراض عليها لبعض المشارقة» أربع كراريس. «شرح أول كتاب الغزنوي» مجلد. «الرد على المنطق» مجلد. «رد آخر» لطيف. «الرد على الفلاسفة» مجلدات. «قاعدة في القضايا الوهمية». «قاعدة فيما يتناهى ومالا يتناهى». «جواب الرسالة الصفدية». «جواب في نقض قول الفلاسفة: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية». «إثبات المعاد والرد على ابن سينا». «شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد في الأصول». «ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات» مجلدان. «قاعدة في الكليات» مجلد لطيف. «الرسالة القُبرسية». «رسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم». «مسألة مابين اللوحين كلام الله». «تحقيق كلام الله لموسى». «هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ». «الرسالة البعلبكية». «الرسالة الأزهرية». «القادرية». «البغدادية». «أجوبة الشكل والنقط». «إبطال الكلام النفساني» أبطله من نحو ثمانين وجهًا. «جواب من حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت». وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات. «المراكشية». «صفات الكمال والضابط فيها». «أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه». «جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء». «جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه».

«أجوبة كون العرش والسموات كُريّة وسبب قصد القلوب جهة العلو». «جواب كون الشيء في جهة العلو مع أنه ليس بجوهر ولا عرضٍ معقول أو مستحيل». «جواب هل الاستواء والنزول حقيقة وهل لازم المذهب مذهب» سماه الإربلية. «مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع» مجلد لطيف. «شرح حديث النزول» في أكثر من مجلد. «بيان حل إشكالات ابن حزم الواردة على الحديث». «قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه» مجلد. «الكلام على نقض المرشِدة». «المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحادية والحلولية». «ما تضمنه «فصوص (¬1) الحكم» من الكفر والإلحاد والاتحاد والحلول». «جواب في لقاء الله». «جواب رؤية النساء ربهن في الجنة». «الرسالة المدنية في الصفات النقلية». «الهلاوونية جواب ورَدَ على لسان ملك التتار» مجلد. «قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية» مجلد. «رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر». «جواب في حسن إرادة الله لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة». «شرح حديث فحجَّ آدم موسى». «تَنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل» مجلد. «تناهي الشدائد في اختلاف العقائد». «كتاب الإيمان». «شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان». «في عصمة الأنبياء في ما يبلّغونه». «مسألة في العقل والروح». «في المقربين هل يسألهم منكر ونكير». «هل تُعذب الروح مع الجسد في القبر وهل تفارق البدن بالموت أو لا». «الرد على أهل كسروان». «في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما». «قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أنه لايُسَبّ». «في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس». «في كفر النصيرية». «في جواز قتال الرافضة». ¬

_ (¬1) في الأصل: "حلول" تحريف.

«في بقاء الجنة والنار وفنائهما» وهو آخر ما صنَّفه في القلعة، وقد ردّ عليه العلاّمة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. كتب أصول الفقه «قاعدة غالبها أقوال الفقهاء» مجلدان. «قاعدة كل حَمْد وذم من المقالات لا يكون إلاّ من الكتاب والسّنة». «شمول النصوص للأحكام». «قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام». «جواب في الإجماع وخبر التواتر». «قاعدة في أن خبر الواحد يفيد اليقين». «قاعدة في كيفية الاستدلال والاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع» (¬1). «في الرد على من قال إن الأدلة اللفظية (¬2) لا تفيد اليقين». «قاعدة فيما يُظَنُّ من تعارض النصّ والإجماع». «مؤاخذة لابن حزم في الإجماع». «قاعدة في تقرير القياس». «قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام» (¬3). «رفع الملام عن الأئمة الأعلام». «قاعدة في الاستحسان». «وصف العموم والاطلاق». «قواعد في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم». «هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين». «جواب في ترك التقليد في من يقول مذهبي مذهب النبي عليه السلام وليس أنا محتاج (¬4) إلى تقليد الأربعة». «جواب في تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا». «جواب تقليد الحنفي الشافعي في الجمع للمطر والوتر». «الفتح على الإمام في الصلاة». «تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة». ¬

_ (¬1) في الأصل: "الاحكام" تحريف. (¬2) في الأصل: "القطعية". (¬3) في الأصل: "الاجماع". (¬4) كذا في الأصل.

«تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم». «قاعدة في تفضيل الإمام أحمد». «جواب هل كلن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًّا». «جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا بشرع من قبله». «قواعد أن النّهي يقتضي الفساد». كتب الفقه «شرح المحرر في مذهب أحمد» ولم يبيَّض. «شرح العمدة للموفق» أربع مجلدات. «جواب مسائل وردت من أصبهان». «جواب مسائل وردت من الأندلس». «جواب مسائل وردت من الصَّلت». «جواب مسائل من بغداد». «مسائل وردت من زُرَع». «أربعون مسألة لقبت الدرّة المضية». «الماردانية». «الطرابلسية». «قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها». «المائعات وملاقاتها النجاسة». «طهارة بول ما يؤكل لحمه». «قاعدة في حديث القُلّتين وعدم رفعه». «قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح». «جواز الاستجمار مع وجود الماء». «نواقض الوضوء». «قواعد في عدم نقض الوضوء بلمس النساء». «التسمية على الوضوء». «خطأ القول بجواز مسح الرجلين». «جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف». «في من لا يعطي أجرة الحمام (¬1)». «تحريم دخول الحمام بلا مئزر». «في الحمام والاغتسال». «ذّم الوسواس». «جواز طواف الحائض». «تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر». «كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها». «في البسملة هل هي من السورة». «فيما يعرض من الوسواس في الصلاة». «الكَلِم الطيّب في ¬

_ (¬1) في الأصل: "الحكام".

الأذكار». «كراهية بَسِطِ سجادة المصلي قبل مجيئه». «في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة». «في الصلاة بعد أذان الجمعة». «القنوت في الصبح والوتر». «قتل تارك أحد المباني وكفره». «الجمع بين الصلاتين في السفر». «فيما يختلف حكمه في السفر والحضر». «أهل البدع هل يصلّى خلفهم». صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض». «الصلوات المبتدعة». «تحريم السماع». «تحريم الشبّابة». «تحريم الشطرنج». «تحريم الحشيشة ووجوب الحد فيها ونجاستها». «النهي عن المشاركة في أعياد اليهود والنصارى وإيقاد نصف شعبان والحبوب في عاشوراء». «مقدار الكفارة في اليمين». «في أن المطلقة ثلاثًا لا تَحِلُّ إلاّ بنكاح زوج ثان». «بيان الطلاق المباح والحرام». «في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا». «جواب (¬1) من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة [ثم طلَّق ثلاثًا في الحيض]». «الفرق المبين بين الطلاق واليمين». «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف». «الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة». «كتاب التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق». «الطلاق البدعي لا يقع». «مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك» تقدير خمسة عشر مجلدًا. «مناسك الحج» عدة. «في حجة النبي عليه السلام». «في العمرة المكية». «في شهر (¬2) السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحْرِمُ وزيارة الخليل عقيب الحج». و «زيارة القدس مطلقًا». «جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال غُيَّبٌ ولا أبدال». «جميع أيمان المسلمين مكفرّة». ¬

_ (¬1) في الأصل: "جواز". (¬2) في الأصل: "بشهر".

كتب في أنواع شتى جمع بعض الناس «فتاويه بالديار المصرية» مدة سبع سنين في علوم شتى فجاءت ثلاثين مجلدة. «الكلام على بطلان الفتوة المصطلح عليها بين العوام وليس لها أصل يتصل بعليٍّ عليه السلام». «كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية». «بطلان ما يقوله أهل بيت الشيخ عديّ». «النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة، والخسوف والكسوف، هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة». «تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصَرْع الصحيح وصفة الخواتم». «إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت». «كشف حال المرازقة». «قاعدة في العبيديين». ومن نظم الشيخ تقي الدين على لسان الفقراء المجردين وغيرهم: واللهِ ما فَقْرُنا اختيارُ ... وإنّما فقرُنا اضطرارُ جماعةٌ كُلُّنا كُسالى ... وأكلُنا ما لهُ عيارُ تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلّها فشارُ وله قصائد مطوّلة أجوبة عن مسائل كان يُسأل عنها نظمًا مثل مسألة اليهودي، وجوابه عن اللغز الذي نظمه الشيخ رشيد الدين الفاروقي، وغير ذلك. ومدحه جماعة من أهل مصر منهم شهاب الدين أحمد بن محمد البغدادي المعروف بابن الأبرادي الحنبلي، والشيخ شمس الدين الصايغ، وسعد الدين أبو محمد سعد الله بن عبد الأحد الحراني، وأكثر من ذلك، ومنه قوله:

لئنْ نافقوه وهو في السجنِ وابتغوا ... رضاهُ وأبْدَوا رقّةً وتَودُّدوا فلا غَرْوَ أنْ ذلَّ الخصومُ لبأسِه ... ولا عجبٌ أن خافَ سطوتَه العدى فمنْ شيمَةِ العَضْبِ المُهَنَّد أنّهُ ... يُخاف ويُرجى مُغمدًا ومجَرَّدا وممن مدحه بمصر أيضا شيخنا العلامة أبو حيان، لكنه انحرف عنه فيما بعد، ومات وهو على انحرافه. ولذلك أسباب، منها: أنه قال له يومًا: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه. وقد كان أولاً جاء إليه والمجلس عنده غاصٌّ بالناسِ، فقال يمدحه ارتجالاً: لما أتينا تقيّض الدين لاحَ لنا ... داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ على محيَّاه من سِيْما الألَى صحبوا ... خير البرية نورٌ دونَه القمرُ حَبرٌ تسربلَ منه دهرُه حِبَرًا ... بَحرٌ تقاذفُ من أمواجه الدُّررُ قام ابن تيميةٍ في نصرِ شرعتِنا ... مقامَ سَيِّد تيمٍ إذ عَصَتَ مُضَرُ فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُه دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشرَّ إذ طارتْ له الشررُ كُنَّا نُحدَّثُ عن حَبْرٍ يجيئ فَهَا ... أنتَ الإمام الذي قد كان يُنتظَر وكتب الشيخ كمال الدين محمد بن علي ابن الزملكانيّ رحمه الله تعالَى على بعض تصانيفه: ماذا يقولُ الواصفون له ... وصفاتُه جَلَّت عن الحَصْرِ هو حجةٌ للهش قاهرة ... هو بيننا أعجوبةُ العَصْرِ هو آيةٌ في الخلق ظاهرةٌ ... أنوارُها أربَتْ على الفَجْرِ

والذي أراه أن هذه الأبيات كتبها الشيخ كمال الدين في حياة الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، لأنه كان يخالفه ويريد أن ينتصر عليه بالشيخ تقي الدين ابن تيمية، والله أعلم. ولمّا توفي - رحمه الله تعالى - رثاه جماعة منهم: الشيخ قاسم ابن عبد الرحمن المقرئ، وبرهان الدين إبراهيم ابن الشيخ شهاب الدين العجمي، ومحمود بن علي بن محمود الدقوقي البغدادي، ومجير الدين الخياط الدمشقي، وشهاب الدين أحمد [بن] الكرشت، وزين الدين عمر بن الحسام، ومحمد بن أحمد بن القاسم الحلبي الدمشقي الإسكاف، وصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي، وجمال الدين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرومي الجزري (¬1) المعروف بالمتيم، وتقي الدين محمد بن سليمان بن عبد الله ابن سالم الجعبري، وجمال الدين عبد الصمد بن إبراهيم الخليل الخليلي، وحسن بن محمد النحوي المارداني، وغيرهم. أنشدني إجازة - لنفسه - الشيخ علاء الدين علي بن غانم: أيُّ حبرٍ مضى وأيُّ إمامِ ... فُجِعَتْ فيه ملّة الإسلامِ ابن تَيْمِيّةَ التقيُّ وحيدُ الـ ... ـدَهْرِ مَن كان شامةً في الشامِ بحرُ علمٍ قد غاضَ منْ بعد ما فا ... ضَ نداهُ وعمَّ بالإنعامِ زاهدٌ عابدٌ تَنَزَّهَ في دنـ ... ـياهُ عن كلِّ ما بها منْ [حُطامِ] (¬2) كان كنزًا لكلِّ طالبِ علمٍ ... ولمن خاف أن يُرى في حرامِ ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وفي بعض النسخ و"الوافي": "الحريري". (¬2) في الأصل: "حرام" والمثبت من "الوافي".

ولعافٍ قد جاء يشكو من الفقـ ... ـرِ لَدَيْهِ فَنالَ كلَّ مَرامِ حاز علمًا فما له من مساوٍ ... فيه من عالمٍ ولا مُسامِ لم يكنْ في الدُّنا له من نظيرٍ ... في جميعِ العلومِ والأحكامِ عالمٌ في زمانه فاق بالعلـ ... ـمِ جميعَ الأئمّةِ الأعلامِ كان في علمه وحيدًا فريدًا ... لم ينالوا ما نال في الأحلامِ كلُّ مَنْ في دمشقَ ناحَ عليهِ ... ببكاءٍ من شدَّةِ الآلامِ فُجِعَ الناسُ فيه في الشرقِ والغر ... بِ وأضْحَوْا بالحزنِ كالأيتامِ لو يفيدُ الفِداءُ بالروح كنّا ... قد فديناهُ من هجومِ الحِمامِ أوحدٌ فيه قد أُصيب البرايا ... فَيُعَزَّى فيه جميعُ الأنامِ وعزيزٌ عليهِمُ أن يَرَوْهُ ... غابَ بالرغمِ في الثرى والرغامِ ما يُرى مثلُ يومه عندما سا ... ر النَّعْشِ نحو دارِ السّلامِ حملوهُ على الرقاب إلى القَبْـ ... ـرِ وكادوا أن يهلكوا بالزحامِ فَهُوَ الآنَ جارُ ربِّ السموا ... تِ الرحيمِ المهيمنِ العلاّمِ قَدَّسَ اللهُ روحَهُ وسقى قَبْرًا حَواهُ بهاطلاتِ الغَمامِ فلقد كان نادرًا في بني الدهـ ... ـرِ وحُسْنًا في أوجهِ الأيامِ وأنشدني أيضًا إجازة لنفسه الشيخ زين الدين عمر ابن الوردي الشافعي:

قلوبُ الناسِ قاسيةٌ سلاطُ ... وليس لها إلى العَليا نشاطُ أتَنْشَطُ قطُّ بعد وفاةِ حبرٍ ... لنا من نثرِ جَوهَرِهِ التقاطُ تقيُّ الدينِ ذو ورعٍ وعلمٍ ... خُروقُ المعضلاتِ به تخاطُ تُوفّيَ وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قضى ... لألفَوْا ملائكَةَ النّعيمِ به أحاطوا قضى نحبًا وليس له قرينٌ ... وليس يلفُّ مشبهَهُ القِماطُ فتًى في علمه أضحى فريدًا ... وحَلُّ المشكلاتِ به يُناطُ وكان يخافُ إبليسٌ سَطاهُ ... بوعظٍ للقلوبِ هي السِّياط فيا للهِ ما قد ضمَّ لَحْدٌ ... ويا للهِ ما غطّى البلاطُ وحبس الدرِّ في الأصداف فخرٌ ... وعند الشيخ بالسجنِ اغتباطُ بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا ... نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ ولكن يا ندامتنا عليهِ ... فشكُّ الملحدين به يُماطُ إمامٌ لا ولاية قطُّ عانى ... ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ ولا جارى الورى في كسبِ مالٍ ... ولم يَشْغَلْهُ بالناسِ اختلاطُ ولولا أنّهم سجنوه شرعًا ... لكان به لقَدرِهِمُ انحطاطُ لقد خَفيَتْ عليَّ هنا أُمورٌ ... وليس يليقُ لي فيها انخراطُ وعند اللهِ تجتمعُ البرايا ... جميعًا وانطوى هذا البساطُ

وقلتُ أنا أيضًا أرثيه: إنَّ ابنَ تيميَّةَ لمَّا قَضَى ... ضَاقَ بأهلِ العلمِ رَحْبُ الفَضَا فأيُّ بَدْرٍ قَد مَحَاهُ الرَّدَى ... وأيُّ بحرٍ في الثَّرَى غيّضَا وأيُّ شَرٍّ فُتِّحَتْ عَيْنُه ... وأيُّ خيرٍ طَرْفُه غُمِّضَا يا وَحْشةَ السُّنَّةِ مِن بَعْدِه ... فَرَبْعُها المعمورُ قد قوّضا كم مَجْلسٍ كانَ هَشِيْمًا مِنَ الْـ ... ـعِلْمِ فلمَّا جَاءهُ رَوَّضَا وكلُّ حَفْلٍ أُفْقُهُ مُظْلِمٌ ... تَراهُ إنْ وَافَى إليهِ أَضَا ومُشكلٍ لمّا دَجَى لَيْلُهُ ... أعادَهُ يَوْمَ هُدىً أبْيَضَا تضراهُ إنْ بَرْهَنَ أقوالَهُ ... فقَلَّ أَنْ تُدْحَرَ أو تُدْحَضَا وبحثه في مَدَدٍ طافحٍ ... وخصمُه في وقتِه انقضا يَوَدُّ لَو أَبْلَعَهُ رِيْقَه ... وَهْوَ له بالحقِّ قَد أَجْرَضَا أَغَصَّهُ حتَّى غَدا مُطْرِقًا ... مِنْ نَدَمٍ كَفَّيْهِ قَدْ عَضَّضَا ما كانَ إلاَّ أَسَدًا خَادِرًا ... أَضْحَى له غَابُ النُّهَى مَرْبِضَا وَهْوَ بِزِيٍّ العلمِ في بُرْدِهِ ... وخَصْمُهُ قَدْ ضَمَّ جَمْرَ الْغَضَا سبحانَ مَنْ سَخَّر قَلْبَ الوَرَى ... لِقولِه طَوْعًا وقَد قَيَّضَا قد أجمعَ النَّاسُ على حُبِّهِ ... ولا اعْتبارَ بالَّذِيْ أَبْغَضَا كان سَليمَ الصَّدْرِ قد سَلَّمَ الْـ ... أَمْرَ لِبارِيْهِ وقَد فَوَّضَا

كَمْ حَثَّ للخيرِ وكَمْ ذِيْ كَرَى ... أَيْقَظَ مِنْ نَوْمٍ وكَمْ حَرَّضَا وأمْرَضَ الإلحادَ لمَّا جَلاَ الْـ ... ـحَقَّ وقَلْبُ الزَّيْغِ قَد أرْمَضَا وغَادرَ الباطِلَ في ظُلمةٍ ... لَمَّا رَأَى بَارِقَهُ أَوْمَضَا وَهْوَ عَنِ الدُّنْيَا زَوَى نَفْسَه ... واللهُ بالجنَّةِ قَدْ عَوَّضَا فَمَا لهُ في مَنْصِبٍ رَغْبَةٌ ... وعَزْمُهُ فِي ذَلكَ مَا اسْتَنْهَضَا كَانَ إذا الدُّنْيا لَهُ عَرَّضَتْ ... بِزُخْرُفٍ مِن نَفْسِها أَعْرضَا ولو رَأَى ذلكَ مَا فَاتَه ... مَنَاصِبٌ مِنْ بَعْضِهِنَّ الْقَضَا وبعدَ هذا حُكْمُهُ نَافِذٌ ... فِي كُلِّ مَا قَدْ شَاءَهُ وَارْتَضَى بنَفْسِهِ جَاهَدَ جَهْرًا وكَمْ ... سَلَّ حُسَامًا في الْوَغَى وانْتَضَى ويومَ غاَزَانَ غَدَا عِنْدَمَا ... شَدَّدَ فِي القَوْلِ وَمَا خَفَّضَا شقَّ سَوَادَ المُغْل زَاهِي الطُّلاَ ... كالماءِ لمَّا مَزَّقَ العَرْمَضَا جَادَلَ بَلْ جَالَدَ مُسْتَمْسِكًا ... بالحقِّ حتَّى أنَّه أَجْهَضَا ولم يكنْ فيهِ سِوَى أنَّهُ ... خَالَفَ أشْيَاءً كمنْ قد مَضَى مُتَّبِعًا فيهِ الدليلَ الّذِيْ ... بَدَا وللهِ فيهِ الْقَضَا وبعدَ ذَا رَاحَ إلَى رَبِّهِ ... مَا ادَّانَ مِنْ لَهْوٍ ولاَ اسْتَقْرَضَا ثَناؤُه مَا انْقَضَّ منهُ الْبِنَا ... وذِكْرُهُ بينَ الوَرَى مَا انْقَضَى فَجَادَتِ الرحمةُ أرضًا ثَوَى ... فيها وسَقَّتْهَا غُيُوثُ الرِّضَا

وعلى الجملة فكان الشيخ تقيُّ الدين ابن تيميَّة أحد الثلاثة الذين عاصرتُهم ولم يكن في الزمان مثلُهم، بل ولا قبلَهم من مئةِ سنة، وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي، وقلت في ذلك: ثلاثةٌ ليس لهمْ رابعٌ ... فلا تكنْ مِن ذاكَ فِي شَكِّ وكلُّهمْ مُنتسبٌ للتُّقَى ... يَقْصُرُ عَنْهُم عَنْهُم وَصْفُ مَنْ يَحْكِيْ فإنْ تَشَأْ قُلت: ابن تيميَّةٍ ... وابن دقيقِ العيدِ والسُّبْكيْ

29 - الوافي بالوفيات

الوَافي بِالوَفَيَاتِ (¬1) العلاَّمة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الحَرَّاني ابن تَيْمِيَّة، الشَّيخ الإِمام العالم العلاَّمة المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدّث شيخ الإِسلام نادرة العصر ذو التَّصانيف والذكاء والحافظة المفرطة تقيّ الدِّين أَبو العبَّاس ابن العالم المفتي شهاب الدِّين ابن الإِمام شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات مؤلف «الأحكام». وتَيْميَّة لقب جده الأعلى، ولد بحرّان عاشر ربيع الأَوَّل سنة إحدى وستين وتحول به أبوه إِلى دمشق سنة سبع وستين وتوفي سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئه. وسمع من ابن عبد الدايم وابن أَبي اليسر والكمال ابن عبد وابن أَبي الخير وابن الصيرفي والشَّيخ شمس الدين والقاسم الإربلي وابن علان وخلق كثير وبالغ أكثر، وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء و «سنن أَبي داود» ونظر في الجال والعلل، وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر مع التديّن والتّأله والذكر والصيانة والنزاهة عن حطام هذه الدار والكرم الزائد؛ ثمَّ إِنَّه أقبل على الفقه ودقائقه وغاص على مباحثه ونظر في أدلته وقواعده وحججه والإجماع والاختلاف حتَّى كَانَ يُقْضى منه العجب إِذا ذكر مسألة من الخلاف واستدل ورجَّح واجتهد. ¬

_ (¬1) (7/ 15 - 33) نشر جمعية المستشرقين الألمانية.

حكى لي أَنَّه قال يومًا للشيخ صدر الدين ابن الوكيل: يا صدر الدِّين أَنا أنقُل في مذهب الشَّافعيّ أكثر منك، أَو كما قال. وقال الشَّيخ شمس الدِّين: ما رأيت أحدًا أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا لمتون الأحاديث وعَزْوها إِلى الصحيح أَو المسند أَو السنن كأَن ذلك نصب عينه وعلى طرف لسانه بعبارة رشقه حلوة وإقحام للمخالف، وكان آية من آيات الله تعالى في التفسير والتوسع فيع لعلّه يبقى في تفسير الآية المجلس والمجلسين. قلت: حكى لي من سمعه يقول: إني وقفت على مائة وعشرين تفسيرًا، أستَحْضرُ من الجميع الصحيحَ الَّذي فيها، أَو كما قال. قال الشَّيخ شمس الدين: وأما أُصول الدين ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة فكان لا يُشَقّ فيها غباره، هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم أُشاهد مثله قط والشجاعة المفرطة والفراغ عن ملاذّ النفس: من اللباس الجميل والمأكل الطيب والراحة الدنيوية. قلت: حُكي لي عنه أَن والدته طبخت يومًا قرعية ولم تذقها أولاً وكانت مُرّة فلمّا ذاقتها تركتها على حالها فطلع إِليها وقال: هل عندك ما آكل؟ قالت: لا إلاّ أنني طبختُ قرعًا كَانَ مرًّا، قفلا: أين هو؟ فأرته المكان الَّذي فيه تلك القرعية فأحضرها وقعد أَكَلَها إِلى أَن شبع وما أنكر شيئًا منها، أَو كما قيل. وحُكي لي عنه أَنَّه كَانَ قد شكا إِليه إنسان أَو جماعة من قُطلوبك الكبير وكان المذكور فيه جبروت على أَخذ أموال الناس واغتصابها - وحكاياته في ذلك مشهورة - فقام يمشي إِليه فلمّا دخل إِليه وتكلم معه

في ذلك قال له قطلوبك: أَنا الَّذي أريد أجيء إليك لأنك رجل عالم زاهد،، يعرّض بقولهم: إِذَا كَانَ الأمير بباب الفقير، فنعم الأمير ونعم الفقير. فقال له: قطلوبك! لا تعملْ علىَّ دركواناتك (¬1)؛ موسى كَانَ خيرًا مني وفرعون كَانَ شرًّا منك وكان موسى كلّ يوم يجيء إِلى باب فرعون مراتٍ في كل يوم ويعرض عليه الإيمان، أَو كما قيل. وحكى لي عنه الشَّيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية قال: كَانَ صغيرًا عند بني المنجَّى فبحث معهم فادّعوا شيئًا أنكره فأحضروا النقل فلمّا وقف عليه ألقى المجلد من يده غيظًا، فقالوا له: ما أنت إلاّ جريء ترمي المجلَّد من يدك وهو كتاب علم؛ فقال سريعًا: أيّما خير أَنا أَو موسى؟ فقالوا: موسى؛ فقال: أيّما خير هذا الكتاب أَو ألواح الجوهر الَّتي كَانَ فيها العشر كلمات. قالوا الألواح، فقال: إِنَّ موسى لمّا غضب ألقى الألواحَ من يده، أَو كما قال. وحكى لي عنه أيضًا قال: سأله فلان أُنْسِيته فقال: أنت تزعم أَنَّ أفعالك كلّها من السنَّة؟ فهذا الَّذي تفعله بالناس من عَرْكِ آذانهم من أين جاء هذا في السنّة؟ فقال: حديث ابن عباس في الصحيحين قال: صلّيتُ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فكنتُ إِذا لأغفيت أَخذ بأذني، أَو كما قال. قال الشَّيخ شمس الدين: وصنف في فنون العلم، ولعل تواليفه وفتاويه في الأصول والفروع والزهد واليقين والتوكل والإخلاص وغير ذلك تبلغ ثلاث مئة مجلّدة؛ وكان قوّالاً بالحق نهّاءً عن المنكر ذا سطوةٍ وإقدام وعدم مداراة. ومسائله المفردة يحتج لها بالقرآن والحديث أَو ¬

_ (¬1) أَي: حِيَلك. وهي فارسية.

بالقياس ويبرهنها ويناظر عليها وينقل فيها الخلاف ويطيل البحث أسوةَ من تقدمه من الأئمة فإِنْ كَانَ أَخطأ فله اجر واحد وإن كَانَ أصاب فله أجران. وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إِلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعةٌ من الرجال، بعيدَ ما بين المنكبين، جهوريّ الصوت فصيح اللسان سريع القراءة تعتريه حدة ثمَّ يقهرها بحلم وصفح؛ توفي محبوسًا في قلعة دمشق على مسألة الزيارة؛ وكانت جنازته عظيمة إِلى الغاية، ودفن في مقابر الصوفية، صلّى عليه الشَّيخ علاء الدين قاضي القضاة القونوي ولم يصلِّ عليه جمال الدين بن جملة. انتهى كلام الشَّيخ شمس الدين. قلت: رحمهم الله أجمعين، هم الآن قد رأوا عين اليقين، فيما كانوا فيه يختلفون، وما أظنه رأى مثله في الحافظة والاطلاع وأَرى أن مادته كانت من كلام ابن حزم حتَّى شناعه على من خالفه، وكان مغرًى بسبّ ابن عربي محيي الدين والعفيف التلمساني وابن سبعين وغيرهم من الَّذين ينخرطون في سلكهم وربما صرح بسب الغزالي وقال: هو قلاووز (¬1) الفلاسفة، أَو قال ذلك عن الإمام فخر الدين. سمعته يقول: الغزالي في بعض كتبه يقول: «الروح من أمر ربي» وفي بعضها يدسّ كلام الفلاسفة ورأيهم فيها؛ وكذلك الإِمام فخر الدِّين الرازي كَانَ كثير الحط عليه؛ وكان مسلطًا على هؤلاء الفقراء الأحمدية واليونسية والقرندلية (¬2) وغيرهم من هؤلاء المبتدعة. حُكي لي أَنَّه جاء إِليه بعض الأحمدية وقال ما يقولونه على العادة في دخول التنور من بعد ثلاثة أيام ¬

_ (¬1) أي: قائد. وهي فارسية. (¬2) كذا بالأصل، والمشهور: القلندريَّة.

[من] وقود النار فيه فقال له: أَنا ما أُكلّفك ذلك ولكن دعني أضع هذه الطوَّافة في ذقنك، فجزع ذلك الفقير وأبلس. قلت: وقد نقل الشَّيخ رحمه الله تعالى هذا من قول بعض الشعراء في النار الَّتي يزعم النصارى أنها تنزل يوم سبت النور من السماء إِلى القمامة (¬1) بالقدس: لقد زَعَمَ القسّيسُ أَنَّ إلهَهُ ... ينزّلُ نورًا بُكْرَةَ اليومِ أو غَدِ فإن كان نورًا فهو نورٌ ورحْمَةٌ ... وإن كان نارًا أحرقتْ كلَّ معتدِ يقرّبها القسّيسُ من شَعْرِ ذَقْنِهِ ... فإن لم تحرّقها وإلاّ اقطعوا يَدي وسمعته يقول عن نجم الدين الكاتبي المعروف بدَبيران - بفتح الدال المهملة وكسر الباء الموحدة - وهو الكاتبي صاحب التواليف البديعة في المنطق فإذا ذكره لا يقول إِلاَّ دُبَيران - بضم الدال وفتح الباء -. وسمعته يقول ابن المنجس، يريد ابن المطهّر الحليّ. وكانت سمعته في البلاد البعيدة أكثر وأكبر وأشهر ممّا هي بالشام خصوصًا بلده دمشق. وكتب رسالة إِلى صاحب قبرس يأمره فيها بالرفق بالأسارى المسلمين وتخفيف الوطأة عنهم، وقصَّ عليه أقوالاً من كلام المسيح عليه السلام مثل قوله: مَنْ ضربك عل خدك الأيمن فدر له الخدَّ الأيسر، وأشباه ذلك، فقيل إِنَّه خفّف عنهم عمَرَ لهم جامعًا على ما قيل. وطُلِبَ إِلى مصر أيام ركن الدين بيبرس الجاشنكير وعُقد له مجلس في مقالة قال بها فطال الأمر وحكموا بحبسه فحبس بالإسكندرية؛ ثمَّ إِنَّ الملك الناصر لما جاء من الكرك أَخرَجه فيما أظن. ولم يزل العوامُّ ¬

_ (¬1) أعظم كنيسةٍ للنصارى، بيت المقدس، انظر "معجم البلدان": (4/ 396).

بمصر يعظمونه إِلى أَن أَخذ في القول على السيدة نفيسة فأعرضوا عنه. ورأيته مرّات بمدرسة القصاعين وبالحنبليّة جُوَّا باب الفراديس، وكان إِذا تكلّم أغمض عينيه وازدحمت العبارة على لسانه فرأيت العجب العجيب، والحَبر الَّذي ما له مُشاكل في فنونه ولا ضريب، والعالم الَّذي أَخذ من كل شيء بنصيب، سهمه للأغراض مصيب، والمناظرَ الَّذي إِذا جال في حومة الجدال رُمي الخصوم من مباحثه باليوم العصيب: وعاينتُ بدرًا لا يَرى البدرُ مثلَهُ ... وخاطبتُ بحرًا لا يَرى العِبرَ عائمهُ أخبرني المولى علاء الدين عليّ بن الآمدي، وهو من كبار كتّاب الحساب، قال: [دخلت] يومًا إِليه أَنا والشمس النفيس عامل بيت المال ولم يكن في وقته أكتبَ منه فأخذ الشَّيخ تقي الدين يسأله عن الارتفاع وعمّا بين الفذلكة واستقرار الجملة من الأبواب وعن الفذلكة الثانية وخصمها وعن أعمال الاستحقاق وعن الختم والتوالي وما يطلب من العامل وهو يجيبه عن البعض ويسكت عن البعض ويسأله عن تعليل ذلك إِلى أَن أوضح له ذلك وعلّله؛ قال: فلمّا خرجنا من عنده قال لي النفيس: والله تعلّمتُ اليوم منه ما لا كنت أعلمه؛ انتهى ما ذكره علاء الدين. وسألته في سنة ثماني عشرة أَو سبع عشرة وسبع مئة وهو بمدرسته بالقصاعين عن قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فقلت له: المعروف بين النحاة أَن الجمع لا يوصف إلاّ بما يوصف به المفرد من الجمع بالمفرد من الوصف، فقال: كذا هو؛ فقلت: ما مفرد متشابهات؟ فقال: متشابهة، فقلت: كيف تكون الآية الواحدة في نفسها متشابهة، وإنما يقع التشابه بين آيتين؟ وكذا قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} كيف يكون الرَّجل الواحد يقتتل مع نفسه؟ فعدل بي من الجواب إِلى الشكر، وقال: هذا

ذهن جيّد ولَو لازمتني سنة لانتفعتَ. وسألته في ذلك المجلس عن تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} إِلى قوله تعالى: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأجاب بما قاله المفسرون في ذلك وهو آدم وحواء وأَنّ حواء لمّا أثقلت بالحمل أتاها إبليس في صورة رجل وقال: أخاف مِنْ هذا الَّذي في بطنك أَن يخرج من دبرك أَو يشق بطنك وما يدريكِ لعله يكون بهيمة أَو كلبًا؛ فلم تزل في همّ حتَّى أتاها ثانيًا وقال: سألت الله تعالى أَن يجعله بشرًا سويًّا وإن كَانَ كذلك سميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} وهذا مَرْوي عن ابن عباس، فقلت له: هذا فاسدٌ من وجوه لأَنَّه تعالى قال في الآية الثانية {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهذا يدلُّ على أَن القصة في حق جماعة؛ الثَّاني أَنَّه ليس لإبليس في الكلام ذكر؛ الثالث أَن الله تعالى علّم آدم الأسماء كلها فلا بد وأَنَّه كَانَ يعلم أَن اسم إبليس الحارث؛ الرابع أَنَّه تعالى قال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهذا يدل على أَنَّ المراد به الأصنام لأن «مَا» لِما لا يَعْقِل ولو كَانَ إبليس لقال «مَنْ» الَّتي هي لمن يعقل. فقال رحمه الله تعالى: فقد ذهب بعض المفسرين إِلى أَنَّ المراد بهذا قُصَيّ لأنهّ سمىّ أولاده الأربعة عبد مناف وعبد العزى وعند قصي وعبد الدار، والضمير في «يشركون» له ولأولاده من أعقابه الَّذين يسمون أولادهم بهذه الأسماء وأمثالها، فقلت له: وهذا أيضًا فاسد لأّنَّه تعالى قال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وليس كذلك إلاّ آدم لأن الله تعالى حلق حواء من ضلع آدم؛ فقال رحمه الله تعالى: المراد بهذا أَنَّ زوجه من جنسه عربية قرشية، فما رأيت التطويل معه. وسألته في ذلك المجلس عن قول المتكلمين في الواجب والممكن

لأنهم قالوا: الواجب ما لا يتوقف وجوده على وجود ممكنه، والممكن ما يتوقف وجوده على وجود واجبه، فقال رحمه الله: هذا كلام مستقيم؛ فقلت: هذا القول هو عين القول بالعلة والمعلول، فقال: كذا هو، إِلاَّ أَنَّ ذلك علة ناقصة ولا يكون علةً تامة إِلاَّ بانضمام إرادته فإذا انضمت الإرادة إِلى وجود الواجب تعين وجود الممكن. ثمَّ اجتمعتُ به بعد ذلك مرات عديدة وكان إِذا رآني قال: أَيشٍ حس الإيرادات، أيشٍ حس الأجوبة، أيشٍ حس الشكوك؟ أَنا أعلم أنك مثل القِدر الَّتي تغلي تقول بَق بَق بَق، أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، لازمني لازمني تنتفع. وكنت احضر دروسه ويقع لي في أثناء كلامه فوائد لم أسمعها من غيره ولا وقفت عليها في كتاب، رحمه الله تعالى. وعلى الجملة؛ فما رأيت ولا أرى مثله في اطّلاعه وحافظته ولقد صَدَّقَ ما سمعنا به عن الحفّاظ الأول وكانت هممه علية إِلى الغاية لأَنَّه كَانَ كثيرًا ما ينشد (¬1): تموتُ النفوسُ بأوْصابِها ... ولم تشكُ عوَّادَها ما بها وما أَنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي ... أذاها إلى غيرِ أحبابها ويُنْشد أيضًا (¬2): مضنْ لم يُقَدْ ويُدَسُّ في خَيْشومِهِ ... رَهَجُ الخميسِ فلن يقودَ خميسا وكان في ربيع الأَوَّل سنة ثمان وتسعين قد قام عليه جماعة من ¬

_ (¬1) البيتان لِصُرَّدُرَ، وسَبَقَا في "أعيان العصر". (¬2) البيت لأبي تمام.

الشافعية وأنكروا عليه كلامه في الصفات وأخذوا فتياه الحمويّة وردّوا عليه فيها، وعملوا له مجلسًا فدافع الأفرم عنه ولم يبلغهم فيه أربًا، ونودي في دمشق بإبطال العقيدة الحموية فانتصر له جاغانُ المشدّ وكان قد مُنع من الكلام. ثمَّ إِنَّه جلس على عادته يوم الجمعة وتكلم ثمَّ حضر عند قاضي القضاة إِمام الدِّين وبحثوا معه وطال الأمر بينهم، ثمَّ رجع القاضي إِمام الدِّين وأخوه جلال الدين وقالوا: من قال عن الشَّيخ تقي الدين شيئًا عزَّرناه، ثمَّ إنّه طلب إِلى مصر هو والقاضي نجم الدين ابن صصري فانتصر له الأمير سيف الدين سلاّر، وحطّ الأمير ركن الدين الجاشنكير عليه وعقدوا له مجلسًا انفصل على حبسه فحبس في خزانة البنود ثمَّ نُقل إِلى إسكندرية ثمَّ أُفرج عنه وأقام بالقاهرة مدة ثمَّ اعتُقل أيضًا ثمَّ أُفرج عنه وحضر إِلى دمشق، فلمّا كَانَ في أيام القاضي جلال الدين تكلّموا معه في مسألة الزيارة وكُتب في ذلك إِلى مصر فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة فلم يزل معتقلاً بها إِلى أَنْ مات سنة ثمان وعشرين وسبع مائة. ورأيته بعد موته رحمه الله في المنام كأنه في جامع بني أُميَّة وأنا في يدي صورة عقيدة ابن حزم الظاهري الَّتي ذكرها في أول «المحلى» وقد كتبتها بخطيّ وكتبتُ في آخرها: وهذا نصُّ ديني واعتقادي ... وغيري ما يرى هذا يجوزُ وقد أوقفته على ذلك فتأملها ورآها ولم يتكلم بشيء. ذكر تصانيفه ومن الَّذي يأتي على مجموعها! ولله القائل:

إنَّ في الموجِ للغريقِ لَعُذْرًا ... واضحًا أن يفوته تَعدادُهْ ولكن أذكُر منها ما تيسر، وإلاّ فهي أكثر ممّا أوردته في هذه الترجمة ولعل بعض أصحابه يعرفها: كتب التفسير «قاعدة في الاستعاذة». «قاعدة في البسملة وكلام على الجهر بها». «قاعدة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقطعة كبيرة من أول سورة البقرة، وفي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} نحو ثلاث كراريس. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} نحو كراسين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} سبع كراريس. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} كراسة. «آية الكرسي» كراسان، وغير ذلك من سورة البقرة. {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إِلى آخرها نحو مجلد. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ست كراريس. {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. «تفسير المائدة» مجلّد لطيف. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} سبع كراريس قواعد وغير ذلك. «سورة يوسف» مجلد كبير. «سورة النور» مجلد لطيف. «سورة العلق وأنّها أول سورة أُنزلت تضمنت أُصول الدين» مجلد. «سورة لم يكن». «سورة الكافرون». «سورة تبت والمعوذتين». «سورة الإخلاص» مجلد. وغير ذلك من آيات متفرقة. كتب الأصول «الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية» أربع مجلدات أَملاه في الجب. رَدّ على تأسيس التقديس سماه «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس

بدعهم الكلامية» وربما سماه تخليص التلبيس من تأسيس التقديس. «شرح أَول المحصل للإِمام فخر الدين» بلغ ثلاث مجلدات. «شرح بضعة عشرة مسئلة من الأربعين للإمام فخر الدِّين». «تعارضُ العقل والنقل» أربع مجلدات. «جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي» مجلد. «الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح» ردّ على النصارى ثلاث مجلدات. «منهاج الاستقامة». «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «نقض الاعتراض عليها لبعض المشارقة» أربع كراريس. «شرح أول كتاب الغزنوي في أصول الدين» مجلد. «الرد على المنطق» مجلد. «رد آخر» لطيف. «الرد على الفلاسفة» مجلدات. «قاعدة في القضايا الوهمية». قاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى». «جواب الرسالة الصفدية». «جواب في نقض قول الفلاسفة: إِنَّ معجزات الأنبياء قوى نفسانية» مجلد كبير. «إثبات المعاد والرد على ابن سينا». «شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أَحمد في الأصول». «ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات» مجلدان. «قاعدة في الكليات» مجلد لطيف. «الرسالة القبرسية». «رسالة إِلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم». «مسألة ما بين اللوحين وكلام الله». «تحقيق كلام الله لموسى». «هل سمع جبريل كلام الله أَو نقله من اللوح المحفوظ». «الرسالة البعلبكية». «الرسالة الأزهرية». «القادرية». «البغدادية». «أجوبة الشكل والنقط». «إبطال الكلام النفساني» أبطله من نحو ثمانين وجهًا. «جواب من حلف بالطلاق الثلاث أَنَّ القرآن حرف وصوت». وله في إثبات الصفات وإثبات العلو والاستواء مجلدات. «المراكشية». «صفات الكمال والضابط فيها». «أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه». «جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء». «جواب من قال لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي

التشبيه». نصف كراس. «أجوبة كون العرش والسموات كُريَّة وسبب قصد القلوب جهة العلو». «جواب كون الشيء في جهة العلو مع أَنَّه ليس بجوهر ولا عرضٍ معقول أَو مستحيل». «جواب هل الاستواء والنزول حقيقة وهل لازم المذهب مذهب» سماه الإربلية. «مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع» مجلد لطيف. «شرح حديث النزول» في أكثر من مجلد. «بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث». «قاعدتان في قرب الرب من عابديه وداعيه» مجلد لطيف. «الكلام على نقض المرشدة». «المسائل الإسكندرية في الرد على الاتحادية والحلولية». «ما تضمنه فصوص الحكم من الكفر والإلحاد والحلول والإتحاد». «جواب في لقاء الله». «جواب رؤية النساء ربهن في الجنة». «الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية». «الهلاوونيّة جواب ورَدَ على لسان ملك التَّتار»: مجلد. «قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية» مجلد. «رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر». «جواب في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلّة أم لغير علّة». «شرح حديث فحجَّ آدم موسى». «كتاب تنبيه الرَّجل الغافل على تمويه المجادل» مجلد. «تناهي الشدائد في اختلاف العقائد». «كتاب الإيمان» مجلد. «شرح حديث جبريل في الإيمان والإسلام». «في عصمة الأنبياء في ما يبلّغونه». «مسألة في العقل والروح». «في المقربين هل يسألهم منكر ونكير». «هل يُعذب الجسد مع الروح في القبر وهل تفارق البدن بالموت أم لا». «الرد على أهل كسروان» مجلدان. «في فضل أَبي بكر وعمر على غيرهما». «قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أَنَّه لا يُسَبّ». «في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس». «مختصر في كفر النصيرية». «في جواز قتال الرافضة». «كراسة في بقاء الجنة والنار وفنائهما». وردّ عليه

العلاّمة قاضي القضاة تقي الدين السبكي. كتب أصول الفقه «قاعدة غالبها أقوال الفقهاء» مجلدان. «قاعدة كل حَمْد وذم من المقالات والأفعال لا يكون إلاّ بالكتاب والسنة». «شمول النصوص للأحكام» مجلد لطيف «قاعدة في الإجماع وأَنَّه ثلاثة أقسام». «جواب في الإجماع وخبر التواتر». «قاعدة خبر الواحد يفيد اليقين». «قاعدة في كيفية الاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع». «في الرد على من قال إِنَّ الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين» ثلاث مصنفات. «قاعدة فيما يظن من تعارض النصوص والإجماع». «مؤاخذة لابن حزم في الإِجماع». «قاعدة في تقرير القياس». «قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام» مجلد. «رفع الملام عن الأئمة الأعلام». «قاعدة في الاستحسان». «وصف العموم والاطلاق». «قواعد في أَنَّ المخطئ في الاجتهاد لا يأثم» مجلد. «هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين». «جواب في ترك التقليد في من يقول مذهبي مذهب النَّبي صلى الله عليه وسلم وليس أَنا محتاج إِلى تقليد الأربعة». «جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أَو لا». «جواب تقليد الحنفي الشَّافعيّ في الجمع للمطر والوتر». «الفتح على الإمام في الصلاة». «تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة». «تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم». «قاعدة في تفضيل الإمام أَحمد». مجلد. «جواب هل كَانَ النَّبي عليه السلام قبل الرسالة نبيًا». «جواب هل كَانَ النَّبي عليه السلام متعبدًا بشرع من قبله». «قواعد أَنَّ النّهي يقتضي الفساد» (¬1). ¬

_ (¬1) في الأصل: "العناد".

كتب الفقه «شرح المحرر في مذهب أَحمد» ولم يبيَّض. «شرح العمدة لموفق الدين» أربع مجلدات. «جواب مسائل وردت من أصبهان». «جواب مسائل وردت من الأندلس». «جواب مسائل وردت من الصَّلت». و «مسائل من بغداذ». «مسائل وردت من زُرَع». «مسائل وردت من الرحبة». «أربعون مسألة لقبت الدّرر المضية في فتاوي ابن تَيْمِيَّة». «الماردانية». «الطرابلسية». «قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها». «المائعات وملاقاتها النجاسات». «طهارة بول ما يؤكل لحمه». «قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه». «قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح». «جواز الاستجمار مع وجود الماء». «نواقض الوضوء». «قواعد في عدم نقضه بلمس النساء». «التسمية على الوضوء». «خطأ القول بجواز مسح الرجلين». «جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف». «في من لا يعطي أجرة الحمام». «تحريم دخول الحمام بلا مئزر». «في الحمام والاغتسال». «ذَم الوسواس». «جواز طواف الحائض». «تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر». «كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها». «قاعدة في الاستعاذة». «قاعدة في البسملة هل هي من السورة». «فيما يعرض للمصلي من الوسواس هل يبطل أَو لا». «الكَلِم الطيّب في الأذكار». «كراهية تقديم بَسطِ سجادة المصلي قبل مجيئه». «في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة». «في الصلاة بعد أذان الجمعة». «القنوت في الصبح والوتر». «قتل تارك أحد المباني وكفره» مجلد. «الجمع بين الصلاتين في السفر». «فيما يختلف حكمه بالسفر والحضر». «أهل البدع هل يصلّى خلفهم». «صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض».

«الصلوات المبتدعة». «تحريم السماع». «تحريم الشبّابة». «تحريم اللعب بالشطرنج». «تحريم الحشيشة القنبية ووجوب الحد فيها وتنجيسها». «النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يفعل في عاشوراء من الحبوب». «قاعدة في مقدار الكفارة في اليمين» خمس كراريس. «في أّنَّ المطلقة ثلاثًا لا تَحِلُّ إِلاَّ بنكاح زوج ثان». «بيان الطلاق المباح والحرام». «في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا». «جواب من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثمَّ طلق ثلاثًا في الحيض». «الفرق المبين بين الطلاق واليمين». «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف». «الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة». «كتاب التَّحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق». «الطلاق البدعي لا يقع». «مسائل الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك». تقدير خمسة عشر مجلدًا. «مناسك الحج عدة» نحو مجلد. «في حجة النَّبي عليه السلام». «في العمرة المكية». «في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المُحْرِمُ وزيارة الخليل عقيب الحج». «زيارة القدس مطلقًا». «جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال غُيَّبٌ ولا أبدال». «جميع أيمان المسلمين [مكفّرة]». الكتب في أنواع شتى جمع بعض الناس «فتاويه بالديار المصرية» مدة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى فجاءت ثلاثين مجلدة. «الكلام على بطلان الفتوة المصطلح عليها بين العوام وليس لها أصل متصل بعليّ عليه السلام». «كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية». «بطلان ما يقوله أهل بيت الشَّيخ عديّ». «النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة

وفي الكسوف هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة» مجلد. «تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصدع (¬1) الصحيح وصفة الخواتم». «إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت». «كشف حال المرازقة». «قاعدة في العبيديين». ومن نظم الشَّيخ تقي الدين رحمه الله تعالى على لسان هؤلاء الفقراء المجردين وغيرهم: والله ما فَقْرُنا اختيارُ ... وإنّما فقرُنا اضطرارُ جماعةُ كُلُّنا كُسالى ... وأكلُنا ما لهُ عيارُ تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلّها فشارُ وله أجوبةُ سؤالاتٍ كَانَ يُسألها نظمًا فيجيب عنها نظمًا أيضًا وليس هذا موضع إيراد ذلك. ومدحه جماعة من أهل عصره منهم شهاب الدين أَحمد بن محمَّد البغداذي المعروف بابن الأبرادي الحنبلي والشيخ شمس الدين [ابن] الصايغ وسعد الدين أَبو محمَّد سعد الله بن عبد الأحد الحَرَّاني، وأكثر من ذلك، ومنه: لئنْ نافقوه وهو في السجن وابتغوا ... رضاهُ وأبْدَوا رقَقً وتودُّدوا فلا غرو أن ذلّ الخصومُ لبأسه ... ولا عجبٌ أن هابَ سطوتَه العدى فمنْ شيمَةِ العَضْبِ المُهَنَّدِ أنّهُ ... يُخاف ويُرجى مُغمدًا ومجَرَّدا ¬

_ (¬1) في أعيان العَصر: "صَرْع"، وهو أجود.

ولمّا دخل مصر امتدحه العلامة أثير الدين أَبو حيان بأبيات. ولما توفي رحمه الله رثاه جماعة منهم: الشَّيخ علاء الدين عليّ بن غانم، والشيخ قاسم بن عبد الرَّحمن المقرئ، وبرهان الدين إِبراهيم ابن الشَّيخ شهاب الدين أَحمد بن عبد الكريم العجمي، ومحمود بن عليّ بن محمود بن مقبل الدقوقي البغداذي، ومجير الدين أَحمد بن الحسن الخياط الدِّمشقي، وشهاب الدين أَحمد بن الكرشت، وزين الدين عمر بن الحسام، وشمس الدين محمَّد بن أَحمد بن أَبي القاسم الحلبي الدِّمشقي الصالحي الإسكاف، وصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغداذي الحنبلي، وجمال الدين محمود بن الأثير الحلبي، وعبد الله ابن خضر بن عبد الرَّحمن الرومي الحريري المعروف بالمتيم، وتقي الدين أَبو عبد الله محمَّد بن سليمان بن عبد الله بن سالم الجعبري، وجمال الدين عبد الصمد بن إِبراهيم بن الخليل بن إِبراهيم بن الخليل الخليلي، وحسن بن محمَّد النحوي المارداني، والقاضي زين الدين عمر بن الوردي الشَّافعيّ وغيرهم. وفي هؤلاء من رثاه بقصيدتين وثلاث، وقصيدة الشَّيخ علاء الدين ابن غانم: أيُّ حبرٍ مضى وأيُّ إمام ... فُجِعَتْ فيه ملّة الإسلامِ ابن تَيْمِيّةَ التقيُّ وحيدُ الدهرِ ... مَن كان شامةً في الشآمِ بحرُ علمٍ قد غاضَ منْ بعد ما فا ... ضَ نداهُ وعمَّ بالإنعامِ زاهدٌ عابدٌ تَنَزَّهَ في دنـ ... ياهُ عن كلِّ ما بها منْ [حُطامِ] كان كنزًا لكلِّ طالبِ علمٍ ... ولمن خاف أن يُرى في حرامِ ولعافٍ قد جاء يشكو من الفقـ ... ـرِ لَدَيْهِ فَنالَ كلَّ مَرامِ

حاز علمًا فما له من مساوٍ ... فيه من عالمٍ ولا مسامِ لم يكنْ في الدنا له من نظيرٍ ... في جميعِ العلومِ والأحكامِ عالمٌ في زمانه فاق بالعلـ ... ـمِ جميعَ الأئمّةِ الأعلامِ كان في علمه وحيدًا فريدًا ... لم ينالوا ما نال في الأحلامِ كلُّ مَنْ في دمشقَ ناحَ عليهِ ... ببكاءٍ من شدَّةِ الآلامِ فُجِعَ الناسُ فيه في الشرقِ والغر ... بِ وأضْحَوْا بالحزنِ كالأيتامِ لو يفيدُ الفِداءُ بالروح كنّا ... قد فديناهُ من هجومِ الحِمامِ أوحدٌ فيه قد أُصيب البرايا ... فَيُعَزَّى فيه جميعُ الأنامِ وعزيزٌ عليهِمُ أن يَرَوْهُ ... غابَ بالرغمِ في الثرى والرغامِ ما يُرى مثلُ يومه عندما سا ... ر على النَّعْشِ نحو دارِ السّلامِ حملوهُ على الرقاب إلى القَبْـ ... ـرِ وكادوا أن يهلكوا بالزحامِ فَهُوَ الآنَ جارُ ربِّ السموا ... تِ الرحيمِ المهيمنِ العلاّمِ قَدَّسَ اللهُ روحَهُ وسقى قَبْـ ... ـرًا حَواهُ بهاطِلاتِ الغَمامِ فلقد كان نادرًا في بني الدهـ ... ـرِ وحُسْنًا في أوجهِ الأَيَّامِ وأَنشدني إجازة لنفسه القاضي زين الدين عمر بن الوردي الشَّافعيّ ومن خطِّه نَقَلْت: قلوبُ الناسِ قاسيةٌ سلاطُ ... وليس لها إلى العَليا نشاطُ

أتَنْشَطُ قطُّ بعد وفاةِ حبرٍ ... لنا من نثرِ جَوهَرِهِ التقاطُ تقيُّ الدينِ ذو ورعٍ وعلمٍ ... خُروقُ المعضلاتِ به تخاطُ تُوفّيَ وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قضى ... لألفَوْا ملائكَةَ النّعيمِ به أحاطوا قضى نحبًا وليس له قرينٌ ... وليس يلفُّ مشبهَهُ القِماطُ فتًى في علمه أضحى فريدًا ... وحَلُّ المشكلاتِ به يُناطُ وكان يخافُ إبليسٌ سَطاهُ ... لوعظٍ للقلوبِ هو السِّياط فيا للهِ ما قد ضمَّ لَحْدٌ ... ويا للهِ ما غطّى البلاطُ وحبس الدرِّ في الأصداف فخرٌ ... وعند الشيخ بالسجنِ اغتباطُ بنو تيميّةٍ كانوا فبانوا ... نجومُ العلمِ أدركها انهباطُ ولكن يا ندامتنا عليهِ ... فشكُّ الملحدين به يُماطُ إمامٌ لا ولاية قطُّ عانى ... ولا وقفٌ عليه ولا رباطُ ولا جارى الورى في كسبِ مالٍ ... ولم يَشْغَلْهُ بالناسِ اختلاطُ ولولا أنّهم سجنوه شرعًا ... لكان به لقَدرِهِمُ انحطاطُ لقد خَفيَتْ عليَّ هنا أُمورٌ ... فليس يليقُ لي فيها انخراطُ وعند اللهِ تجتمعُ البرايا ... جميعًا وانطوى هذا البساطُ

العلامة/ محمد بن شاكر الكتبي (764) - فوات الوفيات - عيون التواريخ

30 - فوات الوفيات

فَوَاتُ الوَفَيَاتِ (¬1) الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْميَّة أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الحَرَّاني الشَّيخ الإمام العلاَّمة الفقيه المفسّر الحافظ المحدّث، شيخ الإِسلام نادرة العصر، ذو التَّصانيف والذكاء، تقي الدِّين أَبو العبَّاس ابن العالم المفتي شهاب الدين، ابن الإمام شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات. ولد بحرّان عاشر ربيع الأّوَّل سنة إِحدى وستين، وتحول به أبوه إِلى دمشق سنة سبع وستين، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، رحمه الله تعالى. سمع من ابن عبد الدايم وابن أَبي اليسر والكمال ابن عبد والشيخ شمس الدين والقاسم الإربلي وابن علاَّن وخلق كثير، وقرأ بنفسه، ونسخ عدة أجزاء، وصار من أئمة النقد ومن علماء الأثر مع التدين والذكر والصيانة والنزاهة عن حطام هذه الدار، ثمّّ أق بل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه. وأما أصول الدين ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة فكان لا يشق فيها غباره، مع ما كَانَ عليه من الكرم الَّذي لم يشاهد مثله، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس: من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية. ¬

_ (¬1) (1/ 74 - 80) دار صادر، 1973، تحقيق د/ إحسان عباس.

قيل: إِنَّ والدته طبخت له يومًا قرعية، ولم تذقها أولاً وكانت مُرَّة، فلما ذاقتها تركتها على حالها، فأتى الشَّيخ إِلى الدار فرأى القرعية، فأكل منها حتَّى شبع، وما أنكر منها شيئًا. وحُكِي أَنَّه كَانَ قد شكا له إنسان من قطلوبك الكبير، وكان المذكور فيه جبروت وأخذ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلما دخل إِليه الشَّيخ، وتكلم معه في ذلك، قال: أَنا الَّذي كنت أريد أجي إليك لأنك رجل علم زاهد، يعني يستهزي به، فقال له: لا تعمل عليَّ دركوان (¬1)!! موسى كَانَ خيرًا مني وفرعون كَانَ شرًّا منك، وكان موسى كل يوم يجيء إِلى باب فرعون مرّات، ويعرض عليه الإيمان. قال الشَّيخ شمس الدين: وصنف في فنون، ولعل تواليفه تبلغ ثلاث مئة مجلدة. وكان قوَّالاً بالحق، نهَّاءً عن المنكر، ذا سطوة وإقدام وعدم مداراة، وكان أبيض أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إِلى شحمة أذنيه، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، رَبعةً من الرجال، جهوري الصوت، فصيح اللسان، سريع القراءة، توفي محبوسًا في قلعة دمشق على مسألة الزيارة، وكانت جنازته عظيمة إِلى الغاية، ودفن في مقابر الصوفية صلى عليه قاضي القضاة الشَّيخ علاء الدين القونوي، انتهى كلام الشَّيخ شمس الدين الذَّهبيّ. ذكر تصانيفه كتب التفسير «قاعدة [في] الاستعاذة». «قاعدة في البسملة [و] الكلام على الجهر ¬

_ (¬1) في الوافي بالوفيات: دركواناتك. ولعلها: "الحيل".

بها». «قاعدة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وقطعة كبيرة من سورة البقرة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ثلاث كراريس. وفي قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} كراسين. وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} سبع كراريس. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} كراسة. «آية الكرسي» كراسان، وفي قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ست كراريس؛ {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران. «تفسير المائدة» مجلّد [لطيف]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} سبع كراريس. «سورة يوسف» مجلد كبير. «سورة النور» مجلد لطيف. «سورة العلق وأنّها أوّل سورة أُنزلت» مجلد. «سورة لم يكن». «سورة الكافرون». «سورة تبت والمعوّذتين» مجلد. «سورة الإخلاص» مجلد. كتب الأصول «الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية»، أربع مجلدات. «ما أَملاه في الجب رَدًّا على تأسيس التقديس» (¬1). «شرح أَوّل المحصّل» مجلد. «شرح بضْعَ عشرةَ مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين». «تعارض العقل والنقل»، أربع مجلدات. «جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي»، مجلد. «الجواب الصحيح» ردّ على النصارى، ثلاث مجلدات. «منهاج الاستقامة». «شرح عقيدة الأصفهاني» مجلد. «شرح ¬

_ (¬1) كذا! وفي "الوافي": "أربع جلدات أملاه في الجبّ. "ردّ على تأسيس التقديس سماه: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلاميّة". ولعله الصواب، وهو الموافق لما في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية: 232 (من نشرتنا).

أوّل كتاب الغزنوي في أصول الدين»، مجلد. «الردّ على المنطق»، مجلد. «ردّ آخر» لطيف. «الردّ على الفلاسفة»، أربع مجلدات. «قاعدة في القضايا الوهمية»، «قاعدة فيما يتناهى ومالا يتناهى»، «جواب الرسالة الصفدية». «جواب في نقض قول الفلاسفة: إِنَّ معجزات الأنبياء عليهم السلام قوى نفسانية»، مجلد كبير «إثبات المعاد والردّ على ابن سينا». «شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أَحمد في الأصول». «ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات»، مجلدان. «قاعدة في الكليات»، مجلد لطيف. «الرسالة القبرصية». «رسالة إِلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور». «الرسالة البعلبكية». «الرسالة الأزهرية». «القادرية». «البغدادية». «أجوبة الشكل والنقط». «إبطال الكلام النفساني» أبطله من نحو ثمانين وجهًا. «جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث أَنَّ القرآن حرف وصوت». «إثبات الصفات والعلو والاستواء» مجلدان. «المراكشية». «صفات الكمال والضابط [فيها]». «جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء». «جواب مَن قال: لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه». «أجوبة كون العرش والسموات كريَّة وسبب قصد القلوب جهة العلو». «جواب كون الشيء في جهة العلو مع أَنَّه ليس بجوهر أَو عرضٍ معقول أَو مستحيل». «جواب هل الاستواء والنزول حقيقة؟ وهل لازم المذهب مذهب» سماه «الإربلية». «مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع»، مجلد لطيف. «شرح حديث النزول»، مجلد كبير. «بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث». «قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه» مجلد. «الكلام على نقض المرشدة». «المسائل الإسكندرية في الرد على الاتحادية والحلولية». «ما تضمنه فصوص». «جواب في لقاء الله». «جواب رؤية النساء ربهنّ في الجنة».

«الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية». «الهلاوونية». «جواب ورَدَ على لسان ملك التَّتار»، مجلد. «قواعد في إثبات [القدر] والرد على القدرية والجبرية»، مجلد. «رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر». «جواب في حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة». شرح حديث «فحجَّ آدم موسى». «تنبيه الرَّجل الغافل على تمويه المجادل»، مجلد. «تناهي الشدائد في اختلاف العقائد»، مجلد. «كتاب الإيمان»، مجلد. «شرح حديث جبريل في حديث الإيمان والإسلام»، مجلد. «عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه». «مسألة في العقل والروح». «مسألة في المقربين: هل يسألهم منكر ونكير». «هل يعذب الجسد مع الروح في القبر». «الرد على أهل الكسروان»، مجلدان. «في فضل أَبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما». «قاعدة [في] فضل معاوية وفي ابنه يزيد لا يُسَبّ». «في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس». «مختصر في كفر النصيرية». «في جواز قتال الرافضة»، كراسة. «في بقاء الجنة والنار وفي فنائهما» رد على (¬1) مولانا قاضي القضاة تقي الدين السبكي أعزه الله تعالى. كتب أصول الفقه «قاعدة غالبها أقوال الفقهاء»، مجلدان. «قاعدة كل حمد وذم من المقالات والأفعال لا يكون إلاّ بالكتاب والسنة». «شمول النصوص للأحكام» مجلد لطيف. «قاعدة في الإجماع وأَنَّه ثلاثة أقسام». «جواب في الإجماع وخبر التواتر». «قاعدة في كيفية الاستدراك على ¬

_ (¬1) في "الوافي": "رد عليه فيها" ولعله الصواب.

الأحكام بالنص والإجماع». «في الرد على من قال إِنَّ الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين»، ثلاث مصنفات. «قاعدة فيما يُظّن من تعارض النص والإجماع». «مواخذ (¬1) على ابن حزم في الإِجماع». «قاعدة في تقرير القياس». «قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام». «رفع الملام عن الأئمة الأعلام». «قاعدة في الاستحسان». «وصف العموم والاطلاق». «قواعد في أَنَّ المخطئ في الاجتهاد لا يأثم». «هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين». «جواب في ترك التقليد». «فيمن يقول مذهبي مذهب النَّبي عليه السلام وليس أَنا محتاج إِلى تقليد الأربعة». «جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أَو لا». «جواب تقليد الحنفي الشَّافعيّ في [الجمع] للمطر والوتر». «الفتح على الإمام في الصلاة». «تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة». «تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم». «قاعدة في تفضيل الإمام أَحمد». «جواب هل كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًا». «جواب هل كَانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم متعبِّدًا بشرع مَنْ قبله». «قواعد أَنَّ النّهي يقتضي الفساد». كتب الفقه «شرح المحرر في مذهب أَحمد»، ولم يبيض. «شرح العمدة لموفق الدين»، أربع مجلدات. «جواب مسائل وردت من أصفهان». «جواب مسائل وردت من الأندلس». «جواب مسائل وردت من الصلت». «مسائل من بغداد». «مسائل وردت من زُرَع». «مسائل وردت من الرحبة». «أربعون مسألة [لقبت] الدرر المضية في فتاوي ابن تَيْمِيَّة». «الماردانية». «الطرابلسية». «قاعدة في المياه والمائعات ¬

_ (¬1) في الوافي: "مؤاخذة".

وأحكامها». «طهارة بول ما يؤكل لحمه». «قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه». «قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح». «جواز الاستجمار مع وجود الماء». «نواقض الوضوء». «قواعد في عدم نقضه بلمس النساء». «التسمية على الوضوء». «خطأ القول بجواز المسح على الخفين». «جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف». «في من لا يعطي أجرة الحمام». «تحريم دخول الحمام بلا مئزر». «في الحمام والاغتسال». «ذم الوسواس». «جواز طواف الحائض». «تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر». «كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها». «الكلم الطيب» في الأذكار. «كراهية تقديم بَسط سجادة المصلي قبل مجيئه». «في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة»، «في الصلاة بعد أذان الجمعة». «القنوت في الصبح والوتر». «قتل تارك أحد المباني وكفره». «الجمع بين الصلاتين في السفر». «فيما يختلف حكمه بالسفر والحضر». «أهل البدع: هل يصلى خلفهم». «صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض». «الصلوات المبتدعة». «تحريم السماع». «تحريم الشبابة». «تحريم اللعب بالشطرنج». «تحريم الحشيشة القنبية ووجوب الحد عليها وتنجيسها». «النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يُفعل في عاشوراء من الحبوب». «قاعدة في مقدار الكفارة في اليمين». «في أّنَّ المطلقة بثلاثة لا تَحل إِلاّ بنكاح زوج ثان». «بيان الحلال والحرام في الطلاق». «جواب مَن حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثمَّ طلق ثلاثًا في الحيض». «الفرق المبين بين الطلاق واليمين». «لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف». «كتاب التَّحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق». «الطلاق البدعي لا يقع». «مسائل الفرق بين

الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك». «مناسك الحج». «في حجة النَّبي صلى الله عليه وسلم». «في العمرة المكية». «في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المحرم وزيارة الخليل عليه السلام عقيب الحج». «زيارة القدس مطلقًا». «جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب (¬1) ولا أبدال». «جميع أيمان المسلمين مكفّرة». الكتب في أنواع شتى جمع بعضُ الناس فتاويه بالديار المصرية مدّة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلد. «الكلام على بطلان الفتوة المصطلح [عليها] بين العوام»، وليس لها أصل متصل رضي الله عنه. «كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية». «[بطلان] ما يقوله أهل بيت الشَّيخ عدي». «النجوم: هل لها تأثير عند القِرَان والمقابلة، وفي الكسوف: هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة»، مجلد. «تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم». «إبطال الكيمياء وتحريمها ولو صحت وراجت». ومن نظم الشَّيخ تقي الدين رحمه الله تعالى على لسان الفقراء المجردين: والله ما فَقْرُنا اختيارُ ... وإنّما فقرُنا اضطرارُ جماعةُ كُلُّنا كُسالى ... وأكلُنا ما لهُ عيارُ ¬

_ (¬1) في "الوافي": "غُيَّب".

تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلّها فشارُ وله أجوبةُ سؤالاتٍ كَانَ يُسْألها نظمًا فيجيب عنها نظمًا، وليس هذا موضع إيراد ذلك رحمه الله تعالى.

31 - عيون التواريخ

عيون التواريخ (¬1) لمحمد بن شاكر الكتبي (764) وفيها [728] في ليلة الثاني والعشرين من ذي القعدة توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع القدوة المحقق، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله ابن تيميَّة الحرَّاني الدمشقي بقلعة دمشق في القاعة التي كان محبوسًا بها، وغسَّلوه وكفَّنوه وأخرجوه من باب القلعة، وصلَّى عليه بباب القلعة الشيخ محمد بن تمام، ثم أتوا به إلى جامع بني أميَّة، وغلقت جميع أسواق دمشق، وامتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، وحضروا (¬2) الأمراء والحجاب، وصَلَّوا عليه صلاة الظهر، وحملوه (¬3) الناسُ على رؤوسهم، وخرجوا به من باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية، وامتدَّ الناس إلى سوق الخيل إلى مقبرة الصوفية، ودُفِن إلى جانب قبر أخيه الشيخ عبد الله. وانصرف الناسُ متأسفين عليه، وختموا على قبره الختماتِ، وباتوا على قبرِه ليالي كثيرة، ورُؤِيَتْ له منامات صالحةٌ. ¬

_ (¬1) (6/ 202 أ - ب) (مخطوطة قره جلبي زاده برقم 276). (¬2) كذا على لغة "أكلوني البراغيث". (¬3) كذا على لغة "أكلوني البراغيث".

ومولدُه عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وقدِمَ مع والدِه إلى دمشق، واشتغل على والدِه، وسمع الحديث من الشيخ شمس الدين ابن أبي عمر وابن العلان وابن أبي اليسر وابن عبد الدائم وغيرهم، وقرأ بنفسه، وكتبَ الطباق، ونسخَ الأجزاء ولازمَ السماعَ مدة سنين، واشتغل في العلوم، وحَصَّل في أسرع وقتٍ مالا يُحصِّله غيرُه في سنين كثيرة. وكان عنده ذكاء مُفرط وبديهةٌ حسنةٌ، وله في العلوم اليد الطولى، وصنَّف تصانيف كثيرةً في علومٍ شتَّى ذكرتُها في ترجمته في كتاب «فوات الوفيات». وكان كثير الذكر والصَّوم والصلاة والعبادة، وعاش سبعًا (¬1) وستين سنةً وثمانيةَ أشهر وعشرة أيامٍ، رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) في الأصل: "سبع".

32 - مرآة الجنان

مرْآةُ الجَنَان (¬1) للعلاَّمة/ أَبي محمَّد عبد الله اليافعي اليماني (767) وفيها (¬2) مات بقلعة دمشق الشَّيخ الحافظ الكبير تقي الدين أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن تَيْميَّة معتقلاً، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة والورق. ومولده في عاشر ربيع الأَوَّل يوم الاثنين سنة إِحدى وستين وست مئة بحرَّان. سمع من جماعة وبرع في حفظ الحديث والأصلين، وكان يتوقَّد ذكاءً. ومصنفاته قيل: أكثر من مئتي مجلد، وله مسائل غريبة أُنكر عليه فيها، وحُبِس بسببها، مباينة لمذهب أَهل السنة (¬3). ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النَّبي عليه الصلاة والسلام (¬4)، وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين كحجّة الإِسلام أَبي حامد الغزالي، والأستاذ الإِمام أَبي القاسم القُشيري والشَّيخ ابن العريف، والشَّيخ أَبي الحسن الشَّاذلي، وخلائق من أولياء الله الكبار والصفوة الأخيار. وكذلك ما قد عُرف من مذهبه كمسئلة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة وما نقل عنه فيها من الأَقوال الباطلة، وغير ذلك مما ¬

_ (¬1) (4/ 277) دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1413. (¬2) أي في سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة. (¬3) يعني الأشاعرة لأنه منهم!!. (¬4) إِنما نهى الشيخ عن شدِّ الرحل، وليس عن مطلق الزيارة.

هو معروف في مذهبه، ولقد رأيت منامًا طويلاً في وقتٍ مبارك يتعلّق بعضه بعقيدته ويدلّ على خطئه فيها، وقد قدّمت ذكره في سنة ثمان وخمسين وخمس مائة في ترجمة صاحب «البيان» (¬1)، فمن أراد أَنْ يطلع على ذلك فليطالع هناك فهو من المنامات الَّتي تنشرح بها الصدور ويطمئن به قلب من رآه وينفتح لقبول الهدى والنور!! ¬

_ (¬1) من كتب الفقه الشافعي المطوّلة للعمراني، وله عدة نسخ في مكتبات العالم.

33 - نثر الجمان في تراجم الأعيان

نثْرُ الجُمَانِ في تَرَاجِم الأَعْيان (¬1) للعلاَّمة/ أَحمد بن محمَّد بن عليّ الفَيُّومي (770) وفيها [728] في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسْفِر صباحُها عن العشرين من ذي القَعْدة، كانت وفاة الشَّيخ الإِمام العالم الورع الزاهد، تقي الدين أَحمد بن الشَّيخ الإِمام شهاب الدين [عبد الحليم] (¬2) بن الشَّيخ مجد الدين أَبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن [أَبي] القاسم بن محمَّد بن تَيْميَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي، في مُعْتَقَلِه بقلعة دمشق، وكان مدّة المرض: سبعة عشر يومًا، ولما مُنِع من الكتابة والتصنيف؛ عكف على تلاوة كتاب الله العزيز، فيُقال: إِنَّه قرأَ ثمانين ختمة، وقرأَ من الحادِية والثَّمانين إِلى سورة الرَّحمن، وأَكملها أَصحابه الَّذين دخلوا عليه حال غسيله، وتكفينه. وتولّى غسيله مع الغاسل الشَّيخ تاج الدين الفارقي، وصُلِّي عليه في عدَّة مواضع، فصُلِّي عليه أوَّلاً بقلعة دمشق، وأَمَّ النَّاس في الصَّلاة عليه الشَّيخ محمَّد بن تمام الصّالحي الحنبلي، ثمَّ حُمِل إِلى الجامع الأموي، ووضعت جنازته في أَول السَّاعة الخامسة، وامتلأَ الجامع بالنّاس، وغلقت أَسواق المدينة، وصلّي عليه بعد صلاة الظهر، ثمَّ حُمِل وأَخرج من باب الفرج، وازدحم النَّاس حتَّى تفرقوا في الأبواب، فخرجوا من باب القصر، وباب الفراديس، وباب الجابية، وامتلأَ سوق الخيل ¬

_ (¬1) نسخة دار الكتب برقم 1746، جزء فيه (701 - 745). (¬2) في الأصل: عبد الحكيم! وهو خطأ.

بالنّاس، وصُلِّي عليه مرَّة ثالثة، وأَمَّ النَّاس في الصلاة عليه أَخوه الشَّيخ زين الدين عبد الرحمن، وحُمل إِلى مقبرة الصوفيَّة فدُفِن بها قريبًا من وقت العصر؛ لازدحام النَّاس عليه. ومولده بحرَّان في يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة، وقدم مع والده في حال صِغر سنّه، واشتغل عليه وسمع من جماعة من المشايخ، وكان شيخًا حافظًا، ذكي الفطرة، حسن البديهة، وله تصانيف كثيرة منها ما ظهر، ومنها مالم يظهر. وله مظهر بالعلوم، وشهرة بها يُسْتغنى بها عن بسط القول. سمعت من لفظ الشَّيخ الإِمامة العلامة ركن الدين محمَّد بن القويع قال: «مات ابن تَيْميَّة ولم يترك على ظهر الأَرض مثله». وحسبك بهذا القول من هذا الإمام، قالوا (¬1): وكان علمه أَرجح من عقله! وقد تقدَّم من أَخباره ووقائعه ما يُغني عن الإعادة والإطالة، وكانت مدّة اعتقاله من يوم الاثنين سادس شعبان سنة ستٍ وعشرين وسبع مئة، وإلى حين وفاته: سنتين وثلاثة أَشهر وأَربعة عشر يومًا - رحمه الله تعالى -. ولما توفي أُفرج عن أَخيه الشَّيخ زين الدين عبد الرَّحمن يوم الأحد سادس عشرين ذي القعدة، وكان قد اعْتُقِل معه، فلما مات صار يخرج في كلِّ يوم من اعتقاله إِلى تربة أَخيه، ويقيم بها إِلى عشية النَّهار فيعود إِلى القلعة، ويبيت فيها، وكان النَّائب غائبًا في الصَّيد فلما عاد إِلى دمشق أَفرج عنه - رحمه الله تعالى ونفع به -. ¬

_ (¬1) قاله شمس الدين الجزري، وتبعه من بعده، وهو قول مرذول!.

34 - البداية والنهاية

البداية والنهاية (¬1) للعلاَّمة/ أَبي الفِداء إِسماعيل بن كثير الدِّمشقي (774) سنة (661) مولد الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة شيخ الإسلام: قال الشَّيخ شمس الدين الذَّهبيّ: وفي هذه السنة وُلد شيخنا تقي الدين أَبو العبَّاس أَحمد ابن الشَّيخ شهاب الدين عبد الحليم بن أَبي القاسم ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، بحرّان. يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل من سنة إِحدى وستين وست مئة. سنة (666) وفيها ولد الشَّيخ شرف الدين عبد الله ابن تَيْمِيَّة أَخو الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة. سنة (667) ... وفيها خرج أهل حرّان منها وقدموا الشَّام. وكان فيهم شيخنا العلاّمة أَبو العبَّاس أَحمد ابن تَيْمِيَّة صُحْبةَ أبيه، وعمره ست سنين، وأخواه زين الدين عبد الرَّحمن وشرف الدين عبد الله، وهما أصغر منه. ¬

_ (¬1) (13/ 255 - 374، 14/ 3 - 146) دار الريان، مصر، 1408. ثم قابلنا نصوصه على الطبعة المحققة في 21 مجلدًا، بتحقيق د/ عبد الله التركي بالتعاون مع مركز الدراسات والبحوث بدار هجر، ط الأولى 1419.

سنة (682). وممن توفي فيها: ابن جَعْوان العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن محمد بن عباس ابن جَعْوان الأنصاري الدمشقي، المحدِّث الفقيه الشافعي البارع في النحو واللغة. سمعت شيخنا تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، وشيخنا الحافظ أَبا الحجاج المِزِّي يقول كل منهما للآخر: هذا الرَّجل قرأ «مسند الإِمام أَحمد» - وهما يسمعان - فلم نَضْبِط عليه لحنةً مُتَّفقًا عليها، وناهيك بهذين ثناءً على هذا، وهما هما!! [وفيها] توفي الشَّيخ الإِمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشَّيخ الإِمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، والد شيخنا العلامة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، مفتي الفِرق، الفارق بين الفرق. كَانت له فضيلة حسنة، ولديه فوائد كثيرة، وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلّم عليه عن ظهر قلبه، وولي مشيخة دار الحديث السكّرية بالقَصَّاعين، وبها كَانَ مَسْكنه. ثمَّ درّس ولده الشَّيخ تقي الدين بها بعده، في السنة الآتية كما سيأتي. ودُفن بمقابر الصوفية رحمه الله. سنة (683) في يوم الاثنين، ثاني المحرّم منها، درَّس الشَّيخُ الامام العالم العلامة العَلَم تقي الدين أَبو العبَّاس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، بدار الحديث السُّكَّرية الَّتي بالقصَّاعين. وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي الشَّافعيّ، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدين ابن المُرَحِّل، وزين الدين بن

المنجَّى الحنبلي. وكان درسًا هائلاً حافلاً، وقد كتبه الشَّيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حَداثة سنّه وصِغره، فإنه كَانَ عمره إذ ذاك عشرين سنة وسنتين. ثمَّ جلس الشَّيخ تقي الدين المذكور أيضًا يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هُيِّئَ له لتفسير القرآن العزيز. فابتدأ من أوله في تفسيره. وكان يجتمع عنده الخلق الكثير، والجمُّ الغفير، ومن كثرة ما كَانَ يورد من العلوم المتنوّعة المحرّرة مع الديانة والزهادة والعبادة، سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان. واستمرَّ على ذلك مدة سنين متطاولة. سنة (692) وكان ممن حجَّ في هذه السنة الشيخُ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة رحمه الله. وكان أميرهم الباسطي، ونالهم في مَعَان ريح شديدة جدًا مات بسببها جماعة، وحملت الريح جمالاً عن أماكنها. وطارت العمائم عن الرؤوس، واشتغل كلّ أحد بنفسه. سنة (693) (واقعة عسّاف النصراني) كَانَ هذا الرَّجل من أهل السويداء، قد شهد عليه جماعة أَنَّه سبَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عسّافٌ هذا بابن أَحمد بن حجي أمير آل عليّ، فاجتمع الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي، نائب السلطنة،

فكلّماه في أمره فأجابهما إِلى ذلك، وأرسل ليُحْضِره، فخرجا من عنده، ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناسُ عسَّافًا حينَ قدم ومعه رجلٌ من العرب فسبُّوه وشتموه، فقال ذلك الرَّجل البدويُّ: هو خير منكم - يعني النصراني - فرجمهما الناس بالحجارة؛ وأصابت عسَّافًا ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب، فطلب الشيخين: ابن تَيْمِيَّة والفارقي فضربهما بين يديه، ورسم عليهما في العذراوية، وقدم النصراني فأسلم، وعقد مجلس بسببه، وأثبت بَيْنه وبين الشهود عداوة، فحقن دمه، ثمَّ استدعى بالشيخين فأرضاهما وأَطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز، فاتفق قتله قريبًا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله ابن أخيه هناك. وصنف الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في هذه الواقعة كتابه «الصارم المسلول على ساب الرسول صلى الله عليه وسلم». سنة (694) توفي الشَّيخ الامام الخطيب المدرّس المفتي: شرف الدين أَبو العبَّاس أَحمد بن الشَّيخ كمال الدين أَحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقْدِسِيّ الشافعي ولي القضاء نيابة، والتدريس، والخطابة بدمشق. . . وأذن في الإفتاء لجماعة من الفضلاء منهم الشَّيخ الامام العلاّمة شيخ الإِسلام أَبو العبَّاس ابن تَيْمِيَّة، وكان يَفْتَخِر بذلك ويَفْرَح به، ويقول: أَنا أذِنْتُ لابن تَيْميَّة بالإفتاء. سنة (695) وفي يوم الأربعاء سابع عشر شعبان درّس الشَّيخ الامام العلاّمة شيخ الإِسلام تقي الدين ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني بالمدرسة الحنبلية عوضًا عن

الشَّيخ زين الدين ابن المنجَّى توفي إِلى رحمة الله. ونزل ابن تَيْمِيَّة عن حَلْقة العماد بن المنجَّى لشمس الدين ابن الفخر البعلبكي. سنة (697) ولما كان يوم الجمعة سابع عشر شوال، عَمِل الشيخ تقي الدين ابن تيمية ميعادا في الجهاد، وحرَّض فيه، بالغ في أجور المجاهدين، وكان وقتًا مشهودًا وميعادًا جليلاً. سنة (698) وكان وقع في آخر دولة لاجين بعد خروج قَبْجَق من البلد محنة للشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إِلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي. فلم يحضر. فنودي في البلد في العقيدة الَّتي كَانَ قد سأله عنها أهل حماة المسماة «بالحموية». فانتصر له الأمير سيف الدين جاغان. وأرسل يطلب الَّذين قاموا عليه. فاختفى كثير منهم، وضُرِب جماعة ممن نادى على العقيدة فسكت الباقون. فلما كَانَ يوم الجمعة عمل الشَّيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسّر فيه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}، ثمَّ اجتمع بالقاضي إِمام الدين القَزْويني صبيحة يوم السبت، واجتمع عنده جماعة من الفضلاء، وبحثوا في «الحموية»، وناقشوه في أماكن منها. فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير. ثمَّ ذهب الشَّيخ تقي الدين وقد تَمَهَّدَت الأمور، وسكنت الأحوال. وكان القاضي إِمام الدين معتقدُه حسنًا ومقصدُه صالحًا.

سنة (699) . هذا؛ وسلطان التَّتار قد قصد دمشق بعد الوقعة. فاجتمع أعيانُ البلد والشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في مشهد عليّ، واتفقوا على المسير إِلى قازان لتلقّيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق. فتوجّهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر، فاجتمعوا به عند النَّبْك (¬1). وكلّمه الشَّيخ تقي الدين ابن تيمية كلامًا قويًا شديدًا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعُها على المسلمين ولله الحمد. ودخل المسلمون ليلتئذٍ من جهة قازان فنزلوا بالباذَرائية، وغُلِّقَت أبوابُ البلد سوى باب تُوما. وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطانًا في خطبته، وبعد الصلاة. . . حضر الفَرْمان بالأمان وطيف به في البلد. وقُرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونُثر شيء من الذهب والفضّة. وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم الأمير سيف الدين قَبْجَق المنصوري فنزل في الميدان. واقترب جيش التَّتَر، وكثُر العيْث في ظاهر البلد، وقُتل جماعة، وغلت الأسعار بالبلد جدًّا، وضاق الحال عليهم وأرسل قبجق إِلى نائب القلعة ليُسَلِّمها إِلى التتر. فامتنع أرْجُواش من ذلك أشدّ الامتناع. فجمع له قبجق أعيان البلد فكلَّموه أيضًا، فلم يُجبهم إِلى ذلك، وصمّم على ترك تسليمها إليهم وفيها عين تطرف. فإِنَّ الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة أرسل إِلى نائب القلعة يقول له ذلك فاشتدَّ عزمه على ذلك وقال له: لو لم يبق فيها الاّ حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إِن ¬

_ (¬1) قرية بين حمص ودمشق، "معجم البلدان": 4/ 739.

استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشَّام فغن الله حفظ لهم هذا الحصن والمَعْقِلَ الذي جعله الله حِرزًا لأهل الشام التي لاتزال دارَ أمانٍ وسنةٍ، حتى ينزل بها عيسى بن مريم عليه السلام. ولما نُكب دَيْر الحنابلة في ثاني جُمادى الأولى قتلوا [أي التَّتار] خلقًا من الرجال، وسبوا من النساء كثيرًا، ونال قاضي القضاة تقي الدين منهم أذى كثير. ويُقال: إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبًا من أربعمائة وأسروا نحوًا من أربعة آلافٍ أسير. ونُهِبَت كتبٌ كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري. وكانت تُباع وهي مكتوب عليها الوقفية. . . وخرج الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في جماعة من أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر إِلى ملك التتر. وعاد بعد يومين، ولم يتّفق اجتماعه به. حجبه عنه الوزيرُ سعد الدين، والرشيدُ مُشِيرُ الدولة المَسْلَماني ابن يهودي. . . وفي ثاني رجب طلب قبجق القضاة والأعيان، فحلَّفهم على المناصحة للدولة المحمودبة - يعني قازان -. فحلفوا له. وفي هذا اليوم خرج الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة إِلى مخيَّم بُولاي فاجتمع به، في فكاك مَنْ كَانَ معه من أُسَارَى المسلمين. فاستنقذ كثيرًا منهم من أيديهم. وأقام عنده ثلاثة أيام ثمَّ عاد. وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بجامع دمشق لصاحب مصر السلطان الناصر محمد بن قلاوون. ففرح الناس بذلك، وكان يُخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشَّام مائة يوم سواء. وفي بُكرة يوم الجمعة المذكور دار الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة رحمه الله،

وأصحابُه على الخمَّارات والحانات، فكسروا آنية الخمور، وشقوا الظروف وأراقوا الخمور. وعزّروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش. ففرح الناس بذلك. وفي يوم الجمعة العشرين من شوال ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إِلى جبال الجَرَد وكسروان. وخرج الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة ومعه خلق كثير من المتطوّعة والحورانة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد دينهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عامَلوا بع العَسَاكر لما كسرهم التترُ وهَرَبوا؛ حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولَهم، وقتلوا كثيرًا منهم. فلما وصلوا إِلى بلادهم جاء رؤساؤهم إِلى الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة، فاستتابهم وبيّن للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أُولئك المفسدين، والتزموا بردّ ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرّر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إِلى بيت المال، وأقطِعتْ أراضيهم وضياعُهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند، ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يدينون دين الحق، ولا يحرّمون ما حرَّم الله ورسوله. سنة (700) في مُسْتهلِّ صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشَّام، وأنهم عازمون على دخول مصر. فانزعج الناس لذلك، وازدادوا ضعفًا على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إِلى بلاد مصر والكَرَك والشَّوْبَك والحصون المنيعة. فبلغت المحارة (¬1) إِلى مصر ¬

_ (¬1) في المطبوع: الحمارة! والمحارة: شبه الهودج. والمقصود أجرة الحمل إلى مصر.

خمسمائة، وبيع الجمل بألف، والحمار بخمسمائة. وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان. وجلس الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرّض الناس على القتال. وشاق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك. ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغّب في إنفاق الأموال في الذّب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأنّ ما يُنفق في أجرة الهَرَب، إِذا أُنفِقَ في سبيل الله كَانَ خيرًا. وأوجب جهاد التتر حتمًا في هذه الكرّة. وتابع المجالس على ذلك. ونودي في البلدان: لا يُسافر أحد إلاّ بمرسوم وورقة. فتوقف الناسُ عن السير، وسكن جأشهم. واستهل جمادى الأولى والناس على خُطةٍ صعبةٍ من الخوف، وتأخُّر السلطانِ واقتراب العدوِّ، وشدةِ الأمرِ والحالِ، وخرج الشَّيخ تقيّ الدين بن تَيْمِيَّة رحمه الله تعالى في مستهلّ هذا الشهر - وكان يوم السبت - إِلى نائب الشَّام وعساكره بالمرج. فثبَّتهم، وقوّى جأشهم، وطيّب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء. وتلا قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}، وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثمَّ عاد إِلى دمشق وقد سأله النائب والأمراء أَنْ يركب على البريد إِلى مصر يستحثُّ السلطان على المجيء. فساق وراء السلطان. وكان السلطان قد وصل إِلى الساحل، فلم يدركه إِلا وقد رجع إلى القاهرة وتفارط الحال. لكنه استحثهم على تجهيز العساكر إِلى الشَّام إِنْ كَانَ لهم به حاجة. وقال لهم فيما قال: «إِنْ كنتم أعرضتم عن الشَّام وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن». ولم يزل بهم حتَّى جُرِّدَت العساكر إِلى الشَّام.

ثمَّ قال لهم: «لو قُدِّر أنكم لستم حُكّام الشَّام ولا ملوكه، واستنصركم أهله وَجَبَ عليكم النصر. فكيف وأنتم حُكّامه وسلاطينُه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنه؟». وقوَّى جأشهم، وضمن لهم النصر هذه الكرّة. فخرجوا إِلى الشَّام، فلما تواصلت العساكر إِلى الشَّام فرح الناس فرحًا شديدًا، بعد أَن كانوا قد يأسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. . . ورجع الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من الديار المصرية في السابع العشرين من جُمادى الأولى على البريد، وقد أقام بقلعة مصر ثمانية أيّام واجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة وحثَّهم وحرَّضهم فأجابوه. سنة (701) وفي هذا الشهر [شوال] عُقد مجلس لليهود الخيابرة، وأُلزموا بأداء الجزية أسوةَ أمثالهم من اليهود. فأحضروا كتابًا معهم يزعمون أَنَّه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم. فلما وقف عليه الفقهاء تبيّنوا أَنَّه مكذوب مفتعل؛ لما فيه من الألفاظ الركيكة، والتواريخ المخبَّطة، واللحن الفاحش. وحاققهم عليه شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة، وبيّن لهم خطأهم وكذبهم. وأنّه مزوّر مكذوب. فأنابوا إِلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد عليهم السنين الماضية. قلتُ: وقد وقفت أَنا - أي المؤلف - على هذا الكتاب، فرأيتُ فيه شهادة سعد بن معاذ عام خبير. وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن أسلم إذ ذاك، وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين. وفيه: وكتب علي بن أبو طالب!!

وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين عليّ. وفي هذا الشهر [شوال] ثار جماعة من الحَسَدة على الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة، وشَكَوا منه أَنَّه يُقيم الحدود، ويعزِّر، ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلّم هو أيضًا فيمن يشكو منه ذلك، وبيّن خطأهم. ثمَّ سكنت الأمور. سنة (702) وفي جُمادى الأولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزوّر، فيه أَنَّ الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة، والقاضي شمس الدين ابن الحريري، وجماعة من الأمراء والخواص الَّذين بباب السلطنة يُناصحون التتر ويكاتبونهم، ويريدون تولية قَبْجَق على الشَّام، وأن الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، وكذلك كمال الدين بن العطّار. فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف أَنَّ هذا مفتعل. ففحص عن واضعه فإذا هو فقير، كَانَ مجاورًا بالبيت الَّذي كَانَ إلى جانب محراب الصَّحابة، يُقال له اليَعْفُوري، وآخر معه يُقال له أَحمد الفناري (¬1). وكانا معروفيْن بالشرّ والفضول. ووُجد معهما مسوَّدة هذا الكتاب. فتحقّق نائب السلطنة ذلك، فعُزّرا تعزيرًا عنيفًا. ثمَّ وُسِّطا (¬2) بعد ذلك في مستهل جمادى الآخرة، وقُطعت يد الكاتب الَّذي كتب لهما هذا الكتاب وهو التاج المناديلي. وفي ثامن عشر [شعبان] قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين. . . ¬

_ (¬1) وقع في ذيول العبر: ص/ 5، وتاريخ البرزالي: القباري. (¬2) نوع من العقوبة.

ثمَّ قدمت بعدهم طائفة أُخرى. . . فقويت القلوب واطمأنّ كثير من الناس. ولكن الناس في جَفْل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي، وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إِلى حمص، ثمَّ خافوا أَنْ يدهمهم التتر فجاءوا فنزلوا المَرْج. . . وجلس القضاة بالجامع وحلّفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال. وتوجّه الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة إِلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم في القُطَيْفة، وأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدوّ فأجابوا إِلى ذلك وحلفوا معهم. وكان الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون على التتار. فيقول له الأمراء: قل إِن شاء الله. فيقول: إِنْ شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وكان يتأوّل في ذلك أشياء في كتاب الله منها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}. وقد تكلّم الناسُ في كيفيّة قتال هؤلاء التتر من أيّ قبيل هو؟ فإنهم يُظهرون الإِسلام، وليسوا بُغاة على الإِمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقتٍ ثمَّ خالفوه. فقال الشَّيخ تقيّ الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الَّذين خرجوا على عليّ ومعاوية. ورأوا أنهم أحقّ بالمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبّسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مُضاعفَّة. فتفطَّنَ العلماءُ والناسُ لذلك. وكان يقولُ للناس: إِذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجَّع الناسُ في قتال التَّتار، وقويت قلوبهم ونيَّاتهم ولله الحمد. ولما كَانَ يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان خرجت العساكر

الشامية فخَيَّمتْ على الجُسُورة من ناحية الكُسْوَة، ومعهم القضاة. . . فلما كانت ليلة الخميس ساروا إِلى ناحية الكسوة. . . وخرج الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصُحْبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومَنْ معه. فظنوا أَنَّه إِنَّما خرج هاربًا، فحصل له لوم من بعض الناس وقالوا: أنت مَنَعْتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد. فلم يرد عليهم. . . وفي يوم الاثنين رابع الشهر [رمضان] رجع الناسُ من الكسوة إِلى دمشق، فبشّروا الناس بالنصر. وفيه دخل الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة البلدَ ومعه أصحابه من الجهاد ففرح الناسُ به، ودعوا له، وهنّأوه بما يسّرَ الله على يديه من الخير. وذلك أَنّه ندبه العسكر الشامي أَنْ يسير إِلى السلطان يستحثُّه على السير إِلى دمشق، فسار إِليه، فحثّه على المجيء إِلى دمشق بعد أَنْ كاد يرجع إِلى مصر. جاء هو وإياه جميعًا. فسأله السلطان أَنْ يقف الرَّجل تحت راية قومه. ونحن من جيش الشَّام لا نقف إلاّ معهم. وحرّض السلطان على القتال، وبشّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله الَّذي لا إله إلاّ هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرّة. فيقول له الأمراء: قل إِنْ شاء الله. فيقول إِنْ شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وأفتى الناسَ بالفِطْرِ مدةَ قتالهم، وأفطر هو أيضًا وكان يدور على الأطلاب (¬1) والأمراء فيأكل من شيء معه في يده، ليعلمهم أّنَّ إفطارهم ليتقووا على القتال أفضلُ، فيأكل الناس. وكان يتأوَّل في ¬

_ (¬1) وهي: الكتيبة من الجيش.

الشاميين قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ملاقوا العدوّ غدًا، والفطر أقوى لكم» (¬1). فعزم عليهم في الفطر عام الفتح. كما في حديث أَبي سعيد الخدري. في ترجمة ابن دقيق العيد قال: وقد اجتمع به الشَّيخُ تقيُّ الدين بن تَيْمِيَّة، فقال له تقي الدين ابن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه: ما أَظن بقي يُخلق مثلك. . . وعين نائب السلطنة الشامية البرّانية، ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي، وذلك باشارة الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة. سنة (704) في رجب منها أُحضر إِلى الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة شيخٌ كَانَ يلبس دلقًا كبيرًا متسعًا جدًا يسمّى المجاهد إِبراهيم القطّان. فأمر الشَّيخ بتقطيع ذلك الدلق، فتناهبه الناسُ من كلّ جانب، وقطعوه حتَّى لم يدعوا منه شيئًا. وأمر بِحَلْق رأسه، وكان ذا شعر، وقَلْم أظفاره وكانوا طوالاً جدًّا. وحفَّ شاربه المُسْبل على فمه المخالف للسنّة. واستتابه من كلام الفُحْش، وأكْلِ ما لا يجوز أكله من المحرّمات ومما يغيّر العقل من الحشيشة، وغيرها. وبعده استحضر الشَّيخ محمَّد الخبّاز البلاسي، فاستتابه أيضًا عن أكل المحرمّات، ومخالطة أهل الذمّة. وكتب عليه مكتوبًا أَن لا يتكلّم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لا علم له به. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم.

وفي هذا الشهر بعينه راح الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة إِلى مسجد النَّارَنْج وأمر أصحابه ومعهم حجّارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قَلُوط تُزار ويُنذر لها. فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها. فأزاح عن المسلمين شبهة كَانَ شرّها عظيمًا وبهذا وبأمثاله حسدوه، وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه فحُسِد على ذلك وعُودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم، ولا بالي، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه: الحبس: مع أنه لم ينقطع في بحثٍ، لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه - كما سيأتي - وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم. وفي مستهلّ ذي الحجة ركب الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجُرْد والكَسْروانيين، ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقًا منهم، وألزموهم بشرائع الإِسلام، ورجع مؤيّدًا منصورًا. سنة (705) في ثانية [المحرم] خرج نائب السلطنة بمن بقي معه من الجيوش الشامية. وقد كَانَ تقدّم بين يديّه طائفة منهم مع ابن تَيْمِيَّة في ثاني المحرم. فساروا إِلى بلاد الجُرْد والرَّفَض والتَّيامِنَة. فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشَّيخ لغزوهم، فنصرهم الله عليهم، وأبادوا خَلْقًا كثيرًا منهم ومن فرقتهم الضالّة، ووطئوا أراضي كثيرة من مَنِيع بلادهم. وعاد نائب السلطنة إِلى دمشق في صحبته الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة والجيش. وقد حصل بسبب شهود الشَّيخ هذه الغزوة خيرُ كثير. وأبان الشَّيخ علمًا وشجاعة في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوب أعدائه حسدًا له وغمًّا.

ما جرى للشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَة مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إِلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق وحضر الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء أَنَّ يكف الشَّيخ تقي الدين إنكاره عليهم، وأن يُسَلِّم لهم حالهم، فقال لهم الشَّيخ: هذا ما يمكن. ولا بد لكل أحد أَن يدخل تحت الكتاب والسنة، قولاً وفعلاً، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه على كل أحدٍ. فأرادوا أَنْ يفعلوا شيئًا من أحوالهم الشيطانية الَّتي يتعاطونها في سماعاتهم، فقال الشَّيخ: تلك أحوال شيطانية باطلة، وأكثر أحوالكم من باب الحيل والبهتان، ومن أراد منكم أَن يدخل النار فليدخل أولاً إِلى الحمام وليغسل جسده غسلاً جيدًا ويدلكه بالخل والأُشنان ثمَّ يدخل بعد ذلك إِلى النار إِنْ كَانَ صادقًا. ولو فرض أَنَّ أحدًا من أهل البدع دخل النار بعد أَنْ يغتسل فإِنًّ ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته، بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة المحمدية إِذا كَانَ صاحبها على السنة، فما الظن بخلاف ذلك! فابتدر شيخ المُنَيبع الشَّيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إِنَّما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع. فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثمَّ اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج على الكتاب والسنة ضربت عنقه. وصنف الشَّيخ جزءًا من طريقة الأحمدية، وبين فيه فساد أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم، وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب والسنة، وأظهر الله السنة على يديه وأخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة.

أول المجالس الثلاثة لشيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء وفيهم الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة عند نائب السلطنة بالقصر، وقرئت عقيدة الشَّيخ تقي الدين «الواسطية»، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضيع إِلى المجلس الثَّاني، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشَّيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشَّيخ تقي الدين كلامًا كثيرًا، ولكن ساقيته لاطمت بحرًا!! ثمَّ اصطلحوا على أَن يكون الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني هو الَّذي يحاققه من غير مسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر الناسُ من فضائل الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تَيْمِيَّة في البحث، وتكلم معه، ثمَّ انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشَّيخ إِلى منزله معظَّمًا مكرَّمًا. وبلغني أَنَّ العامة حملوا له الشمع من باب النصر إِلى القصّاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء، وكان الحاملَ على هذه الاجتماعات كتابٌ ورد من السلطان في ذلك، كَانَ الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه وذلك أَنَّ الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة كَانَ يتكلم في المنبجي وينسبه إِلى اعتقاده ابن عربي، وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق، وعلمه وعمله. ثمَّ وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة في

الصيد، وطلب القاضي جماعةً من أصحاب الشَّيخ وعزّر بعضهم، ثمَّ اتفق أَنَّ الشَّيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلاً في الرد على الجهمية من كتاب «أفعال العباد» للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاريّ بسبب الاستسقاء، فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إِلى القاضي الشَّافعيّ ابن صصري، وكان عدو الشَّيخ فسجن المزي، فبلغ ذلك الشَّيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إِلى السجن وأخرجه منه بنفسه، وراح إِلى القصر فوجد القاضي هناك، فتقاولا بسبب الشَّيخ جمال الدين المزي، فحلف ابن صصري ولا بد أَن يعيده إِلى السجن وإلا عزل نفسه. فأمر النائب بإعادته تطييبًا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أيامًا ثمَّ أطلقه. ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشَّيخ تقي الدِّين ما جرى في حقه وحق أصحابه في غيبته، فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أَن لا يتكلم أحد في العقائد، ومن تكلم في ذلك حلّ ماله ودمه ونُهبت داره وحانوته، فسكنت الأمور. وقد رأيت فصلاً من كلام الشَّيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات. ثمَّ عُقِد المجلس الثالث في سابع شعبان بالقصر، واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة. وفي هذا اليوم عزل ابن صصري نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور، وهو الشَّيخ كمال الدين بن الزَّمْلَكاني، ثمَّ جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصري إِلى القضاء، وذلك بإشارة المنبجي، وفي الكتاب: إنا كنا رسمنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأَنَّه على مذهب السلف، وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إِليه. ثمَّ جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عمَّا كَانَ وقع

للشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في أيام جاغان، والقاضي إِمام الدين القزويني، وأن يحمل هو والقاضي ابن صصري إِلى مصر. فتوجها على البريد نحو الديار المصرية، وخرج مع الشَّيخ خلق من أصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائب السلطنة الأفرم بترك الذهاب إِلى مصر، وقال له: أَنا أكاتب السلطان في ذلك وأصلح القضايا. فامتنع الشَّيخ من ذلك وذكر له أَنَّ في توجهه لمصر مصلحة كبيرة، ومصالح كثيرة. فلما توجّه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته، حتَّى انتشروا من باب داره إِلى قرب الجسورة، فيما بين دمشق والكسوة، وهم ما بين باكٍ وحزين ومتفرّج ومتنزّه ومُزاحم مُغتالٍ فيه. فلما كَانَ يوم السبت دخل الشَّيخ تقي الدين غزة، فعمل بجامعها مجلسًا عظيمًا، ثمَّ رحلا معًا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلّقة. فدخلا مصر يوم الاثنين الثَّاني والعشرين من رمضان، وقيل إنّهما دخلاها يوم الخميس. فلما كَانَ يوم الجمعة بعد الصلاة عُقد للشيخ تقي الدين مجلس بالقلعة اجتمع فيه القُضاة وأكابر الدولة. وأراد أَن يتكلّم على عادته، فلم يُمكّن من البحث والكلام. وانتُدب له الشمس ابن عدلان خصمًا احتسابًا، وادّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أَنَّه يقول: إنّ الله فوق العرش حقيقةً، وأنّ الله يتكلم بحرف وصوت. فسأله القاضي جوابه. فأخذ الشَّيخ في حمد الله والثناء عليه، فقيل له: أجبْ، ما جئنا بك لتخطب. فقال: ومَنْ الحاكم فيَّ؟ فقيل له: القاضي المالكي. فقال: له الشَّيخ كيف تحكم فيَّ وأنت خصمي؟ فغضب غضبًا شديدًا، وانزعج، وأقيم مرسَّمًا عليه، وحُبس في بُرْج أيامًا، ثمَّ نُقل منه ليلة العيد إِلى الحبس المعروف بالجب، هو وأخواه شرف الدين عبد الله،

وزين الدين عبد الرَّحمن. وأما ابن صصري فإنّه جُدّد له توقيع بالقضاء باشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر. وعاد إِلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقته، والنفوس منه نافرة. وقرئ تقليده بالجامع. وبعده قُرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشَّيخ تقيّ الدين ومخالفته في العقيدة، وأن ينادي بذلك في البلاد الشامية، وألزم أهل مذهبه بمخالفته. وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير، وشيخه نصر المنبجي، وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء، وجرت فتنٌ كثيرة منتشرة، نعوذ بالله من الفتن!. وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة، وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مُزْجَى البضاعة، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابهم ما نالهم، وصارت حالهم حالهم. سنة (706) استهلت. . . والشيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة مسجون بالجبّ من قلعة الجبل. . . وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة. . . ووصل مع البريدي أيضًا كتاب فيه طلب الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمَلْكَاني إِلى القاهرة. فتوهّم من ذلك، وخاف أصحابه عليه، بسبب انتسابه إِلى الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة. فتلطّف يه نائب السلطنة، ودارى عنه حتَّى أُعْفِي من الحضور إِلى مصر ولله الحمد. وفي ليلة عيد الفطر أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر،

القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء. فالقضاةُ: الشَّافعيّ والمالكي والحنفي، والفقهاء الباجي والجَزَري والنِّمْرَاوي. وتكلّموا في إخراج الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة من الحبس. فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطًا في ذلك، منها أَنَّه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة، وأرسلوا اليه ليحضر ليتكلّموا معه في ذلك، فامتنع من الحضور وصمّم. وتكرّرت الرسل إِليه ست مرّات، فصمّم على عدم الحضور، ولم يلتفت إِليهم، ولم يَعِدْهم شيئًا، فطال عليهم المجلس. فتفرّقوا وانصرفوا غير مأجورين!! وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أُخْبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشَّيخ تقي الدين من الحبس الَّذي يُقال له: الجبّ. فأرسل في طلبه، فجيء به، فقُريء على الناس. فجعل يشكر الشَّيخ ويُثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزُهده. وقال: ما رأيتُ مثله. وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجّه إِلى الله، وأَنَّه لم يقبل من أحد شيئًا لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الإدارات ولا غيرها، ولا تدنّس بشيء من ذلك. وفي هذا الشهر، يوم الخميس السابع والعشرين منه، طُلِبَ أخَوَا الشَّيخ تقي الدين: شرف الدين وزيْن الدين من الحبس إِلى مجلس نائب السلطان سلاّر. وحضر نائبَ السَّلْطنةِ ابنُ مخلوف المالكيُّ. وجرى بينهم كلام كثير. فظهر شرف الدين بالحجّة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة. وخطَّأه في مواضع ادّعى فيها دعاوى باطلة. وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام، وفي مسألة النزول. وفي يوم الجمعة أُحْضِر شرف الدين أخو الشيخ تقي الدين وحده في مجلس نائب السلطنة سلاّر، وحضر ابنُ عدلان، وتكلم معه الشيخ شرف الدين وناظره وبحث معه، وظهر عليه أيضًا.

سنة (707) استهلت. . . والشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة معتقل بالجب من قلعة الجبل بمصر. وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة بالشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في دار الأوحدي من قلعة الجبل، وطال بينهما الكلام ثمَّ تفرقا قبل الصلاة، والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن. فلما كَانَ يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأَوَّل جاء الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى ملك العرب إِلى السجن بنفسه وأقسم على الشَّيخ تقي الدين ليخرجنّ إِليه، فلما خرج أقسم عليه ليأتينّ معه إِلى دار سلار، فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلاّر وجرت بينهم بحوث كثيرة، ثمَّ فرقت بينهم الصلاة، ثمَّ اجتمعوا إِلى المغرب وبات الشَّيخ تقي الدين عند سلاّر، ثمَّ اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار، ولم يحضر أحد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير، أكثر من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدين ابن الرفعة وعلاء الدين الباجي وفخر الدين ابن بنت أَبي سعد، وعز الدين النِّمراوي، وشمس الدين بن عدلان، وجماعة من الفقهاء، وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار، بعضهم بالمرض، وبعضهم بغيره، لمعرفتهم بما ابن تَيْمِيَّة منطوٍ عليه من العلوم والأدلة، وأن أحدًا من الحاضرين لا يطيقه، فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أَنْ رسم بحضورهم وانْفَصَل المجلس على خير، وبات الشَّيخ عند نائب السلطنة. وجاء الأمير حسام الدين مهنّا يريد أَنْ يستصحب الشَّيخ تقي الدين معه إِلى الشام، فأشار سلار بإقامة الشَّيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه، وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه.

وكتب الشَّيخ كتابًا إِلى الشَّام يتضمن ما وقع له من الأمور. قال البرزالي: وفي شوال منها شكا الصوفيةُ بالقاهرة على الشَّيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره إِلى الدولة، فردوا الأمر في ذلك إِلى القاضي الشَّافعيّ، فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت عليه منها شيء، لكنه قال: لا يستغاث إِلاَّ الله، ولا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسّل به ويُتَشفع به إِلى الله. فبعض الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيء، ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أَنَّ هذا فيه قلة أدب، فحضرت رسالة إِلى القاضي أَنْ يعمل معه ما تقتضيه الشريعة، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله. ثمَّ إِنَّ الدولة خيروه بين أشياء؛ إِمَّا أَنْ يسير إِلى دمشق أَو الإِسكندرية بشروط أَو الحبس، فاختار الحبس، فدخل عليه جماعة في السفر إِلى دمشق ملتزمًا ماشُرط، فأجاب أصحابه إِلى ما اختاروا جبرًا لخواطرهم، فركب خيل البريد ليلة الثامن عشر من شوال، ثمَّ أرسلوا خلفه من الغد بريدًا آخر، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: إِنَّ الدولة ما ترضى إِلاَّ بالحبس، فقال القاضي: وفيه مصلحة له. واستناب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له أَنْ يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحيَّر، فلما رأى الشَّيخُ توقفَهم في حبسه قال أَنا أمضي إِلى الحبس وأَتّبِع ما تقتضيه المصلحة. فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضع يصلح لمثله. فقيل له: الدولة ما ترضى إِلاَّ بمسمى الحبس، فأُرسل إِلى حبس القضاة، وأُجْلِس في المكان الَّذي أُجْلس فيه تقي الدين ابن بنت الأعزّ حين سُجن، وأذن له أَنْ يكون عنده من يخدمه، وكان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة،

فإنه كَانَ قد استحوذ على عقل الجاشنكير الَّذي تسلطن فيما بعد، وغيره من الدولة، والسلطان مقهور معه. واستمر الشَّيخ في الحبس يُستفتى ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوي المشكلة الَّتي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس، فيكتب عليها بما يحيّر العقول من الكتاب والسنة. ثمَّ عُقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله، ونزل الشَّيخ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكب الناس على الاجتماع به ليلاً ونهارًا. سنة (708) استهلّت. . . والشيخ تقي الدين قد أُخرج من الحبس (¬1)، والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلُّمًا وإفتاءً وغير ذلك. سنة (709) وفي ليلة سلخ صفر توجه الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من القاهرة إِلى الإِسكندرية صحبة أمير مقدَّم، فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف، فكان الناس يدخلون عليه ويشتغلون في سائر العلوم، ثمَّ كَانَ بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجوامع، وكان دخوله إِلى الإِسكندرية يوم الأحد، وبعد عشرة أيام وصل خبره إِلى دمشق، فحصل للناس عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه نصر المنبجي، فتضاعف له الدعاء، وذلك أنهم لم يمكّنوا أحدًا من أصحابه أَنْ يخرج معه إِلى الإِسكندرية فضاقت له الصدور، وذلك أَنَّه تمكّن منه عدوُه نصر المنبجي. وكان سبب عداوته له أّنَّ الشَّيخ تقي الدين كَانَ ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر ¬

_ (¬1) في المحققة: والشيخ في الحبس.

المنبجي، ويقول: زالت أيامه وانتهت رياسته، وقرب انقضاء أجله، ويتكلم فيها وفي ابن عربي وأتباعه. فأرادوا أَنْ يسيّروه إِلى الإِسكندرية كهيئة المنفيّ، لعل أحدًا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غِيلة فيستريح منه، فما زاد ذلك الناس إِلا محبة فيه وقُربًا منه، وانتفاعًا به، واشتغالاً عليه، وحُنوًّا وكرامة له. وجاء كتاب من أخيه يقول فيه: إنَّ الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط، فإِن أعداء الله قصدوا بذلك أمورًا يكيدونه بها ويكيدون الإِسلام وأهله، وكانت تلك كرامة في حقِّنا، وظنوا أَنَّ ذلك يؤدّي إِلى هلاك الشَّيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند عباده العارفين سود الوجوه، يتقطعون حسراتٍ وندمًا على ما فعلوا، وانقلب أهل الثغر أجمعين إِلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له، وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقرّ به أعينُ المؤمنين، وذلك شجىً في حلوق الأعداء، واتفق أَنَّه وجد بالاسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية، فمزق الله بقدومه عليهم شملهم، وشتت جموعهم شَذَرَ مَذَرَ، وهتك أستارهم وفضحهم، واستتاب جماعة كثيرة منهم، وتوّب رئيسًا من رؤسائهم، واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم - من أمير وقاض وفقيه، ومفتٍ وشيخ وجماعة المجتهدين، إِلاَّ من شذَّ من الأغمار الجهال، مع الذلة والصغَار - محبة الشَّيخ وتعظيمه وقبول كلامه والرجوع إِلى أمره ونهيه، فَعَلَتْ كلمةُ الله بها على أعداء الله ورسوله، ولُعنوا سرًّا وجهرًا وباطنًا وظاهرًا، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم، وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد، ونزل به من الخوف والذل ما لا يُعَبَّر عنه، وذكر كلامًا كثيرًا.

والمقصود أَنَّ الشَّيخ تقي الدين أقام بثغر الإِسكندرية ثمانية أشهر مقيمًا ببرج متسع مليح نظيف له شباكان أحدهما إِلى جهة البحر والآخر إِلى جهة المدينة، وكان يدخل عليه من شاء، ويتردّد إِليه الأكابر والأعيان الفقهاء، يقرأون عليه ويستفيدون منه، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر. وفي آخر ربيع الأَوَّل عزل الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمَلْكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إِلى ابن تَيْمِيَّة بإشارة المنبجي، وباشره شمس الدين عبد القادر بن الحظيري. وفي هذا الشهر [جمادى الآخرة] عزل عنها (أي: مشيخة سعيد السعداء) الشيخ كريم الدين الآملي؛ لأنه عزل منها الشهود فثاروا عليه، وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين، فرُسِم بصرفه عنهم، وعُومل بنظر ما كان يعامل به الناس، ومن جملة ذلك: قيامه على شيخ الإِسلام ابن تيمية، وافتراءه عليه بالكذب، مع جهله وقلة ورعه، فعجَّل الله له هذا الجزاء على يد أصحابه وأصدقائه جزاءً وفاقًا. قال الشَّيخ علم الدين البرزالي: ولما دخل السلطان إِلى مصر يوم عيد الفطر، لم يكن له دأب إِلاَّ طلب الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من الإِسكندرية معزَّزًا مكرَّمًا مُبجَّلاً،، فوجه إِليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أَو يومين، فقدم الشَّيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر، وخرج مع الشَّيخ خلق من الإِسكندرية يودعونه، واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقّاه ومشى إِليه في مجلس حافل، فيه قضاة المصريين والشاميين، وأصلح بينه وبينهم، ونزل الشَّيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والناس يترددون إِليه، والأمراء والجند وجماعة كثيرة من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر إِليه

ويتنصل مما وقع منه، فقال أَنا قد حاللتُ كل من آذاني. قلت: وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس، وما وقع فيه من إكرام الشيخ تقي الدين، وما حصل له من الشكر والمدح من السلطان، وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة صدر الدين الحنفي، ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلاً، وذلك أَنَّه كَانَ إذ ذاك قاضي العساكر، وكلاهما كَانَ حاضرًا هذا المجلس، ذكر لي: أَنَّ السلطان لما قدم عليه الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة نهض قائمًا للشيخ أول ما رآه، ومشى له إِلى طرف الإيوان واعتنقا هناك هُنيهةً، ثمَّ أخذ بيده فذهب به إلى صُفَّةٍ فيها شباك إِلى بستان فجلسا ساعة يتحدَّثان، ثمَّ جاء ويد الشَّيخ في يد السلطان، فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر، وعن يساره ابن الخليلي الوزير، وتحته ابن صصري، ثمَّ صدر الدين عليّ الحنفي، وجلس الشَّيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته، وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إِلى لبس العمائم البيض بالعلائم، وأنهم قد التزموا للديوان بسبه مائة ألف في كل سنة، زيادة على الجالية (¬1)، فسكت النَّاس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزَّمْلَكاني، فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة، فقال لهم السلطان: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك، فلم يتكلم أحد، فجثي الشَّيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ، وردّ على الوزير ما قاله ردًّا عنيفًا، وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويُسكته بترفق وتودد ¬

_ (¬1) وهو ما يؤخذ من أهل الذمة من الجزية المقررة عليهم كل سنة. (صح الأعشى 3/ 458).

وتوقير. وبالغ الشَّيخ في الكلام وقال مالا يستطيع أحد أن يقوم بمثله، ولا بقريب منه، وبالغ في التشنيع على من يوافق على ذلك. وقال للسلطان: حاشاك أَنْ يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية، فاذكر نعمة الله عليك إذ ردَّ مُلكك إليك، وكبت عدوك ونصرك على أعدائك. فذكر أَنَّ الجاشنكير هو الَّذي جدد عليهم ذلك، فقال: والذي فعله الجاشنكير كَانَ من مراسيمك؛ لأَنَّه إِنَّما كَانَ نائبًا لك. فأعجب السلطان ذلك واستمرَّ بهم على ذلك، وجرت فصول يطول ذكرها. وقد كَانَ السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين، وبعلمه ودينه وقيامه بالحق وشجاعته. وسمعتُ الشَّيخ تقي الدين يذكر ما كَانَ بينه وبين السلطان من الكلام لمَّا انفردا في ذلك الشباك الَّذي جلسا فيه، وأن السلطان استفتى الشَّيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه، وأَخْرَجَ له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير، وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضًا، وأخذ يحثه بذلك على أَنْ يفتيه في قتل بعضهم، وإنما كَانضَحَنَقُه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله مبايعة الجاشنكير، ففهم الشَّيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أَنْ ينال أحدًا منهم سوء، وقال له: إِذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلَهم، فقال له: إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارًا. فقال الشَّيخ: من آذاني فهو في حِلٍّ، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي، وما زال به حتَّى حَلُم عنهم وصَفَح. قال: وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابن تَيْمِيَّة حرَّضْنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا. ثمَّ إِنَّ الشَّيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إِلى القاهرة وعاد إِلى بث

العلم ونشره، وأقبلت الخلق عليه ورحلوا إِليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة وبالقول، وجاءته الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال: قد جعلت الكل في حلّ، وبعث الشَّيخ كتابًا إِلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير، ويطلب منهم جملة من كتب العلم الَّتي له، ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي، فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب الَّتي أشار إِليها، وقال في هذا الكتاب: والحق كل ماله في علو وازدياد وانتصار، والباطل في انخفاض وسفول واضمحلال، وقد أذلّ الله رقاب الخصوم، وطلب أكابرهم من السلم ما يطول وصفه، وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الإِسلام والسنة، وما فيه قمع الباطل والبدعة، وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم، حتَّى يظهر إِلى الفعل، فلم نثق لهم بقول ولا عهد، ولم نجبهم إِلى مطلوبهم حتَّى يصير المشروط معمولاً، والمذكور مفعولاً، ويظهر من عز الإِسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات الَّتي تمحو سيئاتهم، وذكر كلامًا طويلاً يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم، وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار والله سبحانه أعلم. سنة (710) استهلّت. . . والشيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة مقيم بمصر معظمًا مكرّمًا. سنة (711) استهلّت والحكام هم المذكورون في الَّتي قبلها. . . وقد انتقل الأفرم

إِلى نيابة طرابلس باشارة ابن تَيْمِيَّة على السلطان بذلك. وفي هذا الشهر [جمادى الأولى] قُرّر على أهل دمشق ألف وخمس مئة فارس. ولكل فارس خمس مئة درهم، وضُربت على الأملاك والأوقاف. فتألم الناس من ذلك تألمًا عظيمًا. وسعوا إِلى الخطيب جلال الدين [القزويني] فسعى إِلى القضاة، واجتمع الناس بُكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر، واختلفوا في الاجتماع، وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفتية. ووقفوا في الموكب. فلما رآهم النائب تغيّظ عليهم وشتم القاضي والخطيب. وضرب مجد الدين التونسي، ورسم عليهم، ثمَّ أطلقهم بضمان وكفالة فتألم الناس من ذلك كثيرًا. فلم يمهله الله إلاّ عشرة أيّام، فجاءه الأمر فجأة فعُزل، وحُبس. ففرح الناس بذلك فرحًا شديدًا. ويُقال إِنَّ الشَّيخ تقيّ الدِّين لما بلغه ذلك الخبر عن أهل الشَّام، فأخبر السلطان بذلك فبعث من فَوْره فمسكه شرّ مِسْكَة. . . سنة (712) وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر، وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين لاجين الصغير، الَّذي كَانَ والي البرّ، وقدمت العساكر المنصورة المصرية أرسالاً، وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق يوم الثلاثاء ثالث عشري شوال، واحتفل الناس لدخوله، فنزل بالقلعة وقد زين البلد ودقت البشائر، ثمَّ انتقل بعدُ ليلتئذ إِلى القصر وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة وخلع على الخطيب، وجلس في دار العدل يوم الاثنين، وقدم وزيره أمين المُلْك يوم الثلاثاء عشري الشهر، وقدم صحبة السلطان

الشَّيخ الإِمام العلامة تقي الدين أَبو العبَّاس أحمد ابن تَيْمِيَّة إِلى دمشق يوم الأربعاء مستهل ذي القعدة وكانت غيبته عنها سبع سنين كوامل، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه وسُرُّوا بقدومه وعافيته ورؤيته، واستبشروا به حتَّى خرج خلق من النساء أيضًا لرؤيته. وقد كَانَ السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة، لما تحقق عدم الغزاة وأن التتر قد رجعوا إِلى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أيامًا، ثمَّ سافر على عجلون وبلاد السواد وزُرَع، ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة، فدخلها فوجد السلطان قد توجه إِلى الحجاز الشريف في أربعين أميرًا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة، ثمَّ إِنَّ الشَّيخ بعد وصوله إِلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازمًا لاشغال الناس في سائر العلوم ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة والاجتهاد في الأحكام الشرعية، ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إِليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم، وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إِليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصَّحابة والسلف. سنة (714) وفي المحرم استحضر السلطان إِلى بين يديه: الفقيه نور الدين عليًّا البكري، وهمّ بقتله، وشفع فيه الأمراء، فنفاه، ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم، وكان قد هرب لما طلب من جهة الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة فهرب واختفى، وشُفع فيه أيضًا. . . [وفيها] توفيت الشيخة الصالحة. . . أم زينب فاطمة بنت عباس بن

أَبي الفتح. . . (وَذكّر من فضلها)، وقد كانت تحضر مجلس الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة فاستفادت منه. . . وقد سمعتُ الشَّيخ تقي الدين يُثني عليها، ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرًا من «المغني» أَو أكثره وأَنَّه كَانَ يستعدّ لها من كثرة مسائلها، وحُسن سؤالاتها وسرعة فهمها. سنة (715) [توفي فيها] الحكيم الفاضل البارع بهاء الدين عبد السيد. . . الطبيب. . . أسلم على يدي شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة، لما بيَّن له بطلان دينهم وما هم عليه، وما بدّلوه من كتابهم وحرَّفوه من الكلم عن مواضعه - رحمه الله -. سنة (716) توفي الشَّيخ الصدر بن الوكيل، وهو العلاّمة أَبو عبد الله محمَّد بن الشَّيخ الإِمام مفتي المسلمين زين الدين عمر بن مكي بن عبد الصمد المعروف بابن المُرَحِّل وبابن الوكيل، شيخ الشافعية في زمانه. . . وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تَيْمِيَّة، ويُناظره في كثير من المحافل والمجالس. وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويُثني عليه، ولكنه كَانَ يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه، ويُنافح عن طائفته. وقد كَانَ شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة يثني عليه وعلى علومه وفضائله، ويشهد له بالإسلام إِذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة، وكان يقول: كَانَ مخلّطا على نفسه، متبعًا مراد الشيطان منه، يميل إِلى الشهوة والمحاضرة. . .

[وتوفيت] الشيخة الصالحة ست النعم بنت عبد الرَّحمن بن عليّ ابن عبدوس الحرّانية، والدة الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة. عمرت فوق التسعين سنة. وكانت من الصالحات، ولدت تسع بَنِين. ولم ترزق بنتًا قط. توفيت يوم الأربعاء العشرين من شوال ودُفنت بالصوفية، وحضر جنازتها خلق كثير وجمٌ غفير. رحمها الله. سنة (717) في صفر شُرع في عمارة الجامع الَّذي أنشأه ملك الأمراء سيف الدين تنكز نائب الشَّام ظاهر باب النصر تجاه حكر السمّاق، على نهر بانياس بدمشق. وتردّد القضاة والعلماء في تحرير قبلته، فاستقرّ الحال في أمرها على ما قاله الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في يوم الأحد الخامس والعشرين منه، وشرعوا في بنائه بأمر السلطان ومساعدته لنائبه في ذلك. وفي التاسع عشر منه [شوال] درّس ابن الزَمْلَكاني بالعذراوية عوضًا عن ابن سلام. وفيه درّس الشيخ شرف الدين ابن تَيْمِيَّة بالحنبلية عن إذن أخيه له في ذلك بعد وفاة أخيهما لأمهما بدر الدين قاسم بن محمَّد ابن خالد. ثمَّ سافر الشَّيخ شرف الدين إِلى الحج. وحضر الشَّيخ تقي الدين ابن تيمية الدرس بنفسه، وحضر عنده خلق كثير من الأعيان وغيرهم حتَّى عاد أخوه، وبعد عوده أيضًا. وفي ذي القعدة يوم الأحد درس بالصمصامية. . . الفقيه نور الدين على بن عبد النصير المالكي، وحضر عنده القضاة والأعيان وممن حضر عنده الشيخ تقي الدين ابن تيمية وكان يعرفه من إسكندرية.

سنة (718) قال الشَّيخ علم الدين: وفي يوم الخميس منتصف ربيع الأوّل اجتمع قاضي القضاة شمس الدين بن مُسَلَّم بالشيخ الامام العلاّمة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، وأشار عليه في ترك الإفتاء في مسألة الحَلِف بالطلاق، فقبل الشَّيخ نصيحته، وأجاب إِلى ما أشار به، رعاية لخاطره وخواطر الجماعة المفتين. ثمَّ ورد البريد في مستهلّ جمادى الأولى بكتاب من السلطان فيه منع الشَّيخ تقي الدين من الافتاء في مسألة الحلف بالطلاق. وانعقد بذلك مجلس. وانفصل الحالُ على ما رسم به السلطان. ونودي به في البلد. وكان قبل قدوم المرسوم قد اجتمع بالقاضي ابن مسلَّم الحنبلي جماعة من المفتين الكبار، وقالوا له أَنْ ينصح الشَّيخ في ترك الإفتاء في مسألة الطلاق، فعلم الشَّيخ نصيحته، وأَنَّه إِنَّما قصد بذلك ترك ثوران فتنة وشرّ. سنة (719) ولما كَانَ يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رمضان اجتمع القضاة وأعيان الفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة، وقريء عليهم كتاب من السلطان يتضمّن منع الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من الفتيا بمسألة الطلاق. وانفصل المجلس على تأكيد المنع في ذلك. سنة (720) وفي يوم الخميس ثاني عشري رجب عُقد مجلس بدار السعادة

للشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة بحضرة نائب السلطنة، واجتمع فيه القضاة والمفتون من المذاهب. وحضر الشَّيخ، وعاتبوه على العود إِلى الإفتاء بمسألة الطلاق. ثمَّ حُبس الشيخ يومئذٍ بالقلعة. سنة (721) وفي يوم عاشوراء خرج الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من القلعة بمرسوم السلطان وتوجّه إِلى داره. وكانت مدّة إقامته خمسة أشهر وثمانية عشر يومًا. - رحمه الله -. سنة (725) وفي [ربيع الأَوَّل] مُنع شهاب الدين بن مرّي البعلبكِّي من الكلام على الناس بمصر على طريقة الشَّيخ تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة. وفي يوم الأربعاء ثاني عشر شوال درّس الشَّيخ شمس الدين ابن الأصبهاني بالرواحية بعد ذهاب ابن الزَّمْلَكاني إِلى حلب. وحضر عنده القضاةُ والأعيان. وكان فيهم شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة. وجرى يومئذ بحث في العام إِذا خُصّ، وفي الاستثناء بعد النفي، ووقع انتشار وطال الكلام في ذلك المجلس. وتكلّم الشَّيخ تقي الدين كلامًا أبهت الحاضرين. سنة (726) وفي يوم الثلاثاء حادي عشري ربيع الأَوَّل بكرةَ النهار ضُربت عُنق ناصر ابن الشرف أَبي الفضل بن إسماعيل بن الهيتي بسوق الخيل على

كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان، والشمس محمد الباجربقي وابن المعمار البغدادي، وكل منهم فيه انحلال وزندقة، مشهور بها بين الناس. . . قلت: وقد شهدتُ قتله. وكان شيخنا العلامة أَبو العبَّاس ابن تَيْمِيَّة حاضرًا يومئذ. وقد أتاه وقرّعه على ما كَانَ يصدر منه قبل قتله، ثمَّ ضُربت عُنُقه وأنا مشاهد ذلك. قال البرزالي: وفي يوم الاثنين بعد العصر السادس من شعبان اعتُقل الشَّيخ الإمام العالم العلاّمة تقيّ الدين ابن تَيْمِيَّة بقلعة دمشق، وأخبراه أَنَّ مرسوم السلطان [الملك الناصر] ورد بذلك وأحضرا معهما مركوبًا ليركبه، فأظهر السرور والفرح بذلك، وقال أَنا كنتُ منتظرًا لذلك، وهذا فيه خيرٌ كثير ومصلحة كبيرة. وركبوا جميعًا من داره إِلى باب القلعة، وأُخليت له قاعة، وأجري إليها الماء، ورُسم له بالإقامة فيها. وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورُسم له بما يقوم بكفايته. قال البرزالي: وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قريء بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد باعتقاله ومنعه من الفتيا. وهذه الواقعة سببُها قتيا وُجدت بخطّه في المنع من السفر، وإعمال المطيّ إِلى زيارة قبور الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وقبور الصالحين. قال: وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر قاضي القضاة الشَّافعيّ بحبس جماعة من أصحاب الشَّيخ تقي الدين في سجن الحكم. وذلك بمرسوم نائب السلطنة وإذنه له، فيما تقتضيه الشريعة في أمرهم. وعزّر جماعة منهم على دوابّ، ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا. سوى الشمس

الدين محمَّد ابن قيّم الجوزية فإنه حُبس بالقلعة. وسكنت القضية. وفي يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة درّس بالحنبلية برهان الدين إبراهيم أَحمد بن هلال الزرعي الحنبلي، بدلاً عن شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة، وحضر عنده القاي الشَّافعيّ وجماعة من الفقهاء وشق ذلك على كثير من أصحاب الشَّيخ تقي الدين، وكان ابن الخطيري الحاجب قد دخل على الشَّيخ تقي الدين قبل هذا اليوم فاجتمع به وسأله عن أشياء بأمر نائب السلطنة. ثمَّ يوم الخميس دخل إليه القاضي جمال الدين بن جُمْلة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فَكَتَب ذلك في دَرَجٍ وكتب تحته قاضي الشافعيه بدمشق: قابلتُ الجوابَ عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تَيْمِيَّة فصح. . . إِلى أَنْ قال: وإنما المَحَزُّ جعله زيارة قبر النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعًا. فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإِسلام، فإِنَّ جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذكر قولَين في شدّ الرحال والسفر إِلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شدِّ رحلٍ إِليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألةٌ أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شدِّ رحلٍ، بل يستحبُّها ويندب إِليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إِلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال: إِنَّها معصية، ولا حكى الإِجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا تخفى عليه خافية، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}.

سنة (727) [توفي فيها] الشَّيخ كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني. . . وله مجلّد كبير في الرد على الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّةة في مسألة الطلاق. . . وكان من نيته الخبيثة إِذا رجع إِلى الشَّام متولِّيًا: أَن يؤذي شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة، فدعا عليه، فلم يبلغ أمله ومراده، فتوفي. . . سنة (728) (وفاة شيخ الإِسلام أَبي العبَّاس تقي الدين أَحمد ابن تَيْمِيَّة قدس الله روحه). قال الشَّيخ علم الدين البرزالي في «تاريخه»: وفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي الشَّيخ الإمام العلاّمة الفقيه الحافظ القدوة شيخ الإِسلام تقي الدين أَبو العبَّاس أَحمد ابن شيخنا الامام العلامة المفتي شهاب الدين أَبي المحاسن عب الحليم ابن الشَّيخ الإمام شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن أَبي القاسم محمَّد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن عليّ بن عبد الله ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي، بقلعة دمشق بالقاعة الَّتي كَانَ محبوسًا بها، وحضر جمعٌُ كثير إِلى القلعة، وأُذن لهم في الدخول، وجلس جماعة عنده قبل الغسل،، وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثمَّ انصرفوا، ثمَّ حضر جماعة من النساء ففعلوا مثل ذلك، ثمَّ انصرفن، واقْتُصِر على من يغسله، فلما فُرِغَ من غسله أُخرج. وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إِلى الجامع، وامتلأ الجامع وصحنُه والكلاّسة وبابُ البريد وبابُ الساعات إِلى اللبّادين والفوّارة، وحضرت الجنازة في الساعة

الرابعة من النهار أَو نحو ذلك، ووُضعت في الجامع، والجند يحفظونها من النَّاس من شدة الزحام، وصُلِّي عليه أَوّلاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه الشَّيخ محمَّد بن تمام، ثمَّ صُلِّي عليه بالجامع الأموي عقيب صلاة الظهر، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم وثيابهم، وذهبت النِّعالُ من أرجل الناس وقباقيبهم ومناديل وعمائم، لا يلتفتون إِليها لشغلهم بالنظر إِلى الجنازة، وصار النعش على الرؤوس تارة يتقدّم وتارة يتأخر، وتارة يقف حتَّى تمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلِّها، وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدَّة الزِّحام فيها، لكن كَانَ معظم الزحام من الأبواب الأربعة: باب الفرج الَّذي أخُرجت منه الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية. وعَظُمَ الأمرُ بسوق الخيل وتضاعف الخلقُ وكثُر الناس، ووُضعت الجنازة هناك وتقدم للصلاة هناك أخوه زين الدين عبد الرَّحمن، فلما قُضيت الصلاة حُمل إِلى مقبرة الصوفية فدُفن إِلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله رحمهما الله. وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين وأهل الغوطة وأهل القرى وغيرهم، وأغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلّف عن الحضور إلاّ مَنْ هو عاجز عن الحضور، مع الترحم والدعاء له، وأَنَّه لو قدر ما تخلف، وحضر نساء كثيرات بحيث حُزِرْنَ بخمسة عشر ألف امرأة، غير اللاتي كُنّ على الأسطحة وغيرهن، الجميع يترحمن ويبكين عليه فيما قيل. وأما الرجال فحُزروا بستين ألفًا إِلى مائة ألف إِلى أكثر من ذلك إِلى مائتي ألف. وشرب جماعةٌ الماء الَّذي فَضَل من غسله، واقتسم الناس بقية السدر الَّذي غُسل به، ودُفع

من الخيط الَّذي كَانَ فيه الزئبق الَّذي كَانَ في عنقه بسبب القمل مائة وخمسون درهمًا، وقيل: إِنَّ الطاقية الَّتي كانت على رأسه دُفع فيها خمس مئة درهم. وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير، وتضرّع، وختُمت له ختمات كثيرة بالصالحية وبالبلد، وتردّد الناس إِلى قبره أيامًا كثيرة ليلاً ونهارًا يبتون عنه ويصبحون!! ورؤيت له منامات صالحة كثيرة، ورثاه جماعة بقصائد جمة. وكان مولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل بحران سنة إِحدى وستين وست مئة، وقدم مع والده وأهله إِلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم، وابن أَبي اليسر، وابن عبدٍ والشيخ شمس الدين الحنبلي، والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين ابن الصيرفي، ومجد الدِّين بن عساكر، والشَّيخ جمال الدين البغدادي، والنجيب بن المقداد، وابن أَبي الخير، وابن علان، وابن أبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، والفخر عليّ، وابن شيبان، والشرف ابن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير سمع منهم الحديث وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث، وكتب الطِباق والأثبات، ولازم السماع بنفسه مدة سنين، وقل أَنْ سمع شيئًا إِلاَّ حفظه، ثمَّ اشتغل بالعلوم، وكان ذكيًا كثير المحفوظ، فصار إمامًا في التفسير وما يتعلق به، عارفًا بالفقه، وكان عالمًا باختلاف العلماء، عالمًا في الأصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قُطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إِلاَّ ظنّ أَنَّ ذلك الفن فنه، ورآه عارفًا به متقنًا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظًا له متنًا وإسنادًا مميّزًا بين صحيحه وسقيمه، عارفًا برجاله، متضلِّعًا من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، كمل منها جملة، وبيّضت

وكتبت عنه وقرئت عليه أَو بعضها، وجملة كبيرة لم يُكملها، وجملة كملها ولم تُبيّض إِلى الآن. وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخوييّ، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري، وابن الزَّمْلَكاني وغيره. ووجدت بخط ابن الزَّمْلَكاني أَنَّه قال: اجتمعتْ فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها، وأنَّ له اليد الطولى في حسن التَّصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ هو حجةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبةُ الدهرِ هو آيةٌ في الخلق ظاهرةٌ ... أنوارُها أرْبَتْ على الفجرِ وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو الثلاثين سنة. وكان بيني وبينه مودة وصحبة من الصغر، وسماع الحديث والطلب من نحو خمسين سنة. وله فضائل كثيرة، وأسماء مصنفاته وسيرته وما جرى بينه وبين الفقهاء والدولة وحبسه مرات، وأحواله لا يحتمل ذكر جميعها هذا الموضع، وهذا الكتاب. ولما مات كنت غائبًا عن دمشق بطريق الحجاز الشريف، ثمَّ بلغنا خبر موته بعد وفاته بأكثر من خمسين يومًا لما وصلنا إِلى تبوك، وحصل التأسف لفقده رحمه الله تعالى. هذا لفظه في هذا الموضع من «تاريخه». ثمَّ ذكر الشَّيخ علم الدين في «تاريخه» بعد إِيراد هذه الترجمة جنازة أَبي بكر بن أَبي داود وعظمها، وجنازة الامام أَحمد ببغداد وشهرتها، وقال الإِمام أَبو عثمان الصابوني: سمعت أَبا عبد الرَّحمن الصوفي يقول: حضرت جنازة أَبي الفتح القواس الزاهد مع الشَّيخ أَبي الحسن

الدارقطني، فلما بلغ إِلى ذلك الجمع العظيم أقبل علينا وقال: سمعتُ أَبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعتُ عبد الله بن أَحمد بن حنبل يقول: سمعت أَبي يقول: قولوا لأهل البِدَع بيننا وبينكم الجنائز. قال: ولا شكّ أَنَّ جنازة أَحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك، وتعظيمهم له، وان الدولة كانت تحبه، والشيخ تقي الدين رحمه الله توفي ببلده دمشق، وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعًا لو جمعهم سلطان قاهر، وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة الَّتي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها. هذا مع أَنَّ الرَّجل مات بالقلعة محبوسًا من جهة السلطان، وكثير من الفقهاء يذكرون عنه للناس أشياء كثيرة، مما ينفر منها طباع أهل الأديان، فضلاً عن أهل الإِسلام، وهذه كانت جنازته. قال: وقد اتفق موتُه في سحر ليلة الاثنين المذكور، فذكر ذلك مؤذنُ القلعة على المنارة بها، وتكلّم به الحراسُ على الأبرجة، فما أصبح الناس إلاّ وقد تسامعوا بهذا الخَطْب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناسُ على الفور إِلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيءُ منه، حتَّى من الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتي من شأنها أَنْ تفتح أوائل النهار على العادة، وكان نائب السلطنة سيف الدين تنكز قد ذهب يتصيّد في بعض الأمكنة، فحارت الدولة ماذا يصنعون، وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه، وجلس عنده، وفُتح باب القلعة وباب القاعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب، فاجتمع عند الشَّيخ في قاعته خلق من أخصّاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية، فجلسوا حوله يبكون ويثنون.

على مِثْل ليلى يقتلُ المرء نفسَه وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزّي رحمه الله، وكشفتُ عن وجْه الشَّيخِ ونظرتُ إِليه وقبّلتُه، وعلى رأسه عمامة بعذب مغروزة، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه. وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرَّحمن أَنَّه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمةً وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا فيها إِلى آخر اقتربت الساعة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر/ 54 - 55]. فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيّران عبد الله بن المحب، وعبد الله الزرعي الضرير - وكان الشَّيخ رحمه الله يحب قراءتهما - فابتدآ من أول سورة الرَّحمن حتَّى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى. ثمَّ شرعوا في غسل الشَّيخ، وخرجتُ إِلى مسجدٍ هُناك، ولم يمكث عنده إلاّ مَنْ ساعد في غسله، منهم شيخنا الحافظ المزّي وجماعة من كبار الصالحين الأخيار، أهل العلم والإيمان، فما فُرغ منه حتَّى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحّم، ثمَّ ساروا به إِلى الجامع، فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة، ثمَّ عطفوا إلى باب الناطفانيين وذلك أَنَّ سويقة باب البريد كانت قد هُدمت لتُصلح، ودخلوا بالجنازة إِلى الجامع الأموي، والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدّتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أئمة السُنّة! فتباكى الناسُ وضَجّوا عند سماع هذا الصارخ. ووُضع الشيخُ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصًّا لا يتمكّنُ أحدٌ من الجسود إِلاَّ بكُلفة،

جُوّا الجامع وبرّا الأزقة والأسواق، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الماس من كل مكان، ونوى خلقٌ الصيام لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثُر الناسُ كثرةً لا تُحَدُّ ولا توصف. فلما فرغ من أذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السُدّة خلاف العادة، فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلّى عليه إمامًا، وهو الشَّيخ علاء الدين بن الخرّاط، ثمَّ خرج الناس من كل مكان من أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا، واجتمعوا بسوق الخيل، ومن الناس تعجل بعد أَن صلى في الجامع إِلى مقابر الصوفية، والناس في بكاء وتهليل في مخافتةٍ كل واحد بنفسه، وفي ثناء وتأسف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إِلى المقبرة يبكين ويدعين وَيَقُلْنَ: هذا العالم. وبالجملة كَانَ يومًا مشهودًا لم يُعهد مثله بدمشق إِلاَّ أَنْ يكون في زمن بني أُميَّة حين كَانَ الناس كثيرين. وكانت دار الخلافة. ثمَّ دُفن عند أخيه قريبًا من أذان العصر على التحديد، ولا يمكن أحدًا حصر مَنْ حضر الجنازة، وتقريب ذلك أَنَّه عبارة عمن أمكنه الحضور من أهل البلد وحواضره، ولم يتخلف من الناس الا القليل من الصِّغار والمخدّرات، وما علمتُ أحدًا من أهل العلم إِلاَّ النفر اليسير تخلّف عن الحضور في جنازته، وهم ثلاث أنفس: وهم ابن جملة، والصدر، والقحفازي، وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته من الناس خوفًا على أنفسهم، بحيث أنهم علموا متى خرجوا قُتلوا وأهلكهم الناس، وتردد شيخنا الإمام العلامة برهان الدين الفزاري إِلى قبره في الأيام الثلاثة، وكذلك جماعة من علماء الشافعية، وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكبًا على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله. وعُملت له ختمات كثيرة، ورؤيت له مناماتٌ باهرة صالحة عجيبة،

ورُثي بأشعار كثيرة وقصائد مطوّلة جدًا. وقد أفردتْ له تراجمُ كثيرة، وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وغيرهم، وسنحصر من مجموع ذلك ترجمة وجيزة في ذكر مناقبه وفضائله وشجاعته وكرمه ونصحه وزهادته وعبادته وعلومه المتنوعة الكثيرة المجودة وصفاته الكبار والصغار، الَّتي احتوت على غالب العلوم ومفرداته في الاختيارات الَّتي نَصَرَها بالكتاب والسنة وأفتى بها. وبالجملة؛ كَانَ رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطيء ويُصيب، ولكن خطأه بالنسبة إِلى صوابه كنقطة في بحر لُجّي، وخطأه أيضًا مغفور له كما في «صحيح البخاريّ»: «إِذا اجتهد الحَاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فهو مأجور. وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويُترك إلاّ صاحبَ هذا القبر. وسنفرد له ترجمة على حدة إن شاء الله تعالى.

35 - نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون

نزهة العيون في تاريخ طوائف القرون (¬1) للملك/ الأفضل عباس بن علي بن داود بن رسول (778) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيميَّة. عالم العصر، شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، تقي الدين الحراني ثم الدمشقي الحنبلي الحافظ المفسِّر، صاحب التصانيف. ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة. سمع من جماعةٍ كثيرة، وبرع في الفقه والخلاف وضبط المذاهب، وكان عارفًا بالعربية والتفسير والأصول والشرع، يتوقد ذكاءً، قوَّالاً بالحق، ناهيًا عن المنكر، مجاهدًا في ذات الله بنفسه ويده ولسانه. حُبِسَ مدة ثم أُخْرِج، ثم حُبِس ثم أُخْرِج، فأفتى بعد ذلك وصنف، ثم قدم دمشق فاعتُقِل بالقلعة، وقاسا شِدَّة. وكان موصوفًا بالقناعة والتعفُّف والسخاء والجود والذكاء والعقل والشجاعة والإقدام والجهاد والزهد، قليل الراحة والتنعُّم، لم يُر في حياته إلا كاتبًا أو ذاكرًا أو متوجهًا أو ناشرًا للعلم أو مُتكلِّمًا بفائدة، قليل/ النوم، مُكِبًّا على العلم مُذْ نَشَأ، قليل الأكل، لم يتزوج قط ولا ¬

_ (¬1) (ق/ 92 ب- 93 أ) نسخة دار الكتب المصرية 351 تاريخ.

تسرَّى، ولم يكمل أحدٌ من العالم كما كَمُل: هيهاتَ لا يأْتي الزَّمانُ بمثلِه ... إنَّ الزَّمانَ بِمِثْلِه لَعَدِيْمُ توفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وهو في ثمانٍ وستين (¬1) سنة، وذلك في القلعة، ثم أُخرج فشهده خَلْق لا يُحْصَون، وشيعه من أربعة أبواب دمشق؛ بابُ الفرج ومنه أُخْرِج، وبابُ الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وكان في هذه الأبواب الازدحام الكُلِّي الذي لا يوصَف ولا يَعْلَم قدرَهم إلا الله، وكان النساء على السقوف وفي الطرق مثل دخول الرَّكْب، وحُمِل على الرؤوس، وصلى الناسُ عليه في الجامع كصلاة الجمعة سواء، ودُفن بمقابر الصوفية إلى جانب أخيه، حضر الجمع تسعين ألفًا وقيل: مئتي ألف، وكثر البكاء والضجيج والتأسُف عليه والحُزْن، وامتنع جماعةٌ كثيرة من الصلاة عليه تديُّنًا وإنما الأعمال بالنيات (¬2)، ورُثي بقصائد حسنة، ورُئي له منامات جيِّدة - رحمه الله ونفع به -. ¬

_ (¬1) في النسخة: وستون. (¬2) وهذا مخالف لما ذكره معاصروه ومن شهدوا دفنه، بل نص ابن كثير أنه لم يتخلف عن الصلاة عليه إلا ثلاثة خوفًا من الناس.

العلامة/ الحسن بن عمر بن الحسن بن حبيب (779) - تذكرة النبيه في دولة المنصور وبنيه - دُرَّة الأسلاك في دولة الأتراك

36 - تذكرة النبيه في دولة المنصور وبنيه

تَذْكِرَةُ النَّبِيْهِ في دَوْلة المنصورِ وبَنِيْهِ (¬1) وفي ذي القَعْدة منها؛ توفّي شيخ الإسلام تقيّ الدِّين أَبو العبّاس أَحمد بن الشيخ شهاب الدين، أَبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين، أَبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم محمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي، عن سبع وستين سنة، بقلعة دمشق المحروسة معتقلاً، وشيَّع جنازته خلق كثير أَقلّ ما حُزِروا بستين أَلفًا، كان تغمّده الله برحمته حابًا يسحب ذيله على الطالب والوافد، وعُبابًا لا تكدره دِلاء الصّادر والوارد، وبحرًا زاخرًا في النَّقليات، وحبرًا متلفِّعًا بحبرات العقليات، وإِمامًا في معرفة الكتاب والسُّنة، وهُمامًا لا يميل إِلى حلاوة من المنة، ذا ورعٍ زائد، وزهد فَرْعه في روض الرِّضى مائد، وسخاء وشجاعة، وعزة وقناعة، وتصانيف مشهورة، وفتاوٍ أَعلامها منشورة، ومعارف موادّها وافية، وإِعراض عن الدنيا بالجملة الكافية، لا يكترِث بنضرتها وبهجة نضارها، ولايلتفت إِلى المنقوش من درهمها ودينارها، يصدع بالحقِّ، ويتكلَّم فيما جلَّ ودقَّ. ويأْمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويثابر على إِقامة الحقِّ والحدِّ، إِن شكر وإِن لم يُشكر، اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، وبلغ من اجتناء ثمر أَفنان الفنون غاية المراد. وكان من العلوم بحيث يُقضى ... لَه في كُلِّ علمٍ بالجميع ¬

_ (¬1) (1/ 185 - 188) طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ورثاه جماعة، وقال الشَّيخ زين الدين عمر بن الوردي: عَثَا في عرضه قوم سِلاط ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ تقيُّ الدِّين أَحمدُ خيرُ حبرٍ ... خُروق المعضلات به تخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فريد ... وليس له إِلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قضى لألفَوا ... ملائكةَ النِّعيم به أَحاطوا فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ ... ويالله ما غطى البلاط هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسالى ... ولكن في أذاه لهم نشاط وحبس الدر في الأصداف فخر ... وعند الشيخ بالسجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا إمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقفٌ عليه ولا رِباط ولا جاراكم في كَسْب مال ... ولم يُعهد له بكم اختلاط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونيتكم إذا نُصب الصراط فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانطوى ذاك البساط من نظم الشَّيخ تقي الدِّين بن تيميَّة أَبياتًا قالها في قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مُنْجيات وثلاثٌ مُهْلِكَات» الحديث:

عليك بخوف الله في السرِّ والجهر ... وبالقصد للإنفاق في العسر واليسر وبالعدلِ إِن تغضب وإِن تكُ راضيًا ... فهن ثلاثٌ منجيات من الشرِّ وإِياك والشُّح المطاع ولا تكن ... بمتَّبع الأَهوا فترجع بالخسر وعَدِّ عن الإعجاب بالنفس إِنه ... ختام الثَّلاث المُهْلكات لدى الحشر وكتب الإِمام العلاَّمة كمال الدين محمد بن الزَّمْلَكاني على بعض مصنَّفاته: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جلَّت عن الحصرِ هو حجةٌ لله قاهرةٌ ... هو بيننا أَعجوبة العصرِ هو آية في الخلق ظاهرة ... أَنوارها أَربت على الفجرِ وقال فيه الإِمام أَبو حيَّان أَبياتًا منها: قام ابن تيميَّة في نصر شِرعتنا ... مقام سيِّد تَيْمٍ إذ عَصَتْ مُضَر فأظهر الحقَّ إِذ آثاره دَرَسَت ... وأخمد الشرَّ إذ طارت له الشَّرر كنا نُحدَّث عن حبرٍ يجيء لنا ... أنت الإِمام الذي قد كان يُنتظر وقال الشَّيخ سعد الدين سعد الله بن عبد الأحد بن بُخَيْخٍ الحرَّاني فيه من أَبيات: سناكَ تقيُّ الدينِ أَبهى وأنورُ ... وأَشرقُ منْ شمسِ النهارِ وأَشهرُ ومجدكَ أَسمى أنْ يُقاسَ بمثلهِ ... وأَعظمُ مما في النفوسِ وأكبرُ

وعرف ثناك المندلي له شذا ... أَلذ من المسكِ الذكي وأعطرُ وعلمكَ أَقسامَ العلومِ بأسرهَا ... أَدلته توهي الخصومَ وتبهرُ وصبركَ في ذاتِ الإِلهِ على الأَذى ... أَنالك ما ترجو وَمَا تتخيَّرُ وأَمركَ بالمعروفِ طهَّر وقتنا ... فلمْ يبدُ في أَيَّامك الغرِّ منكرُ فياليتَ علمي والمناقبُ جمَّةٌ ... لأي سجاياك الجميلةِ نشكرُ وماذا عسى يثني عليكَ مبالغٌ ... بمدحٍ وهل يُهْدى إِلى البحر جوهرُ فَدُم واثقًا بالله معتصمًا به ... وعاضدك الشّرعُ الشريفُ المطهَّرُ سليمًا من الآفات في ظِلِّ نِعمةٍ ... من الله صافي وردها لا يكدَّرُ

37 - درة الأسلاك في دولة الأتراك

درَّة الأَسْلاَكِ في دَوْلَةِ الأَتْراكِ (¬1) وفيها توفّي شيخ الإسلام، تقيّ الدين، أَبو العبّاس، أَحمد بن الشيخ شهاب الدين أَبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجدالدين أَبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي. سحاب يسحب ذيله على الطَّالب والوافد، وعُباب لا تكدره دِلاء الصّادر والوارد، وبحر زاخر في النقليات، وحبر ماهر في حفظ عقايل العقليّات، وإِمام في معرفة الكتاب والسّنّة، وهمام لا يميل إِلى حلاوة من المنّة. كان ذا ورع زائد، وزهد فرعه في روضة الرِّضى مائد. وسخآءٍ وشجاعة، وعزلةٍ وقناعة، وتصانيف مشهورة، وفتاوٍ أَعلامها منشورة، ومعارف وموادها وافية، وإِعراض عن الدّنيا بالجملة الكافية، لا يكترث بنضرتها وبهجة نضارها، ولا يلتفت إِلى المنقوش من درهمها ودينارها. يصدع بالحق، ويتكلم فيما جلّ ودقّ، ويأْمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويثابر على إِقامة الحدود إِن شُكر وإِن لم يشكر. ¬

_ (¬1) (ق / 130 أ - 131 ب). نسخة ترخان والدة السلطان (233) أتحفنا بصورة منها د/ عبد الرحمن العثيمين.

اجتمعت فيه شروط الاجتهاد، وبلغ من اجتناء ثمر أفنان الفنون غاية المراد. وكان من العلوم بحيث يُقضى ... لَه في كُلِّ علمٍ بالجميع من نظمه في قول صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مُنْجيات وثلاثٌ مُهْلِكَات» الحديث: عليك بخوف الله في السرِّ والجهر ... وبالقصد للإنفاق في العسر واليسر وبالعدلِ إِن تغضب وإِن تك راضيًا ... فهن ثلاث منجيات من الشرِّ وإِياك والشُّح المطاع ولا تكن ... بمتَّبع الأَهوا فترجع بالخسر وعدِّ عن الإعجاب بالنفس إِنه ... ختام الثَّلاث المهلكات لدى الحشر كتب قاضي القضاة، كمال الدين أَبو المعالي محمد بن الزَّمْلَكاني على بعض مصنَّفاته: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلَّت عن الحصر هو حجةٌ لله قاهرةٌ ... هو بيننا أَعجوبة العصر هو آية للخلق ظاهرة ... أَنوارها أَربت على الفجر وفيه يقول العلاَّمة أَثير الدين أَبو حيَّان الأندلسي من أَبيات: قام ابن تيميَّة في نصر شِرعْتنا ... مقام سيد تيم إذ عَصَتْ مضرُ فأظهر الحقَّ إِذ آثاره دَرَسَت ... وأخمد الشرَّ إذ طارت له الشَّررُ كنا نُحدَّث عن حبرٍ يجيء لنا ... أنت الإِمام الذي قد كان يُنتظر

وفيه يقول الشَّيخ سعد الدين سعد الله بن عبد الأحد بن بخيخ من أَبيات: سناكَ تقيُّ الدينِ أَبهى وأنورُ ... وأَشرقُ منْ شمسِ النهارِ وأَشهرُ ومجدكَ أَسمى أنْ يُقاسَ بمثلهِ ... وأَعظمُ مما في النفوسِ وأكبرُ وعَرْف ثناك المندلي له شذا ... أَلذّ من المسكِ الذَّكي وأَعطرُ وعلمكَ أَقسامَ العلومِ بأسرهَا ... أَدلته توهي الخصومَ وتبهرُ وصبركَ في ذاتِ الإِلهِ على الأَذى ... أَنالك ما ترجو وَمَا تتخيَّرُ وأَمركَ بالمعروفِ طهَّر وقتنا ... فلمْ يبدُ في أَيَّامك الغرِّ منكرُ فياليتَ علمي والمناقبُ جمَّةٌ ... لأي سجاياك الجميلةِ نشكرُ وماذا عسى يثني عليكَ مبالغٌ ... بمدحٍ وهل يُهْدى إِلى البحر جوهرُ فَدُم واثقًا بالله معتصمًا به ... وعاضدك الشّرع الشريفُ المطهرُ سليمًا من الآفات في ظِلِّ نِعمةٍ ... من الله صافي وردها لا يكدَّرُ ورثاه الإِمام زين الدين أبو حفص عمر بن الوردي بقصيدة، منها: عَثَا في عرضه قوم سِلاطٌ ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ تقي الدِّين أَحمد خيرُ حَبْر ... خُروق المعضلات به تخاطُ توفّي وهو محبوس فريد ... وليس له إِلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قَضَى لألفوا ... ملائكةَ النَّعيم به أَحاطوا

فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ ... ويالله ما غطَّى البلاطُ هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقيه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كسالى ... ولكن في أذاه لهم نشاطُ وحبس الدُّور في الأصداف فخر ... وعند الشيخ بالسجن اغتباطُ بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا إِمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباطُ ولا جاراكم في كسب مالٍ ... ولم يُعهد له بكم اختلاطُ سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونيتكم إذا نُصب الصّراطُ فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أَردتم أن تُعاطواُ وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانطوى ذاك البساطُ وكانت وفاته بقلعة دمشق مُعْتقَلاً، عن سبع وستين سنة، وشيّع جنازته خلق كثير، أَقل ما جزروا بستين أَلفًا. وهو من مشايخ والدي في الحديث، تغمَّده الله برحمته.

38 - رحلة ابن بطوطة

تُحْفَةُ النُّظَّار في غَرَائبِ الأَمْصارِ وعَجائبِ الأسْفارِ المعروف بـ «رِحْلَة ابن بَطُّوْطة» (¬1) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الطَّنْجِي المعروف بابن بطوطة (779) وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة: تقي الدين ابن تيميَّة، كبير الشأن، يتكلم في الفنون، إلا أن في عقله شيئًا! وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم، ويعِظُهم على المنبر، وتكلم مرةً بأمرٍ أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر؛ فأمر بإشخاصه إلى القاهرة وجمع القضاة والفقهاء بمجلس الملك الناصر، وتكلم شرف الدين الزواوي المالكي (¬2)، وقال: إن هذا الرجل قال: كذا، وعدَّد ما أُنكِر على ابن تيمية، وأحضر العقود بذلك، ووضعها بين يدي قاضي القضاة، وقال قاضي القضاة لابن تيمية: ماتقول؟ قال: لا إله إلا الله، فأعاد عليه فأجاب بمثل قوله، فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعوامًا، وصنف في السجن كتابًا في تفسير القرآن سماه «بالبحر المحيط» في نحو أربعين مجلدًا. ¬

_ (¬1) 1/ 316 - 317، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1417، تحقيق عبد الهادي التازي، ذكر العلامة حمد الجاسر أن هذه الطبعة أفضل طبعات الكتاب، وله عليها بعض الملاحظات نشرها في جريدة الرياض. (¬2) جمال الدِّين وليس شرف الدين كما عند ابن بطوطة، والقصد إلى محمد بن سليمان بن يوسف البربري الزواوي المالكي. توفي في جمادى الآخرة سنة 717. الدرر الكامنة 4/ 68، الدارس في تاريخ المدارس ص 12 - 15.

ثم إن أُمَّه تعرضت للملك الناصر وشكت إليه، فأمر بإطلاقه، إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرتُه يوم الجمعة وهو يَعِظ الناسَ على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا (¬1)، ونزل درجة من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء وأنكر ماتكلم به، فقامت العامةُ إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال، ضربًا كثيرًا حتى سقطت عمامتُه، وظهر على رأسه شاشية حرير، فأنكروا عليه لباسَها، واحتملوه إلى دار عز الدين بن مُسَلَّم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكية والشافعية ماكان من تعزيره، ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تِنْكيز - وكان من خيار الأمراء وصلحائهم - فكتب إلى الملك الناصر بذلك وكتب عقدًا شرعيًا على ابن تيمية بأمور منكرة منها: أن المطلّق بالثلاث في كلمة واحدة لاتلزمه إلا طلقة واحدة، ومنها: أن المسافر الذي ينوي بسفره زيارة القبر الشريف زاده الله طيبًا لايقصر الصلاة، وسوى ذلك مما يشبهه، وبعث العقد إلى الملك الناصر؛ فأمر بسجن ابن تيمية بالقلعة، فسُجِنَ بها حتى مات في السجن. ¬

_ (¬1) هذا بهتان عظيم، فابن بطوطة دخل دمشق في التاسع من رمضان سنة 726، وكان شيخ الإسلام آنذاك في السجن، فكيف رآه يعظ الناس يوم الجمعة على المنبر؟ وقد كتب بعض العلماء في الرد على هذه الفرية، منهم: الشيخ محمد بهجة البيطار في مجلة "العالم الإسلامي" س 1: ج 7 - 8 (1940) ص 394 - 399، والشيخ محمد راغب الطباخ في مجلة المجمع العلمي بدمشق مج 17: ج 3 - 4 (1942) ص 132 - 134، والشيخ محمد عطاء الله الفوجياني في مجلة رحيق مج 3 (1959) ص 511 - 518. وغيرهم.

39 - الذيل على طبقات الحنابلة

الذَّيْلُ عَلَى طَبَقَاتِ الحَنَابِلَةِ (¬1) للعلاَّمة / زين الدين أَبي الفرج عبد الرَّحمن بن أَحمد ابن رجب الحنبلي (795) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الخضر بن محمَّد ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني، ثمَّ الدِّمشقي، الإِمام الفقيه، المجتهد المحدِّث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. تقي الدين أَبو العبَّاس، شيخ الإِسلام وعلم الأعلام، وشهرته تُغْنِي عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره. ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وستمائة بحران. وقدم به والده وبإخوته إِلى دمشق، عند استيلاء التتر على البلاد، سنة سبع وستين. فسمع الشَّيخ بها من ابن عبد الدايم، وابن أَبي اليسر، وابن عبد، والمجد ابن عساكر، ويحيى بن الصرفي الفقيه، وأحمد بن أَبي الخير الحداد، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدين بن أَبي عمر، والمسلم ابن علان، وإبراهيم بن الدرجي وخلق كثير. ¬

_ (¬1) 2/ 387 - 408 تحقيق محمد حامد الفقي.

وعُني بالحديث. وسمع «المسند» مرات، والكتب السِّتَّة، ومعُجم الطَّبرانيّ الكبير، ومالا يُحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأَقبل على العلوم في صغره. فأخذ الفقه والأصول. عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدين بن أَبي عمر، والشيخ زين الدين المنجّى. وبرع في ذلك، وناظر. وقرأ في العربية أيامًا على ابن عبد القوي (¬1)، ثمَّ أَخذ كتاب سيبويه، فتأمله ففهمه. وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، وردَّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطْء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إِنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه. ثمَّ توفي والده الشَّيخ شهاب الدين، المتقدم ذكره، وكان له حينئذ إِحدى وعشرين (¬2) سنة. فقام بوظائفه بعده، فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين الدين بن المرحِّل. والشيخ زين الدين بن المنجَّى، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناءً كثيرًا. ¬

_ (¬1) هو: أبو محمد ابن عبد القوي. وليس هو الطوفي. (¬2) كذا بالأصل.

قال الذَّهبيّ: وكان الشَّيخ تاج الدين الفزاري يبالغ في تعظيمه الشَّيخ تقي الدين، بحيث إِنَّه علَّق بخطه درسه بالسكرية. ثمَّ جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أَول القرآن. فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أَو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح، عدة سنين أيام الجمع. وفي سنة تسعين: ذكر على الكرسي يوم جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك. وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخُوَيّي: أَنا على اعتقاد الشَّيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، ومواده كثيرة. فهو لا يقول إِلاَّ الصحيح. وقال الشَّيخ شرف الدين المقْدِسِيّ: أَنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي، وأخي. وذكر ذلك البرزالي في «تاريخه». وشرع الشَّيخ في الجمع والتصنيف، من دون العشرين، ولم يزل في علوٍّ وازدياد في العلم والقدر إِلى آخر عمره. قال الذَّهبيّ في «معجم شيوخه» (¬1): أَحمد بن عبد الحليم - وساق نسبه- الحَرَّاني، ثمَّ الدِّمشقي، الحنبلي أَبو العبَّاس، تقي الدين، شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علمًا ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويرًا ¬

_ (¬1) هذا النقل لا يوافق ما في "معجم الشيوخ" المطبوع!.

إلهيًا، وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل مالم يحصله غيره. وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إِلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يُسبق إِليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، معزوًّا إِلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصَّحابة والتابعين، بحيث إِنَّه إِذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده. وأتقن العربية أصولاً وفروعًا، وتعليلاً واختلافًا. ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلِّمين، وَردَّ عليهم، وَنَبَّه على خطئهم، وحذَّر منهم ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي قي ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتَّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيى به الشَّام، بل والإسلام، بعد أَن كَاد ينثلم، بتثبيت أولي الأمر لما أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأَبَّ النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أَن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أَني ما رأيت بعيني مثله، وأَنَّه ما رأى مثل نفسه. وقد قرأت بخط الشَّيخ العلامة شيخنا كمال الدين بن الزَّمْلَكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تَيْمِيَّة» كَانَ إِذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع: أَنَّه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أَنَِّ

أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا منه في مذاهبهم أشياء، ولا يعرف أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كَانَ من علوم الشرع أو غيرها - إِلاَّ فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. وقال الذَّهبيّ في «معجمه المختص»: كَانَ إمامًا متبحرًا في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيال الفهم، كثير المحاسن، موصوفًا بفرط الشجاعة والكرم، فارغًا عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه. والعمل بمقتضاه. قلت (¬1): وقد عرض عليه قضاء القضاة قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك. قرأت ذلك بخطه. قال الذَّهبيّ ذكره أَبو الفتح اليعمري الحافظ - يعني ابن سيد الناس - في جواب السؤلات أَبي العبَّاس ابن الدمياطي الحافظ، فقال: ألْفَيْتُه ممن أدرك من العلوم حظًّا. وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إِن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أَو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أَو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته. برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه. وقد كتب الذَّهبيّ في «تاريخه الكبير» (¬2) للشيخ ترجمة مطولة، وقال ¬

_ (¬1) القائل ابن رجب. (¬2) لعله يقصد "سير أعلام النبلاء" وترجمة الشيخ من "السير" مفقودة حتى الآن. وما في "ذيل تاريخ الإسلام" لا يوافق النقل هنا.

فيها: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم، وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه، الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى الكتب السِّنَّة والمسند، بحيث يصدق عليه أَن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث. وقال: ولما كَانَ معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب ستة أَن يجيز لأولاده، فكتب لهم في ذلك نحوًا من ست مئة سطر، منها سبعة أحاديث بأسانيدها، والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل ما إِذا نظر فيه المحدث خضع له في صناعة الحديث. وذكر أسانيده في عدة كتب. ونَبَّه على العوالي. عمل ذلك كله من حفظه، من غير أَن يكون عنده ثَبَت أَو من يراجعه. ولقد كَانَ عجيبًا في معرفة علم الحديث. فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند: فما رأيت من يُدانيه في ذلك أصلا. قال: وأما التفسير فمسلم إِليه. وله من استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة. وإذا رآه المقرئ تحيّر فيه. ولفرط إمامته في التفسير، وعظم اطلاعه، يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويُوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحدًا، موافقًا لما دل عليه القرآن والحديث. ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أَو من الفقه، أَو من الأصلين، أَو من الرد على الفلاسفة والأوائل: نحوًا مكن أربعة كراريس أَو أزيد. قلت: وقد كتب «الحموية» في قعدة واحدة. وهي أزيد من ذلك.

وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد. وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن، ومعرفة حقائق الإيمان. وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال، والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه، ومعوجه وقويمه. وقد كتب ابن الزَّمْلَكاني بخطه على كتاب «إبطال التحليل» للشيخ ترجمة الكتاب واسم الشَّيخ، وترجم له ترجمة عظيمة، وأثنى عليه ثناءً عظيما. وكتب أيضًا تحت ذلك: ماذا يقولُ الواصفونَ له ... وصفاته جلَّت عن الحصر هو حجَّةٌ لله قاهرةٌ ... هو بيننا أُعجوبةُ الدهر هو آيةٌ للخلقِ ظاهرةٌ ... أَنوارها أربتْ على الفجرِ وللشيخ أثير الدين أَبي حيان الأندلسي النحوي - لما دخل الشَّيخ مصر واجتمع به - ويقال: إِنَّ أَبا حيان لم يقل أبياتًا خيرًا منها ولا أفحل: لمَّا رأينا تقيَّ الدين لاحَ لنا ... داعِ إلى اللهِ فردٌ ماله وَزضرُ على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُولَى صَحِبُوا خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبَرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قام ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الدين إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ

يا من تحدّث عن علم الكتاب أصِخْ ... هذا الإمامُ الذي قد كان يُنتظر وحكى الذَّهبيّ عن الشَّيخ: أَنَّ الشَّيخ تقي الدين بن دقيق العيد قال له - عند اجتماعه به وسماعه لكلامه -: ما كنت أظن أَنَّ الله بقي يخلق مثلك. ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أَبو الحسن السبكي إِلى الحافظ أَبي عبد الله الذذَهبيّ في أمر الشَّيخ تقي الدين المذكور: أمل قول سيدي في الشَّيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الَّذي يتجاوز الوصف. والمملوك يقول ذلك دائمًا. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ. مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سماه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى. وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان. وكان الحافظ أَبو الحجاج المزِّي يبالغ في تعظيم الشَّيخ والثناء عليه، حتَّى كَانَ يقول: لم يُر مثله منذ أربعمائة سنة. وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزَّمْلَكاني: أَنَّه سئل عن الشَّيخ فقال: لم ير من خمسمائة سنة، أَو أربعمائة سنة - الشك من الناقل. وغالب ظنه: أَنَّه قال: من خمسمائة سنة - أحفظ منه. وكذلك كَانَ أخوه الشَّيخ شرف الدين يبالغ في تعظيمه جدًّا، وكذلك المشايخ العارفون، كالقدوة أَبي عبد الله محمَّد بن قوام. ويحكى عنه أَنَّه كَانَ يقول: ما أسلمت معارفنا إِلاَّ على يد ابن تَيْمِيَّة.

والشيخ عماد الدين الواسطي كَانَ يعظمه جدًّا، وتلمذ له، مع أَنَّه كَانَ أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقين. وكتب رسالة إِلى خواص أصحاب الشَّيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرِّفهم حقوقه، ويذكر فيها: أَنَّه طاف أعيان بلاد الإسلام، ولم ير فيها مثل الشَّيخ علمًا وعملاً، وحالاً وخلقًا واتباعًا، وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله تعالى، عند انتهاك حرماته. وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات. ثمَّ قال: أَصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفًّا، وأكملهم أتباعًا لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أَقواله وأَفعاله إِلاَّ هذا الرَّجل، بحيث يشهد القلب الصحيح: أَنَّ هذا هو الاتباع حقيقة. ولكن كَانَ هو وجماعة من خواص أصحابه ربما أنكروا من الشَّيخ كلامه في بعض الأئمة الأكابر الأعيان، أَو في أهل التخلي والانقطاع ونحو ذلك. وكان الشَّيخ رحمه الله لا يقصد بذلك إِلاَّ الخير، والانتصار للحق إِن شاء الله تعالى. وطوائف من أئمة أهل الحديث وحفاظهم وفقهائهم: كانوا يحبون الشَّيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون التوغل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين، كالشافعي

وأحمد وإسحاق وأَبي عبيد ونحوهم، وكذلك كثير من العلماء من الفقهاء والمحدثين والصالحين كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل الَّتي أنكرها السلف على من شذ بها، حتَّى إِنَّ بعض قضاة العدل من أصحابنا منعه من الإفتاء ببعض ذلك. قال الذَّهبيّ: وغالب حطِّه على الفضلاء والمتزهدة فبحق، وفي بعضه هو مجتهد، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفر أحدًا إِلاَّ بعد قيام الحجة عليه. قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إِليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يُداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الَّذي أدَّاه إِليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله. فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة والاستعانة به، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يُدْمنها بكيفية وجمعية. وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأَنَّه منتصب لنفعهم ليلاً ونهارًا، بلسانه وقلمه. وأما شجاعته: فيها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال.

ولقد أقامه الله تعالى في نوبة قازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع، ودخل وخرج، واجتمع بالملك - يعني قازان - مرتين، وبقَطْلوشاه، وبُولاي. وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول. وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتَّى كأنه ليث حَرِب. وهو أكبر من أَن ينبه مثلي على نعومته. وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غابًا، والله يغفر له. وله إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه. وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إِلاَّ شيء قليل. وأخوه بقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت. وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم. وهو فقير لا مال له. وملبوسه كآحاد الفقهاء: فَرَّجِيَّة، ودِلْق، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهمًا، ومداس ضعيف الثمن. وشعره مقصوص. وهو رَبْع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأن عينيه لسانان ناطقان، ويصلي بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها. وربما قام لمن يجئ من سفر أَو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، الكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم ولم ينحنِ لأحد قط، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم. وقد يعظم جليسة مرة، ويُهِيْنُه في المحاورة مرات.

قلت: وقد سافر الشَّيخ مرة على البريد إِلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجئ التتر سنة من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: إِن تخليتم عن الشَّام ونصرة أهله والذَّب عنهم، فإِنَّ الله تعالى يقيم لهم وينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، وقوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}. وبلغ ذلك الشَّيخ تقي الدين بن دقيق العيد - وكان هو القاضي حينئذ - فاستحسن ذلك، وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشَّيخ للسلطان بمثل هذا الكلام. وأما مِحَنُ الشَّيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جدًّا. وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلا، بسبب قيامه على نصراني سَبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشَّيخ زين الدين الفارِقِيّ، ثمَّ أطلقهما مكرمين. ولما صنف المسألة «الحموية» في الصفات: شنَّع بها جماعة، ونودي عليها في الأسواق على قصبة، وأن لا يستفتى، من جهة بعض القضاة الحنفية. ثمَّ انتصر للشيخ بعض الولاة، ولم يكن في البلد حينئذ نائب، وضُرب المنادي وبعض من معه، وسكن الأمر. ثمَّ امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان، فجمع نائبه القضاةَ والعلماءَ بالقصر، وأحضر الشَّيخ وسأله عن ذلك؛ فبعث الشَّيخ من أحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرءُوها في ثلاثة مجالس، وحاقَقُوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك عل أَنّ هذه

عقيدة سُنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا. وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إِنَّما قصدنا براءة ساحة الشَّيخ، وتبيَّن لنا أَنَّه على عقيدة السلف. ثمَّ إِنَّ المصريين دبروا الحيلة في أمر الشَّيخ، ورأوا أَنَّه لا يمكن البحث معه، ولكن يعقد له مجلس، ويُدَّعى عليه، وتقام عليه الشهادات. وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الَّذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنبجي، وابن مخلوف قاضي المالكية، فطُلب الشَّيخ على البريد إِلى القاهرة، وعُقد له ثاني يوم وصوله - وهو ثاني عشرين رمضان سنة خمس وسبعمائة - مجلس بالقلعة، وادُّعي عليه عند ابن مخلوف قاضي المالكية، أَنَّه يقول: إِنَّ الله تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأَنَّه على العرش بذاته، وأَنَّه يشار إِليه بالإشارة الحسية. وقال المدعي: أطلب تعزيزه على ذلك، التعزيز البليغ - يشير إِلى القتل على مذهب مالك - فقال القاضي: ماتقول يافقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أأُمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشَّيخ، فقال: أجب. فقال الشَّيخ له: من هو الحاكم فيَّ؟ فأشاروا: القاضي هو الحاكم، فقال الشَّيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم فيَّ؟ وغضب، ومراده: أني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها، فأقيم الشَّيخ ومعه أخواه، ثمَّ رد الشَّيخ، وقال: رضيت أَن تحكم فيَّ، فلم يمكَّن من الجلوس، ويقال إِنَّ أخاه الشَّيخ شرف الدين ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشَّيخ، وقال له: بل قل: اللهمَّ هب لهم نورًا يهتدون به إِلى الحق.

ثمَّ حبسوا في بُرْج أيامًا، ونقلوا إِلى الجُبِّ ليلة عيد الفطر، ثمَّ بعث كتاب سلطاني إِلى الشَّام بالحط على الشَّيخ، وإلزام الناس - خصوصا أهل مذهبه - بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودى بذلك في الجامع والأسواق، ثمَّ قرئ الكتاب بسُدَّة الجامع بعد الجمعة، وحصل أذًى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع. وكان قاضيهم الحَرَّاني قليل العلم. ثمَّ في سلخ رمضان سنة ست: أحضر سلار - نائب السلطان بمصر - القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشَّيخ، فاتفقوا على أَنَّه يشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إِليه من يحضره، وليتكلموا معه في ذلك، فلم يجب إِلى الحضور، وتكرر الرسول إِليه في ذلك ست مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، فانصرفوا من غير شيء. ثمَّ في آخر هذه السنة وصل كتاب إِلى نائب السلطنة بدمشق من الشَّيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه، وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر ما هو عليه في السجن من التوجه إِلى الله تعالى، وأَنَّه لا يقبل شيئا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنس بشيءٍ من ذلك. ثمَّ في ربيع الأَوَّل من سنة سبع وسبعمائة دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إِلى مصر، وحضر بنفسه إِلى السجن، وأَخْرَجَ الشَّيخ منه، بعد أَن استأذن في ذلك، وعُقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت على خير. وذكر الذَّهبيّ والبرزالي وغيرهما: أَنَّ الشَّيخ كتب لهم بخطه مجملاً

من القول وألفاظًا فيها بعض ما فيها، لما خاف وهُدِّد بالقتل، ثمَّ أُطلق وامتنع عن المجئ إِلى دمشق. وأقام بالقاهرة يقرئ العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة ويجتمع عليه خلق. ثمَّ في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية، وشكوا من الشَّيخ إِلى الحاكم الشَّافعيّ، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره، وادعى عليه ابن عطاء بأشياء، ولم يُثبِت منها شيئًا، لكنه اعترف أَنَّه قال: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يتوسل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شئ. ورأى الحاكم ابن جماعة: أَنَّ هذا إساءة أدب، وعنَّفه على ذلك، فحضرت رسالة إِلى القاضي: أَن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله. ثمَّ إِنَّ الدولة خيروه بين أشياء، وهي الإقامة بدمشق، أَو بالاسكندرية، بشروط، أَو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إِلى دمشق، ملتزمًا ما شرط عليه، فأجابهم، فأركبوا خيل البريد، ثمَّ ردوه في الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إِلاَّ بالحبس. فقال القاضي: وفيه مصلحة له، واستناب التونسي المالكي وأذن له أَن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ماثبت عليه شيءٌ، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحير، فقال الشَّيخ: أَنا أمضي إِلى الحبس، وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إِلاَّ بمسمى الحبس، فأرسل إِلى حبس القاضي وأجلس في الموضع الَّذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس،

وأذن أَن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجيّ. واستمر الشَّيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوي المشكلة من الأمراء وأعيان الناس. وكان أصحابه يدخلون إِليه أولا سرًّا، ثمَّ شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إِلى الإِسكندرية على البريد، وحبس فيها في برج حسن مضئ متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إِلى الحمام إِذا شاء. وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له، وبقي في الإِسكندرية مدة سلطنة المظفر. فلما عاد الملك الناصر إِلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجي، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشَّيخ إِلى القاهرة مكرمًا في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكرامًا زائدًا، وقام إِليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يسُارّه ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيرًا، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إِنَّه شاوره في أمرهم به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن مخلوف كَانَ يقول: ما رأينا أفتى من ابن تَيْمِيَّة، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا. واجتمع بالسلطان مرة ثانية بعد أشهر، وسكن الشَّيخ بالقاهرة، والناس يترددون إِليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، ومنهم من يعتذر إِليه ويتنصل مما وقع.

قال الذَّهبيّ: وفي شعبان سنة إِحدى عشرة: وصل النبأ أَنَّ الفقيه البكري - أحد المبغضين للشيخ - استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إِلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطلب من جهة الدولة، فهرب واختفى. وذكر غيره: أَنَّه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يمكنهم الشَّيخ من ذلك. واتفق بعد مدة: أَنَّ البكري همّ السلطان بقتله، ثمَّ رسم بقطع لسانه؛ لكثر فضوله وجراءته، ثمَّ شفع فيه، فنفي إِلى الصعيد، ومنع من الفتوى بالكلام في العلم. وكان الشَّيخ في هذه المدة يقرئ العلم، ويجلس للناس في مجالس عامة. قدم إِلى الشَّام هو وإخوته سنة اثنتي عشرة بنية الجهاد، ولما قدم السلطان لكشف التتر عن الشَّام. فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس. ثمَّ دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسُرَّ الناس بمقدمه، واستمر على ما كَانَ عليه أولاً، من إقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم. ثمَّ في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب من السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، وعُقِد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي به في البلد. ثمَّ في سنة تسع عشرة عُقِد له مجلس أَيضًا كالمجلس الأَوَّل،

وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تأكيد المنع. ثمَّ بعد مدة عُقِد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة. ثمَّ حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا، فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم. وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إِلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفسًا، رأسهم القاضي الأخنائِي المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا. وبها مات رحمه الله تعالى. وقد بين رحمه الله: أَنَّ ما حكم عليه باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة جدًا، وأفتى جماعة بأنه يخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد، وغيرهم. وكذلك ابنا أَبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أَنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأَنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين فيها. وبقي مدة في القلعة يكتب العلم ويصنفه، ويرسلإِلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسمية. وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كَانَ كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثمَّ إِنَّه مُنِع من

الكتابة، ولم يُتْرك عنده دواة ولا قلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر. قال شيخنا أَبو عبد الله ابن القيم: سمعت شيخنا شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة قدس الله روحه، ونور ضريحه، يقول: إِنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. قال: وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بى؟ أَنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أَنا حبسي خَلْوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندى شكر هذه النعمة - أَو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير - ونحو هذا. وكان يقول في سجوده، وهو محبوس: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله. وقال مرة: المحبوس من حُبِس قلبُه عن ربِّه، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إِلى القلعة، وصار داخل سورها نظر إِليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}. قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كَانَ فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إِذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إِلاَّ أَن نراه، ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان من أشهد

عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل! فأتاهم من رَوحها ونسميها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إِليها اهـ. وأما تصانيفه رحمه الله: فهي أشهر من أَن تُذْكَر، وأعرف من أَن تُنْكَر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدِّ المعروف منها، ولا ذكرِها. ولنذكر نبذة من أسماء أعيان المصنفات الكبار: كتاب «الإيمان» مجلد، كتاب «الاستقامة» مجلدان، «جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية» أربع مجلدات، كتاب «تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» في ست مجلدات كبار، كتاب «المحنة المصرية» مجلدان، «المسائل الاسكندرانية» مجلد، «الفتاوى المصرية» سبع مجلدات. وكل هذه التَّصانيف ما عدا كتاب «الإيمان» كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين صنفها في السجن. وكتب معها أكثر من مائة لَفَّةِ ورق أَيضًا، كتاب «درء تعارض العقل والنقل» أربع مجلدات كبار. والجواب عما أورده الشَّيخ كمال الدين ابن الشريشي على هذا الكتاب، نحو مجلد، كتاب «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية» أربع مجلدات. «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» مجلدان. «شرح أول المحصل للرازي» مجلد. «شرح بضعة عشر مسألة من الأربعين للرازي» مجلدان. «الرد على المنطق» مجلد كبير. «الرد على البكرى في مسألة الاستغاثة» مجلد. «الرد على أهل كسروان الروافض» مجلدان. «الصفدية». «جواب من قال: إِنَّ معجزات الأنبياء قوى

نفسانية» مجلد. «الهلاونية» مجلد. «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «شرح العمدة» للشيخ موفق الدين. كتب منه نحو أربع مجلدات. «تعليقه على المحرر» في الفقه لجده عدة مجلدات. «الصارم المسلول على شاتم الرسول» مجلد. «بيان الدليل على بطلان التحليل» مجلد. «اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم» مجلد. «التحرير في مسألة حفير» مجلد. في مسألة من القسمة، كتبها اعتراضًا على الخويي في حادثة حكم فيها. «الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق» ثلاث مجلدات، كتاب «تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان» مجلد كبير. «الرد على الأخنائي في مسألة الزيارة» مجلد. وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى: فلا يمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الحق البطلان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الطلاق والأيمان» مجلد لطيف. «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» مجلد لطيف. «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مجلد لطيف. ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه اختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصرة، كماء الورد ونحوه، واختار جواز المسح على النعلين، والقدمين، وكل ما يحتاج في نزعه من الرِّجل إِلى معالجة باليد أَو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين. واختار أَنَّ المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة، كالمسافر

على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إِلى الديار المصرية على خيل البريد ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره. واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها. واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخَّر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتها. وكذا من خشى فوات الجمعة والعيدين وهو محدث. فأما من استيقظ أَو ذكر في آخر وقت الصلاة: فإنه يتطهر بالماء ويصلي، لأن الوقت متسع في حقه. واختار أّنَّ المرأة إِذا لم يمكنها الاغتسال في البيت، أَو شقّ عليها النزول إِلى الحمام وتكرره: أنها تتيمم وتصلي. واختار أَن لا حَدَّ لأقلِّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين، ولا لسن الإياس من الحيض. وأنّ ذلك راجع إِلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها، واختار أَنَّ تارك الصلاة عمدًا: لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، وأن سجود التلاوة لا يشترط له طهارة. ذكر وفاته مكثَّ الشيخ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إِلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثمَّ مرض بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إِلاَّ موته. وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القَعْدة، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

وذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتَّى الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتي من شأنها أَن تُفْتح أَوَّل النهار. وفتح باب القلعة. وكان نائب السلطنة غائبًا عن البلد، فجاء الصاحب إِلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند الشَّيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرَّحمن: أَنَّه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزُّرَعيّ الضرير - وكان الشَّيخ يحب قراءتهما - فابتدءا من سورة الرَّحمن حتَّى ختما القرآن. وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشَّيخ، فشاهدوه ثمَّ خرجوا، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم، كالمزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القلعة بالرجال وما حولها إِلى الجامع، فصلى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمَّد بن تمام. وضجَّ الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم. وأخرج الشَّيخ إِلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أَو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إِلى الميادين والفوارة. وكان الجمع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشَّيخ

في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إِلاَّ بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف. فلما أذن المؤذن الظهر أقيمت الصلاة على السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثمَّ صلوا على الشَّيخ. وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء ودعاء وثناء، وتهليل وتأسُّف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إِلى المقبرة يدعين ويبكين أَيضًا. وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إِلاَّ القليل من الضعفاء والمخدرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة أهل السنة. فبكى الناس بكاء كثيرًا عند ذلك. وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرءوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى. وخرج الناس من أبواب الجامع كلها وهي مزدحمة. ثمَّ من أبواب المدينة كلها، لكن كَانَ المُعْظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل. وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرَّحمن. ودفن وقت العصر أَو قبلها بيسير إِلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزِر الرجال بستين ألفًا وأكثر، إِلى مائتي ألف، والنساء بخمسة ألفًا، وظهر بذلك قول الإمام أَحمد «بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز».

وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إِلى زيارة قبره إيامًا كثيرة، ليلاً ونهارًا، ورُئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأَسف المسلمون لفقده. رضي الله عنه ورحمه، وغفر له. وصُلّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أَنَّه نودى بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة «الصلاة على ترجمان القرآن». وقد أفرد الحافظ أَبو عبد الله بن عبد الهادي له ترجمة في مجلَّدة، وكذلك أَبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس. وإنما ذكرناها هنا على وجه الاقتصار ما يليق بتراجم هذا الكتاب. وقد حدّث الشَّيخ كثيرًا. وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث ومن تصانيفه، وخرَّج له ابن الواني أَربعين حديثًا حدّث بها.

40 - العقد الفاخر الحسن في طبقات أكابر اليمن

كتاب العِقْد الفاخر الحَسَنْ في طبقات أكابر اليمن (¬1) للمؤرِّخ/ شمس الدين علي بن الحسن الخزرجي اليمني (812) وفي سنة ثثمانٍ وعشرين: توفي شيخُ الإسلام، عالم العصر، بقيَّة المجتهدين، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية (¬2) الحراني، ثم الدمشقي، الحافظ المفسِّر صاحب التصانيف. وكان إمامًا مجتهدًا، عارفًا بالعربية والتفسير، والأصول والفروع، يتوقَّد ذكاءً، قوَّالاً بالحق، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، وكان موصوفًا بالقناعة والتعفُّف، والسخاء والجود، والشجاعة والإقدام، قليل تالراحة والتنعم، قليل النوم، مُكِبًّا على العلم والعمل، قليل الأكل، لم يتروَّج قطُّ ولا تَسَرَّى. وكان ميلاده: عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين بحرَّان، وكان معتقلاً في قلعة دمشق، بعد أن أقام خمسة أشهر ممنوعًا من الدواة والورق. وكان وفاته ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة، وله يومئذٍ ثمان ¬

_ (¬1) (ق/ 141 ب- 142 أ) ميكروفلم بمركز البحث بجامعة أم القرى. (¬2) في النسخة: بن أبي التيمية!.

وستون سنة، وشَهِدَه خلقٌ كثير لا يُحْصَون، وصُلِّي عليه في الجامع، ودُفن في مقابر الصوفية عند أخيه، وحضر دَفْنَه نحوًا من مئتي ألف، وامتنع طائفة كبيرة من الصلاة عليه تديُّنًا (¬1) والأعمال بالنيَّات. أعاد الله علينا من بركاته. ¬

_ (¬1) هذا نقله المؤلف عن "نزهة العيون ... " للرسولي، والذي ذكره معاصروه -كما تقدم- أنه لم يتخلف أحد في الصلاة عليه إلا من خاف على نفسه من الناس بسبب معاداته لشيخ الإسلام.

41 - ذيل التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد

ذَيْل التقييد لمعرفة رواة السُّنن والمسانيد (¬1) لتقي الدين محمَّد بن أَحمد الفاسي (832) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم، واسمه الخضر بن محمَّد بن الخضر بن عليّ بن عبد الله الحَرَّاني، ثمَّ الدِّمشقي، الشَّيخ تقي الدين أَبو العَبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدين ابن الشَّيخ مجد الدين، المعروف بابن تَيْمِيَّة. سمع على أمين الدِّين القاسم بن أَبي بكر الإربلي «صحيح مسلم» وعلى الشَّيخ تاج الدين الفزاري، وعلي بن بَلَبَان، ويوسف بن أَبي نصر الشقاري (¬2) المجلدة الأولى من «صحيح البخاريّ» نسخة السميساطية، والمجلدة الثانية منه، والمجلدة الثالثة، والمجلدة الرابعة، والسادسة بقراءة الصفي العراقي سنة اثنتين وثمانين وستمائة. وكان واسع المعرفة بالتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والعربية، وغير ذلك، موصوفًا بالاجتهاد. مات سنة ثمان وعشرين وسبع مئة مسجونًا بقلعة دمشق. وسمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليسر، وغيرهم. وحدّث، سمع منه الحافظان البرزالي، والذهبي. ¬

_ (¬1) (2/ 73 - 72) مركز البحوث وإحياء التراث الإسلامي بمكة المكرمة (ط: 1) 1418، تحقيق محمد صالح المراد. (¬2) في بعض المصادر: "السفاري".

42 - التبيان لبديعة البيان

التِّبْيَان لِبَدِيْعَةِ البَيَان (¬1) للعلاَّمة/ محمَّد بن ناصر الدين الدِّمشقي الشَّافعيّ (842) ثمَّ فَتَى تَيْمِيَّةٍ حَرَّاني ... ذَكَّرَهُمْ كَلاَمُهُ المَعَانِيْ حرَّاني: نسبة إِلى حرّان مدينة مشهورة بين الموصل والشام والروم، بينها وبين الرّها يوم، وبين الرقة يومان، قيل: سميت بهاران أَخي إِبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وهو والد لوط - عليه السلام - لأَنَّه أَوّل من بناها، ثمَّ عُرِّبت فقيل: حران، وذكر قوم فيما حكاه ياقوت في «معجم البلدان»: أنها أوّل مدينة بنيت في الأرض بعد الطوفان، فُتحت في أَيام عمر - رضي الله عنه - على يدي عِياض بن غنم بن زهير الفهري - رضي الله عنه - صُلحًا في سنة تسع عشرة، ونزلها أَنس بن مالك وغيره من الصَّحابة - رضي الله عنهم، وخرج منها أَئمة، ذكر غالبهم أَبو عَروبة الحَرَّاني في «تاريخه»، وكذلك أَبو عليّ محمَّد بن سعيد الحَرَّاني في «تاريخه»، وأَبو الحسن عليّ بن الحسن بن علان بن عبد الرَّحمن الحَرَّاني. وقولي: (ذكّرهم) أَي: أعلمهم، (والمعاني) جمع معنى، وهو مراد الكلام، وفي الحاء والذال والكاف (¬2): رمز وفاة ابن تَيْميَّة المذكور بلا خلاف. ¬

_ (¬1) راجعنا نسختين من الكتاب، إحداهما عليها خط المؤلف، ميكروفيلم رقم (798) بجامعة أم القرى، والثانية -وفيها زيادات- نسخة مكتبة عارف حكمت بالمدينة النبوية برقم (561 - تاريخ) [ق/ 151 ب- 152 ب]. (¬2) يعني هذه الحروف في البيت المتقدم، وقيمته العددية على حساب الجُمَّل= (728) فالحاء= 8، والذال= 700 والكاف = 20.

وهو: أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الخضر بن محمَّد بن الخضر بن إِبراهيم بن عليّ بن عبد الله النُّميري (¬1) الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي، أَبو العَبَّاس، ابن تَيْميَّة الإِمام شيخ الإِسلام أستاذ الحفاظ، علم الأئمة الأيقاظ، المنعوت بتقي الدين. ذكر أَبو عبد الله بن محمَّد بن النجار مؤرِّخ المحدِّثين في (تَيْميَّة) المعوّل في شهرته عليها (¬2) أَنَّ أُم جده محمَّد بن الخضر كانت واعظة تسمَّى تَيْميَّة، فنُسب إِليها، وقيل: حج جدّه المذكور فمرّ على درب تَيْماء المشهور، فخرج عليه من خباء جارية طفلة سنية، فلما رجع رأى زوجته، وكانت حاملاً قد وضعت بنتًا، فقال لها: يا تَيْميَّة يا تَيْميَّة! فلزمه هذا الاسم لقبًا مذكورًا، وصار لذريته من بعده علمًا مشهورًا، ومن زعم أَنَّ أُمهم من وادي التيم فقد تقوَّل، وليس بصحيح ما عليه عوّل. ولد أَبو العَبَّاس بحرَّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأوّل، وقيل: ثاني عشره، وعلى الأَوَّل المعوَّل. سنة إِحدى وستين وست مئين، وأَوّل سماعه من ابن عبد الدَّائم في سنة سبع وستين، ثمَّ برع في التفسير والفقه وأُصوله العربية، ولم يصل عمره إِلى العشرين. ثمَّ سمع من خلق من الأَعيان، منهم: إِسماعيل بن أَبي اليسر، ويحيى بن أَبي منصور الصيرفي، والمسلم بن علان. حدّث عنه خلق منهم: الذَّهَبيّ والبرزالي وأَبو الفتح ابن سيد النَّاس وحدثنا عنه جماعة من شيوخنا الأكياس. ¬

_ (¬1) ووافقه على هذه النسبة العلامة: العدوي في كتابه "الزيارات"، انظره في هذه المجموعة. (¬2) كذا بالأصلين، والأولى: عليه.

وقال الذَّهبيّ في عَدِّ مصنّفاته المجوّدة: وما أُبعد أَنَّ تصانيفه إِلى الآن تبلغ خمس مئة مجلدة، وأثنى عليه الذَّهبيّ وخلق بثناءٍ حميد، منهم: تاشَّيخ عماد الدين الواسطي العارف، والعلاّمة تاج الدين عبد الرَّحمن الفزاري، وكمال الدين أَبو المعالي محمَّد بن الزَّمْلَكاني، وأَبو الفتح ابن دقيق العيد، وحسبه من الثناء الجميل، قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل: أَبي الحجاج المزِّي الحافظ الجليل، قال عنه: ما رأَيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أَحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه. وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع من العلوم وفنون: ابن الزَّمْلَكاني، والذَّهبيّ، والبرزالي، وابن عبد الهادي وآخرون. وقال الذَّهبيّ - بعد أَن أَشار إِلى بعض ما كَانَ فيه، وما كَانَ يحويه من العلوم ويدريه: وهو أَعظم من أَن تصنفه كلمي، ويُنَبِّهَ على شَأْوِه قلمي؛ فإِنَّ سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أَن توضع في مجلدتين. وذكر وفاته في كتابه «الدول الإسلامية»، وقال: وشيَّعه خلق أَقلّ ما حُزروا بستين ألفًا، ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل. انتهى. وقيل: كَانَ من حضر جنازته أكثر من مئتي أَلف إنسان، لأنّ أهل دمشق حضروه إِلاَّ نفرًا قليلاً، ومن عجز عن الإتيان، وكان بين الحاضرين بكاءٌ عظيم، وتضرع إِلى الله تعالى وأذكار. وتردد النَّاس إِلى قبره بالصوفية الليل والنهار، ورٌئِيَتْ له منامات حسنة خطيرة، ورثاه جماعة بقصائد كثيرة. قال أَبو عبد الرَّحمن السلمي: حضرت جنازة أَبي الفتح القوّاس الزاهد مع الشَّيخ أَبي الحسن الدارقطني، فلما بلغ ذلك إلى ذلك الجمع الكثير أقبل علينا فقال: سمعتُ أَبا سهل بن زياد القطان يقول: سمعت ابن أَحمد

ابن حنبل يقول: سمعت أَبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز. أنبأنا شيخنا الحافظ الكبير أَبو بكر محمَّد بن عبد الله السعدي قال: أنشدنا الحافظ الكبير أَبو عبد الله محمَّد بن أَحمد بن الذَّهبيّ لنفسه يرثي شيخ الإِسلام أَبا العَبَّاس ابن تَيْميَّة - رحمة الله تعالى عليه -: يا موتُ خُذْ من أَردت أَو فدعِ ... مَحوتَ رسم العلومِ والورعِ أَخذت شيخ الإسلام وانفصمت ... عُرى التُّقى فاشتفى أُولوا البِدَعِ غيَّبت بحرًا مفسِّرًا جبلاً ... حبرًا تقيًّا مجانب الشبعِ فإن يحدِّث فمسلم ثقة ... وإِنْ يُناظر فصاحب «اللمعِ» وإن يخض نحو سيبويه يَفُهْ (¬1) ... بكلِّ معنى في الفنِّ مخترعِ وصار عالي الإِسناد حافِظَهُ ... كشعبةٍ أَو سعيد الضبعي والفقه فيه فكان مجتهدًا ... وذا جهاد عارٍ من الجزعِ وجوده الحاتمي مشتهر ... وزهده القادري في الطمعِ (¬2) أسكنه الله في الجنان ولا ... زال علِيًّا في أَجمل الخِلَعَ مع مالك والإمام أحمد والنـ ... ـعمان والشافعي والخِلَعِي (¬3) مضى ابن تيميةٍ وموعِدُه ... مع خصمه يومَ نفخةِ الفزعِ ¬

_ (¬1) في نسخة: يُفِد. (¬2) كذا، وفي "العقود": "الطبع". (¬3) في العقود: "النخعي".

العلامة أحمد بن علي المقريزي (845) 1 - المقفّى الكبير 2 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 3 - السلوك لمعرفة دول الملوك

43 - المقفى الكبير

المُقَفَّى الكَبِيْرُ (¬1) ابن تَيْمِيَّة أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم [بن] محمَّد بن تَيْمِيَّة، تقيّ الدين، أَبو العبَّاس، المنعوت «شيخ الإِسلام» ابن الإِمام شهاب الدين أَبي المحاسن، ابن العلامة مجد الدين أَبي البركات، الحرّانيّ الأصل، الدمشقيّ المنشإِ والدار والوفاة. ولد بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستّين وستّمائة. وقدم مع والده وأهله دمشق في سنة سبع وستّين وستّمائة. وسمع من ابن عبد الدائم وطبقته. ثمَّ طلب بنفسه قراءةً وسماعًا من خلق كثير، وقرأ بنفسه الكتب، وكتب الطِّباق والأَثبات، ولازم السَّماعَ مدّة سنين فبلغت شيوخه نحو [مئتي] (¬2) شيخ. واشتغل بالعلوم، وكان من أذكى الناس، كثير الحفظ، قليل النسيان، قلّما حفظ شيئًا فنسيه، إِلى أَنْ صار إمامًا في التفسير وعلوم القرآن، عارفًا بالفقه واختلاف [العلماء]، بارعًا في الأصلين، والنحو وما يتعلق به، واللغة، والمنطق، وعلم الهسئة، والجبر والمقابلة، وعلم الحساب، وعلم أهل الكتابين وأهل البدع، وغير ذلك من العلوم النقليّة والعقلية، حتَّى أَنَّه ما تكلّم معه فاضل في فنَ من الفنون إِلاَّ ظنَّ أَنَّ ذلك الفنَّ فنُّه. وصار حُفَظَةً ¬

_ (¬1) (1/ 454 - 483) دار الغرب الإسلامي، بيروت، (ط: 1) 1411. (¬2) في الأصل: مئة، والتصويب من المصادر.

للحديث، مُميّزًا بين صحيحه وسقيمِه، عارفًا بربجاله وعلله، مُتضلّعًا من ذلك، مع التبحّر في علم التاريخ. ومات أبوه في السابع والعشرين من ذي الحجَة سنة اثنتين وثمانين بدمشق. وفي يوم الاثنين ثامن المحّرم سنة ثلاث وثمانين، ذُكر الشَّيخ تقيّ الدين للدرس موضعَ والده، بدار الحديث من القصّاعين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدين الفزاريّ، وزين الدين ابن المرحّل، وزين الدين ابن المُنجَّى وجماعة. وفي يوم الجمعة عاشر صفر، جلس بجامع دمشق على المنبر لتفسير القرآن الكريم مكانَ والده، وابتدأ من أوّل الفاتحة. وفي يوم الجمعة رابع شهر ربيع الآخر سنة تسعين وستّمائة، ذكر على كرسيِّه شيئًا من الصِّفات، فشنّع عليه نور الدين بن مصعب، وساعده الفقير المعتقد نجم الدين محمَّد الحريريّ، وصدر الدين ابن الوكيل، وجماعة. وَمَشوا إِلى الشيخين شرف الدين المقدسيّ وزين الدين الفارقاني، ومنعوه من الجلوس فلم يمتنع، وجلس في الجمعة الثانية. وقال قاضي القضاة شهاب الدين محمَّد بن أَحمد الخويّي حاكم دمشق: أَنا على عقيدة الشَّيخ تقيّ الدِّين فعوتب على ذلك. فقال: لأنّ ذهنه صحيح، وموادّه كثيرة، فلا يقول إلاّ الصحيح. ثمَّ إِنَّ القاضي شرف الدين المقدسيّ قال: أَنا أرجو بركته ودُعاءَه، وهو صاحبي وأخي. واجتمع به وجيه الدين ابن المنجَّى، وزين الدين الخطيب، فتبرّأ من القضيّة، وعتب ولده صدر الدين، فسكن الأمرُ بعد ذلك.

وتوجّه إِلى الحجّ في سنة اثنتين وتسعين وعاد. فلمّا كَانَ في شهر رجب سنة ثلاث وتسعين، دخل هو والشَّيخ زين الدين الفارقيّ إِلى الأمير عزّ الدين أيبك الحمويّ نائب دمشق وكلّماه في أمر النصرانيّ الَّذي سبّ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأجابهُما إِلى إحضاره، وخرج الناس. فرأوا ابن أَحمد بن حجّي الَّذي أجار النصرانيّ، فكلّموه في أمره، وكان معه رجل من العرب، فقال للناس عن النصرانيّ: إِنَّه خيرٌ منكم! فرجموه بالحجارة. وهرب عسّاف. فأحضر النائب لمّا بلغه ذلك، ابن تَيْمِيَّة والفارقاني وأخرق بهما، وأمر بهما فضُربا، وحُبسا في العذراويّة، وضَرَبَ عدّةً من العامّة وحبس منهم ستة نفر، وضرب والي البلد جماعةً وعلّقهم. وسعى النائب في إثبات العداوة بين النصرانيّ وبين مَن شهد عليه، ليخلّصه. فخاف النصرانيّ عاقِبَة هذه الفتنة وأسلم. فعقد النائب عنده مجلسًا حضره قاضي القضاة وجماعة من الشافعيّة، وأفتوا بحضقْنِ دم النصرانيّ، بعد الإِسلام. وطلب الفارقانيّ فوافقهم، وطَلب ابنَ تَيْمِيَّة وطيّب خاطره وأطلقه. وفي يوم الأربعاء سابع عشر شعبان سنة خمس وتسعين، درّس ابن تَيْمِيَّة بالمدرسة الحنبليّة عوضًا عن زين الدين ابن المنجَّى. وفي شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين، قام جماعة من الشافعيّة عليه، لكلامه في الصفات. ووقعت بأيديهم فُتْياه الحمويّة، فردّوا عليه وانتصبوا لعناده. ووافقهم القاضي جلال الدين الحنفيّ. وأمر بإطلاق النداء على إبطال العقيدة الحمويّة، فُنودي بذلك. فانتصر له الأمير سيف الدين جاغان المشدّ، وطلب الَّذين قاموا عليه، وضرب المنادي، وجماعة ممّن كانوا معه. وفي يوم الجمعة ثالث عشره، جلس على عادته وتكلّم على قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلضى خُلُقٍ عَظِيمٍ، [القلم: 4]. وحضر عنده من

الغد قاضي القضاة إِمام الدين القزوينيّ، وقُرئت العقيدة الحمويّة بحضور جماعة، وحُوقِقَ على ما فيها فأجاب بما عنده وانفصل المجلس فسكنت القضيّة. وفي شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستّمائة، خرج من دمشق في جماعة إِلى غازان متملّك التتر لمّا قدم إِلى الشَّام، وكان قد نزل تلّ راهط. فلم يمكّنه الوزير [سعد الدين] من لقاء غازان فعاد. ثمَّ إِنَّه توجّه إِليه ثانيًا واجتمع به وكلّمه بغلظة، فكفّ اللهُ يدَ غازان عنه وذلك أَنَّه قال لترجمان الملك غازان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض، وإمام، وشيخ ومؤذّنون على ما بلغنا، فغَزوتنا. وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرَين، وما عمِلا الذَذي عمِلت، عاهدا فوَفَيا. وأنت عاهدتَ فغدرْتَ، وقُلتَ فما وفيتَ! - ومرّ في مثل هذه المحاسبة، وقد حضر قضاة دمشق وأعيانُها. فقدّم إليهم غازان طعامًا فأكلوا، إلاّ ابن تَيْمِيَّة. فقيل له: لمَ لا تأكل؟ فقال: كيف آكلُ من طعامكم، وكلّه ممّا نهبتُم من أغنام الناس وقطعتُم من أشجار الناس؟ ثمَّ إِنَّ غازان طلب منه الدعاءَ. فقال في دعائه: اللهم، إِنْ كَنتَ تَعلمُ أَنَّه إنّما قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك، فأيّدْه وانصُره. ةإن كَانَ للمُلك والدنيا والتكاثُرِ، فافعل به واصنع! - يدعو عليه، وغازان يؤمّن على دعائه، وقضاة دمشق قد خافوا القتل وجمعوا ثيابهم خوفًا أَن يبطشَ به غازان فيصيبهم من دمه. فلّما خرجوا قال قاضي القضاة ابن الصصريّ لابن تَيْمِيَّة: كدتَ تُهلكنا معك. ونحن ما نَصْحَبُك من هنا!

فقال: وأنا لا أصحبُكم! فانطلقوا عُصبةً وتأخَر ابن تَيْمِيَّة في خاصّة من معه. فلم يبق أحدٌ من الحرّاس والأمراء حتَّى أتَوه من كلّ جهةٍ وتلاحَقوا به ليتبرَّكُوا برؤيته. فما وصل دمشق إِلاَّ في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، ودخلوا. وأمّا القضاة فخرج عليهم جماعة فجرّدُوهم من ثيابهم، ودخلوا المدينة عُراةً. فلمّا عاد غازان إِلى بلاده، ركب ابن تَيْمِيَّة البريد إِلى مهنّأ بن عيسى واستْحضره إِلى الجهاد. وركب بعده إِلى القاهرة واستنّفَر السلطان. وواجه بالكلام الغليظ أمراءه وعسكره. ولمّا جاء السلطان إِلى شَقْحب لاقاه وجعل يشجّعه ويثبّته. فلمّا رأى السلطان كثرة التَّتار قال: يا لخالدِ بن الوليد! فقال له: لا تقُل هذا. بل قل: يالله! واستغث بالله ربّك ووحِّدْه وحدَه تُنصَرْ، وقل: يا مالكَ يوم الدين، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين! - وما زال يطلّ على الخليفة المستكفي بالله، وتارة على الملك الناصر محمَّد بن قلاوون ويُهَدِّئْهما ويربط جأشَهما، حتَّى جاء نصر الله والفتح. وقال للسلطان: أنت منصور فاثبت! فقال له بعض الأمراء: قل: إِن شاء الله! فقال: إِنْ شاء الله، تحقيقًا، لا تعليقًا! - فكان كما قال. ولمّا أعيدت الخطبة بجامع دمشق - بعد رحيل غازان - للملك الناصر محمَّد بن قلاوون في يوم الجمعة سابع عشري شهر رجب من السنة المذكورة، دار [ابن تَيْمِيَّة] بنفسه على ما جُدّد من الخمّارات، وأراق خمورها وكسر أوابيَها وشقّ ظروفها، وعزّر الخمّارين هو

وجماعتُه. وكان الناس يمشون معه، وهو يدور على الجماعات ويقرأ عليهم سورة القتالِ وآيات الجهاد وأحاديث الغزو والرباط والحرس، ويحثّهم على ذلك. فلمّا عاد التَّتار إِلى حب في سنة سبعمائة، وانجفَل الناس منهم - وكان قد خرج عسكر ورجع - ركب ابنُ تَيْمِيَّة خيَل البريد إِلى مصر فدخل قلعة الجبل في اليوم الثامن من خروجه من دمشق، وذلك في شهر جمادى الأولى، وحضّ على الجهاد في سبيل الله وأغلظ في القول. واجتمع بالسلطان وأركان الدولة. وأنزل بالقلعة ورُتّب له في كل يوم دينار ومحفيَّة (¬1)، وبعَثَ إِليه السلطان بَقْجة قُماش. فلم يقبل من ذلك شيئًا. ثمَّ عاد إِلى دمشق وقد حرّض الدولة على قتال التَّتار. فلمّا كَانَ أوّل ذي القعدة سنة إِحدى وسبعمائة، قام عليه جماعة وسألوا الأمير أيبك الأفرم نائب دمشق مَنْعَه مِمَّا يتعاطاه من التعزير وإقامة الحدود. وكان قد حلق رؤوسًا وضرب جماعة. ثمَّ سكنت القضيّة. وفي شهر رجب سنة ثلاث وسبعمائة، أحضر ابن تَيْمِيَّة إِبراهيم القطّان صاحب الدلق الكبير، وقصّ أظفاره وشعره المفتّل وشاربه المسبل، وأمره بترك الصياح والفحش وأكل الحشيشة وتركِ لباس الدلق الكبير، وفتقه، وكان فيه قطع كثيرة من بسط وعبيّ. وفي سابع عشر أحضر الشَّيخ محمَّد البلاسيّ فتاب على يده، وأشهد عليه بترك المحرّمات واجتنابها، وأَنَّه لا يخالط أهل الذّمّة ولا يتكلّم في تعبير ¬

_ (¬1) كذا بالأصل.

الرؤيا ولا في شيءٍ من العلوم بغير معرفة. وكتب عليه بذلك مكتوبًا. وفي يوم الأثنين سادس عشريه، حضر، ومعه عدّة من الحجّارين، وقطع الصخرة الَّتي بجوار مصلّى دمشق حتَّى زالت، وأراح الناس من أمرها، فإنها كانت تزارُ وينذرها الناس ويتبرّكون بها. وفي محّرم سنة خمس وسبعمائة توجّه مع الأفرم إِلى جبل كسروان وغزا أهله وشدّ في وسطه السيف والتركاش وأفتى بقتالهم، وعاد وقد انتصر عليهم. وفي جمادى الأولى اجتمع عند الأفرم جماعة من الفقراء الأحمديّة الرّفاعيّة، وحضر ابنُ تَيْمِيَّة. وأراد الفقراءُ إظهار شيءٍ من أحوالهم. فقال: لا يسع أحدًا الخروج عن الشريعة بقول ولا فعل. (وقال) هذه حِيَل يتحيّلون بها في دخول النار وإخراج الزبَد من الحلق. ومَن أراد دخول النار فليغسل جسدّه في الحمّام ثمَّ يدلكه بالخلّ وبعد ذلك يدخل النار. ولو دخل لا يلتفت إِلى ذلك، بل هو نوع من فعل الدجّال عندنا. - وكان جمعًا كبيرًا. فقال الشَّيخ الصالح شيخ المنيبع: نحن أحوالُنا تنفقُ عند التَّتار، وما تنفق عند أهل الشرع. وانفصل المجلس على أَنَّهم يخلعون أطواقَ الحديد، وأنّ مَن خرج عن الكتاب والسنّة تضرب رقَبَتُه. وكتب ابن تَيْمِيَّة عُقَيب هذه الواقعة جزءًا في حال الأحمديّة ومبدإِ أمرهم وأصل طريقتهم، وما فيهم من الخير والشرّ. وكان قد ظهر الشَّيخ نصر الدين المنبجيّ بمصر، واستولى على أرباب الدولة حتَّى شاع أمره. فيل لابن تَيْمِيَّة: إِنَّه اتّحاديّ وإنَّه ينصر

مذهب ابن العربيّ وابن سبعين. فكتب إِليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه. فتكلّم نصر المنبجيّ مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدعٌ، وأخاف على الناس من شَرّه! - فحسّن القضاة للأمراء طلبه إِلى القاهرة وأن يعقد له مجلس بدمشق. فلمّا كَانَ في يوم الاثنين ثامن شهر رجب، طُلب ابن تَيْمِيَّة والفقهاء إِلى القصر الأبلق عند الأفرم. وسأله عن العقيدة فأحضر عقيدته الواسطيّة وقرئت في المجلس، وبحث معه فيها، وانفصل المجلس ولم يُكمل قراءتَها. ثمَّ اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشرة بعد الصلاة، وحضر الشَّيخ صفيّ الدين الهنديّ وأقامو [هـ] للبحث معه. ثمَّ أقاموا الشَّيخ كمال الدين ابن الزملكانيّ فحاققه وبحث معه من غير مسامحة، فرضُوا ببحثه وأثنَوا على فضائله وانفضُّوا، والأمر قد انفصل. فاتّفق بعد ذلك أَنَّ بعض قضاة دمشق عزَّر شخصًا من أصحاب ابن تَيْمِيَّة وطلب جماعةً ثمَّ أُطلِقُوا، فوقه هرجٌ في البلد. وكان الأفرم قد خرج للصيد، فقرأ في يوم الاثنين ثاني عشري رجب المذكور الشَّيخ جمالُ الدين المزّيّ فصلاً في الردّ على الجهْمِيّة من كتاب: «أفعال العباد» للبخاري، تحت [قبة] النسر فغضب بعض الفقهاء لذلك وقالوا: نحن المقصودون بهذا! - ورفعوا الأمر إِلى قاضي القضاة الشافعيّ. فطلبه ورسم عليه. فقام ابن تَيْمِيَّة وأَخْرَجَ المزيّ من الحبس بنفسه، وخرج إِلى القصر واجتمع هناك بقاضي القضاة وأثنى على المزّيّ. فغضب القاضي وأعاد المزيّ إِلى الحبس فبقِي أيّامًا. فرسم الأفرم فنودي في البلد بمنع الكلام في العقائد، ومن تكلّم فيها حلّ دمُه ومالُه ونُهبت داره وحانوتُه. وعقد في تاسع شعبان مجلس ثالث بالقصر لابن تَيْمِيَّة، فرضي

الجماعة بالعقيدة، وعزل قاضي القضاة نجم الدين نفسه بسبب كلام سمعه من ابن الزملكانيّ. ثمَّ وردت ولايتُه من مصر. فقام نصر المنبجيّ بالقاهرة وقال لقاضي القضاة زين الدين بن مخلوف المالكيّ: قل للأمراء بأنّ ابن تَيْمِيَّة يُخْشى على الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب. فحدّثهم بذلك حتَّى تَخَيَّلوا منه. فورد كتاب السلطان بإِحضار ابن تَيْمِيَّة وإحضار قاضي القضاة نجم الدين ابن الصصري إِلى مصر. فمانع الأفرم نائب دمشق وقال: قد عُقد له مجلسان بحضرتي وحضرة القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيءٌ. فقال له الرسول: أَنا لك ناصحٌ. وقد قال عنه الشَّيخ نصر المنبجي إِنَّه يجمع الناس عليك ويعقد البيعة لغير السلطان. فخاف النائب وبكى (¬1) منه. فتوجّها في ثاني عشر شهر رمضان على البريد. فلمّا دخل ابن تَيْمِيَّة مدينة غزّة عمل بجامعها مجلسًا. وتوجّه إِلى قلعة الجبل وقد كتب الأفرمُ معه كتابًا إِلى السلطان، وكُتب معه محضر فيه خطوط عدّةٍ من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء يصفون ما جرى في المجلسَين بدمشق، وأَنَّه لم يثبت عليه فيهما شيءٌ، ولا منع من الإِفتاء. فلم يلتفت إِلى ذلك. وقصد ابن تَيْمِيَّة أَنْ يعقد بالقلعة مجلسًا، وأراد أَن يتكلم فلم يمكّن ¬

_ (¬1) كذا.

من الكلام على عادته، وحبس في البرج أيّامًا. ثمَّ نُقِل إِلى الجبّ ليلة عيد الفطر، هو وأخواه. وأُكرِم قاضي القضاة نجم الدين وخُلع عليه، وأعيدَ إِلى دمشق، ومعه كتاب قُرِئ بدمشق يتضمَّن مخالفة ابن تَيْمِيَّة في العقيدة وإِلزامَ النَّاس بذلك، خصوصًا أهل مذهبه، والوعيدَ بالعزل والحبس. ونودي بذلك في البلاد الشاميّة. وكثر المتعصّبون على ابن تَيْمِيَّة بالقاهرة، وأوذيَ الحنابلةُ، وحبس تقيّ الدين عبد الغنيّ ابن الشَّيخ شرف الدين الحنبليّ. وأُلزِم سائر الحنابلة بالرجوع عن عقيدة ابن تَيْمِيَّة، وشُنّع عليه. وأشار القضاة على رفيقهم قاضي القضاة شرف الدين أَبي محمَّد عبد الغني بن يحيى بن محمَّد الحَرَّاني بموافقة الجماعة، فوافق وأُلزم جماعة من أهل مذهبه بذلك وأخذ خطّهم. ومرّ على الحنابلة ما لم يجر عليهم مثله. وكان ذلك كلّه بقيام الأمير ركن الدين بيبرس الجاشِنكير، تعصُّبًا للشيخ نصر المنبجيّ. وفي أوائل شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وسبعمائة، اعتثقِل شرفُ الدِّين محمَّد بن بُخيخ الحَرَّاني، أحد أصحاب ابن تَيْمِيَّة، بقلعة الجبل، بعد أَن اجتمع بالأمير سلار والأمير بيبرس وتكلّم عندهما كلامًا طويلاً. واستمرّ في الحبس إِى سادس شعبان فأطلقه الأمير سلار. وفي سلخ شهر رمضان جمع الأمير سلار القضاة، ما خلا الحنبليّ، والجزريّ، والنمراوي، وتكلّم في إخراج ابن تَيْمِيَّة. فقال الفقهاء والقضاة: بشرط أَنْ يلتزم أمورًا، منها الرجوع عن بعض العقيدة.

وبعثوا إِليه ليحضر فلم يوافق على الحضور، وتكرّر إِليه الرسول مرّاتٍ، وهو مصمّم على عدم الحضور، فانصرفوا من غير شيءٍ. فلمّا كَانَ في ثامن عشري ذي الحجّة منها، ورد كتاب ابن تَيْمِيَّة من الجبّ على الأفرم يخبره بحاله. فأثنى الأفرم على علمه وشجاعته وقال: إِنَّه ما قبل شيئًا، قلّ ولا جلّ. فلمّا كَانَ في صفر سنة سبع وسبعمائة اجتمع قاضي القضاة بدر الدين محمَّد بن جماعة الشافعيّ بالشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة في دار الأمير الأوحديّ بكرةَ الجمعة رابع عشريْه بقلعة الجبل، وطال بينهما الكلام، وتفرّقا قبل الصلاة. وفي شوّال شكا الشَّيخ كريم الدين الآمليّ شيخ الصوفيّة بالقاهرة، وابن عطاء وجماعة نحو الخمسمائة نفس، من ابن تَيْمِيَّة وكلامه في ابن العربيّ الصوفيّ وغيره، إِلى أمراء الدولة. فردُّوا الأمر في ذلك إِلى ابن جماعة. فعُقد له مجلس، وادّعى عليه ابن عطاء بأشياء لم يثبت منها شيء. لكنّه اعترف بأنّه قال: لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم استغاثةً بمعنى العبادة، ولكنه يُتوَسّلُ به. فقال بعض الحاضرين: ليس في هذا شيءٌ. ورأى ابن جماعة أَنَّ هذا إساءةُ إدبٍ وعنّفه على ذلك، فحضرت رسالة إِليه أَنْ يعمل في ابن تَيْمِيَّة ما تَقْتضيه الشريعة في ذلك فقال: قد قلتُ له ما يقال لأمثاله. فلم يقنعهم بذلك. وخيّروا ابن تَيْمِيَّة بين الإقامة بدمشق أَو الإسكندرية بشرط الحبس، فاختار الحبس.

ودخل عليه جماعة في السفر إِلى دمشق، ملتزمًا ما شُرط، فأجابهم، وركب البريدَ ليلةَ الثامن عشر من شوّال وسار. فأرسل إِليه من الغد بريدٌ آخر ردّه إِلى عند ابن جماعة، وقد اجتمع الفقهاء. قال بعضهم: ما ترضى الدولة إِلاَّ بالحبس. فقال ابن جماعة: وفيه مصلحة له. فاستناب شمس الدين التونسيّ المالكيّ، وأذن له أَنْ يحكم عليه بالحبس، فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء. فأذن لنور الدين الزواوي المالكيّ، فتحيّر فقال ابن تَيْمِيَّة: أَنا أمضي إِلى الحبس وأَتَّبع ما تقتضيه المصلحة. فقال الزواوي: فيكون في موضع يصلح لمثله. فقيل له: ما ترضى الدولة إِلاَّ بالحبس. فأرسل إِلى حبس القاضي. وأجلس في الموضع الَّذي أجلس فيه قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعزّ لمّا حبس. وأُذن له أَنْ يكونَ عنده مَن يخدمه. وكان هذا جمعه بإشارة الشَّيخ نصر المنبجيّ. فاستمر في الحبس، يُستَفتَى، ويزوره الناس، وتأتيه الفتاوى الغريبة المشكلة من الأمراء والأعيان، إِلى ليلة الأربعاء العشرين من شوال [فـ] طُلِب أخواه زين الدين وشرف الدين، فُوجد زين الدين ورُسم عليه، وحُبس عند الشَّيخ تقيّ الدين. فلم يزالا إِلى أَنْ قدِم مهنّأ بن عيسى أمير العرَب إِلى السلطان فدخل على الشَّيخ وهو بالسجن، في أوائل ربيع الأوّل سنة تسع

وسبعمائة، وزاره، وأَخْرَجَه بعدما استأذنَ في ذلك. فخرج يوم الجمعة ثالث عشريْه إِلى دار النيابة بالقلعة. وحضر الفقهاء وحصل بينهم وبينه بحث كبير إِلى وقت الصلاة. ثمَّ عادوا إِلى البحث حتَّى دخل الليل، ولم ينفصل الأمر. ثمَّ اجتمعوا بضمرسوم السلطان يوم الأحد خامس عشريْه مجموع النهار، وحضر أكثر الفقهاء، فيهم نجم الدين ابن الرفعة، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أَبي سعد، وعزّ الدين النصراوي، وشمس الدين ابن عدلان، ولم يحضر القضاة. وطُلبوا فاعتذروا. وانفصل المجلس، وبات ابن تَيْمِيَّة عند النائب. فأشار الأمير سلار بتأخيره أيامًا ليرى الناس فضلَه ويجتمعُوا به. فعُقِد له مجلسٌ آخر بالمدرسة الصالحيّة بين القصرين. ثمَّ أخرج من القاهرة [إِلى] الإِسكندرية [و] معه أمير، ولم يمكّن أحدٌ من جماعته أَن يسافرَ معه. ودخل إِليها ليلاً وحُبس في برج. ثمَّ توجّه إِليه أصحابُه واجتمعوا به. فأقام إِلى ثامن شوّال. وطلب فسار إِلى القاهرة، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة رابع عشريْه فأكرمه وتلقّاه في مجلس حفل فيه القضاة والفقهاء، وأصلح بيْنهم وبينَه. ونزل إِلى القاهرة فسكن بجانب المشهد الحسينيّ، وتردّد الفقهاء والأمراء والأجناد وطوائف الناس إليه. فلمّا كَانَ في العشر الأوسط من شهر رجب سنة إِحدى عشرة وسبعمائة، ظفر به أحد المتعصّبين عليه في مكان خال، فأساء عليه الأدب. وعلم بذلك أصحابه فحضر إِليه كثير من الجند وتحدّثُوا

بالانتصار له، فأبى ذلك ومنعهم منه. ثمَّ خرج إِلى دمشق مع العسكر قاصدًا الغزاة، وتوجّه إِلى القدس وسار على عجلون وزرع، فدخل دمشق في أوّل ذي القعدة - وقد غاب عنها أكثر من سبع سنين - ومعه أخواه وجماعة من أصحابه. فخرج إِليه خلق كثير، وسُرّوا به سرورًا كبيرًا. وفي يوم الأربعاء العشرين من شوّال سنة ستّ عشرة وسبعمائة، توفّيت والدتُه ستُّ النعم بنت عبد الرَّحمن بن عليّ بن عبدوس الحرّانية بدمشق، ودُفنت بمقابر الصوفيّة. وكان مولدها في سنة خمس وعشرين وستّمائة تقريبًا. وولدت تسعة أولاد من الذكور، ولم ترزق بنتًا. وفي يوم الخميس منتصف شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة وسبعمائة اجتمع قاضي القضاة شمس الدين الحنبيلّ بالشيخ تقيّ الدين، وأشار عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فقبِل إشارتَه. فلمّا كَانَ مستهلّ جمادى الأولى منها، ورد البريد من مصر، ومعه مرسوم السلطان بمنعه من ذلك، وفيه: «من أفتى بذلك نكّل به». ونُودِي بذلك في البلد. فلمَا كَانَ يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة، جُمع الفقهاء والقضاةُ عند الأمير تنكز نائب الشَّام، وقُرئ عليهم كتاب السلطان، وفيه فصل يتعلّق بالشيخ تقيّ الدين بسبب فتياه في مسألة الطلاق. فعوتب على فتياه بعد المنع، وانفضّ المجلس على توكيد المنع. ثمَّ عقد له مجلس في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب سنة

عشرين وسبعمائة بدار السعادة من دمشق، وعاودوه في فُتيا الطلاق وحاققوه عليها وعاتبوه بسببها. ثمَّ إنهم حبسوه بقلعة دمشق فأقام بها إِلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إِحدى وعشرين. فأخرج بعد العصر بمرسوم السلطان وتوجّه إِلى منزله، فكانت مدّةُ سَجنه بالقلعة خمسةَ أشهر وثمانيةَ عشرَ يومًا. وفي يوم الاثنين بعد العصر، السادس من شعبان سنة ستٍ وعشرين، اعتُقل بقلعة دمشق بعدما حضر إِليه الأمير بدر الدين أمير مسعود ابن الخطير الحاجب، بمرسوم السلطان بذلك، ومعه مركوب. فأظهر السرور وقال: أَنا كنت منتظرًا لذلك، وهذا فيه خير كثير! - وركب وهو معه إِلى القلعة فأخليت له دار، وأجري له فيها الماءُ، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورُسم له بما يقوم بكفايته. وكان سبب هذه الكائنة فتوى وُجِدت بخطّه في المنع من السفر وإعمال المطيّ إِلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وفتوى في أَنَّ الطلاق الثلاث بكلمة يُرَدُّ إِلى واحدة. وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان، أمر قاضي القضاة جلال الدين القزوينيّ بحبس جماعة من أصحابه بسجن الحكم. وكان ذلك بإشارة تنكز نائب الشام. وعزّر جماعة على دوابّ ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا إِلاَّ شمس الدين ابن قيّم الجوزية، فإنه حُبِس بالقلعة. وفي يوم الاثنين تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، أخرج ما كَانَ قد اجتمع عند ابن تَيْمِيَّة بالمكان الَّذي هو فيه معتقل بقلعة دمشق من الكتب والكراريس والأوراق، ومن دواة وأقلام، ومُنع من الكتابة وقراءة الكتب وتصنيف شيءٍ من العلوم أَلبتّةَ. وحُملت

في مستهلّ شهر رجب من القلعة إِلى مجلس الحكم، فوضعت بخزانة في المدرسة العادليّة وكانت أكثر من ستّين مجلّدًا وأربع عشرة ربطة كراريس. فنظر القضاة والفقهاءُ فيها، وتفرّقت في أيديهم. وكان سببُ هذا أَنَّه وُجد له جوابٌ عمّا ردّه عليه القاضي المالكيّ بديار مصر، وهو زين الدين ابن مخلوف، فأُعلم السلطان بذلك فشاور القضاةَ فأشاروا بهذا. ولم يزل بالقلعة حتَّى مات يوم الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. فحضر جمع كبير إِلى القلعة، وأذن لبعضهم ف الدخول وغُسّل وصلّي عليه بالقلعة. ثمَّ حُمل على أصابع الرجال، وأتَوا بنعشه من القلعة إِلى الجامع الأمويّ. وحالَما أُذّن لصلاة الظهر، صلّى الإمام الشافعيّ، من غير أَنْ ينتظر صلاة المشهد على العادة. ثمَّ صلّي عليه، وتوجّهوا به إِلى مقابر الصوفية. فما وصلوا به إِليها حتَّى أذّن للعصر. وأراد جماعة أَّن يخرجوا من باب الفرج أَو باب النصر فلم يقدروا من شدّة الزحام وحُمِل على الأيدي والرؤوس والأصابع. وكان الناس يُلقون عمائمهم على النعش ويجرّونها إليهم طلبًا للتبرّك بذلك!! وحُزِرَ مَن صلّى عليه من الرجال فكانوا ستيّن ألفًا، وخمسة آلاف امرأة. وقيل أكثر من ذلك. وكان في عُنقه خيط عُمل بالزئبق لأجل القمل وطرده، فاشْتُرِي بجملة مال. وكتَب بخطّه من التَّصانيف والتعاليق المفيدة، والفتاوى المشبعة، في الأصول، والفروع، والحديث، وردّ البدَع بالكتاب والسنّة، شيئًا كثيرًا يبلغ عدّة أحمال. فممَّا كمل منها: - كتاب الصارم المسلول على منتقص الرسول صلى الله عليه وسلم.

- كتاب تبطيل التحليل. - وكتاب اقتضاء السّراط المستقيم. - وكتاب [في الردّ على] تأسيس التقديس [للرازي]، في عدّة مجلّدات. - وكتاب الردّ على طوائف الشيعة، أربع مجلّدات، وكتاب دفع الملام عن الأئمة الأعلام، وكتاب السياسة الشرعيّة، وكتاب التصوّف، وكتاب مناسك الحجّ، وكتاب الكلم الطيّب. ومسائل كثيرة جدّا يقوم منها عِدَّات كثيرة من المجلّدات. وأكثر مصنّفاته مسوّدات لم تُبَيَّضْ، وأكثرُ ما يوجدُ منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير. فإنّه أُحرقَ منها شيءٌ كثير، ولا قوّة إِلاَّ بالله. ومع ذلك قال القاضي (¬1) الذهبيّ: ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كرّاس وأكثر. - وفسّر كتاب الله تعالى مدّة سنين من صدره أيّامَ الجُمع. ولمّا ولي مشيخة دار الحديث بعد والده، وهو شابّ، وحضره الأعيانُ وأثَنوا عليه وعلى فضائله وعلومه قال الشَّيخ إِبراهيم الرقّيّ: الشَّيخ تقيّ الدين يؤخذ عنه ويُقلّد في العلوم. فإِنْ طال عمرُه ملأ الأرض علمًا وهو على الحقّ. ولا بدَّ أَن يعادِيَه الناسُ فإنّه وارثُ علم النبوّة. وقال كمال الدين ابن الزملكانيّ: لقد أعطي ابن تَيْمِيَّة اليدَ الطولى في حسن التَّصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين. وقد ألان اللهُ له العلومَ كما ألان لداود الحديد! .. ثمَّ كتب على بعض ¬

_ (¬1) كذا بالأصل.

تصانيفه هذه الأبيات من نظمه: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ هو حجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بينَنَا أعجوبةُ الدهرِ هو آيةٌ في الخَلْقِ ظاهرةٌ ... أنوارُها أرْبَتْ على الفجرِ ثمَّ نزغ الشيّطان بينهُما وغلبت على ابن الزملكانيّ أهويته فمالَ عليه مع مَن مال. وقال قاضي القضاة تقيّ الدين أَبو الفتح محمَّد ابن دقيق العيد لمّا اجتمع به عند حضوره إِلى القاهرة في سنة سبعمائة: رأيت رجلاً كلُّ العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدَع ما يُريد. وحضر عنده العلاّمة أثير الدين أَبو حيّان فقال عنه: ما رأت عيناي مثلَه، ومدحه في المجلس بقوله: لمَّا أتينا تقيَّ الدينِ لاحَ لنا ... داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا ... خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ كُنّا نُحدَّث عن حَبْر يجيءُ فهَا ... أنتَ الإِمامُ الذي قد كان يُنتظر ثمَّ دار بينهما كلام جرى فيه ذكر سيبويه. فتسرّع ابن تَيْمِيَّة فيه

بمَقول نافره عليه أَبو حيَّان وقاطعه بسببه، ثمَّ عاد أكثرَ الناس له ذمًّا، واتخذه ذنبًا لا يُغفر. وكان قاضي القضاة نجم الدين أَبو العبّاس ابن صصريّ لا يسمح لمناظريه في بلوغ مرادهم من ضرره ويقول: ما لي وله؟ (¬1) وحكى أَبو حفص عمر بن عليّ بن موسى البزاز البغداديّ قال: حدّثني الشَّيخ المقرئ تقيّ الدين عبد الله بن أَحمد بن سعيد قال: مرضت بدمشق مرضة شديدة فجاءني ابن تضيْمِيَّة فجلس عند رأسي وأنا مُثقَل بالحمَّى والمرض. فدعا لي وقال: قُم، جاءت العافية! - فما كَانَ إِلاَّ [أَن] قام وفارَقَني، وإذا بالعافية قد جاءت وشُفِيتُ لوقتي. وقال فيه الإمام الأوحد القاضي الرئيس كاتب الأسْرَار شهاب الدين أَحمد بن يحيى بن فضل الله العمريّ: هو البحر من أيّ النواحي جئته، والبدرُ من أيّ الضواحي أتيته. جرت آباؤه لِشأو ما قنع به، ولا وقف طليحًا مريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يرضى بغاية، ولا تُقضى له نهاية. رضع ثديَ العلم منذ فُطِمَ، وطلع وجهُ الصباح ليحاكيَه فلُطم، وقطع الليل والنهار دائبين، واتَّخذ العلم والعمل صاحبين، إِلى أَنْ أَنْسَى السلفَ بِهُداه، وأنأى الخلَف عن بلوغ مداه: وَثَقَّفَ الله أمْرًا باتَ يَكلؤُهُ ... يَمضِي حُساماه فيه السيفُ والقلمُ بهمَّةٍ في الثريَّا أثرُ أَخْمَصِها ... وعَزْمَةٍ ليسَ من عادتِها السَّأَمُ على أنّه من بيت نشأت منه علماء في سالف الدهور، ونَسأت منه ¬

_ (¬1) كذا هنا، وينظر "مسالك الأبصار" ففيه ما يخالف ما هنا.

عظماءُ على المشاهير الشهورَ، فأحيَى معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فَنَنِه الرطيب ما غرس. وأصبح في فضله آيةً إِلاَّ أنّه آية الحرس. عرضت له الكدى فدحرجها، وعارضته البحارُ فضحضحَهَا، ثمَّ كَانَ أمّة وحده، وفردًا حتَّى نزل لحدَه، أخمل من القرناءِ كلّ عظيم، وأخمد من أهل الفناء كلّ قديم، ولم يكن منهم إِلاَّ منن يجفل عنه إجفالَ الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤلَ الغريم: مَا كانَ بعضُ الناسِ إلاّ مِثْلَما ... بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتطِيرُ بين خَافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، وتَثْأرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَجْأَرُ أسودُ غِيْلٍ، إِلاَّ أَنَّ صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبَحْرهُ طَمَّ على تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التِّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنَادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأَكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه: تَقدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا ... ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا فجَمعَ أشْتَات المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب، ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأَحْضَرها، فلو شعَرَ أَبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأَدْنَى عَصْرَهُ إِليه مُقرِّبًا، أَو مالكٌ لأَجْرىَ وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أَو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ للأمِّ وَلَدًا، أو: لَيتَني كنت له أبَا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إِذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لاَ بل داودُ الظاهريُّ

وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه، من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّةً في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إِلى استدراكِه وهذا إِلى رِحَلِه. تَرِدُ [إِليه] الفتاوي ولا يَرِدُها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا: أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه ... فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ يَغدُو مُسَاجلُه بغُرَّةِ صافحٍ ... ويَرُوحُ مُعتَرِفًا بذلَّةِ مُذْنِبِ ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فَأُلْجِمُوا إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليَجْنِيَ الشهدَ نَحْلُه، ورُفِعَ إِلى السلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ ورُمِيَ بالكبَائِر، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ فما زادَ على أَنَّه اغتابَ. وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إِلى مِصْرَ ثمَّ إِلى الإِسكندرية، وتارةً إِلى مَحْبَسِ القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أَخْبِئَةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بِزُبَانَي المَنُونِ، وهو على علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء إِلاَّ أَنْ يُصنِّفَه، ويُقرِّطَ به ولو سَمْعَ امْرِىٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تَسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، وتَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إِلى أَنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجَذّبَتْهُ إِلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرزايَا. وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، [وطُبِعَ على قلبه] منه طابعُ الألَمِ، فكان مبدأُ مَرَضِه ومَنْشَأُ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فَقَارَ المنابر، وحَلَّ ساحةَ تُربه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبه من اللائِم والعاذِر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه ما رُئِي.

وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به البلدُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأواخِرُها، ولم يكن أعظم منها مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زِحَامِهَا الأَعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّءوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات، وتقولُ له الأمم: لا فُقِدتَ مِن غائب، ولأقلامه النافعةِ: لاَ أَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِن شَجَرات. وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد له غُلَّة في الجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، ويمنعه من الفتوى، أَو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل، وكان يَجد لهذا ما لا يُزَاح فيه ضَرَرُ شَكْوَى، ولا يُطْفَاُ ضَرَمُ عَدْوى: وكلُّ امرىٍ حازَ المكارمَ محسود كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوَجْهِها ... حسَدًا وبُغْضًا إنه لَدَميمُ كل هذا لتبريزه في الفضل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجلِّيْهِ كالمصباح إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في دفع حُجَّةِ التَّتارِ، واقتحامه وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البِدار، حتَّى جَلَس إِلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فَرَقًا في قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُع المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الَّذي يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فَجلس إِليه وأومأ بيده إِلى صدرِه، وواجَهَه ودرأَ في نَحْرِه، فطَلَبَ منه الدُّعَاء، فرفَع يديه ودعَا، دُعاءَ مُنصفٍ أكثرُه عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ إليه. ثمَّ كَانَ على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة،

أعظم في صدرِ غازانَ المُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهلُ الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر. هذا مع ماله من جهادٍ في الله لم تُفزِعْه فيه ظلل الوشيج، ولم يُجزِعْه فيه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضُروبِ عاشرَها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماح حاشَرَها، وأصناف خُصومِ لُدٍّ اقتحمَ معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَها قوِيُّ لسانِه، وجِلاَدَها شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابَرها، وبُلِيَ بأَصاغِرها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَاهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، ومخالفةِ مِلَلٍ بَيَّنَ لها خطأَ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتَّى ناموا في مراقدِ الخضُوع، وقاموا أرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلَى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ: إذا وَثَبَتْ في وجهِ خَطْبِ تمزَّقَتْ ... على كتفيهِ الدِّرْعُ وانْتَثَر السَّرْدُ إِلاَّ أَنَّ سابقَ المقدور أوقَعَه في خَلَلِ المَسَائِل، وخَطَل خَطَاٍ لا يأمَنُ فيه مع الإكثارِ قائِلٌ، وأظنُّه - واللهُ يَغفِرُ له - عُجِّلَتْ له في الدنيا المقاصَّة، وأخذ نَصِيبَه من بلواها عامَّةً وله خاصَّة، وذلك لحطِّه على بعض سلفِ العلماء، وحَلِّه لقواعدَ كثيرةٍ من نواميسِ القدماء، وقِلَّةِ توقيرِه للكُبَراء، وكثرةِ تكفيرِه للفُقراء، وتزييفه لغالبِ الآراء، وتقريبه لجهَلَةِ العوامِّ وأهلِ المِراء، وما أفتىَ به آخرًا في مسألتَي الزيارةِ والطلاق، وإذاعتِه لهما حتَّى تكلّم فيهما من لا دينَ له ولا خلاق، فسلّط وبالَ الأعداءِ على سَلِيطه، وأطلقَ أيديَ الاعتداءِ في تفريطِه، ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطَهم، شَرَفَه، فلم يَزَلْ إِلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه

تَتصدَّع، ورُفَاتُه لاتتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُريدَ به، وأُرِيغَ له بحُسنِ مُنقَلَبه. وكان تعمُّده للخلاف، وتَقصُّده لغيرِ طريقِ الأسْلاَف، وتقويتُه للمسائل الضعاف (¬1)، وتعويضُه عن رؤوس السِّعاف، تُغَيِّر مكانتَه من خاطِر السلطان، وتُسَبِّبُ له التغرُّبَ عن الأوطان، وتُنَفّذُ إِليه سِهامَ الألسنةِ الرواشِق، ورِماحَ الطَّعنِ في يدِ كلِّ ماشق، فلهذا لم يَزَلْ مُنغَّصًا عليه طولَ مُدَّتِه، لا تكادُ تَنفرِجُ عنه جوانبُ شِدَّتِه. هذا مع ما جَمعَ من الورع، وإلى ما فيه من العُلَى، وما حازَه بحذافيرِ الوجود من الجود: كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة، والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعام والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أهل الحاجةِ في موضعِه، لا يَأخذ منه شيئًا إِلاَّ ليهَبه، ولا يَحفَظُه إِلاَّ ليُذْهِبَه، كُلَّه في سبيل البرّ، وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبَّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إِليه من ثلاثِ الدنيا غير الصلاة. ولقد نافستْ ملوك جَنكِزْ خان عليه، ووضجَّهَت دسائِسَ رُسُلِها إليه، وبعثَتْ تجدُّ في طلبهِ، فنُوسِيَتْ عليه لأمورٍ أعظمُها خوفُ توثُّبِه، وما زال على هذا ومثلِه إِلى أَنْ صَرعَه أجلُه، وأتاهُ بَشِيْرُ الجَنَّةِ يَستعجلُه، فانتقل إِلى اللهِ والظنُّ به أَنَّه لا يُخجِلُه. (قال) وحكيَ عن شجاعتِه في مواقف الحرب نوبةُ شَقْحب، ونوبة كسروان، مالم يسمع إِلاَّ عن صناديد الرجال، وأبطال اللقاء، وأحلاس الحرب، تارةً يباشر القتال وتارة يحرّض عليه. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق، من التعليق على هذا الكلام في "مسالك الأبصار".

(قال) وكان يجيئه من المالِ في كلّ سنة ما لا يكاد يُحصَى فينفقه جميعَه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا ولا ينفقه في حاجةٍ له. وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق النَّاس، ويتألّف القلوب، ولا ينسب إِلى باحث لديه مذهبًا، ولا يحفظ لمتكلّم عنده زلّة، ولا يَتَشَهَّى طعامًا ولا يمتنع عن شيءٍ منه، بل هو مع ما حضر لا يتجهّم مرآه، ولا يتكدّر صفوَه ولا يسأم عفوه، (قال) ورُئِيَتْ له منامات صالحة. ورثاه جماعات من النَّاس بالشام ومصر والعراق والحجاز والعرب من آل فضل. (قال) ورثيتُه بقصيدة لي، وهي: أهكذا بالدياجي يُحجب القمر ... ويُحبس النوءُ حتى يذهبَ المطرُ؟ أهكذا تُمنع الشمسُ المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانًا فتستَتِرُ؟ أهكذا الدهر ليلاً كلّه أبدًا ... فليس يُعْرَف في أوقاته سحَر؟ أهكذا السيف لا تَمضِي مضاربُه ... والسيف في الفتك ما في عزمه خور؟ أهكذا القوس تُرمَى بالعراء وما ... تُصمِي الرَمايا وما في باعها قصر؟ أهكذا يترك البحرُ الخِضمُّ ولا ... يُلوَى عليه، وفي أصدافه الدّرر؟ أهكذا بِتَقِيّ الدينِ قد عَبِثتْ ... أيدي العِدى وتعدّى نحوَه الضررُ؟ أَلابنِ تيميّة تُرمى سهامُ أذًى ... من الأنام ويدمى النابُ والظفُر؟ بذّ السوابقَ ممتدَّ العبادةِ لا ... ينالُه ملَلٌ فيها ولا ضجر

ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيمٍ وزهدٍ ماله خطرُ طريقَةٌ كان يمشي قبل مشيتِه ... بها أبو بكرٍ الصدّيقُ أو عمرُ فردُ المذاهب أقوال أربعةٍ ... جاؤوا على أثر السُّبَّاقِ وابتدروا لمّا بنَوا قبله عُليا مذاهبهم ... بنى وعمّر منها مثلَ ما عمَروا مثل الأئِمّة قد أحيى زمانَهُمُ ... كأنّه كان فيهم وهو منتَظَر إن يرفعوهم جميعًا رفع مبتدإٍ ... فحقُّه الرفع أيضًا إِنّه خبرُ أمثلُه بينكم يُلفَى بمَضيَعةٍ ... حتّى يطيح له عمدًا دمٌ هدَرُ؟ يكون وهْوَ أمانيٌّ لغيركُمُ ... تنوبه منكُمُ الأحداثُ والغِير والله لو أنّه في غيرِ أرضكمُ ... لكان منكم على أبوابه زُمَرُ مثل ابن تيميّةٍ يُنسى بمحبسه ... حتى يموت ولم يُكحَل به بصر مثل ابن تيميّة ترضى حواسدُه ... بحبسِه ولكُمْ في حبسِه عذر مثل ابن تيميَّة في السجن معتقَلٌ ... والسجن كالغمدِ وهو الصارمُ الذكر مثل ابن تيميَّة يُرمى بكلِّ أذًى ... وليس يُجلى قذى منه ولا نظَرُ مث ابن تيميَّة تذوى خمائلُه ... وليس يُلقط من أفنانِه الزهَر مثل ابن تيميَّة شمسٌ تغيبُ سُدًى ... وما ترِقُ لها الآصال والبكر مثل ابن تيميَّة يمضي وما عبقت ... بمسكه العاطِرِ الأردانُ والطُّرَرُ! مثل ابن تيميَّة يمضي وما نهلَت ... له سيوفٌ ولا خطيّة سُمر

ولاتجارى له خيلٌ مسوّمَةٌ ... وجوهُ فرسانها الأوضاحُ والغَرَرُ ولا تحفّ به الأبطالُ دائرةً ... كأنهُم أنجمٌ في وسطها قمَر ولا تعبّس حربٌ في مواقِفِه ... يومًا ويضحكُ في أرجائه الظفرُ حتّى يقوّمَ هذا الدين مِن مَيَلٍ ... ويستقيم على منهاجه البشرُ بل هكذا السلفُ الأبرارُ ما برِحُوا ... يُبلى اصطبارهمُ جهدًا وَهُمْ صبُرُ تأسّ بالأنبياءِ الطُّهر كم بلغَتْ ... فيهم مضرّةُ أقوام وكم هُجروا في يوسف في دخول السجن منقَبة ... لمن يكابدُ ما يلقى ويصطبرُ ما أُهمِلوا أبدًا بل أمهلوا لمدًى ... والله يُعقِبُ تأييدًا وينتصِرُ أيذهبُ المنهلُ الصافي وما نُقعت ... به الظماءُ ويَبْقى الحمأةُ الكدر؟ مضى حميدًا ولم يعلق به وضرٌ ... وكلّهم وضرٌ في الناس أو وذر طوْدٌ من الحِلم لا تُرقى له قُننٌ ... كأنّما الطودُ من أحجاره حجرُ بحرٌ من العلم قد فاضت بقيّتُه ... فغاضت الأبحرُ العظمى وما شعروا ياليت شعريَ هل في الحاسدين له ... نظره في جميع القوم إن ذُكِروا هل ْ فيهمُ لحديث المصطفى أحدٌ ... يميّزُ النقّدَ أو يُروى له خبر؟ هل فيهَم من يضمّ البحث في نظرٍ ... أو مثله من يضمّ البحثُ والنظرُ؟ هلاّ جَمعتُمْ له من قومكم ملأً ... كفعل فرعَوْنَ مَعْ مُوسى لتعتبروا؟ قولوا لهم: قال هذا فابحثوا مَعه ... قدّامَنا وانظروا الجهّال إن قدروا

تُلقي الأباطيلَ أسحَارٌ لها دهَشٌ ... فيلقفُ الحقُّ ما قالوا وما سحرُوا فليتهُم مثل ذاك الرهطِ من ملأٍ ... حتى يكون لكم في شأنِه عِبَر وليتهم أذعنوا للحقّ مثلهم ... فآمنوا كلّهم من بعد ما كفرُوا يا طالما نفروا عنه مجانبةً ... وليتَهم نفَعوا في الضيم أو نفروا هل فيهُمُ صادح بالحقّ مِقولُه ... أو خائض للوغى والحرب تَسْتَعِرُ؟ رمى إِلى نحر غازانٍ مواجهةً ... سِهامَه من دعاءٍ عونُه القدَرُ بتلِّ راهطَ والأعداءُ قد غلبوا ... على الشآم وطار الشرّ والشرر وشَقّ في المرج والأسياف مسلطةٌ ... طوائف كلّها أو بعضُها التتر هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم ... مثلَ النساء بظلّ الباب مُستتِر وبعدها كسروانٌ والجبال وقد ... أقام أطوادها والطوْد منفطِر واستحصد القوم بالأسياف جهدهُمُ ... وطالما بطلوا طغوى وما بطروا قالوا: قبرناه، قلنا: إنّ ذا عجبٌ ... حقًّا أللكوكب الدرّيّ قد قبرُوا؟ وليس يذهبُ معنًى منه متّقدٌ ... وإنّما تذهبُ الأجسام والصور لم يَبْكِه ندمًا من لا يصبّ دمًا ... تجري به ديَمًا تهمي وتنهمِر لهفي عليه أبا العبّاس كم كرم ... لمَّا قَضَيتَ قضى من عمره العمرُ سَقَى ثراك من الوسمِيّ صيّبُه ... وزانَ مغناك قَطْرٌ كلّه قطر ولا يزال له برقٌ يغازله ... حلوُ المراشف في أجفانه حور

لِفقدِ مثلِك يا مَن ما له مثل ... تأسى المحاريب والآياتُ والسورُ يا وارثًا من علوم الأنبياء نُهًى ... أورثتَ قلبيَ نارًا وقدُها الفِكَرُ يا واحدًا لستُ أستَثْنِي به أحدًا ... من الأنام ولا أُبقِي ولا أذرُ يا عالمًا بنقول الفقهِ أجمعها ... أعنك تحفظ زلاّتٌ كما ذكروا؟ يا قامعَ البدَع اللاتي تجنّبَها ... أهلُ الزمان، وهذا البدوُ والحضرُ ومُرشد الفرقةِ الضلاّل نهجَهُم ... من الطريق فما حارُوا ولا سهروا ألم تكن للنصارى واليهودِ معًا ... مجادلاً، وهمُ في البحث قد حَصِرُوا وكم فتًى جاهلٍ غِرٍّ أمنتَ له ... رُشدَ المقال فزال الجهلُ والغرَر ما أنكروا منك إلاّ أَنّهُمْ جَهِلوا ... عظيم قدرِك لكن ساعدَ القدر قالوا بأنّك قد أخطأتَ مسألةً ... وقد تكون، فهلاّ منك تُغْتَفَرُ؟ غَلِطْتَ في الدهرِ أو أخطأتَ واحدةً ... أَمَا أجَدتَ إصاباتٍ فتعتذرُ؟ ومَن يكون على التحقيق مجتهدًا ... له الثوابُ على الحالَين، لا الوزرُ ألم تكن بأحاديث النبيّ إذا ... سُئِلتَ تعرِفُ ما تأتي وما تذر؟ حاشاك من شُبَهٍ فيها ومن شَبَهٍ ... كلاهُما منك لا يبقى له أثرُ عليك في البحث أن تبدي غوامضَهُ ... «وما عليك إذا لم تفهم البقر» قدّمتَ لله ما قدّمتَ من عملٍ ... وما عليك بهم، ذمّوك أو شكروا هَل كان مثلُك من يخفى عليه هدًى ... ومن سَمائك تبدو الأنجمُ الزُّهُر

وكيف تحذر من شيءٍ تزلّ به ... أنت التقيّ فماذا الخوفُ والحذرُ؟ وقال زين الدِّين عمر بن الوردي يرثيه: عَثَا في عرضه قومٌ سِلاطٌ ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ تقي الدِّين أَحمد خيرُ حبرٍ ... خُروق المعضلات به تُخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إِلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قضى لألفوا ... ملائكةَ النعيمِ به أَحاطوا فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ ... ويالله ما غطَّى البلاط هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسالى ... ولكن في أَذاه لهم نشاط وحَبْسُ الدُّرِّ في الأصداف فخر ... وعن الشيخ بالسجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون وما تواطوا إمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباط ولا جَاراكمُ في كسْبِ مالٍ ... ولم يُعهَد له بكمُ اختلاطُ سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونيتكم إذا نُصب الصراط فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا وحلوا واعقدوا من غير رد ... عليكم وانطوى ذاك البساط

44 - المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار

المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار (¬1) [قال بعد كلامه على أبي الحسن الاشعري]: لم يبقَ اليومَ مذهبٌ يخالفه إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ فإِنهم كانوا على ما كان عليه السلف؛ لا يرون ما ورد من الصِّفات. إلى أن كان بعد السبع مئة من سني الهجرة: اشْتَهر بدمشق وأعمالها تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيميَّة الحرَّاني؛ فتصدَّى للانتصار لمذهب السَّلف، وبالغ في الرد على مذهب الأشاعرة، وصَدَع بالنكير عليهم، وعلى الرافضة وعلى الصوفية؛ فافترق الناسُ فيه فريقان: فريق يقتدي به، ويعوِّل على أقواله، ويعمل برأْيه، ويرى أَنه شيخ الإسلام، وأجلّ حفَّاظ أهل الملّة الإسلامية. وفريق يبدِّعه ويضلّله، ويُزري عليه بإِثباته الصِّفات، وينتقد عليه مسائل منها ماله فيه سلف، ومنها ما زعموا أنه خَرَق فيه الإجماع، ولم يكن له فيه سلف. وكانت له ولهم خطوب كثيرة، وحسابُه وحسابُهم على الله الذي ¬

_ (¬1) (2/ 358 - 359) دار الطباعة المصرية، تصحيح الشيخ قطة العدوي (1270).

لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، وله إلى وقتنا هذا عدة أتباع بالشام، وقليل بمصر.

45 - السلوك لمعرفة دول الملوك

السلوك لمعرفة دول الملوك (¬1) ومات في هذه السنة من الأعيان: شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، بدمشق ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة، في سجنه بالقلعة. ومولده يوم الاثنين عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وست مئة ¬

_ (¬1) 2/ 304 تحقيق: محمد مصطفى زيادة، ط. القاهرة 1971.

46 - مختصر ذيل طبقات الحنابلة

مختصر ذَيْل طبقات الحنابلة (¬1) للشيخ / أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي (846) «أحمد بن عبد الحليم ..........................». (تنبيه): لم نثبت الترجمةَ هنا؛ لأنها بنصها من «ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب، أصل هذا الكتاب، فقد أثبتها المُخْتَصِر كما هي في الأصل لم يُغيَِّر فيها شيئًا، وقد ذكر (المؤلِّف) في مقدمة مُخْتَصَرِه هذا أن بعض التراجم يثبتها كما هي = فهذا من ذاك. ¬

_ (¬1) ق/ 98 - 104، نسخة مكتبة عمومية بايزيد رقم 5135، بعضها بخط المؤلف وبعضها بخط عز الدين الكناني، أتحفنا بصورة من هذه الترجمة الشيخ العلامة عبد الرحمن العثيمين. وللمؤلف تقريظ على "الرد الوافر" بهامش "جلاء العينين" (ط. بولاق 1298) ص 132 - 134.

الحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (852) 1 - الدرر الكامنة 2 - تقريظه للرّد الوافر لابن ناصر الدين

47 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة

الدُّرر الكَامِنَة في أَعْيان المائة الثَّامِنَةَ (¬1) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي الحنبلي تقي الدين أَبو العَبَّاس بن شهاب الدين بن مجد الدين. ولد في عاشر ربيع الأَوَّل سنة (661) وتحوّل به أَبوه من حرّان سنة (667) فسمع من ابن عبد الدَّائم والقاسم الإِربلي والمسلم بن علان وابن أَبي عمر والفخر في آخرين، وقرأَ بنفسه ونسخ «سنن أَبي داود»، وحصّل الأَجزاء، ونظر في الرجال والعلل، وتفقَّه وتمهر وتقدّم، وصنّف ودرّس وأَفتى وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوّة الجنان، والتّوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف. وأَول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة (698) قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية. وبحثوا معه ومُنِع من الكلام، ثمَّ حضر مع القاضي إِمام الدِّين القزويني، فانتصر له، وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال عن الشَّيخ تقي الدين شيئًا عزرناه. ثمَّ طلب ثاني مرة في سنة (705) إِلى مصر فتعصب عليه بيبرس الجاشنكير وانتصر له سلار، ثمَّ آل أمره أنْ حُبس في خزانة البنود مدة، ¬

_ (¬1) (1/ 144 - 160) طبعة المستشرق كرنكو.

ثمَّ نقل في صفر سنة (709) إِلى الإِسكندرية، ثمَّ أُفرج عنه وأُعيد إِلى القاهرة ثمَّ أُعيد إِلى الإِسكندرية، ثمَّ حضر الناصر من الكرك فأطلقه، ووصل إِلى دمشق في آخر سنة (712). وكان السَّبب في هذه المحنة: أن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما وقع إِليه من أُمور تُنكر في ذلك، فعقد له مجلس في سابع رجب، وسئل عن عقيدته، فأملى منها شيئًا ثمَّ أَحضروا العقيدة الَّتي تُعرف بالواسطية فقرئ منها، وبحثوا في مواضع ثمَّ اجتمعوا في ثاني عشره، وقرّروا الصَّفي الهندي يَبْحث معه، ثمَّ أخروه وقدّموا الكمال الزمْلكاني، ثمَّ انفصل الأَمر على أَنَّه شهد على نفسه أَنَّه شافعي المعتقد، فأشاع أتباعه أَنَّه انتصر فغضب خصومه ورفعوا واحدًا من أتباع ابن تَيْميَّة إِلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزَّره وكذا فعل الحنفي باثنين منهم. ثمَّ في ثاني عشري رجب قرأَ المزِّي فصلاً من كتاب «أَفعال العباد» للبخاري في الجامع فسمعه بعض الشافعية فغضب، وقالوا: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إِلى القاضي الشَّافعيّ فأمر بحبسه، فبلغ ابن تَيْمِيَّة فتوجَّه إِلى الحبس فأخرجه بيده ن فبلغ القاضي فطلع إِلى القلعة فوافاه ابن تَيْمِيَّة فتشاجرا بحضرة النّائب، واشتط ابن تَيْمِيَّة على القاضي لكون نائبه جلال الدِّين آذى أَصحابه في غيبة النائب، فأمر النائب من ينادي: أن من تكلّم في العقائد فعل كذا به، وقصد بذلك تسكين الفتنة. ثمَّ عقد لهم في سلخ رجب وجرى فيه بين ابن الزمْلكاني وابن الوكيل مباحثة، فقال ابن الزَّمْلَكاني لابن الوكيل: ما جرى على الشَّافعية قليل حتَّى تكون أَنت رئيسهم، فظن القاضي نجم الدين بن صصري أَنَّه عناه، فعزل نفسه وقام فأَعانه الأمراء، وولاه النائب وحكم الحنفي بصحة الولاية، ونفذها المالكي، فرجع إِلى منزله وعلم أَنَّ

الولاية لم تصح، فصمم على العزل فرسم النائب لنوَّابه بالمباشرة إِلى أَن يرد أمر السلطان. ثمَّ وصل بريدي في أَواخر شعبان بعوده، ثمَّ وصل بريدي في خامس رمضان بطلب القاضي والشَّيخ وأن يرسلوا بصورة ما جرى للشّيخ في سنة (698). ثمَّ وصل مملوك النائب وأخبر أَنَّ الجاشنكير والقاضي المالكي قد قاما في الإنكار على الشَّيخ، وأن الأَمر اشتدّ بمصر على الحنابلة حتَّى صفع بعضهم. ثمَّ توجّه القاضي والشَّيخ إِلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأَخير من رمضان، وعقد مجلس في ثالث عشريْهِ بعد صلاة الجمعة، فادُّعِيَ على ابن تَيْمِيَّة عند المالكي فقال: هذا عدوِّي ولم يُجب عن الدَّعوى، فكرّر عليه فأصر فحكم المالكي بحبسه، فأُقيم من المجلس وحبس في برج، ثمَّ بلغ المالكي أَنَّ النَّاس يترددون إِليه فقال: يجب التَّضييق عليه إن لم يُقتل وإلا فقد ثبت كفره، فنقلوه ليلة عيد الفطر إِلى الجبِّ، وعاد القاضي الشَّافعيّ إِلى ولايته ونُودي بدمشق: من اعتقد عقيدة ابن تَيْمِيَّة حلّ دمه وماله خصوصًا الحنابلة، فنودي بذلك وقرئ المرسوم وقرأها ابن الشِّهاب محمود في الجامع، ثمَّ جمعوا الحنابلة من الصّالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإِمام الشَّافعيّ، وذكر ولد الشَّيخ جمال الدِّين ابن الظاهري في كتاب كتبه لبعض معارفه بدمشق أَن جميع من بمصر من القضاة والشُّيوخ والفقراء والعلماء والخواص يحطّون على ابن تَيْمِيَّة، إِلاَّ الحنفي فإِنه يتعصّب له، وإِلاّ الشَّافعيّ فإِنه ساكت عنه. وكان من أعظم القائمين عليه الشَّيخ نصر المنبجي لإنه كَانَ بلغ

ابن تَيْمِيَّة أَنَّه يتعصب لابن العربي فكتب إِليه كتابًا يُعاتبه على ذلك، فما أعجبه لكونه بالغ في الحطِّ على ابن العربي وتكفيره، فصار هو يحطّ على ابن تَيْمِيَّة ويغري به بيبرس الجاشنكير، وكان بيبرس يفرط في محبة نصر ويعظِّمه، وقام القاضي زين الدِّين ابن مخلوف قاضي المالكية مع الشِّيخ نصر وبالغ في أَذية الحنابلة، واتفق أَنَّ قاضي الحنابلة شرف الدِّين الحَرَّاني كَانَ قليل البضاعة في العلم، فبادر إِلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطَّه بذلك، واتفق أَنَّ قاضي الحنفية بدمشق، وهو شمس الدِّين ابن الحريري انتصر لابن تَيْمِيَّة، وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرًا من جملتها أَنَّه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى النَّاس مثله، فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري، فعُزِل وقرر عوضه شمس الدِّين الأَذرعي، ثمَّ لم يلبث الأذرعي أَن عُزٍل في السنة المقبلة. وتعصّب سلار لابن تَيْمِيَّة وأحضر القضاة الثلاثة الشَّافعيّ والمالكي والحنفي وتكلّم معهم في إخراجه فاتفقوا على أَنَّهم يشترطون فيه شروطًا، وأن يرجع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إِليه مرَّات فامتنع من الحضور إليهم واستمر، ولم يزل ابن تَيْمِيَّة في الجب إِلى أن شفع فيه مهنَّا أَمير آل فضل فأخرج في ربيع الأَول في الثالث وعشرين منه، وأُحضر إِلى القلعة، ووقع البحث مع بعض الفقهاء، فكتب عليه محضر بأَنه قال: أَنا أَشعري، ثمَّ وجد بما نصه: الَّذي أعتقد أّنَّ القرآن معنًى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وأن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ليس على ظاهره، ولا أعلم كُنْه المراد به، بل لا يعلمه إِلاَّ الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء. وكتبه

أحمد بن تَيْمِيَّة (¬1). ثمَّ أَشهدوا عليه أَنَّه تاب مما ينافي ذلك مختارًا، وذلك في خامس عشري ربيع الأَول سنة (707) وشهد عليه بذلك جمع جمّ من العلماء وغيرهم، وسكن الحال وأُفرج عنه وسكن القاهرة. ثمَّ اجتمع جمع من الصوفية عند تاج الدِّين ابن عطاء، فطلعوا في العشر الأَوسط من شوال إِلى القلعة، وشكوا من ابن تَيْمِيَّة أَنَّه يتكلم في حق مشايخ الطريق، وأَنَّه قال: لا يستغاث بالنبي صلي الله عليه وسلم فاقتضى الحال أن أمر بتسييره إِلى الشَّام، فتوجه على خيل البريد. . . (¬2) وكل ذلك والقاضي زين الدِّين ابن مخلوف مشتغل بنفسه بالمرض، وقد أشرف على الموت وبلغه سفر ابن تَيْمِيَّة فراسل النائب، فرده من بلبيس وادعي عليه عند ابن جماعة، وشهد عليه شرف الدِّين ابن الصابوني، وقيل إِنَّ علاء الدِّين القونوي أَيضًا شهد عليه؛ فاعتقل بسجن بحارة الدَّيلم في ثامن عشر شوال إِلى سلخ صفر سنة (709). فنقل عنه أَنَّ جماعة يترددون إِليه، وأَنَّه يتكلَّم عليهم في نحو ما تقدم فأمر بنقله إِلى الإِسكندرية، فنقل إِليها في سلخ صفر، وكان سفره صحبة أمير مقدم، ولم يمكن أحدًا من جهته من السفر معه، وحبس ببرج شرقي، ثمَّ توجّه إِليه بعض أصحابه فلم يمنعوا منه، فتوجّهت طائفة منهم بعد طائفة، وكان موضعه فسيحًا، فصار النَّاس يدخلون إِليه ويقرؤون عليه ويبحثون معه. قرأت ذلك في «تاريخ البرزالي». فلم يزل إِلى أن عاد النّاصر إِلى السلطنة فشفع فيه عنده، فأمر بإحضاره، فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة تسع، فأكرمه، وجمع ¬

_ (¬1) فصَّلنا القول في هذا الرجوع والمكتوب في مقدمة الطبعة الثانية ص/ 39 - 47. (¬2) بياض بالأصل.

القضاة وأصلح بينه وبين القاضي المالكي، فاشترط المالكي أن لا يعود، فقال له السلطان: قد تاب. وسكن القاهرة وتردد النَّاس إِليه إِلى أَنْ توجه صحبة الناصر إِلى الشَّام بنية الغزاة في سنة (712) وذلك في شوال، فوصل دمشق في مستهل ذي القعدة فكانت مدة غيبته عنها أَكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع عظيم فرحًا بمقدمه، وكانت والدته إِذ ذاك في قيد الحياة. ثمَّ قاموا عليه في شهر رمضان سنة (719) بسبب مسأَلة الطَّلاق، وأَكد عليه المنع من الفتيا، ثمَّ عقد له مجلس آخر في رجب سنة عشرين، ثمَّ أُخرج في عاشوراء سنة (721). ثمَّ قاموا عليه مرة أُخرى في شعبان سنة (726) بسبب مسأَلة الزيارة، واعتقل بالقلعة، فلم يزل بها إِلى أن مات في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة (728). قال الصّلاح الصّفدي: كَانَ كثيرًا ما ينشد: تموتُ النفوسُ بأوْصابِها ... ولم تدرِ عوَّادُها ما بها وما أنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي ... أذاها إلى غيرِ أحبابها وكان يُنْشد كثيرًا: مَنْ لم يُقَدْ ويُدَسَّ في خَيْشومِهِ ... رَهَجُ الخميسِ فلن يقودَ خميسا وأنشد له على لسان الفقراء: والله ما فَقْرُنا اختيارُ ... وإنّما فقرُنا اضطرارُ

جماعةٌ كُلُّنا كُسالى ... وأكلُنا ما لهُ عيارُ تسمعُ منّا إذا اجتمعنا ... حقيقةً كٌلّها فشارُ وسرد أَسماء تصانيفه في ثلاثة أَوراق كبار، وأورد فيه من أمداح أَهل عصره كابن الزَّمْلكاني قبل أنْ ينحرف عليه، وكأبي حيّان كذلك وغيرهما، قال: ورثاه محمود بن علىّ الدقوقي ومجير الدِّين ابن الخياط وصفي الدِّين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدِّين ابن الأثير وتقي الدِّين محمَّد بن سليمان الجعبري وعلاء الدِّين بن غانم وشهاب الدِّين ابن فضل الله وزين الدِّين ابن الوردي وجمع جمّ وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة. قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يقضى منه العجب إِذا ذكر مسأَلة من مسائل الخلاف واستدل ورجّح وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه. قال: وما رأيتُ أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه كأن السُّنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه. وأما أُصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه. هذا مع ما كَانَ عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذِّ النفس ولعلَّ فتاويه في الفنون تبلغ ثلثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوَّالا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثمَّ قال: ومن خالطه وعرفه؛ فقد ينسبني إلي التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إِلى التغالي فيه، وقد أُوذيت من الفريقين؛ من

أصحابه وأضداده، وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إِلى شحمة أذنية وكأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعةً من الرِّجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحًا سريع القراءة تعتريه حِدّة لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أَر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجُّهه، وأَنا لا أَعتقد فيه عصمة، بل أَنا مُخالف له في مسائل أَصلية وفرعية، فإن كَانَ مع سعة علمه، وفرط شجاعته، وسيلان ذهنه، وتعظيمه لحرمات الدِّين، بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وشظف للخصم؛ تزرع له عداوة في النفوس وإِلاّ لو لاطَفَ خصومه لكان كلمة إِجماعٍ؛ فإِنَّ كبارهم خاضعون لعلومه معترفون بشفوفه مقرّون بندور خطئه وأّنّه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أَخلاقًا وأَفعالاً وكل أَحد يؤخذ من قوله ويترك. قال: وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظِّمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا لا يؤتى من سوءِ فهم فإِنّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإِنَّه بحر زخار، ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسائله بالتشهِّي ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أُسوةَ من تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأَجران على إصابته. إلى أن قال: تمرَّض أيامًا بالقلعة بمرض جد إِلى أّنْ مات ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة وصلي عليه بجامع دمشق وصار يضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أَنَّهم خمسون ألفًا. قال الشهاب ابن فضل الله: لما قدم ابن تَيْمِيَّة على البريد إِلى القاهرة في سنة سبع مئة نزل عند عمي شرف الدين، وحض أهل المملكة على

الجهاد فأغلظ القول للسلطان والأمراء، ورتَّبوا له في مقرِّ إِقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة (¬1) طعام فلم يقبل شيئًا من ذلك، وأَرسل له السلطان بقجة قماش فردّها، قال: ثمَّ حضر عنده شيخنا أَبو حيّان فقال: ما رأْت عيناي مثل هذا الرجل، ثمَّ مدحه بأبيات ذكر أَنَّه نظمها بديهًا وأَنشده إِيَّاها. لمَّا أتانا تقيُّ الدينِ لاحَ لنا ... داعٍ إلى اللهِ فردٌ ماله وَزَرُ على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا ... خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ وأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ اندرست ... وأخمدَ الَّرَّ إذ طارتْ له شررُ كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا ... أنتَ الإمامُ الذي قد كان يُنتظر ثمَّ دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تَيْمِيَّة القول في سيبويه فنافره أَبو حيان وقطعه بسببه، ثمَّ عاد ذامًا له وصيَّر ذلك ذنبًا لا يغفر، قال (¬2): وحجَّ ابن المحب سنة (34) فسمع من أَبي حيان أَناشيد فقرأَ عليه هذه الأَبيات فقال: قد كشطتها من «ديواني» ولا أَذكره بخير، فسأَله عن السبب في ذلك فقال: ناظرته في شيءٍ من العربية فذكرت له كلام سيبويه فقال: يفشر سيبويه، قال أَبو حيان: وهذا لا يستحق الخطاب، ويُقال إِنَّ ابن تَيْمِيَّة قال له: ما كَانَ سيبويه نبي النَّحو، ولا كَانَ معصومًا بل أَخطأ في الكتاب في ثمانين موضعًا ما تفهمها أنت، ¬

_ (¬1) كذا هنا، وتقدم في "مسالك الأبصار": "دينار ومحفية وبقجة قماش". (¬2) هذا القول ليس للشهاب بن فضل الله.

فكان ذلك سبب مقاطعته إِياه وذكره في تفسيره «البحر» بكل سوءٍ، وكذلك في مختصره «النَّهر» (¬1). ورثاه شهاب الدِّين ابن فضل الله بقصيدة رائية مليحة، وترجم له ترجمة هائلة تُنقل من «المسالك» إِنْ شاء الله، ورثاه زين الدِّين ابن الوردي بقصيدة لطيفة طائية، وقال جمال الدِّين السُّرمري في «أماليه»: ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا: أَنَّ ابن تَيْمِيَّة كَانَ يمر بالكتاب مطالعةً مرّة فينتقش في ذهنه وينقله في مصنَّفاته بلفظه ومعناه، وقال الاقشهري في «رحلته» في حق ابن تَيْمِيَّة بارع في الفقه والأَصلين والفرائض والحساب وفنون أُخر، وما من فنِّ إِلا له فيه يدٌ طُولى، وقلمه ولسانه متقاربان. قال الطوفي: سمعته يقول: من سأَلني مستفيدًا حقَّقت له، ومن سأَلني متعنتًا ناقضته فلا يلبث أَنْ ينقطع فأكفى مؤنته. وذكر تصانيفه وقال في كتابه «إبطال الحيل»: عظيم النفع، وكان يتكلّم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر مالا يقدر أحد على أن يورده في عدّة مجالس كأّنَّ هذه العلوم بين عينيه يأخذ منها ما يشاء ويذر، ومن ثمَّ نُسِب أصحابه إِلى الغلو فيه واقتضى له ذلك العُجْب بنفسه! حتَّى زُهي على أبناء جنسه! واستشعر أَنَّه مجتهد فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم، حتَّى انتهى إِلى عمر فخطّأه في شيء، فبلغ الشَّيخ إِبراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب إِليه واعتذر واستغفر، وقال في ¬

_ (¬1) لم نجد ذمَّه لشيخ الإسلام في "البحر" وهو في "النهر" في مواضع!.

حق علىّ: أَخطأ في سبعة عشر شيئًا ثمَّ خالف فيها نص الكتاب منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأَجلين، وكان لتعصُّبه لمذهب الحنابلة يقع في الأَشاعرة حتَّى أَنَّه سبَّ الغزالي، فقام عليه قوم كادوا يقتلونه (¬1). ولما قدم غازان بجيوش التتر إِلى الشَّام خرج إِليه وكلّمه بكلام قوي فهمَّ بقتله (¬2) ثمَّ نجا واشتهر أمره من يومئذ. واتفق [أَن] الشَّيخ نَصْر المنبجي كَانَ قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه فبلغه أَنَّ ابن تَيْمِيَّة يقع في ابن العربي لأّنَّه كَانَ يعتقد أَنَّه مستقيم وأن الَّذي ينسب إِليه من الاتحاد أَو الإِلحاد من قصور فهم من ينكر عليه، فأَرسل ينكر عليه وكتب إِليه كتابًا طويلاً ونسبه وأصحابه إِلى الاتحاد الَّذي هو حقيقة الإِلحاد، فَعَظُم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم آخرون ظبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة وقعت منه في مواعيده وفتاويه فذكروا أَنَّه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولي هذا فنسب إِلى التجسيم (¬3)، ورده على من توسَّل بالنبي صلى الله عليه وسلم أَو استغاث فاُشخِصَ من دمشق في رمضان سنة خمس وسبعمائة فجرى عليه ما جرى وحبس مرارًا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أَو أكثر وهو مع ذلك يشغل ويفتي إِلى أَن اتفق أَنَّ الشَّيخ نصرًا قام على الشَّيخ كريم الدِّين الآملي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من ¬

_ (¬1) ما نقله الحافظ هنا عن الآقشهري أو غيره لم نجده في المصادر السابقة! ولم نجد ما يوافق ما ذكر في مؤلفات الشيخ -رحمه الله-. (¬2) هذا مخالف لما ورد في المصادر، من تعظيم غازان لشيخ الإسلام وطلب الدعاء منه ... (¬3) هذا ذكره ابن بطوطة في رحلته، وهو غير ثابت تاريخيًّا، وقد نقضه غير واحد من العلماء، ذكرناهم في تعليقنا على "رحلة ابن بطوطة" من هذا الكتاب: 398.

الخانقاه، وعلى شمس الدِّين الجزري فأخرجه من تدريس الشريفية، فيقال: إِنَّ الآملي دخل الخلوة بمصر أَربعين يومًا فلم يخرج حتَّى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تَيْمِيَّة إِلى الشَّام. وافترق النَّاس فيه شيعًا فمنهم من نسبه إِلى التّجسيم لما ذكر في «العقيدة الحموية» و «الواسطية» وغيرهما من ذلك كقوله: إِنَّ اليد والقدم والسّاق والوجه صفات حقيقية لله، وأَنَّه مستوٍ على العرش بذاته، فقيل له: يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال: أَنا لا أسلّم أَنَّ التحيز والانقسام خواصِّ الأَجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله، ومنهم من ينسبه إِلى الزندقة لقوله: إِنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يُستغاث به، وأن في ذلك تنقيصًا ومنعًا من تعظيم النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان أَشد النَّاس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يُعزَّر فقال البكري: لا معني لهذا القول فإِنه إِن كَانَ تنقيصًا يُقتل وإِن لم يكن تنقيصًا لا يعزَّر، ومنهم من ينسبه إِلى النفاق لقوله في عليّ ما تقدّم، ولقوله: إِنَّه كّانّ مخذولاً حيثما توجَّه وانه حاول الخلافة مرارًا فلم ينلها وإِنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إِنَّه كَانَ يحب الرياسة، وأن عثمان كَانَ يحب المال، ولقوله: أَبو بكر أسلم شيخًا [لا] يدري ما يقول، وعليّ أسلم صبيًا والصبي لا يصح إِسلامه على قول، وبكلامه في قصة خطبة بنت أَبي جهل ومات ما نسبها من الثناء على (¬1). . . وقصة أَبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يبغضك إِلاَّ منافق»، ونسبه قوم إِلى أَنَّه يسعى في الإمامة الكبرى فإِنَّه كَانَ يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه فكان ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والعبارة قلقة.

ذلك مؤكدًا لطول سَجنه، وله وقائع شهيرة وكان إِذا حوقق وأَلزم يقول: لم أُرد هذا إِنما أردت كذا فيذكر احتمالاً بعيدًا (¬1). قال: وكان من أذكياء العالم وله في ذلك أُمور عظيمة، منها: أَنَّ محمَّد بن أَبي بكر السّكاكيني عمل أبياتًا على لسان ذمِّي في إِنكار القدر وأَولها: أيا علماء الدِّين ذمِّي دينكم ... تحير دُلُّوه بأعظم حُجَّة إِذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي فوقف عليه ابن تَيْمِيَّة فثنى إِحدى رجليه على الأخرى وأجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة عشرة بيتًا أولها: سُؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم ربِّ العرش باري البرية وكان يقول: أَنا فاقرت في الأقفاص (¬2). وقال شيخ شيوخنا الحافظ أَبو الفتح اليعمري في ترجمة ابن تَيْمِيَّة: حداني - يعني المزي - على رؤية الشَّيخ الإِمام شيخ الإِسلام تقي الدِّين فألفيته ممن أَدرك من العلوم حظَّا وكان يستوعب السنن والآثار حفظًا، إِن تكلّم في التفسير فهو حامل رايته، أَو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أَو ذاكَرَ في الحديث فهو صاحب علمِه وذُو روايته، أَو حاضَر ¬

_ (¬1) جميع ما نقله الحافظ عن الآقشهري في "رحلته" مخالف لكل ترجمات الشيخ، ونحن نستغرب من الحافظ استرواحه لهذه الأخبار التي لا أساس لها من الصحة، واعتماده على الآقشهري مع تفرُّده بها. (¬2) كذا في الأصل، ونسخة: "ناقرت".

بالمِلَل والنِّحَل لم يُرَ أوْسَعُ مِن نحْلتِه في ذلك ولا أرفعُ من درايته، برز في كلِّ فنّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عين من رآه مثلَه ولا رأتْ عينُهُ مثل نَفْسِه، كَانَ يتكلّم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويَرِدُون من بحره العذب النمير، يرتعون من ريع فضله في روضة وغدير، إِلى أَن دبّ إِليه من أهل بلده داء الحسد، وأكب أهل النَّظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفِظُوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا وفوَّقُوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أَنَّه خالف طريقهم، وفرَّق فريقَهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه، ثمَّ نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إِلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدقِّ باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر [لها]- على ما زعم - بوائق، فآضَتُ إِلى الطَّائفة الأٌولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمر أمرَه، وأعمل كلّ منهم في كُفْره فِكْرَه، فرتَّبوا محاضر، وألَّبوا الرُّوَيْبِضَة للسَّعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إِلى حَضْرة المملكة بالدِّيار المِصْرية فَنُقِلَ، وأُودع السِّجْن ساعةَ حُضُوره واعْتُقِل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قَوْمًا من عُمَّار الزَّوايا وسكَّان المدارس، ما بين مُجَامل في المُنَازعة، ومخاتِلٍ بالمخادعَة، ومُجاهر بالتَّكْفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه رَيْبَ المَنُون، وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ. وليس المجاهِر بكفره بأسوأَ حالاً من المجامل، وقد دبَّتْ إِليه عقارب مكره، فَرَدَّ الله كيد كلٍّ في نحره، ونجاه على يد من اصْطَفَاه، والله غالب على أمره. ثمَّ لم يَخْلُ بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة [إِلاَّ] إِلى محنة، إِلى أَنْ فُوِّض أَمره إلى بعض القُضَاة فتقلَّد ما تقلَّد من

اعتقاله، ولم يزلْ بمحبسه ذلك إِلى حين ذهابه إِلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإِلى الله ترجع الأُمور، وهو مطَّلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدُّور. وكان يومه مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كلِّ فَجٍّ عميق، يتقربون بمشهده يوم يقود الأشهاد، ويتمسكون بسريره حتَّى كسروا تلك الأعواد. قال الذَّهَبيّ مترجمًا له في بعض الإجازات: قرأ القُرْآن والفِقْه، وناظر واستدلَّ وهو دون البلوغ، وبَرَعَ في العلم والتفسير، وأفتى ودرَّس وهو دون العشرين، وصنَّف التَّصانيف، وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وتصانيفُه نحو أربعة آلاف كُرَّاسة وأكثر. وقال في موضع آخر: وأَمَّا نقله للفقه ومذاهب الصَّحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير. وفي موضوع آخر: وله باع طويل في معرفة أقوال السلف، وقلَّ أَنْ تذكر مسألة إِلاَّ ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأئمة الأربعة في عدة مسائل صنّف فيها واحتجّ لها بالكتاب والسنة، ولما كَانَ معتقلاً بالإسكندرية التمس منه صاحب سَبْته أنْ يجيز له بعض مروياته؛ فكتب له جملة من ذلك في عشرة أَوراق بأسانيده من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر من يكون، وأقام عدة سنين لا يفتي بمذهب معيَّن. وقال في موضع آخر: [كان] بصيرًا بطريقة السَّلف، واحتج له بأدلة وأُمور لم يُسبق إِليها وأطلق عبارات أحجم عنها غيره حتَّى قام عليه خلق من العلماء بالمصرين فبدّعوه وناظروه، وهو ثابت لا يداهن ولا

يحابي بل يقول الحق إِذا أداه إِليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينهم حملات حربية ووقعات شآمية ومصرية، ورموه عن قوس واحدة ثمَّ نجّاة الله تعالى. وكَانَ دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل رابط الجأش، له أَوراد وأَذكار يُدْمنها بكيفية وجمعية. وكتب الذَّهَبيّ إِلى السبكي يُعاتبه بسبب كلام وقع منه في حقِّ ابن تَيْمِيَّة فأجابه ومن جملة الجواب: وأما قول سيدي في الشَّيخ تقي الدِّين فالمملوك يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كلٍّ من ذلك المبلغ الَّذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السَّلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان. وقرأت بخط الحافظ صلاح الدِّين العلائي في ثبت شيخ شيوخنا الحافظ بهاء الدِّين عبد الله بن محمَّد بن خليل ما نصه: وسمع بهاء الدِّين المذكور على الشيخين: شيخنا وسيدنا وإِمامنا فيما بيننا وبين الله تعالى شيخ التَّحقيق السالك بمن اتبعه أحسن طريق ذي الفضائل المتكاثرة والحجج القاهرة الَّتي أقرت الأُمم كافة أَنَّ هممها عن حصرها قاصرة ومتعنا الله بعلومه الفاخرة ونفعنا به في الدنيا والآخرة وهو الشَّيخ الإِمام العالم الرباني والحبر البحر القطب النوراني إِمام الأئمة بركة الأمة علامة العلماء وارث الأَنبياء آخر المجتهدين أَوحد علماء الدِّين شيخ الإسلام حجّة الأَعلام قدوة الأَنام برهان المتكلمين قامع المبتدعين سيف المناظرين بحر العلوم كنز المستفيدين ترجمان القرآن أعجوبة الزمان فريد العصر والأَوان: تقي الدِّين إِمام المسلمين حجّة الله على العالمين اللاحق

بالصَّالحين والمشبه بالماضين مفتي الفرق ناصر الحق علامة الهدى عمدة الحفاظ فارس المعاني والألفاظ ركن الشريعة ذو الفنون البديعة أَبو العَبَّاس ابن تَيْمِيَّة. وقرأْت بخطِّ الشَّيخ برهان الدِّين محدِّث حلب قال: اجتمعت بالشيخ شهاب الدِّين الأذرعي سنة (779) لما أردت الرحلة إِلى دمشق فكتب لي كتبًا إِلى الياسوفي والحسباني وابن الجابي وابن مكتوم وجماعة الشافعية إِذ ذاك فحصل لي منهم تعظيم، وذكر لي في ذلك المجلس الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة وأثنى عليه، وذكر شيئًا من كراماته، وذكر أَنَّه حضر جنازته، وأن النَّاس خرجوا من الجامع من كلِّ باب، وخرجت من باب البريد فوقعت سرموزتي فلم أستطع أَن أَستعيدها وصرت أمشي على صدور النَّاس، ثمَّ لما فرغنا ورجعت لقيت السرموزة ذلك من بركة الشَّيخ رحمه الله.

48 - تقريظه على ((الرد الوافر))

تقريظه على الرد الوافر (¬1) الحمد لله، وسلام على عباده الًّذين اصطفى. وقفت على هذا التأليف النافع، والمجموع الًّذي هو للمقاصد الًّتي جُمع لأجلها جامع. فتحققت سعة اطلاع الإِمام الًذي صنّفه. وتضلعه من العلوم النافعة بمَا عظمه العلماء وشرفه. وشهرة إمامة الشًّيخ تقي الدِّين أَشهر من الشمس. وتلقيبه بشيخ الإِسلام في عصره إٍلى الآن على الألسنة الزكية ويستمر غدًا كما كَانَ بالأمس. ولا ينكر ذلك إٍلًا من جهل مقداره. أَو تجنب الإنصاف. فمَا أَغْلطَ من تعاطى ذلك وأكثر عثاره. فالله تعالى هو المسؤول أن يقينا شرور أنفسنا وحصائد ألسنتنا بمَنِّهِ وفضله. ولو لم يكن من الدليل على إمامة هذا الرَّجل إِلاَّ ما نبّه عليه الحافظ الشهير علم الدِّين البرزالي في تاريخه: أَنَّه لم يوجد في الإِسلام من اجتمع في جنازته لما مات ما اجتمع في جنازة الشَّيخ تقي الدِّين. وأَشار إِلى أَنَّ جنازة الإِمام أَحمد كانت حافلة جدًا شهدها مئات ألوف. ولكن لو كَانَ بدمشق من الخلائق نظير من كَانَ ببغداد أَو أَضعاف ذلك. لما تأخر أحد منهم عن شهود جنازته. وأيضًا فجميع من كَانَ ببغداد إِلأَّ الأقل كانوا يعتقدون إمامة الإِمام أحمد. وكان أمير بغداد وخليفة الوقت إذ ذاك في غاية المحبة له والتعظيم. بخلاف ابن تَيْمِِيَّة فكان أمير البلد حين مات ¬

_ (¬1) ساقه في "الجواهر والدرر": 2/ 734 - 736، وهو ملحق بآخر الرد الوافر، طبعة المكتب الإسلامي. ونشر هذا التقريظ لأول مرة على هامش "جلاء العينين" (ط. بولاق 1298) ص 89 - 97.

غائبًا. وكان أكثر من بالبلد من الفقهاء قد تعصبوا عليه حتَّى مات محبوسًا بالقلعة. ومع هذا فلم يتخلف منهم عن حضور جنازته والترحم عليه والتأسف عليه إِلاَّ ثلاثة أنفس. تأخروا خشية على أنفسهم من العامة. ومع حضور هذا الجمع العظيم فلم يكن لذلك باعث إِلاَّ اعتقاد إمامته وبركته، لا بجمع سلطان ولا غيره، وقد صحّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «أنتم شهداء الله في الأرض». ولقد قام على الشَّيخ تقي الدِّين جماعة من العلماء مرارًا بسبب أَشياء أَنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أَنَّه أفتى بزندقته ولا حكم بسفك دمه، مع شدة المتعصبين عليه حينئذ من أهل الدولة، حتَّى حبس بالقاهرة ثمَّ بالإِسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نُصرةِ الإِسلام والدعاء إِلى الله تعالي في السر والعلانية. فكيف لاينكر على من أَطلق: أَنَّه كافر؟ بل من أطلق على من سماه شيخَ الإِسلام: الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك. فإنه شيخ في الإِسلام بلا ريب. والمسائل الَّتي أنكرت عليه ما كَانَ يقولها بالتشهي. ولايصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشرٌ يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثريستفاد منه ويترحم عليه بسببه، والذي أَخطأ فيه لا يُقلد فيه، بل هو معذور، لأن أئمة عصره شهدوا له بأن أَدوات الاجتهاد اجتمعت فيه. حتَّى كَانَ أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه، وهو الشَّيخ كمال الدِّين الزملكاني يشهد له بذلك. وكذلك الشَّيخ صدر الدِّين ابن الوكيل الَّذي لم يثبت لمناظرته غيره.

ومن أَعجب العجب، أَنَّ هذا الرَّجل كَانَ أعظم النَّاس قيامًا على أهل البدع من الروافض، والحلولية، والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاويه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فيا قرة أَعينهم إِذا سمعوا بكفره، ويا سرورهم إِذا رأوا من يكفره من أهل العلم (¬1)!! فالواجب على منِ تلبَّس بالعلم، وكان له عقل أن يتأمل كلام الرَّجل من تصانيفه المشتهرة، أَو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما يُنكر، فيُحذِّر منه على قصد النصح، ويثني عليه بفضائله فيمَا أصاب من ذلك، كدأب غيره من العلماء الأنجاب. ولو لم يكن للشيخ تقي الدِّين من المناقب إِلاَّ تلميذه الشهير الشَّيخ شمس الدِّين ابن قيم الجوزية، صاحب التَّصانيف النافعة السائرة، الَّتي انتفع بها الموافق والمخالف، لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته. فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم، والتميز في المنطوق والمفهوم، أئمة عصره من الشافعية وغيرهم! فضلاً عن الحنابلة. فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء: الكفر، أَو على من سماه شيخ الإِسلام، لا يُلتفت إِليه، ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك، إِلى أَن يراجع الحق، ويذعن للصواب. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قاله وكتبه أَحمد بن عليّ بن محمَّد بن حجر الشافعي، عفا الله عنه، وذلك في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأَوَّل عام خمسة وثلاثين وثمان مئة حامدًا لله، ومصلّيًا على رسوله محمَّد وآله ومسلمًا. ¬

_ (¬1) في نسخة: "من يكفِّر من لا يكفِّره"!.

العلامة/ بدر الدين محمود العيني (855) 1 - عِقْد الجمان 2 - تقريظه للرّد الوافر لابن ناصر الدين

49 - عقد الجمان

عِقْدُ الجُمَان (¬1) ابن تَيْمِيِّة هو الشَّيخ الإِمام العالم العلاَّمة تقي الدِّين أَبو العَبَّاس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن محمَّد بن تَيْمِيِّة الحَرَّاني الحنبلي. كَانَ إمامًا فاضلاً بارعًا ذا فنون كثيرة، ولاسيما علم الحديث والتفسير والفقه الأصولين، وكان سيفًا صارمًا على المبتدعين، وكانت له مواعيد (¬2) حسنة، وأوقات طيبة، وكان على مكانة عظيمة من الورع، وخشونة العيش، والقناعة، والكفّ عن حطام الدنيا، وله تصانيف مشهورة في علوم شتَّى. وكان كثير الذِّكر والصوم والصّلاة والعبادة، وكان أَمَّارًا للمعروف نهَّاءً عن المنكر، وكان ذا همّة وشجاعة وإِقدام، وجرى له حكايات كثيرة فيما يتعلّق بمسائل الطلاق ونحوه، وقد ذكرنا بعضها في أَثناء السِّنين الماضية، فآل حاله إِلى أَنْ اعتُقِل بقلعة دمشق، وتوفي فيها في الثُّلث الأَخير من ليلة الاثنين المسْفِر صباحها عن عشرين من ذي القعدة من سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وكان مرضه مدَّة سبعة عشر يومًا، ¬

_ (¬1) نسخة طوب قابي برقم 2199/ 17، بخط المؤلف، (17 / ق 42 ب- 43 أ). (¬2) في الأصل: "مواعيده"!.

وصلًّى عليه بباب القلعة الشَّيخ محمَّد بن تمام، ثمَّ صلّوا عليه في الجامع، ثمَّ دفن في مقابر الصوفية إِلى جانب أَخيه الشَّيخ شرف الدين. ومولده في عاشر ربيع الأَول سنة إِحدى وستين وست مئة بحرّان، وقدم مع والده إِلى دمشق، ثمَّ أَخذ العلوم من مشايخ كثيرةٍ، قال ابن كثير: ويوم مات غلق جميع أَسواق دمشق، وامتلأ الجامع أَكثر من يوم الجمعة، وحضر الأمراء والحجاب وحملوه على رؤوسهم، وخرجوا به من باب الفرج، وامتدّ إِلى مقابر الصُّوفية، وختموا على قبره ختمات، وبات أَصحابه على قبره لياليَ. وكتب قاضي القضاة كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني على بعض مصنفاته: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْرِ هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبَةُ العَصْرِ هو آيةٌ للخَلُقِ ظاهرةٌ ... أنوارُها أربتْ على الفَجْرِ وفيه يقول العلاَّمة أَثير الدين أَبو حيَّان من أَبيات: قامَ ابنُ تَيْمِيِّة في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا ... أنتَ الإِمامُ الذي قد كان يُنتظر ورثاه الإِمام زين الدين عمر ابن الوردي بقصيدةٍ منها: عثا في عِرضه قومٌ سِلاط ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ

تقي الدِّين أحمد خير حَبْر ... خُروق المعضلات به تُخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إِلى الدُنيا انبساطُ ولو حضروه حين قَضَى لألفوا ... مَلائِكةَ النَّعيم به أَحاطُوا فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ ... ويالله ما غطّى البَلاَطُ هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كسالى ... ولكن في أَذاه لهم نشاط وحبس الدر في الأصداف فخر ... وعند اليخ بالسجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداءٌ ... فقد ذاقوا المنون ولم تواطوا إمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباط ولا جاراكم في كسب مالٍ ... ولم يُعهد له بكم اختلاط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونيتكم إِذا نُصب الصراط فها هو مات عنكم واسترحتم ... فعاطواما أردتم أن تُعاطوا وحلوا واعقدوا من غير ردٍ ... عليكم وانطوى ذاك البساط

50 - تقريظه ((للرد الوافر)) لابن ناصر الدين

تقريظه للرّد الوافر لابن ناصر الدِّين (¬1) بِسْمِ اٌللهِ اٌلَرّحْمَنِ اٌلّرَّحِيمِ إِن أضوَع زهر تفتق عنه أكمام ألسن الأنام. وأبدعَ ذكرٍ يعبق منه طيب الأفهام، حمد من أجرى ماء التبيان في عود اللسان. لحمل ثمار المعاني والبيان، وكشف ضبابة الأوهام بشموس الحقائق، وأبان ما في القلوب بأقمار الدقائق، وأشرع أسنة الخواطر والأفكار، بأيدي أنوار البصائر والأبصار، إِلى ثغر العلوم والأخبار، وأقلع عنا بنسائم ألطافه عجاجة الظنون والشكوك، ووقع لنا مناشير الصدق في السلوك، وأراحنا في ركوب أعناق الكلام، من العثرات والملام، وأزاحنا عن مقالات لا يُقال فيها العِثار، ومحالات يستحيل فيها الإعذار، اللهم صلِّ على صاحب الوحي والرسالة، المخلوق من طينة الفصاحة والبسالة، الَّذي أصعدته ذرى الملكوت وأعطيته الكتاب، وقرنت بطاعته ومعصيته الثواب والعقاب، محمَّد المصطفى المستأثر بالشفاعة يوم الحساب، وعلى آله الَّذين استأسدوا في رياض نبوته، وأصحابه الَّذين تقلدوا بسيوف النصرة في دعوته، وعلى علماء الأمة الَّذين استظهروا على صدمات الدهر وصولته بنزع ألسنتهم من تفويق سهام الطعن إِلى أغراض العصبية، وإقلاع أسنة خوضهم في أعراض الأنفس الأبية، فلذلك صاروا أنجمًا للاهتداء، وبدورًا للاقتداء، فأجدر بهم أن يفوه لهم بمشايخ الإسلام، وأنصار شرائع خير الأنام. ¬

_ (¬1) ملحق بآخر "الرد الوافي" طبعة المكتب الإسلامي. ونشر هذا التقريظ لأول مرة على هامش "جلاء العينين" (ط. بولاق 1298) ص 109 - 123.

وبعد؛ فإِن مؤلف كتاب «الرد الوافر» قد جد في هذا التَّصنيف البديع الزاهر وجلا بمنطقه السحار، الرد على من تفوه بالإكفار، علماء الإِسلام، والأئمة الأساطين الأعلام، الَّين تبوؤا الدار في رياض النعيم، واستنشقوا رياح الرحمة من رب كريم، فمن طعن في واحد منهم، أَو نقل غير صحيح قيل عنهم، فكأنمَا نفخ في الرماد، أَو اجتنى من خرط القتاد، وكيف يحل لمن يتسمَّ بالإسلام، أَو يتسِمُ بسشمةٍ من علم أَو فهم أَو إفهام، أَن يكفر من قلبه عن ذلك سليم بهيج، واعتقاده لا يكاد إِلى ذلك يهيج، ولم يورِ زَنْد طبعه في القريض، لم يزل يجد العذب مرًا كالمريض، والعائب لجهله شيئًا يبدي صفحة معاداته، ويتخبط خبط العشواء في محاوراته، وليس هو إِلاَّ كالجُعل باشتمام الورد يموت حتف أنفه، وكالخفاش يتأذى ببهور سناء الضوء لسوء بصره وضعفه، وليس سجية نقادة، ولا رَويَّة وقَّادة، وماهم إِلاَّ صلقع بلقع سلقع، والمكفر منهم صلمعة ابن قلمعة، وهيان بن بيان، وهي ابن بيّ، وضل ابن ضل، وضلال بن التلال. ومن الشائع المستفيض أَنَّ الشَّيخ الإمام العالم العلامة تقي الدين ابن تَيْمِيَّة من شُمّ عرانين الأفاضل، ومن جم براهين الأماثل، الَّذي كَانَ له من الأدب مآدب تغذي الأرواح، ومن نخب الكلام له سلافة تهز الأعطاف المراح، ومن يانع ثمار أفكار ذوي البراعة. طبعه المفلق في الصناعة، الخالية عن وصمة الفجاجة والبشاعة، وهو الكاشف عن وجوه مخدرات المعاني نقابها، والمفترع عرائس المباني بكشف جلبابها، وهو الذاب عن الدين طعنَ الزنادقةِ والملحدين، والناقد للمرويات عن النبي سيد المرسلين، وللمأثورات من الصَّحابة والتابعين. فمن قال: هو كافر!! فهو كافر حقيق!! ومن نسبه إِلى الزندقة!! فهو زنديق!!

وكيف ذاك وقد سارت تصانيفه في الآفاق، وليس فيها شيء ممَا يدل على الزيغ والشقاق، ولم يكن بحثه فيما صدر عنه في مسألة الزيارة والطلاق: إِلاَّ عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالتين مأجور مثاب، وليس فية شيء مما يلام أَو يعاب. ولكن حملهم على ذالك حسدهم الظاهر، وكيدهم الباهر، وكفى للحاسد ذمًّا آخر سورة الفلق في احتراقاته بالفلق، ومن طعن في واحد ممن قضى نحبه منهم، أَو نقل غير ما صدر عنهم، فكأنمَا أتى بالمحال، واستحق به سوء النكال. وهو الإمام الفاضل البارع التقي النقي الوارع الفارس في علمي الحديث والتفسير، والفقه والأصولين بالتقرير والتحرير، والسيف الصارم على المبتدعين، والحبر القائم بأمور الدين، والأمّار بالمعروف والنّهاء عن المنكر. ذو همة وشجاعة وإقدام فيمَا يَرْدَع ويزجر، كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة، خشن العيش والقناعة، من دون طلب الزيادة، وكانت له المواعيد الحسنة السنية، والأوقات الطيبة البهية، مع كفه عن حطام الدنيا الدنية، وله المصنفات المشهورة المقبولة، والفتاوي القاطعة غير المعلولة. وقد كتب على بعض مصنفاته قاضي القضاة كمال الدين ابن الزَّمْلَكاني رحمه الله تعالي: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْرِ هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبَةُ الدَّهر وقد عرفت َ ترجمة ابن الزَّمْلَكاني وهو: الإمام أَبو المعالي كمال الدين محمَّد ابن الإمام علاء الدين أبي الحسن على بن كمال الدين أَبي محمَّد عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري، الشهير بابن الزَّمْلَكاني الشافعي، أَخذ النحو

عن بدر الدين بن مالك، والفقه عن الشَّيخ تاج الدين عبد الرَّحمن، والأصول عن قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي. وكان كثير الفضل سريع الإدراك يتوقد ذكاء وفطنة، وأججمع الناس على فضله، وانتهت إِليه رئاسة المذهب في عصره، وتولى قضاء حلب وأقام بها إِلى حين طلب إِلى مصر. ومات بمدينة بلبيس يوم الأربعاء السادس عشر من رمضان، من سنة سبع وعشرين وسبعمائة، وحمل من بلبيس إِلى القرافة، ودفن بالقرب من قبر قاضي القضاة إِمام الدين القزويني، بجوار قبة الإمام الشَّافعيّ ـ بظاهر القاهرة ـ رحمهم الله تعالى، وكان قد طُلب ليتولى قضاء دمشق ومن شعره: سواكم بقلبي لا يحِلُّ ولا يحلو ... كما أنه من حُبّكم قط لا يخلو حللتم عُرى صَبري وحلَّلتم دمي ... وحرَّمتُمُ وصلي فلذّ لِيَ القتل إلى غير ذلك من الأبيات. ولما قدم إِلى حلب حاكمًا، نزل بمشهد الفردوس ظاهرها، فقال الأديب شمس الدين محمَّد بن يوسف الدِّمشقي: يا حاكم الحكام يا مَنْ به ... قد شرفت رتبته الفاخره ومن سقى الشهباء مُذ حلها ... بحار علم وندًى زاخره نزلت بالفردوس فابشر به ... دارك في الدنيا وفي الآخره وكتب إِليه الشَّيخ جلال الدين القلانسي أبياتًا كذلك، وكذلك

الشَّيخ جمال الدين ابن نُباتة المصري، ثمًّ رثاه بقصيدة يطول ذكر ذلك ها ههنا. أفلا تكفي شهادة هذا الحبر لهذا الإمام، حيث أطلق علية: حجة الله في الإِسلام، ودعواه أَنَّ صفاته الحميدة لا يمكن حصرها، ويعجز الواصفون عن عدها وزبرها. فإذا كَانَ كذلك كيف لا يجوز إطلاق: شيخ الإِسلام عليه؟ أَو التوجه بذكره إِليه؟ وكيف يسوغ إنكار المعاند الماكر الحاسد؟ وليت شعري ما متمسك هذا المكابر، المجازف الجاهل المجاهر، وقد عُلم أَنَّ لفظة الشَّيخ لها معنيان، لغوي، واصطلاحي، فمعناه اللغوي: الشَّيخ من استبان فيه الكبر. ومعناه الاصطلاحي: الشَّيخ من يصلح أَن يتلمذ له. وكلا المعنين موجود في الإمام المذكور، ولا ريب أَنَّه كَانَ شيخًا لجماعة من علماء الإِسلام، ولتلامذة من فقهاء الأنام، فإذا كَانَ كذلك كيفَ لا يطلق عليه: شيخ الإِسلام؟ لأن من كَانَ شيخ المسلمين يكون شيخًا للإسلام، وقد صرح بإطلاق ذلك عليه قضاة القضاة الأعلام، والعلماء الفاضل أركان الإِسلام، وهم الَّذين ذكرهم مؤلف كتاب «الرد الوافر» في رسالته الَّتي أبدع فيها بالوجه الظاهر، وقد استغنينا بذكره عن إعادته، فالواقف عليه يتامله، والناظر فيه يتقبله. وأما مَاجَرَيَات هذا الإمام فكثيرة في مجالس عديدة، فلم يظهر في ذلك لمعانديه فيمَا ادُّعِيَ به عليه برهان، غير تنكيدات رسخت في القلوب من ثمرات الشنآن، وقصارى ذلك أَنَّه حبس بالظلم والعدوان،

وليس في ذلك ما يعاب ويشان، وقد جرى علي جلّة من التَّابعين الكبار، من قتل وقيد وحبس وإشهار، وقد حبس الإمام أَبو حنيفة رضي الله عنه، ومات في الحبس فهل قال أحدٌ من العلماء: إنَّه حبس حقَّا. وحُبِس الإمام أَحمد رضي الله عنه، وقٌيِّد لما قال قولا صدقّا. والإِمام مالك رضي الله عنه ضُرِب ضربًا مؤلمًا شديدًا بالسياط. والإِمام الشَّافعيّ رضي الله عنه، حمل من اليمن إِلى بغداد بالقيد والاحتياط. وليس ببدع أَن يجري على هذا الإمام ما جرى على هؤلاء الأئمة الأعلام. وكان آخر حبسه بقلعة دمشق، وتوفي فيها في الثلث الأخير من ليلة الاثنين المسفر صباحها عن عشرين من ذي القعدة، من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وكان مرضه سبعةَ عشر يومًا، وصلى عليه بباب القلعة الشَّيخ محمَّد بن تمام، ثمَّ صلوا عليه في الجامع الأموي، ثمَّ دفن في مقابر الصوفية إِلى جانب أخيه الشَّيخ شرف الدين. ومولده في عاشر ربيع الأوَّل سنة إحدى وستين وستمائة بحران، وقدم مع والده إِلى دمشق. ووقت الصلاه عليه امتلأ الجامع أكثر من يوم الجمعة، وحضرت الأمراء والحجاب وحملوه على رؤوسهم وخرجوا به من باب الفرج، وامتد الخلق إِلى مقابر الصوفية، وختموا على قبره ختمات، وبات أصحابه على قبره لياليَ عديدة. ورثاه الإمام زين الدين عمر ابن الوردي.

رحمه الله بقصيدة منها قوله: عثا في عرضه قومٌ سِلاط ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ تقي الدِّين أَحمد خير حَبْر ... خُروق المعضلات به تُخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إِلى الدُّنيا انبساطُ ولو حضروه حين قَضَى لألفوا ... مَلائِكةَ النَّعيم به أَحاطُوا فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ! ... ويالله ما غطى البَلاَطُ! هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسالى ... ولكن في أَذاه لهم نشاط وحَبْسُ الدُّر في الأصداف فخر ... وعند الشيخ بالسجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداءٌ ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا إمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباط ولا جاراكم في كسب مالٍ ... ولم يُعهد له بكم اختلاط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونيتكم إِذا نُصب الصراط فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أردتم أن تُعاطوا وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانطوى ذاك البساط والإمام زين الدين هذا كَانَ علامة متقنًا في العلوم. ومجيدًا في المنثور والمنظوم. وله الأشعار الرائقة، والمقاطيع الفائقة، وكان ماهرًا

في العربية درس وأعاد وأفتى، وله مؤلفات مفيدة منها: «نظم الحاوي الصغير». مات بحلب في سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وفيه يقول الإمام العالم العلامة أثير الدين أَبو حيان: قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الحقَّ إذ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فها ... أَنت الإِمامُ الذي قد كان يُنتظر فإذا كَانَ هذا الإمام بهذا الوصف بشهادة هذا العلامة، وبشهادة غيره من العلماء الكبار، فماذا يترتب على من يطلق عليه: الزندقة أَو ينبذه بالكفر؟ ولا يصدر هذا إِلاِّ عن غبي جاهل، أَو مجنون كامل. فالأول: يعزر بغاية التعزير، ويُشَهَّر في المجالس بغاية التشهير، بل يؤبد في الحبس إِلى أَنْ يحدث التوبة، أَو يرجع عن ذلك بأحْسن الأوبة. والثاني: يداوى بالسلاسل والأصفاد، والضرب الشديد بلا أعداد، وهذا كله من فساد أهل هذا الزمان، وتواني ولاة الأمور عن إظهار العدل والإحسان، وقطع دابر المفسدين، واستئصال شأفة المدبرين، حيث يتصدى جاهل يدعي أَنًّه عالم، بثلب أعراض علماء المسلمين، ولا سيمَا الَّذين مضوا إِلى الحق بالحق، وبه كانوا عادلين. وهذا الإمام مع جلالة قدره في العلوم، نقلت عنه على لسان جم غفير من الناس، كرامات ظهرت منه بلا التباس، وأجوبة قاطعة عند

السؤال منه، عن المعضلات، من غير توقف منه بحالة من الحالات. ومن جملة ما سئل عنه وهو على كرسيه، يعظ الناس والمجلس غاص بأهله، في رجل يقول: ليس إِلاَّ الله. ويقول: الله في مكان، هل هو كفر أَو إيمان؟ فأجاب على الفور: من قال: إِنَّ الله بذاته في كل مكان، فهو مخلف للكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل هو مخالف للْمِلَل الثلاث، بل الخالق سبحانه وتعالى بائن من المخلوقات ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، بل هو الغني عنها، البائن بنفسه منها. ولقد اتفق الأئمة من الصَّحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وسائر أئمة الدين، أّنَّ قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ليس معناه أَنَّه مختلط بالمخلوقات وحالٌ فيها، ولا أَنَّه بذاته في كل مكان، بل هو سبحانه وتعالى مع كل شيء بعلمه وقدرته ونحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى مع العبد أينمَا كَانَ، يسمع كلامه، ويرى أفعاله، ويعلم سره ونجواه، رقيب عليهم مهيمن عليهم، بل السماوات والأرض وما بينهمَا كل ذلك مخلوق لله، ليس الله بحالٍّ في شيء منها سبحانه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لافي ذاته ولا في صفاته، ولا أفعاله، بل يوصف الله بمَا وصف به نفسه، وبمَا وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، فلا تمثل صفاته بصفات خلقه، ومذهب السلف: إثباتٌ بلا تشبيه، وتنزيهٌ بلا تعطيل. وقد سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به

واجب، والسؤال عنه بدعة. فهذا الإمام كما رأيتَ عقيدته، وكاشفتَ سريرته، فمن كَانَ على هذه العقيدة كيف ينسب إِليه الحلول والاتحاد، أَو التجسيم أَو ما يذهب إِليه أهل الإلحاد؟ أعاذنا الله وإياكم من الزيغ والضلال والعناد، وهدانا إِلى سبيل الخير والرشاد، إِنَّه على كلِّ شئٍ قدير، وبالإجابة جدير. حرره مُنمَّقًا فقير رحمة ربه الغني، أَبو محمَّد محمود بن أَحمد العيني، عامله الله بلطفه الخفي والجلي. بتاريخ الثَّاني عشر من ربيع الأول، عام (835) بالقاهرة المحروسة.

51 - تقريظ العلامة صالح بن عمر البلقيني ((للرد الوافر)) لابن ناصر الدين

تقريظ العلاَّمة صالح بن عمر البلقيني (868) «للرد الوافر» لابن ناصر الدين (¬1) الحمد لله الَّذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمَّد سيد السادات، من أهل الأرضين والسموات، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ويسِّر والطف واختم بخير. وقفت على هذا التُّصنيف الجامع، والمنتقى البديع للسامع، وعملت بشروط الواقفين من استيفاء النظر، فوجدته عقدًا منظماَ بالدرر، يفوق عقود الجُمان، ويزري بقلائد العِقيان، ويضوع مسك الثناء على جامعه مدى الزمان، وقال لسان الحال في حقه: ليس الخبر كالعيان، وكيف لا وهو مشتمل على مناقب عالم زمانه، والفائق على أقرانه، والذابً عن شريعة المصطفى باللسان والقلم، والمناضل عن الدين الحنيفي وكم أبدى من الحكم، صاحب المصنفات المشهورة، والمؤلفات المأثورة، الناطقة بالرد على أهل البدع والإلحاد، القائلين بالحلول والاتحاد، ومن هذا شأنه كيف لا يلقَّب بشيح الإِسلام؟ وينوه بذكره بين العلماء الأعلام؟ ولا عبرة بمن يرميه بمَا ليس فيه، أَو ينسبه بمجرد الأهواء لقول غير وجيه، فلم يضره قول الحاسد والباغي، والجاحد والطاغي. وما ضرَّ نور الشَّمسِ إِنْ كان ناظرًا ... إليه عيونٌ لم تزَل دَهْرَها عُميا ¬

_ (¬1) ملحق بآخر الرد الوافر. ونُشِر لأول مرة على هامش "جلاء العينين" (ط. بولاق 1298) ص 97 - 102.

غير أَنَّ الحسد يمل صاحبه على اتباع هواه، وأن يتكلم فيمن يحسده بمَا يلقاه: لله دَرُّ الحسدِ ما أعدله، بدأ بصاحِبِه فقتله. وما أحق هذا العالم بقول القائل: حَسدُوا الفتى إذ لم ينالوا عِلمَه ... فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ وقال النَّبي صلي الله عليه وسلم: «إِيَّاكُم والحسد، فإِنَّ الحَسّدَ يأكلُ الحسنات كما تأكل النَّار الحَطَب» أَو قال: «العشب» أعاذنا الله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف. وكيف يجوز أَن يكفر من لقب هذا العالم بشيخ الإِسلام، ومذهبنا: أَنَّ من كفر أخاه المسلم بغير تأويل فقد كفر، لأنَّه سمى الإِسلام كفرًا. ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في ترجمة أبيه الشَّيخ تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه، بأن الحافظ المزي لم يكتب بخطه لفظه شيخ الإِسلام إِلاَّ لأبيه، وللشيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، وللشيخ شمس الدين ابن أَبي عمر. فلولا أَنَّ ابن تَيْمِيَّة في غاية العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن البسبكي أباه معه في هذه المنقبة، ولو كَانَ ابن تَيْمِيَّة مبتدعًا أَو زنديقًا ما رضي أَنْ يكون أبوه (¬1) قرينًا له. نعم قد نسب الشَّيخ تقي الدين ابن تَيْمِيَّة لأشياء أنكرها عليه معاصروه وانتصب للرد عليه الشَّيخ تقي الدين السبكي في مسألتي: الزيارة، والطلاق، وأفرد كلاً منهما بتصنيف، وليس في ذلك ما يقتضي كفره ¬

_ (¬1) في الأصل: أباه.

ولا زندقته أصلاً، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إِلاَّ صاحب هذا القبر ـ يعني النبي صلي الله عليه وسلم ـ والسعيد من عُدَّت غلطاته، وانحصرت سقطاته. ثمَّ إِنَّ الظن بالشيخ تقي الدين أَنَّه لم يصدر منه ذلك تهورًا وعدوانًا - حاشا لله ـ بل لعله لرأي رآه وأقام عليه برهانًا، ولم نقف إِلى الآن بعد التتبع والفحص على شيء من كلامه يقتضي كفره ولا زندقته، إنمَا نقف على رده على أهل البدع والأهواء، وغير ذلك ممَا يظن به براءة الرَّجل وعلو مرتبته في العلم والدين، وتوقير العلماء والكبار وأهل الفضل متعين، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وصح أَنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا» وفي رواية: «حق كبيرنا». وكيف يجوز أَنْ يقدم على رمي عالم بفسق أَو كفر ولم يكن فيه ذلك؟ وقد صح أَنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسق أَو الكفر إِلاَّ ارتدت عليه إِنْ لم يكن صاحِبُه كذلك». ثمَّ كيف يجوز الإقدام على سب الأموات بغير حق وهم محرم، [و] صح أَنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «لا تسبُّوا الأموات فإنهم قد أفضوا إِلى ما قدموا». وكيف يجوز أذى المؤمن بغير حق والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}. وصح أَنَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: «المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانِهِ ويَدِه، والمهاجِرُ مَنْ هَجَر ما نهى اللهُ عَنْه».

فالواجب على من أقدم رمي هذا العالم بمَا ليس فيه، الرجوع إِلى الله والإقلاع عما صدر منه، ليحوز الأجر الجزيل بالقصد الجميل، وإن اطلع على أمر يحتمل التأويل بغير دليل، وإن صح عنده أمر جازم عنه يقضي إنكاره فينكره قاصدًا النصيحة، ولا يهضم مقام الرَّجل مطلقًا مع شهرته بالعلم والفضل والتصانيف والفتاوي الَّتي سارت بها الركبان، والله يحفظنا من الخطأ والخَطَل، ويحمينا من الزيع والزلل، آمين والحمد لله رب العالمين. وكتب في اليوم المبارك الموافق ليوم ولادة النَّبي صلي الله عليه وسلم يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأَوَّل، سنة خمس وثلاثين وثمانمائة. قال ذلك وكتبه الفقير إِلى عفو ربه صالح بن عمر البلقيني الشَّافعيّ، لطف الله تعالى به.

العلاّمة/ جمال الدين يوسف بن تَغْري بَرْدي (874) - المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي - الدليل الشافي - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

52 - المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي

المَنْهَل الصَّافي والمُسْتَوْفَى بعد الوافي (¬1) ابن تَيْمِيَّة أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الخضر ابن عليّ بن عبد الله، شيخ الإِسلام تقي الدين أَبو العبَّاس بن أَبي المحاسن شهاب الدين ابن أَبي البركات مجدالدين الحَرَّاني الأصل والمولد، الدِّمشقي الدار والوفاة، الحنبلي، المعروف بابن تَيْمِيَّة، الإمام العلامة، الحافظ الحجة، فريد دهره، ووحيد عصره. مولده بحران يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأَوَّل سنه إِحدى وستين وستمائة , وقدم دمشق مع والده سنة تسع وستين، وسمع الحديث من أَحمد بن عبد الدَّائم، ومجدالدين بن عساكر، وابن أَبي اليسر، وأكثر من أصحاب حنبل، وأَبي حفص ابن طَبَرْزَد، وغيرهم. وقرأ واشتغل وانتقى، وبرع في علوم الحديث، وانتهت إِليه الرئاسة في مذهب الإمام أَحمد بن حنبل رضي الله عنه، ودرس وأفتى، وتصدر للإقراء والإفادة عدة سنين، وفسر، وصنف التَّصانيف المفيدة. وكان صحيح الذهن، ذكيا، إمامًا متبحِّرًا في علوم الديانة، موصوفًا بالكرم، مقتصدًا في المأكل والملبس، وكان عارفًا بالفقه، واختلافات العلماء، والأصلين، والنحو، إمامًا في التفسير وما يتعلق به، عارفًا باللغة، إٍمامًا في المعقول والمنقول، حافظًا للحديث، مميزًا بين صحيحه وسقيمه. أثنى عليه جماعة من أعيان علماء عصره، مثل الشَّيخ تقي الدين بن دقيق ¬

_ (¬1) (1/ 358 - 362) الهيئة العامة المصرية.

العيد، والقاضي شهاب الدين الخوبي، والشيخ شهاب الدين بن النحاس. قال القاضي كمال الدين ابن الزَّمْلكاني: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. ثمَّ جرت له محن في مسألة الطلاق الثلاث، وشد الرحال إِلى قبور الأنبياء والصالحين، وحبب للناس القيام عليه، وحُبِسَ مرَّات بالقاهرة والإسكندرية ودمشق، وعقد لع مجالس بالقاهرة ودمشق، مع أَنَّه حصل له في [بعضها] تعظيم من الملك الناصر محمَّد بن قلاوون، وأطلق وتوجه إِلى دمشق فأقام بها إِلى أَن ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة بأن يجعل في قلعة دمشق في قاعة حسنة، فأقام فيها مدة مشغولاً بالتصنيف، ثمَّ بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ماعنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواة ولا قلمًا ولا ورقة. ومما وقع له قبل حبسه أَنَّه بحث مع بعض الفقهاء، فكتب عليه محضر بأنه قال: أَنا أشعري، ثمَّ أَخذ خطه بما نصه: أَنا أعتقد أَنَّ القرآن معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وأن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ليس على ظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلمه إِلاَّ الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء، وكتبه أَحمد بن تَيْمِيَّة ثمَّ أشهدوا عليه جماعة أَنَّه تاب مما ينافى ذلك مختارًا، وشهد عليه بذلك جمع من العلماء وغيرهم (¬1). انتهى. قلت: وعلم الشَّيخ تقي الدين وفضله معرف لا يحتاج إِلى التطويل في ذكره. وقد أثنى عليه جماعة من أكابر العلماء، من ذلك ما كتبه ¬

_ (¬1) سبق التعليق على هذا في المقدمة.

القاضي كمال الدين بن الزَّمْلَكاني على كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» تأليف ابن تَيْمِيَّة مالفظه: تأليف الشَّيخ الإمام العالم العلامة، الأوحد، الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة، إِمام الأئمة، قدوة الأمة علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعبن، محي السنة، ومن عَظُمَت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجَّة، تقي الدين ابن تَيْمِيَّة، ثمَّ قال: ماذا يقول الواصفونَ له ... وصِفاته جلَّت عن الحصرِ هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبةُ الدهر ِ هو آيةٌ للخلق ظاهرةٌ ... أنوارُها أربتْ على الفَجْرِ انتهي باختصار [منه] (¬1)، ولما كتب له ذلك كَانَ عمره إذ ذاك نحو الثلاثين سنة. ولم يزل الشَّيخ تقي الدين المذكور مُحْتَفَظًا به في قلعة دمشق إِلى أَن توفى بها في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة ثمان وعشرين وسبعمائة، ودفن من الغد بمقابر الصوفية، وحضر جنازته خلق كثير. قال الحافظ أَبو عبد الله الذَّهبيّ: شيعه نحو خمسين ألفًا، وحمل على الرؤوس، انتهى. ومصنفاته تزيد على مائتي مصنف، استوعبها الشَّيخ صلاح الدين خليل بن أيبك في تاريخه «الوافي بالوفيات»، رحمه الله تعالى. ¬

_ (¬1) في الأصل: "نسبه"؟.

53 - الدليل الشافي من المنهل الصافي

الدَّليلُ الشّافِي من المَنْهل الصَّافي (¬1) لأَبي المحاسن بن تَغْري بَرْدي (874) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الخضر ابن علي، الحافظ الحجة تقيّ الدين أَبو العبَّاس ابن تَيْمِيَّة، الحَرَّاني الدِّمشقي الحنبلي، ولد بحرَّان في يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة، ومات في قَلْعة دمشق مُعْتَقَلاً بها ـ في ليلة الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، ودُفِنَ من الغد. ¬

_ (¬1) (1/ 56) مركز البحث العلمي، وإحياء الترات بمكة المكرمة، تحقيق فهيم شلتوت.

54 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

النُّجُومُ الزَّاهِرة فِي مُلُوكِ مِصْرَ والقَاهِرَةِ (¬1) للعلاَّمة / جمال الدِّين أَبي المحاسن يوسف بن تَغْري بَرْدي (874) فيها (أي سنة ثمان وعشرين وسبعمئة) توفي: شيخ الإِسلام، تقي الدِّين، أَبو العَبَّاس، أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن محمَّد بن تَيْمِيَّة، الحَرَّاني الدِّمشقي، الحنبلي بدمشق، في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة في سِجنه بقلعة دمشق. ومولده في يوم الاثنين عاشر ربيع الأوّل سنة إِحدى وستين وستمائة، وكان سُجِن بقلعة دِمشق لأُمور حكيناها في غير هذا المكان. وكان إِمام عصره بلا مدافعة في الفقه، والحديث، والأصول، والنحو، واللُّغة، وغير ذلك. وله عدّة مصنفات مفيدة يضيق هذا المحلّ عن ذكر شيءٍ منها. أثنى عليه جماعة من العلماء، مثل الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد، والقاضي شهاب الدِّين الخويي، والقاضي شهاب الدِّين ابن النحّاس. وقال القاضي كمال الدِّين بن الزَّمْلَكاني المقدَّم ذكره: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. ثمَّ جرب له محنٌ في مسألة الطلاق الثلاث، ¬

_ (¬1) (7/ 196 - 197) دار الكتب العلمية 1413.

وشدّ الرحال إِلى قبور الأنبياء والصالحين، وحُبِّبَ للناس القيام عليه، وحُبس مرات بالقاهرة والإسكندرية ودمشق. وعُقِد له مجالس بالقاهرة , ودمشق، مع أَنَّه حصل له في بعضها تعظيم من الملك الناصر محمَّد بن قلاوون، وأُطلق، وتوجّه إِلى دمشق وأقام بها، إِلى أَنْ ورد مرسوم شريف في سنة وعشرين وسبعمئة،؛ بأن يُجعل في قلعة دمشق في قاعة، فجُعل في قاعة حسنة، وأقام بها مشغولاً بالتصنيف والكتابة. تمَّ بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواة، ولا قلمًا، ولا ورقة. ثمَّ ساق ابن الزَّمْلَكاني كلامًا طويلاً الأليق الإضراب عنه.

55 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد

المقْصَدُ الأَرشَدُ في ذِكْرِ أَصحَاب الإِمام أَحْمَدَ (¬1) للعلاَّمة: برهان الدِّين إِبراهيم بن مفلح (884) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن أَبي القاسم (¬2) الخضر بن محمد بن تيميِّة الحَرَّانيّ، ثم َّ الدِّمشقِىّ، الإِمام الفقيه المُجتهد الحافظ المُفسِّرُ الزَّاهِدُ، أَبو العبَّاس تَقِيُّ الدّين، شيخُ الإِسلام، وعلمُ الأعلام. ولِدَ يومَ الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستِّين وستمائة بحرَّان. قدمَ به والده وبإخوته إِلى دمشق عند استيلاء التَّتَر على البلاد. وسمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليسر، والمجد بن عساكر، والقاسم الإربلي، والشَّيخ شمس الدّين بن أَبي عُمر، وخلقٍ كثير، سمعَ «المُسند» مرَّات، والكتب السِّتَّة، و «مُعْجَم الطَّبراني» وما لا يُحْصَى. وكتَبَ بخطِّه جملةً من الأجزاء، وأقبل على العُلوم في صِغَره، وأخذ الفِقْه والآُصول عن والده، وعن الشِّيخ شمس الدّين بن أَبي عمر، والشَّيخ زين الدين ابن المنُجَّى، وبرعَ في ذلك وناظَر وقرأَ العَرَبِيَّة على ابن عبد القوىّ، ثمَّ أَخذ «كتاب سيبويه» فتأمَّله وفهمه، وأقبل على تَفْسِيْر القُرآن العَظيم، فبرز فيه وأحكم الفَرائض والحِسَاب، والجَبر والمُقابلة وغير ذلك من العُلوم، ونظر في علم الكلام والفَلْسَفَة وبرز في ذلك على أهله، وردَّ علَى رُؤسائهم وأَكابرهم، وتأهَّل للفَتْوىَ والتَّدريس وله دون العشرين سنة، ¬

_ (¬1) (1/ 132 - 139) مكتبة الرشد (ط، 1) 1410، تحقيق د/ عبد الرحمن العثيمين. (¬2) في المطبوعة: "بن" بين القاسم والخضر، والصواب حذفها.

وأمدّه الله تعالى بكثرة الكُتب، وسرعة الحِفْظ، وقوَّة الإدراك والفهْم، وكان بَطِىْءَ النِّسيان حتىَّ ذَكَرَ جماعةٌ أَنَّه يكن يحفظ شيئًا فينساهُ. وتوفي والده الشَّيخ شهاب الدين وكان عمره إذ ذاك إِحدى وعشرين سنة، فقام بوظائفه ودرس بدار الحديث السُّكَّرية فى أول سنة ثلاث وثمانين، وحضر عنده قاضى القضاة بهاء الدّين بن الزَّكيّ (¬1)، والشَّيخ تاج الدّين (¬2) الفَزَارِىُّ، والشَّيخُ شهاب الدّين ابن المُرَحِّلِ، والشِّيخُ زين الدّين ابن المُنَجَّى وذكر درسًا عظيمًا في البَسْمَلَة، وعظمه الجماعة الحاضرون فأثنوا عليه ثناءً كثيرًا قال الذَّهَبيُّ: وكان الشَّيخ تاج الدين الفَزَارِىُّ يبالغُ في تعظيمه بحيثُ إنَّه علق بخطِّه دَرْسَهُ بالسُّكرية. ثمَّ جلس مكان والده بالجامع يفسّر القرآن الكريم وشرع من أوله، وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أَو أكثر، وبقي يفسّر في سورة نوح عدة سنين، وفى وقتٍ ذَكَر يومَ جُمعة شيئًا من الصفات فقام بعضُ المخالفين وسعوا فى منعه فلم يمكنهم ذلك. وقال قاضي القُضَاة شِهابُ الدَّين الخُوَيِّى: أَنا على اعِتقادِ الشَّيخ تَقِىّ الدّين، فعُوتبَ فى ذلك، فقال: لأن ذهنه صحيحٌ وموادّه كثيرة، فهو لا يقولُ إِلاَّ الصَّحيح. وكان اعجوبةَ زمانِهِ في الحفظ وقد حُكى أَنَّ بعضَ مشايِخ حَلَب قدم دمشق لينظر إِلى حفظ الشَّيخ فسأل عنه فقيل الآن يحضر، فلما ¬

_ (¬1) في المطبوعة: "شهاب الدين بن المزكِّي"! والتصويب من المصادر. (¬2) في المطبوعة: "شهاب الدين" والتصويب من المصادر.

حضر ذكر له أحاديث فحفظها من ساعَته، ثمَّ أملى عليه عدة أسانيد انتخبها ثمَّ قال: اقرأ هذا فنظر فيه كما فعل أول مرة، فقام الشَّيخ الحلبى وهو يقول: إِن عاشَ هذا الفَتى ليكونَنّ له شأنٌ عظيمٌ فإِنَّ هذا لم يُرَ مثلُه، وقالَ الشَّيخُ شرفُ الدين: أَنا أرجو بركته ودعاءه؛ وهو صاحبى وأخى. ذكر ذلك البِرزَالِىُّ فى «تاريخه». ثم َّ شرع فى الجَمع والتَّصنيف من العشرين، ولم يزَل فى عُلُوٍ وازْدياد فى العِلم والقَدرِ إِلى آخر عُمُرِه. قالَ الحافِظُ المِزَّى: ما رأَيْتُ مثلَه، ولا رأى هو مثل نَفْسِهِ. وذكرَهُ الذَّهبيُّ في «مُعْجَم شُيُوخِهِ»، ووصفه بأنَّه شيخُ الإِسلام، وفريدُ عَصْرِه علمًا ومعرفةً وشجاعةّ وذكاءً ونصحًا للأمَّة [و] أَمْرًا بالمعروفِ ونَهْيًا عن المِّنكر إِلى غير ذلك من الصِّفاتِ الحَمِيْدة، والأَخلاق المَرْضِيَّة. وقال الشَّيخُ كمالُ الدِّين ابن الزَّملكانى: كَانَ ابن تَيْمِيِّة إِذا سُئِلَ عن فنٍّ من العِلْم ظَنَّ الرائِى والسَّامع أَنَّه لا يَعرِفُ غيرَ ذلك الفَنّ، وحكمَ أَنَّ أحدًا لا يعرفه مثلَهُ، وكان الفقهاءُ من سائِر الطَّوائِفِ إِذا جالسُوه استفادوا منه فى مذاهبهم أشياء، ولا يُعْرَفُ أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تَكَلَّم معه فى علمٍ من العلومِ سواءً كَانَ من علومِ الشَّرع أَو غَيرها إِلاَّ فاق فيه أهله واجتمعت فيه شُروط الاجتهاد على وجهها. قالَ الشَّيخُ زينُ الدِّين ابن رَجَبِ: وقد عُرض عليه قضاء الحنابلة قبل التِّسعين ومشيَخَة الشُّيوخ فلم يَقْبَل شيئًا من ذلك. وقد كتبَ ابن الزّملكاني بخطِّه على كتاب «إبطال الحِيَل» ترجمةَ الكِتَاب، واسم الشَّيخ وترجم له تَرجمة عظيمة وأثنى عليه شيئًا كثيرًا وكتب تحته بخطِّهِ: ماذَا يَقُوْل الوَاصِفُونَ لَهُ ... وصِفَاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ

هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بَيْنَنَا أُعْجُوْبَةُ الدَّهْر ِ هو آيةٌ للخَلْقِ ظَاهِرَةٌ ... أَنْوارُها أَرْبَتْ على الفَجْرِ وحَكَى الذَّهَبيُّ، عن الشَّيخ تقىّ الدّين ابن دَقيق العِيْد، أَنَّه قالَ له عند اجتماعه به وسماعه لكلامِهِ: ما كنتُ أَظُنُّ أَنَّ الله تعالى بقيِ يخلق مثلك. وقد كَتَب العَلاَّمة قاضى القُضاة تقىّ الدّين السُّبكىُّ إِلى الحافظ الذَّهبيّ فى أمر الشّيخ تقِىّ الدين: فالمملوك يتحقق أَن قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده بلغ من ذلك كلَّ المبلغ الذى يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره فى نفسى أكثر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله تعالى [له] من الزّهادة والوَرع والدِّيانة ونُصرة الحقّ والقِيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سَنَنِ السَّلَف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزَّمان، بل [من] أزمان. وللشَّيخ أثير الدَّين أَبي حيَّان الأَنْدَلسىّ النَّحوي لما دَخلَ الشَّيخ إِلى مصر واجتمع به قال أبياتًا لم يَقُلْ خيرًا منها ولا أفحل: لمَّا رأيْنَا َضقِيِّ الدينِ لاحَ لَنَا ... داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ على مُحَيَّاهُ مِنْ سِيْمَا الأُولَى صَحِبُوا ... خيرَ البَرِيَّةِ نُوْرٌ دُوْنَهُ القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبَرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابنُ تَيْمِيَّةٍ في نَصْرِ شِرعَتِنَا ... مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الحقَّ إذا آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأَخْمدَ الشَّرْكَ إذ طارَتْ لَهُ شَرَرُ يامَنْ يُحَدِّثُ عن عِلْمِ الكتابِ أصِخْ ... هذا الإمامُ الذي قَدْ كان يُنتظر

وأمَّا مناظرتُهُ للخصوم وإفحامُهم وقطعُهُم لديه فهو ظاهرٌ، وكتبه التى صنَّفَها فهى أشهر من أَن تذكر وتعرف فإنها سارت مسيرَ الشَّمس في الأقطار وامتلأت بها البلاد والأمصار، وقد جاوزت حد الكثرة فلا يمكن أحدًا حَصْرُها، ولا يتسع هذا المكان لعدها. وله اختيارات غريبة جمعها بعضهم في مجلَّدٍ لطيف. ووقع له أمور وأحوال قام عليه فيها المعاندُ والحاسدُ إِلى أَن وصلَ الحال به أَن وُضِعَ فى قلعة دمشق فى مقام أبى الدَّرْدَاء رضي الله عَنه ستٍّ وعشرين فى شَعبان إِلى ذى القَعْدة سنة ثمان ٍ وعشرين، ثمَّ مرض أيَّامًا ولم يَعْلَم أكثُر النَّاس مَرضه. وتوفى سحر ليلة الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسَبْعِمائة. وذكره مؤذن القَلْعَة على منارة الجامع، وتكلّم به الحَرَسُ واجتّمَع النَّاسُ، ولم تفتح الأسواق المعتادة بالفتح أول النهار، واجتمع عنده خلق يبكون ويثنون خيرًا، وأخبرهم أخوه زين الدّين عبد الرًّحمن أنهما ختما فى القَلْعة ثمانين ختمةً، والحادية والثَّمانين انتهيا فيها إِلى قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. وابتدأ عنده جماعة في القراءة من سورة الرَّحمن إِلى ختمه. ولم يُفرغ من غَسله حتَّى امتلأ أكثر القلعة بالرجال فصَلَّى عليه بدَركاتِها الشَّيخُ الزَّاهدُ محمَّد بن تَمَّامٍ، وضجَّ الناسُ، ثمَّ خرجوا به إِلي جامع دمشق، وكثر الجَمْع حتَّى يقال: إِنَّه فاق جميع الجُمَع، ثمَّ وضع عند موضع الجنائز حتَّى صلِّيَتِ الظهرُ، ثمَّ صلى عليه نائب الخطيب علاء الدين الخَراَّط لغيبة القَزْوِيْنى، ثمَّ خرجوا به من باب الفرج، وكثر الزِّحام وخرج الناس من غالي أبواب البلد، ثمَّ صلَّى عليه أخوه زين الدين عبد الرَّحمن بسوق الخَيْل، ودفن وقت صلاة العصر بالصُّوفية إِلى جانب أخيه شرف الدين. وحُزِرَ الرِّجال بستين ألفًا وأكثر، والنِّساء بخمسةَ

عشرَ ألفًا، وظهرَ بذلك قَولُ الإمام (¬1): بينَنا وبينَهم الجنائز. وختم له ختمات كثيرة، وتردد النَّاس إِلى قَبره، ورُئِيَتْ له منامات (¬2) حسنة، وتأسف النَّاسُ لفقده رَضي الله عنه. ¬

_ (¬1) أي: الإمام أَحمد. (¬2) في المطبوعة "مقامات"!.

56 - دستور الأعلام بمعارف الإسلام

دستورُ الأعلام بمعارف الإسلام (¬1) لمحمد بن عمر ابن عَزَم التميمي التونسي المكي (891) ابن تيمية (728) الحرَّاني الحنبلي، شيخ الإسلام وصاحب التصانيف الكثيرة أبو العباس أحمد عبد الحليم بن عبد السلام. ¬

_ (¬1) ق 28 أ (نسخة مكتبة خدا بخش خان بباتنه 2376).

57 - غربال الزمان في وفيات الأعيان

غربال الزمان في وفيات الأعيان (¬1) للعلامة / يحيى بن أبي بكر العامري الحَرَضي اليماني (893) وفيها (728) مات بقلعة دمشق محبوسًا الحافظ تقي الدين، عرف بابن تيمية، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة والورق، ولد بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وبرع في الحديث والأصلين، وكان يتوقد ذكاءً، وصنف أكثر من مائتي مجلد، وله غرائب حبس بسببها مخالفة لمذهب أهل السنة، منها: نهيه عن زياره قبر رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإنكاره على مشايخ الصوفية العارفين بالله كالغزالي والقشيري وابن العريف والشاذلي وغيرهم ممن حقق في العلمين، وكذلك فتياه في الطلاق، وعقيدته في الجهة وغير ذلك. قال اليافعي: وقد رأيت منامًا في حقه يدل على خطئه في عقيدته. قال الفقيه حسين: إنما أنكر على المعينين مسائل معينة مع اعترافه بفضلهم. قال: واعتقاده في الجهة إنما يعني به ما فوق العالم وهو الله سبحانه، كذا رأيته في كلامه. قال: وفي ترجمة اليافعي له ضعف، وترجم الذهبي له ما هو لائق به وبجلالته وإمامته وعلومه التي انفرد بها. ¬

_ (¬1) (ص/ 595) تحقيق محمد ناجي زعبي، دار الخير 1405.

58 - طبقات الحفاظ

طبقات الحفاظ (¬1) للعلامة جلال الدين السيوطي (911) ابن تَيْمِيَّة الشَّيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع، شيخ الإِسلام، عَلَم الزُّهاد، نادرة العصر، تقي الدين أَبو العبَّاس أَحمد بن المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام المجتهد شيخ الإِسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الحرَّاني، أحد الأعلام. ولد في ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وستمائة، وسمع ابن أَبي اليسر وابن عبد الدَّائم وعدةً، وعُنِي بالحديث، وخرَّجَ وانتقى، وبَرَعَ فى الرجال وعلل الحديث وفقهه، وفى علوم الإِسلام وعلمِ الكلام وغيرذلك. وكان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزّهاد الأفراد. ألَّف ثلاثمائة مجلدة، وامتُحن وأوذِيَ مرارًا. مات في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ¬

_ (¬1) (ص / 516 - 517) مكتبة وهبه، القاهرة 1393، تحقيق علي محمد عمر.

59 - صدق الأخبار

صِدْقُ الأَخْبار (¬1) للمؤرِّخ / حمزة بن أحمد الغَرْبي المعروف بابن سباط (¬2) (926) وفي هذه السنة (¬3) ثاني عشرين ذي القعدة توفي الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد العابد الورع الخاشع القدوة العارف تقي الدين، أحمد ابن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن تَيْمِيَّة الحراني الدمشقي بقلعة دمشق في القاعة التي كان محبوسًا بها، وغسّلوه وكفنوه وأخرجوه من القلعة، وصلى عليه بباب القلعة الشيخ محمد بن تمام، أتوا به إلى الجامع، وغُلِّق جميع الأسواق بدمشق، وامتلأ الجامعُ أكثر من يوم الجمعة، وحضروا (¬4) الأمراء والحُجَّاب، وصلوا عليه صلاة الظهر، وحملوه (¬5) الناس على رؤسهم وأخرجوه من القلعة إلى باب الفرج، وبعض الناس من باب الفراديس، ومن باب النصر، ومن باب ¬

_ (¬1) 2/ 646 - 647 مطبعة جرس برس، بطرابُلُس ط. الأولى (1413) تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري. (¬2) ويقال: أسباط، وقيل: شباط، انظر الأعلام: 2/ 276 ومقدمة تحقيق "تاريخه". (¬3) (728). (¬4) على لغة أكلوني البراغيث. (¬5) كسابقه.

الجابية، وامتدَّ العالم إلى سوق الخيل إلى مقبرة الصوفية، ودفن إلى جانب قبر أخيه الشِخ شرف الدين، وانصرف الناس متأسَّفين عليه، وختموا على قبره الختمات. وكان مولده بحران عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، سمع الحديث، واشتغل في العلوم، وحَصَّل في أسرع وقت ما لا يحصله غيره في سنين (¬1) كثيرة، وعلوم شتى (¬2)، وكان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة. ¬

_ (¬1) كذا، والصواب: "سني". (¬2) كذا، والصواب: "وعلومًا شتى".

60 - الدارس في تاريخ المدارس

الدّارس فى تاريخ المَدَارِس (¬1) للعلامة / عبد القادر بن محمد النعيمي (ت 927 هـ) في يوم الاثنين ثاني المحرم منها (¬2): درَّس الشَّيخ الإِمام العالم العلامة تقي الدين أَبو العبَّاس أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني بدار الحديث السكرية الَّتي بالقصاعين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين يوسف بن الزكي الشَّافعيّ، والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية، والشيخ زين الدين بن المرحِّل والشيخ زين الدين المنجَّى الحنبلي وكان درسًا [هائلاً] حافلاً - يعنى في البسملة - كما ذكره ابن مفلح في «طبقاته» وقد ذكره (¬3) الشَّيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره، فانه كَانَ إذ ذاك عمره عشرين سنة وسنتين ثمَّ جلس الشَّيخ تقي الدين المذكور أيضًا يعني مكان والده بالجامع كما ذكره ابن كثير يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيء له لتفسير العزيز، فابتدأ من أوله في تفسيره، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير ولاجم الغفير، من كثرة ما كَانَ يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة، سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان واستمر على ذلك مدة سنين متطالة. ¬

_ (¬1) (1/ 75 - 77) مجمع اللغة العربية بدمشق، تحقيق جعفر الحُسَيني. (¬2) أي سنة 683. (¬3) كذا، ولعله: زبره.

زاد ابن مفلح في «طبقاته» وأَنَّه كَانَ يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أَو أكثر، وبقي يُفسِّر في سورة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام عدة سنين. وأطال في ترجمته كثيرًا، وشهرته تغني عن الاطناب في ذكره والإِشهار في أمره. ولد يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وستمائة بحرّان، وقدم مع أهله سنة سبع وستين وستمائة إِلى دمشق فسمع بها من ابن عبد الدَّائم والمجد بن عساكر وابن أَبي الخير والقاسم الإِربلي والمسلم بن علان وإبراهيم بن الدرجي وابن أَبي اليسر وخلق كثير، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقة والأصول عن والده والشيخ شمس الدين أَبي عمر والشيخ شمس الدين بن المنجَّى، وبرع في ذلك، وقرأ في العربية أيامًا على ابن عبد القوي، ثمَّ أَخذ «كتاب سيبويه» وتأمَّله ففهمه، وأقبل على تفسير القرآن العزيز فبرز فيه، وأحكم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام وبرز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وأمدَّه الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الفهم وبطء النسيان، وعُنِي بالحديث أتمَّ عناية ونسخ الأجزاء، ودارعلى الشيوخ وخرجَّ وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث. وكان كثير المحاسن، فارغًا عن شهوات المأكل والملبس والجماع. لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه، عرض عليه قضاء [القضاة] قبل التسعين (¬1) ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئًا من ذلك، وامتُحِنَ وأوذي مرات وحبس بقلعة مصر والقاهرة وبالإسكندرية وبقلعة دمشق مرتين، ¬

_ (¬1) أي: وست مئة. وعمره دون الثلاثين.

وصنف التَّصانيف الحسنة الَّتي هي أشهر من أَن تذكر، وأعرف من أَن تنكر، وحدث بدمشق ومصر والثغر، وسمع منه خلق من الحفاط والأئمة من الحديث ومن تصانيفه، وخرَّج له ابن الواني أربعين حديثًا حدث بها، وقد أفرد له الحافظ أَبو عبد الله بن عبد الهادي ترجمة في مجلَّدةٍ وكذلك أَبو حفص البزار البغدادي في كراريس. ومات بدمشق قي القلعة معتقلاً سحر ليلة الاثنين عشرين ذي الحجة أَو ذي القَعْدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ثمَّ جُهِّز وأُخْرَجَ إِلى جامع البلد وكان الجمع أعظم من جمع الجُمع، حُزِرَ الرجال بستين ألفًا وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألفًا. صلى عليه أخوه زين الدين عبد الرَّحمن بسوق الخيل بعد خروج جنازته من باب الفرج، ودفن بمقابر الصوفية إِلى جانب أخية الشرف وهو عبد الله ورُئِيَتْ له منامات حسنة.

العلاَّمة/ مجير الدين عبد الرحمن العليمي الحنبلي (928) - المنهج الأحمد في ذكر أصحاب الإمام أحمد - الدُّر المنضَّد في ذكر أصحاب الإمام أحمد

61 - المنهج الأحمد في ذكر أصحاب الإمام أحمد

المَنْهج الأَحمد في ذكر أصحاب الإِمام أَحمد (¬1) أَحمدُ بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن أبي محمَّد عبد الله بن أَبي القاسم الخَضِر بن محمَّد بن الخَضِر بن علي بن عبد الله بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني. نزيلُ دمشقَ، الشَّيخ الإِمام العلم المحقّق الحافظ المجتهد المحدِّث المفسّر القُدوة الزّاهد، نادرة العصر، شيخ الإِسلام، قدوة الأنام، علاّمة الزمان، تقي الدِّين أَبو العَبَّاس الدِّين أَبي المحاسن ابن الشَّيخ شهاب الدِّين أَبي المحاسن ابن شيخ الإسلام مجد الدِّين أَبي البركات صاحب التَّصانيف الَّتي لم يسبق إِلى مثلها، وشهرته تغني عن الإطناب في ذِكره والإسهاب في أمره. ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأوَّل سنة إِحدى وستين وست مئة بحران، وقدم مع والده وأهله إِلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حَرَّان مُهَاجِرين بسبب جَوْر التَّتار واستيلائهم على البلاد، فساروا باللَّيل ومعهم الكتب على عجلةٍ لعدم الدَّواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفتِ العجلة، وابتهلوا إِلى الله تعالى واستغاثوا به، فَنَجَوا وسَلِموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين وست مئة. فسمع الشَّيخ بها من جماعة منهم: الشيخ شمس الدِّين بن أَبي عمر وخلق كثير، وعني بالحديث، وسمع «المُسْنَد» مّرات، و «الكتب السِّتَّة» و «معجم الطَّبرانيّ الكبير» وما لا يُحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ ¬

_ (¬1) (5/ 24 - 44) مؤسسة الرسالة، (ط، 1 - 1416).

بنفسه، وكتب بخطّه جملةّ من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدِّين بن أَبي عمر، والشيخ زين الدِّين بن المُنجَّى، وبَرَعَ في ذلك، وناظر، وقرأ في العربية أيَّامًا على ابن عبد القوي، ثمَّ أَخذ «كتاب سيبويه» فتأمله ففهمه، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرّز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرّز في ذلك على أهله، وردَّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفنون، وتأهل للفتوى والتَّدريس وله دون العشرين سنةً، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأمدّه الله بكثرة الكتب، وسُرعة الحفظ، وقوة الإِدارك والفهم، وبطء النسيان. ثمَّ توفي والده وكان له حينئذ إِحدى وعشرين سنة، فقام بوظائفه بعده فدرَّس «بدار الحديث السكرية» في أول سنة ثلاثٍ وثمانين وست مئة، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدِّين بن الزكي، والشيخ تاج الدين الفَزَاري، وزين الدين المرحّل، والشيخ زين الديناتبن المنجَّى وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة، وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة الحاضرون، وأَثَنوْا عليه ثناء ً كثيرًا، ثمَّ جلس بالجامع أيّام الجمع لتفسير القرآن العظيم، وشرع الشَّيخ في الجمع والتَّصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علوّ وازدياد من العلوم والقدر، ورزقه الله شجاعةً وذكاءً وتنويرًا إِلهيًا وكرمًا ونصحًا وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكان له شدّةُ استحضار وقت إقامة الدليل، وفاق النَّاس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوي الصّحابة والتابعين، بحيث إنّه إِذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وكان إِذا سئل عن فن من العلم ظنَّ الرّائي والسّامع أنّه لا يعرف غير ذلك الفن، وحَكََمَ أن

أحدًا لا يعرفه مِثْله،. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم أشياء، ولا يُعرف أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلَّم في عِلْم من العلوم ـ سواء كان من علوم الشّرع أو غيرها ـ إِلاَّ فاق فيه أهلَه، واجتمعت فيه شروطُ الاجتهاد على وجهها، وكان إمامًا متبحّرًا فارغًا عن شهوات المآكل والملابس والجماع، لا لذَّة له في غير نَشْر العلم وتدْوِينِه والعَمَل بمُقْتَضاه، وقد عرض عليه قضاء القضاء قبل التسعين، ومشيخة الشيوخ، فلم يقبل شيئًا من ذلك، وكان ممّن أدرك من العلوم حَظًّا، وكاد يستوعب السُّنَن والآثار حِفْظًا. إِنْ تكلَّم في التفسير فهو حامل رايته، أَو أفتى في الفِقْه فهو مدرك غايته، أَو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أَو حاضر بالنِّحَل والملل لم يرُ أوسع من نحلته، ولا ارفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم ترعين من رآه مثله، ولا رأت عينه مِثْلِ نفسه. وكان له خِبْرَةٌ تامَّة بالرِّجال، وجَرْحهم وتَعْديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٌ بفنون الحديث، وبالعالي والنَّازل، والصَّحيح والسَّقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر مرتبته ولا يقارِبُه، وهو عَجَبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى «الكتب السِّتَّة» و «المُسند» - فلقد كَانَ عجبًا في معرفة الحديث، وكان يكتب في اليوم والليلة نحوًا من أربعة كراريس أَو أزيد. وكتب «الحموية» في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلّد، وكان ـ رحمه الله ـ فريد دهره في فهم القرآن ومعرفة حقائق الإيمان، وله يدٌ طُولى في الكلام على المعارف والأحوال والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه ومعوجّه

وقويمة، وقد ترجمه الشَّيخ الإمام العلاَّمة القاضي البارع مجموع الفضائل شهاب الدِّين أَبو العَبًّاس أَحمد بن فضل الله كاتب السرّ بالديار المصرية والشامية في «تاريخه» الًّذي ذكر فيه البلاد وما فيها من الأعيان والمشاهير والعلماء والأماثل فذكر اسمه ثمًّ قال: هو البحرُ من أيِّ النواحِي جِئتَه، والبدرُ من أيّ الضواحِي رأَيتَه، جَرَتْ آباؤُه لِشَأْوٍ ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مُريحًا من تَعَبِه، طلبًا لا يَرضَى بِغاية، ولا يقضى له بنهاية. رَضَعَ ثَدْيَ العلم مُنذُ فُطِم، وطَلعَ الصباح ليُحَاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ اللّيلَ والنهارَ دائبينِ، واتخذ العلمَ والعملَ صاحبَينِ، إِلى أَن أنسى السلَّفَ بِهُداه، وأَنْأَى الخَلَف عن بلوغ مَدَاه. وَثَقَّفَ الله أمْرًا بات يَكلؤُهُ ... يَمضِي حُساماه فيه السيفُ والقلمُ بهمَّةٍ في الثرايَّا أثرُ أَخْمَصِها ... وعَزْمَةٍ ليسَ من عادتِها السَّأَمُ على أَنَّه من بيتٍ نشأ منه علماء في سالفِ الدُّهُور، ونسأت منه عْظَماء على المشاهير الشُّهور، فأحْيَا معالمَ بيتهِ القديم إذْ دَرَسَ، وجَنَى من فتنه الرَّطيبِ ما غَرَسَ، وأصبحَ في فضله آيةً إلاَّ أَنَّه أيةُ الحَرَسِ، عَرضَتْ له الكُدَى فزَحْزَحَها، وعارضَتْه البحارُ فضَحْضَحَها، ثمَّ إِنَّه كَانَ أُمَّةٌ وحده، وفردًا حتَّى نزلَ لَحْدَه. أّخْمَلَ من القُرَناءِ كلَّ عَظِيم، وأَخْمَدَ من أهل الفناءِ كلَّ قديم، ولم يكن منهم إلاَّ مَن يُجْفِل عنه إجفالَ الظَّليم، ويَتَضاءلُ لديه تَضاؤُلَ الغَرِيم. مَا كانَ بعضُ الناسِ إلاّ مِثْلَما ... بعضُ الحصَا الياقوتةُ الحمراءُ جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجومِ السّماء، يَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، ويطِيرُ بين خافِقيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ

بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، ويَثْأَرُ جُنُودُ رَعيلٍ، وتَزْأرُ أسودُ غِيْلٍ، إِلاَّ أَنَّ صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم، وبحْرهُ طَمَّ تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْْرَتُه على تلك التلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، ثُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَها، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنَادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأَكْمَدَت شَرَاراتِهم مصابِيحُه: تَقدَّمَ راكبًا فيهم إمامًا ... ولولاه لما رَكِبُوا وَراءَا فجَمعَ أشْتَاتَ المذاهب، وشُتَّاتَ المذاهب. ونَقَلَ عن أئمةِ الإجماعِ فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وأَحْضَرها، ولو شعَرَ أَبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأَدْنَى إِليه عَصْرَهُ مُقترِبًا، ومالكٌ لأَجْرىَ وراءَه أَشْهَبَهُ ولو كَبَا، أَو الشَّافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كَانَ لـ الأمِّ وَلَدًا ولَيتَني كنت له أبَا، أَو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إِذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشيبًا. لاَ بل داودُ الظاهريُّ، وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه من مُنْتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرِستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّة في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إِلى «استدراكِه» وهذا إِلى «رِحَلِه»، تَرِدُ إِليه الفتاوى ولا يردّ ها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عنها بأجوبه، كأنَّهُ كَانَ قاعدًا لها يُعِدُّهَا. أبدًا على طَرَفِ اللسانِ جوابُه ... فكأنَّما هي دَفعةٌ مِن صَيِّبِ يَغدُو مُسَاجلُه بغُرَّةِ صافحٍ ... ويَرُوحُ مُعتَرِفًا بذلَّةِ مُذْنِبِ ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ فًأُقْحِمُوا إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا

إذ زَمزَمَ ليجني الشهَد نَحْلُه، ورُفِعَ إِلى السُّلطانِ غيرَ مَا مَرَّةٍ، ورُمِيَ بالكبَائِر، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليٌؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ وما زادَ على أَنَّه اغتابَ، وأُزْعِجَ من وَطنِه تارةً إِلى مِصْرَ، وتارة إِلى الإِسكندريّة، وتارةً إِلى محبس القَلْعَةِ بدمَشْقَ، وفي جميعها يُودَعُ أَخْبِيةَ السُّجونِ، ويُلْدَغُ بزنَابى المَنُونِ، وهو على علمٍ يُسَطِّرُ صُحُفَه، ويَدَّخِرُ تُحَفَه، وما بينه وبين الشيء [إلا أن يصنفه] ويُقرِّط به ولو سَمْعَ امْرِىٍ واحدٍ ويُشَنِّفَه، حتَّى تسْتَهديَ أطرافُ البلادِ طُرَفَه، ويَسْتَطلعَ ثَنايا الأقاليم شُرَفَه، إِلى أَنْ خَطَفَتْه آخرَ مَرَّةٍ من سِجْنِه عُقَابُ المنَايا، وجذبته إِلى مَهْوَاتِها قرارةُ الرَزايَا، وكَانَ قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، وطُبِعَ على قلبه منه طابعُ ألَمِ، وكان مبدأُ مَرَضِه ومَنْشَأ عَرَضِه، حتَّى نزلَ قِفارَ المقابر، وتركَ فِقَارَ المنابِر، وحَلَّ بساحةّ تُربِه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبِه من اللائِم والعاذِر. وقد كتب الشَّيخ العلاَّمة كمال الدِّين بن الزَّماكاني بخطه على كتاب «إبطال التحليل» للشيخ ترجمة الكتاب، واسم الشَّيخ، وترجم له ترجمةٌ عظيمة، وأثنى عليه ثناءُ عظيمًا، وكتب أيضًا تحت ذلك: ماذَا يَقُوْلُ الوَاصِفُونَ لَهُ ... وصِفَاتُهُ جَلَّتْ عن الحَصْرِ هُوَ حُجَّةٌ للهِ قَاهِرَةٌ ... هو بَيْنَنَا أُعْجُوْبَةُ الدَّهْرِ هو آيةٌ للخَلْقِ ظَاهِرَةٌ ... أنْوارُها أُرْبَتْ على الفَجْرِ وللشيخ أثير الدِّين أَبي حيَّان الأندلسي النَّحوي: لمَّا دخل الشَّيخُ مصرَ واجتمع به: لمَّا رأينا تقيَّ الدينِ لاحَ لنا ... داعٍ إلى اللهِ فرْدًا ما لَه وَزَرُ

على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا ... خيرَ البريَّةِ نورٌ دونِه القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ منه دَهرُه حِبَرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِن أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيَّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأظهرَ الدين إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأخمدَ الشِّرك إذ طارتْ له شَّرَرُ يامن تحدّثَ عن علم الكتاب أصِخْ ... هذا الإمامُ الذي قد كان يُنتظرُ وحكى الذَّهَبيّ: أَنَّ الشَّيخ تقي الدَِّين بن دقيق العيد قال للشيخ تقي الدِّين بن تَيْميَّة عند اجتماعه به وسماعه لكلامه: ما كنت أظن أَنَّه بقي يُخلق مثلك. وكان المشايخ يعظِّمونه تعظيمًا زائدًا، وكان الشَّيخ عماد الدِّين الواسطي يتلمذ له مع أَنَّه كَانَ أسنَّ منه، وكان يقول: قد شارفَ مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقينَ. ولكن كَانَ هو وجماعةٌ من خواص أصحابه ربّما أنكروا من الشَّيخ كلامه في بعض الأعيان من العلماء، أَو في أهل التخلِّي والانقطاع ونحو ذلك. وكان الشَّيخ - رحمه الله - لا يقصد بذلك إِلاَّ الخير والانتصار للحقّ - إن شاء الله تعالى. وطوائف من أئمة أهل الحديث حفاظهم وفقائهم كانوا يحبُّون الشَّيخ ويعظِّمونه، ولم يكونوا يحبون له التَّوغُّل مع أهل الكلام والفلاسفة، كما هو طريقة أئمة أهل الحديث المتقدّمين، كالشَّافعي وأحمد وإسحاق وأَبي عبيد، وكذلك كثير من العلماء من الفقهاء والمحدِّثين والصّالحين كرهوا له التفرُّد ببعض شذوذ المسائل الَّتي أَنكرها السلف على من شذَّ

بها، حتَّى إِنَّ بعض قضاة العدل من أصحابنا وهو قاضي القضاة شمس الدِّين بن مُسَلَّم المتقدِّم ذكره منعه من الإفتاء ببعض ذلك كما تقدَّم في ترجمته. وغالبُ حطِّه على الفضلاء والمتنزهّدة فبحق، وبعضُه هو مجتهد فيه، ومذهبه توسعة العذر للخلق، ولا يكفِّر أحدًا إِلاَّ بعد قيام الحجّة عليه. وقد قام على الشَّيخ خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابتٌ لا يداهن ولا يحابي، بل يقول ما أدَّاه إِليه اجتهاده وحدّةُ ذهنه وسعة دائرته، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رمَوْه فينجيه الله، فإنّه كَانَ دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قويَّ التوكل، وكان له عصبة يحبَُونه من العلماء والصُّلحاء والجند والأمراء والتّجار والكبراء والعامة. وأما شجاعته فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يشتبه أكابر الأبطال، ولقد أقامه الله تعالى في نوبة غَازَان، والتقى أعباءَ الأمر بنفسه، وقام، وقعد، وطلع، وخرج، واجتمع بالملك غازان مرتين وبخطلوشاه وبُولاى، وكان قبجق يتعجب من إِقدامه وجرأته، وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتَّى كأنه لَيثَ حربٍ وكان - رحمه الله - فيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالبًا، وله إقدام وشهامة، وقوة نفس، توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه، وله نظم قليل، ولم يتزوّج ولا تسرّى، ولا له من المعلوم إِلاَّ شئ قليل، وكان كريمًا فارغًا عن الدّينار والدِّرهم، وفيه مرؤة وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم، وهو فقير لا مال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء فَرَّجِيَّة، ودِلْق، وعمامة تكون قيمته ثلاثون درهمًا، ومداس ضعيف الثمن، وشعره مقصوص، وهو رَبْع القامة، بعيد ما بين المنكبين،

كأنّ عينيه لسانان ناطقان ويصلِّي بالناس صلاةً لا يكون أطولَ من ركوعها ولا سجودها، ولم ينحن لأحد قطَُ، وإنما يسلِّم ويصافح ويبتسم. وقد سافر مرَّة على البريد إِلى الديار المصرية يستنفر السَُّلطان عند مجيء التتار سنةٌ من السنين، وتلا عليهم آيات الجهاد، وقال: إِن تخليتم عن الشَّام ونصرة أهله والذَّب عنهم فإِنَّ الله يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}. وقوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}. وبلغ ذلك الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد - وكان هو القاضي حينئذٍ - فاستحسن ذلك، وأعجبه الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشَّيخ للسُّلطان بمثل هذا الكلام. وأما مِحَنُ الشَّيخ: فكثيرة، وشرحها يطول، وقد نقلها المؤرخون ودوّنوها، وقد اعتقله مرّة بعضُ نواب السُّلطان بالشام قليلا، بسبب قيامه على نَصْراني سَبَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم، واعتقل معه الشَّيخ زين الدين الفارقي، ثمَّ أطلقهما مكرمين، وقد شُنِّع عليه غيرَ مرّة بسبب أحاديث الصِّفات. ثمَّ امتحن سنة خمس وسبعمائة بالسُّؤال عن معتقده بأمر السُّلطان؟ فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأحضر الشَّيخ، وسأله عن ذلك، فبعث الشَّيخ فأحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرؤوها في ثلاثة مجالس، وحاقَقُوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أّنَّ هذه عقيدة سُنيَّة سلفيّة، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرها، ثمَّ تعصَّب

جماعة من المصريين منهم بيبرس الشَّشْنَكير الَّذي تسلطن بعد ذلك وغيره من الفقهاء منهم نصر المنبجي وابن مخلوف قاضي المالكيّة، وطُلب الشَّيخ على البريد إِلى القاهرة، وعُقد له ثاني يوم وصوله - وهو ثاني عشري رمضان سنة خمس وسبع مئة مجلسٌ بالقلعة، ادُّعي عليه بدعاوى عند ابن مخلوف قاضي المالكية، فاستخصم الشَّيخ ابن مخلوف القاضي، ولم يثبت عليه ما يُوجب التَّعزيز ولا غيره، ثمَّ حبس هو وأخوه شرف الدِّين في برجٍ أيّامًا ويقال: إنَّ أخاه شرف الدين ابتهل ودعا الله عليهم، فمنعه الشَّيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به. وحصل أذًى كثيرٌ للحنابلة بالقاهرة، واستمرَّ الشَّيخ في السّجن، وهو متوجه إِلى الله تعالى، لا يقبل شيئًا من الكُسْوة السُّلطانيه، ولا تَدنَّس بشيءٍ من ذلك. ثمَّ في ربيع الأَوَّل سنة سبع وسبع مئة أخرج الشَّيخ من السّجن، وعقد له مجالس حضرها أكابر الفقهاء، وانفصلت علي خيرٍ، ثمَّ أُطلق وامتنع من المجيء إِلى دمشق، وأقام بالقاهرة يقرئ العلم ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة، ويجتمع عليه خلق، ثمَّ حصل بينه وبين جماعة من الصُّوفية تنازع، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي، وادّعي عليه بأشياء لم يثبت شيء منها، فطلب من بعض القضاة الحكم عليه بالحبس، فلم يتوجّه عليه الحكم بذلك، فاختار الشَّيخ أَنَّ يحبس فأُرسل إِلى حبس القاضي وأُجلس في الموضع الَّذي أجلس فيه القاضي تقي الدِّين ابن بنت الأَعز لمَّا حبس. وكل ذلك بسعي نصر المنبجي، واستمرّ الشَّيخ في الحبس يستفتى، ويقصده النَّاسُ ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء وأعيان النَّاس، ثمَّ أخرجوه في سلطنه بيبرس الشّشْنكير الملقب بالمظفر إِلى الإسكندرية على البريد، وحبس بها في برجٍ حسن متَّسع مضيء، يدخل

عليه من شاء ويمنع هو من شاء ويخرج إِلى الحمَّام إِذا شاء. وبقي في الإسكندرية مدة سلطنة المظفَّر، وكانت أحد عشر شهرًا، فلما عاد الملك النّاصر محمدَّ ابن قلاوون وكان دخوله إِلى القاهرة وجلوسه على سرير ملكه بعد العصر من نهار الأربعاء مستهل شوّال سنة تسعٍ وسبع مئة، وتمكن، وأهلك المظفّر، وخمد شيخُه نصر المنبجي، واشتد غضب السُّلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر وعزل بعضهم، بادر بإحضار الشَّيخ إِلى القاهرة مكرمًا في شوّال سنة تسع وسبع مئة وأكرمه إكرامًا زائدًا وقام إِليه وتلقّاه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشاميين والفقهاء وأعيان الدّولة، وزاد في إكرامه، وبقي يُسَارّه ويستشيره، وأثنى عليه بحضورهم ثناءً كثيرًا، وأصلح بينه وبينهم، ويقال: إِنَّه شاوره في أَمرٍ هَمَّ به في حقّ القضاة فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأنّ ابن مخلوف المالكي كَانَ يقول: ما رأينا أفتى من ابن تَيْميَّة، سعينا في دمه فلمّا قدر علينا عفا. وسكن الشَّيخ بالقاهرة، والناسُ يتردّدون إِليه والأمراء والجند وطائفة من الفقهاء وفيهم من يعتذر إِليه ويتنصّل مما وقع، وهو في هذه المدّة يقرى العلم، ويجلس للناس مجالس عامة. ثمَّ قدم إِلى الشَّام هو وأخواه سنة اثنتي عشرة بنيَّة الجهاد لمّا قدم السُّلطان لكشف التتر عن الشَّام فخرج مع الجيش، وفارقهم في عسقلان وزار البيت المقدَّس، ثمَّ دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرجَ خلقٌ كثير لتلقيه، وسُرَّ النَّاس بمقدمه، واستمر على ما كّانَ عليه أولاً من إقراء العلم وتدريسه بمدرسة السُكريّة والحَنْبلية وإفتاء النَّاس.

ثمَّ في سنة ثماني عشرة ورد كتابٌ من السُّلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطّلاق بالتكفير، وعقد له مجلس بدار السّعادة، ومنع من ذلك. ثمَّ في سنة تسع عشرة عقد له مجلس أيضًا كالأول وانفصل على تأكيد المنع، ثمَّ عقد له مجلس ثالث بسبب ذلك وحبس بالقلعة ثمَّ حبس لأجل ذلك مرَّة أخرى، ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يَسَعُني كتمُ العلم، وفي آخر الأمر تكلّموا معه في مسألة المنع من السَّفر إِلى قبور الأنبياء والصّالحين وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا. وبها مات - رحمه الله. وقد بين أَنَّ ما حُكم عليه به باطل بإجماعِ المسلمين من وجوه كثيرة جدًّا، وأفتى جماعةٌ بأنه مخطئ في ذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد وغيرهم، وكذلك ابنا أَبي الوليد شيخ المالكية بدمشق أفتيا أَنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأَنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجَّح أحد القولين فيها، وبقي مدَّة في القلعة يكتب العلمَ ويصنفه، ويرسل إِلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه في هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة، وقال: قد فتح الله عليّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، مات كثير من العلماء يتمنّونها، ثمَّ إِنَّه منع من الكتابة، ولم يُترك عنده دواةٌ ولا قلمٌ ولا ورقٌ، فأقبل على التّلاوة والتهجُّد والذّكر، وقال مرة: ما يصنع أعدائي بى؟. أَنا جنَّتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أَنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلادي سياحة.

وقال مرة: المحبوس من حبس قلبُه عن ربّه، والمأسور من أسره هواه. ولمّا دَخل القلعة، وصار داخل سورها نظر إِليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)}. وكَانَ مع ما هو فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب النَّاس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا - رحمه الله وعفا عنه -. ذكر بعض تصانيفه: وهي كثيرة جدًا، ولكن نذكر نَبْذةً من أسماء أعيان المصنّفات الكبار: كتاب «الايمان» مجلد. «الاستقامة» مجلدان. «جواب الاعتراضات المصريّة على القتاوى الحموية» أربع مجلدات. «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» في ستة مجلدات كبار. كتاب «المحنة المصرية» مجلدان. «المسائل الإسكندرية» مجلد. «الفتاوى المصرية» سبع مجلدات. كل هذه التَّصانيف ما عدا كتاب «الإيمان» كتبه وهو بمصر في مدّة سبع سنين، صنّفها في السجن، وكتب معها أكثر من مئة لَفّة ورق أيضًا. كتاب «درء تعارض العقل والنقل» أربع مجلدات كبار، «الجواب عما أورده الشَّيخ كمال الدين الشريشي على هذا الكتاب» نحو مجلد. وكتاب «منهاج السنّة النبويّة في نقض كلام الشيع والقدرية» أربع مجلدات. «الجوابُ الصَّحيح لمن بَدَّل دين المسيح» مجلدان. «شرح أول المحصّل» للرازي مجلد. «شرح بضعة عشرة مسألة من الأربعين للرازي» مجلدان. «الرد على المنطق» مجلد كبير. «الرد على البكري في مسألة الاستغاثة»

مجلد. «الرَدّ على أهل كسروان الرّوافض» مجلدان. «الصّفدية جواب من قال: إِنَّ معجزات الأنبياء قوّى نفسانية» مجلد. «الهلاوونية» مجلد. «شرح عقيدة الأصبهاني» مجلد. «شرح العمدة للشيخ موفق الدين». كتب منه أربعة مجلدات. «تعليقة على المحرر في الفقة لجدِّه» عدَّة مجلدات. «الصَّارم المسلول على شاتم الرسول» مجلد. «بيان الدليل على بطلان التحليل» مجلد. «اقتضاء الصّراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم» مجلد. «التحرير في مسألة حفير» مجلد في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخويَي في حادثة حكم فيها. «الرد على من اعتراض عليه في مسألة الحلف بالطلاق» ثلاث مجلدات. كتاب «تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان» مجلد كبير. «الرد على الأَخنائي في مسألة الزّيارة» مجلد. وأما القواعد المتوسطة والصغار وأجوبة الفتاوى فلا يمكن الإحاطة بها لكثرتها وانتشارها وتفرقها. ومن أشهرها «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشيطان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الحق والبطلان» مجلد لطيف. «الفرقان بين الطّلاق والأيمان» مجلد لطيف. «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» مجلد لطيف. «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» مجلد لطيف. ذكر نبذة من مفرداته وغرائبة - اختار ارتفاع الحدث بالمياه المتعصرة، كماء الوَرْد ونحوه. - واختار جواز المسح على النَّعلين، والقدمين وكل ما يُحتاج في نزعه من الرِّجل إِلى معالجة باليد أَو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز عنده

المسح عليه مع القدمين. - واختار أَنَّ المسح على الخفين لا يتوقف مع الحاجة كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إِلى الدّيار المصرية على خيل البريد، ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره. - واختار جواز المسح علي اللّفائف ونحوها. - واختار جواز التَّيمُّم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخرَّ الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتُها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين، وهو محدث، فأما من استيقظ أَو ذكر في آخر وقت الصَّلاة فإنَّه يتطهر بالماء ويصلى لأنَّ الوقت متسع في حقه. - واختار أَنَّ المرأة إِذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشقّ عليها النزول إِلى الحمام وتكرره، أنَّها تتيمّم وتُصلي. - واختار أَنْ لا حَدَّ لأقلِّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطُّهر بين الحيضتين، ولا لسنّ اليأس من الحيض، وأنّ ذلك يرجع إِلى ما تعرفه كلُّ امرأة من نفسها. - واختار أَنَّ تارك الصَّلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يُشرع له، بل يكثر من النّوافل. - وأنَّ القصر يجوز في قصير السفر وطويله. - وأن سجود التّلاوة لا يُشترط له الطَّهارة. - ومن إِنشاد الشَّيخ - رحمه الله - لنفسه قبل موته بأيَّام:

أنا الفقير إلى ربِّ السّموات ... أنَا المُسَيكين في مجموع (¬1) حالاتي أنَا الظَّلوم لنفسي وَهْيَ ظالمتي ... والخيرُ إن جاءَنا من عنده ياتي لا أَستطيع لنفسي جلبَ منفعةٍ ... ولا عَنِ النََّفس في دفع المَضَرَّاتِ وليسَ لي دونَه مولى يدبِّرُني ... ولا شَفيعٌ إلى ربِّ البريّات إلا بإذنٍ من الرَّحمن خالقنا ... إلى الشَّفيع كما قد جا في الآيات ولستُ أَملكُ شيئًا دونَهُ أبدًا ... ولا شريك أنَا في بعض ذرَّاتِ ولا ظهيرَ لهُ كيما أُعاونُه ... كما يكونُ لأرْبَاب الولايَاتِ والفَقْرُ لي وصفُ ذاتٍ لازمٌ أَبَدًا ... كمَا الغَنِي أَبَدًا وصفٌ له ذاتي وهذهِ الحالُ حالُ الخلقِ أجمعِهِ ... وكلُّهم عنده عبدٌ له آتي فمن بَغَى مطلَبًا من دون خالقه ... فَهْوَ الجَهول الظَّلومُ المشرك العاتي والحمدُ لله ملءَ الكون أجمعِهِ ... ما كان فيه وما من بعدِهِ ياتي وهذه الأبيات متضمنة حسن اعتقاد وافتقار. ذكر وفاته - رحمه الله - مكث الشَّيخ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إِلى ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين، ثمَّ مرض بضعةً وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر النَّاس بمرضه، ولم يفجأهم إِلاَّ موتُه، وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين ¬

_ (¬1) في الأصل: جميع.

عشري ذي االقعدة، سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة. وذكره مؤذّن القلعة على منارة الجامع، وتكلَّم به الحرسُ على الأبرجة، فتسامع النَّاس بذلك، وبعضهم أُعلم به في منامه، وأصبح النَّاسُ، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتى من شأنها أَن تفتح أوّل النّهار. وفتح باب القلعة وكان نائبُ السَّلطنة غائبًا عن البلد، فجاء الصَّاحبُ إِلى نائب القلعة، فعزاه به، وجلس عنده، واجتمع عند الشَّيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويُثُّنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرَّحمن أَنَّه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانينَ ختمَة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إِلى قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. فشرع حينئذ الشََّيخان الصّالحان: عبد الله بن المحب الصَّالحي، والزُّرَعيّ الضَّرير - وكان الشَّيخ يحبُّ قراءتهما - فابتدأ من سورة {الرَّحْمَنُ (1)} حتَّى ختما القرآن، وخرج الرّجالُ، ودخل النساءُ من أقارب الشَّيخ فشاهدوه، ثمَّ خرجوا واقتصر على من يغسله، ويساعدُ في تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصَّالحين وأهل العلم، كالمِزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القلعة بالرّجال وما حولها إِلى الجامع، فَصلّى عليه بدركات القلعة الزاهد القدوة محمَّد بن تمَّام، وضجّ الناسُ حينئذ بالبكاء والثَّناء، وبالدعاء والترحمُّ، وأُخرج الشَّيخ إِلى جامع دمشق في السّاعة الرابعة أَو نحوها، وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاّسة، وباب البريد، وباب السّاعات إِلى اللبادين والفوارة، وكان الجمع أعظم من جمع الجُمَع، ووضع الشَّيخ في موضع الجنائز ممّا يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزّحام، وجلس النَّاسُ على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحمد من الجلوس ولا السّجود

إِلاَّ بكلفة، وكثر الناس كثرةً لا توصف، فلما أذَّن المؤذِّن بالظهر أقيمت الصَّلاة علي السُّدة، بخلاف العادة، وصلوا الظُّهر، ثمَّ صُلّي على الشَّيخ، وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدين بن الخّراط لغيبة القَزْويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والنَّاس في بكاءٍ ودعاءٍ وثناءٍ، وتهليل وتأسُّفٍ، والنّساء فوق الأسطحة من هناك إِلى المقبرة يدعين ويبكين أَيضًا، وكان يومًا مشهودًا لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلّف من أهل البلد وحواضره إِلاَّ القليل من الضُّعفاء والمُخدَّرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئّمة السُّنّة. فبكى النَّاس بكاءً كثيرًا عند ذاك؛ وأُخرجَ من باب البريد، واشتدَّ الزّحام، وألقى النَّاسُ على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النّعش على الرّؤوس يتقدّم تارة ويتأخّر أخرى، وخرج النَّاس من أبواب الجامع كلّها، وهي مزدحمة، ثمَّ من أبواب المدينة كلها، لكن كَانَ المعظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النّصر، وباب الْجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدّم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرَّحمن. ودفن وقت العصر أَو قبلها بيسير إِلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزِر الرّجالُ بستين ألفًا، أَو أكثر إِلى مائتي ألف، والنساء بخمسة عشر أَلفًا. وظهر بذلك قول الإمام أَحمد - رضي الله عنه: «بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز». وختم له ختمات كثيرة بالصّالحية والمدينة، وتردَّد النَّاسُ إِلى زيارة قبره أيّامًا كثيرة ليلاً ونهارًا، ورئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى وأقطار متباعدة، وتأسَّف المسلمون لفقده - رحمه الله تعالى وغفر له - وصُلِّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمين والصِّين، وأخبر

المسافرون: أَنَّه نُودي بأقصى الصِّين للصلاة عليه يوم جمعة: «الصَّلاةُ علة تَرْجُمَان القرآن». وقد أفرد الشَّيخ الإِمام العلاَّمة المتقن المحقِّق بحر العلوم شمس الدين أَبو عبد الله محمَّد بن أَحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد المقْدِسِيّ الحنبلى - رضي الله عنه وغفر له - للشيخ تقي الدِّين ترجمةً في مجلد. وكذلك أَبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس. وقد حدّث الشَّيخ كثيرًا وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث ومن تصانيفه. وقد أنشد الشَّيخُ الحافظ شمس الدِّين محمَّد بن أَحمد بن عثمان الذَّهّبيّ - رحمه الله تعالى - يرثي الشَّيخ تقي الدِّين - رضي الله عنه -: يا موتُ خَذْ من أَرَدْتَ أَوْ فَدَعِ ... مَحوْتَ رَسْمَ العُلوم والوَرَعِ غَيَّبتَ بحرًا مفسّرًا جبلاً ... حَبْرًا تقيًا مجانب الشِّبَعِ فإن يحدّث «فمسلمٌ» ثقةً ... وإن يُناظر فصاحبُ «اللُّمَعِ» وإن يَخُض نحو «سيبويه» يَفُهْ ... بكلّ معنىً في الفنّ مخترعِ وصارَ عالي الإسناد حافظه ... كشُعبة أو سعيد الضُّبَعيِ والفقه فيه فكان مجتهدًا ... وذا جهادٍ عارٍ من الجَزَعِ وجودُه «الحاتميّ» مَشْتهر ... وزُهده «القادري» في الطَّمعِ أَسكنه الله في الجنان ولا ... زال عَلِيًا في أجمل الخلع

معْ مالك والإمام أحمد والـ ... ـنُّعمان والشّافعي والنَخَعي مضى ابن تيمية وموعده ... مع خصمه يوم نفخةِ الفزع ورثاه أَيضًا الشَّيخ زينُ الدِّين عمر بن الوَرْدي الشَّافعيّ - رحمه الله - فقال: عَثَا في عرضه قومٌ سِلاطٌ ... لهم من نَثْر جوهره التقاطُ تقي الدِّين أَحمد خيرُ حبرٍ ... خُروق المعضلات به تُخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إِلى الدنيا انبساطُ ولو حضروهُ حينَ قَضى لأَلْفَوْا ... ملائكةَ النَّعيمِ به أَحاطوا قضى نحبًا وليس له قرينٌ ... ولا لنظيره لُفَّ القِماط فريدًا في ندَىَ كفٍّ وعلم ... وحلُّ المشكلات به يُناط وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهى فِرْقةً فَسَقُوا ولاَطُوا وكان يخافُ إبليسٌ سطاه ... بوعظٍ للقلوب هو السِّياط فيالله ماذا ضمَّ لحدٌ ... ويالله ما غطَّى البلاط هُمُ حَسَدَوه لما لم ينالوه ... مناقبَهُ فقد مكَرَوا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسَالى ... ولكنْ في أَذاه لهم نشاط وحَبْسُ الدُّرِّ في الأَصداف فخر ... وعند الشيخ بالسِّجن اغتباطُ بآل الهاشمي له اقتداءٌ ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا

بنو تيميَّةٍ كانوا فبانوا ... نجوم العلم أَدركها انهباط ولكن يا ندامة حابسيه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخباط ألم يك فيكم رجل رشيد ... يرى سجن الإمام فيستشاط إِمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباط ولا جاراكم في كسب مال ... ولم يُعهد له بكم اختلاط ففيم سجنتموه وغظتموه ... أَما لجزا أَذيته اشتراط وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لقدر مثلكم انحطاط أما والله لولا كتم سري ... وخوف الشر لانحل الرباط وكنت أَقول ما عندي ولكن ... بأَهل العلم ما حسن اشتطاط فما أحد إِلى الإنصاف يدعو ... وكلّ في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... ونيتكم إذا نُصِبَ الصراط فها هو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أَردتم أَن تُعاطوا وحلوا واعقدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانطوى ذاك البساط

62 - الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد

الدُّرُّ المنضَّد في ذكر أَصحاب الإمام أحمد (¬1) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن أَبي محمَّد عبد الله بن أَبي القاسم الخضر بن محمَّد بن الخضر بن عليّ بن عبد الله ابن تّيْمِيَّة الحّرَّاني. نزيلُ دمشقَ، الشَّيخ، الإِمام، العالم، المحقّق، الحافظ، المجتهد، المحدِّث، المفسّر، القُدوة، الزّاهد، نادرة العصر، شيخ الإِسلام، قدوة الأنام، علاّمة الزمان، تقي الدِّين، أّبو العَبَّاس ابن الشَّيخ شهاب الدِّين أَبي المحاسن بن شيخ الإسلام مجدِ الدِّين أّبي البركات صاحبُ التَّصانيف الَّتي لم يُسبَق إِلى مثلِها، ولد يومَ الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنةَ إِحدى وستِّين وستِّمائة بحرَّان، وقَدِمَ مع والده وأهلِهِ إِلى دمشق مُهَاجِرين بسبب جَوْرِ التَّتار في أثناء سنةِ سبعِ وستِّين وستِّمائة وصار من شأنه ما هو مشهورٌ. ذكر نبذة من أسماء أعيان تصانيفه الكبار كتاب «الإيمان» مُجَّلدٌ، كتاب «الاستقامة» مُجلَّدان، «جواب الاعتراضات المصريَّة على الفتاوى الحَمَوِيَّة» أربعُ مُجلَّداتٍ، «بيان تلبيس الجَهْمِيَّة في تأسيس بدعهم الكلامِيَّة» في ستِّ مُجلَّداتٍ كبارٍ، كتابُ «المِحْنَة المِصْرِيَّة» مُجلَّدان «المسائل الاسكندرية» مُجلَّدٌ «الفتاوى المصريَّة» سبعُ مُجلَّداتٍ. وكلُّ هذه التَّصانيف ما عدا كتاب «الإيمان» كتبه وهو بمصر في مدّةِ ¬

_ (¬1) (1/ 476 - 479). مكتبة التوبة، تحقيق د. عبد الرحمن العثيمين (1412).

سبعِ سنين صنَّفها في السَّجن. وكتب معها أكثر من مائة لَفَّة (¬1) ورق أّيضًا، كتاب «درءُ تَعَارض العَقلِ والنَّقْلِ» أربع مُجلَّداتٍ كبارٍ، و «الجوابُ عمَّا أورده الشَّيخ كمال الدِّين بن الشَّرِيشيُّ على هذا الكتاب»، نحو مُجلَّد، كتاب «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية» أربع مُجلَّداتٍ، «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» مُجلَّدان، «شرح أول المحصل» للرازي مُجلَّدٌ، «شرح بضعة عشر (¬2) مسألة من الأربعين للرازي» مُجلَّدان، «الرّدُّ على المّنطق» مُجلَّدٌ كبيرٌ، «الرّدُّ على البكريِّ في مسألة الاستغاثة» مُجلَّدٌ، «الرَدُّ على أهل كسروان الروافض» مَجلَّدان، «الصَّفدِيّةُ جواب من قال: أّنَّ معجزات الأنبياء قوّى نفسانية» مُجلَّدٌ، «الهلاوونية» مُجلَّدٌ. «شرح عقيدة الأصبهاني» مُجلَّدٌ، «شرحُ العُمدة» للشَّيخ موفَّق الدِّين، كتب منه أربَع مُجلَّداتٍ، «تعليقة علي المُحرَّر في الفقه» لجدّه عدّة مُجلَّداتٍ، «الصَّارِمُ المَسْلُول على شاتم الرَّسٌول» مُجلَّدٌ، «بيانُ الدَّليل على بطلان التَّحليل» مُجلَّدٌ، «اقتضاء الصِّراط المُستقيم في مخالفة أصحاب الجَحيم» مُجلَّدٌ، «التحرير في مسألة حفير» مّجلَّدٌ في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخُويي في حادثة حكم فيها، «الردُّ الكّبِير على من اعتَرض عليه في مسألةِ الحَلف بالطلاق» ثلاثُ مُجلدَّاتٍ، كتاب «تحّقيق الفُرقان بين التطليق (¬3) والأيمان» مَجلَّدٌ كبيرٌ، «الرّدُّ على الأخنائي في مسألة الزِّيارة» مُجلَّدٌ. وأمَّا القواعدُ المُتوسطة والصِّغار وأجوبة الفتاوى فلا يُمكن الإحاطة بها، لكثرتها وانتشارها وتَفرُّقها، ومن أشهرها «الفُرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان» مُجلَّدٌ لطيف، «الفُرقان بين الحقِّ والبُطلان» مُجلَّدٌ لطيفٌ، ¬

_ (¬1) في المطبوعة: كفة!. (¬2) كذا في الأصل، والصواب: بضع عشرة. (¬3) في المطبوعة: التطبيق!.

«الفرقان بين الطَّلاق والأيمان» مُجلَّدٌ لطيفٌ، «السِّياسة الشَّرعِيَّة في إصلاح الرَّاعي والرَّعيَّة» مُجلَّدٌ لطيفٌ، «رفع المَلام عن الأئمة والأعلام» مُجلَّدٌ لطيفٌ. وقد حصل للشيخ محنٌ كثيرةٌ، وسُجن غيرَ مرَّةٍ، ثمَّ في آخر عمره سُجن بقلعة دمشق في دولة الملك الناصر محمَّد قلاوون فمكثَ في القلعةِ من (¬1) شعبان سنة ستٍّ وعشرين إِلى ذي القعدة سنةَ ثمانٍ وعشرين ثمَّ مرض بضعةً وعشرين يومًا ولم يَعلم أكثرُ النَّاسِ بمرضه ولم يفجأهم إِلاَّ موته وكانت وفاته في سحرِ ليلةِ الاثنين عشري القَعْدة سنةَ ثمان وعشرين وسبعِمائة، وذكره مؤذِّن القَلعة على منارةِ الجامعِ وتكلَّم به الحَرَسُ على الأبرجة ثمَّ في صَبيحة ذلك اليوم غُسِّل بحضرة جماعةٍ من أكابر الصَّالحين وأهلِ العلمِ كالمِزِّي وغيره، وصّلَّى عليه بدركات القَلعة الزَّاهِدُ القُدوة محمَّد بن تَمَّام، وأُخرج إِلى جامع دمشق وكان الجمعُ أعظمَ من جمع الجمعِ، وصُلِّي عليه بعد صلاةِ الظُّهرِ وكان الإمام نائب الخطابة عَلاء الدِّين بن الخراط وأُخرج من بابِ البَريد، واشتَدَّ الزِّحامُ وخرجت الجَنازةُ من بابِ الفرج، وعَظُمَ الأَمرُ بسوقِ الخيلِ، وتقدّم في الصَّلاة عليه هناك أخوه زين الدِّين عبد الرَّحمن ودُفن وقت العَصْرِ أَو قبلها بيسيرٍ إِلى جانب أخيه شرف الدِّين عبدِالله بمقابر الصُّوفية، وحُزِر الرِّجال بستين ألفًا وأكثر، إِلى مائتي ألف، والنِّساء بخمسةَ عشرَ ألفًا، رحمه الله وغفر له، وصٌلّي عليه صلاة الغَائِبِ في غالبِ بلادِ الإسلامِ القَريبةِ والبعيدةِ، حتَّى في اليَمَنِ والصِّين، وأخبر المُسافرون أَنَّه نودي بأقصى الصِّين للصَّلاة عليه يومَ جُمعةٍ: الصلاةُ على ترجمان القرآن - رحمه الله تعالى -. ¬

_ (¬1) في المطبوعة: "في"!.

63 - طبقات المفسرين

طبَقَاتُ المفَسِّريْن (¬1) للعلاّمة/ شمس الدين محمد بن عليّ بن أَحمد الداوودي (945) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم الخضر ابن محمَّد بن تّيْمِيَّة الحَرَّاني ثمَّ الدِّمشقي الحنبلي، الإمام العلامة الفقيه المجتهد الناقد المفسر البارع الأصولي شيخ الإِسلام علم الزهاد، نادرة دهره، تقي الدين أَبو العبَّاس، ابن المفتي شهاب الدين عبد الحليم، ابن الإمام المجتهد شيخ الإِسلام مجد الدين، شهرته تُغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره. ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل سنة إِحدى وستين وستمائة بحرَّان، وقدِم به والده وبإِخوته إِلى دمشق، عند استيلاء التَّتار على البلاد سنة سبع وستين. فسمع بها من ابن عبد الدَّائم، وابن أََبي اليُسر، والمجد بن عساكر، ويحيي بن الصيرفي الفقيه، وابن أَبي الخير الحداد، والقاسم الإرْبِليّ، والشيخ شمس الدين بن أَبي عمر، والمسلم بن علاّن وإِِبراهيم بن الدرجي؛ وخلق. وعُني بالحديث، وسمع «المسند» مرّات، والكتب السِّتَّة، و «معجم الطَّبرانيّ الكبير»، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأَقبل على العلوم في ¬

_ (¬1) (1/ 46 - 50) تحقيق علي محمد عمر، مصر 1392.

صغره. فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدين بن أَبي عمر، والشيخ زين الدين بن المنجّى. وبرع في ذلك. وقرأَ في العربية أيامًا على ابن عبد القوي، ثمَّ أَخذ «كتاب سيبويه»، فتأَمله ففهمه. وأقبل علي تفسير القرآن الكريم، وبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم ـ ونظر في علم الكلام والفلسفة وبرز في ذلك علي أهله، ورد علي رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل. وتأَهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأَمدَّه الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإِدراك والفهم، وبُطْء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إِنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه، ثمَّ توفي والده وكان له حينئذٍ إِحدى وعشرين سنة. فقام بوظائفه بعده، فدرس بدار الحديث السكرية في أول سنة ثلاث وثمانين. وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين الدين بن المرحِّل، والشيخ زين الدين بن المنجَّي، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة. وهو مشهور بين الناس، وعظّمه الجماعة الحاضرون، وأثْنَوا عليه ثناء كثيرًا. قال الذَّهبيّ: وكان الشَّيخ تاج الدين الفزاري يبالغ في تعظيمه، بحيث إنَّه علق بخطه درسه بالسكرية، ثمَّ جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، وكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أَو أكثر، وبقي

يفسر في سورة نوح عليه السلام، عدة سنين أيامَ الجُمَع. وفي سنة تسعين: ذكر علي الكرسي يوم جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك. وقال قاضي القضاة شهاب الدين بن الخُويِّيّ: أَنا على اعتقاد الشَّيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك. فقال: لأن ذهنه صحيح، وموادَّه كثيرة. فهو لا يقول إِلاَّ الصحيح، فقال الشَّيخ شرف الدين المقْدِسِيّ: أّنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي وأخي، ذكر ذلك البرزالي في «تاريخه». وشرع الشَّيخ في الجمع والتصنيف من دون العشرين، ولم يزل في علُوٍّ وازدياد من العلم والقدر إِلى آخر عمره. قال الذَّهبيّ في «معجم شيوخة»: برع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إِلى مواقع الإشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لم يُسْبَق إِليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه معزوًّا إِلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقع واختلاف المذاهب، وفتاوي الصَّحابة والتابعين، بحيث إِنَّه إِذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولاً وفروعًا وتعليلاً واختلافًا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَرَدّ عليهم، ونبه على أخطائهم، وحذَّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السنة المحضة، حتَّ أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكَبتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيي به الشَّام،

بل الإِسلام، بعد أَن كاد ينثلم بتَثْبِيتِ أولي الأمر لمّا أقبل حزب التتر والبغي في خيلائهم، فظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأبّ النفاق وأبدى صفحته، ومحاسنُه كثيرة، وهو أكبر من أَن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، وأَنَّه ما رأى مثل نفسه. قال الذَّهبيّ: وقد قرأت بخط شيخنا العلامة كمال الدين بن الزَّمْلَكاني، ما كتبه سنة بضع وتسعين تحت اسم «ابن تَيْمِيَّة» كَانَ إِذا سئل عن فنٍّ من العلم ظن الرائي والسامع: أَنَّه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أَنَّ أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء كثيرة، ولا يعرف أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كَانَ من علم الشرع أَو غيره - إِلاَّ فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها. وأَمَّا تصانيفه رحمه الله فهي أَشهر من أَن تُذْكر، وأعرف من أَن تنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدّ الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرُها، ولا يتسع هذا الكلام، لعد المعروف منها ولا ذكرها. وقد بلغت ثلاثمائة مجلدة. وكتب بخطه من التَّصانيف والتعاليق المفيدة والفتاوى المشبعة في الأفرع والأصول والحديث ورد البدع بالكتاب والسنة شيئًا كثيرًا، يبلغ عدة أَحمال، فمما كمل منها «كتاب الصارم المسلول على متنقص الرسول» و «كتاب تبطيل التحليل» و «كتاب اقتضاء الصراط المستقيم» و «كتاب تأسيس التقديس» في عدة مجلدات، و «كتاب الرد علي طوائف الشيعة»

أربع مجلدات. و «كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام»، و «كتاب السياسة الشرعية»، و «كتاب التصوف»، و «كتاب الكلم الطيب»، و «كتاب مناسك الحج»، وغير ذلك. وقد امتُحِن وأُوذي مرارًا ومات في سحر ليلة الاثنين العشرين من ذي القَعْدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة مُعْتقلاً بقلعة الشَّام، وقد وقع أَجره على الله.

64 - قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر

قلادة النحر في وَفَيَات أعيان الدهر (¬1) للمؤرخ / عبد الله بن أحمد با مخرمة (947) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله المعروف بابن تيميَّة. الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين. ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وسمع من جماعة، وبرع في حفظ علم الحديث والأصْلَين، وكات يتوقَّد ذكاءً، قيل: مصنفاته أكثر من مئتي مجلد، وله مسائل غريبة أُنْكَر عليه فيها، وحُبِسَ بسببها؛ لمباينتها لمذهب أهل السنة، ومن أقبحها نهية عن زيارة قرل النبي صلي الله عليه وسلم، وطعنه في مشايخ الصوفية العارفين؛ كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والأستاذ أبي القاسم القُشَيري، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، والشيخ ابن العريف، وغيرهم، وكذلك ما عُرِف من مذهبه كمسئلة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة، وما نُقِل عنه فيها. اعْتُقِل بقلعة دمشق، ومُنع قبل وفاته بخمسه أشهر من الدواة والورق، وتوفي معتقلاً سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. ¬

_ (¬1) (3 / ق 522 ب) نسخة تركيا. والكتاب ملخّص من كتاب "مرآة الجنان" لليافعي، ثم أضاف إليه من تواريخ اليمن.

65 - كتاب الزيارات

كتاب الزّيارات (¬1) للقاضي محمود بن محمد العدوي (1032) ابن تيمية العلامة أحمد بن عبد الحليم [بن عبد السلام] بن عبد الله النميري الحرّاني، نسبة إلى حرّان مدينة مشهورة بين الموصل والشام، بينها وبين الرّها يوم وبين الرقة يومان. وذكر قوم فيما حكاه ياقوت في «معجم البلدان» أنها أول مدينة بُنيت في الأرض بعد الطوفان. الإمام أستاذ الحفاظ وعَلَم الأئمة الأيقاظ الأصوليّ المفسّر المجتهد المنعوت بتقي الدين [ابن] العلامة شهاب الدين ابن المجتهد مجد الدين. وشهرته تُغني عن التحديد والإطناب في ذكره. وُلد بحرَّان يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقدم إلى دمشق مع أهله سنة سبع وستين وست مئة. مات بقلعة دمشق معتقلاً - قيل على مسألة الزيارة - ليلة الاثنين عشرين ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وكانت له جنازة حافلة حُزر الرجال بستين ألفا، وقيل: بمئتي ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك ما قال أبو عبد الرحمن السُّلمي: حضرتُ جنازة أبي الفتح القواس الزاهد [مع] الشيخ أبي الحسن الدارقطني، فلما بلغ [الى] ¬

_ (¬1) (ص/ 94 - 95) دمشق (1956) بالمجمع العلمي.

ذلك الجمع الكثير أقبل علينا فقال: سمعت أبا سهل بن زياد القطَّان يقول: إن ابن أحمد بن حنبل يقول سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز. ودفن بمقابر الصوفية، و [قبره] مشهور مقصود للزيارة.

66 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب

شذَرَاتُ الذَّهبِ في أَخْبَارِ مَنْ ذَهَبَ (¬1) للعلاَّمة / أَبي الفلاح عبد الحيّ بن العِماد الحنبلي (1089) وفيها [728] شيخ الإِسلام تقي الدِّين أَبو العبَّاس أَحمد بن عبد الحليم ابن عبد السَّلام ابن تّيْمِيَّة الحّرَّاني الحنبلي، بل المجتهد المُطْلق. ولد بحَرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأَوَّل، سنة إِحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التَّتار علي البِلاد إلى دمشق سنة سبع وستين، فسمع الشَّيخ بها ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليسر، والمجد ابن عساكر، ويحيي بن الصّيرفي، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدِّين ابن أَبي عمر، وغيرهم. وعني بالحديث، وسمع «المسند» مرّات، والكتب السِّتَّة. و «معجم الطَّبرانيّ الكبير» وما لا يُحصى من الكتب والأجزاء. وقرأ بنفسه، وكتب بخطّه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشَّيخ شمس الدِّين بن أَبي عمر، والشيخ زين الدِّين بن المُنَجَّى، وبَرَعَ في ذلك، وناظر، وقرأ العربية على ابن عبد القوي. ثمَّ أَخذ «كتاب سيبويه» فتأمله وفهمه، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرّز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم. ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، وردَّ علي رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون ¬

_ (¬1) (7/ 142 - 150) دار ابن كثير، دمشق، تحقيق الأرناؤوط.

العشرين سنة. وأفتى من قبل العشرين أيضًا. وأمدّه الله بكثرة الكتب، وسُرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إِنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه، ثمَّ توفي والده وله إِحدى وعشرون سنة، فقام بوظائفه بعده مدة، فدرَّس بدار الحديث السُّكَّريَّة المجاورة لحمّام نور الدِّين الشهيد في البزورية في أول سنة ثلاث وثمانين، وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزّكي، والشيخ تاج الدِّين الفَزَاري، وابن المُرَحّل، وابن المُنَجَّي، وجماعة، فذكر درسًا عظيمًا في البسملة، بحيث بَهَرَ الحاضرين، وأثنوا عليه جميعًا. قال الذَّهبيّ: وكان الشَّيخ تاج الدين الفَزَاري يُبالغ في تعظيم الشَّيخ تقي الدِّين، بحيث إنَّه علّق بخطّه درسه بالسُّكرية. ثمَّ جلس مكان والده بالجامع على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن، فكان يُوردُ في المجلس من حفظه نحَو كُرَّاسين أَو أكثر. وبقي يُفسّر في سورة نوح عِدَّةَ سنين أيامَ الجُمَع. وقال الذَّهبيّ في «معجم شيوخه»: شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علمًا، ومعرفةً، وشجاعة، وذكاءً، وتنويرًا إلهيًا، وكرمًا، ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرَّج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصَّل مالم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيالٍ، وخاطر وقّادٍ إِلى مواضع الإشكال مَيَّال، واستنبط منه أّشياء لم يُسبق إِليها، وبَرَعَ في الحديث وحفظه، فقلَّ مَنْ يحفظ ما يحفظ من الحديث مَعْزُوًّا إِلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضارٍ له وقت إقامة الدّليل. وفاق النَّاس في معرفة الفقه، واختلاف

المذاهب، وفتاوى الصّحابة والتابعين، بحيث إِنَّه إِذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولاً وفروعًا وتعليلاً واختلافًا. ونظر في العقليات، وعَرَفَ أقوال المتكلمين. وردّ عليهم، ونَبّه على خطئهم وحذَّر، ونصر السُّنِّة بأوضح حُججٍ وأبهر براهين، وأُوْذِيَ في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتَّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التَّقوى على محبته والدعاء له. وكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنِّحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته. وأحيا به الشَّام، بل الإِسلام، بعد أَنْ كاد ينثلم خصوصًا في كائنة التَّتار، وهو أكبر من أَن يُنَبِّه علي سيرته مثلي: فلو حُلِّفْتُ بين الركن والمقام لحَلَفْتُ: أني ما رأيت بعيني مثله، وأَنَّه ما رأى مثل نفسه. انتهى كلام الذَّهبيّ. وكتب الشَّيخ كمال الدِّين ابن الزَّمْلَكاني تحت اسم «ابن تَيْميِّة»: كَانَ إِذا سُئِلَ عن فنٍّ من العلم ظَنَّ الرائي والسَّامع أََنَّه لا يعرف غير ذلك الفَنِّ، وحكم أَنَّ أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطّوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يُعرف أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علمٍ من العلوم سَوَاء كَانَ من علم الشَّرع أَو غيرها إِلاَّ فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها. وكتب الحافظ ابن سَيِّد الناس في «جواب سؤالات الدّمْيَاطي» في حقِّ ابن تَيْمِية: ألفيتهُ ممن أدرك من العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السُّنن والأثار حفظًا، إِن تكلم في التفسير، فهو حامل رايته، وإن أفتي في الفقه فهو مدرك غايته، أَو ذاكر بالحديث فهم صاحب علمه، وذو روايته، أَو حاضر بالنّحَل والمِلَل لم يُرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته.

برز في كل فنِّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عين من رآه مثله، ولم رأت عينه مثل نفسه. وقال الذَّهبيّ في «تاريخه الكبير» بعد ترجمة طويلة: بحيث يصدق عليه أَن يُقال: كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث. وترجمة ابن الزَّمْلَكَاني أيضًا ترجمة طويلة وأثنى عليه ثناءً عظيمًا، وكتب تحت ذلك: ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جَلَّتْ عن الحَصْر هو حُجَّةٌ للهِ قاهرةٌ ... هو بيننا أعجوبَةُ العَصْرِ هو آيةٌ للخَلْق ظاهرةٌ ... أنوارُها أربتْ علي الفَجْرِ وللشيخ أثير الدين أَبي حيَّان النّحوي لما دخل الشَّيخ مصرَ واجتمع به فأنشد أَبو حَيَّان: لمَّا رأيْنَا تَقِيَّ الدينِ لاحَ لنَا ... داعٍ إلى اللهِ فردٌ ما له وَزَرُ على مُحَيَّاهُ مِنْ سِيْمَا الأُولَى صَحِبُوا ... خيرَ البَرِيَّةِ نُوْرٌ دُوْنَهُ القَمَرُ حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبرًا ... بَحرٌ تَقَاذَفُ مِنْ أمواجه الدُّرَرُ قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْرِ شِرعَتِنَا ... مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ فأَظْهَرَ الدِّينَ إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأَخْمدَ الشِّرْكَ إذ طارَتْ لَهُ شَرَرُ يامَنْ تَحَدَّثُ عن عِلْمِ الكتابِ أصِخْ ... هذا الإِمامُ الذي قَدْ كان يُنتظر يشير بهذا إِلى أَنَّه المجدد.

وممن صرَّح بذلك الشَّيخ عماد الديِّن الواسطي، وقد توفي قبل الشَّيخ. وقال في حقِّ الشَّيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فوالله، ثمَّ والله، ثمَّ والله، لم يُرَ تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تَيْمِيَّة، علمًا، وعملاً، وحالاً، وخُلقًا واتِّباعًا، وكرمًا، وحلمًا، وقيامًا في حقِّ الله عند انتهاك حُرُماته، أصدق النَّاس عقدًا، وأصحهم علمًا، وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحقّ وقيامه همةً، وأسخاهم كفَّا، وأكملهم اتباعًا لنَبيّه محمَّد صلي الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النُّبُوة المحمدية وسُننها من أقواله وأفعاله إِلاَّ هذا الرَّجل، يشهد القلب الصحيح أَنَّ هذا هو الاتباع حقيقة. وقال الشَّيخ تقي الدِّين بن دقيق العيد، وقد سئل عن ابن تَيْمِيَّة بعد اجتماعه به: كيف رأيته؟ فقال: رأيت رجلاً سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء، فقيل له: فلم لا تتناظرا؟ قال: لأَنَّه يحب الكلام وأحبُّ السّكوت. وقال برهان الدِّين بن مُفلْح في «طبقاته»: كتب العَلاّمة تقي الدِّين السُّبْكي إِلى الحافظ الذَّهّبيّ في أمر الشَّيخ تقي الدِّين ابن تَيْمِيَّة: فالمملوك يتحقق قدره وزخارة بحره وتوسّعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأَنَّه بلغ من ذلك كل المبلغ الَّذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلُّ، مع ما جمعه الله تعالى له من الزَّهَادة، والوَرَع، والدِّيانة، ونصرة الحقِّ، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السَّلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفي، وغرابة مثله في هذا الزَّمَان، بل من أزمان. انتهى. وقال العَلاَّمة الحافظ ابن ناصر الدِّين في «شرح بديعته» بعد ثناء جميل

وكلام طويل: حَدَّث عنه خلقٌ، منهم الذَّهَبيّ، والبِرزالي، وأَبو الفتح بن سيد النَّاس، وحدَّثنا عنه جماعة من شيوخنا الأكياس. وقال الذَّهَبيّ في عدَّ مصنّفاته المجوّدة: وما أُبعد أَن تصانيفه إِلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة. وأثنى عليه الذَّهَبيّ وخلق بثناء حميد، منهم الشَّيخ عماد الدِّين الوَاسطي العارف، والعَلاّمة تاج الدِّين عبد الرَّحمن الفَزَاري، وابن الزَّمْلَكاني، وأَبو الفتح ابن دقيق العيد. وحَسْبُه من الثناء الجميل قول أستاذ أئمة الجرح والتعديل أَبي الحجَاج المِزِّي الحافظ الجليل، قال عنه: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه. وترجمه بالاجتهاد وبلوغ درجته، والتمكن في أنواع العلوم والفُنون: ابن الزَّمْلَكاني، والذَّهبيّ، والبرازليُ، وابن عبد الهادي، وآخرون. ولم يخلف بعده من يقاربه في العلم والفضل. انتهى كلام ابن ناصر الدِّين ملخَّصًا. وكان الشَّيخ العارف بالله أَبو عبد الله ابن قوّام يقول: ما أسلمت معارِفُنا إِلاَّ على يد ابن تيميَّة. وقال ابن رجب: كان العلماء، والصُّلحاء، والجُند، والأُمراء، والتُّجار، وسائر العامّة تحبُّه، لأّنَّه منتصب لنفعهم ليلاً ونهارًا، بلسانه، وقلمه. ثمَّ قال ابن رجب وغيره: ذكر نبذة من مفرداته وغرائبه:

اختار ارتفاع الحديث بالمياه المعتصرة كماء الورد ونحوه. والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إِلاَّ أَن يتغير قليلاً كَانَ أَو كثيرًا. والقول بجواز المسح على النَّعلين والقدمين وكل ما يُحتاج في نزعه من الرّجل إِلى معالجة باليد أَو بالرِّجل الأخرى فإنه يجوز المسح عليه مع القدمين. واختار أن المسح على الخفين لا يتوقت مع الحاجة، كالمسافر على البرد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إِلى الديار المصرية علي خير البريد، ويتوقف مع إمكان النزع وتيسره. واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها. واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخّر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتها. وكذا من خشي فوات الجمعة والعيدين وهو مُحْدِثٌ. واختار أَنَّ المرأة إِذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول إِلى الحمّام وتكرره، أنها تتيمم وتُصلي. واختار أَن لا حدَّ لأقلّ الحيض ولا لأكثره، ولا لأقلّ الطُّهر بين الحيضتين، ولا لسنِّ الإِياس، وأن ذلك يرجع إِلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها. واختار أّنَّ تارك الصلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل. وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله، كما هو مذهب الظّاهرية.

واختار القول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة، كما هو قول ابن عمر واختاره البخاريّ صاحب «الصحيح». والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء، كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاريَ. والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدًا أّنَّه ليل وكان نهارًا لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وإليه ذهب بعض التَّابعين وبعض الفقهاء بعدهم. والقول بجواز المسابقة بلا محلّل وإن أخرج المتسابقان. والقول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات. والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين. وجواز طواف الحائض، ولا شيء عليها إِذا لم يمكنها أَن تطوف طاهرًا. والقول بجواز بيع الأصل بالعصير، كالزيتون بالزيت، والسّمسم بالسّيرج. والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلاً، وجعل الزايد من الثمن في مقابلة الصّنعة والقول. ومن أقواله المعروفة المشهورة الَّتي جرى بسبب الإِفتاء بها محن وقلاقل قوله بالتفكير في الحلف بالطلاق، وأن الطّلاق الثلاث لا يقع إِلاَّ واحدة، وأن الطلاق المحرّم لا يقع، وله في ذلك مؤلفات كثيرة لا

تنحصر ولا تنضبط وقال ابن رجب: مكث الشَّيخ معتقلاً في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إِلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثمَّ مرض بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر النَّاس بمرضه، ولم يفجأهم إِلاَّ موته. وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلّم به الحرس على الأبرجة، فتسامع النَّاس بذلك، وبعضهم علم به في منامه، واجتمع النَّاس حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمَرْج، ولم يطبخ أهل الأسواق، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين، وفُتح باب القلعة. واجتمع عند الشَّيخ خلق كثير من أصحابه يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زينُ الدَّين عبد الرَّحمن أّنَّه ختم هو والشَّيخ منذ دخلا القلعة ثمانين خَتْمَة، وشرعا في الحادية والثمانين، وانتهيا إِلى قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر/ 54 - 55]. فشرع حينئذ الشيخان الصّالحان عبد الله بن المحبّ الصّالحي، والزُّرَعيّ الضّرير - وكان الشَّيخ يحب قراءتهما - فابتدأ من سورة {الرَّحْمَنُ (1)} حتَّى ختما القرآن. وخرج من عنده من كَانَ حاضرًا إِلاَّ من يغسّله ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من أكابر الصَّالحين وأهل العلم، كالمِزَّي وغيره، وما فُرغ من تغسيله حتَّى امتلأت القلعة وما حولها بالرِّجال، فصَلى عليه بدركات القلعة الزَّاهد القُدوة محمَّد بن تمّام، وضجَّ النَّاس حينئذ بالبكاء، والثناء والدعاء بالتّرحم.

وأُخرج الشَّيخ إِلى جامع دمشق، وصلّوا عليه الظُّهر، وكان يومًا مشهودًا لم يعهد بدمشق مثله، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أئمة السُّنَّة، فبكى النَّاس بكاءً كثيرًا، وأُخرج من باب البريد، واشتد الزحام وألقى النَّاس علة نعشه مناديلهم! وصار النَّعش على الرؤوس يتقدم تارة ويتأخر أخرى، وخرجت جنازته من باب الفرج، وازدحم النًّاس على أبواب المدينة جميعًا للخروج، وعظُم الأمر بسوق الخيلِ، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه عبد الرَّحمن، ودفن وقتَ العصر أَو قبلها بيسير إِلى جانب أخيه شرف الدِّين عبد الله بمقابر الصُّوفية. وحُزِرَ من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا. وخُتمت له ختمات كثيرة، رحمه الله ورضي عنه.

67 - درة الحجال في غرة أسماء الرجال

دُرّة الحِجَال في غُرَّة أسْماء الرِّجال (¬1) لابن القاضي المكناسي (1125) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن محمَّد بن تَيْمِيَّة. مفتي الشَّام ومحدِّثه وحافظه. كَانَ يرتكب شواذ الفتاوى!! ويزعم أَنَّه مجتهد مصيب (¬2)!! سمع من ابن عبد الدَّائم، وابن أَبي اليسر، وابن أَبي الخير، وابن عطاء، وابن عساكر، وابن البخاريّ فخر الدين، وله تآليف. مولده. سنة 661 بحرَّان، ذكره ابن جابر في شيوخه. ¬

_ (¬1) (1/ 30) دار التراث والمكتبة العتيقة (1390)، تحقيق د/ محمد الأحمدي أبو النور. (¬2) تقدَّم التعليق عليه في "برنامج ابن جابر".

68 - ديوان الإسلام

ديوان الإِسلام (¬1) شمس الدين محمد بن عبد الرحمن الغزي (1167) الشَّيخ الإِمام العلاَّمة الحبر البحر، شيخ الإِسلام تقيّ الدِّين أَبو العَبَّاس الدِّمشقي الحنبلي، صاحب التَّصانيف الكثيرة الشَّهيرة الَّتي تزيد على مئتي مجلَّد كِبار. توفّي بدمشق سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمئة. ¬

_ (¬1) (2/ 40) دار الكتب العلمية (ط، 1) 1411، تحقيق سيد كسروي حسن.

69 - رسالة في مناقب ابن تيمية والدفاع عنه

رسالة في مناقب ابن تَيْمِيَّة والدفاع عنه (¬1) للعلاَّمة / الشاه وليّ الله الدِّهلوي (1176) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله مُفيضِ النِعَم وملهمِ الحِكمِ، وصلى الله على سيدنا محمَّد سيد العرب والعجم، وعلى آله وصحبه عَوالي الهمم. أما بعد، فيقول الفقير ولي الله بن عبد الرحيم عاملهما الله تعالى بفضله الجسيم: وردتْ رقيمة كريمة من مخدوم مكرم، لا زال مُعينًا للحق والدين، في الفحص عن حال الشَّيخ تقي الدِّين أَحمد بن تَيْمِيَّة عامله الله تعالى بفضله، وأي شيء ينبغي أَنْ يعتقده فيه، فوجب الائتمار بأمره، وإن كنت بمعزل عن مثل ذلك. والذي أعتقده أَنا وأحبّ أَنْ يعتقده جميع المسلمين في علماء الإِسلام حملةِ الكتاب والسنة والفقه، الذابين عن عقيدة أهل السنة والحديث، أنهم عدول بتعديل النَّبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يحمل هذا الدِّين من كل طبقة عدوله» (¬2). وإن كَانَ بعضهم تكلّم بما لا يرتضيه هذا المعتقد، إِذا كَانَ قوله غير مردود بنص الكتاب والسنة والإجماع، وكان قوله ذلك محتملاً، وكان مجال ومساغ للخوض فيه، سواء كَانَ قوله ذلك في أصول الدين، ¬

_ (¬1) طبعت قديمًا، ثم نشرها الشيخ الفوجياني في المكتبة السلفية بلاهور. (¬2) لفظ الحديث: "يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدولُه ... ".

أَو في المباحث الفقهية، أَو في الحقائق الوجدانية. وعلى هذا الأصل اعتقدنا في الشَّيخ الأجل محيي الدِّين محمَّد بن عليّ بن العربي، وفي الشَّيخ المجدد أَحمد بن عبد الأحد السهرندي أنهما من صفوة عباد الله، ولم نلتفت إِلى ما قيل فيهما (¬1). وكذلك ابن تَيْمِيَّة، فإِنّا قد تحققنا من حاله أّنَّه عالم بكتاب الله ومعانيه اللغوية والشرعية، وحافظ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف، عارف بمعانيها اللغوية والشرعية، أستاذ في النحو واللغة، محرر لمذهب الحنابلة فروعه وأصوله، فائق في الذكاء، ذو لسان وبلاغة في الَّذب عن عقيدة أهل السنة، لم يؤثر عنه فسق ولا بدعة، اللهم إِلاَّ هذه الأمور الَّتي ضُيِّق عليه لأجلها، وليس شيءٌ منها إِلاَّ ومعه دليله من الكتاب والسنة وآثار السلف. فمثل هذا الشَّيخ عزيز الوجود في العالم، ومن يطيق أّنْ يلحق شأوه في تحريره وتقريره؟ والذين ضيَّقوا عليه ما بلغوا معشار ما آتاه الله تعالى، وإن كَانَ تضييقهم ذلك ناشئًا من اجتهاد، ومشاجرة العلماء في مثل ذلك ما هي إِلاَّ كمشاجرة الصَّحابة فيما بينهم، والواجب في ذلك كف اللسان إِلاَّ بخير. وقد ذكر أّنَّه قال: إِنَّ الله تعالى فوق العرش، والتحقيق أَنَّ في هذه المسألة ثلاث مقامات: أحدها: البحث عما يصح إثباته للحق توقيفًا وعمّا لا يصح توقيفًا، والحق في هذا المقام أَنَّ الله تعالى أثبت لنفسه جهة الفوق، وأن الأحاديث متظاهرة على ذلك، وقد نقل التِّرمذيّ ذلك عن الإمام مالك ونظرائه. ¬

_ (¬1) قد ثبت عن ابن عربي القول بالحلول والاتحاد ثبوتًا لا شك فيه، وألَّف العلماء حول معتقده كتبا عديدة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والبقاعي وغيرهما. وعلى هذا فلا وجه للتسوية بين ابن عربي وابن تيمية.

وثانيها: أَنَّ العقل هل يجوِّز كون مثل هذا الكلام حقيقةً أَو يوجب حملَه على المجاز؟ والحق في هذا المقام أّنَّ العقل يوجب أّنَّه ليس على ظاهرة في نفس الأمر. وثالثها: أّنَّه هل يجب تأويله أَو يجوز وقفُه على ظاهره من غير تعيين المراد؟ والحق فيه أّنَّه لم يثبت في حديث صحيح أَو ضعيف أّنَّه يجب تأويله ولا أّنَّه لا يجوز استعمال مثل تلك العبارات من الأمة. أخبرني أَبو طاهر عن أبيه أَنَّه قال: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: لم ينقل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصَّحابة من طريقٍ صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك يعني المتشابهات ولا المنع من ذكره، ومن المحال أن يأمر الله نبيه بتبليغ ما أنزل إِليه من ربّه وينزل عليه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة] ثمَّ يترك هذا الباب، فلا يميز ما يجوز نسبته إِليه تعالى مما لا يجوز، مع حثّه على تبليغ الشاهد الغائب، حتَّى نقلوا أقواله وأفعاله وأحواله وما فعل بحضرته، فدلّ على أَنهم اتفقوا على الإيمان بها على الوجه الَّذي أراده الله تعالى منها وأوجب تنزيهه عن مشابهة المخلوقات بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فمن أوجب خلاف ذلك بعدهم، فقد خالف سبيلهم، انتهى. وهذا الَّذي حقّقناه هو مذهب الشَّيخ أَبي الحسن الأشعري. أقرأني أَبو طاهر المدني - رضي الله عنه - بخط أبيه أّنَّ الشَّيخ أّبا الحسن قال في كتابه: «إني علي مذهب أَحمد في مسألة الصفات وأن الله فوق العرش» وكلام ابن تَيْمِيَّة محمول على المقام الأوَّل والثالث، وإذا رجعنا إِلى الوجدان فلا شك أّنَّ لله تعالى خصوصية مع العرش كما أَنا لا نجد عبارة في انكشاف المسموعات والمبصرات أفصح من السمع والبصر،

والله أعلم بحقائق الأمور. وقد ذكر عنه أّنَّه منع السفر لزيارة (قبر) النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا يروى كلامه ذلك بدليل صريح صحيح، فإنه لم يمنع الزيارة مطلقًا، بل منع السفر لزيارة القبر بحديث «لا تشدوا الرحال» وبحديث «لا تتخذوا قبري عيدًا» فإذا كَانَ لقوله مساغ اجتهادي لا ينبغي أّنْ يشدد عليه ذلك التشدد. وقد ذكر عنه أّنَّه قد أنكر وجود القطب والغوث والخضر والذي تدعيه الشيعة أّنَّه المهدي، وحق له ذلك فإِنَّ السني ما دام على شرطه من اعتقاد ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والسكوت عما لا يثبت بها يجوز له أَنْ لا يعتقد ذلك، ومن أثبت ذلك من الصوفية، فإنه لم يثبت عن كتاب وسنة، اللهم إِلاَّ الكشف، وليس من أدلّة الشرع، والذي أفهم من كلامه أَنَّه يريد أّنَّ هذا القول مبتدع باطل اعتقاده من حيث الشرع لقوله صلى الله عله وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ولو كَانَ قطع بالإنكار لم يستحق التكفير ولا التفسيق أيضًا. وههنا دقيقة وهي أَنَّه كم من مسئلة لم يدل عليها الشرع لا نفيًا ولا إثباتًا، ودل عليها العقل كقولنا: يحصل من ضرب العشرة في العشرة المائة، أَو الكشف والوجدان كقولنا المحبة الذاتية ثابتة لِكمَّل من عباد الله وهي ميل الوجود الخاص إِلى أصله المطلق من القيود كمثل ميل كل عنصر إِلى مقرّه. وهذه المسائل حقه في الحقيقة ولو اعتقد إنسان أنها من الشرع كَانَ اعتقاده ذلك خطأ ولو أحلها محل الثابت بالشرع فأنكر على من لم يقل بها أَو حاول إثباتها على منكريها كإثبات الشرعيات كَانَ خطأ أيضًا. وقد ذكر عنه أَنَّه أنكر اعتقاد الشيعة في الإمام المحجوب على زعمهم، وحق له أن ينكر ذلك بل الأشاعرة كلهم على هذا الإنكار ولا

أعلم أحدًا قال به، وقد ذكر عنه أَنَّه أساء الأدب مع سيدنا عليّ - رضي الله عنه، وحاشاه من ذلك، وقد طالعت كلامه فوجدت بعضه مسوقًا في مناقضة الشيعة في طعنهم على الخلفاء الثلاثة بأمور تخيلوها نقصًا كما هو مذكور في آخر «التجريد». فقام هذا الشَّيخ يعدّد عليهم أمورًا اعترفوا بها في سيدنا عليّ هي مثلها، كأنه يقول: ليست هذه الأمور نقصًا كما تخيلتم فإِنَّ مثلها مأثور عن سيدنا عليّ وهو - رضي الله عنه - مرضي عندنا وعندكم، وما هو جوابكم في سيدنا عليّ هو جوابنا في الخلفاء الثلاثة - رضي الله عنهم - وهذا من كمال علمه وفوة مناظرته ومن الاعتراف بفضل سيدنا عليّ - رضي الله عنه -. وعلى هذا الأصل يخرج قول معلوم أّنَّ الرأي إن لم يكن مذمومًا. . . الخ وقوله فإنَّ الحسين - رضي الله تعالى عنه - لم يعظم إنكار الأمة لقتله كما عظم إنكارهم بقتل عثمان - رضي الله عنه - وقوله فإِنَّ فصل أَبي بكر. . . الخ، معناه الردّ على الشيعة في طعنهم على الصدّيق بمنع فدك وأّنَّه إيذاء لفاطمة - رضي الله تعالى عنها - وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «يؤذيني من آذاها» وحاصله أّنَّ مثل هذه الأمور مستثنيً من مطلق الإيذاء لإنه مما يشرع للشرع. وكذلك قوله: وأما فعل يؤذيني حاشاه أن يشنّع على عليّ وفاطمة - رضي الله تعالي عنها - بل هو علي سبيل المناقضة، كأنّه قال: تشنيعكم على أَبي بكر هو مثل ما يفرض من تشنيع أَحد على عليّ وفاطمة، وجوابكم هو جوابنا بعينه وبعضه في مناقضة الشيعة في إثباتهم فضيلة سيدنا عليَ على الخلفاء الثلاثة كما هو مذكور في آخر التجريد أيضًا، فقام هذا الشَّيخ يثبت للخلفاء الثلاثة مثل ما أثبتوا لسيدنا عليّ أَو أفضل منه وليس في التفضيل إساءة أدب فإِنَّ التفضيل مذهب أهل السنة أجمع حاشاهم أّنْ يسيئوا الأدب معه - رضي الله تعالى عنه -.

أما تفسير آية الطهارة بالإرادة التشريعية دون الإرادة التكوينية فصحيح، ومثله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، و {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] إِلى غير ذلك من الآيات. وبعد؛ فإِنَّي أذكّر الله عزَّ وجلَّ كل مسلم في هذه المسألة وأمثالها، الله الله أن يسب أحد من المسلمين عالمًا مجتهدًا في أمثال هذه، هذا ما تيسر لي من الجواب وما حملني على الجواب إِلاَّ النصح، والله أعلم بحقيقة الأمور.

70 - كتاب الدر المكنون في مآثر الماضي من القرون

كتاب الدُّر المكنون في مآثر الماضي من القرون (¬1) للشيخ / ياسين بن خير الله الخطيب الموصلي (بعد 1232) وفيها (سنة 728) توفي تقي الدين المشهور بابن تيمية ابن المفتي عبد الحليم بن شيخ الإسلام عبد السلام مُعْتَقلاً بقلعة دمشق. ولما حُمِلَت جَنازتُه اجتمع عليه نحو مئتي ألف من الرجال، وخمسة عشر ألفًا من النساء. وتصانيفة كثيرة؛ نحو خمس مئة مجلَّد، منها كتاب في الرد على ابن المطهر الرافضي في ثلاث مجلَّدات، وكتاب في الرد على «تأسيس التقديس» للرازي، سبع مجلدات، وكتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعيَّة»، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام». ¬

_ (¬1) (ق / 111 ب) نسخة المتحف البريطاني.

71 - البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع

البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع (¬1) للعلاَّمة/ محمَّد بن عليّ الشوكاني (1250) أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السّّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن تيميَّة الحَرَّاني الدِّمشقي الحنبلي تقي الدين أّبو العَبَّاس شيخ الإسلام إِمام الأَمة المجتهد المطلق. ولد سنة (661) إِحدى وستين وستمائة، وتحوّل به أَبوه من حرَّان سنة (667) سبع وستين وستمائة، فسمع من ابن عبد الدايم، والقاسم الإِربلي، والمسلم ابن علان، وابن أَبي عمر, والفخر ومن آخرين. قال ابن حجر في «الدرر»: وقرأَ بنفسه ونسخ «سنن أَبي داود» وحصَّل الأَجزاء. ونظر في الرجال والعلل. وتفقه، وتمهر، وتقدم، وصنف، ودرس، وأَفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسُّع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهِب السَّلف والخلف انتهي. وأَقول أَنا: لا أَعلم بعد ابن حزم مثله وما أّظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أَو يقاربهما. قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يُقْضى منه العجب إِذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، وما رأيت أسرعَ انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة الَّتي ¬

_ (¬1) (1/ 63 - 73) مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

يوردها منه، ولا أَشد استحضارًا للمتون وعزوها منه. وكانت السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه. وأَما أُصول الديانة ومعرفة أَقوال المخالفين فكان لا يُشق غبارة فيه. هذا؛ مع ما كَانَ عليه من الكرم والشَّجاعة، والفراغ عن ملاذ النفس. ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائه مجلد، بل أَكثر. وكان قوَّالا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثمَّ قال: ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إِلى التقصير فيه. ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إِلى التغالي فيه. وقد أَوذيت من الفريقين من أَصحابه وأَضداده. وكان أَبيض، أَسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إِلى شحمة أُذنيه، كأنّ عينيه لسانان ناطقان، رَبْعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحًا سريع القراءة. تعتريه حدّة لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أَر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه. وأَنا لا أَعتقد فيه عصمة، بل أَنا مخالف له في مسائل أَصلية وفرعية؛ فإِنه كَانَ مع سعة علمه، وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حِدّة في البحث وغضب (¬1) وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس. ولولا ذلك لكان كلمة إِجماع فإِن كبارهم خاضعون لعلومه، معترفون بأنه بحر لا ساحل له، وكنز ليس له نظير. ولكن ينقمون عليه أَخلاقًا وأَفعالاً. وكل أَحد يؤخذ من قوله ويترك. قال: وكان محافظًا على الصّلاة والصّوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا. ¬

_ (¬1) في ذيل تاريخ الإسلام للذهبي: "شظف".

لا يؤتى من سوؤ فهم؛ فإِنَّ له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم؛ فإنه بحر زاخر ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسائل بالتشهِّي ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أُسْوةَ من تقدمه من الأئمة. فله أَجر على خطأه وأَجران على إصابته. انتهى. ومع هذا فقد وقع له من أَهل عصره قلاقل وزلازل. وامتحن مرة بعد أخرى في حياته. وجرت فتن عديدة، والناس قسمان في شأنه: فبعض منهم مقصر به عن المقدار الَّذي يستحقه بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أَهل القسم الأوّل عليه. وهذه قاعدة مطَّردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أَهل عصره ويدين بالكتاب والسنة، فإنه لا بد أَن يستنكره المقصِّرون، ويقع له معهم محنة بعد محنة. ثمَّ يكون أَمره الأَعلى وقوله الأَوْلى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره وهكذا حال هذا الامام، فإنه بعد موته عرف النَّاس مقداره، واتفقت الألسن بالثناء عليه إِلاَّ من لا يعتد به، وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته. وأول ما أنكر عليه أَهل عصره في شهر ربيع الأَوَّل سنة (698) أَنكروا عليه شيئًا من مقالاته فقام عليه الفقهاء وبحثوا معه ومُنِع من الكلام. ثم َّ طلب ثاني مرة سنة (705) إِلى مصر فتعصب عليه بعض أركان الدولة. وهو (بيبرس الجاشنكير) وانتصر له ركن آخر وهو (الأمير سلار) ثمَّ آل أَمره أَن حبس في خزانة البنود مدة ثم َّ نقل في صفر سنه (9) إِلى الإِسكندرية. ثمَّ أفرج عنه وأعيد إِلى القاهرة ثمَّ أعيد إِلى الإسكندرية. ثمَّ حضر السلطان الناصر من الكرك فأطلقة، ووصل إِلى دمشق في آخر

سنة (712) وكان السبب في هذه المحنة أَن مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانه في معتقده لما رفع إِليه من أُمور تُنكر في ذلك، فعقد له مجلس في سابع رجب فسئل عن عقيدته، فأملى منها. ثمَّ أحضروا العقيدة الَّتي تعرف بالواسطية فقرأ منها. وبحثوا في مواضع ثمَّ اجتمعوا في ثاني عشره وقرروا الصفي الهندي يبحث معه. ثمَّ أَخّروه وقدموا الكمال الزَّمْْلَكانِي، ثمَّ انفصل الأمر على أَنَّه أَشهد على نفسه أَنَّه شافعي المعتقد فأشاع أَتباعه أَنَّه انتصر، فغضب خضومه ورفعوا واحدًا من أَتباع ابن تيميَّة إِلى الجلال القزويني نائب الحكم بالعادلية فعزّره، وكذا فعل الحنفي باثنين منهم. وفي ثاني عشر رجب قرأ المزِّي فصلاً من كتاب «أَفعال العباد» للبخاري في الجامع فسمع بعض الشافعية فغضب، وقال: نحن المقصودون بهذا ورفعوه إِلي القاضي الشَّافعيّ فأَمر بحبسه. فبلغ ابن تيميَّة فتوجّه إِلى الحبس فأَخرجه بيده، فبلغ القاضي، فطلع إِلى القلعة فوافاه ابن تيميَّة فتشاجرا بحضرة النائب. فأَمر النائب من ينادي أَن من تكلَّم في العقائد فُعل به كذا، وقصد بذلك تسكين الفتنة. ثمَّ عقد له مجلس في سلخ شهر رجب، وجرى فيه من ابن الزَّمْلَكاني، وابن الوكيل مباحثة. فقال ابن الزَّمْلَكاني لابن الوكيل: ما جرى على الشافعية قليل، حيث تكون أَنت رئيسهم، فظن القاضي ابن صصري أَنَّه يعرض به فعزل نفسه. ثمَّ وصل بريد من عند السلطان إِلى دمشق أَن يرسلوا بصورة ما جرى في سنة (698) ثمَّ وصل مملوك النائب وأَخبر أَنَّ بيبرس والقاضي المالكي قد قاما في الانكار على ابن تيميَّة، وأَن الأمر قد اشتد على الحنابلة حتَّى صفع بعضهم. ثم توجه القاضي ابن صصري، وابن تيمية صحبة البريد إِلى القاهرة، ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان. وعقد

مجلس في ثاني عِشريه بعد صلاة الجمعة فادّعى على ابن تيميَّة عند المالكي، فقال: هذا عدُوِّي ولم يجب عن الدعوى، فكرَّر عليه فأَصرّ. فحكم المالكي بحبسه، فأقيم من المجلس وحبس في برج. ثمَّ بلغ المالكي أَن النًاس يترددون إِليه. فقال: يجب التضيق عليه إِن لم يُقتل، وإِلا فقد ثبت كفره. فنقلوه ليلة عيد الفطر إِلى الجبِّ. ولقد أَحسن المترجَمُ له ـ رحمه الله ـ بالتصيميم على منه الإِجابة عند ذلك القاضي الجريء الجاهل الغبي، ولو وقعت منه الإِجابة لم يبعد الحكم بإراقة دم هذا الإمام الَّذي سمح الزمان به، وهو بمثله بخيل. ولا سيَّما هذا القاضي من المالكية الَّذي يقال له: ابن مخلوف، فإنه من شياطينهم المتجرئين على سَفْك دماء المسلمين بمجرد أَكاذيب وكلمات ليس المراد بها ما يحملونها عليه، وناهيك بقوله: إِن هذا الإِمام قد استحق القتل وثبت لديه كفره، ولا يساوي شعرة من شعراته، بل لا يصلح لأَن يكون شسعًا لنعله. وما زال هذا القاضي الشيطان يتطلَّب الفرص الَّتي يتوصل بها إِلى إِراقة دم هذا الإِمام فحجبه الله عنه، وحال بينه وبينه والحمد لله ربِّ العالمين. ثمَّ بعد هذا نودي بدمشق: أَن من اعتقد عقيدة ابن تيميَّة حلّ دمه وماله، خصوصًا الحنابلة فنودي بذلك، وقُريء المرسوم، قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع ثمَّ جمعوا الحنابلة من الصّالحية وغيرها وأَشهدوا على أَنفسهم أَنهم على معتقد الإِمام الشَّافعيّ، وكان من أَعظم القائمين على المترجم له الشَّيخ نصر المنبجي لأنَّه كَانَ بلغ ابن تيميَّة، أَنَّه يتعصب لابن العربي، فكتب إِليه كتابًا يُعاتبه على ذلك فما أعْجبه. لكونه بالغ في الحط على ابن العربي وكفره. فصار هو يحط على ابن تيميَّة ويُغري بيبرس الَّذي يفرط في محبة نصر وتعظيمه، وقام القاضي المالكي المتقدم

ذكره مع الشَّيخ نصر وبالغ في أَذيَّة الحنابلة واتفق أَنَّ قاضي الحنابلة كَانَ قليل البضاعة في العلم فبادر إِلى اجابتهم في المعتقد واستكتبوا خطَّه بذلك. واتفق أَنََّ قاضي الحنفية بدمش وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر لابن تيميَّة وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرًا، من جملتها أَنَّه منذ ثلاث مئة سنة ما رأَى النَّاس مثله فبلغ ذلك ابن مخلوف فسعى في عزل ابن الحريري فعزل وقرر عوضه شمس الدين الأذرعي، ثمَّ لم يلبث الأذرعي أَنْ عُزِل في السنة المقبلة. وتعصب سلار لابن تيميَّة وأَحضر القضاة الثلاثة الشَّافعيّ والمالكي والحنفي وتكلّم معهم في إِخراجه فاتفقوا على أَنهم يشترطون فيه شروطًا. وأَن يرجع عن بعض العقيدة فأرسلوا إِليه مرات. فامتنع من الحضور إِليهم، واستمر على ذلك ولم يزل ابن تيميَّة في الجب إِلى أَن تشفَّع فيه مُهنَّا أَمير آل فضل، فأخرج في ربيع الأوَّل في الثالث والعشرين منه. وأُحضر إِلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء فكتب عليه محضر بأنه قال: أَنا أَشعري (¬1). ثمَّ اجتمع جماعة من الصوفية عند تاج الدين بن عطاء فطلعوا في العشر الأَوسط من شوال إِلى القلعة وشكوا من ابن تيميَّة أَنَّه تكلم في حق مشايخ الطريقة، وأَنَّه قال: لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاقتضى الحال أَن أمر بتسييره إِلى الشَّام فتوجه على خيل البريد، وكل ذلك والقاضي زين الدين ابن مخلوف مشتغل بالمرض. وقد أَشرف على الموت فبلغه سير ابن تيميًّة، فراسل النائب، فرده من ¬

_ (¬1) سبق التعليق عليه في الدرر الكامنة، والمؤلف ينقل عنه.

نابُلُس، وادّعى عليه عند ابن جماعة وشهد عليه شرف الدين ابن الصّابوني. وقيل: إِن علاء الدين القونوي شهد عليه أيضًا، فاعتقل بسجن حارة الديلمة في ثامن عشر شوال، إِلى سلخ شهر صفر سنة (709) فنقل عنه أَنَّ جماعة يترددون إِليه وأَنَّه يتكلم عليهم في نحو ما تقدم، فأمر بنقله إِلى الإسكندرية فنقل إِليها في سلخ صفر. وكان سفره صحبة أمير مقدم ولم يمكَّن أحد من جهته من السفر معه. وحبس ببرج شرقي ثمَّ توجه إِليه بعض أَصحابه فلم يُمنعوا منه، فتوجهت طائفة منهم بعد طائفة وكان موضعه فسيحًا، فصار النَّاس يدخلون إِليه ويقرأون عليه ويبحثون معه. فلم يزل إِلى أَن عاد الناصر إِلى السلطنة، فشفع فيه عنده فأمر باحضاره فاجتمع به في ثامن عشر شوال سنة (709) فأكرمه وجمع القضاة فأَصلح بينه وبين القاضي المالكي. فاشترط المالكي أَن لا يعود. فقال له السلطان قد تاب. وسكن القاهرة وتردد النَّاس إِليه إِلى أَن توجَّه صحبة الناصر إلى الشَّام بنية الغزو سنة (712) فوصل إِلى دمشق. وكانت غيبته منها أكثر من سبع سنين، وتلقاه جمع كثير فرحًا بمقدمه. وكانت والدته إذ ذاك حية ثُمَّ قاموا عليه في شهر رمضان سنة (719) بسبب قوله إِنَّ الطلاق الثلاث من دون تخلل رجعة بمنزلة طلقة واحدة. ثمَّ عقد له مجلس آخر في رجب سنة (720) ثمَّ حبس بالقلعة، ثمَّ أَخرج في عاشوراء سنة (721) ثمَّ قاموا عليه مرة أُخري في شعبان سنة (726) بسبب مسأَلة الزيارة واعتُقِل فلم يزل بها إِلى أَن مات في ليلة الاثنين، لعشرين من شهر القعدة سنة (728) بجامع دمشق. وصار يضرب المثل بكثرة من حضر جنازته، وأَقل ما قيل في عددهم أَنهم خمسون ألفًا. قال ابن فضل الله: لما قدم ابن تيميَّة على البريد إِلى القاهرة في سنة (700) حضّ أَهل المملكة على الجهاد وأَغلظ القول للسُّلطان

والأمراء. ورتبوا له كل يوم دينارًا وطعامًا فلم يقبل ذلك. ثم َّ قال: حضر عنده شيخنا أَبو حيان فقال ما رأَت عيناي مثل هذا الرَّجل، ومدحه بأبيات ذكر أَنَّه نظمها بديهة منها: لمَّا أَتانا تقيُّ الدينِ لاحَ لنا ... داعٍ إِلى اللهِ فَرْدٌ ما له وَزَرُ على مُحَيَّاهُ من سِيْمَا الأُلَى صَحِبُوا ... خيرَ البريَّةِ نورٌ دونَه القَمَرُ قال: ثمَّ دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأَغلظ ابن تيميّة القول في سيبويه، فنافره أَبو حيان وقطعه، وصيَّر ذلك ذنبًا لا يغفر. وسُئل عن السبب، فقال: ناظرته في شيء من العربية فذكرت له كلام سيبويه. فقال: ما كَانَ سيبويه نبيّ النحو ولا كَانَ معصومًا، بل أَخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعًا! ما تفهمها أَنت! فكان ذلك سبب مقاطعته إِياه، وذكره في تفسيره «البحر» بكلِّ سوء، وكذلك في مختصره «النهر» وقد ترجم له جماعة وبالغوا في الثناء عليه، ورثاه كثير من الشعراء. وقال جمال الدين السرمرّي في «أَماليه»: ومن عجائب زماننا في الحفظ ابن تميمَّة كَانَ يمر بالكتاب مرة مطالعة فينقش في ذهنه، وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه، وحكى بعضهم عنه أَنَّه قال: من سألني مستفيدًا حقَّقت له ومن سألي متعنتًا ناقَضْتُه، فلا يلبث أَن ينقطع فأُكْفى مؤنته وقد ترجم له الصفدي وسرد أَسماء تصانيفه في ثلاثة أَوراق كبار. ومن أَنفعها: كتابه في إِبطال الحيل فأِنه نفيس جدًا، وكتاب «المنهاج في الردعلى الروافض» في غاية الحسن، لولا أَنَّه بالغ في الدفع حتَّى وقعت له عبارات وأَلفاظ فيها بعض التحامل. وقد نسبه بعضهم إِلى طلب الملك. لأَنَّه كَانَ يلهج بذكر ابن تومرت

ونظرائه، فكان ذلك مولدًا لطول سجنه. وله وقائع مشهورة. وكان إِذا حوقق وأُلزم، يقول: لم أُرد هذا وإِنما أَردت كذا فيذكر احتمالاً بعيدًا، ولعل ذلك ـ والله أعلم ـ أَنه يصرِّح بالحقّ فتأباه الأذهان، وتنبو عنه الطبائع لقصور الأَفهام، فيحوله إِلى احتمال آخر دفعًا للفتنة. وهكذا ينبغي للعالم الكامل، أَن يفعل، يقول الحق كما يجب عليه ثمَّ يدفع المفسدة بما يمكنه. وحكي عنه أَنَّه لما وصل إِليه السؤال الَّذي وضعه السكاكيني على لسان يهودي وهو: أيا عُلماءَ الدِّين ذمِّي دينكم ... تحيَّر دُلُّوه بأَعظم حُجَّه إِذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي إلى آخرها، فوقف ابن تَيْمِيَّة على هذه الأبيات فثنى إِحدى رجليه على الأخرى، وأَجاب في مجلسه قبل أن يقوم بمائة وتسعة (¬1) عشر بيتًا أَوَّلها: سُؤالك يا هذا سؤال مُعَاند ... مُخاصم ربِّ العرش ربِّ البريَّة وقال ابنُ سيِّد النَّاس اليعمري في ترجمة ابن تيميَّة: إِنَّه برَّز في كلّ فنّ على أَبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأَت عينُه مثل نفسه. وقال الذَّهَبيّ مترجما له في بعض الاجازات: قرأ القرآن والفِقه، وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلوم والتفسير وأفتى ودرس، وهو دون العشرين وصنف التَّصانيف وصار من أَكابر العلماء في حياة مشايخه. وتصانيفه نحو أَربعة آلاف كراسة وأَكثر. ¬

_ (¬1) اختلف في عددها، فأقل ما قيل (102)، وأكثر ما قيل (184) بيتًا.

وقال: وأَما نقله للفقه ومذاهب الصَّحابة والتابعين، فضلاً عن المذاهب الأَربعة فليس له نظير. وقال: إنّه لا يذكر مسألة إِلاَّ ويذكر فيها مذاهب الأئمة، وقد خالف الأَئمة الأربعة في عدة مسائل، صنف فيها واحتجَّ لها بالكتاب والسنة. وقد أَثنى عليه جماعة من أَكابر علماء عصره فمن بعدهم. ووصفوه بالتفرد، وأَطلقوا في نعته عبارات ضخمة وهو حقيق بذاك. والظاهر أَنَّه لو سَلِم مما عرض له من المحن المستغرقة لأكثر أَيامه، المكدِّرة لذهنه، المشوِّشة لفهمه، لكان من المؤلَّفات والاجتهادات مالم يكن لغيره. قال الصَّفدي: وكان كثيرًا ما يُنْشد: تموتُ النفوسُ بأوصابها ... ولم يَدْرِ عُوّادُها ما بِها وما أنْصَفَتْ مهجةٌ تشتكي ... أَذاها إِلى غَيْر أَرْبابِها ومما أُنشدَ له لسان الفقراء: والله ما فَقرُنا اختيارُ ... وإنّما فقرُنا اضطرارُ جماعةٌ كُلُّنا كٌسَالى ... وأكلُنا مَا لهُ عِيارُ تَسْمعُ منّا إِذا اجتمعنا ... حقيقةً كُلّها فُشَارُ

72 - نزل من اتقى بكشف أحوال المنتقى

نُزُل من اتَّقَى بكشفِ أحوال المنتقى (¬1) للعلامة/ عبد الرشيد بن محمود الكشميري (1298) هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني تقي الدين. شيخنا (¬2) الإمام الرباني، مقدام الأئمة، ومفتي الأُمة، بحر العلوم، سيد الحفاظ، فريد العصر، قريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علاَّمة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَمُ الزُّهاد، وأَوْحَد العُبَّاد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يُسبق إلى مثلها. ولد بحرَّان يوم الاثنين عاشر شهر ربيع الأوَّل، وقيل: ثاني عشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وست مئة. وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حرَّان مهاجرين بسبب جَوْر التتار، فساروا باليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم، ووقفتِ العجلة، فابتهلوا إلى الله تعالى، واستغاثوا به فنجوا وسلموا ¬

_ (¬1) (ص/ 17 - 34) ط. المطبع الفاروقي سنة 1297. وترجمة المؤلف في "الإعلام بمن في الهند من الأعلام": (3/ 8 / 1011) لعبد الحي الحسني، طبعة دار ابن حزم. (¬2) هذا النقل من "مختصر طبقات علماء الحديث" لابن عبد الهادي مع تصرف.

وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين؛ فسمع من الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جُزْء ابن عرفة، وغير ذلك. وسمع الكثير من ابن أبي اليُسر، والكمال ابن عَبْد، والشيخ شمس الدين الحنبلي، والقاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والنجيب المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وأبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخرالدين ابن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير. وشيوخه الذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ. وسمع «مسند الإمام أحمد» مرَّات، و «معجم الطبراني الكبير»، والكُتب الكبار، والأجزاء، وعُني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مُدَّة سنين، وقرأ «الغيلانيات» في مجلس، ونسخَ وانتقى، وكتب الطِّباق والأثبات، وتعلم الخط والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها، وأخذ يتأمل «كتاب سيبويه» حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أُصول الفقه، وغير ذلك، هذا كله وهو ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقُوَّة حافظته، وسرعة إدراكه. نشأ في تصوُّن تام، وعفاف وتألُّه، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفًا صالحًا، برًّا بواليه، تقيًّا وَرِعًا، عابدًا ناسكًا، صَوّامًا قوَّامًا، ذاكرًا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجَّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقَّافاَ عند حدود الله تعالى، وأوامره

ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا يَكِلُّ من البحث، وقلَّ أن يدخل في علمٍ من العلوم، في باب من أبوابه إلا ويُفْتَح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حُذَّاق أهله. وكان يحضر المجالس والمحافل في صغره، فيتكلّم ويناظر، ويُفحِم الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيان البلدة في العلم، وأَفْتى وله نحو سبع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، ومات والده ـ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ـ ودرَّس بعده وقام بوظائفه؛ وله إحدى وعشرون سنة، فاشتهر أمره، وبَعُد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقف ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدُّرُوْس بتؤدَةٍ وصوتٍ جهوري فصيح. وحجَّ سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإِمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والأناءة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصِّدق والأمانة، والعفة والصيانة، وحُسْن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله تعالى وشدة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر، والدعاء إلى الله تعالى، وحُسْن الأخلاق، ونفع الخَلْق، والإحسان إليهم. وكان ـ رحمه الله ـ سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجًى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين، طنَّت بذكره الأمصار، وظنَّت بمثله الأعصار.

وقال أبو الحجاج (¬1): ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أَتْبَع لهما منه. وقال العلاَّمة كمال الدين الزملكاني: كان إذا سُئل عن فنٍ من الفنون ظنَّ الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحدًا لا يعرف مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا من سائر مذاهبهم منه مالم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يُعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم ـ سواء كان من علوم الشرعِ أو غيرها ـ إلاَّ فاقَ فيه أهلَه والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولَى في حسن التصنيف وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين. ووقعت مسألة فرعية في قسمة جري فيها اختلاف بين المفتين في العصر؛ فكتب فيها مجلدةً كبيرةً، وكذلك وقعت مسألةٌ في حدٍّ من الحدود؛ فكتب أيضًا مجلدة كبيرةً، ولم يخرج في كل واحدة عن المسألة ولا طَوَّلها بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيءٍ، وأتى في كل واحدة بما لم يكن يكن يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. وقرأت بخط الشيخ كمال الدين أيضًا على كتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» لشيخنا: تأليف الشيخ الإمام العلاَّمة الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأُمة، علاَّمة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، مُحي السنة، ومن عَظُمت به لله علينا المنة، وقامت على أعدائه الحجة، ¬

_ (¬1) هو الحافظ المزي.

واستبانت ببركته وهديه المحجة، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني، أَعلى الله تعالى مكانه (¬1)، وشيّد من الدين أركانه. ماذا يقول الواصفون له ... وصفاتُه جَلَّتْ عن الحصر هو حُجَّة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة، وقد أثنى عليه خلقٌ من شيوخه، ومن كبار علماء عصره؛ كالشيخ شمس الدين بن أبي عُمر، والشيخ تاج الدين الفزاري، وابن منجَّا، وابن عبد القوي، والقاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، غيرهم. وقال الشيخ عماد الدين الواسطي ـ وكان من العلماء العارفين ـ وقد ذكره: هو شيخنا السيد الإمام الهمام، قامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الرائق، الجامع بين الظاهر والباطن، وهو يقضي بالحق ظاهرًا وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني أعاد الله علينا بركته، ورفع إلى المدارج العلياء درجته. ثم قال في أثناء كلامه: والله ثم والله لم أَرَ تحت أديم السماء مثله علمًا وعملاً وجمالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا في حقِّ نفسه، وقيامًا ¬

_ (¬1) في كتاب ابن عبد الهادي: "مناره".

في حق الله تعالى انتهاك حرمته. ثم أطال في الثناء عليه. وقال الشيخ علم الدين في «معجم شيوخه»: تقي الدين أبو العباس، الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ الفقه وبرع في العربية والأصول، ومهر في علم التفسير والحديث، وكان إمامًا لا يلحق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظاته، وحسن إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل فن، كان الحاضرون يقضون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد عن أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، أناب إلى الله خلق كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلل من الدنيا، ورد ما يفتح به عليه. وقال علم الدين في موضع آخر: رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين، وقد كتب تحته الشيخ الإمام شمس الدين الذهبي ـ رحمه الله ـ: هذا خط شيخنا الإمام، شيه الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين. مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقرأ القرآن والفقه، وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله من المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت

تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاءً، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه مما لا يلحق فيه، وأما نقله للفقه ولمذاهب الصحابة والتابعين - فضلاً عن المذاهب الأربعة - فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيها نظيرًا، وكان يدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًا، وأما معرفته بالتأريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس. وقال الذهبي في موضوع آخر: كان آية في الذكاء وفي سرعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحرًا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعة وسخاءً، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وكثرة تصانيف. إلى أن قال: فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء، فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلسهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن تصفه كلمي، وينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته يحتمل أن ترصع في مجلدتين. وقال في مكان آخر: له خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم

وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسيقم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال: «كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث»؛ ولكن الإحاطه لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره يغترف من السواقي، وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن ـ وقت إقامة الدليل بها على المسألة ـ[قوة عجيبة]، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثير من أقول المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحدًا لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلدة، وله في غير مسألة مصنف مفرد. وله من المؤلفات القواعد والفتاوى والأجوبة والرسائل والتعاليق مالا ينحصر ولا ينضبط، ولا أعلم أحدًا من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبًا من ذلك؛ مع أن تصانيفه كان يكتبها من حفظه، وكتب كثيرًا منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه، ويراجعه من الكتب. وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رضي الله عنه: وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية؛ فألفيته ممن أدرك من العلوم حظًا، وكاد يستوعب السنن

والآثار حفظًا، إذا تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو رايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحر علمه العذاب النمر، ويرتعون من رياض فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده الحسد، وأكب أهل النظر منهم بما يُنتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلامًا، أوسعوه بسببه ملامًا، وفوقوا لتبديعه سهامًا، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها مراغم وموابق (¬1)، فآضت إلى الطائفه الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل منهم في كفره فكره فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قومًا من عُمَّار الزوايا وسكان المدارس، من مجامل في المنازعة مخاتل في المخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)} [القصص / 69]، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كلٍّ في نحره، ونجَّاه على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره، ¬

_ (¬1) في كتاب ابن عبد الهادي: "على ما زعم بوائقِ".

ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى ان فُوِّض أمره لبعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومًا مشهودًا، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فج عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشَرْجَعِهِ (¬1) حتى كسروا تلك الأعواد. هذا كلام الصلاح في: «فوات الوفيات» (¬2) ذكرته ههنا بالألفاظ. وفي «طبقات الحنابلة» لزين الدين عبد الرحمن بن جب الدمشقي: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر ابن محمد بن تيمية الحرَّاني ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر الأصولي، الزاهد تقي الدين أبو العباس شيخ الإسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره. ولد يوم الاثنين عاش ربيع الأول سنه إحدى وستين وست مئة بحرَّان، وقَدِم به والده وبإخوته دمشقَ عند استيلاء التتر على البلاد، فسمع الشيخ بها من ابن عبد الدائم، وابن أبي اليُسر، وابن عبد، والمجد بن عساكر، ويحيى بن الصَّيْرفي الفقيه، وأحمد بن أبي الخير الحداد، والقاسم الإربلي، والشيخ شمس الدين بن أبي عُمر، والمسلم ¬

_ (¬1) أي: سريره. وتقدم التعليق على مثل هذا. (¬2) بل هذا منقول من كتاب ابن عبد الهادي "مختصر طبقات علماء الحديث" أما كتاب ابن شاكر؛ فليس فيه هذه النصوص، والجميع مثبت في هذا الجامع.

ابن علاَّن، وإبراهيم بن الدَّرجي، وخلق كثير. وعُني بالحديث، وسمع «المسند» مرَّات، والكتب الستة، و «معجم الطبراني الكبير» ومالا يُحصى من الكتب والأجزاء، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملةَ من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره؛ فأخذ الفقه والأصول عن والده، وعن الشيخ شمس الدين بن أبي عُمر، والشيخ زين الدين بن مُنجَّا، وبرع في ذلك، وناظر، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرَّز فيه، وأحكمَ أصول الفقه، والفرائض، والحساب، والجبر، والمقابلة، وغير ذلك من العلوم. ونظر في علمي الكلام والفلسفة وبرَّز في ذلك على أهله، وردَّ على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهَّل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأُمِدَّ بكثرة الكتب وبسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم وبُطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه. ثم توفي والده الشيخ شهاب الدين، وكان له حينئذ إحدى وعشرين سنة، فقام بوظائفه بعده، فدرَّس بدار الحديث السكَّرية وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين بن الزكي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين الدين بن المرحل، والشيخ زين الدين بن مُنجَّا وجماعة. وذكر درسًا عظيمًا في البسملة وهو مشهور بين الناس، وعظَّمه الجماعة والحاضرون، وأثنوا عليه ثناء كثيرًا. قال الذهبي: وكان الشيخ تاج الدين الفَزَاري يبالغ في تعظيم الشيخ تقي الدين، بحيث أنه علق بخطه درسه بالسكَّرية.

ثم جلس عقب ذلك مكان والده بالجامع على منبره أيام الجُمع لتفسير القرآن الكريم، وشرع من أول القرآن، فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسِّر سورة نوح عِدة سنين أيام الجمع. وفي سنة تسعين: ذكر يوم الجمعة شيئًا من الصفات؛ فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك. وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخويي: أنا على اعتقاد الشيخ تقي الدين، فعوتب على ذلك: لأن ذهنه صحيح، وموادّة كثيرة، فهو لا يقول إلا الصحيح. قال الشيخ شرف الدين المقدسي: أنا أرجو بركتَه ودعاءه، وهو صاحبي، وأخي. ذكر البرازلي في «تاريخه». قال الذهبي في «معجم شيوخه»: يقي الدين شيخنا وشيخ الإسلام فريد الزمان علمًا ومعرفة، وشجاعةً وذكاءً، وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، سمع الحديث وأكثر بنفسه في طلبه، وكتب ونظر في الرجال، والطبقات، وحصل مالم يحصِّله غيره. وفاقَ الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إِنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم عنده دليله. وعرف أقوال المتكلمين، وردَّ عليهم، ونبَّه على خطأئهم، وحذَّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتى أعلا الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا،

وعلى طاعته، ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أن ينبِّه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام وبالطلاق ألف طلقة: أني ما رأيتُ بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه ما حنثت. إلى أن قال ابن رجب: وقد عُرِض عليه قضاء القضاة قبل التسعين، ومشيخة الحديث (¬1)، فلم يقبل شيئًا من ذلك، قرأت ذلك بخط الإمام الذهبي. وقد كتب الذهبي في «تاريخه الكبير» للشيخ ترجمةّ مطولةّ، وقال: كان يكتب في اليووم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة الأوائل: نحوًا من أربعة كراريس أو أزيد. قلت: وقد كتب «الحموية» في قَعْدةٍ واحدة، وهي أَزْيد من ذلك وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما بُيِّض منه مجلدة. وكان رحمه الله فريد دهره في فهم القرآن، ومعرفة حقائق الإيمان، وله يد طُوْلَى في الكلام على المعارف والأحوال، والتمييز بين الصحيح والسقيم والمعوجّ والمستقيم. وللشيخ أثير الدين أبي حيان الأندلسي االنحوي ـ لما دخل الشيخ مصر واجتمع به، ويقال: إن أبا حيان لم يقل أبياتًا خيرًا منها ـ: لما رأينا تقيَّ الدين لاح لنا ... داعٍ إلى الله فردٌ ماله وَزَر على محياه من سيما الأُولى صحبوا ... خير البرية نورٌ دونه القمر حبر تسربل منه دهره حِبَرا ... بحر تقاذَف من أمواجه الدرر ¬

_ (¬1) في "الذيل": "الشيوخ".

قام ابن تيمية في نصر شِرْعتنا ... مقامَ سيّد تيمٍ إذ عصت مُضر فأظهر الدين إذ أثاره درست ... وأخمد الشرَّ إذ طارت له شرر يا من تحدث عن علم الكتاب فها ... هذا الإمام الذي قد كان يُنتظر وحكى الذهبي عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد قال له ـ عند اجتماعه به وسماعه لكلامه ـ: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك. وعن ابن الزَّمْلكاني: أنه سُئل عن الشيخ، فقال: لم نَر من خمس مئه سنة، أو أربع مئة سنة ـ الشك من الناقل. وغالب ظنه أنه قال: من خمسمائة سنة ـ: أحفظَ منه. قال الفقيه الأديب العلامة زين الدين عمر ابن الوردي في «تاريخه»: «تنقَّص مرة بعضُ الناس من ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عند قاضي القضاة كمال الدين الزَّمْلكاني وهو بحلب وأنا حاضر، فقال كمال الدين: ومن يكون مثل الشيخ تقي الدين في زهده، وصبره، وشجاعته، وكرمه، وعلومه، والله لولا تعرّضه للسلف لزاحمهم بالمناكب» انتهى. وكان القدوة أبو عبد الله محمد بن قوام يقول: ما أسلمت معارفنا إلا على يد ابن تيمية. والشيخ عماد الدين الواسطي كان يعظمه جدًّا، وتَلْمذ له، مع أنه كان أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور قيام الصديقين. وكتب رسالة إلى خواص أصحاب الشيخ يوصيهم بتعظيمه واحترامه، ويعرفهم حقوقه، ويذكر فيها: أنه طاف أعيان بلاد الإسلام، ولم يَر

فيها مثل الشيخ علمًا وعملاً، وحالاً وخلقًا واتباعًا، وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته، وأَقْسَم على ذلك بالله ثلاث مرات. ثم قال: أصدق الناس عقدًا وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه، وأسخاهم كفًا، وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تُسْتجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، بحيث يشهد القلب الصحيح: أن هذا هو الاتباع حقيقة. قال الإمام الذهبي: لقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج [لها] ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحِدَّةُ ذهنه، وسَعَةُ دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع، وكمال الفكرة، وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله. فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فانجاه الله، فإنه كان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجمعية. [وله محبون من] العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائرُ العامةِ تحبّه؛ لأنه منتصبٌ لنفعهم ليلاً ونهارًا، بلسانه وقلمه.

وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبة أكابر الأبطال. وله إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه في أمورٍ صعبة، فيدفع الله عنه. وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسرَّى، ولا له من المعلوم إلا شيء قليل. وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منه غداءً ولا عشاءً في غالب الأوقات. وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار والدرهم، لا يذكره، ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسَعْي في مصالحهم. وهو فقير لا مال له، وملبوسه كآحاد الفقهاء: فرَّجيَّة، ودِلْق، وعمامة تكون قيمة ثلاثين درهمًا، ومدارس ضعيف الثمن، وشعره مقصوص. وهو ربع القامة، بعيد ما بين المنكبين، كأنَّ عينيه لسانان ناطقان، ويصلي بالناس صلاة لا تكون أطول من ركوعها ولا سجودها، وربما قام لمن يجئ من سفر أو غاب عنه، وإذا جاء فربما يقومون له، والكل عنده سواء، كأنه فارغ من هذه الرسوم ولم ينحنِ لأحدٍ قط، وإنما يسلِّم ويصافح ويبتسم، وقد يعظِّم جليسَه مرة، ويُهينه في المحاورة مرات. قلت: وقد سافر الشيخ مرةً على البريد إلى الديار المصرية يستنفر السلطان عند مجيء التتر سنةً من السنين، وتلى عليهم آيات الجهاد وقال: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم، فإن الله تعالى: يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم، وتلى قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} وقوله تعالى:

{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}. وبلغ ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ـ وكان هو القاضي حينئذٍ - فاستحسن ذلك، وأعجبه هذا الاستباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام. وأما محن الشيخ: فكثيرة، وشرحها يطول جدًّا. وقد اعتقله مرة بعض نواب السلطان بالشام قليلاً، بسبب قيامه على نصراني سبَّ الرسول صلي الله عليه وسلم: واعتقل معه الشيخ زين الدين الفارقي، ثم أطلقهما مكرمين. ولما صنف المسأله «الحموية» في الصفات؛ شنع بها جماعة، ونودي عليها في الأسواق على قصبة، وأن لا يُستفتى، من جهةِ بعض القضاة الحنفية. ثم انتصر للشيخ بعضُ الولاة، ولم يكن في البلد حينئذٍ نائب، وضرب المنادي وسكن الأمر. ثم امتُحِن سنة خمس وسبع مئة بالسؤال عن معتقده بأمر السلطان، فجمع نائبه القضاة واالعلماء بالقصر، وأحضر الشيخ، وسألهُ عن ذلك؛ فبعث الشيخ وأحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرءُوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه، وبحثوا معه، ووقع الاتفاق بعد ذلك على أن هذه عقيدة سُنِّية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا، ومنهم من قاله كرهًا. وورد بعد ذلك كتاب من السلطام فيه: إنما قصدنا براءة ساحة الشيخ، وتبين لنا أنه على عقيدة السلف. ثمَّ إن المصريين دبروا الحيلة في أمر الشيخ، ورأوا أنه لا يمكن

البحث معه، ولكن يُعقد له مجلس، ويُدَّعى عليه، وتقام عليه الشهادات. وكان القائمون في ذلك منهم: بيبرس الجاشنكير، الذي تسلطن بعد ذلك، ونصر المنبجي، وابن مخلوف قاضي المالكية، فطُلِب الشيخ على البريد إلى القاهرة، وعقد له ثاني يوم وصوله ـ وهو ثاني عشرين من رمضان سنة خمس وسبعمائة ـ مجلس بالقلعة، وادُّعي عليه عند ابن مخلوف أنه يقول: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وأنه على العرش بذاته، وأنه يشار إليه بالإشارة الحسية. وقال المدعي ـ وهو ابن عدلان ـ: أطلبُ تعزيره على ذلك، التعزير البليغ ـ يشير إلى القتل على مذهب مالك ـ فقال القاضي: ما تقول يا فقيه؟ فحمد الله وأثنى عليه، فقيل له: أسرع ما جئت لتخطب، فقال: أُمنع من الثناء على الله تعالى؟ فقال القاضي: أجب، فقد حمدت الله تعالى. فسكت الشيخ، فقال: أجب. فقال الشيخ له: من هو الحاكم في؟ فأشاروا إلى القاضي وقالوا: هو الحاكم، فقال الشيخ لابن مخلوف: أنت خصمي، كيف تحكم في؟ وغضب، ومراده: أني وإياك متنازعان في هذه المسائل، فكيف يحكم أحد الخصمين على الآخر فيها، فأقيم الشيخ ومعه أخواه، ثم رُدَّ الشيخ، وقال: رضيت أن تحكم فيَّ، فلم يمكن له الجلوس، ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق. ثم حُبِسوا في برج أيامًا، ونقلوا إلى الجب ليلة عيد الفطر، ثم بعث كتاب السلطان إلى الشام بالحط على الشيخ، وإلزام الناس ـ خصوصًا أهل مذهبه ـ بالرجوع عن عقيدته، والتهديد بالعزل والحبس، ونودي بذلك في الجامع والأسواق: ثم قُرئ الكتاب بسدة الجامع بعد

الجمعة، وحصل أذى كثير للحنابلة بالقاهرة، وحبس بعضهم، وأخذ خطوط بعضهم بالرجوع، وكان قاضيهم الحراني قليل العلم. ثم في سلخ رمضان سنة ست: أحضر سلار ـ نائب السلطنة بمصر ـ القضاة والفقهاء، وتكلم في إخراج الشيخ، فاتفقوا على أن يُشترط عليه أمور، ويلزم بالرجوع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه من يحضره، ليتكلموا معه في ذلك مرات، وصمم على عدم الحضور، فطال عليهم المجلس، وانصرفوا عن غير شيءٍ. ثم في آخر هذه السنة وصل كتاب نائب السلطنة بدمشق من الشيخ، فأخبر بذلك جماعة ممن حضر مجلسه، وأثنى عليه، وقال: ما رأيت مثله، ولا أشجع منه. وذكر ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله تعالى، وأَنه لا يقبل شيئًا من الكسوة السلطانية، ولا من الإدرار السلطاني، ولا تدنَّس بشيء من ذلك. ثم في ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة دخل مُهنَّا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك، وعُقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء وانفصلت على خير. وذكر الذهبي والبرزالي وغيرهما: أن الشيخ كتب لهم بخطه مجملاً من القول وألفاظًا فيها بعضُ ما فيها، لما خاف وهُدِّد بالقتل، ثم أُطلق وامتنع من المجيء إلى دمشق. وأقام بالقاهرة يُقرئ العلم، ويتكلم في الجوامع والمجالس العامة ويجتمع عليه خلق. ثم في شوال من السنة المذكورة: اجتمع جماعة كثيرة من الصوفية،

وشكوا من الشيخ إلى الحاكم الشافعي، وعقد له مجلس لكلامه في ابن عربي وغيره، وادَّعى عليه ابنُ عطاء بأشياء، ولم يَثْبُت منها شيءٌ لكنه اعترف أنه قال: لا يُستغاث بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، استغاثة بمعنى العبادة، ولكن يُتوسَّل به، فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء. ورأى الحاكم ابن جماعة: أن هذه إساءة أدب، وعنَّفه في ذلك، فحضرت رسالة إلى القاضي: أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة في ذلك، فقال القاضي: قد قلت له ما يقال لمثله. ثم إن الدولة خيرته بين أشياء، وهي الإقامة بدمشق أو بالاسكندرية، بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه أصحابه في السفر إلى دمشق، ملتزمًا ما شُرِط عليه، فأجابهم، فأركبوه خيل البريد، ثم ردُّوه من الغد، وحضر عند القاضي بحضور جماعة من الفقهاء، فقال له بعضهم: ما ترضى الدولة إلا بالحبس، فقال القاضي: وفيه مصلحة له، واستناب التونسي المالكي، وأذن له أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي، فتحيَّر، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى الحبس، وأَتَّبع ما تقتضيه المصلحة، فقال الزواوي المذكور: فيكون في موضع يصلُح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس، فأرسل إلى حبس القاضي وأُجلس في الموضع الذي أجلس فيه القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز لما حُبِس، وأذن أَن يكون عنده من يخدمه. وكان جميع ذلك بإشارة نصر المنبجيّ. واستمر الشَّيخ في الحبس يستفتى ويقصده الناس، ويزورونه، وتأتيه الفتاوي المشكلة من الأمراء وأعيان الناس.

وكان أصحابه يدخلون عليه أولا سرًّا، ثمَّ شرعوا يتظاهرون بالدخول عليه، فأخرجوه في سلطنة الششنكير الملقب بالمظفر، إِلى الإِسكندرية على البريد، وحبس بها في برج حسن مضئ متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إِلى الحمام إِذا شاء. وكان قد أخرج وحده، وأرجف الأعداء بقتله وتفريقه غير مرة، فضاقت بذلك صدور محبيه بالشام وغيره، وكثر الدعاء له، وبقي في الإِسكندرية مدة سلطنة المظفر. فلما عاد الملك الناصر إِلى السلطنة وتمكن، وأهلك المظفر، وحمل شيخه نصر المنبجى، واشتدت موجدة السلطان على القضاة لمداخلتهم المظفر، وعزل بعضهم: بادر بإحضار الشَّيخ إِلي القاهرة مكرمًا في شوال سنة تسع وسبعمائة، وأكرمه السلطان إكرامًا زائدًا، وقام إِليه، وتلقاه في مجلس حفل، فيه قضاة المصريين والشاميين، والفقهاء وأعيان الدولة. وزاد في إكرامه عليهم، وبقي يسُارّه ويستشيره سويعة، وأثنى عليه بحضورهم ثناء كثيرًا، وأصلح بينه وبينهم. ويقال: إِنَّه شاوره في أمرهم به في حق القضاة، فصرفه عن ذلك، وأثنى عليهم، وأن ابن المخلوف كَانَ يقول: ما رأينا أفتى من ابن تَيْمِيَّة، سعينا في دمه. فلما قدر علينا عفا عنا. واجتمع بالسلطان مرة أخرى بعد أشهر، وسكن الشَّيخ بالقاهرة، والناس يترددون إِليه، والأمراء والجند، وطائفة من الفقهاء، وفيهم من يعتذر إِليه ويتنصل مما وقع منه. قال الدَّهبيّ: وفي شعبان سنة إِحدى عشرة: وصل النبأ أَنَّ الفقيه البكري ـ أحد المبغضين للشيخ ـ استفرد بالشيخ بمصر، ووثب عليه، ونتش بأطواقه، وقال: احضر معي إِلى الشرع، فلي عليك دعوى، فلما تكاثر الناس انملص، فطُلِب من جهة الدولة، فهرب واختفي.

وذكر غيره: أَنَّه ثار بسبب ذلك فتنة، وأراد جماعة الانتصار من البكري فلم يُمَكنهم الشَّيخ من ذلك. واتفق بعد مدة: أَنَّ البكري همّ السلطان بقتله، ثمَّ رسم بقطع لسانه؛ لكثرة فضوله وجراءته، ثمَّ شفع فيه، فنفي إِلى الصعيد ومنع من الفتوى والكلام في العلم. وكان الشَّيخ في هذه المدة يُقْرئ العلم، ويجلس للناس في مجالس عامة. ثم قدم إِلى الشَّام هو وإخوته سنة اثنتى عشرة بنيَّة الجهاد، لما قدم السلطان لكشف التتر عن الشَّام. فخرج مع الجيش، وفارقهم من عسقلان، وزار البيت المقدس. ثمَّ دخل دمشق بعد غيبته عنها فوق سبع سنين، ومعه أخواه وجماعة من أصحابه، وخرج خلق كثير لتلقيه، وسُرَّ الناس بمقدمه، واستمر على ما كَانَ عليه أولاً، من إقراء العلم، وتدريسه بمدرسة السكرية، والحنبلية، وإفتاء الناس ونفعهم. ثمَّ في سنة ثمان عشرة: ورد كتاب السلطان بمنعه من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق بالتكفير، وعُقِد له مجلس بدار السعادة، ومنع من ذلك، ونودي في البلد. ثمَّ في سنة تسع عشرة عُقِد له مجلس أَيضًا كالمجلس الأوَّل، وقرئ كتاب السلطان بمنعه من ذلك، وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل الكجلس على تأكيد المنع. ثمَّ بعد مدة عُقِد له مجلس ثالث بسبب ذلك، وعوتب وحبس بالقلعة. ثمَّ حبس لأجل ذلك مرة أخرى. ومنع بسببه من الفتيا مطلقًا،

فأقام مدة يفتي بلسانه، ويقول: لا يسعني كتم العلم. وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إِلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك التنقص بالأنبياء، وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء، وهم ثمانية عشر نفسًا، رأسهم القاضي الأخنائِي المالكي وأفتى قضاة مصر الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا. وبها مات رحمه الله تعالى ورضي عنه. وقد بيَّن رحمه الله: أَنَّ ما حكم عليه به باطل بوجوه كثيره جدًّا، وأفتى جماعة: أنه يخطئ كخطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة من علماء بغداد. وكذلك ابنا أَبي الوليد المالكي شيخ المالكية بدمشق أفتيا: أّنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأَنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجَّح أحدَ القولين فيها. وبقي مدة في القلعة يبث (¬1) العلم ويصنفه، ويرسل إِلى أصحابه الرسائل، ويذكر ما فتح الله به عليه هذه المرة من العلوم العظيمة، والأحوال الجسيمة. وقال: قد فتح الله عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كَانَ من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، ثمَّ إِنَّه مُنِع من الكتابة، ولم يُترك عنده دواة ولا قلم ولا ورق، فأقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر. قال الذهبي في «تاريخه الكبير»: ولما كان معتقلاً في الإسكندرية، ¬

_ (¬1) في "الذيل ": "يكتب".

التمس منه صاحب سبتة أن يجيز لأولاده، فكتب لهم في ذلك نحوًا من ست مئة سطرٍ، منها سبعة أحاديث بأسانيدها والكلام على صحتها ومعانيها، وبحث وعمل، فإذا نظر فيه المحدث خضع له في صناعة الحديث. وذكر أسانيدَه في عدة كتب، ونبَّه على العوالي، عمل ذلك كله من حفظه، من غير أن يكون عنده ثبت أو ما يراجعه. قال في «فوات الوفيات»: منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواةً، ولا قلمًا، ولا ورقةً، وكتب عقب ذلك بفحم. وكان يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النعم. قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، قال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي؛ لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان في حبسه في القلعة يقول: لو بذلت ملأ هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم عل ما تسَبَّبوا لي فيه من الخير، وكان يقول في سجوده: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وقال مرة: المحبوس من حُبس قلبُه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل القلعة وصار داخل سورها، نظر إليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)}. قال شيخنا: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع

ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإِرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكان إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب إنشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. كل هذا في «طبقات الحنابلة» لابن رجب. وقال الشِّهاب بن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار». منهم: أحمد بن عبد الحليم الحرَّاني، الحافظ الحجة. هو البحرُ من أيِّ النواحِي أتيته، والبدرُ من أيّ الضَّواحِي رأيته، جَرَتْ آباؤُه لِشَأْوٍ ما قَنِعَ به، ولا وقفَ عنده طليحًا مُريحًا من تَعَبه. رَضَعَ ثَدْيَ العلمِ مُنذُ فُطِم، وطَلعَ وجهُ الصباحِ ليُحَاكِيَهُ فَلُطِم، وقَطَعَ الليلَ والنهارَ دائبينِ، واتخذ العلمَ والعملَ صاحبَينِ، إل أن أَنسَى السلفَ بِهُداه، وأَنْأَى الخَلَفَ عن بلوغِ مَدَاه. أحْيَى معالمَ بيتهِ إذْ دَرَسَ، وجَنَى من من فَنَنِه الرَّطيبِ ما غَرَسَ، فأصبحَ في فضله آيةٌ إلاّ أنه آيةُ الحَرَسِ، عَرضَتْ له الكُدَى فزَحْزَحَها، وعارضَتْه البحارُ فضَحْضَحَها، كان أُمَّةً وحدَه، وفردًا حتَّى نزلَ لَحْدَه. أَخْمَلَ من القُرَناءِ كلَّ عَظِيم، وأَخْمَدَ من أهل الفناءِ كلَّ قديم، ولم يكن منهم أحد إلاّ يُجْفِلُ عنه إجفالَ الظَّليم، ويَتَضاءلُ لديه تَضاؤُلَ الغَرِيم. جاء في عصرٍ مأهولٍ بالعلماء، مشحونٍ بنجوم السماء، تَمُوجُ في جانبَيهِ بحورٌ خَضَارِمُ، وتَطِيرُ بين خافِقَيهِ نُسُورٌ قَشَاعِمُ، وتُشْرِقُ في أنديتهِ بُدورُ دُجُنَّةٍ، وصدورُ أسِنَّةٍ، إلاّ أن صَبَاحَه طَمَسَ تلك النجوم،

وبَحْرَهُ طَمَّ عل تِلكَ الغُيُوم، ففَاءَتْ سُمْرَتُه على تلك التَّلاعِ، وأطلَّتْ قَسورتُه على تلك السِّبَاعِ، تُمَّ عُبِّئَتْ له الكتائبُ فحَطَّمَ صفوفَهَا، وخَطَمَ أُنوفَها، وابتلَعَ غَدِيرُهُ المطمئنُّ جَداولَها، واقتلَعَ طَوْدُهُ المُرْجَحِنُّ جَنادِلَها، وأخمدتْ أنفاسَهم رِيحُه، وأَكْمَدَتْ شَرَاراتِهم مصابيحُه، نَقَلَ عن الإجماع فمَنَ سِواهم مذاهبَهم المختلفةَ واستَحْضَرَها، ومَثَّل صُوَرَهم الذاهبةَ وَأَحْضَرها، فلو شَعَر أبو حنيفةَ بزَمانِه ومَلَكَ أمرَه لأَدْنَى عَصْرَهُ إليه مُقترِبًا، أو مالكٌ لأَجْرَى وراءَه أشهبَه ولو كَبَا، أو الشافعيُّ لقالَ: ليتَ هذا كان للأمِّ وَلَدًا ولَيتَني كنت له أخًا أو أبًا، أو الشيبانيُّ ابنُ حنبلٍ لما لامَ عِذَارَه إذا غَدا منه لفَرْطِ العَجبِ أشْيَبَا، لاَ بَل داودُ الظاهريُّ وسِنَان الباطنيُّ لظَنَّا تحقيقَه من مُنتَحَلِه، وابنُ حَزْمٍ والشَّهْرِستانيُّ لحَشَرَ كلٌّ منهما ذِكرَه أمَّةّ في نِحَلِه، والحاكمُ النَّيسابوري والحافظ السِّلَفي لأضافَه هذا إلى استدراكِه وهذا إلى رِحَلِه. تَرِدُ إليه الفتاوى ولا يَرِدُها، وتَفِدُ عليه فيُجِيب عليها بأجوبةٍ كأنَّهُ كان قاعدًا لها يُعِدُّهَا. ولقد تَضَافَرتْ عليه عُصَبُ الأعداءِ [فَأُقْحِمُوا] إذْ هَدَرَ فَحْلُه، وأُفْحِمُوا إذْ زَمزَمَ ليُجْنَى الشهدُ نَحْلُه، ورُمِيَ بالكبَائرِ، وتُرُبِّصَتْ به الدَّوائِرُ، وسُعِيَ به ليُؤْخَذَ بالجَرائِر، وحَسَدَه مَن لم يَنَل سَنَل سَعْيَه وكثر فَارتَابَ، ونَمَّ وما زادَ على أنَّه اغتابَ. وكان قبلَ مَوتِه قَد مُنِعَ الدَّواةَ والقَلَم، وطَبَعَ على قلبه منها طابعُ الألَمِ، فكان مبدأُ مَرَضِه ومَنْشَأُ عَرَضِه، حت نزل قِفارَ المقابر، وترك فِقَارَ المنابِر، وحَلَّ ساحةَ تُربِه ومَا يُحاذِر، وأخذَ قِفارَ المقابر، وتركَ فِقَارَالمنابِر، وحَلَّ ساحةَ تُربِه ومَا يُحاذِر، وأخذَ راحةَ قَلبِه من اللائمِ والعاذِر، فماتَ لا بل حَيِي، وعُرِفَ قَدْرُه لأنَّ مِثلَه رُئِي.

وكان يومُ دَفْنِه يَومًا مشهودًا ضاقت به بواطن البلدةُ وظواهِرُها، وتُذُكِّرَتْ به أوائِلُ الرَّزايا وأوخِرُها، ولم يكن [أعظم منها] مُنذُ مِئِينَ سِنِينَ جنازة رُفِعَتْ على الرِّقَابِ، ووُطِئَتْ في زحَامِهَا الأَعقابُ، وسارَ مرفوعًا على الرُّءوس، متبوعًا بالنفوس، تَحْدُوهُ العَبَرات، وتَتْبَعُه الزَّفَرات. وكان في مَدَد ما يؤخذ عليه في مقاله ويُنْبَذُ في حُفْرةِ اعتقالِه، لا تَبرُد غُلَّة بالجمع بينه وبين خُصَمائه بالمناظرة، والبحثِ حيث العيونُ ناظرة، بل يَبدُر حاكمٌ فيحكمُ باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى أو بأشياءَ من نوعِ هذه البلوى، لا بعد إقامة بيّنةٍ ولا تقدُّمِ دعوَى، ولا ظهورِ حجّةٍ بالدليل، ولا وضوح محجَّةٍ للتأميل. كضَرائرِ الحسناءِ قُلنَ لِوُجْهِها ... حسَدًا وبُغضًا إنه لَدَميمُ كلُّ هذا لتبريزه في الفَضْل حيثُ قصَّرتِ النُّظَراءُ، وتَجلِّيْهِ كالمصباحِ إذْ أظلمت الآراءُ، وقيامِه في حُجَّةِ التتارِ، واقتحامِه، وسيوفُهم تتدفَّقُ لُجَّةَ البدار، حتَّى جَلَس إلى السلطان محمود غازان حيث تَجِم الأُسْدُ في آجامِها، وتَسقُط القلوبُ في دواخلِ أجسامِها، وتَجِدُ النارُ فتورًا في ضَرَمِها، والسيوفُ فرقًا فِي قَرَمِها، خوفًا من ذلك السَّبُعِ المغتال، والنمروذِ المختال، والأجل الذي لا يُدفَع بحيلةِ مُحتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجَهَه ودرأَ في نَحْرِه، وطَلَبَ منه الدُّعَا، فرفعَ يديه ودعَا، دُعاءَ مُنصفٍ أكثره عليه، وغازانُ يؤمِّنُ على دعائه وهو مُقبلٌ عليه. ثمَّ كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة، أعظم في صدرِ غازان والمُغَل من كلّ من طلعَ معه إليهم، وهم سلف العلماء في ذلك الصَّدْر، وأهل الاستحقاقِ لرِفعةِ القَدْر.

هذا مع ماله من جهادٍ في الله لم يُفزٍعْه فيه طلل الوشيج، ولم يُجزِعْه ارتفاع النشيج، مواقفُ حروبٍ باشرَها، وطوائفُ ضروبٍ عاشرَها، وبَوارِقُ صِفاحٍ كاشَرَها، ومضايقُ رِماحٍ حاشَرَها، وأصناف خُصوم اقتحمً معها الغمراتِ، وواكلَها مختلفَ الثَّمرات، وقَطَع جِدالَها قوِيُّ لسانِه، وجِلاَدَها شَبَا سِنانِه، قامَ بها وصابرَها، وبُلِىَ بأصاغرِها وقاسَى أكابرَها، وأهلِ بِدَعٍ قامَ في دِفاعِها، وجَهدَ في حَطِّ يَفَاعِها، ومخالفةِ لِمَلٍ بَيَّنَ لها خطأَ التأويلِ، وسَقَمَ التَّعليلِ، وأسكَتَ طَنِينَ الذُّباب في خياشيم رؤوسهم بالأضاليل، حتى ناموا في مراقدِ الخضُوع وقاموا وأرجلُهم تَتساقَطُ للوقوع، بأدِلَّةٍ أقطعَ من السيوف، وأجمعَ من السُّجُوف، وأجلى من فَلَقِ الصَّباح، وأجلبَ من فِلَقِ الرّماحِ. إلاّ أنَّ سابقَ المقدور أوقَعَه في خَلَلِ المَسَايِل، وخَطَأٍ خَطَل لا يأمَنُ فيه مع الإكثارِ قائِلٌ، وذلك على بعض سلفِ العلماء، وحَلِّه لقواعدَ كثيرةٍ من نواميس القدماء، وقِلَّةِ توقيرِه للكُبَراء، وكثرةِ تكفيره للفُقراء، وتزييفه لغالبِ الآراء، وتقريبه لجهَلَةِ العوامِّ وأهلِ المِراء، وما أفتَى به آخرًا في مسألتَي الزيارةِ والطلاق، وإذاعتِه لهما حتى تكلّم فيهما من لا دينَ له ولا خلاق، فسلّط ذُبالَ الأعداءِ على سَلِيطه، وأطلقَ أيديَ الاعتداءِ في تفريطِه، ولَقَّمَ نارَهم سَعَفَه، وأرَى أقساطهم سَرَفَه، فلم يَزَلْ إلى أن ماتَ عِرْضُه منهوبًا، وعَرْضُه مَوْهُوبًا، وصَفَاتُه تَتصدَّع، ورُفاتُه لا يتجمَّع، ولعلَّ هذا لخيرٍ أُريدَ به، وأُرِيغَ له لحُسنِ مُنقَلَبه. هذا مع ما جَمعَ من الورع، وما حازَه بحذافيرِ الوجود من الجود، كانت تأتيه القَناطيرُ المقنطرةُ من الذهب والفضة والخيلِ المُسَوَّمةِ والأنعام والحرثِ، فيَهَبُه بأجمعِه، ويَضعُه عند أْهل الحاجةِ في موضعِه، لا يأخذَ منه شيئًا إلا ليهبَه، ولا يَحفظُه إلاّ ليُذْهِبَه كُلَّه في سبيل البرّ،

وطريق أهلِ التواضع لا أهلِ الكِبْر. لم يَمِلْ به حُبُّ الشهوات، ولا حُبِّبَ إليه من ثلاثِ الدنيا إلا الصلوات. وما زال على هذا إلى أن صرعه أجلُه، وأتاهُ بشيرُ الجنة يستعجله، فانتقل إلى الله والظنُّ به أنَّه لا يُخجِلهُ. ولما قَدمَ غازانُ دمشقَ خرج ابن تيمية ـ رضي الله عنه ـ إليه في جماعة من صلحائهم القدوة الشيخ محمد بن قوام، فلمَّا دخلوا على غازانَ وكان ممّا قاله ابن تيمية للترجمان: قُلْ للقانِ: أنت تزعُم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمامٌ وشيخ ومؤذن على ما بلغَنا، فغَروتَنا، وأبوكَ وجَدُّك هُولاكو كانا كافرينِ وما عَمِلاَ الذي عملتَ، عَاهَدا فَوَفّيا، وأنتَ عاهدتَ فغدرتَ، وقُلتَ فما وفيتَ. وجرتْ له مع غازان وقطلوشاه ومولاي أمورٌ ونُوبٌ، قام فيها كلها لله، ولم يخشَ إلاّ اللهَ. أخبرنا قاضي القضاةِ أبو العباس ابن [صصري] أنهم لمَّا حضروا مجلسَ غازان قُدِّمَ لهم طعامٌ فأكلوا منه إلا ابنَ تيمية فقيل له: لِمَ لا تأكُلُ؟ قال: كيف آكلُ من طعامكم وكلُّه ممَّا نَهَبتُم من أغنامِ الناس، وطَبختُموه مما قطعتم من أشجار الناس. ثمَّ إن غازان طلبَ منه الدعاءَ، فقال: اللهمّ إن كنتَ تَعلمُ أْنه إنما يقاتل لتكون كلمةُ اللهِ هي العليا وجهادًا في سبيلك فان تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر فان تفعل به وتصنع، يدعو عليه وغازان يؤمن على دعائه ونحن نجمع ثباتنا خوفًا أن يُقتل فيطرطش بدمه. ثم لما خرجنا قلنا له: كدتَ تهلكنا معك ونحن ما نصحبك من هنا، قال: ولا أنا أصحبكم، فانطلقنا عُصبةً، وتأخر في خاصة من معه، تسامعت الخوانين والأمراء فأتوه من كل فج عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبركوا برؤيته، فأما هو فما

وصل إلا في نحو ثلثمائة فارس في ركابه، أما نحن فخرج علينا جماعة، فسلحونا. وكان قاضي القضاة أبو عبد الله الحريري يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟!. ثم بعد ذلك تمكن ابن تيمية رضي الله عنه في الشام حتى صار يَحلِق الرءوس ويضرب الحدود ويأمر بالقطع والقتل. ثم ظهر الشيخ نصر المنبجي واستولى على أرباب الدولة بالقاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية رضي الله عنه: إن نصرًا اتّحادي، وإنَّه ينصر مذهب ابن عربي وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائه سطر يُنكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال: هذا مبتدع، وأخاف على الناس شرَّه، فحسَّنَ القضاةُ للأمراء طلبَه إلى القاهرة، وأن يُعقد له مجلس، [فعُقد له مجلس] بدمشق، فلم يرضَ نصر المنبجي وقال لابن مخلوف: قل للأمراء: إن هذا يُخشَى الدولة منه، كما جرى لابن تومرت في بلاد المغرب فطُلِبَ من الافرم نائب دمشق، فعُقِد له مجلس ثانٍ وثالث، بسبب العقيدة الحموية، ثم سكنت القضية إلى أيام الجاشنكير، فأوهمه الشيخ أن ابن تيمية يُخرِجهم من الملك ويُقيم غيرَهم، فطُلِب إلى مصر، فتمانع نائب الشام، وقال: قد عُقِد له مجلسان بحضرتي وحضره القضاة والفقهاء، وما ظهر عليه شيء، فقال الرسول لنائب دمشق: أنا ناصح لك، وقد قيل إنه يجمع الناسَ عليك، وعقد لهم بيعة، فجزع من ذلك، وأرسله إل القاهرة في سنة خمس، وكتب معه كتابًا إلى السلطان، وكُتِب معه محضر فيه خطوط جماعة من القضاة وكبار الصلحاء والعلماء بصورة ما جرى في المجلسين، وأنه لم يثبت فيهما عليه شيء، ولا مُنِع من الإفتاء، فما التفت إلى شيء من

ذلك، وسُجِن بالإسكندرية مدةً، ثم عاد إلى دمشق. وحكى من شجاعته في مواقف الحرب نوبة شقحب ونوبة كسروان مالم يُسمع إلا عن صناديد الرجل وأبطالِ القتال وأحلاسِ الحرب، تارةً يباشر القتال، وتارةً يُحرِّض عليه. ولما جاء السلطان إلى شقحب لاقاه إلى قرن الحرَّة، وجعل يشجِّعه ويُثبِّته، فلما رأى السلطان كثرة التتار قال: يا لخالد بن الوليد فقال له: لا تقل هذا، وقل يا الله، واستغثْ بالله ربَّك، ووحِّدْه وحدَه تُنْصر، وقل: يا مالكَ يوم الدين إياك نستعين. ثم ما زال يُقبل تارةً إلى السلطان يُهدّئُهما ويَربِط جأشهما حتى جاءَ نصرُ الله والفتح. وحُكي أنه قال للسلطان: اثبُتْ فإنك منصور، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، فكان كما قال. قال الشيخ المقرئ عبد الله بن أحمد بن سعيد: مرضتُ بدمشق مرضًا شديدًا، فجاءني ابن تيمية رضي الله عنه، وجلس عند رأسي وأنا مُثقَل بالحمَّى والمرض، فدعا لي، ثم قال: جاءت العافية، فما كان إلا أن قام وفارقني، وإذا بالعافية قد جاءت، وشُفِيتُ لوقتي. وكان يجيئه من المال في كل سنة مالا يكاد يُحصى، فيُنفقه جمعه آلافًا ومئين، لا يلمس منه درهمًا بيده، ولا ينفقه في حاجةٍ له، وكان يعود المرضى، ويُشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق الناس، ويتألَّف قلوب الناس، ولا ينسب إلى باحثٍ لديه مذهبًا، ولا يحفظ لمتكلم عنده زلَّةً، ولا يشتهي طعامًا، ولا يمتنع من شيء منه، يأكل مما حضر، لا يتكدِّرُ صفوه، ولا يسأمُ عفوُه.

وآخر أمره أنه تكلَّم في مسألتي الزيارة والطلاق، فأُخِذ وسُجِن في قلعةِ دمشق في قاعة، فتوفي بها وصُلِّي عليه بالقلعة، ثم حُمِل على أصابع الرجال إلى جامع دمشق ضَحوةَ النهار، وصُلّي عليه، ودُفن بمقبرة الصوفية، وما وصل إلى قبرِه إلا وقت العصر، وخرج الناس من جميع أبواب البلد، وكانوا خلقًا لا يُحصيهم إلا الله تعال، وحُزِر الرجال بستين ألفًا والنساء خمسة لآلف، وقيل أكثر من ذلك. ورأيت له منامات صالحة. ورثاه جماعات من الناس بالشام وبمصر والعراق والحجاز والعرب من آل فضلٍ. هذا ما أورده شهاب الدين أحمد بن يحيى بن محمد الكرماني العمري الشافعي المعروف بابن فضل الله الدمشقي في كتابه «مسالك الأبصار في أخبار ملوك الأمصار». ونقلت عن «اتحاف النبلاء المتقين بإحْياء مآثر الفقهاء والمحدثين» للسيد البدر الكامل العلاّمة المعروف بإحياء المعارف إلى يوم القيامة، الفائح عَرْفه بين كل نجد وتهامة، القائم بأعباء الإيمان ثم الاستقامة، المضاهي بالسلف الصالح سيماءً وعلامة، المستمطر ببركاته إذا بخلت الغمامة، المقدم بفقاهته ونبهاته على أبي يعلى وابن قدامة، سيدنا الآتي ذكرة الشريف في الختام حُبّا وكرامه، طيَّب الله لياليه وأيامه، وأبقاه محروسًا عن الرزايا وحباه ما فيه السلامه. قال الحافظ ابن رجب الدمشقي: مكث الشيخ ـ أي: تقي الدين أبو العباس ـ في القلعة من شعبان سنة ست وعشرين إلى ذي القعدة سنة ثمان وعشرين، ثم مرض بضعة وعشرين يومًا، ولا يعلم أكثر الناس مرضه، ولم يفجأهم إلا موته.

وكانت وفاته في سحر ليلة الاثتين عشري ذي القعدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم به الحرس على الأبراج، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين التي من شأنها أَن تُفْتح أَوَّل النهار. وفتح باب القلعة. وكان نائب السلطنة غائبًا عن البلد، فجاء الصاحب إِلى نائب القلعة، فعزاه به وجلس عنده، واجتمع عند الشَّيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرَّحمن: أَنَّه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إِلى قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزُّرَعيّ الضرير ـ وكان الشَّيخ يحب قراءتهما ـ فابتدءا من سورة الرَّحمن حتَّى ختما القرآن. وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشَّيخ، فشاهدوه ثمَّ خرجن، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من كبار الصالحين وأهل العلم، كالمزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القعلة بالرجال وما حولها إِلى الجامع، فصلى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمَّد بن تمام. وضجَّ الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم. وأخرج الشَّيخ إِلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أَو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إِلى

اللبادين (¬1) والفوارة. وكان الجَمْع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشَّيخ في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إِلاَّ بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف. فلما أذن المؤذن للظهر أقيمت الصلاة عل السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثمَّ صلوا على الشَّيخ. وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء ودعاء، وتهليل وتأسُّف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إِلى المقبرة يدعين ويبكين أَيضًا. وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إِلاَّ القليل من الضعفاء والمخدرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنازة أهل السنة. فبكى الناس بكاء كثيرًا عند ذلك. وأخرج من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرءوس، يتقدم تارة، ويتأخر أخرى. وخرج الناس من أبواب الجامع كلها وهى مزدحمة. ثمَّ من أبواب المدينة كلها، لكن كَانَ المُعْظم من باب الفرج، ومنه خرجت الجنازة، وباب الفراديس، وباب النصر، وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل. وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين عبد الرَّحمن. ودفن وقت العصر أَو قبلها بيسير إِلى جانب أخيه شرف الدين ¬

_ (¬1) في "الذيل": "الميادين".

عبد الله بمقابر الصوفية وقت العصر، وحُزِر الرجال بستين ألفًا وأكثر، إِلى مائتى ألف، والنساء بخمسة عشر ألفًا، وظهر بذلك قول الإمام أحمد بن حنبل «بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز». وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إِلى زيارة قبره إيامًا كثيرة، ليلاً ونهارًا، ورُئيت له منامات كثيرة صالحة. ورثاه خلق كثير من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة وتأَسَّف المسلمون لفقده. رضي الله عنه ورحمه، وغفرله. وصُلّي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أَنَّه نودى بأقصى الصين للصلاة عليه يوم جمعة «الصلاة على ترجمان القرآن». وقد أفرد الحافظ أَبو عبد الله محمد بن عبد الهادي له ترجمة في مجلَّدة، وكذلك أَبو حفص عمر بن علي البزار البغدادي في كراريس. انتهى ما قاله ابن رجب الحافظ مختصرًا. وقال السيد البدر في «الاتحاف»: وكذلك (¬1) الشيخ مرعي وسماها: «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية» وغيره من علماء السنة. وكذلك الإمام الحجة القدوة شمس الدين محمد الذهبي، أفرد له ترجمة وسماها «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» قاله ابن الوردي في «تاريخه». ¬

_ (¬1) يعني: ممن ألف في ترجمة الشيخ -رحمه الله-.

وكذلك العلامة صفي الدين أحمد البخاري نزيل نابلس سماها «القول الجلي في مناقب ابن تيمية الحنبلي»، وقرض عليها العلامة مفتي القدس محمد التافلاتي، ومحدث الشام محمد الكزبري الشافعي ـرضي الله عنه وعنهم وعنا ـ. وقال: ومن مصنفاته في التفسير: قاعدة [في] الاستعاذة. وقاعدة في البسملة [و] الكلام على الجهر بها، وقاعدة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}، وقطعة كبيرة من سورة البقرة في قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ثلاث كراريس، وفي قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} كراسين، وفي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ثلاث كراريس. وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} كراسة. آية الكرسي، كراسان، وفي قوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ست كراريس؛ وفي قوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} عشر كراريس، وغير ذلك من سورة آل عمران، تفسير المائدة مجلد. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ثلاث كراريس. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} سبع كراريس. سورة يوسف، مجلد كبير. سورة النور، مجلد كبير. سورة [العلق] وأنها أوّل سورة نزلت، مجلد. سورة لم يكن. سورة الكافرون. سورة تبت والمعوّذتين، مجلد. سورة الإخلاص، مجلد. ومن كتب الأصول: الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية، أربع مجلدات. مما أملاه في الجب ردًّا على تأسيس التقديس. شرح أوّل المحصّل، مجلد. شرح بضْعَ عشرةَ مسألة من الأربعين للإمام فخر الدين. تعارض العقل والنقل، أربع مجلدات. جواب ما أورده كمال الدين ابن الشريشي، مجلد. الجواب الصحيح، ردًّا على النصارى،

أربع مجلدات. منهاج الاستقامة. شرح عقيدة الأصفهاني مجلد. شرح أوّل كتاب الغَزْنوي في أصول الدين، مجلد. الردّ على المنطق، مجلد. ردّ آخر لطيف. الردّ على الفلاسفة، أربع مجلدات. قاعدة في القضايا الوهمية، قاعدة في قياس مالا يتناهى، جواب الرسالة الصفدية. جواب في [نقض] قول بعض الفلاسفة: إن معجزات الآنبياء عليهم السلام قوى نفسانية، مجلد كبير. إثبات المعاد والردّ على ابن سينا. شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإمام أحمد رضي الله عنه في الأصول. ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات، مجلدات. قاعدة في الكليات، مجلد لطيف. الرسالة القبرصية. الرسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور. الرسالة البعلبكية. الرسالة الأزهرية. القادرية. البغدادية. أجوبة القرآن والنطق (¬1). إبطال الكلام النفساني أبطله من ثمانين وجهًا. جواب مَن حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت. إثبات الصفات والعلو والاستواء مجلدان. المراكشية. صفات الكمال والضابط [فيها]. جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء. جواب مَن قال: لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه. أجوبة كون العرش والسموات كريَّة وسبب قصد القلوب جهة العلو. جواب كون الشيء في جهة العلو مع كونه ليس بجوهر ولا عرض معقول أو مستحيل. جواب هل الاستواء والنزول حقيقة؟ وهل لازم المذهب مذهب سماه الإربلية. مسألة النزول واختلافه باختلاف وقته وباختلاف البلدان والمطالع، مجلد لطيف. شرح حديث النزول، مجلد كبير. بيان حل إشكال ابن حزم الوارد على الحديث. قاعدة في قرب الرب من عابديه وداعيه، مجلد. الكلام على ¬

_ (¬1) فى الوافي: الشكل والنقط.

نقض المرشدة. المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحادية والحلولية. ما تضمنه فصوص الحكم. جواب في لقاء الله. جواب في رؤية النساء ربهنّ في الجنة. الرسالة المدنية في إثبات الصفات النقلية. الهلاوونية. جواب سؤال ورَدَ على لسان ملك التتار، مجلد. قواعد في إثبات الرد على القدرية والجبرية، مجلد. الرد على الرافضة والإمامية على ابن مطهر الحلي الخبيث. أربع مجلدات. جواب في حق إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة. شرح حديث «فحَجَّ آدم موسى». تنبيه الرجل الغافل على تمويه المجادل، مجلد. تناسي الشدائد في اختلاف العقائد، مجلد. كتاب الإيمان، مجلد. شرح حديث جبريل في حديث الإيمان والإسلام، مجلد. عصمة الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغونه. مسألة في العقل والروح. مسألة في المقربين: هل يسألهم منكر ونكير. مسألة هل يعذب الجسد مع الروح في القبر. الرد عى أهل الكسروان، مجلدان. في فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على غيرهما. قاعدة تفضيل معاوية رضي الله عنه تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس. مختصر في كفر النصيرية. في جواز قتال الرافضة، كراسة. في بقاء الجنة والنار وفي فنائهما [ورد عليه منها] تقي الدين السبكي. ومن كتب أصول الفقه: قاعدة غالبها أقوال الفقهاء، مجلدان. قاعدة كل حمد وذم من الأقوال والأفعال لا يكون إلاّ بالكتاب والسنة. شمول النصوص للأحكام، مجلد لطيف. قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام. جواب في الإجماع والخبر المتواتر. قاعدة في كيفية الاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع. في الرد على من قال إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ثلاث مصنفات. قاعدة فيها يظن من تعارض النص

والإجماع. مواخذة على ابن حزم في الإجماع. قاعدة في تقرير القياس. قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام. رفع الملام عن الأئمة الأعلام. قاعدة في الاستحسان. وفي وصف العموم والالحاق والإطلاق. قاعدة في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم. هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين. جواب في ترك التقليد. فيمن يقول مذهبي النبي صلي الله عليه وسلم وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة. جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا. جواب تقليد الحنفيّ الشافعي في [الجمع] للمطر والوتر. الفتح على الإمام في الصلاة. تفضيل قواعد مالك وأهل المدينة. تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم. قاعدة في تفضيل الإمام أحمد. جواب هل كان النبي صلي الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًا. جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبِّدًا بشرع مَنْ قبله. قواعد أنّ النّهي يقتضي الفساد. ومن كتب الفقه: شرح المحرّر في مذهب أحمد رضي الله عنه، ولم يبيض، شرح العمدة لموفق الدين، أربع مجلدات. جواب مسائل وردت من أصفهان. جواب مسائل وردت من الصلت. مسائل من بغداد. مسائل وردت من زرع. مسائل وردت من طرابلس. قاعدة في المياه والمائعات وأحكامها. مسائل وردت من الرحبة. أربعون مسألة [لقبت] الدرة المضية في فتاوى ابن تيمية. الماردانية. الطرابلسية. قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه. قواعد في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح. جواز الاستجمار مع وجود الماء. نواقض الوضوء. قواعد في عدم نقضه بلمس النساء. التسمية على الوضوء. خطأ القول بجواز المسح على الخفين. جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف. وفيمن لا يعطي أجرة الحمام. تحريم

دخول النساء الحمام بلا مئزر. في الحمام والاغتسال. وذم الوسواس. جواز طواف الحائض. تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر. كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها. الكلم الطيب في الأذكار. كراهية تقديم بَسط سجادة المصلي قبل مجيئه في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة، في الصلاة بعد أذان الجمعة. القنوات في الصبح والوتر [قتل] تارك المباني وكفره. الجمع بين الصلاتين في السفر. [فيما يختلف حكمه بالسفر] والحضر. أهل البدع: يصلي خلفهم صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض. الصلوات المبتدعة. تحريم السماع. تحريم الشبابة. تحريم اللعب بالشطرنج. تحريم الحشيشة القنبية ووجوب الحد عليها وتنجيسها. النهي عن المشاركة في أعياد النصارى واليهود وإيقاد النيران في الميلاد ونصف شعبان وما يُفعل في عاشوراء من الحبوب. قاعدة في مقدار الكفارة باليمين. وفي أن المطلقة بثلاثة لا تحل إلاّ بنكاح زوج ثان. بيان الحلال والحرام في الطلاق. جواب مَن حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ثم طلق ثلاثًا في الحيض. الفرق المبين بين الطلاق واليمين. لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف. كتاب التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق. الطلاق البدعي لا يقع. مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك. مناسك الحج. في حجة النبي صلي الله عليه وسلم. في العمرة المكية. في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة وما يلبس المحرم وزيارة الخليل عليه السلام عقيب الحج. زيارة البيت المقدس مطلقًا. جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال الغيب ولا أبدال. جميع أيمان المسلمين مكفَّرة. الكتب في أنواع شتى: جمع بعضُ الناس فتاويه بالديار المصرية

مدّة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلد. الكلام على بطلان الفتوة المصطلحة بين العوام، وليس لها اصل متصل بعلي رضي الله عنه. كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية. [بطلان] ما يقوله أهل بيت الشيخ عدي. النجوم: هل لها تأثير عند القران والمقابلة وفي الكسوف: هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة، مجلد تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتيم. إبطال الكيميا وتحريمها ولو صحت وراجت. وكتاب السياسة الشرعية، وكتاب التصوف، وكتاب الإستقامة في مجلدين. وكتاب تلبيس الجهمية في تأسيس كلامهم البدعية. في ست مجلدات. وكتاب المحنة المصرية. في مجلدين. وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. بيان الدليل على بطلان التحليل. الرد على الإخنائي في مسألة الزيارة. طهارة بول ما يؤكل لحمه. الصارم المسلول على منتقص الرسول. كتاب اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. الرد على البكري في مسألة الاستغاثة. التحرير في مسالة حفير. مجلد. في مسألة من القسمة كتبها اعتراضًا على الخويي في حادثة حكم فيها. الفرقان بين الحق والبطلان. هذا ما في «الاتحاف» مع تقديم وتأخير وزيادات قليلة. وذكر ابن فضل الله الدمشقي ـ وكان أعرف الناس بالتاريخ ـ وكثير من مصنفاته ما بُيِّضت. وقال الحافظ ابن رجب ـ رضي الله عنه ـ: وأما تصانيفه فهي أشهر من أن تُذكر، وأعرف من أن تُنكر. سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار وقد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن لأحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدِّ المعروف منها ولا ذكرها.

وقال الصلاح الكتبي: وله أجوبه وسؤالات كان يسأل بها نثرًا فيجيب نظمًا، وليس هذا محل إيراد ذلك، وأشياء لم يصل ذكرها إلينا، ولا أسماءها علينا. ومن نظمه على لسان الفقراء المجردين: والله ما فقرنا اختيار ... وإنما فقرنا اضطرار جماعة كلنا كُسالى ... وأكلنا ما له عيار تسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار ولبعضهم في مرثيته: تقي الدين لما مات أضحت ... لك الدنيا تصيح بانتحاب وكنت البحر فوق الأرض ... تمشي فعاد البحر من تحت التراب وقال الفقيه الأديب المؤرخ زين الدين عمر بن الوردي في «تاريخه»: قد رثاه جماعة ورثيته انا بمرثية على حرف الطاء، فشاعت واشتهرت، فطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي: عثا في عرضه قومٌ سلاطٌ ... لهم من نثر جوهره التقاطُ تقي الدين أحمد خيرُ حبرٍ ... خروق المعضلات به تُخاط توفّي وهو محبوسٌ فريدٌ ... وليس له إِلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قضى لألفوا ... ملائكةَ النعيمِ به أَحاطوا قضي نحبًا وليس له قرينٌ ... ولا لنظيره لُفَّ القِماط

فتىً في علمه أَضحى فريدًا ... وحلُّ المشكلات به يُناط وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطوا وكان الجن تَفْرق من سَطَاهُ ... بوعظٍ للقلوب هو السِّياط فيالله ما قد ضمَّ لحدٌ ... وياللهِ ما غطَّى البلاط هم حسدوه لمّا لم ينالوا ... مناقبه فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كُسالى ... ولكن في أَذاه لهم نشاط وحَبْسُ الدُّرِّ في الأَصداف فخر ... وعند الشيخ بالسِّجْن اغتباط بآل الهامشي له اقتداء ... فقد ذاقوا المَنُون ولم يُواطوا بنو تيميةٍ كانوا فبانوا ... نجوم العلم أَدركها انهباط ولكن يا ندامة حابسيه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخباط ألم يك فيكم رجلٌ رشيد ... يرى سَجْن الإمام فيُسْتَشَاط إِمام لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباط ولا جاراكم في كسب مالٍ ... ولم يُعهد له بكم اختلاط ففيم سجنتموه وغظتموه ... أَما لجزا أَذيته اشتراط وسَجْن الشَّيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لِقَدْر مثلكم انحطاط أما والله لولا كتم سري ... وخوف الشر لا نحل الرباط

وكنتُ أَقولُ ما عندي ولكن ... بأَهل العلم ما حَسُن اشتطاط فما أحد إِلى الإنصاف يدعو ... وكلّ في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... وننبئكم إذا نُصِبَ الصِّراط فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أَردتم أَن تُعاطوا وحلوا واعْقِدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانطوى ذاك البساط تمت القصيدة البديعة، الفائقة في تلك الصنيعة. ولا أدري ما حاك مثلها شعراء الإسلام والشريعة! وقد ختمنا ترجمة شيخ الإسلام، على هذه القصيدة البديعة النظام، ومن أراد الاطلاع والكشف التمام على ما قال العلماء الأعلام، في مدائح هذا القدوة الإمام، فليسرِّح الطرف في «اتحاف النبلاء» للسيد البدر الهادي إلى دار السلام، فإنه قضى الوطر عن سرد الأقوال والكلام، ولا يفتى وفي المدينة مالكٌ إمام، فجزى الله خير الجزاء حيث قطع ببيانه ألْسنة الليام، الواقعة في حصائد الطعن عليه والملام. هذا والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفوض الأمر إلى الله الملك العلام، وثلج فواده بالذكر الحسن للبررة الكرام.

العلاَّمة/ صدِّيق حسن خان القِنَّوْجي (1307) - أَبْجدُ العُلومِ - التَّاجُ المكلّل

73 - أبجد العلوم

أَبْجَدُ العُلُوم (¬1) شيخ الإِسلام تقي الدين أَبو العَبَّاس، أَحمد بن المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات عبد السَّلام بن عبد الله بن أَبي القاسم بن تَيْمِيَّة الحَرَّاني الحنبلي. مولده - رحمه الله ورحمنا به (¬2) -، بحرّان يوم الاثنين عاشر ربيع الأّول سنة إِحدى وستين وست مئة، هاجر والده به وبإخوته إِلى الشَّام من جَورْ التتر، وعُني الشَّيخ تقي الدين بالحديث، ونسخ جملةً، وتعلّم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، ثمَّ أَقبل على الفقه، وقرأ أَيامًا في العربية على ابن عبد القوي، ثمَّ فهمها، وأَخذ يتأمَّل كتاب سيبويه حتّىَ فهمه، وبرع في النحو، وأَقبل على التّفسير إقبالاً كلِّيًّا حتَّى سبق فيه، وأَحكم أُصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصوُّن تامٍّ، وعفاف وتعبُّد، واقتصاد في الملبس والمأْكل. وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيناظر ويفحم الكبار ويأتي بما يتحيّرون منه، وأَفتى وله أَقل من تسع عشرة سنة، وشرع في الجمع والتأليف، ومات والده وله إِحدى وعشرون سنة، وبعُدَ صيته في العالم فطبَّق ذكره الآفاق وأَخذ في تفسير الكتاب العزيز أَيام الجُمَع على ¬

_ (¬1) (3/ 130 - 138) وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1398، بعناية عبد الجبار زكَّار. (¬2) كذا في الأصل، وهو من التوسل الممنوع.

كرسي من حفظه فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكذلك الدرس بتؤدة وصوت جَهْوري فصيح يقول في المجلس أَزيد من كراسين، ويكتب على الفتوى في الحال عدة أََوصال بخط سريع في غاية التعليق والإغلاق. قال الشَّيخ العلاّمة كمال الدين بن الزَّمْلَكاني عَلَم الشافعية في خطِّ كَتَبَه في حق ابن تَيْمِيَّة: كَانَ إِذا سئلِ عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أَنَّه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم بأّن لا يعرفه أَحد مثله، وكانت الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء. قال: ولا يعرف أَنَّه ناظر أَحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كَانَ من علوم الشرع أَو غيرها إِلاَّ فاق فيه أَهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها. انتهى كلامه. وكانت له خبرة تامَّة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الَّذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى «الكتب السِّتَّة» و «المسند» بحيث يصدق عليه أَن يقال: «كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث»، ولكن الإحاطة لله غير أَنَّه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السّواقي. أّمّا التفسير فسلم إِليه، وله في استحضار الآيات للاستدلال قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه بيَّن خطأّ كثير من أَقوال المفسرين، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير أَو من الفقه أَو من الأَصلين أَو من الرّدِّ على الفلاسفة والأَوائل نحوًا من أَربعة كراريسِ، وما يبعد أَنّ تصانيفه إِلى الآن تبلغ خمسمائة مجلّدة، وله في غير مسأَلة مصنَّف مفرد كمسألة التحليل سماه «بيان الدليل علي إبطال التحليل» مجلد وغيرها.

وله مصنف في الرد على ابن مطهر الرافضي الحِلِّي في ثلاث مجلدات كبار سماه «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية». وتصنيف في الرد علي «تأْسيس التقديس» للرازي في سبع مجلدات. وكتاب في الرد علي المنطق، وكتاب في «الموافقة بين المعقول والمنقول» في مجلدين، وقد جمع أَصحابه من فتاويه ست مجلدات كبار، وله باعٍ طويل في معرفة مذاهب الصَّحابة والتابعين قلَّ أَنْ يتكلَّم في مسألة إِلاَّ ويذكر فيها مذاهب الأَربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنّف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. ولع مصنّف سماه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية». وكتاب «رفع الملام عن الأَئمة الأَعلام». وبقي عدّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأُمور لم يُسبق إِليها، وأَطلق عبارات أَحجم عنها الأَولون والآخرون، وهابوا وجَسَر هو عليها، حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الَّذي أَدى إِليه اجتهاده، وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال. وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية. وكَانَ معظِّمًا لحرمات الله، دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أَوراد وأَذكار يُديمها، وله من الطرف الآخر محبون من العلمماء والصلحاء والجند والأُمراء والتجار والكبراء، وسائر

العامة تحبه، وبشجاعته تُضْرب الأَمثال وببعضها يتشبه أَكابر الأَبطال، ولقد أَقامه الله في نوبة غازان والتقى أَعباء الأَمر بنفسه واجتمع بالملك مرتين، وبخطلو شاه وبولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجرأَته على المغل. قال القاضي المنشىء شهاب الدين أَبو العَبَّاس أَحمد بن فضل الله في ترجمته: جلس الشَّيخ إِلى السلطان محمود غازان حيث تجم الأُسد في آجامها، وتسقط القلوب دواخل أَجسامها، وتجد النار فتورًا في ضَرَمها والسيوف فرقًا في قرمها خوفًا من ذلك السبع المغتال والنمروذ المحتال، والأجل الَّذي لا يدفع بحيله محتال فجلس إِليه وأَومأ بيده إِلى صدره وواجهه ودرأ في نحره، وطلب منه الدعاء. فرفع يديه ودعا دعاء منصف أَكثره عليه، وغازان يؤمن علي دعائه. وكتب ابن الزَّمْلَكاني على بعض تصانيف ابن تَيْمِيَّة هذه الأبيات: ماذا يقولٌ الواصفونَ له ... وصِفاته جلَّت عن الحَصْرِ هو حُجّة لله قاهرةٌ ... هُو بيننا أُعجوبة العصر هو آية في الخَلْق ظاهِرَةٌ ... أنوارها أرْبَتْ على الفَجْر قال القاضي أَبو الفتح بن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تَيْمِيَّة رأَيت رجلاً كل العلوم بين عينيه يأْخذ ما يريد ويدع ما يريد. وحضر عنده شيخ النحاة أَبو حيَّان وقال: ما رأيت عيناي مثله. وقال فيه على البديهة أَبياتًا منها: قامَ ابنُ تَيميَّةٍ في نَصْر شِرعَتِنَا ... مَقامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إذْ عَصَتْ مُضَرُ

فأَظْهَرَ الحقَّ إذْ آثارُهُ دَرَسَتْ ... وأَخمدَ الشَّرَّ إذ طارتْ له الشَّرَرُ كُنّا نُحدَّث عن حَبْرٍ يجيءُ فهَا ... أنتَ الإِمامُ الذي قَد كان يُنتظر قال ابن الوردي في «تاريخه» بعد ذلك كلّه: هوأّكبر من أَن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أَني ما رأَيت بعيني مثله ولا رأَى هو مثل نفسه في العلم، وكان فيه قلَّة مداراة وعدم تؤدة غالبًا، ولم يكن من رجال الدول ولا يسلك معهم تلك النواميس، وأَعان أَعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا يحتمله عقول أَبناء زماننا ولا علومهم، كمسأَلة: التكفير في الحلف بالطلاق، ومسأَلة: أَنَّ الطلاق بالثلاث لا يقع إِلاَّ واحدة، وأَنَّ الطلاق في الحيض لا يقع. وساس نفسه سياسة عجيبة فحبس مراتٍ بمصر ودمشق والإسكندرية، وارتفع وانخفض واستبد برأْيه وعسى أَنْ يكون ذلك كفارة له، وكم وقع في صعب بقوة نفسه وخلصه الله، وله نظم وسط، ولم يتزوج ولا تسرَّى ولا كَانَ له من المعلوم إِلاَّ شيء قليل، وكان أَخوه يقوم بمصالحه، وكان لا يطلب منهم غداء ولا عشاء غالبًا، وما كانت الدنيا منه على بال، وكان يقول في كثير من أَحوال المشايخ إِنها شيطانية أَو نفسانية فينظر في متابعة الشَّيخ الكتاب والسنة فإِن كَانَ كذلك فحاله صحيح وكشفه رحماني غالبًا وماهو بالمعصوم، وله في ذلك عدة تصانيف تبلغ مجلدات، من أُعجب العجب، وكم عوفي من صرع الجني إنسان بمجرد تهديده للجني، وجَرَت له في ذلك فصول ولم يفعل أَكثر من أَن يتلوَ آيات ويقول: إِن لم تنقطع عن هذا المصروع وإِلاَّ عملنا معك حكم الشرع وإِلاَّ عملنا معك ما يرضي الله ورسوله. وفي آخر الأَمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأَنَّ السفر

وشد الرحال لذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تُشَد الرِّحال إِلاَّ إِلى ثلاثة مساجد. مع اعترافه بأَنَّ الزيارة بلا شد رحل قربة، فشنعوا عليه بها، وكتب فيها جماعة بأَنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوَّة فيكفر بذلك. وأَفتى عدّة بأنه مخطىءٌ بذلك خطأَ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة وكبرت القضية فأُعيد إِلى قاعة بالقلعة فبقي بضعة وعشرين شهرًا، وآل الأَمر إِلى أَن مُنِع من الكتابة والمطالعة، وما تركوا عنده كراسًا ولا دواة، وبقي أَشهرًا على ذلك، فأَقبل على التلاوة والتهجد والعبادة حتَّى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناسَ إلاَّ نعيُه وما علموا بمرضه فازدحم الخلق عند باب القلعة وبالجامع زحمة صلاة الجمعة وأَرجح، وشيَّعه الخلق من أَربعة أَبواب البلد، وحمل على الرؤوس، وعاش سبعًا وستين سنة وأشهرًا، وكان أَسود الرأْس قليل شيب اللحية ربعة جهورى الصوت أَبيض أَعْيَن. قلت: تنقَّص مرة بعض النّاس من ابن تَيْمِيَّة عند القاضي ابن الزَّمْلَكاني وهو بحلب وأَنا حاضر فقال: ومن يكون مثل الشَّيخ تقي الدين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه، والله لولا تعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب. وهذه نبذة من ترجمة الشَّيخ مختصرة أكثرها من «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» للإِمام الحافظ شمس الدِّين محمَّد الذَّهَبيّ - رحمه الله -. قال ابن الوردي: وفيها أي سنة (728) ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة توفي شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة - رضي الله عنه - معتقلاً بقلعة دمشق، وغُسل وكُفن وأُخرج وصلَّى عليه أولاً بالقلعة الشَّيخ محمَّد بن تمام، ثمَّ بجامع دمشق بعد الظهر، [وأُخرج] من باب الفرج، واشتدّ

الزحام في سوق الخيل، وتقدّم عليه في الصلاة هناك أَخوه، وأَلقى الناس عليه مناديلهم وعمائمهم للتبرُّك! وتراصّ الناس تحت نعشه، وحُزِرت النساء بخمسة عشر ألفا، وأَما الرجال فقيل: كانوا مائتي أَلف. وكَثُر البكاء عليه، وخُتمت له عدة ختم، وتردد الناس إِلى زيارة قبره أَيامًا، ورؤيت له منامات صالحة ورثاه جماعة. قلت: ورثيته أَنا بمرثية على حرف الطاء؛ فشاعت واشتهرت، وطلبها مني الفضلاء والعلماء من البلاد وهي: عَثَا في عِرْضه قومٌ سِلاطٌ ... لهم من نَثْر جَوْهره التقاطُ تقي الدِّين أَحمد خيرُ حبْرٍ ... خُروق المعضلاتِ به تُخاطُ توفّي وهو محبوسٌ فَريدٌ ... وليس له إِلى الدّنيا انبساطُ ولو حَضَروه حينَ قَضَى لأَلْفَوا ... ملائكةَ النَّعيمِ به أَحاطُوا قضى نحبًا وليس له قَرِينٌ ... ولا لِنَظيره لُفَّ القِمَاطُ فتىً في علمه أَضْحى فريدًا ... وحلُّ المشكلاتِ بِه يُناطُ وكان إِلى التُّقى يَدْعو البرايا ... وينهى فِرْقةً فسقوا ولاطُوا وكان الجنُّ تَفْرق من سَطَاه ... بوعظٍ للقلوبِ هو السِّياطُ فيالله ما قد ضمَّ لحدٌ ... ويالله ما غطَّى البلاطُ! هم حَسَدوه لمّا لَمْ يَنَالوا ... مناقبه فقد مَكَروا وشاطُوا وكانوا عن طرائقِِه كُسالى ... ولكنْ في أَذاه لهم نَشَاطُ

وحَبْسُ الدُّرِّ في الأَصداف فخرٌ ... وعند الشّيخ بالسّجن اغْتِباطُ بآلِ الهاشميِّ له اقتداءٌ ... فقد ذاقوا المنُونَ ولم يُواطوا بنو تيميَّة كانوا فبانوا ... نجوم العلم أَدركها انهباطُ ولكن يا ندامةَ حَابِسيه ... فشكّ الشِّرك كان به يُمَاطُ ويا فرح اليهودِ بما فَعَلْتم ... فإن الضدّ يُعْجبه الخباطُ ألم يكُ فيكم رجلٌ رشيدٌ ... يرى سَجْنَ الإمام فَيُستشاطُ إِمامٌ لا وِلاية كان يرجو ... ولا وقف عليه ولا رِباطُ ولا جاراكم في كَسْب مالٍ ... ولم يُعْهد له بكم اختلاطُ ففيم سَجَنْتموه وغظتموه ... أَمَا لجزا أَذَيَّته اشتراطُ وسَجْن الشيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لِقَدْر مثلكم انحطاطُ أَمَا والله لولا كَتْم سرِّي ... وخوف الشّرِّ لانحلَّ الرِّباطُ وكنتُ أَقول ما عندي ولكنْ ... بأَهل العلم ما حَسُنَ اشتطاطُ فما أَحد إِلى الإنْصَافِ يَدْعو ... وكلٌ في هواه له انخراطُ سيظهر قَصْدُكم يا حابسيه ... ونيَّتْكم إِذا نُصِبَ الصِّراطُ فهاهو مات عنكم واسترحتم ... فعاطُوا ما أَردتم أَن تُعاطُوا وحلّوا واعقدوا من غير ردٍّ ... عليكم وانْطَوى ذاك البِسَاطُُ وكنتُ اجتمعتُ به بدمشق سنة (715) بمسجده بالقصاعين، وبحثت

بين يديه في فقه وتفسير ونحو، فأَعجبه كلامي وقبَّل وجهي وإِني لأَرجو بركة ذلك، وحكى لي عن واقعته المشهورة في جبل كسروان، وسَهِرت عنده ليلة، فرأَيت من فتوَّته ومروءَته ومحبَّته لأهل العلم ولا سيما الغرباء منهم أمرًا كثيرًا، وصلَّيت خلفه التراويح في رمضان فرأَيت على قراءته خشوعًا، ورأيت على صلاته رِقَّةَ حاشيةٍ تأْخذ بمجامع القلوب. انتهى كلام الإمام زين الدٍّين عمر بن الوردي المتوفي بحلب سنة (749) رحمه الله تعالى بعبارته. وقد ذكرت لابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - ترجمة حافلة بالفارسية في كتابي «إتحاف النبلاء المتقين». وله قًدِّس سره تراجم كثيرة حسنة اعتنى بجمعها جمع جم من العلماء الفضلاء. منها كتاب «القول الجلي» في ترجمة شيخ الإِسلام تقي الدِّين بن تَيْمِيَّة الحنبلي للسيد صفى الدِّين أَحمد الحنفي البخاريّ نزيل نابُلُس - رحمه الله -، وهو جزء لطيف، وعليه تقريظ للشيخ العلاَّمة محمَّد التافلاني مفتي الحنيفة بالقدس الشريف، وتقريظ للشيخ عبد الرَّحمن الشَّافعي الدِّمشقي الشهير بالكزبري. ومنها كتاب «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة» للشيخ الإِمام العلاَّمة مرعي. ومنها كتاب «الرّد الوافر على من زعم أّنَّ من سمى ابن تَيْمِيَّة شيخ الإِسلام كافر» للشيخ الإِمام الحافظ أَبي عبد الله محمَّد بن شمس الدِّين أَبي بكر بن ناصر الدِّين الشَّافعيّ الدِّمشقي، وعليه تقريظ للحافظ ابن

حجر العسقلاني صاحب «فتح الباري»، وتقريظ لقاضي القضاة صالح بن عمر البلقيني - رحمه الله -، وتقريظ للشيخ الإِمام عبد الرَّحمن التفهني الحنفي وتقريظ للشيخ العلاَّمة شمس الدِّين محمَّد بن أَحمد البساطي المالكي، وتقريظ للقاضي الفهامة نور الدِّين محمود بن أَحمد العيني الحنفي وهذا أطول التقاريظ وهي الَّتي كتبوها في سنة (835)، وأَيضا عليه تقريظ للإمام العلاَّمة قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية أَبي العّبَّاس أَحمد بن نصر الله بن أَحمد البغدادي ثمَّ المصري كتبه في سنة (836) بصالحية دمشق بدار الحديث الأشرفية، وتقريظ لمحدّث حلب الحافظ الإِمام أَبي الوفا إِبراهيم بن محمَّد النعيم رضوان بن محمَّد بن يوسف العقبي المصري الشافعي، ثمَّ قرظ عليه غيرهم من سائر البلدان كالقاضي سراج الدِّين الحمصي الشَّافعيّ وخلق كثير. وكان قد نبغ شخص في المائة التاسعة يُسمّى علاء الدِّين محمَّد البخاريّ بدمشق تعصب على الشَّيخ وأَفتى بكفره وكفر من سمّاه شيخ الإِسلام، فردّ عليه في هذا الكتاب وعدّد من سمّاه شيخ الإِسلام من أئمة جميع المذاهب منهم خصومه كالسبكي وغيره، وبعد إتمامه أَرسله إِلى مصر فقرظ عليه من تقدم ذكرهم. وممن مدح شيخ الإٍسلام بقصائد حسنة طويلة الشَّيخ العلاَّمة إِسحاق ابن أَبي بكر الثركي المصري الفقيه المحدث نحم الدِّين أَبو الفضل أولها: يُعنِّفني في بُغيتي رُتبة العُلى ... جهولٌ أراه راكبًا غيرَ مَرْكبي إلى آخرها وهي نفسية جدًّا. وهذه التقاريظ المشار إِليها كلها بمنزلة (تراجم مفيدة) وهي تُفصح

عن علوِّ مكان شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة - رحمه الله - في العلوم والمعلومات. وقد أقرّ بفضله وبلوغه رتبة الاجتهاد من لا يحصى كثرة منهم الحافظ الذَّهَبيّ، والسيوطي، والسخاوي، والمزي، والحافظ ابن كثير، وابن دقيق العيد، والحافظ فتح الدِّين اليعمري المعروف بابن سيِّد النَّاس، والحافظ عَلَم الدِّين البرزالي وغير هؤلاء وقد ترجم له الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» والعلاّمة شهاب الدِّين بن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار»، والإِمام العلاَّمة ابن رجب الحنبلي في «طبقاته»، والعلامة ابن شاكر في «تاريخه» والإِمام العالم الحافظ شمس الدِّين ابن عبد الهادي في «تذكرة الحافظ» ترجمة حافلة جدًّا، وذكر الشَّيخ الفاضل صلاح الدِّين الكتبي في «فوات الوفيات» من تصانيفه كتبًا جمة لا يسع لها هذا الموضع. وأَثنى عليه شيخنا (¬1) العلاَّمة القاضي محمَّد بن عليّ الشَّوكاني في آخر «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» وشهد أَيضًا بفضله وعلمه وسعة اطلاعه وكمال ورعه مخالفوه. منهم الشَّيخ كمال الدِّين الزّمْلكاني، والشَّيخ صدر الدِّين بن الوكيل، والشَّيخ أَبو الحسن تقي الدِّين السبكي الرّاد عليه في مسئلة الزيارة. وقد ردّ هذا الرّد صاحب كتاب «الصارم المنكي على نحر ابن السبكي». وأَجمعُ له إِن شاء الله تعالى ترجمة حافلة مستقلة في كتاب مفرز (¬2) لذلك، فلنقتصر على هذا المقدار ههنا. ¬

_ (¬1) بالإجازة، وإلا فهو لم يلْقه. (¬2) كذا.

74 - التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول

التَّاج المُكلّل من جَوَاهِر مآثر الطِّراز الآخر والأوَّل (¬1) شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة أَحمد بن عبد الحليم بن عبد السَّلام ابن تَيْمِيَّة الحَرَّاني الدِّمشقي الحنبلي، تقي الدِّين أَبو العّبَّاس. قال الشوكاني في كتاب «شرح الصدور في تحريم رفع القبور»: هو الإِمام المحيط بمذاهب سلف هذه الأمة وخلفها، انتهى. وقال ابن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار»: هو العلاَّمة الحافظ المجتهد الحجة المفسر شيخ الإِسلام نادرة العصر علم الزهاد. وقال ابن رجب: هو الإِمام الفقيه المجتهد المحدّث المفسر الأصولي. وقال الحافظ شمس الدِّين بن عبد الهادي في «تذكرة الحفاظ»: هو شيخنا الإِمام الرباني، إِمام الأئمة ومفتي الأمة بحر العلوم سيد الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر قريع الدهر شيخ الإِسلام قدوة الأنام، علامة الزمان، ترجمان القرآن، علم الزهاد أوحد العباد، قامع المبتدعين علامة المجتهدين. وقال في «البدر الطالع»: شيخ الإِسلام، إِمام الأئمة المجتهد المطلق، ولد سنة (661). ¬

_ (¬1) (ص/ 420 - 431) تحقيق عبد الحكيم شرف الدين، ط. بومبي 1382.

قال ابن حجر في «الدرر»: نظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر وتقدم وصنف، ودرس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوّة الجنان، والتّوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف، انتهى. وأقول أنا: لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما أظن سمح الزمان ما بين عصري الرجلين بمن يشابههما أَو يقاربهما. قال الذَّهَبيّ ما ملخصه: كَانَ يُقْضَى منه العجب إِذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجّح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه، وما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات - الدالة على المسألة الَّتى يوردها - منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه. كانت السنة نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، قال: ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاث مائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إِلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحًا، سريع القراءة تعتريه حدّة؛ لكن يقهرها بالحلم. قال: ولم أرَ مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثره توجهه إِليه، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أَنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فإنه كَانَ بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث؛ وغضب وصدمة للخصوم، تزرع له عداوة في النفوس، ولولا ذلك لكان كلمة إجماع، فإِنَّ كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بأنه بحر لا ساحل له، وكنز ليس له نظير، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إِلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الذهبي: ولا كَانَ متلاعبًا بالدين ولا يتفرد بمسائل بالتشهِّي، ولا يطلق لسانه بما اتفق بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس، ويبرهن ويناظر أُسوة مَنْ تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه، وأَجران على إصابته. انتهى. قال الشوكاني: ومع هذا، فقد وقع له مع أهل عصره قلاقل وزلازل، وامتحن مرة بعد أخرى، وحبس حبسًا بعد حبس، وجرت فتن عديدة. والناس قسمان في شأنه: فبعض منهم مقصر به عن المقدار الَّذي يستحقه بل يرميه بالعظائم، وبعض آخر يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أَهل القسم الأوّل عليه. وهذه قاعدة مطَّردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ويفوق أَهل عصره ويدين بالكتاب والسنة، فإنه لا بد أَن يستنكره المقصِّرون، ويقع له معهم محنة [بعد محنة]. ثمَّ يكون أَمره الأعلى وقوله الأَوْلى، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين. ويكون لعلمه حظ لا يكون لغيره، وهكذا كان حل هذا الامام، فإنه بعد موته عرف النَّاس مقداره، واتفقت الألسن بالثناء عليه إِلاَّ من لا يعتد به، وطارت مصنفاته واشتهرت مقالاته، انتهى. وقد ترجم له جماعة منهم: شهاب [الدين] بن فضل الله العمري في «مسالك الأبصار» وكتب ترجمة حسنة طويلة عريضة كاملة، ومنهم العلاَّمة ابن رجب الحنبلي في «طبقاته» وأثنى عليه ثناءً كثيرًا، ومنهم ابن شاكر صاحب «فوات الوفيات»، ومنهم الشَّيخ مرعي وسماها «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإِسلام ابن تَيْمِيَّة»، ومنهم الحافظ ابن عبد الهادي ترجم له في مجلد مفرد، ومنهم أَبو حفص عمر بن عليّ البزاز البغدادي كتب كراريس في ترجمته، ومنهم العلاَّمة صفي الدِّين أَحمد البخاريّ نزيل نابلس وسماها «القول الجلي»، وقرظ عليه العلاَّمة مفتي القدس

محمَّد التافلاتي، ومحدّث الشَّام محمَّد الكزبري الشافعي، ومنهم العلاَّمة نجم الدِّين أَبو الفضل أنشد قصدة حسنة طويلة في مدحه وثنائه (¬1). قال ابن رجب - رحمه الله تعالى - في حقه: شيخ الإِسلام وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره، عني بالحديث. وسمع «المسند» مرات، والكتب السِّتَّة، و «معُجم الطَّبرانيّ الكبير»، ومالا يحصى من الكتب والأجزاء، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه جملة من الأجزاء، وأقبل على العلوم في صغره، وبرع في ذلك وقرأ في العربية، وأقبل على تفسير القرآن الكريم، فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض، والحساب، ونظر في علم الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك مع أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر في هذه الفضائل، وتأهل للفتوى والتدريس، وله دون العشرين سنة، وأفتى من قبل العشرين أيضًا، وأُمِدَّ بكثرة الكَتْب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم، وبُطْء النسيان، حتَّى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه. وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين، والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين الدين بن المرحل. وابن المنجَّى، وجماعة، وذكر درسًا عظيمًا في البسملة - وهو مشهور بين الناس - وعظمه الجماعة الحاضرون، وأثنوا عليه ثناءً كثيرًا. قال الذَهبيّ: وكان الفزاري يبالغ في تعظيمه، وذكر على الكرسي يوم جمعة شيئًا من الصفات، فقام بعض المخالفين، وسعوا في منعه من الجلوس، فلم يمكنهم ذلك، وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخويي: أَنا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل.

على اعتقاد الشَّيخ تقي الدين، فعوتب في ذلك، فقال: لأنه ذهنه صحيح، وموادَّه كثيرة. فهو لا يقول إِلاَّ الصحيح. وقال الشَّيخ شرف الدين المقْدِسِيّ: أَنا أرجو بركته ودعاءه، وهو صاحبي وأخي. ذكر ذلك البزالي في «تاريخه»، ولم يزل في علو وازدياد من العلم والقدر إِلى آخر عمره. وقال الذَّهبيّ: شيخنا وشيخ الإِسلام، فريد الزمان علمًا ومعرفة، وشجاعة وذكاء، وتنويرًا إلهيًا، وكرمًا ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، ونظر في الرجال والطبقات، وحصل مالم يحصله غيره. وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر إِلى مواقع الإشكال ميال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إِليها. وبرع في الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ [ما يحفظه] من الحديث معزوًّا إِلى أصوله، مع شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصَّحابة والتابعين، بحيث إَنَّه إِذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده، وأتقن العربية أصولاً وفروعًا، وتعليلاً واختلافًا، ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وَردَّ عليهم، وّنّبَّه على خطئهم، وحذَّر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأُوذي في ذات الله من المخالفين، وأُخيف في نصر السنة المحضة، حتَّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وَكَبَتَ أعداءه، وهدى به رجالاً من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيا به الشَّام، بل الإِسلام بعد أَن كَاد ينثلم بتثبيت [أولي] الأمر لما أقبل حزب «التتر» والبغي في خيلائهم، وظُنت بالله الظنون، وزلزل المؤمنون، واشْرَأَبَّ النفاق وأبدى صفحته. ومحاسنه كثيرة، وهو أكبر من أَن ينبه على سيرته مثلي، فلو

حلفت بين الركن والمقام [وبالطلاق ألف طلقة] (¬1) أَني ما رأيت بعيني مثله، وأَنَّه ما رأى مثل نفسه ما حنثت. وقد قرأت بخط الشَّيخ العلامة شيخنا كمال الدين بن الزَّمْلَكاني ما كتبه سنة بضع وستين تحت اسم «ابن تَيْمِيَّة»: كَانَ إِذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أَنَّه لا يعرف غير ذلك، وحكم أَنَّ أحدًا لا يعرفه مثله. وكان الفقهاء من سائر الطوائف إِذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أَنَّه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كَانَ من علوم الشرع أوغيرها - إِلاَّ فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد فيه شروط الاجتهاد على وجهها. قال ابن رجب: قلت: وقد عرض عليه قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ فلم يقبل شيئًا من ذلك. أثنى عليه ابن سيد الناس ثناءً بالغًا حسنًا، وكتب الذَّهَبيّ في «تاريخه الكبير» ترجمة مطولة له، قال فيها: لا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره (¬2) واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إِلى الكتب السِّتَّة والمسند بحيث يصدق عليه أَن يقال: «كل حديث لا يعرفه ابن تَيْمِيَّة فليس بحديث». قال: فلقد كَانَ عجبًا في معرفة علوم الحديث ولقد كتب «الحموية» في قعدة واحدة، وهي أزيد من ذلك، وله يد طولى في الكلام على المعارف والأحوال. والتمييز بين صحيح ذلك وسقيمه، ومعوجه وقويمه. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ليس من كلام الذهبي، وهو هكذا في المطبوعة. (¬2) اختصر المؤلف هنا عبارة الذهبي، والمقصود استحضار الحديث.

وقد ترجم له ابن الزَّمْلَكاني ترجمة عظيمة وأثنى عليه ثناء عظيمًا. ومدحه أَبو حيان الأندلسي نظمًا حسنًا. وقال له ابن دقيق العيد عند اجتماعه به وسماعه لكلامه: ما كنت أظن أَنَّ الله فيما بقي يخلق مثلك. قال ابن رجب: ومما وجد في كتاب كتبه العلاَّمة أَبو الحسن السبكي إِلى الحافظ الذَّهَبيّ في أمره: أما قول سيدي في الشَّيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الَّذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجلّ، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان، انتهى. قلت: وأَبو الحسن السبكي - هو السبكي الكبير - كما صرّح بذلك ابن مفلح في طبقاته، وقد قال بعض السفهاء: إِنَّ علمه كَانَ زائدًا على عقله - يشير بذلك إِلى قلة فهمه، كأنَّ القائل بهذا القول لم يقف على ما أثنى به عليه جمع جم من الأئمة الكبار بالذكاء وقوة الدرك وبلوغه في المعقولات مبلغًا عظيمًا والزهد، فأين هذا يقع من ذاك، ولكن من أعمى الله بصر بصيرته فهو يرى الشمس مظلمة، هذا السبكي عدوه، والراد عليه قد أقر له في كتابه هذا بما أقر، ولنعم ما قيل: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وكان الحافظ المزي يبالغ في تعظيم الشَّيخ والثناء عليه، حتَّى كَانَ يقول: لم يرُ مثله منذ أربع مئة سنة، وقال ابن رجب: بلغني من طريق صحيح عن ابن الزَّمْلَكاني: أَنَّه سئل عن الشَّيخ؟ فقال: «لم نر من خمس

مئة سنة أَو أربع مئة سنة - الشك من الناقل، وغالب ظنه: أَنَّه قال: من خمس مئة سنة - أحفظ منه». وكذلك المشايخ العارفون كالقدوة محمَّد بن قوام، ويحكى أَنّه كَانَ يقول: ما أسْلًمَت معارفنا إِلاَّ على يد «ابن تَيْمِيَّة»، والشَّيخ عماد الدين الواسطي كَانَ يعظمه جدًّا، وتلمذ له، مع أَنَّه كَانَ أسن منه. وكان يقول: قد شارف مقام الأئمة الكبار، ويناسب قيامه في بعض الأمور مقام الصديقين. وكتب رسالة إِلى خواص أصحاب الشَّيخ ويوصيهم بتعظيمه واحترامه؛ ويعرفهم حقوقه؛ ويذكر فيها: أَنَّه طاف أعيان بلاد الإسلام ولم ير فيها مثل الشَّيخ عملاً وعلمًا، وحالاً وخلقًا واتباعًا، وكرمًا وحلمًا في حق نفسه، وقيامًا في حق الله عند انتهاك حرماته، وأقسم على ذلك بالله ثلاث مرات، ثمًّ قال: أصدق الناس عقلاً، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه؛ وأسخاهم كفًا، وأكملهم اتباعا لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم، ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلَى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إِلاَّ هذا الرَّحل، بحيث يشهد القلب الصحيح أَنَّ هذا هو الاتباع حقيقة. وطوائف من أئمة الحديث حفاظهم وفقهائهم: كانوا يحبون الشَّيخ ويعظمونه، ولم يكونوا يحبون له التوغل مع أهل الكلام ولا الفلاسفة، كما هو طريقة أئمة الحديث المتقدمين مثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأَبي عبيد ونحوهم، وكذلك كثير من الفقهاء وغيرهم كرهوا له التفرد ببعض شذوذ المسائل الَّتي أنكرها السلف علي من شذ بها. أقول: وهذا الانكار منهم عليه إنكار جاهل على عالم، والمرء عدو لما جهل، والذي تفرد به شيخ الإِسلام من بعض المسائل قد أثبته جماعة

من أهل العلم بالأدلة الصحيحة المحكمة الثابتة، وذبّوا جنابه الرفيع عن تلك الإيرادات، ولهذا قال الذَّهَبيّ: غالب حطه على الفضلاء والمتزهدة حق، وفي بعضه هو مجتهد، ولا يكفر أحدًا إِلاَّ بعد قيام الحجة عليه، قال: ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية؛ واحتج ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إِليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتَّى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن بحال ولا يحابي، بل يقول الحق المرَّ الَّذي أدَّاه إِليه اجتهاده وحدة ذهنه وقوة عقله وفهمه وسعة دائرته في السنن والأقوال، مع ما اشتهر عنه من الورع وكمال الفكرة وسرعة الإدراك، والخوف من الله، والتعظيم لحرمات الله، فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة، فينجيه الله، فإنه دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، وله من الشطر الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه، لأّنَّه منتصب لنفعهم ليلاً ونهارًا، بلسانه وقلمه. وأما شجاعته: فبها تضرب الأمثال، وببعضها يشتبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين، وكان «قبجق» يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتَّى كأنه ليث حَرِب، وهو أكبر من أَن ينبه على نعوته. وله نظم قليل وسط. ولم يتزوج، ولا تسرى، ولا له من المعلوم إِلاَّ شيء قليل. وأخوه يقوم بمصالحه، ولا يطلب منهم غداء ولا عشاء في غالب الوقت، وما رأيت في العالم أكرم منه، ولا أفرغ منه عن الدينار

والدرهم، لا يذكره ولا أظنه يدور في ذهنه، وفيه مروءة، وقيام مع أصحابه، وسعي في مصالحهم. وهو فقير لا مال له. وملبوسه كآحاد الفقهاء، ولم يَنْحَنِ لأحد قط، وإنما يسلم ويصافح ويبتسم. وأما محنه فكثيرة، وشرحها يطول جدًّا، منها: أَنَّه امتحن في سنة 705 بالسؤال عن معتقده - بأمر السلطان - فجمع نائبه القضاة والعلماء بالقصر، وأَحضر من داره «العقيدة الواسطية» فقرأوها في ثلاثة مجالس، وحاققوه وبحثوا معه؛ ووقع الاتفاق بعد ذلك على أَنَّ هذه عقيدة سنية سلفية، فمنهم من قال ذلك طوعًا ومنهم من قاله كرهًا، وورد بعد ذلك كتاب من السلطان فيه: إِنَّما قصدنا براءة ساحة الشَّيخ، وتبين لنا أَنَّه على عقيدة السلف. وفي آخر الأمر: دبروا عليه الحيلة في مسألة المنع من السفر إِلى قبور الأنبياء والصالحين، وألزموه من ذلك بالتنقص بالأنبياء وذلك كفر، وأفتى بذلك طائفة من أهل الأهواء - وهم ثمانية عشر نفسًا - رأسهم القاضي الأخنائي المالكي، وحبس بقلعة دمشق سنتين وأشهرًا وبها مات - رحمه الله تعالى -. ووافقه جماعة من علماء بغداد، وكذلك ابنا أَبي الوليد - شيخ المالكية بدمشق - أفتيا: أّنَّه لا وجه للاعتراض عليه فيما قاله أصلاً، وأَنَّه نقل خلاف العلماء في المسألة، ورجح أحد القولين. قال الحافظ ابن القيم: سمعت «ابن تَيْمِيَّة» - قدس الله روحه، ونور ضريحه - يقول في الحبس: «إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة»، قال وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أَنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أيم رحت فهي معي لا تفارقني، أَنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

وكان في حبسه يقول: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة - أَو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير - أو نحو هذا. وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل إِلى القلعة، وثار داخل سورها، ونظر إِليه، وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} انتهي حاصله. قال ابن رجب: وأما تصانيفه فهي أشهر من أن تذكر وأعرف من أن تنكر، سارت مسير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار. قد جاوزت حد الكثرة، فلا يمكن أحدًا حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدِّ المعروف منها، ولا ذكرها، ثمَّ ذكر نبذة من أسماء أعيان مصنفاته الكبار، ثمَّ ذكر طرفًا من مفرداته وغرائبه، منها: أَنَّه اختار ارتفاع الحدث بالمياه المعتصره كالورد ونحوه. واختار جواز المسح على النعلين والقدمين، وكلّ ما يحتاج في نزعه من الرِّجل إِلى معالجته باليد أَو بالرجل الأخرى، فإنه يجوز عنده المسح عليه مع القدمين. واختار أَنَّ المسح على الخفين لا يتوقت مع الحاجة كالمسافر على البريد ونحوه، وفعل ذلك في ذهابه إِلى الديار المصرية على خيل البريد ويتوقت مع إمكان النزع وتيسره. واختار جواز المسح على اللفائف ونحوها، واختار جواز التيمم لخشية فوات الوقت في حق غير المعذور، كمن أخر الصلاة عمدًا حتَّى تضايق وقتها، وكمن خشي فوات الجمعة والعيدين وهو محدث، فأما

من استيقظ أَو ذكر في آخر وقت الصلاة، فإنه يتطهر بالماء ويصلي لأن الوقت متسع في حقه. واختار أَنَّ المرأة إِذا لم يمكنها الاغتسال في البيت وشق عليها النزول إِلى الحمام وتكرره فإنها تتيمم وتصلي. واختار أن لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا لأقل الطهر بين الحيضتين ولا لسن الإياس من الحيض، وأن ذلك يرجع إِلى ما تعرفه كل امرأة من نفسها. واختار أَنَّ تارك الصلاة عمدًا لا يجب عليه القضاء، ولا يشرع له، بل يكثر من النوافل، وأن القصر يجوز في قصير السفر وطويله وأن سجود التلاوة لا يشترط له الطهارة. قلت: وهذه المسائل غالبها مبرهنة في مواضعها بالأدلة الصحيحة الدالة عليها، وقد ذهب إِليها ذاهبون من أهل العلم قديمًا وحديثًا. ثمَّ ذكر ابن رجب وفاته - رحمه الله - وقال: مرض الشَّيخ في القلعة بضعة وعشرين يومًا، ولم يعلم أكثر الناس بمرضه، ولم يفجأهم إِلاَّ موته، وكانت وفاته في سحر ليلة الاثنين عشري ذي القعدة، سنة (728)، ذكره مؤذن القلعة على منارة الجامع، وتكلم بع الحرس على الأبرجة، فتسامع الناس بذلك، وبعضهم أعلم به في منامه، وأصبح الناس، واجتمعوا حول القلعة حتَّى أهل الغوطة والمرج، ولم يطبخ أهل الأسواق شيئًا، ولا فتحوا كثيرًا من الدكاكين الَّتى من شأنها أَن تفتح أول النهار. وفتح باب القلعة، واجتمع خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبر أخوه: أَنَّه منذ دخل القلعة ختم ثمانين ختمة، وانتهى إِلى قوله تعالى:

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. صلى عليه الزاهد القدوة محمَّد بن تمام، وأُخْرِجَ إِلى جامع دمشق، وكان الجمع أَعظم من جمع الجمع، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء وثناء وتهليل وتأسف، والنساء فوق الأسطحة، وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من أهل البلد وحواضره إِلاَّ الضعفاء والمخدرات، وصرخ صارخ: هكذا تكون جنائز أهل السنة. فبكى الناس بكاءً كثيرًا عند ذلك. واشند الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم، وصار النعش على الرؤوس، يتقدم تارة ويتأخر أخرى، وخرج الناس من أبواب المدينة كلها، ودفن وقت العصر، وحُزِر الرجال بستين ألفًا إِلى مائة الف وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألفًا. وظهر بذلك قول الإمام أَحمد: «بيننا وبين أهل البدع يوم الجنائز»، وختم له ختمات كثيرة بالصالحية والمدينة، وتردد الناس إِلى زيارة قبره أيامًا كثيرة، ليلاً ونهارًا، ورؤيت له منامات كثيرة صالحة، ورثاه خلق من العلماء والشعراء بقصائد كثيرة من بلدان شتى، وأقطار متباعدة، وتأسف المسلمون لفقده، وصلي عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الإِسلام القريبة والبعيدة، حتَّى في اليمن والصين. وأخبر المسافرون: أَنَّه نودى بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة «الصلاة على ترجمان القرآن». قال ابن رجب: وقد أفرد الحافظ محمد بن عبد الهادى له ترجمة في مجلدة، وكذلك أَبو حفص عمر بن على البغدادى البزار في كراريس. وإنما ذكرناها هنا على وجه الاختصار، وقد حدث الشَّيخ كثيرًا، وسمع منه خلق من الحفاظ والأئمة من الحديث، وخرج له ابن الوانى أربعين حديثًا حدث بها، انتهى.

قلت: وقد اختصرت هذه الترجمة من الترجمة المختصرة الَّتي ذكرها ابن رجب مع زيادة بعض ألفاظ عليها، فإن شئت أن تطلع على جملتها فعليك بالمجلدات الكبار، والترجم الحوافل الَّتي كتبها الأئمة الكبار مستقلة مفردة، والله يختص برحمته من يشاء، ويدخل من يشاء في رحمته. قال في «الروضة الغناء»: ولد سنة (661)، وأفتى ودرس، وصنف التَّصانيف البديعة الكثيرة، وجرت له محن كثيرة إِلى أن توفي ودفن بمقبرة الصوفية، انتهى. وقال المعلم بطرس البستاني، في «دائرة المعارف»: وكان - رحمه الله - سيفًا مسلولاً على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، ظنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، وله تصانيف ومؤلفات وقواعد وفتاوى وأجوبة ورسائل وتعاليق كثيرة، انتهى. وذكر منها نبذة، ثمَّ قال: فلما رأى أهل بلاده ما كَانَ له من الشهرة ورفعة الشأن دبَّ في قلوبهم الحسد، وأكب أهل النظر منهم بما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفِظوا عليه في ذلك كلامًا، قد أوسعوا لثلبه ملامًا، وفوَّقُوا لتبديعه سِهامًا، وزعموا أَنَّه خالف طريقهم، وفرَّق فريقَهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضَهم وقاطعوه، ثمَّ نازعه طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إِلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطنٍ منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها - على ما زعم - بوائق، فآضَت إِلى الطَّائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضِّغْن عليه من مقاطعيه، فوصلوا إِلى الأمراء أمرَه، وأعمل كلّ منهم في كُفْره فِكْرَه، فرتَّبوا محاضر، وأَلَّبوا الرُّوَيْضّة للسَّعي بها بين الأكابر، قال: فَرَدَّ الله كيد كلٍّ في نحره ونجاه، والله غالب على أمره، انتهى حاصله.

75 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين

جلاء العينين فى محاكمة الأحمدين (¬1) للشيخ نعمان خير الدين بن محمود الآلوسى (1317) هو شيخ الإسلام، وحافظ الأنام، المجتهد فى الأحكام: تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى القاسم ابن الخضر بن محمد ابن تيمية الحرانى الحنبلى. وفى «تاريخ إربل»: أن جده سئل عن اسم تيميّة، فأجاب: أن جده حج وكانت إمرأته حاملاً، فلما كان بتيماء - بلدة قرب تبوك - رأى جارية حسنة الوجه قد خرجت من خباء، فلما رجع وجد امرأته قد وضعت جارية، فلما رفعوها إليه قال: يا تيميّة يا تيميّة، يعنى أنها تشبه التى رآها بتيماء، فسُميَ بها. انتهى. وقد ولد بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة. وقدم به والده وبأخوية عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة سبع وستين وست مئة. فأخذ الفقه والأصول عن والده، وسمع عن خلق كثيرين، منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ زين الدين بن المنجَّى، والمجد بن عساكر. وقرأ العربية على ابن عبد القوى، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه. ¬

_ (¬1) (ص/ 17 - 31) (القاهرة 1401 هـ).

وعُنى بالحديث، وسمع الكتب الستة والمسند مرات. وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من سائر العلوم. ونظر فى الكلام والفلسفة، وبرز فى ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وأكابرهم، ومهر فى هذه الفضائل. وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين سنة، وتضلع فى علم الحديث وحفظه حتى قالوا: إن كل حديث لايعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث. وأمده الله تعالى بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم وبطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه. وألف فى أغلب العلوم التأليفات العديدة، وصنف التصانيف المفيدة فى التفسير والفقه، والأصول والحديث، والكلام والردود على الفرق الضالة والمبتدعة، وله الفتاوى المفصلة، وحل المسائل المعضلة. ومن تصنيفاته التى تبلغ ثلاث مئة تصنيف: «تعارض العقل والنقل» أربع مجلدات، «والجواب الصحيح» - ردًا على النصارى - أربع مجلدات، و «شرح عقيدة الأصفهاني» مجلد، و «الرد على الفلاسفة» أربع مجلدات، وكتاب «إثبات المعاد» والرد على ابن سينا، وكتاب «ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات»، وكتاب «إثبات الصفات» مجلد، وكتاب «العرش»، وكتاب «رفع الملام عن الأئمة الأعلام»، وكتاب «الرد على الإمامية» - ردًا على ابن المطهر الحِلَّى - مجلدين كبيرين، وكتاب «الرد على القدرية»، وكتاب «الرد على الاتحادية والحلولية»، وكتاب «فى فضائل أبى بكر وعمر رضى الله عنهما على غيرهما»،

وكتاب «تفضيل الأئمة الأربعة»، وكتاب «شرح العمدة» فى الفقه أربع مجلدات، وكتاب «الدرة المضية فى فتاوى ابن تيمية»، وكتاب «المناسك الكبرى والصغرى»، و «الصارم المسلول على من سب الرسول»، وكتاب فى «الطلاق»، وكتاب فى «خلق الأفعال»، و «الرسالة البغدادية»، وكتاب «التحفة العراقية»، وكتاب «إصلاح الراعى والرعية»، وكتاب فى «الرد على تأسيس التقديس» للرازى - فى سبع مجلدات، وكتاب «فى الرد على المنطق»، وكتاب «الفرقان»، وكتاب «منهاج السنة النبوية»، وكتاب «الاستقامة» مجلدين، وغير ذلك. قال الذهبى: وما أُبْعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلد، وترجمه فى «معجم شيوخه» بترجمة طويلة، منها قوله: شيخنا وشيخ الإسلام، وفريد العصر علمّا ومعرفة وشجاعة، وذكاءً وتنويرًا إلهيًا وكرمًا ونصحًا وللأمة، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر. سمع الحديث وأكثر بنفسه من طلبه وكتابته، وخرَّج ونظر فى الرجال والطبقات، وحصل مالم يحصل غيره. وبرع فى تفسير القرآن، وغاص فى دقائق معانيه بطبع سيَّال، وخاطر وقُّاد إلى مواضع الإشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها. وبرع فى الحديث وحفظه، فقلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث، مع شدة استحضاره له وقت الدليل، وفاق الناس فى معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين. وأتقن العربية أصولا وفروعًا، ونظر فى العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، ورد عليهم ونبه على خطئهم، وحذر منهم، ونصر السنة بأوضح حجج وأبهر براهين. وأوذى فى ذات الله تعالى من المخالفين، وأخيف فى نصرالسنة المحفوظة حتى أعلى الله تعالى مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته والدعاء له، وكبتَ أعداءَه، وهدى به رجالاً كثيرة

من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا وعلى طاعته، وأحيا به الشام؛ بل الإسلام بعد أن كاد ينثلم، خصوصًا فى كائنة التتار. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلى، فلو حلفت بين الركن والمقام: أنى ما رأيت بعينى مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه لما حنثت. انتهى. وقال الحافظ ابن كثير: وفى رجب سنة سبع مئة وأربع راح الشيخ تقى الدين ابن تيمية إلى مسجد النارنج، وأمر أصحابه وتلامذته بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيمًّا، وبهذا وأمثاله أبرزوا له العداوة. وكذلك بكلامه فى ابن عربى وأتباعه، فحُسِدَ وعودى، ومع هذا لا تأخذه فى الله لومة لائم. ولم يبال بمن عاداه ولم يصلوا إليه بمكروه. وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع فى بحث لا بمصر ولا بالشام، ولم يتوجه لهم عليه ما يشين. وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتى. انتهى. قيل: من جملة أسباب حبسه خوفهم أنه ربما يدعى ويطلب الإمارة، فلقى أعاؤه عليه طريقًا من ذلك، فحسَّنُوا للأمراءِ حبسه؛ لسد تلك المسالك. وكتب الشيخ كمال الدين الزَّمْلَكانى: كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا فى مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علم الشرع أو غيره إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها. قلت: ورأيت في كتاب (النثر الذائب، في الأفراد والغرائب)، من

فنون كتاب «الأشباه والنظائر النحوية» للإمام السيوطي عليه الرحمة ما نصه: جواب سؤال سائل عن حرف «لو» لسيدنا وشيخنا الإمام العالم الأوحد، الحافظ المجتهد الزاهد، العابد القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتعدين، ذي العلوم الرفيعة، والفنون البديعة، محيي السنة، ومن عظمت به لله تعالى علينا المنة، ودامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة: تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، أَعلى الله تعالى مناره، وشيَّد من الدين أركانه. ماذا يقول الواصفون له ... وصفاته جلَّت عن الحصر هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر هو آية في الخلق ظاهرة ... أنواره أرْبت على الفجر نقلت هذه الترجمة من خط العلامة فريد دهره ووحيد عصره: الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني: بسم الله الرحمن الرحيم. نقلت من خط الحافظ علم الديم البرزالي. قال سيدنا وشيخنا الإمام العلامة، القدوة الحافظ الزاهد العابد الورع إمام الأئمة، خير الأمة مفتي الفرق، علامة الهدى، ترجمان القرآن، حسنة الزمان، عمدة الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، ركن الشريعة ذو الفنون البديعة، ناصر السنة، قامع البدعة: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني، أدام الله تعالى بركته، ورفع درجته.

الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان؛ وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له، الباهر البرهان. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا يرضى به الرحمن. سألتَ وفقك الله تعالى عن معنى حرف «لو» وكيف يتخرَّج قول عمر رضي الله تعالى عنه: «نعم العبد صُهيب، لو لم يَخَفِ اللهَ لم يعصه» على معناها المعروف. وذكرت أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضيت الجواب اقتضاء أوجب أن أكتب في ذلك ما حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني ما قاله الناس في ذلك، وأنه لا يحضرني الساسعة ما أراجعه في ذلك فأقول. . . اهـ بحروفه. ثم ساق الإمام السيوطي آخر الجواب إلى نهايته، وأقرَّ المترجم على ترجمته فإن أردته فارجع إلى «الأشباه والنظائر»، فإن فيه حلاء الأبصار والبصائر (¬1). وكتب الحافظ ابن سيد الناس: ألفيته ممن أدرك [من] العلوم حظًّا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظًا إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو بالحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل علم على أبناء جنسه، ولا رأت عينه مثل نفسه. ¬

_ (¬1) وكذا المدقق ابن هشام في شرح الشذور، نقل عنه بعض الأقوال النحوية معبرًا عنه بالإمام العلامة، وكذا غيرهما ممن سُلِّمت له الإمامة.

وقال ابن الوردي في تاريخه - وقد عاصره ورآه -: وكانت له خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال: (كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث)، ولكن الإحاطة لله تعالى. غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي. وأما التفسير فسلم إليه، وكان يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة نحوًا من أربعة كراريس. وله التآليف العظيمة في كثير من العلوم، وما يبعد أن تصانيفه تبلغ خمس مئة مجلد. وله الباع الطويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين. قلَّ أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة. وقد خالف الأربعةَ في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة. وبقي سنين يفتي بما قام الدليل عنده. ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفيَّة. وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش. له أوراد وأذكار يديمها، لا يداهن ولا يحابي، محبوبًا عند العلماء والصلحاء، والأمراء والتجار والكبراء، وصار بينه وبين بعض معاصريه وقعات مصرية وشامية لبعض مسائل أفتى فيها بما قامت عنده الأدلة الشرعية. واجتمع بالسلطان محمود غازان السفاك المغتال، وتكلم معه بكلام خشن ولم يهبه. وطلب منه الدعاء فرفع يديه ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمِّن على دعائه. انتهى ملخصًا، وأطال في ترجمته.

وقال العلامة الشيخ عماد لدين الواسطي في حقه بعد ثناء طويل جميل ما لفظه: فوالله، ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علمًا وعملاً وحالاً وخلقًا واتباعًا وكرمًا وحلمًا، وقيامًا في حق الله تعالى عند انتهاك حرماته أصدق الناس عقدًا، وأصحهم علمًا وعزمًا، وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفًّا وأكملهم اتباعًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ما رأينا في عصرنا هذا من تُستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل، يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة اهـ. ونقل في «الشذرات» عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وقد سئل عن الشيخ ابن تيمية بعد اجتماعه به كيف رأيته؟ قال: رأيت رجلاً سائر العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء منها ويترك ما شاء. فقيل له: فلم لا تتناظران؟ قال: لأنه يحب الكلام وأحب السكوت. وقال ابن مفلح في «طبقاته»: كتب العلامة تقي الدين السبكي إلى الحافظ الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما نصه: فالمملوك يتحقق قدره وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وأنه بلغ في ذلك كل المبلغ الذي يتجاوزه الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا. وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله تعالى له من الزهادة والورع، والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان. اهـ. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته المطنبة: إن الفتنة لما ثارت على الشيخ ابن تيمية من جهة بعض كلماته، تعصب له

القاضي الحنفي ونصره. وسكت القاضي الشافعي ولم يكن له ولا عليه. وكان من أعظم القائمين عليه الشيخ نصر بن المنبجي، لأنه كان بلغ ابن تيمية أنه يتعصب لابن عربي، فكتب يعاتبه على ذلك. فما أعجبه، لكونه بالغ في الحط من (¬1) ابن عربي وتكفيره؛ فصار هو يحط من ابن تيمية؛ ويغري بيبرس الجاشنكير. وكان بيبرس يفرط في محبته ويعظمه. واتفق أن قاضي الحنفية بدمشق وهو شمس الدين ابن الحريري انتصر للشيخ ابن تيمية وكتب في حقه محضرًا بالثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب به في خطة ثلاثة عشر سطرًا من جملتها: أنه منذ ثلاث مئة سنة ما رأى الناس مثله اهـ. قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتابنا هذا ماحرره الشيخ ابن تيمية للشيخ نصر بن المنبجي، وما يتعلق بالقاضي السبكي عليهم الرحمة. ونقل الإمام العسقلاني أيضًا عن الحافظ الذهبي أنه قال: حضر عند شيخنا أبو حيان المفسر فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل! ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة، وأنشده إياها وهي: لما أتانا تقيُّ الدين لاح لنا ... داعٍ إلى الله فَرْدٌ ما له وَزَرَ على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حَبْرٌ تسربل منه دهره حِبَرًا ... بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شِرعتنا ... مقام سيدِ تَيْم إذ عَصَت مُضَرُ وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر ¬

_ (¬1) (ص) على.

يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر يشير بهذا إلى أنه المجدد - وقد صرح بذلك أيضًا العماد الواسطي - ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ الشيخ ابن تيمية القول في سيبويه، فنافره أبو حيان بسببه، ثم عاد ذامًّا له، وصير ذلك ذنبًا لا يغفر. ويقال: إن ابن تيمية قال له: ما كان سيبويه نبي النحو ولا معصومًا، بل أخطأ في «الكتاب» في ثمانين موضعًا ماتفهمها أنت. فكان ذلك سبب مقاطعته إياه. وذكره في تفسيره «البحر» بكل سوء، وكذا في مختصره «النهر» اهـ. وقد ترجمته علماء المذاهب المعاصرون له وغيرهم بتراجم مفصلة، وأثنوا عليه بالثناء الحسن، وذكروا له كرامات عديدة، ومواظبة على الطاعات والعبادات، وتجنُّبًا عن البدع، وشدة اتباع للسنن وطريقة السلف الصالح. وأنه لم يتزوج حتى مات. وكان أبيض اللون، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمتي أذنيه، عيناه لسانان ناطقان، رَبْعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين جَهْوَرِيّ الصوت. وقد دذكر نبذة من اختياراته العلامة ابن رجب المتوفى سنة سبع مئة وخمس وتسعين في «طبقاته». وفصَّل أيضًا سيرته وأحواله والثناء عليه. وقد توفى سنة سبع مئة وثمان وعشرين، سَحَر ليلة الاثنين عاشر ذي القعدة الحرام في السجن، فأخرج إلى جامع دمشق فصلوا عليه، فكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله. وبكى الناس بكاءً شديدًا، وتبركوا بماء غسله، واشتد الزحام على نعشه، ودفن بمقابر الصوفية بعد أن

صلوا عليه مرارًا. وحُزِرَ من حضر جنازته بمائتي ألف، ومن النساء بخمسة عشر ألفًا. وختمت له ختمات كثيرة. ورثي بقصائد بليغة. منها بخمسة عشر ألفًا. وختمت له ختمات كثيرة. ورثي بقصائد بليغة. منها قصيدة الشيخ عمر بن الوردي وهي: عَثَا في عرضه قوم سِلاطُ ... لهم من نثر جوهره التقاطُ تقي الدين أَحمد خير حَبْر ... خُروق المعضلات به تُخاطُ توفي وهو محبوس فريد ... وليس له إلى الدنيا انبساطُ ولو حضروه حين قَضى لأَلْفَوْا ... ملائكة النعيم به أَحاطوا قضى نحبًا وليس له قرين ... ولا لنظيره لُفَّ القماطُ فتًى في علمه أضحى فريدًا ... وحل المشكلات به يُناطُ وكان إلى التقى يدعو البرايا ... وينهى فرقةً فسقُوا ولاطوا وكان الجن تفرَق من سطاه ... بوعظ للقلوب هو السياطُ فيا لله ما قد ضمَّ لَحْد ... ويا لله ما غطَّى البلاطُ هُم حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبهُ فقد مكروا وشاطوا وكانوا عن طرائقه كسالى ... ولكن في أَذاه لهم نشاطُ وحبس الدُّر في الأَصداف فخر ... وعند الشيخ في السجن اغتباط بآل الهاشمي له اقتداء ... فقد ذاقوا المنون ولم يواطوا بنو تيميَّةٍ كانوا فبانوا ... نجوم العلم أَدركها انهباط

ولكن يا ندامة حابسيه ... فشك الشرك كان به يماط ويا فرح اليهود بما فعلتم ... فإن الضد يعجبه الخُباط ألم يك فيكم رجل رشيد ... يرى سَجن الإمام فيستشاط إِمام لا ولاية كان يرجو ... ولا وَقْفٌ عليه ولا رِباطُ ولا جاراكمو في كسب مال ... ولم يُعهد له بكم اختلاط ففيم سجنتموه وغظتموه ... أَما لِجَزَا أَذيَّته اشتراط وسجن الشيخ لا يرضاه مثلي ... ففيه لقدر مثلكم انحطاط أما والله لولا كَتْم سرِّي ... وخوف الشر لا نحل الرباط وكنت أَقول ما عندي ولكن ... بأَهل العلم ما حسن اشتطاط فما أحد إِلى الإنصاف يدعو ... وكل في هواه له انخراط سيظهر قصدكم يا حابسيه ... وننبئكم إذا نصب الصراط فها هو مات عنكم واسترحتم ... فعاطوا ما أَردتم أَن تعاطوا وحُلُّوا واعقِدوا من غير رد ... عليكم وانطوى ذاك البساط مطلب فيمن ابتلي وأوذي من العلماء قلت: وما زال الناس ولا سيما الكبراء والعلماء يُبتلون في الله تعالى ويصبرون. وقد كانت الأنبياء عليهم السلام يقتلون، وأهل الخير في الأمم السالفة يقتلون ويحرقون، وينشر أحدهم بالمنشار وهو ثابت على

دينه. ولولا كراهية التطويل لذكرت من ذلك ما يطول. وقد سُمَّ أبو بكر وقُتل عمر وعثمان وعليّ، وسُمَّ الحسن، وقُتل الحسين وابن الزبير، وصُلب خُبيب بن عدي، وقتل الحجاجُ عبدَالرحمن ابن أبي ليلى وسعيدَ بن جبير وغيرهما. وقُتل زيد بن علي. وأما من ضُرب من كبار العلماء فكثيرون، منهم: عبد الرحمن بن أبي ليلى - ضربه الحجاج أربع مئة سوط ثم قتله. وسعيد بن المسيب - ضربه عبد الملك بن مروان مئة سوط، وصبَّ عليه جرة ماء في يوم شاتٍ، وأُلبس جبة صوف. وخُبيب بن عبد الله بن الزبير، ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مئة سوط، وذلك أنه حدث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنوا أبي العاص ثلاثين رجلا اتخذوا عباد الله خَوَلاً، ومال الله دُوَلاً. فكان عمر إذا قيل له: أبشر. قال: كيف بخبيب على الطريق!؟ وأبو عمرو بن العلاء، ضربه بنو أمية خمس مئة سوط. والإمام موسى الكاظم - سجنه هارون حتى مات. والإمام أبو حنيفة - توفي في السجن بعد أن ضُرب. وقيل: أوجِر سمًا. والإمام مالك بن أنس، ضربه المنصور (¬1) أيضًا سبعين سوطًا في ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وهو غير صحيح. والذي في كتب التاريخ: أن الذي ضرب الإمام مالكا هو جعفر بن سليمان والي المدينة من قبل المنصور وابن عمه. ولما علم المنصور بضرب الإمام وما نزل به أعظم ذلك إعظامًا شديدًا، وأنكره على ابن عمه وكتب بعزله، واعتذر للإمام مالك (م).

يمين المكره، وكان مالك يقول: لا يلزمه اليمين. والإمام أحمد، امتحن وسجن وضرب في أيام بني العباس. وللشيخ ابن تيمية في هؤلاء الأئمة أسوة. لو أردنا استقصاء ما ذكره معاصروه من الثناء عليه، وبيان سيرته ومفصل أحواله لأفضى بنا إلى الطول، والقلم - لا مَلِلْتَ - مَلُول، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد. فصل في تبرئة الشيخ مما نسب إليه، وثناء المحققين المتأخرين عليه (منهم): الفهَّامة ذو العلوم اللدنية، صوفي الفقهاء، وفقيه الصوفية: الشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني المدني الشافعي، المتوفى سنة ألف ومئة وواحدة؛ فقد قال في كتابه «إفاضة العلام في تحقيق مسألة الكلام» مالفظه: وفيما نقلناه من نصوصه - يعني ابن تيمية - وقررناه على وجه موافق للكتاب والسنة وعقيدة السلف؛ كفاية لبيان حاله في اعتقاده، وبراءة ساحته من القول بالتجسيم، والقول بالجهة على الوجه المحذور عند كل لبيب منصف. ثم قال: ثم إن ابن القيم وإن كان على عقيدة شيخه كما عند المشنعين عليهما، فتبرئة شيخه عما نسب إليه تبرئة له أيضًا، وتصحيح اعتقاده وتطبيقه على الكتاب والسنة وعقيدة السلف، تصحيح لاعتقاده وتطبيق. ولكنا ننقل من كلامه ما يؤكد ذلك إلى آخر ما قال، مما أطنب فيه وأطاب بما يزيل الإشكال. (ومنهم) - أمير المؤمنين في الحديث، علامة العراق الشيخ علي أفندي السويدي البغدادي الشافعي؛ فإنه قد كتب على عبارة السبكي في

التشنيع على الشيخ ابن تيمية مانصه: هذه الدعوى من السبكي تحتاج إلى بيِّنة، مع أن نصوص المتقدمين وأحوالهم تخالفه؛ وعلى تقدير الجواز فكيف يقال بحقه: إنه عدل عن الصراط المستقيم؛ فكيف يعدل عن الصراط المستقيم من يقصر التوجه على الرب المتعال؟ فلا وجه لرد السبكي عليه بمثل هذا الكلام. مع اقتفاء ابن تيمية طريق خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. انتهى ملخصًا. وقد نقله عنه ولده العلامة الشيخ محمد الأمين في شرح كتابه «العقد الثمين» وأقرّه. (ومنهم) - شيخنا ومولانا الوالد عليه الرحمة والرضوان، فإنه قال في رسالته الاعتقادية مانصه: ولقد اطلعت على رسالة للشيخ ابن تيمية، وهي معتبرة عند الحنابلة، وطالعتها كلها فلم أر فيها شيئًا مما يُنبز ويرمى به في العقائد، سوى ما ذكرنا من تشديده في رد التأويل، وتمسكه بالظواهر؛ مع التفويض والمبالغة في التنزيه، مبالغة يُقطع معها بأنه لا يعتقد تجسيمًا ولا تشبيهًا؛ بل يصرح بذلك تصريحًا لا خفاء فيه. والعجب ممن يترك صريح لفظه بنفي التشبيه والتجسيم، ويأخذ بلازم قوله الذي لا يقول به، ولا يسلم لزومه. وعلى كل حال فهو كما قال كثير من المشايخ في الشيخ محيي الدين. اهـ. وقال: أيضًا في رحلته «نزهة الألباب» عندما سأله في القسطنطينية المحمية شيخ الإسلام عن أمر المتشابه مانصه: ثم انجر الكلام إلى ابن تيمية فقال: إنه قائل بالجسمية؛ فقلت: حاشاه! ومذهبه في المجسم أنه مطلقًا غير مسلم. فقال: إنه يقول العرش قديم نوعًا؛ فقلت لم نجد

لنسبته إليه من غير الدواني نقلا يليق أن يمنح سمعًا فقال: له مخالفة للأئمة الأربعة في بعض المسائل الفقهية؛ فقلت: شبهته في تلك المخالفة بحسب الظاهر قوية، وله في بعض ذلك سلف، كما يعرفه من تتبع المذاهب ووقف، وقد مدحه غير واحد من العلماء الأعلام. وقد سمعت من شيخي أنه رأى كتابًا في ترجمة من لقبه بشيخ الإسلام فقال: قد ذمه العلامة السبكي؛ فقلت: كم من جليل غدًا من ذم عصريه (¬1) يبكي! فآهٍ من أكثر المعاصرين. فهم بأيدي ظلمهم لحبات القلوب عاصرين. اهـ. ثم ذكر ما قاله العلماء في المتشابه، فإن أردته فارجع إليه. (ومنهم) عالم بلد الله الحرام، والمشاعر العظام، الملا علي الهروي القاري؛ فإنه أثنى عليه، وبرأه مما نسب إليه في «شرحه الشمائل» وغيره من تأليفاته. (ومنهم) أبو عبد الله محمد بن جمال الدين يوسف الشافعي اليافعي اليمني. (ومنهم) شيخنا السيد العلامة أبو الطيب الحسيني البخاري القنوجي، فسح الله تعالى في مدته؛ فإنه ترجم له ترجمة حافلة في كتابه «إتحاف النبلاء المتقين» و «أبجد العلوم» وأثنى عليه ثناءً كريمًا، وذكر كلام أهل الفتيا من أصحاب المذاهب الأربعة في الثناء عليه؛ منهم: العيني الحنفي، وأطال فيه إلى أوراق. (ومنهم) - كثيرون يطول الكتاب بذكرهم؛ فمن أراد أن يستوعب طيب نشرهم، فليرجع إلى كتب التواريخ والطبقات، فإن فيها المطالب المفصلات. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، ولعلها "معاصريه" (م).

فهرس مصنفات شيخ الإسلام

فهرس مصنفات شيخ الإسلام * ما يتعلق بمؤلفاته ومنهجه في التأليف: - شروعه في التصنيف وسنٌه دون العشرين: 250، 254، 332، 465، 547، 598، 623. - عددها: 237، 254، 256، 268، 269، 274، 276، 282، 318، 333، 369، 375، 376، 390، 400، 443، 493، 513، 547، 577، 588، 589، 624، 640، 647، 656، 664، 706، 731، 732، 736. - كثرة مؤلفاته: 512، 585، 624. - قلّة ما وصل إلينا منها بسبب إحراق كثير منها: 513. - تصنيفه في المسألة الواحدة المجلد الكبير دون الخروج عن المسألة: 252، 333، 341. - مقدار ما يكتب في اليوم من التصانيف في أيِّ فنٍّ أربعة كراريس: 256، 333، 349، 468، 599، 670، 706، 736. - لا يُعلم أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين صنف مثل ما صنف الشيخ: 257، 665. - فتاويه تبلغ ثلاث مئة مجلد أو أكثر: 539، 649، 717. - فتاويه لا تدخل تحت الحصر: 552. - كان يكتب من حفظه، وليس عنده ما يراجعه من الكتب: 257، 349، 468. - طريقته في الكتابة وبحث المسائل وتقريرها: 156، 157. - حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب: 443، 513. - سرعة تأليفه؛ فكتب الحموية في قَعْدة: 259، 341، 349، 468،

599، 670، 721. - كان يكتب أحيانًا في اليوم ما يبيض منه مجلد: 469، 599. - شهرة مؤلفاته وانتشارها: 268، 274، 341، 482، 585، 594، 624، 718، 726. - بيعها بغالي الأثمان: 341. - الثناء عليها وأنها عُدَّةٌ لأهل الإسلام: 155، 243. - الاهتمام بها والحِرص عليها: 153. - كثير من مصنفاته لازلت مسوّدات: 318، 513، 698. - أنواع تصانيفه ما كمل وما بيّض منها: 443. - صعوبة حصرها وإحصائها: 282، 482، 483، 665، 698، 726. - ما صنَّف منها في مصر في السجن: 482، 609، 816. - ربما كتب الشيخ للتذكُّر: 283. - ما فُتِح عليه في آخر حياته من أُصول العلم التي مات كثير من العلماء يتمنونها: 176، 480، 608. - الإكثار من التصنيف في آخر حياته في القلعة: 247، 261، 284، 480. - بقي شيء كثير من كتب الشيخ نحو (14) رِزْمة وأكثر من ستين مجلدًا في سلة الحكم وما آلت إليه: 185، 284، 512. - تضييق المخالفين على كتب الشيخ: 244. - الذين لم يستفيدوا من كتب الشيخ؛ كالعِيْس في البيداء يقتلها الظمأ: 244. * خطة ابن مرّي لخدمة كتب الشيخ: 152 - 155. (الهدف) أنه خشي من دروس كثير من علومه المتفرقة الفائقة، وأنه يرجو أن تكون إذا جُمِعت ذخيرةً للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف وينصر الطريقة السلفية إلى آخر الدهر. (الطريقة)

- جمعها من غير تصرّفٍ فيها ولا اختصار ولو وُجد فيها شيءٌ من التكرار. - جمع الأشباه والنظائر في مكانٍ واحدٍ. - اغتنام حياة من بقي من تلاميذ الشيخ الكبار لكمال خبرتهم. - الإسراع في هذا ما أمكن، وترك التعليل والتسويف. - رائد هذا العمل ودليله وخبيره هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن رُشيِّق، فيجب مساعدته وتفريغه لهذا العمل، وعليه هو الاحتساب. - مقابلة المنسوخ مع أفضل الجماعة، أو على نسخة الأصل. - مراجعة أكابر تلاميذ الشيخ، كالحافظ المزي لدرايته وثقته وشفقته وتحرُّقه. - مراجعة الشيخين: شرف الدين، وشمس الدين ابن القيم؛ لأنهما أخبر الجماعة بالمناهج العقلية خوفًا من وقوع تصحيف، أو تغيير معنى. - بذل الأموال العظيمة لتحصيل هذا الأمر الذي لا نصير له. * مسرد مصنفاته على الفنون: - التفسير: 284، 353، 376، 390، 461، 693. - أُصول الدين: 294، 353، 376، 391، 693. - القواعد والفتاوي: 296. - كتب الفقه: 306، 357، 380، 394، 696. - كتب أصول الفقه: 356، 379، 393، 695. - الوصايا: 317. - الإجازات: 310. - رسائل متنوعة: 310، 359، 381، 396، 697. * مسرد مصنفاته على الحروف: إبطال التحليل = بيان الدليل على إبطال التحليل إبطال الحيل = بيان الدليل على إبطال التحليل إبطال قول الفلاسفة بإثبات الجواهر العقلية ... 297

إبطال الكلام النفساني = التسعينية إبطال الكيمياء وتحريمها لو صحت وراجت ... 359، 382، 396 إثبات الصفات ... 731 إثبات المعاد والرد على ابن سينا (¬1) ... 354، 377، 392، 731 إجازة لأهل أصبهان ... 310 إجازة لأهل سبتة ... 310، 468 إجازة لأهل غرناطة ... 310 إجازة لبعض أهل تبريز ... 310 أجوبة الشكل والنقط = مسائل في الشكل والنقط أجوبة في مباينة الله تعالى لخلقه ... 354، 377 أجوبة كون العرش والسموات كُريَّه وسبب قصد القلوب جهة العلو ... 355، 378، 392 أجوبة مسائل أصفهان ... 307، 357، 380، 394 أجوبة مسائل الأندلس ... 307، 357، 318، 394 أجوبة مسائل الصلط ... 307، 357، 318، 394 الأجوبة المصرية = الفتاوى المصرية أربعون حديثًا (خرَّجها ابن الواني) ... 487، 594، 728 الإربلية (في الاستواء والنزول) ... 300 الأزهرية ... 297 الاستقامة ... 256، 294، 340، 482، 609، 618، 732 إصلاح الراعي والرعية = السياسة الشرعية الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية = جواب الاعتراضات اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ... 257، 305، 318، 483، 610، 619، 624 ¬

_ (¬1) وانظر: "قواعد في إثبات المعاد ... ".

أن قل هو الله تعدِل ثلث القرآن ... 294 أهل البدع هل يصلي خلفهم؟ ... 358، 380، 395 الإيمان ... 257، 294، 355، 378، 393، 482، 609، 618 بطلان ما يقوله أهل بيت الشيخ عدي ... 359، 381، 396 البعلبكية = الرسالة البعلبكية البغدادية = الرسالة البغدادية بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ... 256، 295، 318، 333، 340، 354، 376، 390، 482، 513، 609، 618، 624، 647، 707، 732 بيان حل إشكالات ابن حزم الواردة على الحديث ... 355، 378، 392 بيان الدليل على بطلان التحليل ... 257، 318، 333، 469، 483، 513، 542، 583، 602، 610، 619، 624، 655، 706 بيان الطلاق المباح والحرام ... 357، 381، 395 تأسيس التقديس = بيان تلبيس الجهمية تبطيل التحليل = بيان الدليل على إبطال التحليل التحرير في مسألة حفير ... 257، 306، 483، 610، 619 تحريم أقسام المعزمين بالعزائم المعجمة وصرع الصحيح وصفة الخواتم ... 258، 382، 396 تحريم الحشيشة ووجوب الحد فيها ونجاستها ... 357، 381، 395 تحريم السماع ... 298، 358، 381، 395 تحريم الشبّابة ... 357، 381، 395 تحريم الشطرنج = قاعدة في لعب الشطرنج التحفة العراقية في الأعمال القلبية ... 257، 298، 732 تحقيق الإثبات في الأسماء والصفات = التدمرية ... 296 تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان = التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق

التحقيق في الفرق بين الأيمان والتطليق ... 358، 381، 395، 384، 610، 619 تحقيق كلام الله لموسى ... 354، 377 التسعينية (أو المحنة المصرية) ... 256، 296، 341، 354، 377، 392، 482، 609، 618 تعارض العقل والنقل = درء تعارض العقل والنقل تعليقة على فتوح الغيب للكيلاني ... 298 تعليقة على «المحرر» = شرح «المحرّر» تفسير القرآن ... 247، 261، 282، 283، 341، 461 في الاستعاذة والبسملة ... 284، 353، 376، 391 سورة الفاتحة آية [5] ... 284، 353، 376، 391 وكامل السورة ... 284، 353، 376، 391 سورة البقرة تفسير أولها ... 284، 353، 376، 391 آية [8] ... 285، 353، 376، 391 آية [21] ... 285، 353، 376، 391 آية [17] ... 284، 353، 376، 391 آية [130] ... 284 آية [149] ... 285 آية [173] ... 285 آية [196] ... 285 آية [233] ... 285 آية [255] ... 285، 353، 376، 391 آيات الربا [275، 276، 278] ... 285

سورة آل عمران آية [7] ... 285 آية [18] ... 285، 353، 376، 391 آية [146] ... 285 سورة النساء آية [79] ... 285، 353، 376، 391 آية [86] ... 286 آية [93] ... 286 سورة المائدة آية [6] ... 286، 353، 376، 391 مجلد في تفسير السورة ... 286، 353، 376، 391 سورة الأنعام آية [76] ... 286 آية [81] ... 286 آية [103] ... 286 سورة الأعراف آية [88] ... 286 آية [155] ... 286، 353، 376، 391 سورة الأنفال آية [64] ... 287 سورة براءة آية [4] ... 287 آية [6] ... 287 آية [60] ... 287

آية [122] ... 287 سورة يونس آية [66] ... 287 آية [98] ... 287 سورة هود آية [1] ... 287 آية [108] ... 287 آية [119] ... 287 سورة يوسف فسر أكثرها ... 288، 353، 376، 391 آية [24] ... 288 آية [53] ... 288 آية [108] ... 288 آية [110] ... 288 سورة الرعد آية [13] ... 288 آية [19] ... 288 سورة الحجر آية [41] ونظائرها ... 288 آية [87] ... 288 سورة النحل الآيات من أولها [11، 12] ... 288 آية [75] ... 289 آية [103] ... 289

سورة الأنبياء آية [87] ... 289 آية [98] ... 289 سورة الحج آية [52] ... 289 آية [60] ... 289 سورة النور فسر أكثرها ... 289، 353، 376، 391 آية [3] ... 289 آية [30] ... 289 سورة القصص الآيات: [22 - 28] في حمو موسى هل هو شعيب؟ ... 290 آية [28] ... 290 آية [78] ... 290 سورة العنكبوت الآيات [1 - 2] ... 290 آية [45] ... 290 آية [46] ... 290 سورة لقمان آية [13] ... 290 سورة السجدة آية [24] ... 290 سورة الأحزاب آية [9] ... 290

سورة سبأ آية [25] ... 290 سورة فاطر آية [32] ... 291 آية [36] ... 291 سورة غافر آية [15] ... 291 آية [82] ... 291 سورة الشورى آية [11] ... 291 سورة الزخرف آية [81] ... 291 سورة الدخان آية [32] ... 291 سورة الجاثية آية [23] ... 291 سورة الحجرات فسرها كاملة ... 291 سورة الذاريات آية [56] ... 292 سورة الواقعة آية [83] ... 292 سورة المجادلة آية [7] ... 292 سورة الممتحنة

آية [10] ... 292 سورة الأعلى فسرها في مجلد ... 292 سورة الفجر فسرها ... 292 آية [2 - 7] ... 292 سورة البلد فسرها ... 292 آية [10] ... 292 سورة الشمس آية [8] ... 293 سورة العلق فسرها ... 293، 353، 376، 391 سورة البينة فسرها كاملة ... 293، 353، 376، 391 سورة الكافرون فسرها ... 293، 353، 376، 391 سورة المسد فسرها ... 293، 353، 376، 391 المعوذتان فسرها ... 293، 353، 376، 391 سورة الإخلاص فسرها في مجلد ... 293، 353، 376، 391 تفضيل الأئمة الأربعة وما امتاز به كل واحد منهم ... 306، 357، 379، 394، 732

تفضيل قواعد مذهب مالك وأهل المدينة = قاعدة في تفضيل مذهب أهل المدينة تلبيس الجهمية = بيان تلبيس الجهمية تناهي (¬1) الشدائد في اختلاف العقائد ... 355، 378، 393 تنبيه الرجل الغافل (¬2) على تمويه المجادل (في الجدل الباطل) ... 257، 355، 378، 393 ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً والمعجزات والكرامات ... 340، 354، 377، 392، 731 جبل لبنان كأمثاله من الجبال ليس فيه رجال غُيَّب ولا أبدال ... 358، 381، 396 جزء في طريقة الأحمدية = كشف حال المشايخ الأحمدية الجمع بين الصلاتين في السفر = قاعدة في الجمع جميع أيمان المسلمين مكفرة ... 358، 381، 396 جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية ... 256، 294، 353، 376، 391، 482، 609، 618 جواب تقليد الحنفي الشافعي في الجمع للمطر والوتر ... 357، 379، 394 جواب الرسالة الصفدية ... 354، 376، 392 جواب رؤية النساء ربهن في الجنة ... 356، 378، 392 جواب سؤال الرحبة ... 370 جواب سؤال عن حرف «لو» ... 734 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ... 256، 295، 340، 354، ¬

_ (¬1) الفوات: "تناسي". (¬2) عند ابن رشيق: "العاقل".

377، 391، 482، 609، 619، 731 جواب عن أيّ التفاسير أفضل؟ ... 294 الجواب عما أورده كمال الدين ابن الشريشي على «درء تعارض العقل والنقل» ... 295، 354، 377، 391، 482، 609، 619 جواب في الإجماع وخبر التواتر ... 356، 379، 393 جواب في الاستواء وإبطال تأويله بالاستيلاء ... 355، 377، 392 جواب في ترك التقليد في من يقول مذهبي مذهب النبي عليه السلام وليس أنا محتاج إلى تقليد الأربعة ... 356، 379، 394 جواب في تعليل مسألة الأفعال ... 296 جواب في حسن إرادة الله لخلق الخلق وإنشاء الأنام لعلة أم لغير علة ... 355، 378، 393 جواب في العزم على المعصية هل يُعاقب العبد عليه؟ ... 297 جواب في لقاء الله ... 355، 378، 392 جواب في مسألة القرآن ... 296 جواب في نقض قول الفلاسفة إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية ... 354، 377، 392، 482، 610، 619 جواب كون الشيء في جهة العلو مع أنه ليس بجوهر ولا عرضٍ معقول أو مستحيل ... 355، 378، 392 جواب مسائل وردت من أصبهان = أجوبة مسائل أصفهان جواب مسائل وردت من الأندلس = أجوبة مسائل الأندلس جواب مسائل وردت من الصلت = أجوبة مسائل الصلط جواب مسائل من بغداد ... 357، 394 جواب مسألة في القرآن هل هو حرف وصوت أم لا؟ ... 297 جواب من تفقه في مذهب ووجد حديثًا صحيحًا هل يعمل به أو لا؟ ... 356، 379، 394

جواب من حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت ... 354، 377، 392 جواب من حلف لا يفعل شيئًا على المذاهب الأربعة ... 358، 381، 395 جواب من قال: إن معجزات الأنبياء قوى نفسانية = جواب في نقض قول الفلاسفة. . . جواب من قال: لا يمكن الجمع بين إثبات الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه ... 355، 377، 392 جواب هل الاستواء والنزول حقيقة وهل لازم المذهب مذهب؟ ... 355، 378، 392 جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًا؟ ... 400، 357، 379، 394 جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا بشرع من قبله؟ ... 400، 357، 379، 394 الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة ... 358، 381 الحوفية ... 401 درء تعارض العقل والنقل ... 157، 243، 256، 295، 333، 340، 354، 377، 391، 482، 609، 619، 707، 731 الدرّ المنثور في زيارة القبور ... 311 الدرر المضية = الدرة المضية الدرة المضيّة في فتاوى ابن تيمية ... (40 مسألة) 357، 394، 732 دفع الملام = رفع الملام الرد على الاتحادية والحلولية ... 731 الردّ على الإمامية = منهاج السنة النبوية الرد على أهل كسروان الرافضة ... 257، 295، 355، 378، 391،

482، 610، 619 الردّ على الأخنائي في مسألة الزيارة ... 483، 660، 619 الردّ على البكري في مسألة الاستغاثة ... 257، 482، 609، 619 الرد على تأسيس التقديس للرازي = بيان تلبيس الجهمية رد على الروافض في الإمامة على ابن مطهر = منهاج السنة النبوية الرد على طوائف الشيعة = منهاج السنة النبوية الرد على الفلاسفة ... 153، 340، 354، 376، 392، 731 الرد على القدرية ... 731 الرد على المنطق (مجلد لطيف) ... 354، 376، 392 الرد على المنطق (مجلد) ... 257، 295، 333، 354، 376، 392، 482، 609، 619، 707، 732 الردّ الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق ... 483، 610، 619 رسائله إلى البلدان ... 341 الرسالة الأزهرية ... 354، 376، 392 رسالة إلى أهل البصرة ... 410 رسالة إلى أهل بغداد ... 410 رسالة إلى أهل طبرستان وجيلان في خلق الروح والنور والأئمة المقتدى بهم ... 354، 376، 392 رسالة إلى البحرين وملوك العرب ... 311 رسالة إلى بيت الشيخ جاكير ... 310 رسالة إلى صاحب قبرص = الرسالة القبرصية رسالة إلى القاضي السروجي الحنفي ... 310 رسالة إلى ملك حماة ... 311 رسالة إلى ملك مصر ... 311

رسالة إلى نصر المنبجي ... 321 - 322، 504، 536، 543، 550، 738 الرسالة البعلبكية ... 296، 354، 377، 392 الرسالة البغدادية ... 297، 354، 377، 392، 732 رسالة تكسير الأحجار ... 311 الرسالة العدويّة = رسالة في أصول الدين للعدوية رسالة العرش ... 311، 731 رسالة في إثبات وجود النفس بعد الموت ... 311 رسالة في احتجاج الجهمية والنصارى بالكلمة ... 299 رسالة في أرض الموات إذا أحياها ثم عادت هل تملك مرة أخرى؟ ... 307 رسالة في الاستطاعة هل هي مع الفعل أو قبله؟ ... 300 رسالة في الاستواء وإبطال قول من تأوَّله بالاستيلاء من نحو عشرين وجهًا ... 300 رسالة في الاشتغال بكلام الله وأسمائه وذكره، أيّ ذلك أفضل؟ ... 299 رسالة في الأصول لأهل جيلان ... 303 رسالة في أصول الدين للعدوية ... 303، 310 رسالة في أمر يزيد هل يُسبُّ أم لا ... 299 رسالة في أن إسماعيل هو الذبيح ... 299 رسالة في أن كل حمد وذم للمقالات والأفعال لابد أن يكون بكتاب الله وسنّة رسوله ... 301 رسالة في أن مبدأ العلم الإلهي عند النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحي، وعند أتباعه هو الإيمان ... 301 رسالة في إهداء الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم ... 306 رسالة في جواب محيي الدين الأصفهاني ... 302 رسالة في حال الحلاّج ودفع ما وقع به التحاجّ ... 303

رسالة في حق الله وحقّ رسوله وحقوق عباده (¬1) ... 301 رسالة في الخضر هل مات أو هو حيٌّ؟ ... 299 رسالة في الخلّة والإمكان العام (¬2) ... 301 رسالة في ذبائح أهل الكتاب ... 306 رسالة في الذوق والوجد الذي يذكره الصوفية ... 299 رسالة في ذي الفقار هل كان سيفًا لعلي؟ ... 300 رسالة في العباس وبلال أيهما أفضل؟ ... 305 رسالة في العرش والعالم هل هو كروي الشكل أم لا؟ ... 301 رسالة في عرض الأديان عند الموت ... 311 رسالة في عصمة الأنبياء ... 300 رسالة في عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدي ... 301 رسالة في العين والقلب وأحواله ... 300 رسالة في غض البصر وحفظ الفرج ماذا يعين عليه؟ ... 299 رسالة في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول من النصوص ... 302 رسالة في فضائل الأئمة الأربعة = تفضيل الأئمة الربعة رسالة في فضل السلف على الخلف في العلم ... 301 رسالة في قرب الربّ من عابديه وداعيه = قاعدة في قرب الرب. . . رسالة في قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} ... 306 رسالة في قوله «أمرتُ أن أخاطب الناس على قدرِ عقولهم» هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟ ... 303 رسالة في قوله (كما صليت على إبراهيم) وفي أنّ المشبَّه به أعلى من المشبه ... 306 ¬

_ (¬1) وانظر: قاعدة في حق الله وحق عباده. (¬2) وانظر: قاعدة في الخلّة ...

رسالة في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب» ... 299 رسالة في كفر فرعون ... 300 رسالة في اللقاء وما ورد في القرآن وغيره ... 300 رسالة في المباينة بين الله وبين خلقِه ... 303 رسالة في المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر ... 311 رسالة في المسألة الحرفية ... 311 رسالة في مسألة الزوال واختلاف وقته باختلاف البلدان ... 300 رسالة فيمن عزم على فعل محرم ثم مات ... 299 رسالة فيمن قال إن بعض المشايخ أحيا ميتًا ... 305 رسالة في النهي عن أعياد النصارى ... 307 الرسالة القادرية ... 354، 377، 392 الرسالة القبرصية ... 311، 354، 371، 377، 392 رسالة لأهل تدمر ... 405 رسالة لأهل العراق ... 411 رسالة لأهل قبرص ... 303 الرسالة المدنية في الصفات النقلية ... 310، 355، 378، 393 الرسالة المصرية ... 310 رسالة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًّا، وهل يسمّى من صحبه إذ ذاك صحابيًا؟ = جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة نبيًا رسالة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي متعبدًا بشرع من قبله من الأنبياء؟ = جواب هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا. . . رسالة وجوب العدل على كل أحد في كل حال ... 301 رفع الملام عن الأئمة الأعلام ... 252، 257، 306، 318، 334، 356، 379، 394، 483، 513، 577، 610، 625، 647، 707، 731

السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ... 257، 306، 318، 334، 483، 513، 610، 620، 625، 647، 707، 732 شرح أول كتاب الغزنوي في أصول الدين ... 295، 354، 377، 392 شرح أول «المحصل» للرازي ... 295، 354، 377، 391، 402، 529، 539 شرح حديث جبريل في الإسلام والإيمان ... 355، 378، 393 شرح حديث فحجَّ آدم موسى ... 355، 378، 392 شرح حديث النزول ... 355، 378، 392 شرح دعاء أبي بكر ... 356 شرح بضع عشرة مسألة من «الأربعين» لفخر الدين الرازي ... 295، 354، 377، 391، 482، 609، 619 شرح رسالة ابن عبدوس (في كلام الإمام أحمد) في أصول الدين ... 301، 354، 377، 392 شرح عقيدة الأصبهاني ... 295، 356، 340، 354، 377، 391، 483، 610، 619، 731 شرح العقيدة الأصفهانية = شرح عقيدة الأصبهاني شرح «العمدة» للموفق ... 305، 357، 380، 394، 483، 610، 619، 732 شرح «المحرر» في مذهب أحمد ... 305، 357، 380، 394، 483، 610، 619 شمول النصوص في الفرائض ... 309 شمول النصوص للأحكام = قاعدة في شمول النصوص الصارم المسلول على شاتم الرسول ... 257، 305، 318، 407، 483، 512، 610، 619، 624، 732 الصعيدية (قاعدة تتعلق بالتوبة) ... 298

صفات الكمال والضابط فيها ... 296، 354، 377، 392 الصفدية ... 482، 610، 619 صلاة بعض أهل المذاهب خلف بعض ... 358، 380، 395 الصلوات المبتدعة ... 358، 281، 395 الطرابلسية ... 357، 380، 394 الطلاق البدعي لا يقع ... 358، 281، 395 العبودية ... 285 العرش = رسالة العرش عصمة الأنبياء في ما يبلغونه ... 355، 378، 393 العقيدة الحموية = الفتيا الحموية العقيدة الواسطية = الواسطية الفتاوى ... 333، 341، 539، 649، 707 الفتاوى المصرية ... 340، 359، 381، 396، 482، 609، 618 الفتح على الإمام في الصلاة ... 357، 379، 394 فتوى في أن الطلاق الثلاث واحدة ... 511 فتيا تتضمن صفات الكمال = صفات الكمال والضابط فيها الفتيا الحموية ... 259، 296، 350، 375، 408، 468، 474، 499، 544، 599، 721 فتيا في السفر لزيارة القبور ... 438، 439، 511 فتيا في مسألة العلو ... 296 الفرق المبين بين الطلاق واليمين ... 358، 381، 395 الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ... 257، 302، 483، 610، 619، 732 الفرقان بين الحق والبطلان ... 311، 610، 619 الفرقان بين الطلاق والأيمان ... 483، 610، 620

فصل في كيفية ما وقع في المجالس الثلاثة من المناظرات ... 420، 421 القادرية ... 297 قاعدة تتعلق برحمة الله في إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ... 303 قاعدة تتعلق بالصبر المحمود والمذموم ... 303 قاعدة غالبها أقوال الفقهاء ... 356، 379، 393 قاعدة في إثبات كرامات الأولياء ... 297 قاعدة في الاجتهاد والتقليد في الأحكام ... 308، 356، 379، 394 قاعدة في الإجماع وأنه ثلاثة أقسام ... 305، 356، 379، 393 قاعدة في الإخلاص والتوكل ... 298 قاعدة في الاستجمار وتطهير الأرض بالشمس والريح ... 357، 380، 395 قاعدة في الاستحسان ... 356، 379، 394 قاعدة في الاستغفار وشرحه ... 299 قاعدة في الاستعاذة ... 380 قاعدة في اقتران الإيمان بالاحتساب ... 303 قاعدة في الاقتصاص من المظالم بالدعاء وغيره ... 302 قاعدة في أقسام القرآن ... 294 قاعدة في أمثال القرآن ... 294 قاعدة في أمراض القلوب وشفائها ... 302 قاعدة في الأنبذة والمسكرات ... 309 قاعدة في أن الإيمان والتوحيد يشتمل على مصالح الدنيا والآخرة ... 297 قاعدة في أن جامع الحسنات العدل، والسيئات الظلم ... 305 قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أفضل من جنس ترك المنهي عنه ... 307 قاعدة في أن خبر الواحد يفيد اليقين ... 356، 379 قاعدة في أن خوارق العادات لاتدلّ على الولاية ... 297

قاعدة في أن الشريعة والحقيقة متلازمتان ... 299 قاعدة في أنّ كل آية يحتج بها مبتدع ففيها دليل على فساد قوله ... 298 قاعدة في أن كلّ عمل صالح أصله اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ... 308 قاعدة في أنّ الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته ... 304 قاعدة في أنّ مخالفة الرسول لا تكون إلاّ عن ظنّ واتباعِ هوى ... 297 قاعدة في أن المخطئ في الاجتهاد لا يأثم ... 356، 379، 394 قاعدة في أن المطلقة ثلاثًا لا تحل إلا بنكاح زوج ثان ... 358، 381، 395 قاعدة في الإيمان والتوحيد ... 302 قاعدة في البسملة هل هي من السورة؟ ... 357، 380 قاعدة في بقاء الجنة والنار وفنائهما = قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار قاعدة في بيان طريقة القرآن في الدعوة والهداية النبوية ... 304 قاعدة في تحريم دخول الحمام بلا مئزر ... 357، 380، 395 قاعدة في تحريم السماع ... 298 قاعدة في تزكية النفوس ... 302 قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل ... 304 قاعدة في تسبيح المخلوقات من الجمادات وغيره هل هو بلسان الحال أم لا؟ ... 304 قاعدة في التسمية على الوضوء ... 357، 380، 395 قاعدة في تعذيب المرء بذنب غيره ... 305 قاعدة في تفضيل صالحي الناس على سائر الأجناس ... 257، 298، 356، 378، 393 قاعدة في تفضيل [مذهب] الإمام أحمد ... 307، 357، 379، 394 قاعدة في تفضيل مذهب أهل المدينة ... 308، 357، 379، 394

قاعدة في تقرير القياس ... 356، 379، 394 قاعدة في تقليد مذهب معين هل يجب على العامي أم لا؟ = قاعدة هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين؟ قاعدة في توحيد الشهادة ... 304 قاعدة في التوكل والإخلاص ... 304 قاعدة في تيسير العبادات لأرباب الضرورات بالتيمم والجمع بين الصلاتين للعذر ... 357، 380، 395 قاعدة في الجدّ هل يُجبِر البِكر على النكاح ... 309 قاعدة في الجمع بين الصلاتين [في السفر] ... 308، 358، 380، 395 قاعدة في الجهر بالبسملة ... 309 قاعدة في جواز الاستجمار مع وجود الماء ... 357، 380، 395 قاعدة في الجهاد والترغيب فيه ... 308 قاعدة في [جواز] طواف الحائض ... 308، 357، 380، 395 قاعدة في جواز قتال الرافضة ... 356، 378، 393 قاعدة في جواز المسح على الخفين المنخرقين والجوربين واللفائف ... 357، 380، 395 قاعدة في حجة النبي عليه السلام ... 358، 381، 396 قاعدة في حديث القُلتين وعدم رفعه ... 357، 380، 395 قاعدة في الحسبة ... 309 قاعدة في حق الله وحقّ عباده ... 302 قاعدة في الحلف بالطلاق وتنجيزه ثلاثًا ... 358، 381 قاعدة في حلق الرأس هل يجوز في غير النسك ... 309 قاعدة في حلّ الدور ومسائل الجبر والمقابلة ... 309 قاعدة في الحمام والاغتسال ... 357، 380، 395 قاعدة في الحيض ... 381

قاعدة في خطأ القول بجواز مسح الرجلين (¬1) ... 357، 380، 395 قاعدة في خلة إبراهيم وأنه الإمام المطلق ... 302 قاعدة في الخلة والمحبة وأيهما أفضل ... 299 قاعدة في الخلوات والفرق بين الخلوة الشرعية والبدعية ... 298 قاعدة في دم الشهيد ومداد العلماء ... 308 قاعدة في ذم الوسواس ... 309، 357، 380، 395 قاعدة في رجوع البدع إلى شعبة من شعب الكفر ... 305 قاعدة في الرد على أهل الاتحاد، وهي جواب الطوفي ... 303 قاعدة في الرد على من قال إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ... 356، 379، 394 قاعدة في الرد على من قال بفناء الجنة والنار ... 287، 356، 378، 393 قاعدة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ... 305 قاعدة في الرضا ... 308 قاعدة في الركعتين اللتين تصليان قبل الجمعة ... 358، 380، 395 قاعدة في الزهد والورع ... 302 قاعدة في زيارة القدس مطلقًا ... 358، 381، 396 قاعدة في السفر الذي يجوز فيه القصر والفطر ... 308 قاعدة في السياحة والعزلة، وفي الفقر والتصوف ... 305 قاعدة في السياحة ومعناها في هذه الأمة ... 302 قاعدة في شرح أسماء الله الحسنى ... 299 قاعدة في الشكر لله ... 303 قاعدة في شمول النصوص للأحكام ... 308، 356، 379، 393 قاعدة في شهر السلاح بتبوك وشرب السويق بالعقبة وأكل التمر بالروضة ¬

_ (¬1) "الفوات": "الخفين".

وما يلبس المُحرِم وزيارة الخليل عقب الحج ... 358، 381، 396 قاعدة في الشيوخ الأحمدية = كشف حال المشايخ الأحمدية قاعدة في الصبر والشكر ... 298 قاعدة في الصفح الجميل والهجر الجميل والصبر الجميل ... 302 قاعدة في الصلاة بعد أذان الجمعة ... 358، 380، 395 قاعدة في طهارة بول ما يؤكل لحمه ... 307، 357، 380، 395 قاعدة في العبيديين ... 357، 382 قاعدة في عدم نقض الوضوء بلمس النساء ... 357، 380، 395 قاعدة في العلم المحكم ... 299 قاعدة في العلم والحلم ... 302 قاعدة في العمرة المكية ... 304، 358، 381، 396 قاعدة في فضائل القرآن ... 294 قاعدة في فضل عشر ذي الحجة ... 305 قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أنه لا يُسَبّ ... 356، 378، 393 قاعدة في الفقراء والصوفية أيهم أفضل؟ ... 298 قاعدة في الفناء والاصطلام ... 302 قاعدة في القدرية وأنهم ثلاثة أقسام ... 304 قاعدة في القراءة خلف الإمام ... 309 قاعدة (¬1) في قرب الرب من عابديه وداعيه ... 300، 355، 378، 392 قاعدة في القضايا الوهمية ... 297، 354، 377، 392 قاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: «استحللتم فروجهن بكلمة الله» ... 309 قاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» ... 299 قاعدة في كراهية بسط سجادة المصلي قبل مجيئه ... 358، 380، 395 ¬

_ (¬1) "الوافي": "قاعدتان".

قاعدة في كراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها ... 357، 380، 395 قاعدة في كفر النصيرية ... 356، 378، 393 قاعدة في كلام ابن الشريف في التصوّف ... 302 قاعدة في كلام الجنيد لما سُئل عن التوحيد فقال: «إفراد الحدوث عن القدم» ... 304 قاعدة في الكلام على «المرشدة» ... 304، 355، 378، 392 قاعدة في الكليات ... 301، 354، 377، 392 قاعدة في الكنائس وما يجوز هدمه منها ... 309 قاعدة في كيفية الاستدلال والاستدراك على الأحكام بالنص والإجماع ... 356، 379، 393 قاعدة في لباس الخرقة والأقطاب ونحوهم ... 298 قاعدة في لعب الشطرنج ... 308، 358، 381، 395 قاعدة في لفظ الحقيقة والمجاز والبحث الآمدي ... 306 قاعدة فيما شرعه الله بلفظ العموم هل يكون مشروعًا بلفظ الخصوص ... 308 قاعدة فيما لكل أمّة من الخصائص وخصائص هذه الأمة ... 301 قاعدة فيما يتعلق بالوسيلة بالنبي صلى الله عليه وسلم. . . وبيان خصائصه ... 303 قاعدة فيما يتناهى وما لا يتناهى ... 297، 354، 377، 392 قاعدة فيما يحلّ ويحرم بالنسب والصهر والرضاع ... 309 قاعدة فيما يحلّ ويحرم من الأطعمة ... 308 قاعدة فيما يختلف حكمه في السفر والحضر ... 358، 380، 395 قاعدة فيما يُشترط له الطهارة ... 309 قاعدة فيما يُظن من تعارض النص والإجماع ... 306، 356، 379، 394 قاعدة فيما يعرض من الوسواس في الصلاة ... 358، 380 قاعدة في المائعات وملاقاتها النجاسة ... 357، 380

قاعدة في محبة العبد لله ومحبة الله للعبد ... 298 قاعدة في المخطئ في الاجتهاد هل يأثم، وهل المصيب واحد ... 308 قاعدة في المسألة السريجية ... 309 قاعدة في مشايخ العلم ومشايخ الفقراء أيهم أفضل ... 305 قاعدة في معاهدة الكفار المطلقة والمقيدة ... 307 قاعدة في مفطرات الصائم ... 308 قاعدة في مقدار الكفارة في اليمين ... 306، 358، 381، 395 قاعدة فيمن امتحن في الله وصبر ... 303 قاعدة فيمن بكّر وابتكر وغسّل واغتسل ... 309 قاعدة فيمن لا يعطي أجرة الحمام 357، 380، 395 قاعدة في مواقيت الصلاة ... 309 قاعدة (¬1) في المياه والمائعات وأحكامها ... 307، 357، 380، 394 قاعدة في نواقض الوضوء ... 308، 357، 380، 395 قاعدة في وجوب التسمية على الذبائح والصيد ... 308 قاعدة في وصية لقمان لابنه ... 304 قاعدة كبيرة في المفسرين ومصنفاتهم ... 294 قاعدة كل حمد وذم في المقالات لا يكون إلا من الكتاب والسنة ... 356، 379، 393 قاعدة هل العامي يجب عليه تقليد مذهب معين ... 309، 356، 379، 394 قتل تارك أحد المباني وكفره 358، 380، 395 القنوت في الصبح والوتر ... 358، 380، 395 قواعد في أن النهي يقتضي الفساد ... 357، 379، 394 ¬

_ (¬1) عند ابن رشيق: "قواعد ... ".

القواعد الخمس ... 304 قواعد في إثبات القدر والرد على القدرية والجبرية ... 355، 378، 393 قواعد في تطهير الأرض بالشمس والريح ... 307 قواعد في إثبات المعاد والرد على ابن سينا في رسالته الأضحوية ... 296 قواعد في التفسير والكلام على المصنفات والمفسرين ... 294 قواعد في خلافة الصديق ... 299 قواعد في رجوع المغرور على مَن غَرَّه ... 306 قواعد في السنة والبدعة وفي أن كل بدعة ضلالة ... 306 قواعد في مسائل من النذور والضمان ... 307 قواعد في الوقف وشروط الوقف وفي إبداله بأجود منه وفي بيعه عند تعذر الانتفاع ... 307 قواعده (الكبار والمتوسطة والصغار) ... 341، 483، 610، 619 كتاب التصوف ... 318، 513، 625 كشف حال المرازقة ... 359، 382 كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية ... 298، 258، 359، 381، 396، 419، 503 الكلام على إرادة الربّ وقدرته ... 296 الكلام على بطلان الفتوة المصطلح عليها بين العوام وليس لها أصل يتصل بعليٍّ عليه السلام ... 358، 381، 396 الكلام على نقض المرشدة = قاعدة في الكلام على المرشدة الكلم الطيب في الأذكار ... 318، 358، 380، 395، 513، 625 الكيلانية ... 296 كتاب إلى أهله ... 431 كتاب التصوّف ... 625 كتاب في الاستغاثة = الردّ على البكري في مسألة الاستغاثة

كتاب في الإيمان هل يزيد وينقص؟ ... 301 كتاب في توحيد الفلاسفة على نظم ابن سينا ... 302 كتاب في خلق الأفعال ... 732 كتاب في الرد على تأسيس التقديس = بيان تلبيس الجهمية كتاب في الشهادتين وما يتبع ذلك ... 300 كتاب في الطلاق ... 732 كتاب في فضائل أبي بكر وعمر على غيرهما = مسألة في فضل أبي بكر كتاب في محنته في مصر = التسعينية كتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول = درء تعارض العقل والنقل كتاب في الوسيلة ... 257، 295 كتاب في الحبس ... 423 لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف ... 358، 381، 395 ما تضمنه «فصوص الحكم» من الكفر والإلحاد والاتحاد والحلول ... 355، 378، 392 الماردانية ... 357، 380، 394 المحنة المصرية = التسعينية مختصر في كفر النصيرية = قاعدة في كفر النصيرية المراكشية ... 296، 354، 377، 392 المسائل الإسكندرانية في الرد على الاتحادية والحلولية ... 257، 295، 355، 378، 392، 482، 609، 618 مسائل في الشكل والنقط ... 297، 354، 377، 392 مسائل في الفرق بين الحلف بالطلاق وإيقاعه والطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك ... 358، 381، 395 مسائل من بغداد = جواب مسائل. . . مسائل وردت من الرحبة ... 380، 394

مسائل وردت من زُرَع ... 357، 380، 394 مسائل في العقل والروح ... 355، 378، 393 مسألة في فضل أبي بكر وعمر على غيرهما ... 355، 378، 393، 731 مسألة في المقربين: هل يسألهم منكر ونكير ... 355، 378، 393 مسألة ما بين اللوحين كلام الله 354، 377 مسألة النزول واختلاف وقته باختلاف البلدان والمطالع ... 355، 378، 392 مسألة هل تُعذب الروح مع الجسد في القبر وهل تفارق البدن بالموت أو لا ... 355، 378، 393 مناسك الحج ... 318، 358، 381، 396، 513، 625 المناسك الكبرى ... 732 المناسك الصغرى ... 732 مناظرته في الواسطية ... 420 منظومة في الجواب عن اللغز ... 359 منظومة في القدر ردًّا على سؤال أهل الذمة ... 359، 545، 552 منهاج الاستقامة = منهاج السنة النبوية منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ... 256، 295، 318، 333، 340، 354، 355، 377، 378، 391، 393، 513، 507، 619، 624، 647، 655، 707، 731، 732 المنهاج في الرد على الروافض = منهاج السنة النبوية مؤاخذة لابن حزم في الإجماع ... 356، 379، 394 الموافقة بين المعقل والمنقول = درء تعارض العقل والنقل النبوات = ثبوت النبوات عقلاً ونقلاً النجوم هل لها تأثير عند الاقتران والمقابلة، والخسوف والكسوف هل يقبل قول المنجمين فيه ورؤية الأهلة ... 359، 381، 396

النصوص على الفصوص (في الرد على ابن عربي) ... 236 نقض الاعتراض لبعض المشارقة ... 354، 377 النهي عن المشاركة في أعياد اليهود والنصارى وإيقاد نصف شعبان والحبوب في عاشوراء ... 358، 381، 395 الهلاكونية ... 295، 355، 378، 393، 384، 610، 619 الهلاوونية = الهلاكونية هل سمع جبريل كلام الله أو نقله من اللوح المحفوظ ... 292، 377 الواسطية ... 296، 301، 419، 474، 504، 544، 605، 651، 725 وصف العموم والإطلاق ... 356، 379، 394 وصية لابن المهاجريّ ... 310 وصية لأبي القاسم يوسف السبتي ... 310 وصية للتُّجيبي ... 310

§1/1