الجامع لأحكام الصيام

محمود عبد اللطيف عويضة

الجامع لأحكام الصيام الطبعة الثانية

الجامع لأحكام الصيام لأبي إياس محمود بن عبد اللطيف بن محمود (عويضة) الطبعة الأولى 2002 م الطبعة الثانية 2005م بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد، فهذا كتابٌ في أحكام الصيام سميته [الجامع لأحكام الصيام] وقد صدر عقب صدور [الجامع لأحكام الصلاة] ، وقد نهجت فيه المنهاجَ نفسَه الذي سرت عليه في [الجامع لأحكام الصلاة] قاصداً أن أُقدِّم مثالاً آخر لما أراه النموذجَ الأصح لكتابة الفقه، وبذلك يكون بين أيدي القراء الكرام كتابان جامعان يمثِّلان هذا النموذج. هذا هو القصد من إصدار هذين الكتابين وإني لأرى أن إِصدار مثالين كبيرين يكفي لتوضيح النموذج الذي أدعو الفقهاء والمجتهدين إلى أخذه والكتابة بمقتضاه، فأنا لم يخطر ببالي أن أضع بين أيدي القراء الكرام سلسلةً كاملةً للفقه الإسلامي، وإنما أردت فقط وضع المثال والنموذج الأصح فحسب، وإِن كتابين كبيرين يكفيان لتحقيق هذا الغرض المرجوِّ، إلا أن يقضي الله أمراً آخر فأُضيف إليهما كتاباً ثالثاً. إن هذا النموذج لكتابة الفقه يتحقق فيه ما يلي:

1- استعراضُ جميع النصوص من القرآن الكريم والسنة الشريفة ذات العلاقةِ عند كل مسألة تُبحثُ من مسائل الفقه، وعدمُ الاقتصار على قسم من النصوص يراه الفقيه غالباً دليلاً كافياً على رأيه، وداعماً لاجتهاده، وترك ما سواه. 2- الاستدلالُ بالأحاديث الصحيحة وبالحسنة فقط، وترك ما سواها من أحاديثَ ضعيفةٍ على اختلاف أنواعها، وأعني بالضعيفة ما اتفق المحدِّثون على ضعفها، فهذه الأحاديثُ لا يحلُّ الأخذ بها في الأحكام الشرعية، ولا حتى في فضائل الأعمال. أما الأحاديث التي اختلف المحدِّثون بشأنها من حيث التضعيف والتحسين، فإِنها إن كانت موافِقةً للأحاديث الصحيحة والحسنة، أو انفردَتْ في بابها قُبلت، أما ما خالف منها الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، أولم تنفرد في بابها فإِنها تُردُّ وتُترك. 3- استعراضُ آراء الفقهاء والعلماء والأئمة في كل مسألة من المسائل بقدر المستطاع، فهذا الاستعراض يُثْري البحث، ويَهَبُه قوة، وبه تظهر قوة الأحكام المستنبطة عند مقارنتها بالأحكام الأخرى، حالها كحال حباتِ لؤلؤٍ طبيعية تُعرض إلى جانب حبَّاتٍ صناعية، فتظهر جودتها وجمالها وتفوُّقها. 4- إِعمالُ جميعِ النصوص المتعلقة بكل مسألة من المسائل، وعدم إهمال أيٍّ منها، لأن واقع النصوص أنها غير متعارضة في الأصل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدر عنه أحاديثُ متعارضة قطعاً، اللهم إلا في حالة النسخ فقط، وهي حالة قليلة نادرة. أما ما نراه من أحاديث متعارضة في كل مسألة من مسائل الفقه تقريباً فهو راجع إلى سند هذه الأحاديث، مما يتوجب علينا الوقوفُ عليه وبيانُه، وإِبعادُ الأحاديث الضعيفة والواهية، ومن باب أولى الأحاديث الموضوعة والتي لا أصل لها، التي شاعت في كتب الفقه، وكتب أصول الفقه، وفصلُها عن الأحاديث الصحيحة والحسنة.

5- استنطاقُ النصوصِ، واستنباطُ الأحكامِ منها، إِنما يتم بطرقٍ ثلاثٍ: إما بمقابلة نصٍّ بنصٍّ آخر، أي بتفسير نصٍّ بنصٍّ ثان، وهو الأقوى في الاستنباط، وإما بتفسير النص واستنطاقه بموجب المعارف الشرعية، وإما بتفسير النصِّ بموجب المعارف اللغوية الثابتة المشهورة دون الضعيفة منها والشاذة. فالنص يُؤْخذ معناه، إما بمقابلته مع نصٍّ آخر، وإما بتفسيره بحسب المعارف الشرعية، وإما بإخضاعه للمعارف اللغوية الثابتة فحسب. أما التأويلات البعيدة، والتفسيرات المتعسِّفة، وإخضاعُ النصوص ولَيُّها حتى تتوافق مع رأي الإمام أو المذهب، فيجب أن تُستبعَد تماماً من الأبحاث الفقهية إكراماً للفقه وللشرع، وصوناً لهما من الدخيل والتسريبات الغريبة التي طالما رأيناها بكثرةٍ في كتب الفقه، وخاصة تلك المؤلفة في عصرنا الراهن! 6- إن الأصل في كل مسلم أن يتقيد بالحكم الشرعي، ويلتزم به برضى واطمئنان، لا أن يأخذه ويعمل به وهو شاكٌّ في صحته، فحتى نُعِين المسلم على التقيُّد والالتزام بالحكم الشرعي برضى واطمئنان فإننا أتينا بهذا النموذج الذي يتضمَّن الأحكام وأدلتها مع البراهين على صحتها، والبراهين على خطأ ما سواها.

7- كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقَّون النصوص من القرآنِ الكريمِ والسنةِ النبويةِ تلقِّياً طبيعياً، كما نتلقى نحن الآن كلامَ بعضِنا لبعض، بمعنى أنهم كانوا بمجرد أن يسمعوا آيةً أو حديثاً، يفهمون المعنى المراد ببساطة العربي، وبداهة فطنته، فكانوا قَلَّما يختلفون في فهم النصوص، وقَلَّما يختلفون مِن ثمَّ في استنباط الأحكام منها، وقد جرى التابعون وتابعو التابعين على هذا النهج، ثم عندما جاء الفقهاء من بعد هؤلاء، ووُجدت عندئذ المذاهبُ الفقهية، وما صاحبها من تعصُّبٍ وتحزُّبٍ، بدأ الفقه يأخذ منحىً جديداً، ويبتعد تدريجياً عن طريقة التلقِّي الطبيعي، إلى طرائق يصح وصفها بأنها طرائق صناعية، بمعنى أن الصناعة في التلقِّي والاستنباط قد غلبت على اجتهادات هؤلاء الفقهاء لا سيما وأن كل فقيهٍ تابعٍ لمذهب أو إمام يُجْهِد عقَله وذِهنَه للانتصار لمذهبه وإِمامِه، ثم أخذ قسمٌ منهم بصنوف الجدل وعلم الكلام، أو قُلْ إنهم قد تأثروا قليلاً أو كثيراً بأساليب الجدل والكلام، إضافةً إلى ما وضعوه من قواعدَ أصوليةٍ مختلفةٍ، بالغوا في توسيعها وتفريعها وتعقيدها، فصار الفقه صناعة لا يعرفها بدقائقها إلا أربابُها المتخصِّصون، ومع الزمن وقف التَّلقي الطبيعي تماماً، واقتصر استنباط الأحكام على صُنَّاع الفقه، ثم قلَّ هؤلاء الصُّناع تدريجياً إلى أن أُغلق باب الاجتهاد.

وعلى ذلك أقول إنَّ السبب الرئيسي في غلق باب الاجتهاد، وذهاب المجتهدين هو أن الفقه أصبح صناعةً لها قواعدُ وأصولٌ قلًّما يفهمها ويستوعبها المتعلمون، ناهيك عن سواد الناس وذلك لتعقيداتها وتفريعاتها وتشعُّباتها، إذ راح علماء كلِ مذهبٍ يضعون القواعد الأصولية الخاصة بمذهبهم، ويتفننون في التفريعات والتشعُّبات، حتى غدت القواعدُ الأصوليةُ معقدة جداً، فاختلفت كثيراً الاجتهادات، وما صدر عنها من أحكامٍ، حتى إِنَّ الكثير من هذه الأحكام قد خرجت عن دائرةِ الاعتدال. فحتى يعود الفقه إلى طريقته الطبيعية وينأى عن التعقيدات والتَّشعُّبات، وتقل الخلافات المذهبية وما يصاحبها من تعصُّب، وبالتالي يوجَد المجتهدون الكُثْر، فإنني أتيت بهذا النموذج الذي أراه الأصحَّ لكتابة الفقه، مستلهماً طريقةَ الصحابة في الفقه والتلقِّي، ومبتعداً عن التعقيد والتَّشعُّب في الفهم، ولهذا فإن القارئ الكريم سيجد أن القواعد الأصولية التي تظهر في هذا النموذج تخلو من التعقيد والتشعُّب.

…إن الفارق بين طريقة الصحابة وطريقة أرباب صناعة الفقه، هي أن الصحابة كانوا يضعون النص أمامهم، فما يتبادر إلى أذهانهم من معانيه بمقتضى اللغة العربية، إضافةً إلى درايتهم وخبرتهم بمرامي النصوص التي عاشوا أجواءها ودلالاتها، يأخذونه ببساطة ودون تصنُّع. أما أرباب الصناعة الفقهية، فإنهم يضعون القواعد الأصولية المختلفة أمامهم أولا مع جميع تفريعاتها وتعقيداتها وتفصيلاتها، ثم يُخضعون النص لهذه القواعد، فتخرج منه معان كثيرة متشعبة بقدر هذه التفريعات والتشعُّبات، وهنا يقع الخلاف الكبير بينهم، كلٌّ يتمسَّك بالمعنى الذي فهمه، وبالحكم الذي استنبطه بحسب ما وضعه أمامَه من قواعد تفصيلية خاصةٍ به، ويُجْهِد نفسه في الدفاع عنه والمنافحة عنه انتصاراً لمذهب إِمامِه، حتى غدا الفقه أخيراً معرضاً واسعاً متنوعاً للأحكام المختلطة، الصحيحة والضعيفة والشاذة، ما أن يطَّلع عليها القارئ حتى يُصدَع رأسُه بهذا الكم الهائل من الآراء في كل مسألة فقهية. ومن أحبًّ أن يقف على أمثلةٍ مما أقول، فما عليه إلا أن يراجع الآراء الفقهية في المسائل التالية: ليلة القدر متى هي؟ والنوم هل هو ناقض للوضوء؟ والصلاة الوسطى ما هي؟ وتجدون الخلافات الواسعةَ والهائلةَ في هذه المسائل وفي غيرها في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني، وشرح صحيح مسلم للنووي.

8- أما كيف نتخلص من الطريقة الصناعية لاستنباط الأحكام الشرعية والاجتهاد، ونعود إِلى الطريقة الطبيعية التي سادت العصور الثلاثة الأولى، أي طريقة الصحابة والتابعين وتابعيهم في الاستدلال والاجتهاد، فما علينا إِلا الانكبابُ على النصوص من كتاب الله المجيد، والأحاديث النبوية الشريفة: قراءةً وحفظاً وتفسيراً، انكباباً يصحُّ وصفُه بأنه معايشةٌ دائمةٌ للنصوص الشرعية، يستمر السنين والسنين، حتى تتكون لدينا القدرة والدراية، التي كان يملكها صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعامل مع النصوص الشرعية فهماً واستنباطاً ودلالات، تماماً مثل القدرةِ التي نملكها نحن في التعامل مع كلامِ بعضنا لبعضٍ، فنفهم النصوص كما نفهم تماماً كلامَ بعضنا لبعضٍ، وبدون هذه الطريقة فلن يُفتحُ بابُ الاجتهاد، وإِن فُتح فلن يكون اجتهاداً صحيحاً فيه قابليةُ الدوام والاستمرارية. ولي هنا وقفةٌ مهمةٌ، فأقول ما يلي: إنَّ المجتهد إِما أن يكون مجتهِداً مطلقاً، وإِما أن يكون مجتهدَ مسألة، وإِما أن يكون مجتهد مذهبٍ كما هو معلوم، فأَما المجتهدان الأول والثاني فإن فيهما الخير الكثير للفقه وللمسلمين. أما مجتهد المذهب، وهو من يقوم بالاجتهاد بحسب القواعد الأُصولية التي يتبناها إِمامُه فينظر، فإن كان هذا المجتهدُ يُطلِق لعقلِه ولفهمِه العِنان في استنباط الأحكامِ، ولا يتقيد بما توصل إليه إِمامه من أحكام، فلا بأس، وفيه من الخير ما في المجتهد المطلق ومجتهد المسألةِ، وذلك كابن المنذر من الشافعية. وأما إن كان هذا المجتهدُ لا يخرج في اجتهاده عن اجتهاد إِمامه، ولا يكون له من همٍّ وقصدٍ إلا نصرة مذهبه وإِمامه فإن هذا المجتهد لا بدَّ من أن يُتهمُ بمجانبة النزاهةِ والموضوعيةِ، ويُحجَب في كثير من الأحيان عن الرأي الصائب والحكم الصحيح وذلك كالطحاوي من الحنفية.

ولي هنا وقفةٌ مهمة أخرى هي: أنَّ المسلمين كما أنهم في حاجةٍ لثورةٍ فكريةٍ غير تقليدية لإِنهاضهم وتخليصهم من التخلف، فإِنَّ الفقه الإسلاميَ في حاجةٍ هو الآخر لثورةٍ وإبداعٍ غير تقليديَّين من أجل إعادة الحياةِ إليه، ولا تكون الثورةُ بالتوسُّع في التعليم العالي في الجامعات وكليات الشريعة ولن تكون، ما دامت الجامعاتُ والكلياتُ تسير على المناهج الحالية، إِذ أنَّ هذه الجامعات والكليات، ومنها جامعةُ الأزهر، قد اعتمدت الطريقة الصناعية في الفقه وجمدت عليها، ولم يعد يُرجى منها إحداثُ ثورة فيه، ولذا لا نجد جامعةً ولا كلية شريعة قد خرَّجت مجتهدين ولا حتى فقهاء، وإنما تقوم هذه الجامعات والكلياتُ بتخريج متعلمين ومتفقهين فحسب، والفارق بين الفقيه والمتفقه، هو أن الفقيه يملك رأياً خاصاً به في المسائل الفقهية، أما المتفقه فهو من لا يملك رأياً خاصاً به، وإنما يملك آراءَ غيره من الفقهاء، فتجده إن سُئل عن مسألةٍ فقهية أجاب بقوله: إنَّ المذهب الفلاني يقول في هذه المسألة كذا، وإنَّ العالم أو الإمام العلاني يقول في هذه المسألة كذا وقلما تجده يُرجِّح بين الرأيين، وحتى لو قام بالترجيح فإن الرأي الذي يرجِّحه ليس رأيه هو وإنما هو رأي فقيه من الفقهاء. وإني أرى أنَّ الحل الأوحد هو فعلاً العودةُ إلى طريقة الصحابة في التلقي والاستنباط،وتكون بأن تقوم الجامعاتُ والكلياتُ والمعاهد الشرعيةُ بإِقرار هذه الطريقة وجعل المناهج كلها تقوم عليها، وما لم يحصل هذا، فإنَّ الفقه سيظلَّ في حالة جمودٍ وركود، والله يهدينا إلى الرشاد والسداد.

أحببت أن أذكر لكم هذه النقاط الرئيسية الثماني لشرح النموذج والتعريف به وبيان الغرض منه والدواعي إليه، وكلي أملٌ في أن يخرج في هذه الأمة الكريمة رجالٌ ينهجون هذا النهج، ويُعيدون إلى الفقه الإسلامي أَصالَتَه وجماله وعظمته ويتناولون ما يستجِدُّ من وقائعَ وأعمالٍ ومشاكلَ، ويستنبطون لها الأحكام الشرعية الصحيحة. …وقد التزمتُ في هذا الكتاب بوضع رقم كل حديث أخذته من مصدره كما هو مثبت فيه، وهو ما لم يحصل في الكتاب السابق رغم دقة النقل وصوابيته التامة فيه وهي إِضافة نافعة وذلك ليسهل الرجوع إلى أي حديث إن وُجِدَت لدى القارئ رغبةٌ وحاجةٌ إلى قراءته في مصدره. وحيث أنني التزمت عند تعدُّد رواة الحديث بوضع اسم صاحب اللفظ المثبت في الكتاب في مقدمة الرواة، وهو ما نوَّهت به في مقدمة كتاب [الجامع لأحكام الصلاة] فقد اكتفيتُ بوضع رقم الحديث المثْبَت فقط إلا في حالات قليلة دعت الدواعي إلى ذكر لفظٍ ثانٍ، فوضعت له رقماً هو الآخر. …وتجدون في آخر الكتاب ثَبتاً بمصادر النصوص المعتمدة في هذا الكتاب، مع ذِكر معلومات عنها حتى تُحْصَر المراجعةُ بها ويتسنى التثبُّتُ من صحة النصوص الواردة في الكتاب، وهذه المصادر في غالبيتها قد تمَّ ترتيب الأحاديث فيها على طريقة الرقم المتسلسل، والقليل منها تمَّ ترتيبُ الأحاديث فيها على طريقة الموضوعات، ولم تُوضع لها أرقامٌ متسلسلة، فما كان منها بحسب الطريقة الأولى، فإني أَثبتُّ الرقم المتسلسل للحديث، وما كان منها بحسب الطريقة الثانية، فإني أَثبتُّ رقم الجزء أولاً، ثم رقم الصفحة المتضمِّنة للحديث، هكذا (4/250) مثلاً، فرقم 4 هو رقم الجزء، ورقم 250 هو رقم الصفحة، باستثناء المعجم الكبير للطبراني، ومسند أبي يعلى الموصلي، فإن الرقم الأول هو رقم الجزء، والرقم الثاني هو رقم الحديث فيهما.

الفصل الأول: صيام رمضان - أحكام عامة

…وإني لأدعو الله السميع العليم أن يتقبًّل مني ما بذلتُ وما نويتُ وما إليه هدفت وأن يلقى هذا الكتاب من القبول ما لقيه الكتاب الأول، والحمد لله أولاً وآخراً. الخميس: 28 من شهر جمادى الأولى عام 1423هـ … 8 من آب (أغسطس) عام 2002 م الفصل الأول: صيام رمضان – أحكام عامة الفصل الأول صيامُ رمضان – أحكامٌ عامة: الصوم في اللغة هو الإمساك، والصمت، والركود، وما في معناها. وقد ورد الصوم بهذا المعنى في كتاب الله الكريم، قال تعالى {فكُلي واشربي وقَرِّي عيْناً فإِما تَرَيِنَّ من البَشَرِ أَحَداً فقولي إِني نَذَرتُ للرحمنِ صَوْماً فلن أُكلِّمَ اليومَ إِنْسِيَّاً} الآية 26 من سورة مريم. …وأما الصوم في الشرع، فهو إِمساكٌ عن المفَطِّرات، وهي: الأكل والشرب والجماع والاستعاط والاستقاء، بنيَّةِ التقرُّبِ إلى الله سبحانه من فجر اليوم إلى مغربه. وقد ورد الصوم بمعناه الشرعي في كثير من آيات الله الكريمات، لا حاجة لذكرها هنا وذلك لشهرتها ومعرفة الناس بها. فضل الصيام: ورد في فضل الصيام كثيرٌ من الأحاديث أذكر منها ما يلي: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {قال الله: كلُّ عملِ ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أَجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فلْيقلْ: إني امرؤٌ صائم والذي نفسي بيده لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه} رواه البخاري (1904) ومسلم والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {قال ربكم تبارك وتعالى: كلُّ العمل كفارةٌ، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أَجْزي به ... } رواه أبو داود الطيالسي (2485) وأحمد.

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {كلُّ عملِ ابن آدم يضاعَف، الحسنةُ عشرُ أمثالها إلى سبعِمائة ضعف، قال الله عزَّ وجلَّ: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أَجزي به ... } رواه مسلم (2707) والنَّسائي والدارمي والبيهقي. ورواه أحمد (9712) وابن ماجة بلفظ {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعِمائة ضعف، إلى ما شاء الله، قال الله عزَّ وجلَّ: إلا الصوم فإنه لي وأَنا أَجزي به ... } بزيادة (إلى ما شاء الله) . 2 – عن سهل – بن سعد – رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إِن في الجنة باباً يقال له الرَّيَّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحدٌ غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد} رواه البخاري (1896) ومسلم والنَّسائي. ورواه ابن ماجة (1640) والترمذي بلفظ { ... فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لم يظمأ أبداً} . 3– عن عبد الله – بن مسعود – رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {من استطاع الباءةَ فلْيتزوجْ فإِنه أغضُّ للبصر وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإِنه له وِجاءٌ} رواه البخاري (1905) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. والوِجاء: رضُّ الخِصيتين أو رضُّ عروقهما لقطع الشهوة.

4- عن حذيفة – بن اليمان - رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول {فتنةُ الرجل في أهله وماله وجارِه تُكفِّرها الصلاةُ والصيامُ والصدقةُ ... } رواه البخاري (1895) ومسلم. ورواه ابن أبي شيبة (8/595) بلفظ {فتنةُ الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وجاره، يكفِّرها الصيام والصدقة، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر} وعنه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {مَن خُتم له بصيام يومٍ دخل الجنة} رواه البزَّار (1038) . ورواه أحمد مطوَّلاً. قال الهيثمي [رجاله موثَّقون] . 5- عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أَيْ ربِّ منعتُه الطعامَ والشهواتِ بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل، فشفِّعني فيه، فيُشفَّعان} رواه أحمد (6626) وسنده حسن. ورواه الطبراني في كتاب المعجم الكبير. ورواه الحاكم وصححه. 6- عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال {أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مُرني بعملٍ يُدخلني الجنة، قال: عليك بالصوم، فإنه لا عِدْل له، ثم أتيته الثانية فقال لي: عليك بالصيام} رواه أحمد (22501) والنَّسائي وابن حِبَّان وابن خُزيمة وابن أبي شيبة والطبراني في المعجم الكبير. وفي لفظٍ ثانٍ عند ابن حِبَّان (3425) والنَّسائي { ... عليك بالصوم فإنه لا مِثلَ له ... } .

7- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الإمامُ العادل، والصائمُ حتى يفطر، ودعوةُ المظلوم، يرفعها الله دون الغَمام يوم القيامة وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول: بعزَّتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين} رواه ابن ماجة (1752) . والغمام هنا هو الغمام المذكور في قوله تعالى {يومَ تَشَقَّقُ السماءُ بالغَمَامِ} وفي قوله سبحانه {هل يَنْظُرون إلا أَن يأتيَهُم اللهُ في ظُلَلٍ من الغَمَامِ} . 8- عن عثمان بن أبي العاص رضي الله تعالى عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يقول {الصوم جُنَّةٌ من النار كجُنَّةِ أحدِكم من القتال} رواه النَّسائي (2231) وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان وابن أبي شَيْبَة. 9- عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {قال ربُّنا عزَّ وجلَّ: الصيام جُنَّةٌ يَستجِنُّ بها العبدُ من النار وهو لي وأنا أَجزي به} رواه أحمد (14724) بسند جيد. ورواه البيهقي. 10 - عن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ... والصومُ جُنَّة ما لم يَخْرِقْها ... } رواه أحمد (1690/1700) . ورواه الدارمي (1733) بلفظ {الصومُ جُنة ما لم يخرقها، قال أبو محمد: يعني بالغيبة} ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (4533) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.

فضل رمضان

فأكرمْ بالصيامِ من عبادةٍ هذه فضائلُها. فالصوم جُنَّة، أي حفظٌ وعصمة، وهو قامعٌ للشهوة لمن لم يستطع الزواج، وهو مكفِّرٌ للذنوب عند الفتن، وهو شافعٌ مشفَّع لصاحبه يوم القيامة، وللصائمين باب الرَّيَّان، من دخله منهم لم يظمأ أبداً. ويكفي في بيان فضل الصوم ما جاء في الحديث (الحسنةُ عشرُ أمثالها إلى سبعِمائةِ ضِعف، قال الله عزَّ وجلَّ: إلا الصوم فإنه لي وأنا أَجزي به) . فلو لم يكن للصوم من حديثٍ يذكر فضله إلا هذا الحديث لكفى. فحقاً إن الصوم لا مثلَ له ولا عِدلَ له كما ورد في الحديث السادس، وليس للصيام من نتيجة تبعاً لكل ما سبق، إلا دخول الجنة كما ورد في حديث حذيفة رضي الله عنه عند البزَّار وأحمد، واستحق بصيامه أن يكرمه الله باستجابة دعائِه، كما ورد في الحديث السابع. فضلُ رمضان: قد وردت في فضلِ شهرِ رمضانَ الأحاديثُ التالية: 1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول {الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مكفِّراتُ ما بينهنَّ إذا اجتَنَبَ الكبائر} رواه الإمام مسلم (552) وأحمد. ورواه البخاري في التاريخ الكبير. 2- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {رَغِم أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ، وَرغِم أنفُ رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يُغفَر له، ورَغِم أنفُ رجل أدرك عنده أبواه الكبرَ، فلم يُدخلاه الجنة – قال ربعي –: ولا أعلمه إلا قد قال: أو أحدُهما} رواه الإمام أحمد (7444) والترمذي وابن خُزيمة والحاكم، وإسناده جيد. 3- وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا دخل رمضان فُتحت له أبوابُ السماء، وغُلِّقتْ أبوابُ جهنم، وسُلسلت الشياطينُ} رواه البخاري (1899) ومسلم والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان والدارمي، باختلافٍ في الألفاظ.

4- وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه} رواه البخاري (38) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان. ولأحمد (8989) والنَّسائي في رواية ثانية من طريقه { ... غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر} بزيادة (وما تأخر) . قال المنذري بإسنادٍ حسن. إلا أن حماداً شكَّ في وصله، أو انفرد بهذه الزيادة قتيبة بن سعيد عن سفيان. 5- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {عُمرة في رمضان تعدل حَجَّةً} رواه ابن ماجة (2994) والنَّسائي وأحمد. وروى ابن ماجة (2991) الحديث بلفظه، وأحمد والترمذي من طريق وهب بن خَنْبَش. ورواه أحمد (14855) وابن ماجة من طريق جابر رضي الله تعالى عنه. وروى البخاري (1863) من طريقه، ومسلم وأبو داود بلفظ { ... فإنَّ عُمرةً في رمضان تقضي حجة أو حجة معي} وروى الطبراني في المعجم الكبير (25/364) وأبو داود وأحمد عن أم معقل رضي الله عنها قالت {يا رسول الله إني امرأة قد كبرتُ وقد سقمتُ، فهل عملٌ يَجزي عني من حجتي؟ فقال: عمرة في رمضان تُجْزيءُ عنك} . 6- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {إذا كان أول ليلة من رمضان، صُفِّدت الشياطين ومَرَدةُ الجن، وغُلِّقت أبوابُ النار، فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبوابُ الجنة، فلم يُغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغيَ الخير أَقْبِل ويا باغي الشَّرِّ أَقْصِر، ولله عُتَقاءُ من النار، وذلك في كل ليلة} رواه ابن ماجة (1642) وابن حِبَّان والبيهقي. ورواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. ورواه ابن خُزيمة (1883) إلا أنه قال {صُفِّدت الشياطينُ مَرَدةُ الجن} وروى الطبراني في كتاب المعجم الأوسط (1586) والنَّسائي قريباً منه من طريق عُتبة بن فرقد رضي الله عنه.

متى شرع الصيام الواجب؟

ودلالات هذه الأحاديث واضحة لا تحتاج إلى تفسير. فإذا أضيفت الأحاديث الواردة في فضل الصيام بشكل مطلق إلى موضوعنا هذا، هذا ظهر تماماً فضلُ رمضان والصوم فيه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسُه القرآن، فَلَرسولُ الله أجودُ بالخير من الريح المرسَلَة} رواه البخاري (6) ومسلم والنَّسائي والترمذي وأحمد وابن حِبَّان. متى شُرع الصيام الواجب؟ …اختلف الفقهاء والأئمة في تعيين أول صوم مفروض على المسلمين، فذهب الأحناف وابن حجر من الشافعية إلى أن أول ما فُرض هو صيام يوم عاشوراء. وزاد الأحناف: ثلاثة أيام من كل شهر. وقالوا: إن ذلك قد نُسخ بصوم رمضان، بحيث يمسك الصائم من صلاة العشاء إلى غروب الشمس، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى {أُحِلَّ لكم ليلةَ الصيامِ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم هُنَّ لِباسٌ لكم وأَنتم لِباسٌ لهنَّ عَلِمَ الله أَنكم كُنتم تخْتانُون أَنْفُسَكم فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآن باشِرُوهُنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشْربوا حتى يتبينَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسْودِ من الفَجْرِ ثم أَتِمُّوا الصيامَ إِلى الليل ... } من الآية 187 من سورة البقرة. كما أنهم استدلوا على ما ذهبوا إليه بالأحاديث التالية:

1- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال {أُحيلت الصلاةُ ثلاثةَ أحوال، وأُحيل الصيامُ ثلاثةَ أحوال – فذكر الحديث إلى أن قال – وأما أحوالُ الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينة، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام – وقال يزيد: تسعة عشر شهراً – من ربيع الأول إلى رمضان، من كل شهر ثلاثة أيام وصام يوم عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام فأنزل الله عزَّ وجلَّ (يا أَيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ كما كُتبَ على الذين من قبلِكم ... ) إلى هذه الآية ( ... وعلى الذين يُطيقونُه فِدْيةٌ طعامُ مسكين ... ) قال: فكان مَن شاء صام، ومن شاء أطعم مسكيناً، فأجزأ ذلك عنه، قال: ثم إن الله عزَّ وجلَّ أنزل الآية الأخرى (شهرُ رمضانَ الذي أُنزلَ فيه القرآنُ ... ) إلى قوله ( ... فمن شهدَ منكم الشَّهرَ فَلْيصُمْه ... ) قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبَّت الإِطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، فهذان حَوْلان، قال: وكانوا يأكلون ويشربون، ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا، قال: ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له صِرْمة، ظل يعمل صائماً حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلَّى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائماً، قال: فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جَهَد جَهْداً شديداً، قال: مالي أراك قد جَهَدْت جَهْداً شديداً؟ قال: يا رسول الله، إني عملتُ أمسِ، فجئت حين جئت، فألقيتُ نفسي فنمت، وأصبحتُ حين أصبحتُ صائماً، قال: وكان عمر قد أصاب النساء من جارية، أو من حرَّة، بعدما نام، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل الله عزَّ وجلَّ (أُحلَّ لكم ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم …) إلى قوله ( ... ثم أتِمُّوا الصيامَ إِلى الليلِ ... ) – وقال يزيد –

فصام تسعةَ عشر شهراً من ربيع الأول إلى رمضان} رواه الإمام أحمد (22475) وأبو داود والبيهقي. وروى مسلم وأحمد مثله عن عبد الله بن مسعود أيضاً. 2- عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال {صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان تُرِك، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه} رواه البخاري (1892) ومسلم وأحمد والبيهقي. وفي لفظٍ ثان للبخاري (4501) ومسلم وأبي داود وأحمد من طريقه {كان عاشوراء يصومه أهلُ الجاهلية، فلما نزل رمضان قال: من شاء صامه، ومن لم يشأ لم يصمه} . 3- عن عائشة رضي الله عنها {أن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فُرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء فلْيصُمْ ومن شاء أفطر} رواه البخاري (1893) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وروى البخاري (4504) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي ومالك وأحمد والدارمي من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت {كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان رمضانُ الفريضةَ وتُرك عاشوراء، فكان من شاء صامه، ومن شاء لم يصمه} . 4- عن علقمة عن عبد الله - بن مسعود – رضي الله تعالى عنه قال {دخل عليه الأشعث وهو يَطْعَم فقال: اليوم عاشوراء، فقال: كان يُصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان تُرك، فادْنُ فكُل} رواه البخاري (4503) ومسلم وأحمد والبيهقي.

5- عن الرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ رضي الله عنها قالت {أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فلْيُتمَّ بقيةَ يومه ومن أصبح صائماً فلْيصمْ قالت: فكنا نصومه بعدُ ونُصوِّم صبيانَنا، ونجعل لهم اللعبةَ من العِهْن فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار} رواه البخاري (1960) ومسلم وابن خُزيمة وابن حِبَّان والبيهقي. 6- عن سَلَمَة بن الأكوع رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء: إِنَّ مَن أكل فليُتِمَّ أو فلْيصُمْ ومن لم يأكل فلا يأكل} رواه البخاري (1924) ومسلم والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان والدارمي. وذهب الجمهور والشافعية في المشهور عنهم، إلى أنه لم يُفرض قطُّ صومٌ قبل صوم رمضان، واستدلوا على قولهم هذا بما روى حُمَيد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما يوم عاشوراء عام حجٍّ على المنبر يقول {يا أهل المدينة أين علماؤُكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا يوم عاشوراء، ولم يَكْتُب الله عليكم صيامَه وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر} رواه البخاري (2003) ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان. ورواه أحمد بن حنبل (16992) بلفظ {هذا يوم عاشوراء، ولم يُفرض علينا صيامُه، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم فإني صائم، فصام الناس} فنقول ما يلي: الحديث رقم 1 الذي رواه أحمد من طريق معاذ رضي الله عنه فيه انقطاع بين عبد الرحمن ابن أبي ليلى ومعاذ، وذلك أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذاً كما ذكر ذلك المحدِّثون، فهو إذن حديث منقطعٌ، فيُردُّ سنداً، وبردِّه يُرَدُّ قول الأحناف بفرض صيام ثلاثة أيام قبل شهر رمضان. ونأتي الآن لمناقشة الأدلة الصحيحة:

الآية ليس فيها ذكرٌ لأي صومٍ فُرض على المسلمين قبل رمضان ولذا فإن هذه الآية لا يصح الاستدلال بها على موضوعنا. أما حديثا ابن عمر وحديثا عائشة عند البخاري، فإن ألفاظها لها دلالة واحدة، هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بصوم عاشوراء إلى أن فُرض رمضان فلما فُرض رمضان لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بصوم عاشوراء. وهذا الأمر يشكِّل دليلاً على أن يوم عاشوراء كان صومُه مفروضاً على المسلمين عند من يقولون ويتبنَّون أن الأمر يفيد الوجوب. فنقول لهؤلاء: إننا لا نُقِرُّكم على أن الأمر يفيد الوجوب، وإنما نحن نرى أن الأمر يفيد مجرد الطلب، والقرائن هي التي تحدِّد نوع الطلب إن كان واجباً أو مندوباً أو حتى مباحاً وإذن فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصيام يوم عاشوراء، هكذا دون قرينة على الوجوب، لا يدل على أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً. ونضيف لهؤلاء القول: إنكم لا تقولون ما تقولون على إطلاقه، وإنما تقولون إن الأمر يفيد الوجوب، إلا إن وُجِدت قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب مثلاً، فهلا بحثتم عن القرينة، وهي موجودة في النصوص بشكل لا يخفى على فقيه؟!

…إن حديث معاوية عند البخاري وأحمد، يصلح قرينةً ظاهرةً تصرف الأمر النبوي الكريم إلى الندب، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لم يَكْتُب اللهُ عليكم صيامه وأنا صائم) ، أو قوله (ولم يُفرض علينا صيامُه فمن شاء منكم أن يصوم فليصم) هو قرينة على أن الأمر النبوي الكريم بصيام يوم عاشوراء كان أمراً على الندب وليس على الوجوب. أما أنه ليس أمراً على الوجوب فواضحٌ بالمنطوق، وأما أنه أمرٌ على الندب فهو أنه عليه الصلاة والسلام قال للمسلمين (وأنا صائم) وقال لهم (فمن شاء منكم أن يصوم فليصم) فكونه عليه الصلاة والسلام يعلن أنه صائم ويأمر من يشاء أن يصوم بالصوم، وكون الصوم عبادة يُتقرب بها إلى الله سبحانه فإن ذلك يشكل دليلاً وقرينة على أن صيام عاشوراء مندوب. …أما استدلالهم بحديثي الرُّبيِّع عند البخاري، وحديث سَلَمة بن الأكوع عنده أيضاً، فأقول: إن لفظ الحديثين من حيث الدلالة واحد، الحديث الأول يقول (من أصبح مفطراً فلْيُتمَّ بقيةَ يومه، ومن أصبح صائماً فليصم) والحديث الثاني يقول (إنَّ مَن أكل فليُتمَّ أو فلْيصمْ، ومن لم يأكل فلا يأكل) وهذان الحديثان لم يأتيا في باب فرض الصوم لا بالمنطوق ولا بالمفهوم، أما بخصوص المنطوق فواضح، وأما بخصوص المفهوم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يأمر بأمرٍ واجبٍ يُرشدنا إلى كيفيته، وأيضاً عندما يأمرنا بأمر مندوب يرشدنا إلى كيفيته دون أن يكون لذِكر الكيفية دلالةٌ على الوجوب أو على الندب، وإنما هي تابعة في الحكم لأصل الأمر، فإن كان الأمر للوجوب أُلحقت كيفيته به، وإن كان الأمر للندب كانت الكيفية تابعة له في الندب. ولا حاجة بنا لذكر الأمثلة على ما نقول فهي من الشيوع والشهرة بحيث لا تخفى على عالم أو فقيه. وهنا جاء ذكر كيفية العمل عند مرور وقتٍ من نهار يومٍ يُصام ولا تدل هذه الكيفية مطلقاً على وجوب ذلك الصوم.

…وأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه لا يضيف شيئاً إلى أحاديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، وهكذا يبقى حديث معاوية بمنطوقه دليلاً ناصعاً على نفي وجوب صيام يوم عاشوراء، فوجب القول به وترك ما سواه. ثم مالنا نبتعد كثيراً في البحث في هذه المسألة، وعندنا الدليل والفيصل الساطع في كتاب الله الكريم، يقول تعالى في الآية 183 من سورة البقرة {يا أيها الذين آمنوا كُتبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قبلِكُم لعلَّكم تتَّقون} انظروا في قوله {كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم} فقوله كتب عليكم الصيام هنا، جاءت كلمة الصيام عامة ومطلقة، وجاء البيان بأن الصيام قد كتب علينا آنذاك ولو كان الصيام مفروضاً علينا من قبل لما جاء اللفظ الكريم هكذا، فهذه الآية الكريمة جاءت تعلن فرض الصيام، وتدل على أنه لم يكن صيامٌ مفروضٌ قبل ذلك، هذه واحدة. والثانية هي قوله، كما كتب على الذين من قبلكم، ولو كان الصيام مكتوباً علينا من قبل هذه الآية لما جاء القول كما كتب على الذين من قبلكم، فقد قال كما كتب على الذين من قبلكم، ولم يقل كما كتب عليكم في يوم عاشوراء مثلاً، وهذا دليل ناصع على أنه لم يكن على المسلمين صيام واجب قبل صيام شهر رمضان، وغفر الله لمن يقول غير ذلك وإِنما الأخطاء عند الفقهاء والعلماء تأتي من الاقتصار على دليل أو بضعة أدلة وترك ما عداها، وكأنَّ الاجتهاد مسالةُ انتقاءٍ للنصوص، وليس أخذاً بها وإِعمالاً لها كلِّها إلا أن يكون منها ضعيف أو مخالفٌ للأحاديث الصحيحة فيطرح ولا يُلتفت إليه. …وقد نطقت عدةُ أحاديث بفرض صيام شهر رمضان دون أن نجد حديثاً واحداً ينطق بفرض صيام عاشوراء، أذكر منها على سبيل المثال:

النية في الصيام

1- عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه {أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله ... أخبرني بما فرض الله عليَّ من الصيام؟ فقال: شهر رمضان، إلا أن تَطوَّع شيئاً ... } رواه البخاري (1891) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 2- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإِقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، والحجِ، وصومِ رمضانَ} رواه البخاري (8) ومسلم والنَّسائي والترمذي وأحمد. ولا يُبنى الإسلام إلا على الفروض الواجبة، بل ولا يُبنى إلا على الأركان. النيَّة في الصيام: ذهب عبد الله بن عمر وجابر بن زيد من الصحابة، ومالك والليث وابن أبي ذئب إلى أنه لا بُدَّ من تبييت نيةِ الصيام وإيقاعِها في الليل في أي جزء منه، لا فرق في الصيام بين الواجب منه والمندوب، أي لا فرق بين صيام رمضان وصيام النذر وصيام الكفارات الواجب، وبين صيام التطوُّع المندوب. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى وجوب تبييت النية في الليل لصيام الفرض دون صيام التطوُّع، قائلين إنه لا يجب تبييت النية في صيام التطوُّع.

…وهل تجب النية في رمضان لكل يوم كما يقول الجمهور، أم أن الصائم تُجزِئهُ نيةٌ واحدةٌ لجميع الشهر، كما يقول مالك وأحمد وإسحق؟ وهل يصح الصيام في رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية كما يقول زُفر من الأحناف وعطاء ومجاهد والزُّهري؟ وإذا جازت النية في النهار في صيام التطوُّع، كما يقول ابن عباس وابن مسعود وحذيفة وأبو هريرة وأبو الدرداء وأبو طلحة وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهم، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد، فهل تجب النية قبل الزوال – أي قبل الظهيرة – ولا تجزئ بعدها كما يُروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبي حنيفة وعن الشافعي في قولٍ له؟ أم تصحُّ النية قبل الظهر وبعده، كما يقول ابن عباس وعائشة وحذيفة رضي الله عنهم، وأحمد والشافعي في القول الآخر؟ وحتى نتبين وجه الحق في هذه المسائل دعونا نستعرض هذه النصوص: 1- عن حفصة رضي الله عنها زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال {من لم يُجْمِع الصيامَ قبل الفجر فلا صيام له} رواه ابن خُزيمة (1933) وأضاف [وأخبرني ابن عبد الحكم أن ابن وهب أخبرهم بمثله سواء، وزاد قال: وقال لي مالك والليث بمثله] ورواه أيضاً أحمد وابن حِبَّان والحاكم وابن حزم وصححوه هكذا، أي مرفوعاً. في حين أن النَّسائي والترمذي صحَّحا وقفه على حفصة. وذكر أبو داود بعد أن رواه مرفوعاً أن مَعْمَرَ والزُّبيدي وابن عُيينة ويونس الأَيلي وقفوه على حفصة أيضاً. ورواه ابن ماجة والدارمي مرفوعاً فقط. فهذا الحديث مختلَف فيه، منهم من صحَّح رفعه، ومنهم من صحَّح وقفه على حفصة.

2- عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت {دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيءٌ؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم، ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله أُهدي لنا حَيْسٌ، فقال: أرينيه، فلقد أصبحتُ صائماً، فأكل} رواه مسلم (2715) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. والحَيْس: هو طعامٌ من سمن وأَقِط، أي جميد، وتمر، وقد يُجعل الدقيق بدل الأقِطِ. ووقع عند النَّسائي (2330) أيضاً، والبيهقي والدارَقُطني بسند صحَّحه البيهقي، بلفظ {عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم من طعام؟ قلت: لا، قال: إذن أصوم، قالت: ودخل عليَّ مرة أخرى، فقلت: يا رسول الله قد أُهدي لنا حَيْسٌ، فقال: إذن أُفطِر وقد فرضتُ الصوم} . 3- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار} رواه البيهقي (4/277) . وروى مثله من طريق أبي أُمامة رضي الله عنه. 4- عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {أنه كان يصبح حتى يُظهر، ثم يقول: والله لقد أصبحتُ وما أريد الصوم، وما أكلتُ من طعامٍ ولا شرابٍ منذ اليوم، ولأصومنَّ يومي هذا} رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2 /56) . 5- عن أبي الأحوص عن عبد الله – بن مسعود – رضي الله عنه قال {متى أصبحتَ يوماً فأنتَ على أحد النظرين ما لم تَطْعَمْ أو تشربْ إن شئت فصم وإن شئت فأَفطر} رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/56) وروى البيهقي مثله (4/277) . 6- عن أبي عبد الرحمن {أن حذيفة بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس فصام} رواه الطحاوي في كتاب شرح معاني الآثار (2/56) وابن أبي شيبة والبيهقي. وروى عبد الرزاق (7780) عن سعد بن عبيدة قال {قال حذيفة: من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم} .

الحديث الثالث من طريق أنس رضي الله تعالى عنه فيه عون بن عمارة العنبري وكذلك رواية أبي أُمامة رضي الله تعالى عنه تفرَّد بها عون هذا وهو ضعيف كما ذكر البيهقي نفسه، فيرد الحديث بروايتيه. والحديث الأول رُوي عن أُم المؤمنين حفصة، مرفوعاً وموقوفاً، وقد صحَّح المرفوع ناسٌ وصحَّح الموقوف ناس آخرون فأقول: إن الزيادة من الثقات مقبولة، والزيادة هنا رفعُ الحديث إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقد صحَّت عند عدد من المحدِّثين. وهذا الحديث واضح الدلالة على وجوب تبييت النية قبل الفجر، أي في الليل، وقد جاء اللفظ عاماً في الصيام، فيُعمَل به على عمومه إلا أن تَرِدَ أحاديثُ تخصِّصه فيُحمَل عليها وقد جاء الحديثان المرويان عن عائشة رضي الله عنها في البند 2 يذكران أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نوى الصيام في النهار عندما لم يجد طعاماً عندها، وأنه عندما وجد طعاماً مرة أخرى، وكان صائماً، أفطر وأكل من الطعام، ليدل كلُّ ذلك على جواز النية في النهار لصوم التطوُّع، لأن واقع الحديثين أنه في التطوُّع، فكان هذان الحديثان صالحيَن لصرف حديث حفصة إلى صيام الفريضة. وعليه فإِنَّا نقول إِنه لا بد لصيام الفرض من نيَّة مبيَّتة في الليل، ونقول إنه يجوز عقدُ النية في النهار لصيام التطوع. وبهذا يُرَدُّ القول الأول المروي عن عبد الله بن عمر وجابر ومالك والليث وابن أبي ذئب بأن المندوب يحتاج أيضاً إلى تبييت النية من الليل إذ أن حديث عائشة ردٌّ على هؤلاء، ويثبت في المقابل قولُ أبي حنيفة والشافعي وأحمد بوجوب تبييت النية في الليل لصيام الفرض فقط دون صيام التطوُّع.

…بقيت الآثار ذوات الأرقام (4، 5، 6) فأقول ما يلي: إِن هذه أقوالُ صحابة، وأقوال الصحابة وأفعالهم ليست أدلةً وليست حُجةً، وإنما هي أحكام شرعية يصح تبنِّيها وتقليدُها، لا سيما إذا لم يكن قد رُوي ما يعارضها عن صحابة آخرين، وهنا لا أعلم أثراً واحداً رُوي يخالفها. الأثر الأول يقول إنَّ ابن عباس قد قرَّر الصيام في النهار دون أن يكون قد نواه من قبلُ ولكنه لم يكن قد تناول طعاماً في يومه ذاك. والأثر الثاني عن ابن مسعود يقول بقول ابن عباس، وإن اختلفت العبارتان، فهو يبين جواز عقد نية الصيام في النهار إن كان لم يأكل أو لم يشرب بعد. والأثر الثالث يذكر أن حُذَيفة صام بعد زوال الشمس من نهاره أي أنه عقد نية الصيام بعد الظهيرة وأعلن ذلك للناس. فهؤلاء ثلاثة من كبار الصحابة يجيزون عقد نية الصيام في النهار، وقيَّده اثنان منهم بأن لا يكون الشخص آنذاك قد أكل أو شرب، وذكر حذيفة جواز عقد النية بعد الظهيرة، وهذه الآثار ردٌّ على من أوجب عقد النية قبل الظهيرة ولم يُجزها بعد الظهيرة. أما فعل حذيفة وقوله فواضحان، وأما أثرا ابن عباس وابن مسعود فقد وردا مطلقَيْن من أي تقييد زمني، ولم يكن فيهما من تقييدٍ سوى عدم الأكل قبل النية والمطلق يُعمل به على إطلاقه ما لم يُقيَّد، وهنا لا يوجد تقييد. ثم إن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قد خلا بروايتيه أيضاً من أي تقييدٍ زمني، فقوله في الرواية الأولى (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم) وقوله في الرواية الثانية (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً) دون أن يَرِدَ في هاتين الروايتين إن كان ذلك قد وقع في أول النهار أو في وسطه أو في آخره، والمطلق يبقى على إطلاقه هنا.

صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته

وعليه فإني أقول إن عقد نية صيام التطوُّع يصح في النهار، في أي جزء منه، ولو كان ذلك قبل الغروب بساعة لأنه لا يصح تقييده إلا بدليل صحيح صالح ولا دليل هنا. وبذلك يظهر خطأ الذين أوجبوا عقد النية قبل الظهيرة فقط ويظهر صواب رأي القائلين بجواز عقد النية قبل الظهيرة وبعدها، وهم عبد الله بن عباس وعائشة وحذيفة وأحمد والشافعي في أحد قوليه. …أما مسألة: هل تجب النية في رمضان لكل يومٍ أم أن الصائم تُجْزِئه نيةٌ واحدة لجميع الشهر؟ فالصحيح هو أن النية تجب في رمضان لكل يوم وليس صحيحاً أن نيةً واحدةً تُجزئُ لجميع الشهر، وذلك لأن صوم كل يوم هو عبادة مستقلة عما قبلها، وعما بعدها، يفصل بين الصوم والآخر إفطارٌ في الليل، وما دام صوم كل يوم عبادة مستقلة فإنه لا بد له من نية حتى يصحَّ، وهذا الفهم هو من باب تحقيق المناط. …بقي قول زُفَر وعطاء ومجاهد والزُّهري: إن الصيام يصح في رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نيَّة. وقد قرأت رأي زُفَر في كتاب شرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي هكذا [يتأدَّى صومُ رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم، لأن الإمساك مستحق عليه، فعلى أي وجه يؤديه يقع منه] وغفر الله لزُفَر ولمن قال بقوله، وكأنهم لا يعلمون أن العبادات كلها تحتاج إلى نية؟ ألم يسمعوا قوله عليه الصلاة والسلام كما رواه عمر رضي الله تعالى عنه {إنما الأعمال بالنيَّة …} رواه البخاري (6689) ومسلم؟ . وفي رواية أخرى له (1) بلفظ {إنما الأعمال بالنيَّات ... } ؟ فكيف يقول: على أي وجه يُؤدِّيه يقع منه؟ بمعنى أنه لو أمسك عن الطعام ذلك اليوم بنيَّة تنحيف جسمه مثلاً فإن صيامه يكون عبادة صحيحة؟ إن هذا الرأي ليبلغ من الضعف درجة لا يحتاج معها إلى وقفة أطول. صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته:

قال الترمذي [والعمل على هذا الحديث – حديث ابن عباس وسيأتي – عند أكثر أهل العلم، قالوا: تُقبل شهادة واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد. وقال إسحق: لا يُصام إلا بشهادة رجلين. ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين] وقال الخطَّابي: لا أعلم اختلافاً في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رواية هلال شوال، وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين. …وقد ذهب الجمهور إلى القول بشهادة شاهد واحد عدلٍ في رؤية هلال رمضان، أي في بدء الصوم، وعندهم أنه إن شهد مسلم واحد عدل أنه رأى هلال رمضان فقد وجب الصيام على جميع المسلمين، قال أحمد: ولو كان عبداً أو امرأة، وهو قولٌ للشافعية. ومعتمد مذهب الشافعية أنه لا بد من أن يكون الشاهد حراً ذكراً وأجاز الأحناف شهادة العدل ولو كان عبداً أو أنثى إذا كان بالسماء غيم. وخالف الجمهورَ المالكيةُ وإسحقُ بن راهُويه، فأوجبوا لثبوت هلال رمضان شهادةَ شاهدين عدلين ذكرين حرَّين بالغين أو جماعةٍ كثيرةٍ وعندئذ لا يشترط أن يكونوا كلهم ذكوراً أحراراً عدولاً. …أما بخصوص ثبوت رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار فذهب الجمهور والأئمة الأربعة إلى أنه لا بد من شهادة شاهدَيْن في ثبوت رؤية هلال شوال. وقال الأحناف بوجوب أن يكون الشاهدان عدلين حريَّن، أو حراً وحرَّتين بلفظ الشهادة. وخالفهم أبو ثور وابن المنذر من الشافعية، وابن رُشْد من المالكية والشوكاني، فأجازوا شهادة شاهد واحد عدل في إثبات رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار. ونحن ننظر في النصوص التالية لنرى الرأي في هذه المسألة بحول الله تعالى: أولاً: النصوص المتعلقة برؤية هلال رمضان:

1- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرتُ الليلةَ الهلالَ فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال: نعم قال: قم يا فلان فأذِّن بالناس فلْيصوموا غداً} رواه ابن خُزيمة (1923) وابن حِبَّان. ورواه أبو داود (2340) بلفظ { ... إني رأيت الهلال – قال الحسن في حديثه: يعني رمضان ... } وروى الحديثَ أيضاً النَّسائي والترمذي وابن أبي شيبة، وصححه الحاكم والذهبي. 2- عن حسين بن الحارث الجدلي، من جديلةِ قيس، أن أمير مكة خطب، ثم قال {عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنْسُك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما ... ثم قال الأمير: إنَّ فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني، وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر، وصدق، كان أعلم بالله منه، فقال: بذلك أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه أبو داود (2338) والدارَقُطني وصححه. ورواه البيهقي. قوله ننْسُك: أي نعبد، وهنا معناه نحجُّ. وقوله ننْسُك للرؤية: الرؤية هنا رؤية هلال ذي الحجة. 3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال {تراءى الناسُ الهلال، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه} رواه أبو داود (2342) والدارمي والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان والحاكم وابن حزم وصححوه.

الحديث الثاني، حديث أمير مكة، ليس هو في باب الصوم، وإنما هو في باب الحج فيبقى فيه، ونَدَعه هناك. فيبقى حديثا ابن عباس وابن عمر: الأول يذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أثبت رؤية هلال رمضان وأمر بالصيام لشهادة أعرابيٍّ واحدٍ. والحديث الثاني يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثبت رؤية هلال رمضان، وأمر بالصيام لشهادة ابن عمر نفسه. وهذان حديثان صالحان للاحتجاج، ويدلان دلالة لا تقبل التأويل على أن ثبوت هلال رمضان وبدء الصوم يثبتان بشهادة شاهد واحد، وهذا ردٌّ على من أوجب شهادة شاهدَيْن اثنين، وهم المالكية وإسحق ابن راهُويه. والأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى وِقفة أطول. ثانياً: النصوص المتعلقة برؤية هلال شوال: 1- عن ربعي، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائماً لتمام الثلاثين من رمضان، فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله وأنهما أَهَلاَّه بالأمس، فأمرهم فأفطروا} رواه الدارَقُطني (2/168) وقال [هذا صحيح] ورواه أبو داود والنَّسائي وأحمد. 2- عن الحسين بن الحارث قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب يقول {إنَّا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمنا منهم، وإِنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أُغمي عليكم فعُدُّوا ثلاثين، فإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأَفطروا وانْسُكوا} رواه الدارَقُطني (2/167) وأحمد والنَّسائي. ولفظ أحمد (19101) {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وأنْ انسكوا لها فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثلاثين وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا} 3- عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه قال {إذا شهد رجلان ذوا عدلٍ على رؤية الهلال فأفطروا} رواه ابن أبي شيبة (2/482) .

4- عن أبي عُمَير بن أنس بن مالك قال: حدثني عمومتي من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا {أُغمي علينا هلالُ شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغَد} رواه ابن ماجة (1653) وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان والطحاوي. وقال الدارَقُطني [إسناده حسن] وكذا قال البيهقي، وقال [والصحابة كلهم عُدول سُمُّوا، أو لم يُسَمَّوْا] . 5- عن أنس رضي الله تعالى عنه {أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال، هلالِ شوال، فأمرهم أن يفطروا، وأن يغدوا على عيدهم} رواه البزَّار (972) وأبو بكر القُطَيعي على مسند الإمام أحمد. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] . الحديث الثاني عند الدارَقُطني وأحمد رواه الحجَّاج وهو ضعيف، فيُترك سنداً. أما من حيث المتن فإن الزيادة (فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا) غير محفوظة، وذلك أن صدر الحديث رُوي من عدة طرق في الصحاح، ليست فيها هذه الزيادة، فيُرَدُّ متناً. أما رواية النَّسائي فليس فيها الحجاج وإنما فيها إبراهيم بن يعقوب قال عنه الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال [متَّهم بالكذب تالف] فيُرَدُّ هذا الحديث أيضاً من رواية النَّسائي. أما الحديث الثالث فهو من رواية الحارث الأعور، وهو متَّهم بالكذب، فيُرَد الحديث. فتبقى عندنا الأحاديث ذوات الأرقام 1، 4، 5.

…الحديث الأول يقول (فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله، وأنهما أهَلاَّه بالأمس، فأمرهم فأفطروا) والرابع يقول (فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا) والخامس يقول (أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال، هلالِ شوال، فأمرهم أن يفطروا) بالنظر في هذه الألفاظ الثلاثة نجدها ذات نسق واحد، هو أن الذي حصل كان وقائع أعيَانٍ، أي وقائع حصلت مصادفةً لم تتضمَّن شرطاً أو شروطاً، فليس في أيٍّ منها ذِكرٌ لأي اشتراط بأن يكون الشهود اثنين أو ركباً أو قوماً، وإنما حصل أن جاء أعرابيان، وحصل أن جاء ركْبٌ، وحصل أن جاء قومٌ، فلا تفيد هذه النصوص لا لغةً ولا شرعاً أن أقل من ذلك لا يُقبل، فمن أدَّعى غير ذلك فليأتنا بالدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ شهادة شخص واحد في رؤية هلال شوال. والمعلوم أن وقائع الأعيان لا مفهوم لها ولا يقاس عليها، ولا تدل على اشتراط أو تقييد، وأَن كون الشهود أكثر من رجل واحد في هذه النصوص لا يعني أن شخصاً واحداً لا تكفي شهادته. فالقائل بكفاية شخص واحد إن جاءه اثنان أو خمسة أو عشرة أو مائة فإنه بلا شك سيقبلهم، وزيادة الخير خير كما يقال، وإنَّ الشخص الواحد الكافي ليدخل في الجموع ويتحقق المطلوب. وعليه فليس في هذه النصوص ما يدل على تقييدٍ أو اشتراطِ اثنين أو أكثر لرؤية هلال شوال.

وأقول لمن يرى في هذه النصوص أنها دالة على تقييدٍ أو اشتراطٍ: إنَّ الأخذَ بالحديث الرابع والحديث الخامس، حسب فهمهم، يعني أنه لا يصح قبول الشاهدَيْن فقط كما ورد في الحديث الأول، فالقائلون بأن هذه النصوص توجب التقيد بالعدد يصبحون في حيرةٍ، مالهم منها من خلاصٍ، فهم إما أن يُعمِلوا النصوصَ الثلاثة، وبذلك ينفون جواز الاثنين لأنهما أقل من الرَّكب ومن القوم، وإما أن يعتبروها متعارضة فيأخذ من شاء منهم بالاثنين ويرُدُّ الرَّكب والقوم، ويأخذ من شاء منهم بالرَّكب والقوم ويرد الاثنين!! …إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فاشترطَ الرؤيةَ عمومَ الرؤيةِ، لرؤية هلال رمضان ولرؤية هلال شوال، ولم يفرِّق هذا النص البالغ الصحة بين الصوم والإفطار، فوجب القول بالتساوي بينهما نصوم للرؤية على عمومها، ونفطر للرؤية على عمومها، دون أن نجد مخصِّصاً واحداً لهذه الرؤية، وإنما وجدنا نصوصاً تذكر قبول الشاهد الواحد على الصيام، فنعمِّمُ القولَ بالشاهد الواحد كإثباتٍ على حصول الرؤية، وحيث أن الرؤية لهلال الصوم كالرؤية لهلال الإفطار فإن شاهداً واحداً قد ثبت قبولُه في أحدهما يجب أن يُقبَل في الآخر إلا أن تأتي نصوصٌ تستثني الآخَر من العموم، ولا نصوصَ مطلقاً. وثمةَ نقطةٌ مهمة أذكرها هنا هي أن القول بقبول رؤية الشاهد الواحد لهلال رمضان يستلزم الإفطارَ عند تمام الشهر استناداً إلى قوله، وهذه الحالة تعني قبولَ رؤيةِ هذا الشاهد الواحد في ثبوت شهر شوال. وبذلك يظهر أنَّ الأئمة الأربعة أخطأوا في اشتراط الشاهدَيْن للإِفطار، ويظهر صواب رأي أبي ثور وابن المنذر وابن رشد والشوكاني القائلين بالمساواة بين رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال.

…وأما التفريعات المذكورة في ثنايا صدر البحث من حيث الحُرُّ والعبدُ والذكرُ والأنثى والغيومُ فلا محل لها هنا ولا دليل عليها. أما العبد فلم يعد له وجود فلا نُشغِلُ أنفسَنا به، وأما الذَّكَر والأنثى فإن العَدْل منهما تُقبل شهادته، فالعدالة في الإسلام لم تُعطَ للذكر فقط ولا للأنثى فقط، وإنما هما مشتركان فيها، وما جاء في النصوص من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين فإنما يُقصَر على الموضوعات الواردة فيه، ولا يُعمَّم. مسألة: المعلوم أن الدولة، أو الخليفة، أو من يُوكَّل، يستقبلون الذين يرون الأهلَّة، فيعمِّمون الأمر بالصيام أو بالإفطار على الناس، بعد التثبت من أقوالهم ومشاهداتهم، والسؤال هنا هو: إذا رأى هلالَ رمضان أو رأى هلالَ شوال شخصٌ، فشهد أمام الخليفة، أو من وُكِّل أنه رأى هلال رمضان، أو رأى هلال شوال، فلم يُقبَل قولُه، ورُدَّت شهادته، فهل يلزمه هو العملُ بما رآه فيصوم وحده ويفطر وحده، أم يلتزم بقرار الخليفة؟ وثمة حالة ثانية، هي أن يكون الرَّائي بعيداً عن الخليفة، أو عمَّن وُكِّل بالأمر، بحيث لا يتمكن من أداء الشهادة، فهل يلزمه العملُ برؤيته هو أم يلتزم بقرار الخليفة؟ …فذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب الصوم على المنفرد برؤية هلال رمضان. واختلفوا في الإفطار برؤية هلال شوال وحده، فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى استمرار الصيام وعدم الإفطار برؤية هلال شوال وحده. وقالت الشافعية – وهو قولٌ للمالكية –: يلزمه الفِطرُ عملاً بقول الحديث (ولا تفطروا حتى تروه) ولكن يخفيه لئلا يُتَّهم. فأقول ما يلي، والله هو الموفق للصواب:

إن ما ذهب إليه الأئمة الأربعة من وجوب الصوم على المنفرد هو الصواب، وهو ما يتعين القول به فصوم يوم من آخر شعبان جائز شرعاً، وما رُوي من أحاديث تنهى عن التقدُّمِ قبل شهر رمضان فإنها تُحمل كلها على الكراهة كما سيأتي لاحقاً، في حين أن صيام من شاهد هلال رمضان واجب عليه لا شك فيه، والواجب مقدَّم على ترك المكروه، فوجب على من رأى هلال رمضان – وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته – أن يصوم، لأن الرؤية قد حصلت لديه، وقد روى عبد الله بن أبي موسى قال {وسألتها – أي عائشة رضي الله عنها – عن اليوم الذي يُختَلَف فيه من رمضان، فقالت: لأَنْ أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان قال: فخرجت فسألت ابن عمر وأبا هريرة فكل واحد منهما قال: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذاك منا} رواه أحمد (25458) وسعيد بن منصور والبيهقي. قال الهيثمي [رجال أحمد رجال الصحيح] .

هل يصح العمل بالحساب الفلكي

أما إفطار المنفرد برؤية هلال شوال فلا يجوز، وهو ما ذلك إليه أبو حنيفة ومالك وأحمد، لأن الإفطار يعني بدء شوال، وبدء شوال يعني يوم عيد الفطر، وهذا التحديد هو من عمل دولة الخلافةِ، وليس من حق الأفراد، وذلك أن كل شعيرة من شعائر الدين تتعلق بالجماعة كجماعة يجب على الخلافة وحدها أن تأمر بها وتنظِّمها، وتحدِّد وقتها، ولا حق لفرد ولا لمجموعة أفراد أن يتولَّوْا ذلك بأنفسهم، وإلا اضطرب أمر الجماعة، وهو حرام لا يجوز. فالفرد لا يحق له أن يعيِّد إلا في العيد الذي تعلنه دولة الخلافة، ومن ثم لا يحق له منفرداً أن يعلن الإفطار، ولا أن يحدِّد متى يوم العيد، فوجب عليه الإمساك عن الإفطار والاستمرار بالصوم مع جماعة المسلمين. وقد جاء في الحديث المار قبل قليل والذي رواه ربعي (فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله، وأنهما أهلاَّه بالأمس، فأمرهم فأفطروا) كما جاء في الحديث المار قبل قليل، والذي رواه أبو عمير بن أنس (فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا) ومثلهما حديث أنس الذي تلاهما. فالأعرابيان رغم أنهما رأيا هلال شوال – أي هلال العيد – بالأمس، إلا أنهما صاما ذلك اليوم حتى أتاهما أمرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بالإفطار، والركبُ في الحديث الثاني بقُوا صائمين، رغم أنهم رأوا هلال شوال – أي هلال العيد – إلى آخر النهار حتى أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالإفطار، وقل مثل ذلك بخصوص حديث أنس، وهذا يدل على أن إعلان وقت الإفطار هو من عمل الدولة وأنه لا يحق لأحد أن يفطر قبل ذلك الإعلان. وعلى هذا فإن رأي الأئمة الثلاثة هو الصواب، ورأي الإمام الشافعي خطأ. والنتيجة هي أن المنفرد يصوم بشهادة نفسه ولكنه لا يفطر إلا بأمر الدولة فحسب. هل يصح العمل بالحساب الفلكي؟

ذهب الجمهور إلى عدم جواز الأخذ بالحساب الفلكي، قائلين: إن الناس لو كُلِّفوا به لضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرِّف الناس بما يعرفه جماهيرهم. ونُقل عن ابن سُرَيج القول بجواز العمل بالحساب لمن خصَّه الله بهذا العلم، معلِّلاً ذلك بأن قول الحديث (فاقدروا له) هو خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقول الحديث (فأكملوا العدة) هو خطاب للعامة. وقد نُسِبَ هذا القول أيضاً إلى مطرف بن عبد الله وابن قتيبة. …وبالنظر في النصوص نجد أن كلمة (فاقدروا له) وردت في الحديث على غير المعنى الذي ادَّعاه ابن سُرَيج، فعن ابن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له} رواه البخاري (1906) ومسلم والدارمي وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة. فالحديث كله جاء خطاباً للأمة الإسلامية كلها لأن الصيام هو للجميع والرؤية هي للجميع والإفطار هو للجميع، وجاءت كلمة فاقدروا له للجميع أيضاً، وليس لمن خصَّه الله بهذا العلم، وهذا واضح وضوح المس، فتخصيص هذه الكلمة بمن خصه الله بهذا العلم هو خطأٌ محضٌ.

ثم إن الأحاديث يفسِّر بعضُها بعضاً، وقد جاءت أحاديث تفسر هذه الكلمة بغير ما فسَّرها به ابن سُريج، منها ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم – أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم – {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم فأَكْمِلوا عدة شعبان ثلاثين} رواه البخاري (1909) ومسلم والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان. ووقع عند مسلم أيضاً (2514) لفظ {إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأَفطروا فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يوماً} فتفسير كلمة (اقدروا له) جاء في الحديث هكذا (أكملوا عدة شعبان ثلاثين) (صوموا ثلاثين يوماً) وهذا التفسير يقطع بخطأ تفسير ابن سُرَيْج، لأن إكمال عدة شعبان ثلاثين لا يحتاج لعلم الحساب والفلك حتى تُحصَر الكلمة بأربابه، وإنما هو خطاب لعموم المسلمين كما لا يخفى. بل إن ما هو أقطعُ في الحجة وأَبينُ في الاستدلال هو ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري (1906) من طريق ابن عمر المار قبل عدة أسطر بلفظ {لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه ... } فهو لم يكتف بالأمر بالصوم عند الرؤية وإنما جاء النهي هنا عن الصيام دون الرؤية، والصيام بالحساب الفلكي لا شك في أنه صيام دون رؤية. …إلا هذا كله لا يعني أن الاستفادة من الحساب الفلكي غير جائزة، ولا يُحتاج إليها، وإنما أردنا أن نبين فقط أن هذا الحساب ليس هو صاحب القرار في تعيين بدء الصوم أو بدء الإفطار، وإنما الرؤية العينية في الصيام وفي الإفطار هي ما أوجبها الشرع ولم يوجِب غيرها، فوجب القول بها وبها وحدها.

…أما وجه الإفادة من الحساب الفلكي، فأَن يأتي علماء الفلك، ويرشدونا إلى الساعات والدقائق المناسبة للخروج لرؤية الأهلَّة ومواقع الأهلة عند رصدها فهذا يسهِّل على النظارة والمشاهدين عملهم، ولا بأس أيضاً بالاستعانة بأدوات هؤلاء العلماء في الرصد والمشاهدة، أي الاستعانة بالعدسات المكبِّرة والمقرِّبة عند الرصد، فمثل هذه المساعدات جائزة ولا شيء فيها، وهي تقدِّم عوناً للمشاهدين والنظارة. ومن جانب آخر فإن قوله (فاقدروا له) قد فسَّرته الأحاديث تفسيراً كان ينبغي أن يقطع على الناس تفسيرهم له بغير ما ورد، وقد أخذت الحنفية والمالكية والشافعية بهذا التفسير، وكذلك جمهور السلف والخلف، وأن معناه هو تمام العدد ثلاثين يوماً أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام ثلاثين يوماً، وهذا كله هو خطاب لعامة المسلمين. ومع هذا الوضوح في التفسير فقد ذهب آخرون إلى أن معناه: ضيِّقوا له وقدِّروه تحت السحاب. والقول بهذا التفسير يوجب الصيام من الغد، ليلة الثلاثين من شعبان، إذا كان في محل الهلال ما يمنع رؤيةً من غيم وغيره، وهذا مرويٌّ عن ابن عمر رضي الله عنه، وبه يقول أحمد بن حنبل في المشهور عنه وطاووس. والذي أوقع هؤلاء في الخطأ هو عدم النظر في كلِّ النصوص والاقتصار في النظر على روايتهم فقط: (فاقدروا له) ، ولو أنهم استحضروا جميع النصوص في هذه المسألة لربما رجعوا عن رأيهم هذا.

دعوى اختلاف المطالع

نعم إن من معاني (اقدروا) لغةً ضيِّقوا، وقد جاء ذلك في قوله تعالى {لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِه ومَنْ قُدِرَ عليه رزقُهُ فلْيُنفِقْ مما آتاهُ اللهُ لا يكلِّفُ الله نفساً إلا ما آتاها سيجعلُ اللهُ بعد عُسْرٍ يُسْراً} الآية 7 من سورة الطلاق. وفي قوله سبحانه {وأَمَّا إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه فيقول ربِّي أَهانَنِ} الآية 16 من سورة الفجر. ولكن هذا المعنى ليس هو وحده ما قالت به اللغة ولا ما قال به كتاب الله سبحانه، فالله سبحانه يقول: {وما قَدَروا الله حقَّ قَدْرِهِ ... } من الآية 91 من سورة الأنعام. ويقول تعالى {ضربَ اللهُ مَثَلاً عبداً مملوكاً لا يَقْدِر على شيءٍ ... } من الآية 75 من سورة النحل ويقول سبحانه { ... لا يقْدِرون على شيءٍ مما كَسَبوا ... } من الآية 264 من سورة البقرة. وكلها لا تفسَّر بالتضييق. فتفسير هذه الكلمة الواردة في الحديث بالتضييق هو أخذٌ بأحد معانيها، مقطوعٌ عن القرائن والبيان الواردة في النصوص الأخرى، فكان تفسيرهم لها بالتضييق خطأً محضاً. دعوى اختلاف المطالع:

اختلف الفقهاء قديماً وقلًّ اختلافُهم حديثاً بخصوص المطالع، فذهب عكرمة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وإسحق بن راهُويه إلى عدم وجوب صيام أهل بلد برؤية أهل بلد آخر للهلال. وقد حكاه الترمذي عن أهل العلم، ولم يحكِ سواه، وحكاه الماوَرْدي وجهاً في مذهب الشافعي. وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والليث بن سعد إلى أن الهلال إذا رُؤي ببلد لزم أهل جميع البلاد الصومُ، وحكاه ابن المنذر عن أكثر الفقهاء، وبه قال بعض الشافعية. واختلف الشافعية فيما ذهبوا إليه: فإنهم قالوا: إذا تقارب البَلَدان فحكمُهما حكمُ البلدِ الواحد، وإن تباعدا فوجهان: أصحُّهما عند الشيخ أبي حامد والشيخ أبي إسحق والغزالي والأكثرين: أنه لا يجب الصوم على أهل البلد الآخر والثاني الوجوب وإليه ذهب القاضي أبو الطيب والروياني - قال محمد بن المنذر: إنه ظاهر المذهب، واختاره جميع أصحابنا، وحكاه البغوي عن الشافعي نفسه –. وهؤلاء اختلفوا في التقارب، والتباعد على آراء: فمنهم من فرض التباعد أن تختلف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب أن لا تختلف المطالع كبغداد والكوفة والري وقزوين، ومنهم من قال: اعتباره باتحاد الأقاليم واختلافها. وقال آخرون أقوالاً أخرى لا حاجة لإيرادها.

…أما الفريق القائلون إن الهلال إذا رُؤي ببلد لزم أهل جميع البلاد الصوم، فقد استدلوا على قولهم هذا بالأحاديث الكثيرة الآمرة بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لرؤيته وحجة هؤلاء أن رؤية الهلال هي سبب إيجاد الصوم، وأن رؤية الهلال هي سبب إيجاد الفطر، وأنه إذا وجد السبب وُجد المسبَّب، وهو الصوم والفطر، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لرؤيته) هو اسم جنس مضاف، فهو إذن من ألفاظ العموم، وقوله عليه الصلاة والسلام (حتى تروا) (إذا رأيتم) فيه ضميرٌ لجماعة يعود على اسم، وهذا الاسم جمعٌ، فهو يعود على جميع، والجمع من ألفاظ العموم، فضمير (تروا) وضمير (رأيتم) من ألفاظ العموم، فتكون رؤية الهلال عامة أي يكون السبب عاماً فأية رؤية من أي مسلم تعمُّ جميع المسلمين، فيجب عليهم الصوم عندئذٍ. وهذا القول من هؤلاء، على تعقيدٍ في استنباطه مألوفٍ، هو القول الصحيح. وأما الآخَرون القائلون باختلاف المطالع، وبعدم صيام أهل بلد برؤية أهل بلد آخر للهلال فإنهم استدلوا على ذلك بما رُوي عن كُريب {أن أمَّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمتُ الشام فقضيت حاجتها، واستُهِلَّ عليَّ رمضانُ وأنا بالشام فرأيت الهلالَ ليلة الجمعة، ثم قدمتُ المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ثم ذَكَر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت: نعم ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنَّا رأيناه ليلةَ السبت فلا نزال نصوم حتى نكمِّل ثلاثين أو نراه فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه مسلم (2528) وأبو داود والترمذي وأحمد.

فهؤلاء قالوا: إنَّ التزام ابن عباس رضي الله عنهما بعدم الاكتفاء برؤية أهل الشام هو التزامٌ آتٍ من الأمر النبوي الكريم، وبمعنى آخر فإنهم فهموا من قول ابن عباس رداً على القول (أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟) ، (لا، هكذا أَمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) أن ذلك يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر المسلمين بأن لا يأخذوا برؤية من كانوا في غير بلدهم ولم يفهموا القول هذا على أنه فهمٌ من ابن عباس للأمر النبوي الكريم، فالتبس عليهم الأمر النبوي بفهم ابن عباس وحيث أن فهم ابن عباس نراه خطأً فإِنَّا نرى أنَّ الآخذين بهذا الفهم قد أخطأوا هم أيضاً. إن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قد سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ففهم منه أن كل جماعة من المسلمين ينبغي أن ترى الهلال فتصوم وتراه فتفطر وأن رؤية غيرها من الجماعات لا تغني عن رؤيتها هي فقال ما قال، كما ورد في حديث كُريب، أي أنه لم يعمِّم هذا النص على جميع المسلمين، وإنما جعله يتناول كل جماعة من المسلمين على حدة، وهذا فهم خاطئ. وعليه فإن من قالوا باختلاف المطالع إنما أخذوا حجتهم من فهم ابن عباس للحديث، وليس من الحديث النبوي نفسه. ولست أريد أن أناقش هذا الخطأ بأكثر مما أوردْتُه من حجة القائلين بوحدة المطالع. …وقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة عام 1966م ما يلي [لا عِبْرة باختلاف المطالع ولو تباعدت الأقاليم بشرط أن تكون مشتركة في ليلة واحدة، وهذا ينطبق على البلاد العربية كلها] كما أصدر مجلس الفتوى الأعلى في الديار الفلسطينية قراراً يؤكد فيه على تبني رأي وحدة المطالع. وهنا أقف وقفة، فأقول ما يلي:

أولاً: لقد بدأتُ هذا البحث بقولي [اختلف الفقهاء قديماً، وقلَّ اختلافُهم حديثاً بخصوص اختلاف المطالع] وهذا القول فيه إشارة واضحة إلى أن جمهرة العلماء في عصرنا الراهن قد تركوا القول باختلاف المطالع، وأنهم قد التزموا، أو كادوا بما أصدرته مجامع البحوث في القاهرة وغيرها من بلدان المسلمين فلم نعدْ نسمع عالماً يقول باختلاف المطالع إلا نادراً. ومع هذا الاتحاد في الرأي عند العلماء، فإننا لا زلنا نرى حال دول المسلمين، وكأن العلماء لم يتفقوا على رأي، ولم تُصْدِر مجامعُ البحوث ومجالسُ الفتاوى قراراتهم بوحدة المطالع. فصار العلماء – وهم في الأصل أصحاب الشأن في هذه المسألة – معزولين عن القرارات الصادرة عن الحكام، ولا يخفى على أي مسلم واعٍ أن السبب في ذلك هو فصل الدين عن الدولة لدى جميع دول المسلمين، فصارت الدول تتخذ قراراتها بعيداً عن الاحتكام لأحكام الشرع وفتاوى العلماء، وإذا رأينا هذه الدول تُصدر أحكاماً تبدو شرعية أو متوافقة مع الشرع، أو رأيناها تأخذ بفتاوى صادرةٍ عن العلماء، فإن المدقق فيها يجد أن هذه الدول هي التي بادرت إلى تشريع هذه الأحكام لمصالحها ولغاياتها الخاصة، ثم هي أمرت العلماء المتعاملين معها باستحضار النصوص التي تجيز هذه التشريعات، وليس العكس. فالحكام يأمرون ويشرِّعون، والعلماء يوافقون ويفتون بما يرضي هؤلاء الحكام، وإذا تعارض الموقفان فالنافذ هو رأي الحكام.

ثانياً: إن المشكلة في العالم الإسلامي اليوم هي أن كل دولة من دول المسلمين تعتبر نفسها كلاً وليس جزءاً من الأُمة الإسلامية، وإن نصت بعض الدساتير فيها على غير ذلك، فصارت كل دولة تتخذ قراراتها السياسية وحتى الدينية دون مراعاةٍ لسائر المسلمين، لأنها تعتبر نفسها كياناً مستقلاً عن سائر المسلمين لا حق للمسلمين خارج كيانها بالتدخل فيه، ومن ذلك إعلان الصيام وإعلان الإفطار، فترى كلَّ دولة تعلن الصيام وتعلن الإفطار، وكأنه لا يوجد مسلمون في غيرها، وهذا هو السبب في بقاء الاختلاف بين الدول في العالم الإسلامي بخصوص بدء الصوم وبدء الإفطار ولو أن هذه الدول تعتبر نفسها أجزاءً من كلٍّ لربما توحَّدت المواقف في كثير من المسائل والقضايا. ثالثاً: فإذا أضيف إلى ما سبق أن دولاً في شمالي إفريقيا تأخذ بالحساب الفلكي وأن هذا الحساب قد يتطابق مع الرؤية وقد لا يتطابق، أدركنا السبب في بقاء اختلاف المسلمين في ديارهم حول بدء الصيام وبدء الإفطار، وهذه الدول في شمالي إفريقيا مستمرة في الأخذ بالحساب الفلكي لا تلتفت إلى آراء العلماء الذين يعارضون العمل بهذا الحساب. رابعاً: وبناء عليه أقول: إن المسلم في أي مكان من بلاد المسلمين – وهي مشتركة كلها في الليلة الواحدة – يجب أن يصوم إن هو سمع إعلان أية دولة من دول المسلمين عن بدء الصوم، ويجب أن يفطر إن هو سمع إعلان أية دولة من دول المسلمين عن بدء الإفطار، باستثناء الدول التي تأخذ بالحساب الفلكي، فلا يصح له أن يَلْتَزِم بما تعلنه هذه الدول من حيث الصوم والإفطار.

خامساً: إن المسلمين عبر تاريخهم الطويل لم تكن تُعرَف فيهم مجالسُ إفتاء، ولا مجامعُ بحوثٍ إسلاميةٍ إلا في وقت متأخر، يوم أن ضعف فهمهم للإسلام، وقلَّ أو تلاشى وجود المجتهدين عقب إغلاق باب الاجتهاد، فصار من يطلقون على أنفسهم أنهم علماء، يتجمَّعون في مجلس أو مجمع، أو تقوم الدول بجمعهم، ويصدرون فتاوى جماعية دون أن يعرف المسلمون أن صاحب هذه الفتوى هو فلان، أو علاَّن من هؤلاء العلماء، فيَحمل المسلمُ هذه الفتوى، ويعمل بها تقليداً أو اتباعاً، دون أن يعرف من صدرت عنه وهذا مخالف لطريقة الإسلام في التقليد والاتباع، فالمسلم يصح له أن يقلِّد فلاناً من الفقهاء، أو يتَّبع علاَّناً من العلماء، أما أن يتبع مجلسَ إفتاءٍ، أو يقلِّد مَجْمَعَ بحوثٍ فهذا لا يصح شرعاً ولا قيمة لما تصدره هذه المجالس والمجامع من فتاوى شرعية. ومثل هؤلاء، أن يقوم عدد من المؤلفين في عصرنا الراهن بتأليف كتاب في الأحكام الشرعية يصدر باسمهم مجتمعين، فهذا الكتاب لا يصح تقليد ما جاء فيه ولا اتِّباعه مطلقاً، وهو لا يعدو كونه مجرد معلوماتٍ يتعلمها القاريء لا أكثر، وهذا من المصائب الكبرى التي طغت وفشت في العالم الإسلامي كله، فصار القراء وتلاميذ الجامعات والمعاهد والمدارس يحملون أحكاماً في الشرع غير مَعزوَّةٍ لأصحابها، ويَدْعُون الناس إليها ويعملون بموجبها، وهذا لا يحلُّ شرعاً. فليتنبه المسلمون إلى هذه البدعة التي فشت في الناس، وخفيت حتى على كثير من العلماء والمتعلمين. مسألة:

الحساب الفلكي

…إننا نعيش في عصر العلمانية، وتعني هذه اللفظة الأخذ بالقوانين والقواعد العلمية والعقلية دون نظرٍ في الأحكام والقواعد الدينية، وبعبارة أخرى فإن العلمانية تعني إقصاء الدين عن حياة الناس والعملَ في الحياة بمقتضى القوانين والقواعد العلمية والعقلية التي توصلت إليها أبحاثهم وعقولهم. وقد أُخِذَ الناسُ بسحر هذه الكلمة، واتخذوا منها المقياس العصري للنهضة والتقدم، فقدَّسوا العلم وقدَّسوا العقل البشري، ورفضوا أي فكر أو رأي أو حكم أو تشريع لا يصدر عن العقل البشري ولا يقبل به. …والذي يعنينا من كل هذا هو علوم الفلك والحساب الفلكي، فهذا الحساب لكونه علماً من العلوم فإن الناس قد فُتنوا به، حتى إن المسلمين راحوا يطالبون بالعمل به في عباداتهم، من حج وصوم وأعياد، ناسين أو متناسين أن الشريعة إنما تُؤْخَذ من مصادرها، وهي الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس، ولا تُؤخذ من غير هذه المصادر الأربعة مهما كانت الدواعي والأسباب. …إن الشرع قد أمر بصيام شهر رمضان، وشرع لهذا الصيام طريقةً لتحديد بدايته ونهايته، هي رؤية العين لهلال رمضان ولهلال شوال، ولم يكتف الشرع بذلك وإنما استبعد الحساب من التدخل في هذه الطريقة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إِنَّا أمةٌ أُميةٌ لا نكتب ولا نحسِب الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين} رواه البخاري (1913) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. وسيمرُّ بعد قليل. فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أن المسلمين لا يكتبون ولا يحسبون وأنه قال ذلك في معرض الحديث عن الصيام وما يتعلق به من تحديدٍ للأشهر، مما يجعل إدخال الحساب الفلكي في تحديد بدايات الأشهر ونهاياتها غير مشروع وغير مطلوب.

…إن ديننا كامل منذ أن نزل قوله تعالى {اليومَ أكملتُ لكم دينَكم ... } من الآية 3 من سورة المائدة. فهو غير محتاج لأي علم من العلوم، ولا إلى نِتاج أي عقل من العقول فيما يتعلق بتشريع الأحكام وطرائقها، وإن كان يجوز الاستعانة بها فيما سوى ذلك من مثل الوسائل والأساليب والأدوات، ما دامت هذه كلها لا تحِلُّ محل الأحكام الشرعية وطرائقها، بل ولا تغير من هذه الأحكام والطرائق قليلاً أو كثيراً.… …وحيث أن الله سبحانه قد شرع صيام شهر رمضان كحكمٍ شرعي، وحيث أنه قد شَرع لتعيين بدء الصيام وبدء الإفطار طريقةً، هي الرؤية بالعين، فإنه لا يجوز مطلقاً أن يُتَّخَذَ الحسابُ الفلكي طريقةً بديلةً لطريقة الشرع في تحديد بداية الصوم وانتهائه، بل إنه لا يجوز مطلقاً أن يكون لهذا الحساب أي تأثير في هذه الطريقة. ولتوضيح ذلك بشكل مفصَّل أقول ما يلي: أولاً: إن الحساب الفلكي لم يأت به نص من كتاب ولا سنة ولا يُستدل عليه بقياس ولا بإجماع صحابة، مما يجعله خارج الشرع، فإدخاله في الشرع مخالفة صريحة للحكم الشرعي.

ثانياً: إن العلم بالحساب الفلكي القائم على تولُّد الهلال عند الاقتران قد يجعل المسلمين في غربيِّ العالم الإسلامي المترامي الأطراف، يصومون قبل المسلمين في شرقيِّه بيومٍ، فيصوم الغربيون الثلاثاء مثلاً ويصوم الشرقيون الأربعاء، وهذه الحالة قد تحصل عندما يتولد الهلال بعد منتصف النهار في يوم الاثنين مثلاً، فبالحساب الفلكي يُعتبر يومُ الثلاثاء بداية شهر عند الغربيين فيصومونه إن كان رمضانَ، ولا يُعتبر يومُ الثلاثاء بدايةَ شهرِ رمضان عند الشرقيين، لأن الهلال عند الغروب لا يكون متولداً عندهم بعد فيصومون يوم الأربعاء. وإذن فإن العمل بهذا الحساب الفلكي قد يؤدي إلى أن ينقسم المسلمون في الصيام إلى قسمين، أو قل إلى مطلعين، يسبق أحدُهما الأخر بيوم في حين أن العمل بالطريقة الشرعية يوحِّد المسلمين في العالم الإسلامي في الصيام وفي الإفطار وفي الأعياد، لأن رؤية شاهدٍ عدلٍ واحد في أي قطر أو بقعة من بلاد المسلمين تكفي لقيام المسلمين جميعاً بالصيام والإفطار. …وقد يقال إن الحساب الفلكي دقيق جداً، يستطيع تحديد بدايات الأشهر ونهاياتها بدقة تامة تصل إلى الدقائق والثواني، وإنه قادر على تحديد البدايات والنهايات لسنين قادمة، مما يجعل الخطأ في الصوم منتفياً تماماً. فنقول لهؤلاء: إن الله سبحانه لا يأمرنا بأن نتعبَّده بالصواب المقطوع به، وإلا هلك المسلمون جميعاً، وإنما يأمرنا بأن نتعبَّده بما نراه صواباً، فإن أصبنا الصواب القطعيَّ فذاك، وإن نحن أخطأناه قُبِل منا وأُثِبْنا، ولا حساب علينا. فالعبادات في الإسلام ليست مسائل حسابية يجب التوصل إليها بالنظريات الحسابية والعلمية وإنما هي شرائعُ وأحكام أُمرنا باتِّباعها حسب فهمنا واجتهادنا، والله سبحانه يتقبل منا ما نفعله عندئذٍ، أصبنا الصواب أو أخطأناه.

…بقيت نقطة مهمة يستند إليها الذين ينادون بالعمل بالحساب الفلكي، هي أن المسلمين قد اعتمدوا الحساب الفلكي في تحديد مواعيد الصلاة، فلماذا لا يعتمدون الحساب هذا في تحديد مواعيد الصيام والحج والأعياد؟ وللإجابة عن هذا السؤال، أو قل للإجابة عن هذه الشبهة، أقول ما يلي: …إن الشرع الحنيف لم يحدِّد للصلاة طريقةَ الرؤيةِ العينيةِ لتعيين أوقاتها ولو حدَّد لنا ذلك لوجب علينا التمسك بها ورفض الحساب الفلكي، وهذا مغاير للحج والصيام فالشرع الحنيف قد حدَّد للصيام طريقة الرؤية العينية، كما هو ظاهر في كثير من النصوص (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ، كما أنه حدَّد للحج أيضاً طريقةَ الرؤية العينية، وقد مرَّ الحديث قبل قليل، وهو: عن حسين بن الحارث الجدلي، من جديلة قيس، أن أمير مكة خطب، ثم قال {عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنْسُك للرؤية، فإن لم نره، وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما ... } رواه أبو داود (2338) . ورواه البيهقي والدارَقُطني وصححه. فقد جاء في هذا الحديث (أن ننسك للرؤية) فقوله نَنْسُك: يعني أن نقوم بأداء الحج. والرؤية هنا رؤية هلال ذي الحجة. …وإذن فإن الشرع قد عين الطريقة لتحديد بدايات الصوم والحج، هي الرؤية العينية ولم يعين هذه الطريقة ولا غيرها لتحديد مواقيت الصلاة وكلُّ ما فعله بخصوصها هو إعلامُنا بالأَمارات الدالة على هذه المواقيت، ولنا بعد ذلك أن نجتهد في استخدام هذه الأَمارات لتحديد المواقيت. فالشرع قد فرَّق بين الصلاة، وبين الصوم والحج، فوجب الأخذ بهذا التفريق وعدم خلط الأوراق بعضها ببعض. هذا إضافةً إلى أنه لا يصح القياس في العبادات إلا أن تأتي معلَّلة، وهنا لم ترد علَّةٌ في النصوص.

كم الشهر الهجري؟

…وعلى ذلك نقول: إنه لا يجوز اتخاذ الحساب الفلكي طريقةً بديلة للطريقة الشرعية، وهي الرؤية العينية، وإن الله سبحانه يحاسبنا على ما نعلم، لا على ما يخفى علينا، فنصوم ونفطر بالرؤية العينية سواء أصبنا أم أخطأنا، لأن الله سبحانه قد أمرنا بهذا، ويبقى بعد كل ذلك جواز أن نستعين بعلماء الفلك وعلومهم كما أسلفت قبل قليل في بحث [هل يصح العمل بالحساب الفلكي؟] . كم الشهر الهجري؟ إنه لمما لا شك فيه، وما هو معلوم بداهة أن الشهر الهجري القمري يكون تسعةً وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً، ولا يكون أقل من ذلك، كما أنه لا يكون أكثر من ذلك. وقد جاء هذا التحديد في عدد من الأحاديث، أذكر منها ما يلي: 1- عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت {لما مضت تسع وعشرون ليلة أَعُدُّهنَّ دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: بدأَ بي فقلت: يا رسول الله إنك أقسمتَ أن لا تدخل علينا شهراً، وإنك دخلت من تسعٍ وعشرين أَعُدُّهنَّ؟ فقال: إن الشهر تسع وعشرون} رواه مسلم (2520) والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد. 2- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إنَّا أمَّة أمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين} رواه البخاري (1913) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 3- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال {ما صُمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صُمنا ثلاثين} رواه الترمذي (684) وأبو داود وأحمد والبيهقي والدارَقُطني. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (5245) من طريق عائشة رضي الله عنها. ومن طريق جابر (5441) رضي الله عنه. 4- عن الوليد قال {صُمنا على عهد عليٍّ رضي الله عنه ثمانية وعشرين يوماً، فأَمَرَنا بقضاء يوم} رواه البيهقي (4 /251) ودلالة هذه الأحاديث واضحة.

ولقد أشكل على الفقهاء الحديث الذي رُوي من طريق أبي بَكْرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {شهران لا ينقصان، شهرا عيد، رمضان وذو الحجة} رواه البخاري (1912) ومسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد. قال الترمذي [قال أحمد: معنى هذا الحديث – شهرا عيد لا ينقصان – يقول: لا ينقصان معاً في سنة واحدة، شهر رمضان وذو الحجة، إن نقص أحدُهما تمَّ الآخر. وقال إسحق: معناه لا ينقصان، يقول وإن كان تسعاً وعشرين فهو تمام غير نقصان وعلى مذهب إسحق يكون ينقص الشهران معاً في سنة واحدة] وقد نُقل عن إسحق قوله: لا ينقصان في الفضيلة، إن كان تسعة وعشرين أو ثلاثين. وذكر ابن حِبَّان لهذا الحديث معنيين، أحدهما ما قال إسحق والآخر أنهما في الفضل سواء، لقوله في الحديث الآخر (ما من أيامٍ العملُ فيها أفضلُ من عشر ذي الحجة) وقيل لا ينقصان في عامٍ بعينه، وهو العام الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المقالة. وقيل لا ينقصان في الأحكام، وبهذا جزم البيهقي والطحاوي. وقيل لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان لأن فيه المناسك، حكاه الخطَّابي. وقال النووي: الأصح أن معناه لا ينقص أجرُهما والثوابُ المترتب عليهما وإن نقص عددهما. …والذي أراه وأُرجِّحه، هو أن الله سبحانه قدَّر لكل شهر من هذين الشهرين على مدى الأعوام والدهور ثواباً ثابتاً، لا يزيد ولا ينقص، سواء جاء هذان الشهران ثلاثين يوماً، أو جاءا تسعة وعشرين، بمعنى أن من صام رمضان ذي التسعة والعشرين ثلاثين يوماً وقام ليله فإنه يحصل على ثوابٍ مماثل للأجر الذي يحصل عليه إن هو صام رمضان ذي الثلاثين يوماً وقام ليله. فالأجر والثواب في الشهرين واحد وإن نقص أحدهما يوماً عن الآخر، وقل مثل ذلك بخصوص شهر ذي الحجة. والله يؤتي فضله من يشاء، ويُنعم على من أدَّى ركني الإسلام، الصيام والحج، وافِرَ الإِنعام وأتمَّه.

صوم الحائض والنفساء

…ولا بأس بأن أذكر هنا أن علم الفلك يقول إن الشهر القمري يأتي دائماً ثابتاً لا يزيد ولا ينقص، وأنه 29 يوماً ونصف اليوم تقريباً، وإن شئت التحديد أكثر قلت إنه 29 يوماً و 53 % من اليوم، أو 29 يوماً و 12 ساعة و44 دقيقة. وأنَّ السنة القمرية هي 354 يوماً و36 % من اليوم، فهي تنقص عن السنة الشمسية بحوالي أحد عشر يوماً. صوم الحائض والنُّفَساء: إن الله سبحانه قد وضع الصلاةَ عن الحائض وعن النُّفَساء، ورفع تكليفهما بها فلا صلاة عليهما في فترتي الحيض والنفاس، كما أنه لا قضاء عليهما للصلاة، عَقِبَ انقضاء الفترتين، وليس كذلك الصيام، فالصيام لم يُرفع تكليفُهما به، وإنما أخَّر الله سبحانه أداءَ هما إياه إلى ما بعد انقضاء الفترتين، فكون الحائض والنُّفَساء تقضيان الصوم عقب الفترتين فهو دليل على أن الصيام لم يسقط عنهما كما سقطت الصلاة، ولم يُرفع عنهما هذا التكليف وإنما جرى تأخير أدائه فحسب. ولذا فإن الذين يقولون إن الله سبحانه قد وضع الصلاة والصيام عن الحائض والنُّفَساء، هكذا دون أن يفرقوا بينهما، يكونون قد جانبوا الدِّقةَ، وكان الواجب عليهم أن يقولوا إن الله سبحانه قد أوجب الصوم على الحائض وعلى النُّفَساء، وجعل أداء هذا الواجب عقب انتهاء فترتي الحيض والنفاس.

…أما لماذا لم يساو ربُّ العالمين بين الصلاة والصيام بخصوص الحائض والنُّفَساء؟ فالجواب عليه هو أن الصلاة عبادة وكذلك الصيام، والعبادات لا تعلَّل ولا تُلتمس لها عللٌ إلا إن وردت في النصوص فتُؤخذ عندئذٍ، وفي مسألتنا هذه لا توجد علَّةٌ لهذا التفريق، فنقول بالتفريق دون تعليل، ودون أن نأتي بعلَّة من عند أنفسنا، كمن يقول إن الصلاة عمل دائم في الليل والنهار وعلى مدى الحياة، فلو سقط التكليف بها بضعة أيام فإن ذلك لا يؤثر فيها، بخلاف الصوم الذي لا يأتي في العام إلا في رمضان، فإن نُفِست امرأة في أول الشهر فإنها لا تصوم سنتها كلَّها، وربما تكرر ذلك معها في أعوام قادمة فتُحْرَم من الصوم أعواماً عدة، ولذا أُمرت بقضاء الصيام ولم تؤمر بقضاء الصلاة لأجل ذلك، فهذا القول وهذا التعليل خطأ لا يجوز لفقيه ولا لغيره أن يقوله. …والتفريق بين الصلاة والصيام، بخصوص الحائض والنُّفَساء، مُجمَعٌ عليه بين المسلمين،لم يخالفه إلا فرقة الخوارج الحَرُوريَّة، الذين يقولون بالتساوي في الحكم بين الصلاة والصيام، فيأمرون الحائض والنُّفَساء بقضاء الصلاة،كقضاء الصيام. وقد وردت في هذه المسألة الأحاديثُ التالية: 1- عن مُعاذة قالت {سألتُ عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أَحَروريةٌ أنتِ؟ قلت: لست بحَروريَّة ولكني أسأل؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنُؤْمَر بقضاء الصوم ولا نُؤْمَرُ بقضاء الصلاة} رواه مسلم (763) والبخاري وأبو داود والنَّسائي والترمذي. والحَروريَّةُ اسم يطلق على فرقة من الخوارج كانت قد ظهرت في قرية حَروراء قرب الكوفة بالعراق فنُسِبوا إليها. 2- عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فذلك من نقصان دينها} رواه البخاري (1951) وابن خُزيمة.

صيام من أصبح جنبا

3- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كنا نحيض عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا بقضاء الصوم} رواه ابن ماجة (1670) ورواه النَّسائي (2318) بلفظ { ... كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهُر، فيأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة} . والحائض والنُّفَساء تقعدان عن الصوم ما دام الدم يسيل في الفترتين فإذا انقطع الدم قبل حلول الفجر ثم طلع الفجر دون أن تغتسلا، فمذهب العلماء صحةُ صومها، إلا ما حُكي عن الحسن بن صالح والأوزاعي وأحدِ الرأيين في مذهب مالك فإنهم قالوا بفساد صومهما إلا أن تغتسلا قبل حلول الفجر. والصحيح هو القول الأول، وذلك أن الحائض والنفساء إذا انقطع دمهما، أو انتهت فترتا الحيض والنفاس لديهما، بطل اعتبارُهما حائضاً ونُفَساء، فوجب عليهما أداء الصوم عندئذٍ وليس صحيحاً أن الاغتسال هو الذي يُؤْذِن بانتهاء الحيض والنفاس وأنه لا بد من وجوده لصحة الصيام، وإنما الصحيح هو أن الله سبحانه قد أمرهما بالغسل عند انتهاء الحيض والنفاس، فالغسل ليس هو العلامة على نهاية الفترتين، ولا هو المُؤْذِنُ بانتهاء الفترتين، فقد تغتسل الحائض أو النفساء عقب انقطاع الدم فوراً، وقد تغتسلان بعد مرور الساعات على انقطاع الدم فانقطاع الدم المُؤْذِن بنهاية الفترتين شيء، والغسل شيء أخر، وعليه فإن المرأة إذا انقطع حيضها، أو نفاسها فقد وجب عليها أن تصوم، دون أن يكون للصوم ارتباط بالغسل. صيام من أصبح جُنُباً:

ذهب الجمهور إلى أن من أصبح جنباً فصومه صحيح ولا قضاء عليه من غير فرق بين أن تكون الجنابة من جماعٍ أو من احتلامٍ أو من فورة شهوة. وجزم النووي بأن الإجماع من العلماء قد استقر على ذلك. وقال ابن دقيق العيد إنه صار إجماعاً أو كالإجماع. ونقل ابن عبد البر عن الحسن بن صالح وإبراهيم النخعي إيجابَ القضاء في الفرض دون التطوُّع. ونقل الماوَرْدي أن الاختلاف إنما هو في حق الجُنُب من جماع، وأَما من احتلام فأجمعوا على أنه يُجْزِؤُه. وقال الترمذي [وقد قال قوم من التابعين: إذا أصبح جُنُباً يقضي ذلك اليوم] هذه هي خلاصة الأقوال في هذه المسألة. وحتى نستطيعَ الوقوف على الصواب فيها لا بدَّ من استعراض الأحاديث التي تتناولها: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت {أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لَيصبحُ جنباً من جماعٍ غير احتلامٍ ثم يصومه} رواه البخاري (1931) ومسلم والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان. وروى مسلم أيضاً (2591) من طريقها رضي الله عنها {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصبح جنباً من جماع لا من حُلُم، ثم لا يفطر ولا يقضي} وروى البخاري أيضاً (1930) ومسلم من طريق عائشة رضي الله عنها {كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر جنباً في رمضان من غير حلم فيغتسل ويصوم} كما رويا مثل هذا اللفظ من طريق أم سلمة رضي الله عنها. 2- عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله تعالى عنها {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جُنُبٌ فأصومُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جُنُبٌ فأصوم …} رواه مسلم (2593) وأبو داود والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة.

3- عن عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جُنُبٌ من أهله، ثم يغتسل ويصوم ... } رواه الإمام البخاري (1925-1926) ومسلم والترمذي وأحمد وابن حِبَّان والدارمي باختلاف في الألفاظ. فهذه أربع روايات صحيحة، تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جُنُب من جِماع أهله غير احتلام، ورواية خامسة، تذكر أنه كان يدركه الفجر وهو جنب دون تحديدٍ فيصوم، وهي روايات واضحة الدلالة على ما ذهب إليه الجمهور، وما كاد يُجمِع عليه العلماء والفقهاء، وهي في المقابل ردٌّ على المخالفين.

وأما ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {إذا نودي للصلاةِ، صلاةِ الصبح، وأحدُكم جُنُبٌ فلا يصمْ يومئذٍ} رواه أحمد (8130) فإن أبا هريرة رضي الله عنه قد رجع عن هذه الفتوى، فعن عامر بن أبي أمية أخي أم سلمة رضي الله عنها أن أم سلمة حدَّثته {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً ثم يصوم فردَّ أبو هريرة فتياه} رواه ابن حِبَّان (3500) وأحمد والطبراني والطحاوي وأبو داود الطيالسي بسند صحيح. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن قال {سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقصُّ، يقول في قصصه: من أدركه الفجر جنباً فلا يصوم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث – لأبيه – فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، فسألهما عبد الرحمن عن ذلك، قال: فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير حُلُم، ثم يصوم، قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان، فذكر ذلك له عبد الرحمن، فقال مروان: عزمتُ عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددتَ عليه ما يقول قال: فجئنا أبا هريرة، وأبو بكر حاضر ذلك كله قال: فذكر له عبد الرحمن فقال أبو هريرة: أهما قالتاه لك؟ قال: نعم قال: هما أعلم، ثم ردَّ أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل بن عباس فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك الحديث، قلت لعبد الملك: أقالتا في رمضان؟ قال: كذلك كان يصبح جنباً من غير حُلُم، ثم يصوم} رواه مسلم (2589) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان. أبو بكر هنا هو أبو بكر بن عبد الرحمن راوي الحديث. وعن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول {من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم، قال: ثم سمعته نزع

إثم من أفطر في رمضان بغير عذر

عن ذلك} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (2940) كما روى ابن أبي شيبة (2/494) عن سعيد بن المسيِّب [أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنباً فلا صوم له] . وبثبوت رجوع أبي هريرة عن فتياه لا تبقى أيةُ حجةٍ، بل ولا أيةُ شبهةٍ، لمن خالف قول الجمهور. إثم من أفطر في رمضان بغير عذر: إن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة، فهو أحد أعمدة الإسلام الرئيسية الخمسة، ولذا فإن التارك لهذا الركن، أو حتى المقصِّر فيه ليستحق العذاب الأليم في الآخرة فضلاً عن إيقاع دولة الخلافة العقوبة عليه في الدنيا. وهذه طائفة من الأحاديث والآثار تحذِّر من الإفطار في رمضان: 1- عن أبي أُمامة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضَبْعَيَّ ... وساق الحديث، وفيه – قال: ثم انطلقا بي فإذا قوم معلَّقون بعراقيبهم، مشققةٌ أشداقُهم تسيل أشداقُهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يفطرون قبل تَحِلَّةِ صومهم …} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (3273) ورواه ابن حِبَّان وابن خُزيمة والبيهقي والحاكم والطبراني في المعجم الكبير. وصححه الحاكم والذهبي والهيثمي. والضَّبْع: هو وسط العضد. والعُرْقُوب: هو العصب الغليظ الموتَّر فوق العَقِب. والأشداق: هي جوانب الفم. 2- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال {من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصةٍ لقي الله به، وإن صام الدهر كله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه} رواه الطبراني في كتاب المعجم الكبير (9/9575) . قال الهيثمي [رجاله ثقات] ورواه ابن حزم باختلاف في اللفظ. ورواه الترمذي (719) وأبو داود وابن ماجة وأحمد والدارَقُطني والبيهقي والدارمي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.

صوم الصبيان

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن رجلاً أفطر في رمضان، فقال أبو هريرة: لا يُقبَل منه صومُ سنة} رواه ابن حزم في المُحلَّى (6/184) وفي رواية أخرى عند ابن حزم فيه (6/184) قوله {من أفطر يوماً من أيام رمضان لم يقضه يومٌ من أيام الدنيا} وروى ابن أبي شيبة (2/516) عن عليٍّ رضي الله عنه قوله {من أفطر يوماً من رمضان متعمِّداً لم يقضه أبداً طولَ الدهر} . 4- عن أبي مروان {أن علي بن أبي طالب أُتِيَ بالنجاشي قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين، ثم ضربه من الغد عشرين، وقال: ضربناك العشرين لجرأتك على الله، وإفطارِك في رمضان} رواه ابن حزم في المحلى (6/184) والطحاوي وسنده صحيح والنجاشي هذا هو شاعر اسمه قيس بن عمرو الحارثي، وقد لازم علياً إلى أن جلده، ففر إلى معاوية. فالحديث والآثار الثلاثة، أو قل الخمسة، واضحة الدلالة على الإثم الكبير لمن أفطر ولو يوماً واحداً في رمضان، فكيف بمن لا يصوم الشهر كله بل الشهور كلها؟ إن المدقق في الآثار هذه يجد أن ألفاظها بعيدة الاحتمال عن أن تكون أفهاماً للصحابة أو اجتهادات منهم فمثل هذه الأقوال يبعد جداً أن تكون من عندهم، ومع ذلك فإنني لا أعتبرها أدلة وإنما اعتبرها أَماراتٍ وأحكاماً شرعية يصح قبولها وتقليدُ أصحابها بها. صوم الصبيان: ذهب الجمهور إلى أن صوم الصبيان، أي غير البالغين، غير واجب واستحبَّه جماعة من التابعين منهم ابن سيرين وابن شهاب الزُّهري. وقال الشافعي: إن الصبيان يُؤْمَرون بالصيام للتمرين عليه إذا أطاقوه. وحدَّه أصحابُه بالسبعِ، والعشرِ كالصلاة. وحدَّه إسحق باثنتي عشرة سنة. وأحمد في رواية عنه بعشرِ سنين. وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعاً لا يضعفُ فيهن حُمِلَ على الصوم. والمشهور في مذهب مالك أن صوم الصبيان لا يُشرع في حقهم. فأقول ما يلي:

إن هذه المسألة ما كان ينبغي أن تختلف فيها أفهام الفقهاء والعلماء، إذ المعلوم في الشريعة أن التكاليف كلها شرطُها البلوغُ، فمن بَلَغ كُلِّف ومن لم يبلغ لم يُكلَّف، فإن جاء الشرع وأمر من هو دون البلوغ بالقيام بفعل، أو جاء يأمر وليَّ الصبي بحمل الصبي على القيام بفعل، فإنما هو من باب التمرين عليه فحسب كما يقول الشافعي، ولا يجب على الصبي القيام به قطعاً، وإن كان يُثاب على فعله هو ووليُّ أمره، ومن ذلك الصيام. فولي أمر الصبي يأمر صبيَّه بالصيام ويحثُّه عليه دون أن يصل الأمر والحث إلى حد الإكراه والإجبار، فإن امتثل الصبي للأمر فبها ونعمت، وإن رفض فلا شيء عليه ولا على وليِّه. …أما متى يبدأ الطلب من الصبي أن يصوم؟ فإن الشرع لم يحدِّد سناً معينة لذلك كما فعل بخصوص الصلاة، ولا يصح القياس في العبادات، فلا يقاس الصيام على الصلاة، وتبقى السنُّ عامة غير مخصَّصة ومطلقة غير مقيَّدة، والأمر كله راجع لتقدير أولياء الأمور وصحَّة الصبيان وقُدُراتهم البدنية. …وقد مرَّ حديث الرُّبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت {أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فلْيتمَّ يومه، ومن أصبح صائماً فلْيصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونُصوِّم صبيانَنا، ونجعل لهم اللعبةَ من العِهْنِ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك، حتى يكون عند الإفطار} رواه البخاري (1960) ومسلم وابن حِبَّان وابن خُزيمة والبيهقي والطحاوي.

صوم الحامل والمرضع

…فهذا في صيام التطوع كما أثبتناه سابقاً، وصيام التطوع ليس واجباً على الكبار فلا يكون قطعاً واجباً على الصبيان. وكون هؤلاء الصبيان يُلَهَّوْن باللُّعب من الصوف في أثناء صومهم، فإن ذلك يعني أن السنَّ التي كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرِّنون صبيانهم على الصيام فيها هي بلا شك فيما بين الخامسة والسابعة على أبعد تقدير، فهذه هي السنُّ التي يُتصوَّر فيها إلهاء الصبيان عن الجوع بالُّلَعب من الصوف وغيرها، ومع ذلك فإن هذه السن ليست للالتزام. وقد ذكر البخاري تعليقاً – أي بدون سند – هذا الأثر {وقال عمر رضي الله عنه لِنَشْوانَ في رمضان: ويلك وصبيانُنا صيامٌ؟ فضربه} . ومعناه أن شخصاً قُبض عليه في رمضان وهو نشوان، أي سكران، فوبَّخه عمر وضربه قائلاً له: وصبياننا صيام؟ أي تفطر وتشرب الخمر أيضاً في رمضان في حين أن الصبيان يصومون؟ فالأصل عند المسلمين أن يُعوِّدوا أولادهم الصغار على أداء بعض التكاليف التي سيقومون بها كباراً مما يطيقون القيام به. صوم الحامل والمرضع: ورد في صوم الحامل والمرضع الحديثان التاليان: 1- عن أنس بن مالك – رجل من بني عبد الله بن كعب إخوةِ بني قُشَير – قال { ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس أحدِّثْكَ عن الصلاة، وعن الصيام: إن الله تعالى وضع شطر الصلاة، أو نصف الصلاة، والصومَ عن المسافر وعن المرضع أو الحبلى، واللهِ لقد قالهما جميعاً أو أحدَهما ... } رواه أبو داود (2408) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وهذا لفظ النَّسائي (2274) {إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم، وعن الحبلى والمرضع} ورواه الترمذي وحسَّنه. 2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للحُبلى التي تخاف على نفسها أن تفطر، وللمرضع التي تخاف على ولدها} رواه ابن ماجة (1668) وابن عَدِي.

قال الترمذي [قال بعض أهل العلم: الحامل والمرضع يفطران، ويقضيان، ويُطعمان وبه يقول سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل. وقال بعضهم: يفطران ويطعمان، ولا قضاء عليها، وإن شاءتا قضتا، ولا إطعام عليهما. وبه يقول إسحق] . وقد ذهب الحسن البصري وعطاء والضحاك وإبراهيم النخعي والأوزاعي وعكرمة وأصحاب الرأي وربيعة إلى أن الحامل إذا خافت على نفسها، والمرضع إذا خافت على ولدها، أن تفطرا ولا إطعام عليهما، فهما بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر. وهو قول مالك في الحبلى إذا أفطرت، وأما المرضع فإنها إن أفطرت فقد وجب عليها القضاء والإطعام. وقال الشافعي وأحمد: تفطران وتقضيان إن خافتا على نفسيهما فقط، أو على نفسيهما وولديهما، وأما إن خافتا على ولديهما فقط فعليهما القضاء والفدية، عن كل يومٍ مُدٌّ. فأقول، ومِن الله التوفيق، ما يلي: أما أن الحامل والمرضع تفطران فهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء وهو الصواب وإن الحديث الأول دليل عليه (إن الله تعالى وضع ... الصوم عن المسافر، وعن المرضع أو الحبلى) (إن الله وضع عن المسافر ... الصوم، وعن الحبلى والمرضع) فكما أن المسافر يصح له الإفطار لأن السفر رخصة وعذر، فكذلك الحبلى والمرضع يصح لهما الإفطار، لأن الحَبَل والرضاعة رخصةٌ وعذرٌ. وقد جاء النص الأول عاماً في الحُبْلى والمرضع، وأَما النص الثاني، فقد جاء خاصاً بالحَبَل الذي يُخشى معه على النفس، وبالإِرضاع الذي يُخشى معه على الولد، فوجب الأخذُ بهذا التخصيص. فأقول ما يلي:

إن الحبلى إذا خشيت بسبب الحَبَل على نفسها فإن لها أن تفطر، وإن المرضع إذا خشيت بسبب الإِرضاع على ولدها فإن لها أن تفطر، وأما إن عدمت الخشيةُ من الحبلى والمرضع فلا يصح لهما الإفطار، فالعام يُحمل دائماً على الخاص. وأما القضاء فإنه لا بد منه، وليس صحيحاً قول إسحق [إن شاءتا قضتا] كما أنه ليس صحيحاً ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه من القول إِنَّ الحامل والمرضع ليس عليهما قضاء، كما جاء في الرواية عند الدارَقُطني (2/206) في سننه من طريق سعيد بن جُبير {أن ابن عباس قال لأم ولدٍ له حُبلى أو مُرضع: أنتِ من الذين لا يطيقون الصيام، عليكِ الجزاء، وليس عليكِ القضاء} ورواه أبو داود والبزَّار بمعناه. وكذلك ليس صحيحاً ما رُوي عن قتادة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما من القول نفسه المنسوب لابن عباس رضي الله عنهما، كما جاء في مصنَّف عبد الرزاق عن قتادة (7556) وعن ابن عمر (7558) من أنهما قالا عن الحامل والمرضع: تفطران وتطعمان عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليهما. وكما روى الدارَقُطني (2 /207) مثله عن ابن عمر رضي الله عنه. وذلك لما يلي: …إنَّ الرواية الأولى عن ابن عباس عند الدارَقُطني القائلةَ بالجزاء، وعدم القضاء تعارضها الرواية عنه عند عبد الرزاق (7564) القائلة بالقضاء وعدم الإِطعام. ولذا فإن الرواية عن ابن عباس مشكوك فيها، فتترك. هذا إِضافةً إلى أنها قول صحابي وأقوال الصحابة ليست أدلة، كما ذكرنا ذلك عدة مرات. وقل مثل ذلك بخصوص القول المنسوب لابن عمر رضي الله عنه.

لا صوم على المجنون وعلى المغمى عليه

أما الدليل الشرعي فهو الحديث الأول بروايتيه فقد أعطى هذا الحديث حكماً واحداً لكلٍّ من المسافر والحبلى والمرضع هو أن الله سبحانه قد وضع عنهم الصوم، ولم يفرق بينهم بخصوصه، ولذا فإن القائلين بالتفريق قد أخطأوا فيما ذهبوا إليه. وحيث أن المسافر يقضي صومه فإن كلاً من الحبلى والمرضع تقضي صومها كذلك ولا يُلتفت إلى رأي من قال إن الحبلى والمرضع لا تقضيان الصوم. …أما القول إن الحامل والمرضع تفطران وتطعمان فإنه لا دليل عليه من الشرع، لا من كتاب الله سبحانه، ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يعدو كونه من اجتهادات الصحابة والفقهاء، ونحن لا نلتزم في عباداتنا إلا بما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وممن قال بعدم الإِطعام الأحناف، وقد أصابوا فيما ذهبوا إليه. لا صوم على المجنون وعلى المغمَى عليه:

قال الإمام أبو حنيفة: يصح صوم المغمَى عليه لأن النية قد صحَّت، وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم كالنوم. وقال الشافعي: إذا وُجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم، لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجودُه في بعضه كالحيض. وقال الشافعي وأحمد: متى أُغمي عليه جميعَ النهار فلم يُفِقْ في شيء منه لم يصحَّ صومُه. وجاء في كتاب الشرح الكبير لشمس الدين بن قدامة [لا نعلم خلافاً في وجوب القضاء على المغمَى عليه، لأن مدته لا تتطاول غالباً ولا تثبت الولاية على صاحبه، فلم يلزم به التكليف كالنوم، فأما المجنون فلا يلزمه قضاء ما مضى، وبه قال أبو ثور والشافعي في الجديد. وقال مالك: يقضي وإن مضى عليه سنون. وعن أحمد مثله، وهو قول الشافعي في القديم، لأنه معنى يزيل العقل، فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء. وقال أبو حنيفة: إن جُنَّ جميع الشهر فلا قضاء عليه، وإن أفاق في أثنائه قضى ما مضى لأن الجنون لا ينافي الصوم، بدليل أنه لو جُنَّ في أثناء الصوم لم يفسد، فإذا وجد في بعض الشهر وجب القضاء كالإغماء، ولأنه أدرك جزءاً من رمضان وهو عاقل فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم] فأقول ومن الله التوفيق والسَّداد ما يلي:

إن القلم، أي التكليف، قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يُفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود (4403) والترمذي وأحمد من طريق علي رضي الله عنه بلفظ {عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رُفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يَعقِل} وذكره البخاري في باب الطلاق موقوفاً. ورواه ابن ماجة والدارمي والنَّسائي من طريق عائشة رضي الله عنها. ومن ضمن التكليف الصيام، فالصيام مرفوع عن النائم حتى يستيقظ وهو مرفوع عن الصبي حتى يبلغ مبلغ الرجال والصبيَّة مبلغ النساء، كما هو مرفوع عن المجنون حتى يعقل أو يُفيق. فلا صيام على نائم، ولا صيام على صبي، ولا صيام على مجنون، ما دام هؤلاء الثلاثة على حالهم لم يخرجوا منه، فإذا خرجوا منه صاروا مكلَّفين. وعليه فإن المجنون، إذا مضى عليه يوم كامل أو أكثر من يوم دون أن يعود إليه عقله فلا تكليف عليه ولا صوم عليه في الحال وبالتالي فلا قضاء عليه لذلك اليوم، ولا للأيام التي أمضاها مجنوناً. وقل مثل ذلك بخصوص المغمَى عليه إذا مضى عليه يوم كامل وهو في إغماء متواصل، أي مضى عليه ليلٌ ونهارٌ دون إِفاقة، فإنه لا صوم عليه في الحال وبالتالي فلا قضاء عليه، لأن المجنون والمغمى عليه غير مكلَّفَين وعلى من كلَّفهما بالصوم وقضاء الصوم أن يأتينا بدليل من الشرع. …وإنَّ صيام رمضان عبادةٌ تتكرر كل نهار، والصيام هو الامتناع عن المفَطِّرات وعليه فإنه ليس صحيحاً أن صيام شهر رمضان كله عبادة واحدة تلزمها نية واحدة، وإنما الصحيح هو أن صيام كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلة عما قبلها، وعما بعدها وهذه العبادة تحتاج إلى نية، وهذه النية يجب عقدها كلَّ ليلة قبل حلول الفجر.

…ثم إن العبادات توقيفية تحتاج كل واحدة منها إلى نص من قرآن أو حديث أو إجماع صحابة، ولا تصح أية عبادة بالقياس، لأن العبادات لا تعلَّل إلا أن توجد العلة في النص فتؤخذ وهي نادرة جداً في العبادات فإنْ جاء نصٌّ بعبادة قلنا بها وإلا رفضناها مهما كان عدد القائلين بها أو نوعيتهم. …وبناء على ما سبق أقول: إن المجنون والمغمى عليه لا تكليف عليهما ولا صوم عليهما، وبالتالي فإنه لا يتوجَّب عليهما قضاءُ ما فاتهما من صيام، سواء فاتهما صيام يوم أو عدة أيام أو شهر رمضان بكامله، وهذا واضح. وأما إن نوى شخص في الليل الصيام، ثم بعد النية أصابه جنون أو إغماء في جزء من النهار ثم أفاق احتُسِب له صيامُ يوم، وأيضاً لا قضاء عليه، فهو كالنائم سواء بسواء. فالنائم إن نوى الصيام من الليل ثم نام جزءاً من النهار، سواء كان الجزء طويلاً أو قصيراً، أولَ النهار، أو وسَطَه، أو آخِرَه احتُسب له صيام ذلك اليوم، ولا يضيره أن يفقد الاستشعار بالصوم، لأن زوال الاستشعار لا يمنع صحة الصوم كما يقول أبو حنيفة.

وقد يقول قائل: ما دام أن الإغماء كالنوم فلماذا يُطلب من النائم عن الصلاة أن يأتي بها عند إفاقته ويقظته، ولا يطلب من المغمَى عليه الإتيانُ بالصوم عند إفاقته؟ والجواب عليه هو أن العبادات كما قلنا لا تعلَّل وأنها توقيفية، وبالتالي لا تقاس واحدة على الأخرى فلا يقاس الصوم على الصلاة، ولا يقاس قضاء الصوم على قضاء الصلاة فالحائض مثلاً تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة وهنا جاء الأمر للنائم أن يقضي الصلاة فوجب عليه أن يأتي بها عندما يستيقظ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فلْيُصَلِّها إذا ذكرها، فإن الله يقول: أقم الصلاة لذِكْري} رواه مسلم (1569) وأحمد والبيهقي وأبو نعيم. فهو نصٌّ في الصلاة لا نجد مثله في الصوم، والشرع لا يغفل عن تشريع ما يجب، فلو كان الصوم يُقضَى من قبل النائم أو المغمى عليه أو المجنون، لقال لنا الشرع ذلك، فلما لم يقله فإنه لا يُقبَل من أيِّ مسلم فضلاً عن أي فقيه أن يقوله. وإذن فإن الرجل إذا جُن أو أُغميَ عليه يوماً كاملاً أو أياماً كاملة فلا صوم عليه، ولا قضاء، ومثله إن جُن أو أُغميَ عليه جزءاً من نهار، وكان في الليل قد عقد النية للصوم فإن صومه مقبول، ولا قضاء عليه. ونستأنس هنا بما رُوي عن نافع قال {كان ابن عمر يصوم تطوُّعاً فيُغْشَى عليه فلا يفطر} رواه البيهقي (4 /235) وقال [هذا يدل على أن الإغماء خلال الصوم لا يفسده] .

حل الجماع في ليالي الصيام

فتبقى حالة ما إذا كان الجنون، أو الإغماء، قد حصل في الليل، فلم يتمكن الشخص من أن يعقد نية الصوم، ثم زال عارض الجنون أو الإغماء في جزء من النهار ففي هذه الحالة يتوجب على هذا الشخص أن يمسك فوراً عن المفَطِّرات، ويصوم بقية اليوم ثم يقضيه في يوم آخر لأن النية ركن وشرط في الصيام لا يصح بدونها، فلا يصح منه الصيام في هذه الحالة، ولذا وجب عليه القضاء. وحيث أنه أدرك جزءاً من النهار وهو مفيق فإنه يكون قد أدرك جزءاً من عبادةٍ واجبةٍ، فوجب أن يمسك عن المفطرات ومثل هذه الحالة ما رواه عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه {أن أَسلمَ أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأَتمُّوا بقيةَ يومِكم، واقضوه} قال أبو داود: يعني يوم عاشوراء. رواه أبو داود (2447) والبيهقي. قوله أَسلم: أي قبيلة أسلم. فقد جاء في هذا الحديث (أتمُّوا بقية يومكم واقضوه) وأما كون هذا النص في يوم عاشوراء فلا يغير من الأمر شيئاً. ومن ذلك يظهر أن قول مالك وأحمد: يقضي وإن مضى عليه سنون هو خطأ وأن قول أبي حنيفة: إن جُن جميع الشهر فلا قضاء عليه، وإن أفاق في أثنائه قضى ما مضى، هو أيضاً خطأ، وخطؤُه آت من اعتباره رمضان كله عبادةً واحدة، ولو كان يعتبر صيام كل يوم عبادة منفصلة تحتاج إلى نية، لما قال ما قال. وإن قول أبي ثور والشافعي في الجديد: فأما المجنون فلا يلزمه قضاء ما مضى هو قول سديد صائب. حِلُّ الجماع في ليالي الصيام: كان الجماع في ليل رمضان محظوراً في البداية وقيل كان محظوراً في الليل عقب النوم، أما قبل النوم فكان جائزاً، وقد وردت النصوص في كلا الأمرين. وقد شق الامتناعُ عن الجماع على ناس من الصحابة فقارفوه، فوقعوا في الإثم، فنزل قوله تعالى يذكر ذلك، ويرفع الحظر عن الجماع في ليالي رمضان. وهذه طائفة من النصوص تذكر ذلك:

1- قال تعالى {أُحِلَّ لكم ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم هُنَّ لباسٌ لكم وأَنتم لباسٌ لهنَّ عَلِمَ اللهُ أنكم كنتم تَخْتَانون أَنْفُسَكم فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآن باشِروهنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لكم ... } من الآية 187 من سورة البقرة. قوله الرَّفَث: هو هنا الجماعُ وغَشَيانُ النساء. وقوله تختانون: أي ترتكبون الخيانة. 2- عن البراء رضي الله عنه قال {كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً، فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلتَه ولا يومَه حتى يمسي، وإنَّ قيس بن صِرْمَةَ الأنصاري كان صائماً، فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها: أعندكِ طعام؟ قالت: لا، ولكن أَنطلقُ فأَطلب لك، وكان يومَه يعمل، فغلبته عيناه فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبةً لك، فلما انتصف النهار غُشِي عليه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية (أُحِلَّ لكم ليلةَ الصِّيامٍ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم) ففرحوا بها فرحاً شديداً، ونزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود) } رواه البخاري (1915) وأبو داود والنَّسائي وأحمد والبيهقي والطبري. 3- عن أبي إِسحق قال: سمعت البراء رضي الله تعالى عنه قال {لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساءَ رمضانَ كلَّه وكان رجالٌ يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى – عَلِمَ اللهُ أنكم كنتم تَخْتَانونَ أَنفُسَكم فتابَ عليكم – الآية} رواه البخاري (4508) والدارمي والنَّسائي.

لفصل الثاني: الفطر والسحور

4- عن ابن عباس رضي الله عنهما {في قول الله تعالى ذِكْرُهُ – أُحِلَّ لكم ليلةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نسائِكم – وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساءُ والطعامُ إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشَكَوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله – عَلِمَ اللهُ أنكم كنتم تخْتانون أنْفُسَكم فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهُنَّ – يعني: انكحوهن –، وكلوا واشربوا حتى يتبينَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجر} رواه الطبري (2/165) وابن المنذر. 5- عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال {كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حَرُم عليه الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفطر من الغد، فرجع عمر ابن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نمت قال: ما نمتِ ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله تبارك وتعالى (عَلِم اللهُ أنكم كنتم تختانون أنفُسَكم فتابَ عليكم وعفا عنكم) } رواه الإمام أحمد (15888) والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم، وسنده حسن. والنصوص واضحة لا تحتاج إلى تفسير. الفصل الثاني: الفِطْر والسُّحُور الفصل الثاني الفِطرُ والسُّحور أولاً: الفِطر متى يفطر الصائم؟ وردت في إفطار الصائم الأحاديثُ التالية:

1- عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: يا فلان انزلْ فاجْدَحْ لنا، قال: يا رسول الله إنَّ عليك نهاراً، قال: انزلْ فاجْدَحْ لنا، قال: فنزل فجَدَحَ، فأتاه به فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال بيده: إذا غابت الشمس من ههنا، وجاء الليل من ههنا، فقد أفطر الصائم} رواه مسلم (2559) والبخاري وأبو داود والنَّسائي وأحمد. قوله اجدح: الجَدْحُ هو خلطُ الشيء بغيره لتهيئته للأكل أو للشرب ويطلق على خلط السَّوِيق – وهو المتخذ من القمح أو الشعير – واللبن ونحوهما بالماء. والمِجدَح: خشبة ذات رأسين أو ثلاثة يُحرَّك الخليطُ بها. 2- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم} رواه البخاري (1954) وأبو داود والنَّسائي وأحمد والترمذي والدارمي ورواه مسلم (2558) بلفظ {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم} . 3- عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطر} رواه البخاري (1957) ومسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي والشافعي. 4- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يزال الدين ظاهراً ما عجَّل الناسُ الفِطر، إن اليهود والنصارى يؤخِّرون} رواه أحمد (9809) وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان بسند حسن. وصحح الحاكم والذهبي إِسناده.

5- عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تزال أمتي على سُنَّتي ما لم تنتظر بفِطْرِها النجومَ} رواه ابن حِبَّان (3510) وأحمد وابن خُزيمة والدارمي والحاكم بسند صحيح. 6- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {إِنَّا معاشرَ الأنبياء أُمرنا أن نُعجِّل فِطرنا وأن نؤخر سحورنا، وأن نضع أَيماننا على شمائلنا في الصلاة} رواه الطبراني في المعجم الأوسط (1905) وابن حِبَّان وأبو داود الطيالسي. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] ورواه الطبراني في المعجم الأوسط أيضاً (3053) من طريق ابن عمر رضي الله عنهما. 7- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {إنَّ جزءاً من سبعين جزءاً من النبوة تأخيرُ السُّحور وتبكيرُ الفِطر، وإِشارةُ الرجلِ بإصبعه في الصلاة} رواه عبد الرزاق في مصنَّفِه (7610) . 8- عن عمرو بن ميمون الأزدي، قال {كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجلَ الناس إفطاراً، وأبطأَهم سُحوراً} رواه البيهقي (4/238) ورواه الطبراني في كتاب المعجم الكبير، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنَّفيهما. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] . 9- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله عزَّ وجلَّ: إن أحبَّ عبادي إليَّ أعجلُهم فِطراً} رواه أحمد (7240) وابن حِبَّان وابن خُزيمة والبيهقي. ورواه الترمذي وقال [حسن غريب] .

ما يستحب للصائم أن يفطر عليه

في الحديث الأول وفي الحديث الثاني بروايتيه جاء اللفظ واحداً: وهو دالٌّ على أن إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب وغروب الشمس هو موعد الإفطار وهذا يعني أن مجرد الغروب يكفي للإفطار، فلا حاجة للتأخير ولا مبرر لانتظار المزيد من الوقت كي يفطر الصائم كما تفعل الشيعة الإمامية. ولعل ما هو أوضح من هذه النصوص الثلاثة، الحديث الخامس (لا تزال أمتي على سُنتي ما لم تنتظر بفِطْرها النجومَ) وانتظار النجوم يعني تأخير الإفطار حتى تَسْودَّ صفحةُ السماء فتظهر فيها النجوم، وهو يعني التأخُّرَ في الفطر عن غروب الشمس بما يقارب الربع ساعة على الأقل، فهذا كما نصَّ عليه هذا الحديث مخالف للسُنَّة النبوية وموافق لليهود والنصارى، كما نصَّ على ذلك الحديث الرابع فلا ينبغي تأخير الإفطار تحت أية ذريعة من الذرائع. وهذا ما فهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا أعجلَ الناس إِفطاراً كما جاء في البند الثامن. وإذا كان تبكير الإفطار مما أُمر به الأنبياء وأنه جزء من سبعين جزءاً من النبوة وأَنَّ أحبَّ عباد الله إليه أعجلُهم فطراً بان التشدُّدُ في الهَدْيِ النبوي على تعجيل الإفطار وعدم تأخيره. وأقول كلمة هنا: هي أن العادة قد جرت في عصرنا الراهن بأن نتناول طعام الإفطار إذا أذَّن المؤذن لصلاة المغرب، كما أن العادة قد جرت أيضاً بأن يُؤخَّر رفعُ أذان المغرب قليلاً عقب غياب الشمس، وهذا يجعل الصائمين يؤخرون الإفطار عن موعده فهذا التأخير مخالفٌ للسُنَّة النبوية، فعلى الصائمين أن يتثبتوا من المدة التي يؤخِّر فيها المؤذِّنون أذان المغرب فيتلافَوْها، ولو أدى ذلك بهم إلى أن يفطروا قبل رفع الأذان فالسنة النبوية أحق وأولى بالاتِّباع مما جرت به عادة الناس في أيامنا هذه. ما يُستحبُّ للصائم أن يفطر عليه:

يستحبُ للصائم أن يفطر على حبَّاتٍ من الرُّطب، فإن لم توجد انتقل الاستحباب إلى حبَّات من التمر، فإن لم توجد الحباتُ من التمر انتقل الاستحباب إلى جرعات من ماء، وله بعد ذلك أن يأكل ما يشاء. ولم يَرِدْ في النصوص تعليلٌ لهذا الترتيب إلا ما جاء في الحديث الأول الآتي بعد قليل بخصوص الماء من أنه طَهور. ولذلك لا يصح أن يخوض الناس في سبب اختيار الرطب أولاً ثم التمر ثانياً ثم الماء ثالثاً، وإنما يفعلون كل ذلك تعبُّداً وطاعةً فحسب، فليس صحيحاً تعليلُهم تقديمَ التمر بأن فيه وَفْرةً من السكر وهو ما يفقده الصائم، فجاء النص يطلب منهم تعويض أبدانهم عن فقده، أو أن التمر سريع الهضم، فيسهِّل على الصائم التغذية التي يحتاج إليها وما إلى ذلك من أبحاث لا تقدِّم شيئاً ولا تؤخِّر في أحكام الشرع، ولو أراد الشرع الحنيف أن يعلِّل لعلَّل، فلما سكت عن التعليل فقد وجب علينا السكوت عنه، اللهم إلا أن تُبحث هذه الأمور في باب دلائل النبوة فلا بأس. وهذه طائفةٌ من الأحاديث تتناول هذه المسألةَ: 1- عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا كان أحدكم صائماً فلْيفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء، فإن الماء طَهُور} رواه أبو داود (2355) والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي. وصححه ابن حِبَّان والحاكم وأبو حاتم الرازي، وقال الترمذي [حديث حسن صحيح] . 2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رُطَباتٍ قبل أن يصلي، فإن لم تكن رُطَبات فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حَسَواتٍ من ماء} رواه أبو داود (2356) والترمذي وقال [حديث حسن غريب] ورواه أحمد والدارَقُطني وصحَّحه. ورواه الحاكم وصححه وأقرَّه الذهبي. والحُسْوة بالضم: الجُرعة من الشراب. والحَسْوة بالفتح: المرة الواحدة.

ما يقوله الصائم إذا أفطر

3- عن أنس رضي الله عنه قال {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط صلى صلاة المغرب حتى يفطر ولو على شَربةٍ من ماء} رواه ابن حِبَّان (3504) وابن خُزيمة والبزَّار والحاكم والبيهقي والطبراني في المعجم الأوسط، وإسناده صحيح. وهذا الحديث الثالث يدل على أن السُّنة في الإفطار تعجيله، وأنه مقدَّم على صلاة المغرب، فلا يصلي الصائم إلا بعد أن يفطر. ما يقوله الصائم إذا أفطر: إذا فرغ الصائم من عبادة ربه بالصيام وأفطر، فإن دعاءه عندئذٍ يخرج من فم امتنع طيلة النهار عن الأكل والشرب طاعةً لله وتعبُّداً أي يخرج من فمٍ عابدٍ لربه صابرٍ على الجوع والعطش فاستحق من الله سبحانه أن يستجيب دعاءه. فعلى المسلم عقبَ هذه العبادةِ، بل وعقبَ كلِّ عبادة أن يحمد ربه وأن يدعوه، وأن يُخلصَ في الدعاء، لأن الدعاء آنذاك مقبول مستجاب بإِذن الله. فعن عبد الله بن أبي مُلَيكةَ قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن للصائم عند فِطرهِ لدعوةً لا تُردُّ، قال ابن أبي مُلَيكةَ: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء أن تغفر لي} . رواه ابن ماجة (1753) وسنده صحيح. ورواه الحاكم. ورواه أبو داود الطيالسي دون أن يذكر دعاء ابن عمرو. والذِّكْرُ والدعاء مشروعان بأية صيغة من الصيغ ولكنه بالمأثور أفضل. هذا وقد ورد في الذِّكرِ والأدعيةِ المأثورة عقبَ الصيام وبدء الإفطار ما يلي: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ذهب الظمأُ وابتلَّت العروقُ، وثبت الأجرُ إن شاء الله} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (3315) وأبو داود والحاكم والبيهقي. ورواه الدارَقُطني وقال [إسناده حسن] .

ثواب من فطر صائما

2- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صام ثم أفطر، قال: اللهم لك صمتُ، وعلى رزقك أفطرتُ ... } رواه ابن أبي شيبة (2 /511) ورواه أبو داود (2358) والبيهقي من طريق معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: - فذكر لفظ حديث ابن أبي شيبة -. ومعاذ بن زهرة ويقال معاذ بن أبي زهرة هو من ثقات التابعين. 3- عن أنس بن مالك رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند الناس قال: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، وتنزلَّت عليكم الملائكة} رواه الدارمي (1773) وابن أبي شيبة والبيهقي وعبد الرزاق. وفي لفظ ثانٍ عند البيهقي (4/240) { ... وصلَّت عليكم الملائكة} فيستحبُّ للصائم إذا أفطر أن يقول ما يلي [اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلَّت العروق وثبت الأجر إن شاء الله] ثم له أن يدعو أيضاً بما شاء. ويعجبني دعاء عبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنه [اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كلَّ شيء أن تغفر لي] فيضمها الصائم إلى دعائه إِن شاء. ثواب من فطَّر صائماً:

إنَّ مَن فطَّر صائماً فقد نال ثواباً مثل ثوابه، فيكون قد حصَّل ثوابين اثنين في يوم واحد، دون أن يَنقُصَ من أجرِ الصائم شيءٌ، كل ثوابٍ منهما قد يُضاعفُه الله سبحانه وتعالى سبعَمائةِ ضعفٍ، كما يدلُّ عليه الحديث الأول الوارد في الفصل الأول [فضل الصوم] ولا شك في أن من وقف على هذا الثواب المضاعَف حرص على دعوةِ صائمٍ ليفطر عنده، فقد رُوي عن زيد بن خالد الجُهَني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {مَن فطَّر صائماً كُتب له مثلُ أجره إلا أنه لا يَنْقُصُ من أجر الصائم شيءٌ ومن جهَّز غازياً في سبيل الله أو خَلَفَه في أهله كُتب له مثلُ أجره إلا أنه لا ينقُصُ من أجر الغازي شيءٌ} رواه أحمد (17158) والنَّسائي وابن ماجة وابن حِبَّان والطبراني ورواه الترمذي وقال [حديث حسن صحيح] وروى الدارمي (1703) القسم الأول منه فقط. ورواه ابن خُزيمة (2064) بلفظ {من جهَّز غازياً أو جهَّز حاجاً أو خَلَفَه في أهله، أو فطَّر صائماً كان له مثلُ أجورِهم من غير أن يُنْتَقَصَ من أُجورهم شيءٌ} وسنده صحيح. وعن أم عمارة رضي الله عنها قالت {أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرَّبْنا إليه طعاماً فكان بعضُ من عنده صائماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصائم إذا أُكِل عنده الطعامُ صلَّت عليه الملائكة} رواه ابن ماجة (1748) وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة. ورواه الترمذي (782) والنَّسائي والدارمي بلفظ { ... إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أُكِل عنده حتى يَفْرُغوا وربما قال: حتى يشبعوا} وقال [هذا حديث حسن صحيح] وقد مرَّ قبل قليل حديث أنس رضي الله عنه، عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي وفيه (أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكة) وفي رواية (ونزلت عليكم الملائكة) وفي رواية (وتنزَّلت عليكم الملائكة) فصلاة ملائكة الله سبحانه على من فطَّر صائماً

الصائم إذا أفطر ناسيا

فضلٌ يضاف إلى الفضل المذكور قبل قليل، فليحرص الصائم على دعوة أحد الصائمين ليفطر عنده، لا سيما إن كان هذا الصائم فقيراً أو مسكيناً لا يجد ما يفطر عليه. الصائم إذا أفطر ناسياً: ذهب الأئمةُ أبو حنيفة والشافعي وأحمد إلى أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً لم يفطر ولا شيء عليه، سواء قَلَّ الأكلُ والشربُ أو كثر. وممن ذهب إلى هذا الرأي الحسن البصري ومجاهد وإسحق بن راهُويه وأبو ثور وداود بن علي وعطاء والأوزاعي والليث. وقال ربيعة ومالك: يفسد صوم الآكل والشارب الناسي، وعليه القضاء. والصحيح القول الأول، وهو ما تدل عليه النصوص التالية: 1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {مَن أكل ناسياً وهو صائم فليُتمَّ صومَه، فإِنما أطعمه الله وسقاه} رواه البخاري (6669) ومسلم وأبو داود والترمذي والدارمي. ولفظ مسلم (2716) هو {من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليُتِمَّ صومَه، فإِنما أطعمه الله وسقاه} . 2- وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة} رواه ابن حِبَّان (3521) وسنده حسن. ورواه ابن خُزيمة والدارَقُطني والبيهقي، والحاكم وصحَّحه. كما روى ابن خُزيمة (1990) والطبراني في المعجم الأوسط حديثاً آخرَ بلفظ {من أكل أو شرب في رمضان ناسياً فلا قضاءَ عليه ولا كفَّارة} وسنده حسن. 3- وعنه رضي الله تعالى عنه قال {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم، فقال: أطعمك الله وسقاك} رواه أبو داود (2398) والنَّسائي والدارَقُطني، والترمذي وقال [حديث حسن صحيح]

4- عن أم حكيم بنت دينار، عن مولاتها أم إسحق رضي الله عنها {أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُتي بقَصْعَةٍ من ثَريد فأكلتْ معه، ومعه ذو اليدين، فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرْقاً، فقال: يا أم إِسحق، أَصيبي من هذا، فذكرتُ أني كنت صائمة، فرددتُ يدي لا أُقدِّمها ولا أُؤخِّرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مالَكِ؟ قالت: كنت صائمة، فنسيت، فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعتِ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَتمِّي صومَك فإنما هو رزق ساقه الله إليكِ} رواه أحمد (27609) والطبراني في كتاب المعجم الكبير. والعَرْق: هو العظم إذا بقي عليه لحمٌ قليل. فهذه النصوص تدل دلالة واضحة على أن من أكل أو شرب ناسياً، فلا قضاء عليه ولا كفارة، وصومه صحيح، سواء منه ما كان فرضاً كصوم رمضان، أو كان تطوُّعاً، وسواء أكان الأكل والشرب وصلا إلى درجة الشبع أم كانا دونه. ولم أجد لمالك دليلاً على قوله الذي يخالف به هذه الأدلة، ولم أجد في المدونة الكبرى إلا فتياه فقط بأن الصائم إذا أكل أو شرب فسد صومه، وغفر الله تعالى لنا وله. ثانياً: السُّحور فضل السحور: وردت في فضل السُّحور الأحاديث التالية: 1- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {تسحَّروا فإن في السَّحور بركة} رواه البخاري (1923) ومسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي. 2- عن عبد الله بن الحارث، يحدِّث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال {دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو متسحِّر، فقال: إنها بركة أعطاكم الله إياها، فلا تدَعُوه} رواه النَّسائي (2162) وأحمد.

3- عن المقدام بن مَعْدِي كَرِب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {عليكم بغداء السُّحور فإنه هو الغداء المبارك} رواه أحمد (17324) والنَّسائي، وسنده صحيح وجاء في المعجم الأوسط للطبراني (505) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال {أرسل لي عمر بن الخطاب يدعوني إلى السَّحور وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّاه الغداء المبارك} وسنده جيد. 4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله وملائكته يصلُّون على المتسحِّرين} رواه ابن حِبَّان (3468) بسند صحيح. ورواه أبو نُعَيم والطبراني في المعجم الأوسط. ورواه أحمد من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. 5- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {نِعْمَ سَحورُ المؤمنِ التمرُ} رواه ابن حِبِّان (3475) وأبو داود والبيهقي. ورواه البزَّار (978) من طريق جابر رضي الله عنه بلفظ {نعم السَّحور بالتمر} . 6- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {تسحَّروا ولو بجُرْعةٍ من ماء} رواه ابن حِبَّان (3476) وسنده حسن. وقد رواه عبد الرزاق قولاً لنفرٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه ابن أبي شيبة (2/426) من طريق رجل من الصحابة بلفظ {تسحَّروا ولو حَسوةً من ماء} . 7- عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر} رواه مسلم (2550) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد والدارمي باختلاف في الألفاظ.

حكم السحور

فالسحور بركة أعطانا الله إياها، والله وملائكته يصلَّون علينا ونحن نتسحَّر، ويُفضَّل السُّحور بالرُّطبِ وإلا فبالتمر وتحصل بَرَكة السُّحور بجرعة من ماء. والسُّحور هو فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، ولو لم يكن من فضلٍ للسُّحور إلا صلاة اللهِ سبحانه وملائكتِهِ على المتسحرين لكفى. وقد روى أحمد فضائل السُّحور في حديث واحد من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه (11102) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {السَّحور أكلُهُ بركةٌ فلا تَدَعوه ولو أن يجرع أحدُكم جُرعةً من ماء فإن الله عزَّ وجلَّ وملائكته يصلُّون على المتسحِّرين} فليحرص الصائم على تناول طعام السحور ليحصِّل هذه الفضائل. حكم السُّحور: حكى النووي وابن المنذر الإجماع على استحباب السُّحور وأنه ليس بواجب. وقال البخاري [باب بركة السحور من غير إيجاب: لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا، ولم يُذكَر السُّحور] وجاء في المغني لابن قُدامة [ (أحدها) في استحبابه ولا نعلم فيه بين العلماء خلافاً] وهذا هو الحق، والأدلة الواردة في فضله أدلةٌ على استحبابه. وقت السُّحور: ذهب الأئمة الأربعة وعلماء الأمصار كلهم إلى أن السُّحور يمتد حتى طلوع الفجر الصادق أو قُل حتى يُؤَذِّن المؤذِّن لصلاة الفجر ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ونُقل عن الأعمش وإسحق جوازُ الأكل والشرب إلى طلوع الشمس، إِلا أنَّ النووي قد شكَّك في هذا النقل.

…كما ذهب العلماء إلى أن المتسحِّر يستمر في الأكل والشرب وحتى الجماع ما دام لم يتبين طلوع الفجر، وأن شكَّه في طلوع الفجر لا يمنعه من الأكل والشرب والجماع، فالشاكُّ يجوز له كل ذلك حتى يتحقق من طلوع الفجر، وذلك لقوله تعالى { ... حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ ... } وقد ذكر ابن المنذر– في الأشراف – جوازه عن أبي بكر الصِّديق وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وعن عطاء والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور. …وانفرد مالك بقوله إنه حرام – أي أكل الشاكِّ –، وأوجب القضاء عليه. والصحيح هو ما ذهب إليه الأئمة والعلماء من جواز الأكل والشرب والجماع إلى أن يتم التحقُّق من طلوع الفجر، وأَنَّ رأي الإمام مالك خطأ، وذلك للأدلة التالية: 1- قال تعالى { ... وكُلوا واشربوا حتى يتبينَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ ثم أتمُّوا الصيامَ إلى الليلِ ... } من الآية 187 من سورة البقرة. 2- عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال {أُنزلت (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ) ، ولم يُنْزَل (من الفجر) ، فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدُهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعدُ (من الفجر) فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار} رواه البخاري (1917) ومسلم والنَّسائي والبيهقي وابن المنذر.

3- عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال {لما أُنزلت (حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ) عمدتُ إلى عِقال أسودَ وإلى عقالٍ أبيضَ فجعلتهما تحت وِسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: إنما ذلك سوادُ الليل وبياضُ النهار} رواه الإمام البخاري (1916) وأبو داود وابن حِبَّان والطبراني في المعجم الكبير. وللبخاري (4510) أيضاً من طريقه بلفظ {قلت: يا رسول الله ما الخيطُ الأبيض من الخيطِ الأسود أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار} وللبخاري (4509) أيضاً من طريقه {… إن وسادك إِذن لعريض أنْ كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ تحت وِسادتك} . 4- عن أبي عطية قال {قلت لعائشة: فينا رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أحدُهما يعجِّل الإفطار ويؤخر السحور والآخر يؤخر الإفطار ويعجِّل السحور قالت: أيُّهما الذي يعجل الإفطار، ويؤخر السحور؟ قلت: عبد الله بن مسعود، قالت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع} رواه النَّسائي (2158) وأحمد. 5- عن عائشة رضي الله تعالى عنها {أن بلالاً كان يؤذِّن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر ... } رواه البخاري (1918/1919) ومسلم والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة. وروى الحديثَ مسلمٌ أيضاً من طريق ابن مسعود وابن عمر. ورواه أحمد أيضاً من طريق ابن عمر. ورواه البزِّار من طريق أنس بن مالك. ورواه الطبراني من طريق سهل بن سعد.

6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا سمع أحدُكم النداءَ، والإِناءُ على يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه} رواه أبو داود (2350) وأحمد والدارَقُطني، والحاكم وصححه، وأقرَّه الذهبي. 7- عن عمرو بن ميمون قال {كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجلَ الناس إفطاراً، وأبطأَهم سُحوراً} رواه البيهقي (4/238) والطبراني في المعجم الكبير وابن أبي شيبة. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] وقد مرَّ قبل قليل. 8- عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يمنعنَّ أحدَكم – أو أحداً منكم – أذانُ بلال من سحوره، فإنه يؤذِّن أو ينادي بليل لِيَرْجِعَ قائِمَكُم ولِيُنَبِّهَ نائِمَكُم، وليس أن يقول الفجر أو الصبح – وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل – حتى يقول هكذا، وقال زهير بسبَّابتيه إِحداهما فوق الأخرى، ثم مدهما عن يمينه وشماله} رواه البخاري (621) ومسلم وأحمد. قوله ليَرْجِعَ قائمَكم: أي ليُعطيَ المُتهجِّدَ فترةَ استراحة قبل صلاة الفجر، أو ليتمكن المتهجدُ الصائمُ من تناول طعام السُّحور. 9- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا معشرَ الأنبياء أُمرنا أن نُعجِّل إِفطارَنا، ونؤخِّر سحورنا، ونضع أَيماننا على شمائلنا في الصلاة} رواه أبو داود الطيالسي (2654) والطبراني في المعجم الأوسط. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] كما صححه ابن حِبَّان. وقد مرَّ في بحث [متى يفطر الصائم؟] بند 6 برواية الطبراني. 10- عن عطاء قال: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه {أحلَّ الله لك الشراب ما شككتَ حتى لا تشكَّ} رواه عبد الرزاق (7367) والبيهقي بسند صحيح.

11- عن سالم بن عبيد الله قال {كنت في حِجر أبي بكرٍ الصِّديق، فصلى ذات ليلة ما شاء الله ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فخرجت ثم رجعت فقلت: قد ارتفع في السماء أبيضُ، فصلى ما شاء الله ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ فخرجت ثم رجعت فقلت: لقد اعترض في السماء أحمرُ، فقال: هَيْتَ الآن، فأَبْلِغْني سَحوري} رواه الدارَقُطني (2/166) وقال [وهذا إسناد صحيح] كما روى الدارَقُطني من طريقه (2/166) بلفظ { ... فقلت: قد اعترض في السماء واحمرَّ، فقال: ائتِ الآن بشرابي} . 12- عن زر قال {قلنا لحُذيفة: أيَّ ساعة تسحَّرتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع} رواه النَّسائي (2152) وابن ماجة وأحمد والطحاوي وعبد الرزاق. وصححه ابن حجر. 13- عن سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يغرَّنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياضُ الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا، وحكاه حمَّاد بيديه قال: يعني معترِضاً} رواه مسلم (2546) وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. 14- عن أنس رضي الله عنه {أن زيد بن ثابت رضي الله عنه حدَّثه أنهم تسحَّروا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلى الصلاة، قلت: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين أو ستين، يعني آية} رواه البخاري (575) ومسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي. 15- عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال {أنت يا بلال تُؤذِّن إذا كان الصبحُ ساطعاً في السماء، فليس ذلك بالصبح، إنما الصبح هكذا معترِضاً، ثم دعا بسَحوره فتسحَّر، وكان يقول: لا تزال أمتي بخير ما أخَّروا السحور وعجَّلوا الفِطر} رواه أحمد (21839) . يؤخذ من هذه النصوص ما يلي:

1- الآية الكريمة في البند 1 تذكر لفظة (حتى يتبين) وهذه اللفظة ردٌّ على مالك الذي يقول إن المتسحِّر يتوقف عن الأكل عند الشك ذلك أن التبيُّن هو خلاف الشك طبعاً وجاء حديث سهل بن سعد في البند 2، وحديث عدي بن حاتم برواياته المتعددة في البند 3 مفسِّرين لهذه الآية، وأن المتسحِّر يستمر في تناول سَحوره حتى ينقشع سواد الليل، ويحلَّ محله بياض النهار، وعندها لا يبقى شك، فيتوقف عن الأكل والشرب. 2- إن السُّنة النبوية تقضي أن يؤخِّر المتسحِّرُ سُحوره إلى قبيل طلوع الفجر، بمعنى أن يؤخِّر السُّحور إلى ما قبل طلوع الفجر، أي إلى ما قبل أذان الفجر بربع ساعة أو قريب منها بحيث يفرغ خلالها من تناول طعامه وشرابه، أي يترك لنفسه الوقت الكافي لتناول سَحوره قبيلَ أذان الفجر، ولا يعجِّل السُّحور الساعةَ والساعاتِ قبل أذان الفجر كما يفعل الكثيرون في أيامنا هذه، فإنهم يسهرون ويسهرون، حتى إذا تعبوا أو نعسوا قُبيل منتصف الليل أو بعده قليلاً عمدوا إلى طعامهم فأكلوه ثم ناموا، فهذا الفعل الشائع في أيامنا هذه هو خلاف السُّنة وإِن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوةً حسنة، فإنه كان يؤخِّر السُّحور، كما ورد في الحديث في البند 4 وفي الحديث في البند 9.

3- إن بلالاً رضي الله عنه كان يؤذن إذا سطع الضوء في أعلى الأفق، أي عند حلول الفجر الكاذب، أو عند ظهور بياض المستطيل نحو الأعلى، في حين أن ابن أم مكتوم كان يُؤذِّن إذا استطار البياض وملأ جانبي الأفق، أي كان معترِضاً يمنةً ويسرةً وليس ساطعاً إلى الأعلى فقط، وهو الفجر الصادق، وقد جاء الهَدْي النبوي بأن نستمر في الأكل حتى أذان ابن أم مكتوم، أي حتى يؤذِّن لصلاة الفجر وليس قبله. ونحن الآن نؤذِّن أذانين: الأول لا نصلِّي عنده، والثاني هو ما نصلي عنده، أما الأول فهو كأذان بلال، وهذا الأذان الأول لا يمنعنا من تناول سَحورنا، ولا يمنعنا منه إلا الأذان الثاني الذي هو كأذان ابن أم مكتوم، وحيث أن ما بين الأذانين هو عشر دقائق حالياً، فإن المتسحِّر يستطيع أن يتناول طعامه في هذه الدقائق العشر أي بين الأذانين، وهو أفضل الأوقات لتناول السَّحور، وقد دلَّت على ذلك الأحاديث في [5 و 8 و 13 و 15] ولكن لا بأس بأن يفرغ من سَحوره قبل ذلك بدقائق كما يدل عليه الحديث 14. 4- وأقول لخائفٍ من تأخير السُّحور: إِنه إن سمع الأذان الثاني وكانت في يده لقمةٌ من طعام أو شربةٌ من ماء فلْيأكلْها ولْيشربْها، فإِن الأذان لا يعني الحَدِّية في التوقف عن الطعام والشراب، لا سيما وأنهم يُعجِّلون الأذان الثاني احتياطاً، وقد دلَّ على هذا الحديث في البند 6.

الفصل الثالث: الصيام في السفر

5- إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يؤخرون السُّحور، تمسُّكاً بالمندوب وطلباً للثواب، ولم يُعرَف عنهم أنهم كانوا يأكلون سَحورهم عند منتصف الليل أو حتى بعده بساعة وساعتين كما يفعل الناس في أيامنا هذه، وقد جاء فعل الصحابة بتأخير السُّحور إلى آخر الليل امتثالاً للهَدْي النبوي الكريم، يدل على ذلك الآثار في البنود [7 و 10 و 11] بل إن الأثر في البند 11 فيه قِسطٌ من المبالغة في تأخير السُّحور. أما أَنَّ تأخير السُّحور مندوبٌ، فلعموم الأدلة أولاً، ولقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث في البند 15 ثانياً (لا تزال أمتي بخير ما أخروا السُّحور وعجَّلوا الفِطر) . 6- بقي الحديث في البند 12. فهذا الحديث كما يبدو لي هو ما يستنَدُ عليه الأعمش وإسحق في قولهما: إِن المتسحِّر يستمر في الأكل والشرب إلى طلوع الشمس. والصحيح هو أن هذا الحديث ليس نصّاً قاطعاً في هذا المعنى، بل إن المدقق فيه يجد أنه منسجمٌ مع سائر الأحاديث وموافقٌ لها وليس معارضاً لها، فالحديث يقول (هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع) ونحن قد قلنا عن الأحاديث المارَّة إِنها تدل على مشروعية استمرار الطعام والشرب إلى أن يحِلَّ بياضُ النهار، وأن ذلك هو الوارد في الحديث في البند 3 (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار) فهذا الحديث هذا منسجم تماماً مع الحديث ذاك، ولا يخالف أحدُهما الآخر. الفصل الثالث: الصيام في السَّفر الفصل الثالث الصيامُ في السَّفر حكمُ الصيام في السَّفر:

ذهب معظم الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومعهم الأئمة الأربعة، إلى جواز الصوم وجواز الفطر في السفر، ولكنهم اختلفوا في تحديد الأفضل منهما: فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري وأبو ثور إلى أن الصوم في السفر أفضل من الفطر لمن قوي عليه ولم تلحقه مشقةٌ منه، ورُوي ذلك عن أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص وحذيفة بن اليمان من الصحابة رضوان الله عليهم، كما رُوي عن عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وعبد الله بن المبارك وإبراهيم النخعي. فيما ذهب الإمام أحمد وإسحق ابن راهُويه والأوزاعي إلى أن الفطر في السفر أفضل من الصوم عملاً بالرخصة، ورُوي ذلك عن ابن عباس وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهما، كما رُوي عن سعيد بن المسيِّب وعامر الشعبي وابن الماجشون. وذهب عمر بن عبد العزيز وابن المنذر إلى أن أفضلَهما أيسرُهما، لقوله تعالى { ... يريد اللهُ بكم اليُسْرَ ... } ورُوي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة من الصحابة رضوان الله عليهم، وعن ابن شهاب الزُّهري من التابعين، عدم جواز الصوم في السفر، وأن من صام رمضان في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر. وحتى نتبين وجه الحق والصواب في هذه المسألة دعونا نستعرض النصوص المتعلقة بها: 1- عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم {أن حمزة بن عمرو الأَسْلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصومُ في السفر؟ - وكان كثيَر الصيام – فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأَفْطِر} رواه البخاري (1943) والنَّسائي وأحمد والدارمي. 2- عن أبي مُراوِح عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال {يا رسول الله أَجدُ بي قوةً على الصيام في السفر، فهل عليَّ جُناحٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جُناح عليه} رواه مسلم (2629) والنَّسائي وابن حِبَّان.

3- عن حمزة الأَسلمي رضي الله عنه قال {قلت يا رسول الله: إني صاحب ظَهْرٍ أُعالِجُه: أُسافر عليه وأُكْرِمُه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر – يعني رمضان – وأنا أجد القوةَ وأنا شاب، وأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أُؤخِّره فيكون دَيْناً أَفأَصومُ يا رسول الله أعظمُ لأجري أو أُفطر؟ قال: أيَّ ذلك شئتَ يا حمزة} رواه أبو داود (2403) والحاكم. 4- عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال {يا رسول الله، إني رجلٌ أَسْرُدُ الصومَ، أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت، وأفطر إن شئت} رواه مسلم (2626) والنَّسائي وأحمد. 5- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لِسِتَّ عَشْرةَ مضت من رمضان، فمنَّا مَن صام ومنَّا مَن أفطر، فلم يَعِب الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم} رواه مسلم (2615) والنَّسائي والترمذي وأحمد وابن حِبَّان. 6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَعِب الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم} رواه البخاري (1947) ومسلم وأبو داود ومالك والبيهقي. 7- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال {خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابنِ رَوَاحة} رواه الإمام البخاري (1945) ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد.

8 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصومُ في السفر} رواه البخاري (1946) ومسلم وأبو داود والدارمي وأحمد. ورواه النَّسائي (2260) بلفظ {عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عزَّ وجلَّ فاقبلوها} ورواه الطبراني في المعجم الكبير. ورُوي القول {ليس من البر الصيامُ في السفر} من طريق ابن عمر رضي الله عنه عند ابن ماجة (1665) وابن حِبَّان والطبراني والطحاوي بسند صحيح. ومن طريق كعب بن عاصم الأشعري عند ابن ماجة (1664) والطبراني والنَّسائي وأحمد والدارمي والطحاوي. ورواه أحمد (24079) والطبراني في المعجم الكبير من طريق كعبٍ بلفظ {ليس من امْبِرِّ امصِيامُ في امْسَفَرِ} بلغة أهل اليمن، لأن كعباً الأشعري هو يمني وأهل اليمن يقولون (أم) للتعريف بدل (أل) ومن طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند البزَّار (985) والطبراني في المعجم الكبير. قال الهيثمي [رجال البزَّار رجال الصحيح] . 9 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال {لا تَعِب على من صام ولا على من أفطر قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر} رواه مسلم (2609) وأحمد وابن خُزيمة. وروى أبو داود الطيالسي (2677) عنه قوله {إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر ويفطر} . 10- عن أبي طُعْمةَ قال {كنت عند ابن عمر إذ جاءه رجلٌ فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أقوى على الصيام في السفر، فقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لم يقبل رخصة الله عزَّ وجلَّ كان عليه من الإِثم مثلُ جبالِ عرفة} . رواه أحمد (5392) والطبراني في المعجم الكبير، بسند حسَّنه الهيثمي.

11- عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال {كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يَجِدُ الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم، يرون أن من وجد قوةً فصام فإن ذلك حسنٌ، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر، فإن ذلك حسنٌ} رواه مسلم (2618) والترمذي والنَّسائي وأحمد وابن حبَّان وابن خُزيمة. قوله لا يجد: أي لا يغضب. 12- عن قَزَعَة عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال {سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صِيام قال: فنزلنا منزلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطرُ أقوى لكم، فكانت رخصةً، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: إنكم مُصَبِّحو عدوِّكم والفطرُ أقوى لكم فأَفطروا، وكانت عَزْمةً، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتُنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر} رواه مسلم (2624) وأبو داود وأحمد والبيهقي والطحاوي. 13- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنَّا الصائم ومنَّا المُفْطر، قال: فنزلنا منزلاً في يومٍ حارٍّ، أكثرُنا ظِلاً صاحبُ الكساء ومنَّا مَن يتَّقي الشمس بيده، قال: فَسقط الصُّوَّامُ وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسَقَوْا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر} رواه مسلم (2622) والنَّسائي وابن خُزيمة وابن حِبَّان. 14- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يحب أن تُؤْتَى رُخَصُهُ كما يحب أن تُؤْتَى عزائمُهُ} رواه ابن حِبَّان (3568) والبزَّار والطبراني. ورواه ابن حِبَّان أيضاً (2742) وأحمد بلفظ {إن الله يحبُّ أن تُؤتى رُخَصُهُ كما يكره أن تُؤتى معصيتُه} .

15- عن أبي أمية الضَّمْري رضي الله عنه قال {قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفرٍ فسلَّمت عليه، فلما ذهبتُ لأَخرج قال: انتظر الغِداء يا أبا أمية قلت: إني صائم يا نبي الله، قال: تعال أُخْبِرْك عن المسافر: إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة} رواه النَّسائي (2269) والبخاري في كتاب التاريخ والدارمي والطحاوي. ومن طريق أنس بن مالك – الكعبي – رضي الله تعالى عنه عند أبي داود (2408) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد والترمذي بلفظ {إن الله تعالى وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة، والصوم عن المسافر، وعن المرضع أو الحبلى، واللهِ لقد قالهما جميعاً، أو أحدَهما ... } وحسنه الترمذي. واللفظ عند النَّسائي (2274) {إن الله وضع عن المسافر نصف الصلاة والصوم وعن الحبلى والمرضع} فأقول ومن الله التوفيق ما يلي:

…إن الناظر في هذه النصوص يتبين أن الصيام في السفر يعادل الإفطار فيه، دون أن يكون لأحدهما أية أفضلية على الآخر، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعادلة في كثير من النصوص، رغم اختلاف الأسئلة الموجهة إليه، واختلاف الأحوال لدى السائلين، بمعنى أن المعادلة بين الصوم والفطر بقيت على حالها، رغم اختلاف الأحوال والظروف، مما يؤكِّد التساوي التام بينهما. فالحديث الأول يقول (إن شئت فصم وإن شئت فأَفطر) والحديث الثاني يقول (هي رخصةٌ من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومن أحبَّ أن يصوم فلا جُناح عليه) والحديث الثالث يقول (أيَّ ذلك شئتَ يا حمزة) والحديث العاشر يقول (مَن لم يقبل رُخصةَ الله عزَّ وجلَّ كان عليه من الإثم مثلُ جبال عرفة) والحديث الحادي عشر يقول (يرون أن من وجد قوةً فصام، فإِن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأَفطر، فإِن ذلك حسن) فحمزة الأسلمي رضي الله عنه وجَّه أسئلته بكيفيات عدة: في الحديث الأول جاء سؤاله عاماً فجاءه الجواب بالمعادلة التامة، وفي الحديث الثاني جاء قوله (أَجِد بي قوةً على الصيام في السفر فهل عليَّ جُناح؟) وكأنه أراد رضي الله عنه أن يُفضَّل الصيامُ على الفطر ومع ذلك جاءه الجواب بالمعادلة التامة،وفي الحديث الثالث جاء قوله (وأنا أجد القوة وأنا شاب، وأجد بأن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أُؤَخِّرَه فيكون دَيْناً) فزاد في بيان حاجته إلى تفضيل الصيام، ومع ذلك كله بقي الجواب هو هو بالمعادلة التامة بين الصوم والفطر، وفي الحديث الرابع أتى حمزة بحجة جديدة راغباً بتفضيل الصوم على الفطر فقال (إني رجل أَسرُدُ الصوم) فلم يتلق من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا قوله (صُم إن شئت وأَفطر إن شئت) ولا يدلُّ كل ذلك إلا على أن الصوم في السفر مماثل في الأجر والفضل للفطر لا يزيد أحدهما على الآخر درجةً واحدة، وانظر في سائر النصوص تجد المعادلة

بين الاثنين قائمة. …وبذلك يتبين بشكل جليٍّ وواضح جوازُ الصوم والفطر على السواء، دون أن يكون لأيٍّ منهما أي فضل على الآخر. ومما سبق يتبين خطأ من ذهبوا إلى تفضيل الصوم على الفطر، وخطأ من ذهبوا إلى تفضيل الفطر على الصوم في السفر، ويتبين بشكل أوضح خطأ من ذهبوا إلى عدم جواز الصوم في السفر وأن من صام وجب عليه القضاء. وإني أرى أن الرأي الصحيح هو الرأي المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز وابن المنذر القائل بأن أيسر الاثنين أفضلُهما، دون تعيين أحدهما على أنه الأفضل، وذلك أولاً: لدلالة الآية { ... يريد الله بكم اليسرَ ... } وثانياً: لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما خُيٍّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فقد روى البخاري (3560) ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت {ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرَهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ... } وهنا قد حصل التخيير بين أمرين دونما إثم، فكان أخذُ الأيسر هو الأخذَ بالهَدْي النبوي الكريم. …وهنا يثور سؤال لا بد منه هو: كيف نفسِّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصيام في السفر) ؟ ألا يدل هذا القول على أفضلية الفطر؟ والجواب عليه من وجوه: أولاً: إن الأمر بالفعل لا يعني بالضرورة النهيَ عن ضده، كما أن النهي عن الفعل لا يعني بالضرورة الأمر بضده، وهنا نقول إن نفي البر عن الصيام في السفر لا يعني أن البر إنما يكون في الفطر.

ثانياً: حتى نستطيع أن نجيب على السؤال، لا بد من معرفة معنى البر لغةً وشرعاً: فقد اختلف أهل اللغة كما اختلف الفقهاء في تحديد معنى البرِّ على أقوالٍ: فقال الشافعي: يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه أَثِمَ، وإن نفي البر هنا محمولٌ على من أبى قبول الرخصة. وقد روى الحديثَ النَّسائي (2260) بلفظ {عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عزَّ وجلَّ فاقبلوها} وقال الطحاوي: البِرُّ هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون بِراً. وقال بعضهم هو كل ما تُقُرِّبَ به إلى الله عزَّ وجلَّ. وفُسِّر البر بالصدق، ومنه البِرُّ في اليمين أي تصديقه وعدم الحنث فيه، كما فُسِّر بالطاعة، ومنه بِرُّ الوالدين أي طاعتهما، وفُسِّر بالصلاح، وبالخير. فهو إذن كلمة جامعة لعدة معانٍ يشملها كلَّها الخير. فالبر خير، والخير حتى يكون شرعياً لا بد من أن يطلبه الشرع ويأمر به، إِما أمراً جازماً فيكون فرضاً، وإِما أمراً غير جازم فيكون مندوباً، ولا يخرج البر أو الخير عن هاتين الحالتين، فلا يكون البر أو الخير في المباحات التي يستوي فيها القيام بالفعل وتركه والتي لا ثواب فيها ولا إثم، ولا يكون البر إلا في الفروض والمندوبات لا غير. هكذا يجب أن يُفهم البر في الحديث هذا، وأن معناه هو أن الصوم في السفر غير مفروض عليكم وغير مندوب، وهذا هو المعنى الذي تكرَّر في الأحاديث التي استعرضناها قبل قليل (صُم إن شئت وأَفطر إن شئت) أي هو من المباحات التي يستوي فيها القيام بالفعل وتركه.

وإذن فإن الصوم في السفر غير مفروض وغير مندوب وإنما هو مباح، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وهذا المعنى قد تضافرت عليه الأحاديث، ومنه القول (ليس من البر الصيام في السفر) فإن معناه: ليس من المفروض، ولا من المندوب الصيام في السفر وهو المعنى نفسه الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام في البند 15 (تعال أُخْبِرْكَ عن المسافر: إن الله تعالى وضع عنه الصيام ... ) أي وضع الأمر به، وتركه يدخل في خانة المباحات. وهكذا نكون قد جمعنا بين الأحاديث كلها والجمع بين الأحاديث أولى من إِهمال أحدها أو بعضها كما هو مقرَّر في علم الأصول. …وثمة سؤالٌ هو: كيف نفسر الحديث رقم 8 (عليكم برخصة الله عزَّ وجلَّ، فاقبلوها) والحديث رقم 10 (من لم يقبل رخصة الله عزَّ وجلَّ كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة) ؟ ألا يدل كلاهما على الأمر بالإِفطار وأنه أفضل من الصيام؟

والجواب عليه هو أن ذلك أمرٌ بقبول الرخصة، وليس أمراً بالإفطار، وشتَّان بين الأمرين، والمقصود بقبول الرخصة هنا هو ترك الالتزام بالصيام في السفر سواء منه ما كان فرضاً أو ما كان تطوُّعاً، وقد جاءت الرخصة لتلغي الالتزام هذا وتدع الصيام في دائرة المباحات، وإن الحديث في البند 8 واضح الدلالة على ما أقول، فهو يقول (ليس من البر الصيام في السفر، عليكم برخصة الله عزَّ وجلَّ فاقبلوها) ومعناه أن الصيام في السفر ليس فرضاً ولا مندوباً بعد أن لم يكن كذلك، بسبب رخصة الله عزَّ وجلَّ، فوجب القولُ بذلك والعملُ به، وتركُ الالتزام الواجب أو المندوب كما كان قبل الرخصة. والحديث في البند 10 يدل على المعنى نفسه، فهو تحذيرٌ شديد لمن بقي مُصِرَّاً على القول بوجوب الصيام في السفر أو على مندوبيته ولم يأخذ برخصة الله التي نسخت الوجوب والندب. فهذان الحديثان (8، 10) يعضدان ويتَّسِقان مع الأحاديث المارة، التي خيَّرت المسلم بين الصيام والإفطار في السفر، وهو ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، كما أفاد ذلك الحديث رقم 5 (فلم يَعِب الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم) والحديث رقم 6 (فلم يَعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) والحديث رقم 9 (لا تَعِبْ على من صام، ولا على من أفطر) والحديث رقم 11 (فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجدُ الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم) أما الحديث رقم 14 (إن الله يحبُّ أن تُؤْتى رُخَصُهُ كما يحب أن تُؤْتى عزائمُهُ) فهو يدل على ما تدل عليه الأحاديث السابقة كلها من وجود المعادلة، أو التعادل بين الصيام والإفطار (يحب أن تُؤتَى رُخَصُه كما يحب أن تُؤْتَى عزائمُه) الرخصة تُحَبُّ كحبِّ العزيمة سواء بسواء، لا ميزة لإحداهما على الأخرى فهو عاضد ومساندٌ للأحاديث المارَّة كلها، القائلة بالمعادلة والتعادل والتساوي بين الصوم والفطر في

السفر. وفي الحديث هذا نكتة لا أراها تخفى على الكثيرين، هي أن الله سبحانه عندما يخيِّر بين أمرين ويُدخلهما في دائرة المباحات فإنَّ ذلك لا يعني أن يختار الرجل أحدَهما بشكل دائم ويترك الأخر بشكلٍ دائم، وإن كان ذلك منه جائزاً، وإنما يحبُّ الله عزَّ وجلَّ من الرجل أن يتنقل بين الأمرين، فيأخذ بهذا مرة وبذاك مرة أخرى، وعبَّر عنه الحديث بلفظة (يحب) دون أن يصل هذا الحب إلى درجة الفرض والإلزام، بمعنى أن المسلم وقد وُضع عنه فرضُ الصيام في السفر ونفله، لا يعني أن يدع الصيام بالكلية فيه، ويتمسك بالفطر ملتزماً به، وإنما يعني التخيير الذي يحبه الله تعالى وهو: أن يعمد إلى هذا مرة أو مرات، ويعمد إلى ذاك مرة أو مرات، فلا التزام ولا إلزام، ويبقى الأمر على التخيير حكماً وعملاً، وهذا ما يفسر ما جاء في الحديث رقم 7 (وما فينا صائمٌ إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة) وما جاء في الحديث رقم 9 (قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر) فهو عليه الصلاة والسلام الذي نقل إلينا حبَّ الله عزَّ وجلَّ للتخيير المشار إليه قد سار بموجبه، فكان يصوم ويفطر دون التزام منه أو إلزام بأحدهما دون الآخر. ونقف وقفة مع الحديثين 12، 13 فنقول: الحديث رقم 12:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً وهو مسافر من المدينة إلى مكة، وكان صحابته صياماً مثله، فعندما اقتربوا من العدو ذكَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برخصة الله عزَّ وجلَّ التي تساوي بين الصوم والفطر، فذكر لهم ما يقابل الصوم وهو الفطر، وبيَّن لهم أن الفطر أقوى لهم، وأنَّ حالَهم حالُ استعدادٍ للقتال، وما يحتاجه القتال منهم إلى إعداد القوة ومنها القوة البدنية، دون أن يأمرهم بالفطر، وإنما اكتفى بالتذكير فحسب، وهذا هو الحكم الشرعي في مثل هذه المواقف والأحوال، وهو أن الصائم إن وجد ضعفاً مال إلى الفطر، وإن وجد قوة فله أن يصوم، وبدون ذلك لا يكون قد أخذ بالرخصة التي تعني التعادل بين الأمرين، ولكنه عليه الصلاة والسلام قُبيلَ مناجزةِ العدو، وما تحتاجه المناجزة من قوة الأبدان أمرهم بإعداد هذه القوة، بأن أمرهم بالفطر، وهنا أصبح الفطر في حقهم واجباً، وخرج الأمر كله عن موضوع المعادلة أو التعادل، لأن إعداد القوة للقتال واجب، فالفطر عندئذٍ واجب، وبالفعل فقد أفطر الجميع التزاماً بالحكم الشرعي في هذه الحالة، وهذه الحالة لا تكسِر حكم المعادلة أو التعادل بين الصوم والفطر في السفر، وإنما هي موضوع آخر متعلقٌ بالقتال، وما ينبغي للمجاهد أن يفعله عندئذٍ، فليست في هذا الحديث أية دلالة على تفضيل الفطر في السفر على الصيام. الحديث رقم 13:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافراً ومعه الصحابة رضوان الله عليهم منهم الصائم ومنهم المفطر، وهذا أمرٌ طبيعي وأخذٌ بالرخصة التي تساوي بين الصوم والفطر، ثم إن الحر اشتد عليهم حتى سقط الصُوَّام من الشدة والضعف، وهنا كان ينبغي عليهم أن يفطروا، لأن التمسك بالصيام في هذه الحالة يعني عدم الأخذ بالمعادلة والتخيير وإنما الأخذ بتفضيل الصيام على الإفطار وهو غير صحيح، فجاء الأمر النبوي الكريم يتدخل في هذه الحالة مبيِّناً ومذكِّراً بحكم التعادل والتخيير، ومقتضاه أن من صام فوصل إلى درجة المشقَّة البالغة والضعف الشديد فاستمرَّ صائماً فإنه لا يكون قد أخذ بالرخصة التي يحبها الله عزَّ وجلَّ، فقال قولته البالغة الوضوح (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) أي أن الفطر عندئذٍ هو المتعيِّن، وأن من أفطر نال الأجر لأخذه برخصه الله عزَّ وجلَّ، فإذا رأينا المفطرين هم الذين ضربوا الأبنية وهم الذين سَقَوْا الركاب – وهذا وذاك من القربات والطاعات لله عزَّ وجلَّ – عرفنا دلالة قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن المفطرين قد ذهبوا بالأجر أي الأجر كله، أجر الأخذ بالرخصة عند الشدة، وأجر ضرب الأبنية وسقي الركاب. وهكذا يتجلى بوضوحٍ تامٍّ تعاضدُ الأحاديث الواردة كلِّها، واتَّساقُها وتضافرُها بالقول إن الصيام في السفر كالفطر، لا يفضُلُ أحدُهما الآخرَ. أدلة من قالوا بوجوب الإفطار في السفر: والآن لنستعرض ما رآه القائلون من وجوب الفطر، وعدمِ جوازِ الصومِ في السفر من أدلةٍ وشبهات: 1- قال تعالى { ... فمنْ كان منكم مريضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَر ... } . من الآية 184 من سورة البقرة.

2- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الفتح، فصام وصام الناس، حتى بلغ الكَدِيد، ثم أفطر، فأفطر الناس، فكانوا يأخذون بالأَحدث فالأَحدث من فعلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم} رواه الدارمي (1709) ومسلم وابن خُزيمة وابن أبي شيبة. والكَدِيْد وتقرأ كُدَيْد: هي عين ماء على بعد أربعة بُرُدٍ، أو 48 ميلاً من مكة، وهي ما بين مكة وقُدَيْد. 3- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كُراعَ الغَمِيمِ، فصام الناس، ثم دعا بقَدَحٍ من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناسِ قد صام، فقال: أولئك العُصاةُ، أولئك العُصاةُ} رواه مسلم (2610) والترمذي وابن حِبَّان. ورواه النَّسائي (2263) وأحمد والبزَّار بلفظ { ... فصام الناس، فبلغه أن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون ... } وفي رواية ثانية عند مسلم (2611) بلفظ { ... فقيل له: إن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلتَ، فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر} . 4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زِحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصومُ في السفر} رواه البخاري (1946) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والدارمي وأحمد. 5- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر} رواه ابن ماجة (1666) . ورواه النَّسائي (2284) موقوفاً.

6- عن أنس بن مالك – الكَعْبي – قال {أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إِبِلٍ كانت لي أُخِذتْ، فوافقتُه وهو يأكل، فدعاني إلى طعامه، فقلت: إني صائم فقال: أُدن أُخْبِرْكَ عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر الصومَ وشطرَ الصلاة} رواه النَّسائي (2276) وأبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي وحسَّنه. وانظر رقم 15 المار قبل قليل. عن الآية الكريمة قالوا: معنى عِدَّة: الواجب عليه عدَّة. والآية تدل على أن المسافر يفطر ويعتد من أيام أُخر، ولم يأت فيها ذكرٌ للصيام. فأقول: إن التقدير هو (فأفطر فعدَّة) وقد خرجت الآية الكريمة مخرج الأعمِّ الأغلب، ولم تأت لنفي الصيام والاقتصار على الإفطار، فلا دلالة فيها على ما ذهبوا إليه. وأما الحديث رقم 2 فإنه قسمان: القسم الأول من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الفتح، فصام وصام الناس حتى بلغ الكَديد ثم أفطر فأفطر الناس) فهذا النص لا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه، وهو متفقٌ مع ما أوردنا من أدلة كثيرة سابقة، وخاصة ما ورد في البند 9 المار قبل قليل.

…وأما القسم الثاني (فكانوا يأخذون بالأَحدث فالأَحدث من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإنه قولٌ مُدْرَجٌ من قول ابن شهاب الزُّهري كما جزم البخاري في الجهاد (قوله وكان ذلك آخر الأمرين) وكذلك وقعت هذه الزيادة عند مسلمٍ مُدْرَجةً. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة، كما جاء في الحديث رقم 12 المار قبل قليل (ثم رأيتُنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر) فهذه الزيادة هي من قول الزُّهري أولاً، وقول الزُّهري ليس دليلاً، وجاء عند ابن خُزيمة (2035) عقب روايته للحديث (قال سفيان: لا أدري هذا من قول ابن عباس، أو من قول عُبيد الله، أو من قول الزُّهري) فهو على الشك، إضافةً إلى أن هذه الزيادة معارَضةٌ بالحديث رقم 12 من طريق أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه عند مسلم وغيره، فلا يُلتفت إليها. …وأما الحديث الثالث (أولئك العصاة، أولئك العصاة) فإنه جاء في حالة مشقَّة الصيام عليهم وعند المشقة تؤخذ الرخصة، فلما رفضوا الأخذ بالرخصة وامتنعوا عن التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما دعا بقدح من ماء أَمامَهم ثم شرب، فإنهم يكونون بذلك قد عصَوْا بالتمسك بالصيام في هذه الحالة وانطبق عليهم الحديث رقم 10 (من لم يقبل رخصة الله عزَّ وجلَّ كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة) . …وأما الحديث الرابع (ليس من البر الصومُ في السفر) فقد بيَّنَّا قبل قليل دلالته ومعناه، فلا نعيد. …وأما الحديث الخامس (صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر) سواء منه ما كان مرفوعاً أو موقوفاً، فهو حديث منقطع، فأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً، قاله يحيى بن معين والبخاري. وسند ابن ماجة إضافةً إلى الانقطاع فيه راوٍ اسمه أسامة بن زيد، متَّفَقٌ على تضعيفه. وقال أبو إسحق: هذا الحديث ليس بشيء. فالحديث ضعيف جداً فيترك.

قدر مسيرة ما يفطر فيه

…وأما الحديث السادس (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطَر الصلاة) فقد بيّنَّا قبل قليل دلالته ومعناه، فلا نعيد. وبذلك يتضح أن هذه التي سمَّوها أدلة هي في حقيقتها شبهات لا تدل على ما ذهبوا إليه. وأما ما ذهب إليه الكثيرون من تفضيل الصيام على الإفطار، وما ذهب إليه الآخَرون من تفضيل الإفطار على الصيام، فإن كل فريق منهما قد أخذ من الأحاديث المارة ما يراه دالاً على رأيه، دون أن يُجهد نفسه بالنظر في الأحاديث كلِّها، فمثلاً: قال قائلون إن الفطر أفضل عملاً بالرخصة الواردة في الأحاديث، وبالقول ليس من البر الصوم في السفر. وقال آخرون إن الصيام أفضل، أخذاً بآخر الحديث رقم 7 المار قبل قليل (وما فينا صائم، إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رَوَاحة) . وبالحديث رقم 12 المار قبل قليل أيضاً (ثم رأيتُنا نصوم مع سول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلك في السفر) وبالحديث الذي كنا بصدده قبل قليل (فكانوا يأخذون بالأَحدث فالأَحدث من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولا يصح الاجتهاد، بل ولا يجوز، دون أن ينظر المجتهد في جميع النصوص الواردة ويضعها كلها على صعيد البحث، لا أن يأخذ منها القسم الذي يراه دالاً على رأيه ويدع القسم الآخر. قدرُ مسيرةِ ما يفطر فيه: ذهب أصحاب الرأي ومالك والشافعي والأوزاعي ويحيى الأنصاري وإبراهيم النخعي والزُّهري ومكحول إلى أن المقيم إذا نوى الصيام ثم سافر فلا يجوز له أن يفطر بل يستمر صائماً، أما المسافر فإنه، وإن نوى الصيام من الليل ثم أراد أن يفطر، فإن له ذلك، وأجاز ذلك أحمد وإسحق بن راهُويه والحسن البصري والمُزَني وداود بن علي وعامر الشعبي وابن المنذر والشوكاني وعطاء.

وقال أحمد وإسحاق وعطاء والحسن: يجوز له أن يفطر وهو في بيته في بلده قبل أن يخرج منه، ونُقل ذلك عن أنس رضي الله عنه. وذهب ابن حزم والظاهرية إلى جواز الفطر لمن سافر ميلاً واحداً. ورُوي عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما جوازُ الإِفطار في أكثر من أربعة بُرُد، أي في أكثر من ثمانية وأربعين ميلاً. ونحن ننظر الآن في النصوص التي تعالج هذه المسألة: 1- عن كُلَيب بن ذُهلٍ الحضرمي، عن عُبيد بن جُبير قال {ركبتُ مع أبي بَصْرةَ الغِفاري سفينةً من الفُسطاط في رمضان، فدفع، فقرَّب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟ فقال أبو بَصْرة: أرغبتَ عن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟} رواه الدارمي (1714) وأبو داود وأحمد والبيهقي. ورواه ابن خُزيمة (2040) وقال [لست أعرف كُلَيب بن ذُهلٍ ولا عُبيد بن جُبير، ولا أقبل دِين من لا أعرفه بعدالة] . 2- عن محمد بن كعب قال {أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رُحِّلتْ له راحلتُه ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سُنَّة؟ فقال: سُنَّة، ثم ركب} رواه الترمذي (796) وقال [هذا حديث حسن] وفي إسناده عبد الله بن جعفر ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم وقال: منكر الحديث جداً. كما ضعَّفه ابنه علي بن المَديني. وضعَّفه الجوزجاني وقال: إِنه واهي الحديث. وقال النَّسائي: متروك الحديث. فالحديث ضعيف جداً رغم تحسين الترمذي له.

3- عن منصور الكلبي قال {إن دِحْية بنَ خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عُقْبة من الفسطاط وذلك ثلاثة أميال من رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيتُ اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه، إن قوماً رغبوا عن هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك} رواه أبو داود (2413) وأحمد وابن خُزيمة والبيهقي والطحاوي. ومنصور الكلبي مجهول قاله علي بن المَديني والخطابي وابن خُزيمة، فالحديث ضعيف الإسناد. 4- عن اللجلاج قال {كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال، فيتجوَّز في الصلاة ويفطر} رواه ابن أبي شيبة (2/436) . وفيه الجريري واسمه سعيد بن إياس اختلط قبل أن يموت بثلاث سنين، ولذا تركه المحدِّثون عندئذٍ. 5- عن نافع {أن ابن عمر كان يخرج إلى الغابة فلا يفطر ولا يَقْصُر} رواه أبو داود (2414) والبيهقي. وسكت عنه المنذري. والغابة موضع يبعد عن المدينة من ناحية الشام بريداً واحداً. والبريد أربعة فراسخ، أي حوالي 12 ميلاً. الآثار الأربعة الأولى كلُّها ضعيفة فتترك، وقد حاول بعضهم تصحيح هذه الآثار مدَّعياً أن الواحد منها يشهد له الآخر فيتقوى به، وهذا التصحيح غير صحيح، ذلك أن الضعيف لا يقوِّيه ضعيف آخر وإنما يزيده ضعفاً فلا يُلتفت إلى هذه القاعدة. ويبقى عندنا أثر ابن عمر أنه كان يخرج إلى الغابة وهي تبعد عن المدينة اثني عشر ميلاً فلا يفطر ولا يقصر، فأقول: أولاً: هذا الفعل من ابن عمر رضي الله عنه ليس دليلاً شرعياً وإنما هو حكم شرعي في حقِّ من قلَّد ابن عمر فيه، ونحن هنا لسنا بصدد تقليد أحد.

وثانياً: إن عدم إفطار ابن عمر لا يعني أنه كان يحرِّم الإفطار ولا يجيزه وذلك أن المسافر يُرخَّص له في الإفطار، ويجوز له الصيام كما بيّنَّا قبل قليل، فأَخْذُ الشخصِ بالإفطار أو أخذُه بالصيام كلاهما جائز، ولا يدل الواحد منهما على منع الآخر. …وبذلك يظهر أنه ليس لدينا نصٌّ صحيحٌ ولا حسنٌ في تحديد المسافة التي لا بد من قطعها حتى يصح الإفطار. ولا يبقى عندنا بعد ذلك سوى قوله سبحانه وتعالى في الآية 184 من سورة البقرة { ... فمنْ كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ ... } وهذا السفر مطلق لم يُقيَّد بمسافة قصيرة ولا طويلة، فما يطلق عليه اسم السفر فهو عُذر يجيز للصائم أن يفطر. …أما ما ورد من أحاديث من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر عام الفتح عندما سافر من المدينة إلى مكة ووصل إلى الكَدِيد – والكِدَيد عينُ ماء تبعد عن مكة ثمانية وأربعين ميلاً - أو عندما وصل إلى كُراع الغَمِيم – وهو وادٍ أمام عُسفان يبعد عنها ثمانية أميال فيكون بعيداً عن مكة أكثر من خمسين ميلاً – كما ورد في البند الثاني وفي البند الثالث من البحث [أدلة من قالوا بوجوب الإفطار في السفر] فلا دلالة فيها على مسألتنا مطلقاً، وذلك: أولاً: إن هذه المسافات قد وقعت اتفاقاً أي هي وقائع أعيان، ووقائع الأعيان لا يُحتجُّ بها على العموم كما هو مقرر في علم الأصول. وثانياً: إن هذه المسافات جاءت تبين بُعدَ مكان الإفطار عن مكة لا بعده عن المدينة التي خرجوا منها، أي أنها لم تأت لبيان المسافات التي قطعها الرسول صلى الله عليه وسلم في سفره حتى يقال إنها ذات دلالة على الموضوع. …ومن ذلك يتبين أن من قال بجواز الفطر للصائم إن هو قطع مسافة كذا، أو مسافة كذا، قد أخطأ فيما ذهب إليه، لأن ذلك لم يَرِدْ في الشرع لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية.

…نخلص مما سبق إلى القول التالي: إن المسافر يحق له أن يفطر إذا سافر يومه ذاك ولا حائل يحول دون إفطاره، وإن الشرع لم يحدِّد مسافة معينة كعذرٍ لإفطار الصائم، وإنما أطلق القول بأن السفر عذر للإفطار، فيظل المطلق مطلقاً لا يصح تقييده لا بفعل صحابي ولا تابعي ولا فقيه، ولا بأقوالهم، فكل ما يطلق عليه اسم السفر فهو عُذر يبيح الإفطار، وما لم يكن سفرٌ فلا إفطار. وعليه فإن من ذهبوا إلى جواز الإِفطار قبل الخروج من البيوت قد أخطأوا أيضاً بما ذهبوا إليه، لأن نيةَ السفر غيرُ السفر، والسفرُ هو العذر وليست نيتُه. كما أن من حدَّدوا لبدء الإِفطار مسافة معينة كأن تكون ميلاً أو أربعة بُرُدٍ قد أخطأوا أيضاً في تحديدهم هذا لأنه لا دليل لهم من النصوص الصحيحة أو الحسنة، ويبقى لنا أن نقول إن السفر عذر، وإن من سافر جاز له الإفطار. بقي أن نعرف متى يكون الخروج سفراً ومتى لا يكون؟ فأقول ما يلي: إن الخروج حتى يكون سفراً يُباح معه الفطرُ، هو أن يغادر الشخص بلده والأراضي التابعة له، ويدخل في أراضي بلد آخر، مهما كان طول أراضي بلده أو قصرها، فالشخص في بلده غير مسافر، والفلاح في أرضه التابعة لبلده غير مسافر ولو كانت أرضه تبعد عن بلده عدة أميال، ولا يكون مسافراً إلا إذا غادر بلده وأراضي بلده، وعندها فقط يجوز له أن يفطر، سواء كان بالأكل أو بالشرب أو بالجماع. …أما أصحاب الرأي ومالك والشافعي وغيرهم القائلون إِنَّ المقيم إذا نوى الصيام ثم سافر فلا يجوز له أن يفطر، بل يستمر صائماً، محتجين بأن الصوم عبادة تختلف بالحضر والسفر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة، وقول الشافعي: من أصبح في حضرٍ مسافراً فليس له أن يفطر إلا أن يثبت حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفطر يوم الكِدَيد. فالرد على هؤلاء كما يلي:

الفصل الرابع: قضاء الصوم

أولاً: إنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفطر يوم الكَدِيد، قد ثبت، فقد رواه الدارمي ومسلم وغيرهما وقد مرَّ في بحث [أدلة من قالوا بوجوب الإفطار في السفر] في البند 2. كما روى مسلم وغيره أنه عليه الصلاة والسلام قد أفطر في كُراع الغَميم كما مرَّ في البند 3 من البحث نفسه. وروى مسلم (2608) عن ابن عباس رضي الله عنه قال {سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام حتى بلغ عُسْفانَ، ثم دعا بإناءٍ فيه شراب فشربه نهاراً ليراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة ... } فهذه ثلاثة أحاديث ثابتة وليست حديثاً واحداً فقط، فوجب على أتباع الشافعي الرجوعُ عن قولهم. ثانياً: وأما أنَّ الصوم عبادة تختلف بالحضر والسفر، فإن اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة، فإني لأعجبُ من هذا القول وأستغربه، وهو لا يحتاج لرده إلى أكثر من أن أقول إنَّ حكمَ أيِّ أمرٍ مستمرٌ وماضٍ حتى يوجد عذرٌ مبيحٌ لترك ذلك الحكم، فيتوقف الحكم والعمل به عندئذٍ، دون نظرٍ في تقدُّم العذر، أو تأخُّره، أو مصارعتِه لحكم الأصلِ وفوزِ أحدِهما بالمصارعةِ!! والأصل في هذه القاعدة أن تكون من البديهيات. وعليه فإني أقول إن المقيم إذا نوى الصيام فقد وجب عليه الصيام، فإذا دخل عليه عذر السفر توقف عن القول بالوجوب وأخذَ بالعذر، وإلا فلا قيمة لهذا العذر، بل ولا قيمة للأعذار كلها!! وغفر الله لنا جميعاً. الفصل الرابع: قضاء الصوم الفصل الرابع قضاء الصوم أولاً: قضاءُ الصوم عن النفس: قضاءُ الصوم المفروض: ويشمل المريض، والمسافر، والمرأة الحائض، والمرأةَ النُّفَساء، والمتقيء عمداً والمفطر قبل الغروب ظاناً أن الشمس قد غربت، والمجنون، والمغمى عليه يصحوان في نهار رمضان، والحامل، والمرضع إذا خافتا على نفسيهما، أو على ولديهما فأفطرتا، والصبي، والكافر إذا دخلا في دائرة التكاليف في نهار رمضان.

قضاء الصوم على المريض وعلى المسافر

1- قضاء الصوم على المريض وعلى المسافر: يجب على كلٍّ من المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من صيامٍ مفروض، وهذا الحكم متفق عليه لم يخالفه فقيه، ودليله قوله سبحانه {يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصِّيامُ كما كُتِبَ على الذين مِنْ قَبْلِكم لعلَّكُم تتَّقون ? أَياماً معْدوداتٍ فمنْ كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أَيامٍ أُخَرَ وعلى الذين يُطيقُونه فِديةٌ طعامُ مسْكين فمنْ تطوَّعَ خيراً فهو خيرٌ له وأَنْ تصوموا خيرٌ لكم إنْ كنتم تعلمون} الآيتان 183، 184 من سورة البقرة. فقوله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أَيامٍ أُخَرَ} يدل على أن على المريض والمسافر أن يقضيا ما فاتهما من صيام في أيام أخرى. وقد أشرنا إلى وقوع الخلاف بين الفقهاء في تفسير هذا الجزء من الآية في بحث [أدلة من قالوا بوجوب الإفطار في السفر] في الفصل [الصيام في السفر] . 2 - قضاء الصوم على المرأة الحائض وعلى النُّفَساء: يجب على المرأة الحائض والمرأة النُّفَساء أن يقضيا ما فاتهما من صيام في فترتي الحيض والنفاس، وهذا الحكم أيضاً متفقٌ عليه لم يخالفه فقيه. قال ابن قدامة في المغني [أجمع أهل العلم على أن الحائض والنُّفَساء لا يحل لهما الصوم، وأنهما يفطران رمضان ويقضيان، وأنهما إذا صامتا لم يُجْزِئْهما الصوم] . والأدلة عليه ما يلي: أ- عن معاذة قالت {سألتُ عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أَحَروريةٌ أنتِ؟ قلت: لست بحَروريةٍ ولكني أسأل؟ قالت: كان يصيبنا ذلك فنُؤمَر بقضاء الصوم، ولا نُؤمَر بقضاء الصلاة} رواه مسلم (763) والبخاري وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وقد مرَّ في بحث [صوم الحائض والنفساء] في الفصل [صيام رمضان – أحكام عامة] .

قضاء الصوم على المتقيء عمدا

ب - عن عائشة رضي الله عنها قالت {كنا نحيض عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمرنا بقضاء الصوم} رواه ابن ماجة (1670) . ورواه النَّسائي (2318) بلفظ { ... كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نطهر، فيأمرنا بقضاء الصوم، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة} وقد مرَّ هو الآخر في بحث [صوم الحائض والنفساء] في الفصل [صيام رمضان – أحكام عامة] . 3 - قضاء الصوم على المتقيء عمداً: قال ابن المنذر: وقع الإِجماع على بطلان الصوم بتعمُّد القيء، لكن نقل ابن بطَّال عن ابن عباس وابن مسعود: لا يفطر مطلقاً وهي إحدى الروايتين عن أصحاب مالك. ونقل ابن المنذر أيضاً الإجماع – وهو يعني إِجماع العلماء – على ترك القضاء على من ذرعه القيء – أي تقيأ رغماً عنه - ولم يتعمَّدْه، إلا في إحدى الروايتين عن الحسن البصري. وقال: قال علي وابن عمر وزيد بن أرقم وعلقمة والزُّهري ومالك وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي: لا كفارة عليه وإنما عليه القضاء، ورُوي ذلك أيضاً عن أبي حنيفة والشافعي. فعن الشافعي قال [ومن تقيأ وهو صائم وجب عليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وبهذا أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر] ذكره البيهقي (4/219) ثم ذكر حديث ابن عمر بإسناده بلفظ (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء) وقال عطاء وأبو ثور: من تعمَّد القيء فعليه القضاء والكفارة. والصحيح هو أنَّ مَن غلبه القيءُ فقاء رغماً عنه فصيامه صحيح، وبالتالي فلا قضاء عليه، ولكن من استقاء، أي قاء بإرادته فقد أفطر، وبالتالي عليه القضاء. وما نُقل عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: أَنَّ من قاء بإرادته أو من غلبه القيء لا يفطر، فهو خطأ تدحضه النصوص الآتية، كما أن النصوص الآتية لم ترتِّب على من استقاء إلا القضاء، وبالتالي فإن ما نُقل عن عطاء وأبي ثور من إيجاب الكفَّارة مع القضاء هو خطأ. وهذه هي النصوص:

أ - عن معدان بن طلحة {أن أبا الدرداء حدَّثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فلقيتُ ثَوْبانَ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق فقلت: إِن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال: صدق، وأنا صببت له وَضوءَ هُ صلى الله عليه وسلم} رواه أبو داود (2381) وأحمد والنَّسائي والدارمي والترمذي وابن حِبَّان. قال ابن منده: إسناده صحيح متصل. وقال الترمذي وأحمد: هذا أصح شيء في هذا الباب. ب - عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال {استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر وأُتي بماءٍ فتوضأ} رواه عبد الرزاق (7548) والنَّسائي وأحمد وإسناده صحيح. ج - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من ذَرَعَهُ قيءٌ وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقضِ} رواه أبو داود (2380) والدارمي والنَّسائي وابن ماجة وأحمد والبيهقي والحاكم وصحَّحه وأقرَّه الذهبي. وقال الترمذي [حسن غريب] وضعَّفه البخاري وأحمد. قال الترمذي [ ... والعمل عند أهل العلم على حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الصائم إذا ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وإذا استقاء عمداً فلْيقضِ، وبه يقول الشافعي وسفيان الثوري وأحمد وإسحق] .

قضاء الصوم على من أفطر قبل الغروب

…الحديث الأول (قاء فأفطر) فسَّره الحديث الثاني (استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر) وليس أصح من تفسير الحديث بالحديث. فيكون معنى قاء في الحديث الأول: استقاء، أي قاء بإرادته، وكون هذين الحديثين يذكران أن من قاء بإرادته أفطر، فإنهما يعنيان بالضرورة المؤكدة أن عليه القضاء، وجاء الحديث الثالث يؤكد هذا الحكم (وإن استقاء فليقضِ) ومِن قبله حديث ابن عمر عند البيهقي المار قبل قليل (ومن استقاء فعليه القضاء) ولا يمنع تضعيف البخاري وأحمد لحديث أبي هريرة من الاستدلال به، لأن غيرهما قد صحَّحوه أو حسَّنوه أولاً، ولأن معناه ولفظه لم يعارضهما معنى ولفظُ حديث أصحَّ منه ثانياً، ولأن هذا الحديث قد عضده ودعمه حديث آخر هو حديث ابن عمر ثالثاً، ولهذا فإن الاحتجاج به صحيح وسليم لا غبار عليه. فالمتقيء عمداً يجب عليه القضاء، والقضاء فقط دون الكفَّارة، لأن النصوص قد رتبت على المتقيء عمداً القضاء، ولم يَرِدْ للكفَّارة ذِكرٌ هنا. 4 - قضاءُ الصوم على من أفطر قبل الغروب ظاناً أن الشمس قد غربت: ذهب مجاهد بن جبر والحسن البصري وإسحق بن راهُويه، وأحمد بن حنبل في رواية، وابن خُزيمة إلى عدم القضاء على من أفطر قبل الغروب، وهو يظن أن الشمس قد غربت، مُسْتدلِّين بما روى زيد بن وهب قال {أُخرِجتْ عِساسٌ من بيت حفصة، وعلى السماء سحابٌ، فظنوا أن الشمس قد غابت، فأفطروا، فلم يلبثوا أن تجلَّى السحابُ، فإذا الشمس طالعة، فقال عمر: ما تجانفنا من إثم} رواه ابن أبي شيبة (2/440-441) والبيهقي. ورواه عبد الرزاق (7395) ولفظه {… وقالوا: نقضي هذا اليوم، فقال عمر: ولِمَ؟ فوالله ما تجنَّفنا لإثم} والعِساس: جمع عُسٍّ، وهو القدح والإِناء الضخم.

…وذهب الجمهور إلى إيجاب القضاء ورجَّحه ابن حجر بقوله [إنه لو غُمَّ هلالُ رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق فكذلك هذا] وقد استدلوا على رأيهم بالأدلة التالية: أ - عن فاطمة عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت {أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يومَ غيمٍ، ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأُمروا بالقضاء؟ قال: بُدٌّ من قضاء وقال مَعْمَر: سمعت هشاماً يقول: لا أدري أَقَضَوْا أم لا؟} رواه البخاري (1959) وأبو داود وأحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة (1674) بلفظ: { ... فلا بد من ذلك} . ب - عن بِشر بن قيس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال {كنت عنده عشيَّةً في رمضان وكان يومَ غيمٍ، فظن أن الشمس قد غابت، فشرب عمر وسقاني، ثم نظروا إليها على سفح الجبل، فقال عمر: لا نبالي، والله نقضي يوماً مكانه} رواه البيهقي (4/217) ورواه الإمام الشافعي في كتاب الأم (2/96) من طريق خالد بن أسلم بلفظ {فقال عمر: الخطبُ يسير} ورواه مالك (1/256) وزاد {وقد اجتهدنا} ورواه عبد الرزاق في مصنفه (7392) وزاد {نقضي يوماً} وفي رواية ثانية له (7394) من طريق بِشْر بن قيس بلفظ {قال عمر: أتموا يومكم هذا، ثم اقضوا يوماً} .

على المجنون وعلى المغمى عليه يصحوان في نهار رمضان

…والصواب هو رأي الجمهور لأَنَّ الأثر في البند أيقول (بُدٌّ من قضاء) و (فلا بدَّ من ذلك) . فهو نص واضح الدلالة على أنهم قد أُمروا بالقضاء. أما قول معمر (سمعت هشاماً يقول: لا أدري أَقضوا أم لا؟) فلا يبطل القول الأول ولا يلغيه، لأن الأول إثبات، والثاني شك، والإثبات مقدَّم على الشك، ثم إن هشاماً روى أنهم أُمروا بالقضاء، وهذا هو الحكم وهو ما نبحث عنه، فإن جاء قوله بعد ذلك إنه لا يعلم إِنْ هم قضَوْا أو لا فإنه لا يُبطل هذا الحكم، لأن فعل الناس لحكمٍ أو عدم فعلهم له لا يقدم ولا يؤخر في ثبوته، فثبوت الحكم شيء، والتزام الناس به شيء آخر. ولمن بقي متشكِّكاً نقدِّم الأثر في البند ب وهو شرح وبيان لما غمض في البند أ، فهو يقول (لا نبالي، والله نقضي يوماً مكانه) ويقول (أتموا يومكم هذا ثم اقضوا يوماً) وهذا منطوق قطعي الدلالة. وعليه فإن الثابت من قول عمر هو القضاء، وقد قاله أمام الصحابة ولم يُعرف له مخالِف. …أما أثر زيد بن وهب عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي الذي يُفهم منه عدم القضاء، فإن البيهقي راوي الحديث يقول عقب روايته له [وكان يعقوب بن سفيان الفارسي يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة ويعدها مما خولف فيه، وزيد ثقة إلا أن الخطأ غير مأمون] فلا تصلح هذه الروايةُ لمعارضة الأثرين الثابتين المثبِتين للقضاء. 5 - قضاءُ الصوم على المجنون وعلى المغمى عليه يصحوان في نهار رمضان المجنون، ومثله المغمى عليه، إذا مضى عليه الليل فلم يَصْحُ، ولم يتسنَّ له عقدُ نيةِ الصوم فيه، ثم دخل النهار فصحا، فإن عليه أن يمسك بقية يومه ويقضي يوماً بدله وقد تمَّ بحثُ هذه المسألة في بحث [لا صوم على المجنون والمغمى عليه] في الفصل [صيام رمضان – أحكام عامة] فلا نعيد. 6 - قضاءُ الصوم على الحامل وعلى المرضع إن أفطرتا:

على الصبي وعلى الكافر إذا وقع عليهما التكليف

وقد تم بحث هذه المسألة في بحث [صوم الحامل والمرضع] في الفصل [صيام رمضان – أحكام عامة] . 7 - قضاءُ الصوم على الصبي وعلى الكافر إذا وقع عليهما التكليف في نهار رمضان: الصبي إذا بلغ في نهار رمضان، والكافر إذا أسلم في نهار رمضان، فقد دخلا في دائرة المكلَّفِين، فوجب عليهما عندئذٍ الإمساكُ بقيةَ النهار وقضاءُ يوم بدله. وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والعنبري. وليس في هذه المسألة نصٌّ خاص ولذلك نلجأ إلى النصوص العامة، وهذه النصوص العامة تفرض التكاليف الشرعية على الصبي إذا بلغ، وعلى الكافر إذا أسلم، وكون الصيام من هذه التكاليف فإن الصبي والكافر يتوجب عليهما الصيام لحظة البلوغ والإسلام. وحيث أن التكاليف بدأت في جزء من نهار رمضان، وأن الصبي والمجنون لم ينويا الصيام من الليل، والنيةُ شرط لا بد منه لقبول الصيام، فقد صار من المتوجَّبِ عليهما أن يصوما يوماً بدله. هؤلاء الأحد عشر شخصاً هم من يتوجب عليهم قضاء الصوم المفروض. ب - قضاءُ صوم التطوُّع: ذهب أبو حنيفة إلى أن الصائم تطوُّعاً يلزمه إِتمام صومه وعدم قطعه إلا لعذر، فإن قَطَع صيامَه لعذر لزمه القضاء ولا إثم عليه، وإن قطعه لغير عذر لزمه أيضاً القضاء وعليه الإثم. وقد حكى الترمذي عن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا وجوب القضاء إذا أفطر، وهو قول مالك بن أنس. ورُويت عن مالك روايةٌ أخرى: أن لا قضاء عليه إذا كان الإفطار لعذر. …وذهب سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهُويه والجمهور إلى جواز الإفطار، لا سيما إذا كان قد دُعي إلى طعام، وإلى استحباب القضاء، وقد رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن زيد رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين. وقد استدل القائلون بوجوب القضاء بما يلي:

أ - عن عائشة رضي الله عنها قالت {كنت أنا وحفصة صائمتين، فعُرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنةَ أبيها، قالت: يا رسول الله إنا كنا صائمتين اليوم، فعُرض لنا طعامٌ اشتهيناه فأكلنا منه، فقال: اقضيا يوماً آخر} رواه أحمد (26797) وأبو داود والنَّسائي والترمذي ومالك والطحاوي. ورواه ابن حِبَّان (3517) بلفظ { ... أصبحتُ أنا وحفصة صائمتين متطوِّعتين، فأُهدي لنا طعامٌ فأفطرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوما مكانه يوماً آخر} وفي رواية ثانية لأحمد (25607) بلفظ { ... فقال: أَبدلا يوماً مكانه} . ب - عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال {صنعتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابُه، فلما وُضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلَّف لكم، ثم قال له: أَفطرْ، وصُم مكانه يوماً إن شئت} رواه البيهقي (4/279) والطبراني في المعجم الأوسط والدارَقُطني وأبو داود الطيالسي بسند حسَّنه ابن حجر. ج - قال سبحانه وتعالى {يا أيها الذين آمنوا أَطيعوا اللهَ وأَطيعوا الرَّسولَ ولا تُبْطِلوا أَعمالَكم} الآية 33 من سورة محمد. أما القائلون باستحباب القضاء وعدم وجوبه فقد استدلوا بما يلي:

أ - عن أم هانئ رضي الله عنها {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شراباً، فناولها لتشرب، فقالت: إني صائمة، ولكن كرهتُ أن أَرُدَّ سُؤْرَكَ، فقال، يعني إن كان قضاءً من رمضان فاقضي يوماً مكانه، وإن كان تطوُّعاً فإن شئتِ فاقضي، وإن شئتِ فلا تقضي} رواه أحمد (27449) والدارمي والنَّسائي والترمذي والبيهقي والدارَقُطني. قال الترمذي [حديث أم هانئ في إسناده مقال] وفي رواية ثانية للترمذي (728) بلفظ { ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصائمُ المتطوِّع أمينُ نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر} . ب - حديث أبي سعيد الوارد في بند ب من أدلة القائلين بوجوب القضاء وفيه (أَفْطِر وصُمْ مكانه يوماً إن شئت) . بالنظر في هذه النصوص نجد ما يلي: إن حديث عائشة الذي رواه الإمامُ أحمد وغيره وفيه (اقضيا يوماً آخر) ضعَّفه البخاري والنَّسائي وأحمد وضعَّفه الخلاَّل وقال: توارَد الحُفَّاظُ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا. وقال الترمذي [ ... رُوي عن ابن جُرَيج قال: سألتُ الزُّهري فقلت: أَحدَّثك عروةُ عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة شيئاً، ولكن سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناسٍ عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث] فالحديث منقطعٌ فلا يصلح للاحتجاج فيترك. …وأما حديث أم هانئ الذي رواه أحمد وغيره وفيه (وإن كان تطوعاً فإن شئتِ فاقضي، وإن شئتِ فلا تقضي) فضعيفٌ هو الآخر ولا يصلح للاحتجاج، وذلك أنَّ فيه سِماكَ بن حرب، وهو ضعيف عنه المحدِّثين، إِضافةً إلى أن فيه مجهولاً هو الراوي عن أم هانئ، فمرة يقال هرون بن ابن أم هانئ، ومرة يقال هرون بن بنت أم هانئ، وهرون مجهول. قال يحيى بن القطان: لا يُعرَف. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: مجهول. فيُطرح هذا الحديث.

…وأما الآية الكريمة { ... ولا تُبْطِلوا أَعمالَكم} فهي عامة لم تَرِد في موضوع الصوم، والعام يُعمل به ما لم يرد ما يخصِّصه فيُحْمَل العام على الخاص، وفي مسألتنا هذه جاء الإذن للصائم المتطوع أن يفطركما ورد في حديث أبي سعيد، بل وفي العديد من الأحاديث الصحيحة، وهي خاصة بالصوم فيُعمل بها وتُحمَل الآيةُ عليها. ولست في حاجة لإِيراد هذه الأحاديث كلها وحسبي أن أذكر حديثاً صحيحاً واحداً، هو ما رُوي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت {دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيءٌ؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أُهديَ لنا حَيْسٌ، فقال أرينيه فلقد أصبحت صائماً فأكل} رواه مسلم (2715) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. والحَيْس هو طعام من سمن ولبن جامد وتمر. …وإذن فإن جواز قطع صيام التطوع جاءت أحادث كثيرة به، وجاءت به دون إيراد أي عذر، فلا يحلُّ لأحدٍ وَقَف على هذه الأحاديث أن يحرِّم قطع صيام التطوع، أو أن يقيِّده بعذر. فقول أبي حنيفة [الصائم تطوُّعاً يلزمه إِتمام صومه وعدمُ قطعه إلا لعذر] هو قول خطأ تدحضه النصوص الصحيحة.

ثانيا: قضاء الصوم عن الميت

…أما قضاء ما قُطع من صوم التطوع فهو غير واجب ولا يوجد نصٌّ صحيح أو حسن يأمر به على سبيل الإِلزام، فيبقى حكمه حكم صيام التطوُّع ابتداءً، دون أي فارق بينهما. فكما أن صيام التطوع مندوب، فإِنَّ قضاءَ هذا الصيام يأخذ حكمَه، وهو الندب، فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد (أَفطر وصُم مكانه يوماً إن شئت) يدل على جواز الإفطار وعلى القضاء المعلَّق بالمشيئة، ولا يدل كلاهما على الفرض والإِلزام. وعليه فإن قول مالك في الرواية الأخرى [أنْ لا قضاء عليه إذا كان الإفطار لعذر] لا مسوِّغ له ولا دليل عليه. وبذلك يبقى قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد ومن قال بقولهم، مِن أن قطع صيامِ التطوع جائزٌ ومِن استحباب القضاء، هو القول الصحيح الذي تدل عليه النصوص. ثانياً: قضاء الصوم عن الميت: ذهب طاووس والحسن البصري والزُّهري وقتادة وأبو ثور وابن حزم والنووي إلى استحباب صيام ولي الميت عن الميت. وحصره الليث بن سعد وإسحق وأبو عبيد في صوم النذر دون غيره. وذهب أبو حنيفة ومالك والجمهور إلى أنه لا يُصام عن ميت لا نذراً ولا غيره، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، ورواية عن الحسن والزُّهري. …قال النووي: اختلف العلماء فيمن مات وعليه صومٌ واجب من رمضان، أو قضاءٌ أو نذرٌ أو غيرُه هل يُقضى عنه؟ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران أشهرهما لا يُصام عنه، ولا يصح من ميت صومٌ أصلاً. والثاني يُستحَبُّ لوليه أن يصوم عنه، ويصح صومه عنه، ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى إِطعام عنه. وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث ... إلخ.

…وقال الترمذي: [اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم يُصام عن الميت وبه يقول أحمد وإسحق، قالا: إذا كان على الميت نذرُ صيامٍ يُصام عنه، وإذا كان عليه قضاء رمضان أُطْعِمَ عنه، وقال مالك وسفيان والشافعي: لا يصوم أحد عن أحد] . وحتى نقف على الرأي الصحيح، فإنَّا نذكر الأحاديث المتعلقة بهذه المسألة، ثم نقوم بعملية الاستنباط: 1- عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال {من مات وعليه صيام صام عنه وليُّه} رواه البخاري (1952) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان. ورواه البزَّار (1023) بزيادة {إن شاء} . 2- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صومُ شهر أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، فدينُ الله أحق أن يُقضَى ... } رواه البخاري (1953) ومسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي. وروى البخاري هذا الحديث بروايات متعددة، وجاء في إحداها {قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ... } . 3- عن بُرَيدة رضي الله عنه قال {بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدَّقتُ على أمي بجارية وإنها ماتت، قال: فقال: وجب أجرُكَ وردَّها عليك الميراثُ، قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحجَّ قط أفأحجُّ عنها؟ قال حُجِّي عنها} رواه مسلم (2697) وأبو داود والترمذي وأحمد. 4- عن ابن عباس رضي الله عنهما {أن امرأة ركبت البحر، فنذرت إِنْ نجَّاها الله أن تصوم شهراً، فنجَّاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تصوم عنها} رواه أبو داود (3308) والنَّسائي وأحمد وأبو داود الطيالسي وابن خُزيمة باختلاف في الألفاظ.

5- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه {أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي تُوُفِّيت وعليها نذر صيام فتُوُفِّيت قبل أن تقضيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِيَصُمْ عنها الولي} رواه ابن ماجة (2133) بسند فيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف، قاله صاحب الزوائد. إِلا أنَّ غيره من المحدِّثين أدخلوا حديثه في دائرة الحسن. 6- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال {جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين قال: أرأيتِ لو كان على أختكِ دينٌ أكنتِ تقضينه؟ قالت نعم، قال: فحقُّ الله أحقُّ} رواه الترمذي (712) . وقال [حديث ابن عباس حديث حسن صحيح] ورواه النَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان والدارَقُطني وابن خُزيمة. الحديث في البند الخامس ضعيف عند ناسٍ، وحسن عند آخرين، وعلى أية حال فإن سائر الأحاديث تغني عنه. الحديث الأول عن عائشة هو في قمة الأحاديث الصحيحة، وكذلك الحديث الثاني عن ابن عباس، فقد اتفق عليهما البخاري ومسلم وما اتفق عليه الشيخان فهو صحيح بلا شك. الأول يقول (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) والثاني يقول (نعم، فدين الله أحق أن يُقضَى) .

الحديث الأول عامٌّ في كل صيام، والحديث الثاني جاء عاماً في رواية، وجاء في النذر في رواية ثانية ولنقل إن هذا الحديث جاء في النذر. والحديث الثالث الصحيح جاء الأمر فيه بالصوم عن الميت (قال: صومي عنها) وقد جاء عامَّاً في الصيام، وليس صحيحاً تخصيصُه بالنذر، فقد تتبَّعتُ روايات هذا الحديث في كتب الحديث المعتبرة كلِّها، فلم أجد في أيٍّ منها أيةَ إشارةٍ إلى النذر، فيبقى الحديث عاماً في الصيام كالحديث الأول. والحديث الرابع كالحديث الثاني جاء في صوم النذر بلفظ صريح. وأما الحديث السادس فقد جاء خاصاً في الكفَّارات بدليل قوله (وعليها صوم شهرين متتابعين) فقوله (متتابعين) هو قرينة على أن الصوم صوم كفَّارة، ولكن هناك احتمالٌ ضعيفٌ جداً أن يكون الصوم هذا في النذر.

…الأول والثالث جاءا عامَّين في الصيام، والثاني والرابع جاءا خاصَّين في صيام النذر، والسادس جاء خاصاً في صوم الكفَّارات، ويحتمل أن يكون خاصاً بالنذر. الأول والثالث جاء لفظهما عاماً في قضاء الصوم، ومنه بل وأشهره وأبرزه صومُ رمضان، ولم يَرِدْ أيُّ نسخٍ لهما ولا أي تخصيص، فيبقى فيهما العام عاماً. والثاني والرابع جاء لفظهما خاصاً في النذر، أي في قضاء صوم النذر، ولا يوجد نصٌّ ينسخه أو يصرفه عن وجهه، فيبقى فيهما اللفظ خاصاً، ويصح إلحاق الحديث السادس به. فنقول إن الشخص إذا مات وعليه صومٌ مفروض كصوم رمضان، أو كصوم النذر أو كصوم الكفَّارات صام عنه وليه، وقد جاء الأمر بهذا في قمة الأحاديث الصحيحة،لم يخالفها أي حديث صحيح أو حسن، فيُعمل بها ويُؤخذ بها، ومن وقف عليها لم يَجُزْ له القول بخلافها تحت أية ذريعة من الذرائع فلا الأحاديث الضعيفة ولا أقوال الصحابة ولا اجتهادات الفقهاء تستطيع أن تنسخ هذا الحكم الشرعي الثابت بحال من الأحوال. وعليه فإن ما اعتمد عليه بعض الفقهاء من النصوص والآثار التالية من القول بخلاف ذلك هو اعتماد باطل، واجتهاد في مورد النص غير جائز. وإليكم ما استندوا إليه: أ - عن ابن عباس رضي الله عنه قال {إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أُطْعِم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه} رواه أبو داود (2401) والدارَقُطني والبيهقي وعبد الرزاق. وعلَّقه البخاري. قال عبد الحق وابن حجر: لا يقع في الإِطعام شيء يصحُّ، يعني مرفوعاً. ب - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال {لا يصوم أحد عن أحد ويُطعَم عنه} رواه البيهقي (4/257) . ورواه النَّسائي في السنن الكبرى (2930) بلفظ {لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدَّاً من حنطة} قال الزيلعي [غريبٌ مرفوعاً] .

ج - عن عُبادة بن نُسَيٍّ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {من مرض في رمضان فلم يزل مريضاً حتى مات لم يُطعَم عنه، وإن صحَّ فلم يقضه حتى مات أُطعم عنه} رواه عبد الرزاق (7635) . وفيه الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، وفيه الأسلمي وهو كذاب، قاله ابن حزم. د - عن مالك أنه بلغه {أن عبد الله بن عمر كان يُسأل: هل يصوم أحد عن أحد، أو يصلي أحد عن أحد؟ فيقول: لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد} رواه الإمام مالك (1/256) . هـ – عن ابن عباس رضي الله عنهما {إنْ مات الذي عليه صوم ولم يَصحَّ قبل موته ليس عليه شيء، فإن صحَّ أُطعِم عنه عن كل يوم نصف صاع حنطة} رواه ابن حزم (7/7) وصححه. ورواه عبد الرزاق والدارَقُطني. و عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال {إذا مات الرجل وعليه صيام رمضان آخر أُطعِم عنه عن كل يوم نصف صاعٍ من بُر} رواه عبد الرزاق (7644) وابن حزم. ز - عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنه {سُئل عن رجل مات وعليه رمضان وصوم شهر؟ فقال: يُطْعَم عنه لرمضان ويُصام عن النذر} رواه ابن حزم وصححه (7/7) . ح – عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من مات وعليه صيام شهر، فليُطعَم عنه مكانَ كل يوم مسكينٌ} رواه ابن ماجة (1757) والترمذي وقال [لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه والصحيح عن ابن عمر موقوف]

أما الحديث ج فهو ضعيف جدا فيترك. وأما الحديث ح فلم يصحَّ رفعُه، والصحيح أنه من قول ابن عمر. فلم يبق من هذه السلسلة أي حديث نبوي، وإنما بقيت آثار، أي أقوال صحابة. والمعلوم بداهة أن أقوال الصحابة ليست أدلة فضلاً عن أن تَنْسَخَ أو تعارِض الأحاديث النبوية. وعليه أقول ما يلي: إن هذه الآثار لا تصلح لمعارضة ما ذكرناه من أحاديث نبوية شريفة، فتترك لهذا السبب. ثم إن هذه الآثار لم يَرْوِها الشيخان لا مجتمعَين ولا منفردَين، فهي دون أحاديثنا في درجة الإِسناد بكثير. قال البيهقي [والأحاديث المرفوعة أصحُّ إسناداً وأشهر رجالاً، وقد أودعها صاحبا الصحيح كتابيهما، ولو وقف الشافعي رحمه الله على جميع طرقها وتظاهرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى] وأضاف البيهقي، وهو الذي روى أثر ابن عباس [وقد رأيت بعض أصحابنا يضعِّف حديث ابن عباس ... ] فمثل هذا الأثر لا يصمد أمام أحاديثنا الصحيحة الناطقة بالصوم عن الميت. ثم إن ابن عباس نفسه روى الأحاديث الصحيحة القائلة بالقضاء (2، 4، 6) فكيف يُنسب إليه القول المخالف في الآثار (1، 2، 5، 7) ؟ وهل يصدِّق مُنصِفٌ بأن ابن عباس يفتي بما يعارض أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي رواها؟ وأما أثر مالك البند د فهو منقطع أو معضل فهو يقول (بلغه أن عبد الله بن عمر كان يُسأل ... ) ولم يذكر الشخص، أو الأشخاص الذين نقلوا إليه قول ابن عمر، فالحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.

…بقي ما ورد في هذه الآثار من القول بالإِطعام، فعمر بن الخطاب وابنه وابن عباس رضي الله عنهم قد نُقل عنهم القول بالإِطعام، فظن بعض الفقهاء أن هذا القول يلغي وينفي القول بالقضاء وليس ذلك بصحيحٍ على الإطلاق، فالقول بالإطعام وارد كالقول بالقضاء، فهما على التخيير، فكما أن من مات وعليه صيام جاز لولِيِّه أن يصوم عنه، فكذلك يجوز لولِيِّه أن يطعم عنه بدل الصيام، فالصيام والإِطعام جائزان لا يعارض أحدهما الآخر، وهو ما نقول به، فنحن نقول إن الولي يصوم عن الميت بل ويُستحب منه ذلك، أو يطعِم عن الميت بدل القضاء. فهو مخير بين القضاء والإِطعام، فليس فيما رُوي عن عمر وابنه وابن عباس من القول بالإِطعام ما يخالف ما جاء في الأحاديث النبوية الثابتة من الأمر بالقضاء. …لكل ما سبق نقول إن الشخص إذا مات وعليه صيام رمضان أو غيره من نذر أو كفَّارة جاز لوليه أن يصوم عنه، كما جاز لوليه أن يُطعِم عنه. وعليه فإن رأي أبي حنيفة ومالك والجمهور [أنه لا يصام عن ميت نذراً ولا غيره] هو رأي غير صحيح ومنقوضٌ بالأحاديث النبوية الصحيحة الناطقة بالجواز. …ولست في حاجة إلى وقفة طويلةٍ عند قول الذين نظروا في الأحاديث الآمرة بالقضاء، فأوَّلوها بقولهم: إن المراد من ذلك أن وليه يُطعِم عنه. فهذا تأويل بالغ الضعف، بل هو تأويل باطل لا يصح القول به. …وأما دعوى المالكية بأن أحاديث الصوم عن الميت فيها اضطراب، فقولٌ غير صحيح إذ ليس في هذه الأحاديث اضطراب، وكلُّ ما فيها اختلافاتٌ قد أمكن الجمع بينها، فالاضطراب شيء والاختلافات شيء آخر مغاير.

كيف ومتى يقضى الصوم

…بقي قول الليث وأحمد وإسحق وأبي عبيد بحصر القضاء في صوم النذر. فأقول ما يلي: إن جواز القضاء في صوم النذر ورد في الأحاديث الصحيحة فهو قول صحيح ولكنَّ حصرَ القضاء به هو الخطأ والخطأ عندهم آتٍ من حمل الأحاديث القائلة بالقضاء بشكل عام على الأحاديث القائلة بالنذر، فخرجوا بقولهم هذا. والصحيح أن الأحاديث القائلة بالقضاء على العموم لا تخصِّصها ولا تقيِّدها الأحاديثُ القائلة بالقضاء في النذر، إذ لم تأت الأحاديث الآمرة بالقضاء في النذر مخصِّصة للأحاديث القائلة بعموم القضاء، وإنما جاءت تذكر حالة من حالات القضاء أي هي جاءت تذكر فرداً من أفراد العموم ولم تأت مخصِّصةً. فالصوم عن الميت جائز وهذا قول عام، ومن هذا العام الصوم في النذر، ومن هذا العام الصوم في الكفَّارات، وهناك فارق بين ذِكر فردٍ من أفراد العموم وبين تخصيص هذا العموم. قال ابن حجر [وقال الليث وأحمد وإسحق وأبو عبيد: لا يُصام عنه إلا النذر، حَمْلاً للعموم في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس وليس بينهما تعارضٌ حتى يُجمَع بينهما فحديث ابن عباس صورة مستقلة، سأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدةٍ عامةٍ وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم، حيث قال في آخره (فدَينُ الله أحقُّ أن يُقضَى) ] ومن ذلك يتبين أن القول بحصر القضاء عن الميت في النذر هو خطأ، وأن الصواب هو تعميمُه وإطلاقُه في كل صوم. كيف ومتى يُقضى الصوم؟ يصح قضاء الصوم متتابعاً كما يصح مفرَّقاً دون تفضيلٍ لأحدِهما على الآخر، ويصح أن يُقضَى الصومُ عقبَ رمضان بعد العيد مباشرة كما يصح أن يؤخَّر إلى شهر شعبان قُبَيلَ رمضان التالي، فكل ذلك جائز ومُجْزِيءٌ ولا إثم فيه، والدليل على كل

ذلك قوله سبحانه { ... فمن كان منكم مريضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أَيامٍ أُخَرَ ... } من الآية 184 من سورة البقرة. فهذه الآية الكريمة أطلقت قضاء الصوم {فعِدَّة من أيام أُخَر} فلم تقيِّد ولم تخصِّص، فيكون القضاء عاماً غير مخصَّصٍ، ومطلقاً غير مقيَّد كيفما تمَّ فقد أجزأَ. قال الإمام أبو حنيفة: وجوب القضاء موسَّع دون تقييدٍ، ولو دخل رمضان الثاني. وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء. وقال الجمهور: يجوز القضاء في جميع السنة سوى يومي العيد وأيام التشريق. وهذا يعني جواز تأخيره إلى شعبان. وقال الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وإسحق وأبو ثور بجواز التفريق، واستحبُّوا تتابعه، ورُوي ذلك عن عليٍّ ومعاذ وابن عباس وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم. وكل هذه الأقوال صحيحة باستثناء قول أبي حنيفة: ولو دخل رمضان الثاني. …وفي المقابل ذهب عبد الله بن عمر وعائشة وعروة بن الزبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وداود بن علي الظاهري إلى وجوب التتابع، أي لا يفصل بين أيام القضاء فاصل. كما رُوي عن داود القول بوجوب القضاء على الفور مطلقاً. وقال محمد بن المنذر: روينا عن علي بن أبي طالب أنه كره قضاءَ هُ في ذي الحجة، وبه قال الحسن البصري وابن شهاب الزُّهري. وكل هذه الأقوال غير صحيحة، ذلك أن الآية الكريمة قد أطلقت القول بالقضاء دون تقييده بالتتابع، ودون تقييده بالفورية، ودون تقييده بالمنع في ذي الحجة، ولم يرد شيء من ذلك في الأحاديث النبوية، وعلى من قيَّد أن يأتينا بالدليل، وكل ما ورد في الآثار من اختلافات بين الصحابة والفقهاء فإنما هو اجتهادات منهم، والصحابةُ والفقهاءُ لا يملكون تقييدَ مطلقٍ ولا تخصيصَ عامٍّ، لأن التقييد والتخصيص تشريع لا يكون إلا من الشرع نفسه.

…فمثلاً روى البيهقي (4/258) عن كلٍّ من عائشة وابن عباس وأبي عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وأنس بن مالك ورافع بن خَدِيج رضي الله عنهم رواياتٍ بجواز تفريق قضاء صوم رمضان (أَحْصِ العِدَّة وصُم كيف شئت) (لا يرى بقضائه بأساً أن يقضيه مفرَّقاً) (من كان عليه شيء منه فليفرِّق بينه) . كما روى ابن أبي شيبة (2/447-428) القول بجواز التفريق عن ابن عباس وأبي هريرة وأنس ومعاذ بن جبل ورافع بن خَدِيج، وعن عُبيد بن عُمير وأبي مُحيريز، وعن كثير من التابعين. كما روى عبد الرزاق (4/243-244) القول نفسه عن ابن عباس وأبي هريرة وابن محيريز. وروى الدارَقُطني (2/192- 193) القول نفسه عن أبي عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وابن عباس ورافعٍ رضي الله عنهم …وفي المقابل روى البيهقي (4/259) روايتين عن علي رضي الله عنه {قال متتابعاً} ورواها عبد الرزاق {كان لا يرى به متفرِّقاً بأساً} ورَوَى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يفرِّق قضاء رمضان. ورواه أيضاً عبد الرزاق وابن أبي شيبة. وروى الدارَقُطني (2/192) عن عائشة القول بالتتابع، وصحَّح إسناده.

…والصحيح هو القول الأول، والدليل عليه الآية الكريمة التي جاءت مطلقة. وأما الرد الحاسم على القائلين بالفورية، فهو ما رواه ابن خُزيمة (2051) والترمذي وأحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت {ما قضيتُ شيئاً مما يكون عليَّ من رمضان إلا في شعبان، حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم} وبعيد جداً أن يحصل من عائشة ذلك وهي في بيت النبوة، دون اطِّلاع الرسول صلى الله عليه وسلم وإِقرارِه. وهذا النص يصلح للاستدلال به على أن آخر موعدٍ لقضاء الصوم هو شهر شعبان، أي أن القضاء ينبغي أن يكون قبل حلول رمضان جديد، وإلا كان مفرِّطاً، ولو كان القضاء يصح تأخيره إلى ما بعد حلول رمضان جديد لما كان لقول عائشة هذا فائدةٌ. وإِنَّ القولَ بوجوب القضاء قبل حلول رمضان جديد قد اتفق عليه الفقهاء إلا ما رُوي عن أبي حنيفة رحمه الله. …وكما يصحُّ التتابع والتفريق في القضاء عن النفس فإنهما يصِحَّان في القضاء عن الميت، فلولي الميت أن يصوم عن الميت بالتتابع أو بالتفريق دون أي فارق بينهما، إذ لم يرد في النصوص ما يفرق بين القضاء عن النفس والقضاء عن الميت في هذه النقطة. وأما تأخير القضاء عن الميت إلى أكثر من عام فجائز، وهو خلاف القضاء عن النفس، وذلك أن القضاء عن النفس واجب في حق الشخص، بينما قضاء الولي عن ميِّته جائز وليس واجباً عليه، وما دام ذلك جائزاً فإن له أن يبادر إلى فعله، وله أن يقوم به متأخراً ومتى أراد، بل وله أن لا يقوم به مطلقاً، فانتفى في حق الولي وجوب القضاء في خلال عام.

الفصل الخامس: صيام التطوع

…وهذا الوليُّ مَن هو؟ إن كلمة الولي هي من الألفاظ المشتركة في اللغة، فتَرِدُ ويُراد بها الصديق، وترد ويراد بها الحليف، وتأتي بمعنى الصِّهر والجار والتابع والمطيع، وتأتي ويراد بها صاحب الأمر، وتأتي بمعان أُخَر، ولم يأت في النصوص تعيين معنى من معاني الولي عند ذكر الصوم عن الميت، ولذا اختلف الفقهاء في معناها، فقيل القريب مطلقاً، وقيل الوارث، وقيل العَصَبة. وأنا أرى أن المراد بالولي هنا أقربُ الأحياء إلى الميت، كالابن والأب والأخ. فهذا الولي يجوز أن يصوم عن ميِّته ما فاته من صيام، ويثاب الاثنان على فعله، ويسقط الإثمُ عن الميت بعفو الله العفوِّ الغفورِ. …وأخيراً أقول إن الشخص إذا فاته رمضانان فأكثر قضى جميع ما فاته، ولا يكفي أن يقضي رمضان الأخير فقط، ذلك أن وجوب القضاء عليه لا يسقط بمرور أكثر من عام على ما فاته من صيام، وإنما يأثم بالتأخير ويبقى الوجوب عليه في الذمة، لا بد من أدائه. الفصل الخامس: صيام التطوع الفصل الخامس صيامُ التطوع أولاً: أحكامٌ عامة صوم المرأة بإذن زوجها: المقصود بالصوم هنا صوم التطوع، أما صوم الفرض فلا خلاف بين المسلمين في أنه لا يحتاج إلى إذن الزوج، ولا يملك الزوج منع زوجته منه.

…قال الجمهور: إنه يحرم على المرأة أن تصوم تطوُّعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه. وقال بعض الشافعية: بل يُكره كراهةً ولا يَحْرُم. قال النووي: والصحيح الأول، أي قول الجمهور. وأضاف: فلو صامت بغير إذن زوجها صحَّ باتفاق أصحابنا، وإن كان الصوم حراماً، لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم، فهو كالصلاة في دارٍ مغصوبة. وقال ابن حجر العسقلاني [فلو صامت وقَدِم زوجُها في أثناء الصيام فله إِفسادُ صومها ذلك من غير كراهة، وفي معنى الغَيْبة أن يكون مريضاً بحيث لا يستطيع الجماع] وقال الإمام مالك في المرأة تصوم من غير أن تستأذن زوجها: ذلك يختلف، من الرجال مَن يحتاج إلى أهله وتعلم المرأة أن ذلك شأنه، فلا أُحبُّ لها أن تصوم إلا أن تستأذنه، ومنهن من تعلم أنه لا حاجة له فيها فلا بأس بأن تصوم. …وقد وردت النصوص التالية في هذا الموضوع: 1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال {لا يحلُّ للمرأة أن تصوم وزوجُها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه} رواه البخاري (5195) والنَّسائي والترمذي. ووقع أيضاً عند البخاري (5192) ومسلم بلفظ {لا تصوم المرأة وبعلُها شاهدٌ إلا بإذنه} ورواه ابن ماجة (1761) والترمذي وابن حبَّان وأحمد وابن خُزيمة بلفظ {لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه} قال الترمذي [حسن صحيح] وقد رواه الدارمي (1721) وعبد الرزاق بلفظ {لا تصوم المرأة تطوُّعاً في غير رمضان وزوجُها شاهدٌ إلا بإذنه} .

الصائم المتطوع إذا دعي

2- عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء أن يصُمن إلا بإذن أزواجهن} رواه ابن ماجة (1762) بسند صحيح. وعنه رضي الله عنه قال { ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوم المرأة إلا بإذن زوجها} رواه أبو داود (2459) من حديث طويل. ورواه أحمد والطحاوي وابن حِبَّان والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، كما صححه ابن حجر العسقلاني. ولو لم يكن لدينا إلا الرواية الأولى في البند الأول وهي رواية صحيحة، لكفتنا فقد جاء فيها (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) وكلمة (لا يحل) تعني يحرم. وكلمة (وزوجها شاهد إلا بإذنه (جاءت عامة في إِذن الأزواج فلا يقال إن الإذن يُحتاج إليه عندما يحتاج الزوج إلى أهله، فهذا تخصيص دون مخصِّص، وهو لا يجوز. نعم جاء التخصيص بغير شهر رمضان، أي بصيام التطوع (وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان) (لا تصوم المرأة تطوُّعاً في غير رمضان وزوجها شاهد إلا بإذنه) فنقول إن المرأة لا يحلُّ لها أن تصوم تطوُّعاً إلا بإذن زوجها، وأما صيام الفريضة فلا يحتاج إلى إذن الزوج. الصائم المتطوع إذا دُعي: …إذا دُعي الصائم المتطوع إلى طعام شُرع له أن يجيب الدعوة، ولا يمتنع عن الإجابة لكونه صائماً، بل يذهب، ثم إن شاء أفطر وأكل من الطعام، وإن شاء بقي صائماً وأَعلمَ صاحبَ الدعوة بصيامه، ودعا له دعواتٍ صالحاتٍ. وهذه طائفة من النصوص المتعلقة بهذه المسألة:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا دُعي أحدُكم فلْيجب فإن كان صائماً فليصلِّ، وإن كان مفطراً فليَطْعَم} رواه مسلم (3520) وأبو داود والترمذي. قوله فلْيُصَلِّ: وردت هذه اللفظة بمعناها اللغوي وهو الدعاء، يؤكد ذلك ما جاء في روايةِ النَّسائي في السنن الكبرى (10059) من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه بلفظ {إذا دعي أحدكم فلْيُجِبْ، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً دعا بالبركة} . 2- وعنه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إذا دُعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم} رواه مسلم (2702) والنَّسائي والترمذي والدارمي وأبو داود وابن ماجة. 3- عن أنس رضي الله تعالى عنه {دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سُلَيم، فأتته بتمرٍ وسمنٍ، قال: أعيدوا سمنكم في سِقائه وتمرَكم في وِعائه فإني صائم، ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غيرَ المكتوبة فدعا لأم سُلَيْم وأهلِ بيتها ... } رواه البخاري (1982) وأحمد وابن سعد في الطبقات الكبرى. ودلالة هذه الأحاديث واضحة.

الصوم في الشتاء

وننظر في الحديث التالي: عن أبي جُحَيفة قال {آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنكِ؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال: كل، قال: فإني صائم قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكل قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إنَّ لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأَعطِ كلَّ ذي حق حقَّه فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان} رواه البخاري (1968) والترمذي وابن خُزيمة والطبراني. ورواه الدارَقُطني (2/176) والبيهقي بلفظ {… إن أخاك يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة في نساء الدنيا فجاء أبو الدرداء، فرحَّب به سلمان وقرَّب إليه طعاماً فقال له سلمان: اطْعَم، فقال: إني صائم، فقال: أقسمت عليك لتُفْطِرنَّه، قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكل، فأكل معه ... } قوله متبذِّلة: أي لابسة لباس البَذْلةِ، وهي المهنة والشغل، والمعنى أنها تاركةٌ ثيابَ الزينةِ. فهذا الحديث يدلُّ على عدة أحكام: منها أن الصائم المتطوِّع يجوز له قطع صيامه، وقد مرَّ مزيد بحث في هذه المسألة في [قضاء صوم التطوع] في الفصل [قضاء الصوم] ومنها أن الاعتدال في العبادة مشروع، ومن العبادةِ الصيامُ وقيامُ الليل، ومنها أن أداء حق الزوجة مقدَّم على صيام التطوع وقيام الليل، ومنها أن الداعي يجوز له أن يحث الصائم المدعو على الإفطار. الصوم في الشتاء:

الصوم في الجهاد

إنه لمن المعلوم أن الشرع الحنيف شرع اليُسْر والتيسير على العباد رحمةً بهم، وفضلاً من الله سبحانه، فيُستحب للمسلم أن يعمد إلى الأسهل والأيسر من الأمور إلا أن يكون إثمٌ فيتوقف عنده، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت {ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعدَ الناس منه ... } رواه البخاري (3560) ومسلم وأبو داود والترمذي ومالك وأحمد …وعليه فإن المسلم إذا أراد أن يتطوَّع فلْيختر الأيام الباردة والأيام القصيرة، أي فليختر الصوم في فصل الشتاء، ولا يُجشِّم نفسه المشقة باختيار الأيام الحارة والأيام الطويلة في فصل الصيف، تحت ذريعة أن الأجر على قدر المشقة كما يفعل المتنطِّعون المتعمِّقون في مسائل الدين. فعن عامر بن مسعود الجُمَحي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة} رواه أحمد (19167) والترمذي والطبراني وابن خُزيمة. قال الترمذي [هذا حديث مرسل] وقد اختُلِف في عامر بن مسعود هل هو صحابي أم تابعي، فالبخاري والترمذي وابن معين اعتبراه تابعياً، وابن منده وابن عبد البر وابن حِبَّان أوردوه في أسماء الصحابة فهو مختلَفٌ فيه، وما اختلف فيه المُحدِّثون يصحُّ الاستدلال به. الصومُ في الجهاد: إن الجهاد ذِروةُ سنام الإسلام، وإن ثوابه عظيم وخيره عميم، فإذا ضُمَّ إليه الصيام مع ما فيه من مشقة، فإن الثواب يصبح من الوفرة بحيث أن الله سبحانه يبعِّد صاحبه عن النار سبعين سنة، وإن من الجهاد الرباطَ في سبيل الله فالصوم فيه كالصوم في الجهاد. وقد وردت في فضل الصيام في الجهاد الأحاديث التالية:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول {من صام يوماً في سبيل الله بَعَّد اللهُ وجهه عن النار سبعين خريفاً} رواه البخاري (2840) ومسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد. وروى ابن ماجة (1718) والنَّسائي والترمذي وأحمد الحديث أيضاً من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ورواه ابن أبي شيبة (4/572) من طريق أنس رضي الله تعالى عنه. ورواه النَّسائي أيضاً (2252) من طريق عقبة بن عامر رضي الله عنه. 2- عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {مَن صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض} رواه الطبراني في المعجم الصغير (449) والمعجم الأوسط، بإسنادٍ حسَّنه الهيثمي والمنذري، ورواه الترمذي (1674) من طريق أبي أُمامة رضي الله تعالى عنه وقال [هذا حديث غريب] . وأُلفت النظر هنا إلى أن الحديث إن قيل عنه إنه غريب فلا يعني أنه ضعيف كما قد يتوهَّم البعض، فالغريب اسم مشترك بين الصحيح والحسن والضعيف، فقد يقال صحيح غريب، وقد يقال حسن غريب، وقد يقال ضعيف غريب. والغريب هو الحديث الذي انفرد بروايته راوٍ واحد في سنده، وهذا الراوي إن كان عدلاً ضابطاً ثقة فالحديث صحيح، وإن كان الراوي صدوقاً لا بأس به فالحديث حسن مثلاً، أما إن كان الراوي مجروح العدالة ومتَّهماً فالحديث ضعيف أو متروك، وهكذا.

يصح قطع صيام التطوع

3- عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {مَن صام يوماً في سبيل الله عزَّ وجلَّ باعد الله منه جهنَّم مسيرةَ مائةِ عام} رواه النَّسائي (2254) . ورواه عبد الرزاق (9684) والطبراني في المعجم الكبير وفي المعجم الأوسط من طريق عمرو بن عبسة رضي الله عنه. قال الهيثمي [رجاله موثَّقون] . وقال المنذري: بإسنادٍ لا بأس به. ورواه عبد الرزاق أيضاً (9683) من طريق أبي أُمامة رضي الله عنه بلفظ {من صام يوماً في سبيل الله بَعَّد الله وجهَه عن النار مسيرةَ مائةِ عام، ركضَ الفرسِ الجوادِ المُضْمَرِ} والمضمر: هو الحصان الخفيفُ اللحم، وهو ما تمدحه العرب لخفته وسرعة جريه. وقد جاءت النصوص عامة في الصوم، فتشمل صوم الفريضة كما تشمل صوم التطوع. أما صوم التطوع فظاهر، وأما صوم الفريضة، فإنه في حالة السفر كما في حالة الجهاد في سبيل الله لا يتعيَّن أداؤُه ويصح للصائم أن يفطر فجاءت هذه النصوص تحث على الصيام بنوعيه في حالة الجهاد في سبيل الله، وليس صحيحاً قصرُ النصوص هذه على صيام الفريضة. …أما قول الأحاديث (في سبيل الله) فإن هذه اللفظة حيثما وردت فيها، فإنها تعني الجهاد، أي قتال الكفار، ولا تُصرف عنه إلا بقرينة، وهنا في مسألتنا لا توجد قرينة، فتبقى على أصل معناها، وهو الجهاد. يصحُّ قطعُ صيام التطوع: يصح للصائم تطوُّعاً أن يقطع صيامه متى شاء، لعذرٍ أو لغيرِ عذر، وقد مرت الأحاديث التي تذكر ذلك في بحث [قضاء صوم التطوع] في الفصل [قضاء الصوم] وقد جاء في ذلك البحث قولنا [وإذن فإن جواز قطع صيام التطوُّع جاءت أحاديثُ كثيرةٌ به، وجاءت به دون إيراد أي عذر، فلا يحلُّ لأحد وَقَف على هذه الأحاديث أن يُحرِّم قطع صيام التطوع، أو أن يقيِّده بعذر] فيراجِع البحثَ مَن يشاء. الصيامُ في أيام الأسبوع:

يصح صيام التطوع في أي يوم من أيام الأسبوع، وقد ورد الصوم في يومي الاثنين والخميس كما مرَّ سابقاً، كما ورد في سائر الأيام الأخرى باستثناء إِفراد يومي الجمعة والسبت بالصوم بمعنى أن من أراد صوم يوم الجمعة أو صوم يوم السبت فلْيُضِف إليهما يوماً قبلهما أو يوماً بعدهما، فيصوم الجمعة والسبت، أو الخميس والجمعة، أو السبت والأحد، إلا أن يأتي يومُ عرفةَ مثلاً أو يومُ عاشوراءَ في أحد هذين اليومين فلا بأس عندئذٍ بإِفرادهما بالصوم، لأن الصوم فيهما جاء لمعنى آخر. وهذه طائفة من الأحاديث تذكر ذلك: 1- عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر مما يصوم من الأيام ويقول: إِنهما عيدا المشركين، فأنا أُحبُّ أن أُخالفهم} رواه أحمد (26750) والبيهقي ورواه الطبراني في المعجم الأوسط. ورواه ابن خُزيمة وابن حِبَّان والحاكم وصححوه، كما صححه ابن حجر والذهبي. 2- عن عبيد الله بن مسلم القرشي عن أبيه قال {سألتُ أو سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر؟ فقال: إن لأهلك عليك حقاً، صم رمضان والذي يليه وكلَّ أربعاء وخميس فإذا أنت قد صُمت الدهر} رواه أبو داود (2432) والنَّسائي في السنن الكبرى والبخاري في كتاب التاريخ الكبير. ورواه الترمذي وقال [غريب] 3- عن خيثمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس} رواه الترمذي (743) وقال [هذا حديث حسن] .

الحديث الثالث فيه ضعف، ولكن الترمذي وقد حسَّنه فإنه يجوز أخذه، لا سيما في موضوع كهذا، ولأنه لم يعارضه حديث صحيح. أما ما رواه عبد الله بن بُسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم، فإن لم يجد أحدُكم إلا عودَ عنب أو لِحاءَ شجرة فلْيَمُصَّه} رواه ابن ماجة (1726) والنَّسائي وأحمد. ورواه ابن حِبَّان والحاكم وصححاه كما صححه ابن السكن، وحسَّنه الترمذي. ولكن الطحاوي قال [هذا حديث شاذ] وضعَّفه أحمد ومالك. ورواه أبو داود (2421) من طريق أخت عبد الله، وقال في آخره [هذا حديثٌ منسوخ] فهذا الحديث لا شك في أن فيه ضعفاً، ولا أقول إنه حديث ضعيف. وننظرُ، فإن كان هذا الحديث يخالف الحديث الصحيح الأول، ولا يمكن التوفيق بينهما فإنه يُرَدُّ ولا بد، وأما إن كان لا يخالف الحديث الصحيح الأول ويمكن التوفيق بينهما فإنه يجوز أخذه والاستدلال به. وبالنظر في هذه المسألة أمكننا القول إن الجمع بينهما ممكنٌ بل وسهلٌ، فيُعمَل بالحديثين. فأقول إن النهي عن صيام السبت في هذا الحديث متوجِّه إلى إِفراده بالصوم أما صيامه مع ما قبله أو مع ما بعده فلا يدخل في النهي هذا، ويؤيد هذا طلبُه عليه الصلاة والسلام ممَّن صام يوم الجمعة أن يصوم السبت بعده أو الخميس قبله كما سيأتي مباشرة، والجمع بين الأحاديث مهما أمكن أولى من القول بالنسخ أو بالرد. بقي صيام يوم الجمعة، وقد ورد فيه ما يلي: 4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يَصُمْ أحدُكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم قبله، أو يصوم بعده} رواه مسلم (2683) والبخاري وأبو داود وأحمد وابن حِبَّان. كما رواه مسلم (2684) والنَّسائي بلفظ {لا تختَصُّوا ليلَة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تَخُصُّوا يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيام، إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدُكم} .

5- عن محمد بن عباد قال {سألت جابراً رضي الله عنه: أَنَهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم – زاد غير أبي عاصم – يعني: أن ينفرد بصومه} رواه البخاري (1984) ومسلم والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. 6- عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال: أصمتِ أمسِ؟ قالت: لا، قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا، قال: فأَفطري} رواه البخاري (1986) والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان والطحاوي. 7- عن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه {أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أَصومُ يومَ الجمعة، ولا أُكلِّم ذلك اليوم أحداً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصم يوم الجمعة إلا في أيامٍ هو أحدُها، أو في شهر ... } رواه أحمد (22300) وإسناده صحيح. 8- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غُرَّةِ كلِّ شهر، وقَلَّما يُفطر يوم الجمعة} رواه النَّسائي (2368) والترمذي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة والبيهقي. قال الترمذي [حسن غريب] وصححه ابن حزم. 9- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {ما أنا نَهَيتُ عن صيام يوم الجمعة، محمدٌ صلى الله عليه وسلم وربِّ الكعبةِ نهى عنه} رواه ابن حِبَّان (3609) وأحمد وابن خُزيمة وعبد الرزاق، وسنده صحيح. 10- عن عامر بن لُدَين الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {إن يوم الجمعة عيدُكم فلا تصوموه، إلا أن تصوموا قبله أو بعده} رواه البزَّار (1069) بسندٍ حسَّنه الهيثمي. وروى أحمد والحاكم هذا اللفظ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.

قلنا إن النهي قد وقع على إِفراد يوم الجمعة بالصوم، وقلنا إن من أراد صوم هذا اليوم فلْيصم معه يوماً قبله، أو يوماً بعده، والحديث الرابع والحديث الخامس والحديث السابع والحديث العاشر هي أدلة على هذا الحكم، وهي واضحة الدلالة. ونقول أيضاً إن الحديث السادس يدل على الحكم هذا، فجُوَيرِية رضي الله عنها كانت صائمة يوم الجمعة، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يَعْلم إِن كانت قد أفردت الجمعة بالصوم أو أنها صامت الخميس قبله بقوله (أَصُمتِ أمسِ؟) فلما علم أنها لم تكن صامت الخميس، سألها إن كانت تنوي صيام السبت بعد الجمعة بقوله (تريدين أن تصومي غداً؟) فلما علم أنها لا تريد صوم السبت، وأنها بالتالي تكون قد أفردت الجمعة بالصوم أمرها أن تفطر، بمعنى أنه نهاها عن إِفراد الجمعة بالصوم. أما حديث ابن مسعود الثامن فيُحمل على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم الجمعة مع ما قبله أو مع ما بعده، وحيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير الصيام، فإن صيام الجمعة كان يدخل في صيامه ولا يدل الحديث على أنه عليه الصلاة والسلام كان يُفْرِد الجمعة بالصيام. وأما الحديث التاسع، فلا شك في أن النهي الوارد فيه ينسحب على إِفراد الجمعة بالصوم، ونكون بهذا الفهم قد أَعْمَلنا جميع الأحاديث، وأزلنا ما يبدو عليها من تعارض في الظاهر. وعليه فإني أقول إن صيام التطوع يصح في أي يوم من أيام الأسبوع دون شروط، باستثناء يومي الجمعة والسبت، فإن صيامهما مشروط بعدم إِفرادهما بالصوم وينتفي الإِفراد بصوم يومٍ قبلهما أو يومٍ بعدهما معهما.

أنواع صيام التطوع

…ثم مالنا نذهب بعيداً في البحث والاستدلال وعندنا الحديث الذي رواه علقمة {قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختصُّ من الأيام شيئاً؟ قالت: لا، كان عمله دِيْمَةً، وأيُّكم يُطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيق؟} رواه البخاري (1987) ومسلم وأبو داود وأحمد. قوله: كان عمله ديمة: أي كان صومه دائماً متواصلاً. …وممن ذهب إلى منع إِفراد الجمعة بالصيام أحمد بن حنبل، وقسمٌ من الشافعية، وابن حزم، ورُوي ذلك عن علي وأبي هريرة وسلمان وأبي ذر رضي الله عنهم. وقال ابن حزم: لا نعلم لهم مخالفاً من الصحابة. …وذهب أبو حنيفة ومالك وأصحابهما، والقسم الثاني من الشافعية، إلى عدم كراهة إِفراده بالصوم. وقد استدل الأحناف بحديث ابن مسعود الثامن. ونقل المُزَني عن الشافعي قوله إنه لا يُكره إلا لمن أضعفه صومه عن العبادة. وقال الداودي: لعل النهي ما بلغ مالكاً. وذهب الجمهور إلى النهي، وإلى أن النهي للتنزيه، أي للكراهة. والصحيح هو قول الجمهور في هذه المسألة كما بيَّنَّا. ثانياً: أنواعُ صيام التطوع: صيامُ ما تيسَّر من كل شهر:

وهو ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يمرُّ عليه شهر دون أن يصوم أياماً منه، ولم يُعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه صام شهراً كاملاً غير شهر رمضان، فعن عبد الله بن شقيق قال {قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً كلَّه؟ قالت: ما علمتُه صام شهراً كلَّه إلا رمضان، ولا أفطره كلَّه حتى يصوم منه، حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم} رواه مسلم (2718) والنَّسائي وأحمد. وعن أبي سلمة قال {سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر، ولم أره صائماً من شهرٍ قط أكثرَ من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً} رواه مسلم (2722) والبخاري وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً قط غيرَ رمضان، وكان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم} رواه مسلم (2724) والدارمي. ورواه الترمذي (765) من طريق عائشة رضي الله عنها. صيامُ يوم بعد يوم: إنَّ أفضل صيام التطوع صوم يوم وإفطار يوم، وهو ما كان يفعله نبي الله داود عليه السلام، فلا صوم أفضل منه إلا صوم الفريضة، فلا ينبغي لمسلم أن يزيد عليه بل يقف عنده ولا يتجاوزه بحال من الأحوال. وقد وردت نصوص كثيرة تذكره وتبين فضله وتنهى عن الزيادة عليه، أذكر جملة منها تفي بالغرض:

1- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَحَبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاةُ داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه} رواه البخاري (3420) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد والدارمي وابن ماجة. 2- وعنه رضي الله عنه قال {أُخْبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومنَّ النهار ولأقومنَّ الليل ما عشتُ، فقلت له: قد قلتُه بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأَفطر وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: إني أُطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام فقلت: إني أُطيق أفضل من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك} رواه البخاري (1976) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. وفي روايةٍ ثانيةٍ للبخاري (1980) ومسلم والنَّسائي من طريقه بلفظ { ... لا صومَ فوق صوم داود عليه السلام شطرُ الدهر، صم يوماً وأفطر يوماً} وفي رواية لأحمد (6867) من طريقه بلفظ { ... قال: صم صومَ نبي الله داود ولا تَزِدْ عليه، قلت: يا رسول الله: وما كان صيام داود؟ قال: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً} .

3- وعنه رضي الله عنه قال {أَنكحني أبي امرأةً ذات حَسَب، فكان يتعاهد كَنَّتَهُ فيسألها عن بعلها، فتقول: نِعْمَ الرجلُ من رجلٍ لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتِّش لنا كَنَفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذَكَرَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: القَني به، فلقيته بعدُ، فقال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم كلَّ يوم، قال: وكيف تختم؟ قال: كلَّ ليلة، قال: صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر، قال: قلت: أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام في الجمعة، قال: قلت: أُطيق أكثر من ذلك، قال: أفطر يومين وصم يوماً، قال: قلت: أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصوم صومَ داود، صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليالٍ مرة، فليتني قبلتُ رخصةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرتُ وضعفتُ ... } رواه البخاري (5052) والنَّسائي والطحاوي وابن حِبَّان. ورواه أحمد (6477) بلفظ { ... فلما دخلتْ عليَّ جعلتُ لا أَنْحاشُ لها، مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة ... } قوله: ولم يُفَتِّش لنا كَنَفاً، الكَنَف: الستر والجانب. وهذا القول منها هو كناية عن عدم جماع زوجها لها، يفسِّره ما جاء في رواية أحمد (جعلتُ لا أَنحاشُ لها) أما قوله (فليتني قبلتُ رخصةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم) فهو يعني أن عبد الله عندما كبر وضعف صار يجد صعوبة بالغة ومشقة في صيام يوم وإفطار يوم فتمنى لو أنه قَبِلَ ما عرضه عليه النبي صلى الله عليه وسلم من عروض أخفَّ منه، يفسر ذلك ما وقع عند مسلم (2729) من طريقه بلفظ { ... قال: صم يوماً وأفطر يوماً وذلك صيام داود – عليه السلام – وهو أعدل الصيام، قال: قلت: فإني أُطيق أفضل من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك، قال عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – لأَنْ أكونُ قبلتُ الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله

صيام ثلاثة أيام من الشهر

عليه وسلم أحبُّ إليَّ من أهلي ومالي} . …ومع هذه النصوص البالغة الوضوح في وصف صيام داود بأنه أفضل الصيام، وأنه أحب الصيام إلى الله، وأنه لا أفضل منه، وأنه لا صومَ فوقه، ومع الأمر النبوي الكريم بعدم الزيادة عليه، يذهب أبو حامد الغزالي وغيره إلى القول إن صوم الدهر – أي صوم كل الأيام – أفضل من صيام داود، لأنه على حدِّ ادعائه أكثرُ عملاً فيكون أكثرَ أجراً. وهذا القول ساقط، وإلا لقلنا إن الطواف في الحج حول الكعبة عشرة أشواطٍ أو عشرين شوطاً أفضل من الطواف سبعة أشواطٍ، ولقلنا إنَّ المبيت بمنى أكثر من ثلاثة أيام أفضل، ولقلنا إنَّ السعي بين الصفا والمروة عشرين شوطاً أفضل، وهكذا نفتح على أنفسنا باباً من أبواب الشيطان، فنغرق في اللَّجاج والغُلو، ونبتعد كليةً عن الهَدْي النبوي الكريم، بل ونبتعد كليةً عما شرعه الله سبحانه من عبادات وأحكام. وفي المقابل قال ابن حزم [وإذا أخبَر عليه السلام أنه لا أفضل من ذلك فقد صح أن من صام أكثر من ذلك فقد انحطَّ فضلُه، وإذا انحطَّ فضلُه فقد حبطت تلك الزيادة بلا شك، وصار عملاً لا أجر له فيه، بل هو ناقص من أجره، فصح أنه لا يحلُّ أصلاً] . صيامُ ثلاثة أيام من الشهر:

إن مما شُرِع للناس من صيام التطوع صيامَ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر، وقد جاءت النصوص بذِكْرِها والحثِّ عليها وأنَّ مَن صامها فكأنما صام الدهر كله، وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها فصيام ثلاثة أيام من الشهر يعدل صيام ثلاثين يوماً، أي الشهر كله، فمن داوم عليها كل شهر فكأنه صام الأشهرَ كلَّها والسنة كلها، وهي صيام الدهر. وإن من فضل صيام هذه الأيام الثلاثة، إضافةً إلى الحسنات والثواب في الآخرة أنها تغسل الصدور والقلوب من أدرانها وأمراضها، من مثل الوساوس والضغائن والأحقاد والعداوات وما إلى ذلك، فليحرص المسلم على صيامها ليجني خيرها في الدنيا قبل خيرها في الآخرة. وهذه طائفة من النصوص تذكر كل ذلك: 1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال {أوصاني خليلي بثلاثٍ لا أَدَعُهُنَّ حتى أموت: صومُ ثلاثة أيام من كل شهر وصلاةُ الضحى ونومٌ على وتر} رواه البخاري (1178) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد والدارمي. 2- وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {شهرُ الصبر وثلاثةُ أيام من كل شهر صومُ الدهر} رواه النَّسائي (2408) وأحمد وابن حِبَّان وأبو داود الطيالسي. قوله شهر الصبر: هو شهر رمضان. 3- عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم { ... وإنَّ بِحَسْبِك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فإنَّ لك بكل حسنة عشرَ أمثالها، فإِذنْ ذلك صيامُ الدهر كلِّه ... } رواه البخاري (1975) ورواه الطحاوي وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ.

4- وعنه رضي الله عنه قال {أُخْبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومنَّ النهار ولأقومنَّ الليل ما عشتُ، فقلت له: قد قلتُه بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر ... } رواه البخاري (1976) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. وقد مرَّ في البند الثاني من البحث السابق [صيام يوم بعد يوم] . 5- عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {صيامٌ حسنٌ ثلاثةُ أيامٍ من الشهر} رواه النَّسائي (2411) وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة وابن أبي شَيْبة. 6- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من صام ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صومُ الدهر فأنزل الله عزَّ وجلَّ تصديقَ ذلك في كتابه: من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها، فاليوم بعشرة أيام} رواه ابن ماجة (1708) . ورواه الترمذي وحسَّنه هو والسيوطي. ورواه أحمد وابن حِبَّان وأبو داود الطيالسي باختلاف في الألفاظ. 7- عن معاوية بن قُرَّة عن أبيه – قُرة بن إِياس – عن النبي صلى الله عليه وسلم {قال في صيام ثلاثة أيام من الشهر: صوم الدهر وإِفطاره} رواه أحمد (16357) والبزَّار والطبراني في كتاب المعجم الكبير. قال الهيثمي [رجال أحمد رجال الصحيح] ومعنى قوله (صوم الدهر وإِفطاره) أن المسلم رغم أنه يفطر الأيام كلها إلا ثلاثةً من كل شهر فقط، فإنه يُكتب له صيامُ أيامِ الدهر كلِّها.

8- عن يزيد بن عبد الله بن الشِّخَّير عن الأعرابي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يُذهبن وَحَرَ الصدر} . رواه أحمد (23458) وابن حِبَّان والبيهقي والطبراني في المعجم الكبير. ورواه البزَّار (1057) بلفظه من طريق ابن عباس رضي الله عنه. ورواه النَّسائي (2385) عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ { ... ألا أُخبركم بما يُذْهِبُ وَحَرَ الصدر؟ صوم ثلاثة أيام من كل شهر} وجهالة الصحابي لا تضر لأنهم جميعاً عدول قوله: وَحَرَ الصدر: يعني غِشَّه ووساوسَه وحقدَه وما إلى ذلك. تدل هذه الأحاديث على استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهو ما اتفق عليه الفقهاء كلهم، ولكنهم اختلفوا في تعيين هذه الثلاثة، فذهب أبو حنيفة وصاحباه والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحق بن راهُويه وابن حبيب من المالكية إلى أنها أيامُ ثلاثَ عشْرةَ وأربعَ عشْرةَ وخمسَ عشْرةَ من الشهر، وبه قال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو ذر، وكثيرٌ من التابعين. وذهب مالك إلى كراهة تعيينها، وأن السُّنَّة هي صوم ثلاثة أيام غير معيَّنة. وذهب الحسن البصري إلى استحباب الثلاثة من أول الشهر. وذهب إبراهيم النخعي إلى استحبابها من آخر الشهر. وذهب ابن شعبان من المالكية إلى استحباب أول يوم من الشهر، واليوم الحادي عشر، واليوم العشرين. وذهب قوم إلى استحبابها في يومي الاثنين والخميس. قال ذلك العراقي. والحق الذي ينبغي الذهاب إليه هو أن أفضل ما تصام هذه الأيام الثلاثة إنما يكون في إحدى حالتين: فإِما أن تُصام في الأيام البيضِ الغُرِّ، وهي الأيام ثلاثَ عشْرةَ وأربعَ عشْرةَ وخمسَ عشْرةَ من الشهر، وإِما أن تصام الأيام الثلاثة في يومي الاثنين والخميس. وقد وردت النصوص بهاتين الحالتين، فيستحب تَحرِّي صيامِ هذه الأيام الثلاثة فيهما، دون تفضيلٍ لإِحداهما على الأخرى.

ولقد أخطأ من حصر الاستحباب في واحدة منهما، كما أخطأ خطأً أكبرَ من كره تعيينها ومن قال بغير هاتين الحالتين. ولم أجد فيما قرأت فقيهاً قال باستحباب الحالتين على صعيد واحد. وأذكر الآن النصوص الحاثة على صيام الأيام الثلاثة في الأيام البيضِ الغُرِّ، ثم أذكر بعدها النصوص الحاثة على صيام الأيام الثلاثة في يومي الاثنين والخميس: أولاً: النصوص الحاثة على صيام الأيام الثلاثة في الأيام البِيضِ الغُرِّ: - عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {صيامُ ثلاثة أيام من كل شهر صيامُ الدهر، وأيام البِيض صبيحة ثلاثَ عشْرةَ وأربعَ عشْرةَ وخمسَ عشْرةَ} رواه النَّسائي (2420) بإسناد صحيح. ورواه الطبراني في المعجم الصغير والبيهقي في الشُّعَب وأبو يعلى. - عن ملحان القيسي رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البِيضَ: ثلاثَ عشْرةَ وأربعَ عشْرةَ وخمسَ عشْرةَ، قال: وقال: هنَّ كهيئة الدهر} رواه أبو داود (2449) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان والبيهقي. - عن أبي ذر رضي الله عنه قال {أَمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثةَ أيام البِيض: ثلاثَ عشْرةَ وأربعَ عشْرةَ وخمسَ عشْرةَ} رواه النَّسائي (2423) والترمذي وحسَّنه. ورواه أحمد وابن حِبَّان والبيهقي وأبو داود الطيالسي.

- عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرنبٍ قد شواها فوضعها بين يديه، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكل، وأمر القوم أن يأكلوا، وأمسك الأعرابي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يمنعك أن تأكل؟ قال: إني صائم ثلاثة أيام من الشهر، قال: إن كنت صائماً فصم الغُرَّ} رواه النَّسائي (2421) وابن حِبَّان وأحمد بسند صحيح. ووقع عند النَّسائي (2428) من طريق موسى بن طلحة بلفظ {… فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مالك؟ قال: إني صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا ثلاثَ البِيض ثلاثَ عشْرةَ، وأربعَ عشْرةَ، وخمسَ عشْرةَ} وهو تفسير لقوله في الرواية السابقة (فصم الغُرَّ) بل قد أورد النَّسائي عدة روايات مماثلة للرواية هذه. ثانياً: النصوص الحاثة على صيام الأيام الثلاثة في يومي الاثنين والخميس: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، يوم الاثنين من أول الشهر، والخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه} رواه النَّسائي (2414) بسند جيد. ورواه أحمد (5643) بلفظ {كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: الخميس من أول الشهر، والاثنين الذي يليه، والاثنين الذي يليه} . 2- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام ثلاثة أيام: أول خميس والاثنين والاثنين} رواه النَّسائي (2419) وأحمد. 3- وعنها رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة} رواه النَّسائي (2365) . قوله الجمعة: يعني الأسبوع هنا فالجمعة تطلق أحياناً ويراد بها الأسبوع

4- عن هُنَيْدَةَ الخُزاعي عن أُمِّه قالت {دخلتُ على أم سلمة فسألتُها عن الصيام؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الاثنين والخميس} رواه أبو داود (2452) والبيهقي. ورواه الإمام أحمد (27013) بلفظ {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أولها الاثنين والجمعة والخميس} . 5- عن حفصة رضي الله عنها، زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: يوم الاثنين ويوم الخميس ويوم الاثنين من الجمعة الأخرى} رواه أحمد (2699) وأبو داود والبيهقي. فمن اختار أن يصوم الأيام الثلاثة في وسط الشهر: ثلاثَ عشْرة وأربعَ عشْرة وخمسَ عشْرة، فقد أحسن، ومن اختار أن يصومها في يومي الاثنين والخميس فقد أحسن أيضاً. وهذه النصوص والتي قبلها ردٌّ على مالك القائل بكراهة تعيينها، ولا أرى له من شبهة دليل إلا ما رواه مسلم (2744) وابن ماجة والترمذي وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة والبيهقي عن معاذة العدوية أنها سألت عائشةَ رضي الله عنها، زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم {أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم} .

صيام الاثنين والخميس

فهذا الحديث والقول الأخير من عائشة يُحمَل على وصف صيام الرسول صلى الله عليه وسلم فيما اعتاده واشتُهر عنه، والذي اعتاده واشتُهر عنه أنه كان يصوم أكثر من ثلاثة أيام في الشهر، فكان قول عائشة هذا يصف هذا الصوم المعتاد والمشتهر عنه عليه الصلاة والسلام ولم يكن القول هذا وصفاً مقصوراً على صيام ثلاثة أيام فحسب فمن كثر صيامه كأَنْ يصوم عشرة أيام في الشهر فإنه لا يتسنَّى له الاقتصار على الأيام البيض، ولا على الاثنين والخميس، وعندئذٍ يصوم أي يوم شاء وبأية كيفية، ولا يقوى هذا الحديث على معارضة أحاديثنا السابقة، بل هو لا يعارضها وإنما جاء عاماً في صيام التطوع، وجاءت أحاديثنا خاصة في صيام ثلاثة أيام. صيامُ الاثنين والخميس: وهذا نوع ثالث من أنواع صيام التطوع، فمن قام بهذا الصيام فإنما يكون قد صام ثمانية أيام من الشهر، يومين كل أسبوع من أسابيع الشهر الأربعة. وقد ندب الرسول صلى الله عليه وسلم للصيام في هذين اليومين لأن أعمال العباد تُعرض فيهما، ولأنَّ أبواب الجنة تفتح فيهما، فيُغفر لكل مسلم إلا لمتخاصِمَيْن متهاجِرَيْن، وفي يوم الاثنين خاصةً وُلد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأُنْزِل عليه القرآنُ الكريم، فلْيحرص المسلم على أن تُعرَض أعمالُه على ربه عزَّ وجلَّ وهو صائم في هذين اليومين كي يحظى بمغفرة الله له. وهذه طائفة من الأحاديث الشريفة تذكر ذلك: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم الاثنين والخميس} رواه الترمذي (745) وابن ماجة وابن خُزيمة. وفي روايةٍ للنَّسائي (2186) وأحمد وابن حِبَّان من طريقها بلفظ {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله، ويتحرى صيام الاثنين والخميس} .

صيام ستة أيام من شوال

2- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال {إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وسُئل عن ذلك؟ فقال: إن أعمال العباد تُعرضُ يوم الاثنين والخميس} رواه أبو داود (2436) وأحمد والدارمي وابن خُزيمة والبيهقي. وقد ذكر البيهقي أن أسامة هو السائل. كما رواه الدارمي (1752) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه. 3- عن أبي قَتَادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم الاثنين؟ فقال: فيه ولدتُ وفيه أُنْزِل عليَّ} رواه مسلم (2750) والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان (3642) أطول من هذا. ورواه ابن خُزيمة (2117) بلفظ {بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليه عمر، فقال: يا نبي الله صومُ يومِ الاثنين؟ قال: يومٌ ولدتُ فيه، ويومٌ أموت فيه} . 4- عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس، فقيل: يا رسول الله إنك تصوم الاثنين والخميس؟ فقال: إن يوم الاثنين والخميس يَغفِر الله فيهما لكل مسلم إلا متهاجِرَين، يقول: دعهما حتى يصطلحا} . رواه ابن ماجة (1740) وأحمد. ورواه الترمذي (2092) بلفظ {تُفتح أبوابُ الجنة يومَ الاثنين والخميس فيُغفَر فيهما لمن لا يشرك بالله إلا المتهاجِرَيْن، يقول: رُدُّوا هذين حتى يصطلحا} وقال [هذا حديث حسن صحيح] ورواه مسلم (6544) بلفظٍ قريب. ورواه ابن حِبَّان (3644) بلفظ {تُفتح أبوابُ الجنة كلَّ اثنين وخميس وتُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس} ورواه مسلم (6547) بلفظ {تُعرَض أعمالُ الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس فيُغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شَحْناء، فيقال: اترُكوا، أو اركُوا هذين حتى يَفيئا} قوله: اركُوا: أي أَخِّروا. صيامُ ستة أيام من شوال:

يُندب للمسلم بعد أن يفرغ من صيام رمضان، ويفطر يوم عيد الفطر أن يستأنف الصيام في شوال، فيصوم ستةَ أيام منه، فمن فعل ذلك كلَّ عامٍ فكأنما صام الدهر، وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم بعشرة أيام، فرمضان بعشرة أشهر، وستة أيام بستين يوماً، أي بشهرين، فيكون بصيامه ستةً من شوال بعد صيامه رمضان كأنما صام عشرة أشهر، ثم صام شهرين، وهي عدد أشهر السنة. ولا يجب صوم هذه الأيامِ الستِّة عقب العيد مباشرة، كما لا يجب صومها مجتمعة متصلة، وإنما يتحقق المطلوب بصوم ستةٍ من شوال، أيَّةِ ستةٍ منه. وهذه طائفة من الأحاديث تذكر ذلك: 1- عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {من صام رمضان، ثم أَتْبَعَه ستاً من شوال كان كصيام الدهر} رواه مسلم (2758) وأبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة وابن حِبَّان والدارمي. ورواه البزَّار (1060) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه. 2- عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال {صيامُ شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستةِ أيام من شوال بشهرين، فذلك صيام سنة} رواه النَّسائي (2873) في السنن الكبرى. ورواه ابن ماجة وأحمد والدارمي وابن حِبَّان والبيهقي ولفظ ابن ماجة (1715) {من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وسنده صحيح. ووجه الاستدلال بهذه الروايات واضح تماماً. وقد ذهب إلى استحباب صيام ستة أيام من شهر شوال الشافعي وأحمد وداود، ورُوي ذلك عن الشعبي وميمون بن مهران.

الصيام في الأشهر الحرم

…وفي المقابل ذهب أبو حنيفة ومالك إلى كراهة صيام هذه الأيام الستة. وقد جاء في الموطأ ما يلي [إنه – أي مالك - لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصةً عند أهل العلم، ورأَوْهم يعملون ذلك] . …وإني لأعجب حقاً مما ذهب إليه الإِمامان أبو حنيفة ومالك من كراهة صيام هذه الأيام الستة رغم النصوص الصريحة القطعية الدلالة على استحباب صيامها. وما قاله مالك في الموطأ من أنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، وما قاله من أن أهل الجهالة ربما ألحقوا برمضان ما ليس منه، وما قاله أبو حنيفة ومالك من كراهة صومها بدعوى أنه ربما ظن الناس وجوبها عليهم، هي أقوالٌ في مقابلة النصوص فلا يُلتفت إليها، وهي من الضعف وسهولة الرد بحيث لا تحتاج إلى وقفة أطول، وغفر الله لهذين الإِمامين الجليلين. الصيامُ في الأشهر الحُرُم:

الصوم في شهر الله المحرم

والأشهر الحُرُم هي المحرَّم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وقد جاء الأمر النبوي الكريم بالحث على الصيام في هذه الأشهر، فعن أبي مُجيبةَ الباهلي عن أبيه، أو عن عمه قال {أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله، أنا الرجل الذي أتيتُك عامَ الأول، قال: فمالي أرى جسمك ناحلاً؟ قال: يا رسول الله، ما أكلتُ طعاماً بالنهار ما أكلته إلا بليل، قال: مَن أمرك أن تعذِّب نفسك؟ قلت: يا رسول الله إني أقوى، قال: صم شهر الصبر ويوماً بعده، قلت: إني أقوى، قال: صم شهر الصبر ويومين بعده، قلت: إني أقوى، قال: صم شهر الصبر، وثلاثة أيام بعده، وصم أشهر الحُرُم} رواه ابن ماجة (1741) . ورواه أبو داود (2428) بلفظ { ... صم من الحُرُم واترك، صم من الحُرُم واترك، صم من الحُرُم واترك، وقال بأصابعه الثلاثة فضمَّها ثم أرسلها} ورواه أحمد (20589) بمعناه بلفظ { ... قال: قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني، قال: فمن الحُرُم وأفْطِر} . الصومُ في شهر الله المحرَّم: من أحب أن يصوم أفضل الصيام بعد شهر رمضان، فعليه أن يصوم في شهر الله المحرم، فصوم يوم من هذا الشهر أفضل من صوم أي يوم من أيام العام، ولا يُفهم من هذا القول أنه يُلغي أو يُبطل أفضلية صيام ما ورد الشرع بذكره والتنويه به وبيان فضله، من مثل صيام الأيام الغُرِّ، أي صيام الأيام البِيض، أو صيام يومي الاثنين والخميس، أو صيام يوم عرفة التاسع من ذي الحجة كما سنذكره بعد قليل، فالتنويه بشيء ليس بالضرورة آتياً على حساب غيره. ثم إن قولنا إن الصيام في المحرَّم أفضل الصيام، يعني تفضيل شهر المحرم في الصوم على غيره من الأشهر على العموم، ويبقى التنويه بأنواعٍ من الصيام على حاله من الفضل. وفي العاشر من هذا الشهر خاصةً يومُ عاشوراء وصيامُه يكفِّر السنة التي قبله. وهذه طائفة من النصوص تذكر فضل الصوم في هذا الشهر:

1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرَّم ... } رواه مسلم (2755) وأبو داود والنَّسائي والدارمي والترمذي وابن ماجة وأحمد. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/1695) من طريق جُنْدُب بن سفيان. 2- وعنه رضي الله عنه يرفعه {قال: سُئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم} رواه مسلم (2756) والنَّسائي وأحمد. 3- عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال {سأله رجل فقال: أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ فقال له: ما سمعت أحداً يسأل عن هذا إلا رجلاً سمعتُه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقال: يا رسول الله: أيَّ شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ قال: إن كنتَ صائماً بعد شهر رمضان، فصم المحرَّم فإنه شهر الله فيه يومٌ تاب الله فيه على قوم ويتوب فيه على قومٍ آخرين} رواه الترمذي (738) وقال [هذا حديث حسن غريب] وأقرَّ المنذري تحسين الترمذي له. ورواه أحمد (1335) بلفظ {عن علي قال: أتى النبَّي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله أخبرني بشهرٍ أصومُه بعد رمضان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنتَ صائماً شهراً بعد رمضان فصم المحرَّم، فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب فيه على قوم، ويُتاب فيه على آخرين} ورواه الدارمي باختلاف في الألفاظ.

صيام تسع من ذي الحجة

4- عن أبي قَتَادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {صوم عاشوراء يكفِّر السنة الماضية، وصومُ عرفةَ يكفِّر سنتين: الماضيةَ والمستقبَلةَ} رواه النَّسائي (2809) في السنن الكبرى وابن أبي شَيْبة وأبو داود وأحمد والبيهقي وابن حِبَّان. وسيأتي مزيد بيانٍ وبحثٍ للصوم في عاشوراء في بند منفصلٍ لاحقاً بإذن الله. ب - صيامُ تسعٍ من ذي الحجة: أي صيام الأيام التسعة الأولى من ذي الحجة، والعملُ الصالح، ومنه الصوم، في هذه الأيام التسعة أفضلُ من الجهاد في سبيل الله، إلا المجاهدَ يجود بنفسه وماله فيه. وقد أقسم الله سبحانه بالليالي العشر من ذي الحجة في الآيات الأربع الأولى من سورة الفجر بقوله {والفَجْرِ ? وليالٍ عَشْرٍ ? والشَّفعِ والوَتْرِ ? والليلِ إذا يَسْرِ ?} وقد روى الإمام أحمد (14565) والنَّسائي والبزَّار والطبري وابن المنذر والبيهقي والحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر} وهذه طائفة من الأحاديث تحثُّ على العمل الصالح فيها ومنه الصيام: 1- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام يعني العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء} رواه ابن ماجة (1727) وأبو داود وأحمد والدارمي والبيهقي. ورواه الترمذي وقال [حديث ابن عباس حديث حسن غريب صحيح] ورواه الطبراني في كتاب المعجم الأوسط (1777) من طريق ابن مسعود، و (4398) من طريق أبي قَتَادة رضي الله عنهما.

الصيام في رجب

2- عن هُنَيْدَةَ بنِ خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسعاً من ذي الحجة ويومَ عاشوراء وثلاثةَ أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر وخميسين} رواه النَّسائي (2417) . ورواه الإمام أحمد (26991) بلفظ {عن حفصة قالت: أربعٌ لم يكن يَدَعُهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة} ورواه أبو داود (2437) بلفظ {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، والخميس} . أما ما رُوي عن عائشة رضي الله تعالى عنه قالت {ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط} رواه مسلم (2789) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد. فإنه يدل على مبلغ علم عائشة، ثم إن هذا القول نفي، وأحاديثنا إثبات، والإثبات أقوى من النفي، فمن رأى وعلم حجةٌ على من لم ير ولم يعلم، فلا يصلح هذا الحديث لنسخ الأحاديث القائلة بالصوم. ج - الصيامُ في رجب:

صيام يوم عرفة

رجب أحد الأشهر الحُرُم، فالصيام فيه مندوب لذلك، وقد مرَّت النصوص الحاثة على الصيام في الأشهر الحُرُم قبل قليل ورجبٌ منها. أما ما رُوي من أحاديث تندب إلى الصيام في رجب أو تنهى عنه على الخصوص، فكلها ضعيفة أو واهية لا يُلتَفت إليها، فمثلاً: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما {أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب} رواه ابن ماجة (1743) ففي إسناده داود بن عطاء متفقٌ على ضعفه. ومثلاً رُوي عن خَرَشة بن الحُرِّ، قال {رأيت عمر بن الخطاب يضرب أكفَّ الرجال في صوم رجب، حتى يضعوها في الطعام، ويقول: رجب وما رجب؟ إنما رجب شهرٌ كان يُعظِّمه أهل الجاهلية، فلما جاء الإسلام تُرك} رواه الطبراني في المعجم الأوسط (7632) . قال الهيثمي [وفيه الحسن بن جبلة ولم أجد من ذكره] ففيه إذن مجهول. ومثلاً رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُتِمَّ صومَ شهر بعد رمضان إلا رجب وشعبان} رواه الطبراني في المعجم الأوسط (9418) قال الهيثمي [وفيه يوسف بن عطية الصفَّار وهو ضعيف] وكثير غيرها، وكلها ضعيفة أو واهية لا تصلح للاحتجاج. د – الصيامُ في ذي القعدة: … الصيام في ذي القعدة مندوب، للأحاديث الحاثة على الصيام في الأشهر الحُرُم ومنها ذو القعدة، ولم أجد من روى حديثاً واحداً يحث على الصيام في ذي القعدة على الخصوص، لا صحيحاً ولا حسناً ولا ضعيفاً. صيامُ يوم عرفة:

عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة، وصيام هذا اليوم أفضل من صيام أي يوم آخر من أيام السنة على الإطلاق، باستثناء صيام رمضان طبعاً، فهو يكفِّر سنةً قبله وسنةً بعده وهذا بلا شك فضل عظيم وخير عميم. وقد ذهب العلماء والفقهاء كلهم إلى القول باستحبابه،لم يخالف ذلك منهم أحد فيما أعلم، وهذا الاتفاق منهم على استحباب صيام يوم عرفة إنما هو متعلق بغير الحُجَّاج، أما مَن كان بعرفة حاجاً، فقد اختلفوا في صيامه على مذهبين: فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وسفيان الثوري إلى القول باستحباب الفطر لمن كان بعرفة، ورُوي مثلُه عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم. فيما ذهب أحمد والحسن البصري وقَتَادة، ومن الشافعية الخطابي والمتولي، إلى القول باستحباب الصوم إن قدر الحاج عليه، ولم يضعف عن الدعاء والذِّكْر المطلوب. ورُوي أن عائشة وأسامة بن زيد وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم كانوا يصومون يوم عرفة وهم حُجاج. قال الطبري [إنما أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ليدل على الاختيار للحاج بمكة لكي لا يضعف عن الدعاء والذكر المطلوب يوم عرفة] وهذه طائفة من النصوص المتعلقة بصوم عرفة: 1- عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال {رجلٌ أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ... – وذكر الحديث إلى أن قال – ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌ من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيامُ يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده، وصيامُ يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله} رواه مسلم (2746) وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ورواه أحمد (22958) بلفظ { ... صوم يوم عرفة كفارة سنتين: سنة ماضية، وسنة مستقبلة، وصوم يوم عاشوراء كفَّارة سنة} .

2- عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من صام يوم عرفة غُفر له ذنبُ سنتين متتابعتين} رواه الطبراني في كتاب المعجم الكبير (6/5923) وابن أبي شيبة وأبو يعلى. قال الهيثمي [رجال أبي يعلى رجال الصحيح] . 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (2843) وأبو داود وابن حِبَّان وابن ماجة وأحمد. ورواه ابن خُزيمة والحاكم وصححاه. وفيه مهدي العبدي قال ابن معين: لا أعرفه. وذكره ابن حِبَّان في الثقات. وصحَّح ابن خُزيمة حديثه. فمثل هذا الحديث يصح الاحتجاج به. 4- عن أم الفضل رضي الله عنها قالت {شك ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام يوم عرفة ونحن بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلتُ إليه بقَعْبٍ فيه لبنٌ وهو بعرفة فشربه} رواه مسلم (2635) وابن حِبَّان وأبو داود وأحمد. وفي لفظٍ ثان لمسلم (2632) والبخاري (1988) { ... فأرسلتْ إليه بقدح لبنٍ وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه} والقَعْب: هو إناء من خشب.

5- عن ميمونة رضي الله تعالى عنها {أن الناس شكُّوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فأرسلتُ إليه بحِلابٍ وهو واقف في الموقف، فشرب منه والناس ينظرون} رواه البخاري (1989) ومسلم وابن حِبَّان والبيهقي. وميمونة هي بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالة ابن عباس وأخت أمِّه، أمِّ الفضل التي روت الحديث السابق. قوله: فأرسلتُ إليه بحِلاب: الحِلاب هو الإناء يُحْلَبُ فيه قال ابن حِبَّان تعقيباً على حديثي أم الفضل وميمونة [في حجة الوداع كان نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم معه، وكذلك جماعة من قرابته، فيشبه أن تكون أم الفضل وميمونة كانتا بعرفات في موضع واحد، حيث حُمل القدح من اللبن من عندهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنُسِب القدح وبعثتُه إلى أم الفضل في خبر، وإلى ميمونة في آخر] . 6- عن عبيد بن عمير قال {كان عمر ينهى عن صوم يوم عرفة} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (2845) . 7- عن نافع قال {سُئل ابن عمر رضي الله عنهما عن صوم يوم عرفة؟ فقال: لم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان يوم عرفة} رواه أحمد (5080) والنَّسائي في السنن الكبرى. 8- عن أبي نَجِيح قال {سُئل ابن عمر عن صوم عرفة؟ قال: حججتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمُرُ به ولا أنهى عنه} رواه الترمذي (748) وقال [هذا حديث حسن] ورواه ابن حِبَّان والدارمي والنَّسائي في السنن الكبرى وعبد الرزاق والطحاوي. وأبو نَجِيح اسمه يسار المكي مولى ثقيف.

9- عن ابن عباس رضي الله عنه {دعا أخاه عبيدَ الله يوم عرفة إلى طعام، قال: إني صائم، قال: إنكم أئمةٌ يُقتَدى بكم، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بحِلابٍ في هذا اليوم، فشرب – وقال يحيى مرة – أهلُ بيتٍ يُقتَدى بكم} رواه أحمد (3239) بسند جيد. ورواه الطبراني في كتاب المعجم الأوسط (9182) ولفظه { ... دعا الفضل يوم عرفة ... وأن الناس يستنُّون بكم} . …الحديثان الأول والثاني ذكرا فضل صيام عرفة وأنه يكفِّر صيام سنتين اثنتين، وهذا المعنى متفق عليه لا خلاف عليه، والمقصود به صيام عرفة لغير الحاج. أما ما اختلف الفقهاء فيه فهو صيام عرفةَ بعرفةَ للحاج، والصحيح الذي تدل عليه النصوص في البنود السبعة التالية، هو أن الفطر للحاج هو المستحب وليس الصوم، ومن الخطأ القول باستحباب صوم عرفةَ بعرفةَ للحاج، فرسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصيام هذا (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة) ولم يَرِدْ نسخٌ لهذا الحديث بل ولا معارضةٌ له ولا خلافٌ، فيثبت حكم النهي ولا يصح القول بخلافه. وجاءت النصوص في البنود الباقية كلها تُثَبِّت هذا الحكم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتبع القولَ العملَ، فقد أفطر في عرفة، فتعاضد القول والفعل منه عليه الصلاة والسلام، فلم تبق حجة للقائلين باستحباب الصيام.

صوم عاشوراء

…فإذا استحضرنا في الأذهان أن صوم عرفة يكفِّر سنتين ومع ذلك أفطر الرسول صلى الله عليه وسلم وأفطر صحابته: أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وابن عباس وآخرون، فإن ذلك يدعونا إلى القول إن الإفطار هو المتعيِّنُ للحاج، وهو المستحَبُّ، وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يَحْرِم المسلمين من خير هذا الصيام لو كان الأمر على التخيير كما يقول الطبري، إذ مَن من المسلمين وخاصة الصحابةَ من يختار الفطر ويدع ثواب الصيام المكفِّر لسنتين لو كان الفطر فعلاً على الخيار، ولم يكن هو المستحب وهو الأفضل؟! ومنذ متى يدع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته المندوب، بل ربما كان المندوب الأكبر؟! إنه ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته أن يفطروا في عرفة بعرفة إلا لأن الفطر هو المندوب وليس الصوم. …أما قولهم إن الصوم أفضل إلا لمن ضعف عن الدعاء والذكر فالفطرُ له أفضل، فهو قول لا دليل عليه، وهو تأويل وتعليل لم يرد في النصوص فلا يُلتفت إليه. وعليه فإني أقول: إن الصوم في عرفة لغير الحاج مندوب، وإن الفطر في عرفة للحاج هو المندوب. صومُ عاشوراء: …ويأتي هذا الصوم في منزلةٍ تلي منزلة صوم عرفة، ذلك أنَّ صيام يوم عرفة يكفِّر سنتين، أما صيام عاشوراء فيكفِّر سنة واحدة، وإن تكفير سنةٍ كاملةٍ لا شك في أنه خير كبير وفضل عظيم أيضاً، فليحرص المسلم على صيامه ليمحو آثامه وذنوبه التي اقترفها في عام كامل وما أكثرها، خاصة في زماننا هذا الذي هُجر فيه الدين فصار غريباً، وفشت فيه جميع المعاصي والمنكرات والقبائح والرذائل، حتى بات المتدين لا يكاد يجد بقعة من الأرض يطمئن فيها إلى الحفاظ على دينه، والسلامة من الشرور والآثام، وقد جاء ذكر صوم عاشوراء فيما يلي:

1- عن أبي قَتَادة رضي الله تعالى عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال {صوم عاشوراء يكفِّر السنة الماضية، وصوم عرفة يكفِّر سنتين: الماضية والمستقبَلة} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (2809) وأحمد والبيهقي وأبو داود وابن حِبَّان. ورواه ابن ماجة (1738) وعبد الرزاق بلفظ {صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله} ورواه الترمذي (749) وقال [ ... وبحديث أبي قتادة يقول أحمد وإسحق] وقد سبق حديثٌ لأبي قتادة رواه مسلم وغيره تجدونه في البند الأول من صيام يوم عرفة، وجاء فيه { ... وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله} . 2- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يومٍ فضَّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني شهر رمضان} رواه البخاري (2006) ومسلم والنَّسائي وأحمد.

…وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم على الصحيح، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء وليس اليوم التاسع كما يقول قلَّة منهم، وذلك أن كلمة عاشوراء بمعنى اليوم العاشر هي مقتضى الاشتقاق والتسمية، وأنَّ اليوم التاسع يسمى تاسوعاء. ثم إن الأحاديث تدل على هذا، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال {أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر} رواه الترمذي (752) وقال [حديث ابن عباس حديث حسن صحيح] وعن عائشة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء يوم العاشر} رواه البزَّار (1051) . قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] وهما حديثان يدلان على أن عاشوراء هو اليوم العاشر منطوقاً. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع – وفي رواية أبي بكر قال: يعني يوم عاشوراء -} رواه مسلم (2667) وأحمد بن حنبل والبيهقي. وفي رواية ثانية لمسلم (2666) وأبي داود من طريقه رضي الله عنه بلفظ { ... قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظِّمُه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل – إن شاء الله – صمنا اليوم التاسع قال: فلم يأتِ العامُ المقبلُ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهذا الحديث يدل أيضاً على أن عاشوراء هو اليوم العاشر وليس التاسع كما توهم عدد من الفقهاء، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء كما هو ثابت في النصوص ويقول هذا الحديث إن الرسول صلى الله عليه وسلم نوى أن يصوم اليوم التاسع إلا أنه توفي قبل أن يصومه فلم يصمه مما يدل دلالة بالغة القوة والوضوح على أن العاشر هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، وأن اليوم التاسع لم يصمه الرسول عليه الصلاة والسلام مطلقاً، وقد جاء اللفظ عند ابن ماجة (1736) مبيِّناً علة صيام اليوم

التاسع في العام المقبل، هكذا {لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ اليوم التاسع، قال أبو علي: رواه أحمد بن يونس عن ابن أبي ذئب، زاد فيه: مخافةَ أن يفوته عاشوراء} فهو عليه الصلاة والسلام نوى أن يصوم التاسع احتياطاً فحسب. أما ما رواه الحكَم بن الأعرج عن ابن عباس رضي الله عنه قال {إذا رأيت هلال المحرم فاعدُدْ، وأَصبحْ يوم التاسع صائماً، قلت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم} رواه مسلم (2664) والنَّسائي وأبو داود والترمذي وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة. فإن نحن أخذناه على ظاهره دون تأويل، فإنا نقول إنه يعارض الأحاديث الكثيرة – ومنها ما رواه ابن عباس نفسه – القائلة بالعاشر، وعند التعارض لا بد من رد أحدها، فنضطر لردِّ هذا الحديث لمخالفته الأحاديث الكثيرة القائلة بالعاشر. ولكن التأويل في مثل هذه الحال أولى إن كان يؤدي إلى عدم رد أحدها، فبالتأويل نقول ما يلي:

…إن ابن عباس رضي الله عنه كان قد نقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم نوى أن يصوم اليوم التاسع، وأنه توفي قبل تحقيق هذه النية، فصار عند ابن عباس مفهومٌ هو أن صيام عاشوراء يبدأ في اليوم التاسع، وأنه صار هو المشروع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ابن عباس منذئذٍ يفتي بهذا، وفي حديثنا هذا إفتاءُ ابن عباس بهذا الحكم فقال (إذا رأيت هلال المحرَّم فاعْدُدْ، وأَصبِحْ يومَ التاسع صائماً) ولا شيء في هذه الفتيا فنحن جميعاً نقول بها، ولكن السائل أحب أن يتثبَّتَ من هذه الفتيا هل هي اجتهاد من ابن عباس أم هي تشريع نبوي؟ فسأل: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ وهو يعني: قد شرع صيامه؟ فجاء الجواب من ابن عباس بنعم. فالإشكال آتٍ من قول السائل (يصومه) ولو أنه قال (أمر بصيامه) أو (شرع صيامه) لزال الإشكال. وبهذا التأويل نكون قد أعملنا النصوص كلَّها، وأزلنا ما يبدو بينها من تعارضٍ وخلاف.

…وكما جاء تشريع صيام اليوم التاسع احتياطاً – أي مخافة أن يفوته عاشوراء – كما ورد في رواية ابن ماجة، فقد جاء التشريع بعلة أخرى ربما كانت هي الأصلَ، وهي الأَوْلى، هي أن اليهود كانوا يصومون عاشوراء كما سيأتي بيان ذلك بعد قليل، وحيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحثُّ المسلمين دائماً على مخالفة اليهود والنصارى، فإنه أراد أن يُصام قبل عاشوراء يومٌ، أو يُصام بعده يومٌ فتتم المخالفة، فقد روى أحمد (2154) والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً أو بعده يوماً} فالتشريع بصيام تاسوعاء إنما جاء لمخالفة اليهود ولم يأت لذاته، ولم يأت على أنه عاشوراء، وإلا فإن المخالفة لا تحصل. وهذا الحديث يقوِّي فهمَنا بأن اليوم العاشر هو المتعين، وأن اليوم التاسع يُضَمُّ في الصوم إليه. والخروج بالجمع بين الأحاديث التي تبدو متعارضة، تهنأ به النفوس، وتنشرح له الصدور، والحمد لله رب العالمين. …أما السبب في مشروعية صيام يوم عاشوراء، فقد ورد فيه عدد من الأحاديث نختار منها ما يفي بالغرض: 1- عن ابن عباس رضي الله عنه قال {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومُ نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: أنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه} رواه البخاري (2004) ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنَّسائي وأحمد والدارمي.

صوم شعبان

2- عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال {كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتَّخذونه عيداً ويُلِبسون نساءَ هم فيه حُلِيَّهم وشارَتَهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم} رواه مسلم (2661) . ورواه البخاري (2005) بلفظ {كان يوم عاشوراء تعدُّه اليهود عيداً قال النبي صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم} قوله شارتهم: أي هيأتهم الحسنة. فالرسول عليه الصلاة والسلام قد شرع لنا صيام عاشوراء لأن الله سبحانه نجَّى في هذا اليوم نبيَّه موسى عليه السلام من فرعون، فصامه موسى شكراً، فأمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بصيامه. صومُ شعبان: …لم يُعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صام في شهر من أشهر السنة عدا رمضان أكثرَ مما صام في شهر شعبان، بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم شعبان كله إلا القليل منه فيندب للمسلمين أن يتطوعوا بالصيام في هذا الشهر. وهذه طائفة من الأحاديث تتناول هذه المسألةَ: 1- عن أم سلمة رضي الله عنها قالت {ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين، إلا أنه كان يَصِلُ شعبان برمضان} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (2496) وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد. 2- عن أبي سلمة قال {سألت عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان يصوم حتى نقول قد صام، ويفطر حتى نقول قد أفطر، ولم أره صائماً من شهرٍ قطُّ أكثرَ من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كلَّه، كان يصوم شعبان إلا قليلاً} رواه مسلم (2722) والبخاري وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. 3- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان أحبَّ الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبانُ، ثم يصله برمضان} رواه النَّسائي (2666) وأحمد والطبراني في المعجم الكبير.

4 - عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيامَ يَسْرُدُ حتى يقال لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم إلا يومين من الجمعة، إن كانا في صيامه وإلا صامهما، ولم يكن يصوم من شهر من الشهور ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله: إنك تصوم لا تكاد أن تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتَهما، قال: أي يومين؟ قال: قلت: يوم الاثنين ويوم الخميس، قال: ذانِكَ يومان تُعرَض فيهما الأعمال على رب العالمين وأُحب أن يُعرَض عملي وأنا صائم قال: قلت: ولَمْ أَرَكَ تصومُ من شهرٍ من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذاك شهر يغفُل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر يُرفع فيه الأعمالُ إلى رب العالمين فأحبَّ أن يُرفع عملي وأنا صائم} رواه أحمد (22096) وروى ابن أبي شيبة (2/514) قسمه الأخير فقط بلفظ {قلت يا رسول الله رأيتك تصوم في شعبان صوماً لا تصوم في شيء من الشهور إلا في شهر رمضان قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب وشهر رمضان، ترفع فيه أعمال الناس، فأحب أن لا يُرفع لي عمل إلا وأنا صائم} . …وقد اختلف الفقهاء في حكم الصيام في النصف الثاني من شهر شعبان، فذهب جمهور العلماء إلى جواز الصيام تطوُّعاً في النصف الثاني من شعبان ولو لم يَعْتَدْهُ، ولو لم يصله بالنصف الأول، ولا يكره إلا صوم يوم الشك. وذهب كثير من الشافعية إلى منع الصيام تطوُّعاً في النصف الثاني من شعبان، وأن ابتداء المنع يكون من أول اليوم السادس عشر من الشهر.

…وقد استدل القائلون بالمنع بما رواه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا كان النصف من شعبان فلا صومَ حتى يجيء رمضان} رواه ابن ماجة (1651) والنَّسائي وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان وأحمد والدارمي. وصححه ابن حزم والترمذي وابن عبد البر. والرد على هؤلاء بما يلي: 1- إن هذا الحديث مدارُه على العلاء بن عبد الرحمن فلم يَرْوِهِ غيرُه والعلاء هذا ضعَّفه ابن معين بقوله مرة: ليس حديثه بحجة وبقوله أخرى: إنه ضعيف وبقوله ثالثة: ليس بذاك لم يزل الناس يتوقَّوْن حديثه. وقال أبو حاتم: صالح روى عنه الثقات، ولكنه أنكر من حديثه أشياء. وقال أبو زُرعة: ليس هو بالقوي. وقال أبو داود: أنكروا على العلاء صيامَ شعبان. ووثقه في المقابل ابن حِبَّان والنَّسائي وأحمد، فهو مختلَف فيه 2- إن هذا الحديث قد ضعَّفه أحمد ويحيى بن معين بقولهما إنه حديث منكر، كما ضعَّفه البيهقي والطحاوي وعبد الرحمن بن مهدي. 3- إن هذا الحديث يعارض الأحاديث الكثيرة الصحيحة القائلة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، وأنه كان يصل شعبان برمضان، وقد مرَّ كثير منها، ولا يُستطاع الجمع بينها وبين هذا الحديث. …فمثل هذا الحديث الذي رواه راوٍ لم يتفقوا على توثيقه، وجاء مخالفاً ومعارضاً الأحاديث الكثيرة الصحيحة فإن حكمَه الردُّ وعدمُ الاحتجاج به. وبذلك يثبت حكم جواز الصيام تطوُّعاً في النصف الثاني من شعبان، كنصفه الأول سواء بسواء، وهو قول الجمهور. …أما قول الجمهور [ولا يُكره إلا صوم يوم الشك] فإن المقصود منه اليوم الذي يُشك فيه، هل هو آخر يوم من شعبان، أم هو أول يوم من رمضان؟ وسيأتي مزيد بحث في [صوم يوم الشك] من الفصل [الصيام المحرم الذي لا يجوز] . صومُ يوم ويومين وأربعة وخمسة وسبعة وتسعة وعشرة وأحد عشر في الشهر

…قد مرَّ معنا صوم ثلاثة أيام، وصوم الاثنين والخميس وهما يشكلان في الشهر ثمانية أيام، كما مرَّ صوم يوم بعد يوم ويُشكِّل خمسة عشر يوماً في الشهر، ونستعرض الآن ما ورد في النصوص من صيام أعدادٍ أخرى من كل شهر: 1- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له {صُم يوماً ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك قال: صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصيام عند الله صوم داود عليه السلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً} رواه مسلم (2742) والنَّسائي. 2- وعنه رضي الله تعالى عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر له صومي فدخل عليَّ، فأَلقيتُ له وسادة من أَدَمٍ حَشْوُها ليفٌ، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه، فقال: أَمَا يكفيك من كل شهر ثلاثةُ أيام؟ قلت: يا رسول الله قال: خمساً؟ قلت: يا رسول الله، قال: سبعاً؟ قلت: يا رسول الله قال: تسعاً؟ قلت: يا رسول الله، قال: إحدى عشرة؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صوم فوق صوم داود عليه السلام شطْرُ الدهر صم يوماً وأفطر يوماً} رواه البخاري (1980) ومسلم وابن حِبَّان والنَّسائي. وقد جاءت الأَعداد في هذا الحديث على إرادة الليالي، والعرب كانوا يذكرون الليالي مراتٍ بدل الأيام، وإلا وجب لغةً أن يقال: خمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر يوماً، وقد جاءت في رواية الكشميهني على مقتضى ظاهر اللغة: خمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر.

3- وعنه رضي الله تعالى عنه قال {أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: لأقومنَّ الليل ولأصومنَّ النهارَ ما عشتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلتُه يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأَفطر، ونم وقم، صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قال: قلت: فإني أُطيق أفضل من ذلك قال: صم يوماً وأَفطر يومين، قال: قلت: فإني أُطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: صم يوماً وأَفطر يوماً، وذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام، قال: قلت: فإني أُطيق أفضل من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: لأَن أكون قبلتُ الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليَّ من أهلي ومالي} رواه مسلم (2729) والبخاري. ورواه النَّسائي (2397) بلفظ {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه بلغني أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: يا رسول الله ما أردتُ بذلك إلا الخير قال: لا صام من صام الأبد، ولكن أدُلُّك على صوم الدهر: ثلاثة أيام من الشهر، قلت: يا رسول الله إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: صم خمسة أيام، قلت: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: فصم عشراً، فقلت: إني أُطيق أكثر من ذلك قال: صم صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً} .

الفصل السادس: الصيام المحرم الذي لا يجوز

…في الحديث الأول جاء الأمر بصيام يوم واحد وبصيام يومين، وثلاثة وأربعة، وبصوم داود وهو خمسة عشر يوماً نصف الشهر. وفي الحديث الثاني جاء الأمر بصيام ثلاثة أيام وخمسة، وسبعة وتسعة، وأحد عشر يوماً. وفي الحديث الثالث جاء الأمر بصيام ثلاثة أيام، وبصيام عشرة أيام (صم يوماً وأفطر يومين) ، وبصيام خمسة عشر يوماً (صم يوماً وأفطر يوماً (. وفي رواية النَّسائي جاء الأمر بصيام ثلاثة أيام وخمسة وعشرة، وقد جاءت في الحديث صريحة. وجاءت بصيام خمسة عشر يوماً، بدلالة القول (كان يصوم يوماً ويفطر يوماً (. …وبجمع هذه الأحاديث نخلص إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بصوم يوم واحد في الشهر، وبصوم يومين، وبصوم ثلاثة، وبصوم أربعة، وبصوم خمسة، وبصوم سبعة، وبصوم تسعة، وبصوم عشرة، وبصوم أحد عشر، وبصوم خمسة عشر يوماً، ومرَّ معنا أمرُه عليه الصلاةُ والسلام بصوم الاثنين والخميس وتعدادُه ثمانيةُ أيام. ولك يا أخي بعد كل هذه الخيارات أن تختار لنفسك ما تجمع به بين الخير والقدرة، والله سبحانه يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف. الفصل السادس: الصيام المحرَّم الذي لا يجوز الفصل السادس الصيامُ المحرَّم الذي لا يجوز صومُ يوم الشَّك:

…ونعني به اليومَ المشكوكَ فيه هل هو آخر أيام شعبان، أم أول أيام رمضان؟ فنقول ما يلي: إذا هلَّت الليلة التي تتلو نهار التاسع والعشرين من شهر شعبان على غيوم أو ضباب أو غبار، من شأنها أن تحجب رؤية الهلال فإن الواجب على المسلمين آنذاك أن يُتمُّوا شعبان ثلاثين يوماً، ولا يصوموا ذلك اليوم المشكوك فيه احتياطاً لرمضان، ولا يصوموا رمضان إلا بعد رؤية هلاله، أما من كان صائماً قبله، وأراد الاستمرار في الصوم فصامه على أنه من شعبان، فلا بأس به. قال الترمذي [والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يتعجَّل الرجلُ بصيامٍ قبل دخول شهر رمضان لمعنى رمضان ... ] وقد عالجت النصوص الآتية هذه المسألة علاجاً واضحاً جلياً: 1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم – أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم – {صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته، فإن غُبِّيَ عليكم فأَكملوا عِدَّة شعبان ثلاثين} رواه البخاري (1909) ومسلم والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان والدارمي. وفي رواية لمسلم (2516) بلفظ { ... فإن غُمَّ عليكم، فاقدروا ثلاثين} وفي رواية أخرى للبخاري (1906) بلفظ { ... فإن غُمَّ عليكم فأَكملوا العدة ثلاثين} من طريق ابن عمر رضي الله عنهما. قول الحديث غُبِّيَ عليكم، وفي قراءةٍ غَبِيَ عليكم: يعني خفي عليكم، وهو مأخوذ من الغباء، وهو شبه الغبار في السماء. قاله صاحب لسان العرب.

2- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم {لا تَقَدَّموا الشهر بصيام يومٍ ولا يومين إلا أن يكون شيءٌ يصومه أحدكم، ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا والشهر تسع وعشرون} رواه أبو داود (2327) والبيهقي. ورواه النَّسائي (2129) وأحمد بن حنبل بلفظ {صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فأَكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً} ورواه أبو داود الطيالسي (2671) بلفظ {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه غمامة أو ضَبابة فأَكملوا شهر شعبان ثلاثين، ولا تستقبلوا رمضان بصومِ يومٍ من شعبان} . 3- عن محمد بن كعب القُرَظي رضي الله عنه قال {دخلتُ على أنس بن مالك عند العصر يومَ يَشُكُّون فيه رمضانَ، وأنا أريد أن أُسَلِّم عليه، فدعا بطعام فأكل فقلت: هذا الذي تصنع سُنَّةٌ؟ قال: نعم} رواه الطبراني في المعجم الأوسط (9039) . قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] . 4- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تَقَدَّموا رمضانَ بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فلْيصمه} رواه مسلم (2518) والبخاري والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي.

5- عن صِلة بن زفر قال {كنا عند عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، فأمر بشاةٍ مَصْلِيَّةٍ فقال: كلوا، فتنحى بعض القوم فقال إني صائم، فقال عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم} رواه الحاكم (1/424) وصححه هو والذهبي. ورواه الترمذي وقال [حديث حسن صحيح] ورواه النَّسائي وأبو داود وابن ماجة والدارمي وابن خُزيمة وابن حِبَّان والبيهقي. ورواه الدارَقُطني وقال [إسناده حسن صحيح] قال ابن عبد البر: هذا مُسْنَدٌ عندهم مرفوع لا يختلفون في ذلك. وهو يعني أنه يأخذ حكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب قوله (فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم) وليس هو فهماً لعمَّار ولا اجتهاداً منه. …الحديث الأول واضح الدلالة. والحديثان الثاني والرابع يدلاَّن إضافةً إلى ما يدل عليه الحديث الأول على أن الرجل إن كان يصوم من شعبان أياماً واستمر صومه حتى أتى على آخره فلا بأس، لأنه يكون بصيامه هذا إنما صام أياماً من شعبان، ولا يكون بذلك الصيام قد خالف معنى ومطلوبَ الأحاديث، فالأحاديث قد نهت عن صيام آخر شعبان استقبالاً لرمضان، بمعنى أنها نهت عن إلحاق آخر يوم من شعبان بشهر رمضان واحتسابه من رمضان احتياطاً، أما صيام أيام شعبان على أنها منه وكجزء من صيامه فلا شيء فيه. وأما الحديث الخامس فقد ذكر أن صوم يوم الشك - وهو آخر شعبان عند وجود ما يحول دون رؤية الهلال - حرامٌ لا يجوز، وبهذا القول ينتفي القول بالكراهة فقط. وعليه فإن صيام آخر شعبان وإِدخالَه في رمضان احتياطاً هو حرام، وليس مكروهاً فقط. وجاء الحديث الثالث يقرر أن الإفطار في يوم الشك هو السُنَّة المشروعة في الإسلام، بمعنى الطريقة والنهج.

صوم الدهر

…أما ما رُوي عن عبد الله بن أبي موسى – وقيل عن عبد الله بن أبي قيس على الأصح – قال { ... وسألتها – أي عائشة رضي الله عنها – عن اليوم الذي يُختلَفُ فيه من رمضان؟ فقالت: لأَن أصوم يوماً من شعبان، أحبُّ إليَّ من أن أُفطر يوماً من رمضان قال: فخرجت فسألت ابن عمر وأبا هريرة، فكلُّ واحد منهما قال: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذاك منا} رواه أحمد (25458) وسعيد بن منصور والبيهقي. فهو اجتهاد منها رضي الله عنها في مقابلة النصوص فلا يُؤخذ، ولا يصمد أمام أحاديثنا الزاجرة عن صوم آخر شعبان وإلحاقه برمضان. …وقد ذهب أبو حنيفة ومالك إلى تحريم صوم يوم الشك على أنه من رمضان، وإلى جوازه عما سوى ذلك. وهو الصحيح، وهو ما تدل عليه النصوص. وذهب جمهور العلماء والشافعي إلى المنع من صومه. وقال ابن عبد البَر: وممن رُوِي عنهم كراهةُ صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمَّار بن ياسر وعبد الله ابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم. …وقد رأينا أن عمَّار بن ياسر قد ذكر في الحديث الخامس ما يدل على التحريم، وليس على الكراهة فحسب. وأقول هنا إن عبارة [كره فلان] إذا وردت على ألسنة بعض الفقهاء فإنهم يعنون بها التحريم، وليس الكراهة بمعناها الاصطلاحي الدارج، فلينتبه القراء لهذه الملاحظة، وكمثال على ذلك أن الترمذي بعد أن روى حديث عمَّار (فقد عصى أبا القاسم) قال [والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين. وبه يقول سفيان الثوري ومالك ابن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق كرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يشك فيه ... ] فقال كرهوا، وهو يعني كراهة تحريم. صومُ الدهر:

…ونعني بصوم الدهر صيامَ جميعِ أيام السنة باستثناء الأيام الخمسة التي يحرم فيها الصوم، وهي يوما الفطر والأضحى، وأيام التشريق الثلاثة، وستأتي لاحقاً. …وقد ذهب جمهور العلماء إلى جواز صوم الدهر لمن قوي عليه ولم يفوِّت فيه حقاً، فإن تضرَّر أو فوَّت حقاً فمكروه. وقد ذكر النووي في المجموع أسماء بعض الأعلام من السلف والخلف ممن صاموا الدهر، منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو طلحة الأنصاري وأبو أُمامة وامرأته وعائشة، وسعيد بن المسيِّب والأسود بن يزيد وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وقال أحمد: رجوت أن لا يكون بذلك بأس. ورُوي نحوه عن مالك. ومذهب الشافعي وأصحابه أن سرد الصوم، أي صوم الدهر، لا كراهةَ فيه بل هو مستحبٌّ، بشرط أن لا يلحقه به ضررٌ ولا يفوِّت حقاً. وذهب أهل الظاهر وابن العربي من المالكية وإسحق بن راهُويه وأحمد في الرواية الثانية إلى كراهة صوم الدهر. وانفرد ابن حزم بالقول بالتحريم. وحتى نقف على الحكم الصحيح لا بد من استعراض النصوص المتعلقة بهذه المسألة: 1- عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم {إنك لتصومُ الدهرَ وتقومُ الليلَ؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هَجَمَت له العينُ ونَفِهَت له النفس لا صام من صام الدهر} رواه البخاري (1979) ومسلم والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن أبي شيبة والبيهقي. وهجمت له العين: أي غارت ودخلت في مكانها من الضعف. ونفهت له النفس: أي أعيت وسئمت قاله ابن الأثير وفي لفظ ثان للبخاري (1977) { ... لا صام من صام الأبد، مرتين} .

2- وعنه رضي الله تعالى عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكر له صومي، فدخل عليَّ، فألقيتُ له وسادة من أَدَم حَشْوُها ليف، فجلس على الأرض وصارت الوسادة بيني وبينه فقال: أما يكفيك من كل شهر ثلاثةُ أيام؟ قلت: يا رسول الله، قال: خمساً؟ قلت: يا رسول الله قال: سبعاً؟ قلت: يا رسول الله، قال: تسعاً؟ قلت: يا رسول الله، قال إحدى عشرة؟ قلت: يا رسول الله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صوم فوق صوم داود، شطرُ الدهر، صُمْ يوماً وأَفطر يوماً} رواه البخاري (1980) ومسلم والنَّسائي وابن حِبَّان. وقد مرَّ الحديث في البند الثاني في بحث [صوم يوم ويومين ... ] من الفصل [صيام التطوع] وروى البخاري حديثاً آخر (1975) من طريق عبد الله بن عمر، وجاء فيه { ... قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: نصف الدهر، وكان عبد الله يقول بعدما كبر يا ليتني قبلتُ رخصة النبي صلى الله عليه وسلم} وقد مرَّ. وروى مسلم (2729) الحديث بلفظ { ... صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك ... } . 3- عن عبد الله بن الشِّخَّير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {من صام الأبد فلا صام ولا أفطر} رواه ابن ماجة (1705) والنَّسائي وأحمد والدارمي وابن حِبَّان وابن خُزيمة والحاكم وابن أبي شيبة، وإسناده صحيح. 4- عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من صام الدهر ضُيِّقت عليه جهنمُ هكذا، وقبض كفَّه} رواه أحمد (19951) وابن حِبَّان والنَّسائي وابن خُزيمة. وسنده جيد.

5- عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلاناً لا يفطر نهاراً الدهرَ إلا ليلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: لا صام ولا أفطر} رواه ابن حِبَّان (3582) والنَّسائي وأحمد وابن خُزيمة والحاكم. وصححه الحاكم، ووافقه الذَهبي. 6- عن أبي عمرو الشيباني قال {بلغ عمرَ أن رجلاً يصوم الدهر فعلاه بالدِّرَّة وجعل يقول: كُلْ يا دهر، كُلْ يا دهر} رواه ابن أبي شيبة (2/492) . ورواه ابن حزم وصححه، كما صحح ابن حجر إِسناده. 7- عن نافع {أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد كان يَسْرُد الصيام قبل أن يموت، قال نافع: وسرد عبد الله بن عمر في آخر زمانه} رواه البيهقي (4/301) 8- عن زرعة بن ثوب يقول {سألت عبد الله بن عمر عن صيام الدهر؟ قال: كنا نَعُدُّ أولئك فينا من السابقين ... } رواه البيهقي (4/301) . وفيه معاوية بن صالح، وثَّقه ناسٌ وضعَّفه يحيى بن سعيد ويحيى بن معين وأبو إسحق الفَزاري. وفيه زُرعة بن ثوب، قال الذهبي في ذيل الضعفاء: مجهول. فيترك هذا الحديث. …الحديث الأول يقول (لا صام من صام الدهر) وفي لفظ ثان (لا صام من صام الأبد) والحديث الثاني يقول (لا صوم فوق صوم داود) وفي لفظ ثان (فصم صيام نبي الله داود عليه السلام، ولا تَزِدْ عليه) وفي لفظ ثالث (لا أفضل من ذلك) والحديث الثالث يقول (من صام الأبد فلا صام ولا أفطر) والحديث الرابع يقول (من صام الدهر ضُيِّقت عليه جهنم) والحديث الخامس يقول (لا صام ولا أفطر) والأثر 6 يقول (فعلاه بالدِّرَّة، وجعل يقول: كل يا دهر) والأثر 7 يقول (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد كان يسرد الصيام ... وسرد عبد الله بن عمر ... ) فعلى ماذا تدل هذه النصوص؟

…إن الناظر فيها لا يجد عناء في استنباط حكم تحريم صيام الدهر، فالحديث الأول بلفظه يحتمل الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم على من صام الدهر، كما يحتمل النفي فهو محتمل، فإذا قرنَّاه بالحديث الثالث والحديث الخامس رجَّحنا أنه أي الحديث الأول يفيد النفي، كما أن الثالث والخامس يفيدان النفي أيضاً، ومعنى النفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف من يصوم الدهر بأنه لم يصم، وهذا يعني أن الصوم هذا غير واقع وغير مقبول، وحيث أنه عبادة والعبادات توقيفية لا دخل للعقل فيها، فإنا نحكم على أية عبادة منفيَّةٍ شرعاً، أي لا وجود لها في الشرع وغير مقبولة، بأنها حرام وتشريعٌ خارجٌ عن شرع الله، فهذه الأحاديث الثلاثة تكفي للدلالة على حرمة صوم الدهر. فإذا أضفنا إليها الحديث الثاني (لا صوم فوق صوم داود) تأكد لدينا بشكل لا يحتمل الخطأ أن صوم الدهر قد نفاه الشرع ولم يُقِرَّه، فإذا أضفنا إلى ما سبق الروايةَ (فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه) ، فإِنَّا نكون قد أضفنا إلى النفي المكرر النهي عن هذا الصيام، فتعاضد النفي مع النهي، ليشكل كل منهما قرينةً للآخر دالةً على الجزم، فيكون صيام الدهر حراماً بلا شك. وبذلك يتضح لنا معنى الحديث الرابع، وهو أن من صام الدهر، الذي نفاه الشرع ونهى عنه، فإنه يكون قد خرج عن طاعة الله ودخل في معصيته، فليس له عندئذٍ من جزاءٍ إلا جهنم. …إن هذه النصوص لتدلُّ دلالة لا لبس فيها ولا غموض على أن صيام الدهر غير مشروع، وغير مقبول، وغير صحيح، وأنه بالتالي حرام لا يجوز. وما كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يضرب الناس ويعاقبهم على فعلٍ لو لم يكن محرَّماً كما جاء في الأثر 6.

…أما الأثر 7 القائل إن عمر وابنه كانا يسردان الصوم، فلا يصح أن يُفهم منه صومُ الدهر، وإنما يفسر بالإكثار من الصوم وتتابعه وتواصله، وهو جائز ولا حُرْمَةَ فيه، وتتابع الصوم وتواصله لا يعني صوم أيام السنة كلها، وإنَّ من لغة العرب استعمالَ تعابير ظاهرُها الديمومة، لتدلَّ على الأعمِّ الأغلب فقط، وهذا موجود بكثرة في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وهو من الكثرة والشيوع بحيث لا يحتاج إلى سوق الأمثلة عليه …ومع كل هذه النصوص التي لا ناسخ لها ولا معارِض يذهب جمهور العلماء إلى القول بجواز صوم الدهر، مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال {يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت، وأفطر إن شئت} رواه مسلم (2626) والبخاري. وقد مرَّ هذا الحديث في بحث [حكم الصيام في السفر] في الفصل [الصيام في السفر] وبالآثار عن الصحابة أنهم كانوا يسردون الصوم، وقد رواها البيهقي في الجزء الرابع في الصفحة (301) والخطأ الذي وقعوا فيه أنهم فسَّروا سرد الصوم بصوم الدهر ولم يفسِّروه بالمواصلة والتتابع، ولو كانوا فسَّروه بالمواصلة والتتابع لما وقعوا في هذا الخطأ. …أما آثار الصحابة فهي ليست أدلة أصلاً حتى تعارِض، أو تخصِّص الأحاديث النبوية الدالة على التحريم، وحتى لو فسَّرناها بصوم الدهر فإنها تُرَدُّ ولا يُلتَفتُ إليها، وهي لا تعدو كونها اجتهاداتِ صحابةٍ نحن غير ملزمين بها، لا سيما إن تعارضت مع النصوص من الكتاب والسنة.

…وأما حديث عائشة عن حمزة بن عمرو فليس دالاً أيضاً على ما ذهبوا إليه، بل هو دالٌّ على عكس ما ذهبوا إليه، فحمزة يقول: إني رجل أسرد الصوم، فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم: صم إن شئت وأفطر إن شئت. وهذا السياق بقليل من إنعام نظر يدل على أن السرد هنا لم يكن صوم الدهر، إذ لو كان حمزة يصوم الدهر كله لما سأل الرسولَ صلى الله عليه وسلم هذا السؤال (أفأصوم في السفر؟) لأنه في هذه الحالة ليس بحاجة إلى هذا السؤال، ثم لو أنَّ حمزةَ كان يصوم الدهر وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وأقرَّه عليه لما أجابه بقوله (صم إن شئت وأفطر إن شئت) وإنما كان يجيبه بقوله مثلاً: لا بد لك من الصوم في السفر، أو أن السفر لا يقطع صيامك، أو أن السفر لا ينافي صوم الدهر، أمَّا وأنه قال له: صم إن شئت وأفطر إن شئت، فإنه يدل على أن السؤال لم يكن عن صوم الدهر، وإنما هو عن الإكثار من الصوم وتتابعه لا أكثر.

…ومما يدلُّ دلالةً مؤكدةً على أن سرد الصيام لا يعني صوم الدهر، وإنما يعني الإِكثارَ من الصيام وتتابعَه فحسب، هو ما جاء في الحديث المروي من طريق أُسامة بن زيد رضي الله عنه عند أحمد (22096) بلفظ {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيام يسردُ، حتى يُقال لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد أن يصوم ... } المار في الفصل [صيام التطوع] في بحث [صوم شعبان] فقد جاء فيه (يسردُ حتى يُقال لا يفطر، ويفطر الأيام ... ) فقد جمع هذا اللفظ بين السردَ والإِفطار، ولو كان السرد يعني الصوم الدائمَ لما جاز هذا الجمعُ. وبارك الله في الترمذي، فقد أدرك أن سرد الصوم يعني التتابع ولا يعني صوم الدهر، ولذا وجدناه عقد باباً سماه [باب ما جاء في سرد الصوم] وأورد تحته الحديث التالي: عن عبد الله بن شقيق قال {سألت عائشة عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان يصوم حتى نقول قد صام ويفطر حتى نقول قد أفطر وما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً إلا رمضان} كما أورد بعده حديثين ليس فيهما ذكرٌ لصوم الدهر، مما يدل على أنه فهم من سرد الصوم الإكثارَ منه فحسب. وحيث أن الأحاديث يفسِّر بعضُها بعضاً، فإن أحاديثنا السابقة كلها تصلح لتفسير حديث حمزة بأنه يدل على التتابع، لكون صوم الدهر فيها منهيَّاً عنه.

…أما قول جمهور العلماء والشافعي إن صوم الدهر جائز أو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوِّت حقاً فالرد عليه هو أن هذا الشرط لا يُتصوَّر تحقُّقه، فالضرر وتفويت الحقوق أمران حاصلان في صوم الدهر ولا بدَّ، فالحديث الأول يقول (إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفِهت له النفس) فقد قرَّر هذا الحديث حصول ضرر من صيام الدهر اللهم إلا أن يقول الجمهور والشافعي وأصحابه إن هجوم العين ونفوه النفس ليسا ضرراً؟! فإذا أضفنا إلى ما نقول الحديثَ التالي الذي يقرِّر أن صيام ثلثي الدهر لا يطيقه أحد، ولا يستطيعه إنسان فضلاً عن صيام الدهر كله، أدركنا الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء، فعن أبي قَتَادة رضي الله تعالى عنه {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه؟ فغضب، فقال عمر: رضيتُ – أو قال – رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً (قال: ولا أعلمه إلا قد قال) وبمحمد رسولاً وببيعتنا بيعة، قال: فقام عمر أو رجل آخر فقال: يا رسول الله رجل صام الأبد؟ قال: لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر، قال: صوم يومين وإفطار يوم؟ قال: ومن يطيق ذلك؟ ... } رواه أحمد (22904) . ورواه مسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة والبيهقي باختلاف في الألفاظ. فقوله عن صوم يومين وإفطار يوم، أي عن صوم ثلثي الدهر (ومن يطيق ذلك؟) كسؤالٍ استنكاريٍّ، يدل دلالة لا تُدحَض على أن صوم الدهر لا يطيقه أحد.

…بل إنَّ عندنا ما هو أبلغ في الحجة وأوضح في الدلالة على أنَّ صوم الدهر غير مستطاع هو الحديث التالي الذي مرَّ في بحث [صيام يوم بعد يوم] من الفصل [صيام التطوع] عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال {أُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومنَّ النهار ولأقومنَّ الليل ما عشتُ، فقلت له: قد قلتُه بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك ... } رواه البخاري (1976) ومسلم وغيرهما. ثم بعد كلِّ ذلك يأتي مَن يقول بجواز صيام الدهر إن كان لا يُلحِقُ ضرراً بصاحبه!! …ويحضرني في هذا المقام الحديث الذي رواه الإمام البخاري (5063) ومسلم والنَّسائي والدارمي وأحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول {جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنَّهم تقالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا واللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأُصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني} قوله كأنهم تقالُّوها: أي رأَوْها قليلة. أليس في هذا الحديث ما يمنع من القول بجواز صوم الدهر فضلاً عن القول باستحبابه؟! أما سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يقوم الدهر ولمن يصوم الدهر ولمن يترك الزواجَ الدهرَ (من رغب عن سنتي فليس مني؟) . …وأما القائلون بالكراهة فإنهم أقل خطأ، إلا أن يعنوا بها كراهةَ تحريمٍ لا كراهة تنزيه. فالحق الذي لا مراء فيه هو أن صوم الدهر حرام لا يجوز، وهو ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.

صوم يومي الفطر والأضحى

صومُ يومي الفطر والأضحى: …اتفقت كلمة الفقهاء والأئمة من السلف والخلف على أن صوم يومي الفطر والأضحى حرام لا يجوز لا يُعلم لهم مخالِف، وهذه طائفة من الأدلة على هذه المسألة: 1- عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال {شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون فيه من نُسُكِكم} رواه البخاري (1990) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي ومالك وأحمد وابن ماجة. 2- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومين: يوم الفطر ويوم الأضحى} رواه مسلم (2676) وابن أبي شيبة. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر} رواه مسلم (2672) والبخاري ومالك وأحمد والبيهقي. 4- عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الفطر والنحر ... } رواه البخاري (1991) ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجة. 5- وعنه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ... ولا صوم في يومين: الفطر والأضحى ... } رواه البخاري (1995) ومسلم والدارمي. ورواه أحمد (11368) بلفظ { ... ولا صيام يوم الفطر ولا يوم الأضحى} ورواه ابن حِبَّان (3599) بلفظ {لا صوم في يوم عيد} . 6- وعنه رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول {لا يصلح الصيام في يومين: يومِ الأضحى، ويومِ الفطر من رمضان} رواه مسلم (2673) والبخاري وأبو داود والترمذي.

صوم أيام التشريق

…الأحاديث الخمسة الأولى ورد فيها نهيٌ عن صيام العيدين، مراتٍ بلفظ (نهى) ومراتٍ أُخرى بلفظ (لا صوم، ولا صيام) والحق أن النهي بهذه الألفاظ هو مجرد نهي، لا يُعلَم إِن كان نهياً جازماً يفيد التحريم، أو كان نهياً غير جازم يفيد الكراهة، فلنبحثْ عن القرينة التي تحدِّد وتعيِّن أيَّ الحُكْمين هو المقصود، وقد وجدنا هذه القرينة في الحديث السادس في كلمة (لا يصلح) التي تدل على أن النهي هنا هو نهيٌ جازم وأنه للتحريم، وهذا الحديث مثل الحديث الذي رواه مسلم (1199) والنَّسائي وأحمد والدارمي من طريق معاوية بن الحكم السلمي، رضي الله عنه بلفظ { ... إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... } وجاءت رواية أبي داود (930) تفسِّر هذا الحديث { ... إن هذه الصلاة لا يحلُّ فيها شيء من كلام الناس هذا ... } فقد فسَّرت روايةُ أبي داود اللفظةَ الواردة عند مسلم (لا يصلح) بلفظة (لا يحل) وإذن فإن لفظة (لا يصلح الصيام) الواردةَ في الحديث السادس تُفسَّر بـ (لا يحل الصيام) وقد مرَّ حديث مسلم بتمامه ورواية أبي داود في بحث [القنوت] في الفصل السابع في القسم الثاني من الكتاب [الجامع لأحكام الصلاة] . صومُ أيام التشريق:

…ذهب مالك والأوزاعي، وأحمد وإسحق بن راهُويه في رواية عنهما، إلى تحريم الصوم في أيام التشريق إلا للحاج المتمتِّع الذي لا يجد الهَدْيَ، ورُوي ذلك عن عائشة وابن عمر وعروة بن الزبير وعبيد بن عمير. وذهب أبو حنيفة وأحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في المشهور عنه، وداود بن علي وابن حزم وابن المنذر والليث بن سعد والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح إلى التحريم مطلقاً، ورُوي ذلك عن علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما. إلا أن أصحاب الشافعي قالوا بجواز الصيام في أيام التشريق إن كان لسببٍ: من نذرٍ أو كفَّارةٍ أو قضاءٍ فقط، أما ما لا سبب له فلا يجوز بلا خلاف. فيما ذهب الزبير بن العوام وأبو طلحة وعبد الله بن عمر والأسود بن يزيد وابن سيرين فيما رُوي عنهم، إلى الجواز مطلقاً. وحتى نقف على الحكم الصائب في هذه المسألة بإذن الله، دعونا نستعرض النصوص التالية: 1- عن نُبَيْشَةَ الهُذَلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أيام التشريق أيام أكل وشرب} رواه مسلم (2677) والبيهقي والطحاوي. ورواه أحمد (20997) ولفظه {أيام التشريق أيام أكل وشرب وذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ} وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي تَعْقب يوم الأضحى 2- عن كعب بن مالك رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوسَ بنَ الحَدَثان أيام التشريق، فنادى: إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام مِنى أيام أكل وشرب} رواه مسلم (2679) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. 3- عن أم مسعود بن الحكم رضي الله تعالى عنها قالت {كأني أنظر إلى علي بن أبي طالب على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء يقول: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أيام التشريق أيام أكل وشرب ليس بأيام صيام} رواه النَّسائي (2901) في السنن الكبرى وأحمد وابن خُزيمة والحاكم وأبو يعلى.

4- عن عاصم بن سليمان عن المطلب قال {دعا أعرابياً إلى طعامه، وذلك بعد يوم النحر، فقال الأعرابي: إني صائم، فقال: إني سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني، ينهى عن صيام هذه الأيام} رواه ابن خُزيمة (2148) والنَّسائي وعبد الرزاق. وللنَّسائي أيضاً (2914) في السنن الكبرى بلفظ {أيام التشريق أيام أكل وشرب وصلاة فلا يصومنَّها أحد} . 5- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال {أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أيام مِنى: إنها أيام أكل وشرب فلا صومَ فيها، يعني أيام التشريق} رواه أحمد (1456) . وروى البزَّار هذا الحديث (1067) دون قوله (فلا صوم فيها) قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] . 6- عن أُم عمرو بن سليم الزرقي رضي الله عنها أنها قالت {بينما نحن بمنى إذا علي ابن أبي طالب على جمل، وهو يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه أيامُ طُعْمٍ وشُربٍ فلا يصومنَّ أحدٌ، فاتَّبعَ الناسُ} رواه أحمد (824) والشافعي 7- عن حبيبة بنت شريق رضي الله عنها {أنها كانت مع ابنتها، ابنةِ العجماء في أيام الحج بمنى، قال: فجاءهم بديل بن ورقاء على راحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برَحْلِهِ فنادى: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كان صائماً فليفطر، فإنها أيام أكل وشرب} رواه الحاكم (2/250) والطبراني في المعجم الأوسط. 8- عن أبي مُرَّة مولى أم هانيء {أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص، فقرَّب إليهما طعاماً، فقال: كل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: كل، فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها، قال مالك: وهي أيام التشريق} رواه أبو داود (2418) وابن خُزيمة والدارمي وأحمد والحاكم والبيهقي وابن المنذر. وصححه الحاكم وابن خُزيمة.

9- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يومُ عرفةَ ويومُ النحر وأيامُ التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب} رواه أبو داود (2419) والنَّسائي والترمذي وأحمد والدارمي وابن حِبَّان وابن خُزيمة. 10- عن أبي الشعثاء قال {أتينا ابن عمر في اليوم الأوسط من أيام التشريق، قال: فأُتي بطعام، فدنا القوم وتنحَّى ابنٌ له، قال: فقال له: ادن فاطْعَمْ، قال: فقال: إني صائم، قال: فقال: أما علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها أيام طُعْمٍ وذِكْرٍ؟} رواه أحمد (4970) . قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] . …باستعراض هذه الأحاديث، نجد أنَّ الأول والثاني والسابع قد ذكرت أن أيام التشريق هي أيام أكل وشرب، وجاء الرابع في رواية النَّسائي بزيادة (الصلاة) وجاء العاشر بزيادة (الذِّكْر) وإذن فإن هذه الأحاديث قد وصفت أيام التشريق بأنها أيام أكلٍ وشربٍ وصلاةٍ وذِكْرٍ.

…وقد استنبط عدد من العلماء من كون الأحاديث تذكر أن أيام التشريق هي أيام أكل وشرب أن الصيام فيها حرام لا يجوز. والحق أن هذا الاستنباط غير صحيح، لأن مجرد وصف أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب لا يكفي دليلاً على التحريم. ولكن الأحاديث لم تقتصر على هذا الوصف وإنما أضافت إليه نفي الصوم فيها والنهي عنه، ففي الحديث الثالث جاء (ليس بأيام صيام) وفي الحديث الرابع في رواية النَّسائي وفي الحديث السادس جاء (فلا يصومنَّها أحد) وفي الحديث الخامس جاء القول (فلا صوم فيها) ثم جاء النهي منطوقاً في الحديثين الرابع والثامن (ينهى عن صيام هذه الأيام) ، (وينهانا عن صيامها) فصار للقول بالتحريم حجة إذ أن قول الحديث الرابع (فلا يصومنَّها أحد) وقول الحديث السادس (فلا يصومنَّ أحد) قد جاءا بصيغة التوكيد، وهذه الصيغة تدل على العزم والتصميم والإلزام، فصح الاستنباط من هذه النصوص بأن النهي عن الصوم في أيام التشريق هو نهي جازم يفيد التحريم. فإذا وجدنا في الحديث السابع (من كان صائماً فلْيفطر) أدركنا وتأكد لنا فعلاً أن النهي عن الصيام هو نهي جازم يفيد التحريم، ذلك أن أمر الصائم بالإفطار ما كان يصح ويجوز لو كان الصوم جائزاً مقبولاً، ولا يصح فعلاً إلا أن يكون الصيام غير جائز، ووجب قطعه بالإفطار. ومثله الحديث الثامن، فعمرو بن العاص أمر ابنه الصائم في تلك الأيام بالأكل وقطْعِ صيامِه، فلما امتنع ابنه عن قطع الصيام لم يتردد عمرو في توجيه الأمر مرة ثانية لابنه بالإفطار، مستدلاً بأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصائمين آنذاك بالإفطار وينهاهم عن الصوم، ومثله في الدلالة الحديث العاشر. فهذه الأحاديث الثلاثة – السابع والثامن والعاشر – تصلح قرائن بل وأدلة على أن النهي عن صيام أيام التشريق إنما هو نهي جازم دالٌّ على التحريم.

…بقيت مسألة الحاج المتمتع الذي لا يجد الهَدْيَ أي لا يجد شاةً يذبحها، أو يجدها ولكنه لا يملك ثمنها، هل يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة في الحج في أيام التشريق؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من استعراض النصوص المتعلقة بهذه المسألة: 1- قال تعالى { ... فمن تمتَّعَ بالعُمْرةِ إلى الحجِّ فما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي فمنْ لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ وسَبْعةٍ إذا رَجَعْتُمْ تلك عَشَرَةٌ كاملةٌ ... } من الآية 196 من سورة البقرة. والهَدْي هنا: الشاة تُذبَح. 2- عن عائشة وابن عمر رضي الله تعالى عنهما قالا {لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهَدْي} رواه البخاري (1997-1998) والدارَقُطني والبيهقي وابن أبي شيبة والطبري. 3- عن علي رضي الله عنه في قوله {فصيام ثلاثة أيام في الحج، قال: قبل التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة} رواه البيهقي (5/25) والطبري وابن أبي شيبة وعبد الرزاق. 4- عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله {فصيام ثلاثة أيام في الحج، قال: يومٌ قبل التروية، ويومُ التَّرْوِية، ويومُ عرفة، وإذا فاته صامها أيام منى} رواه ابن جرير الطبري (2/247) ومحمد بن المنذر والدارَقُطني والبيهقي وابن أبي شيبة. 5- وعنه رضي الله عنه قال {الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هَدْياً ولم يصم، صام أيام منى} رواه البخاري (1999) ومالك والشافعي والبيهقي. 6- عن ابن عباس رضي الله عنه {قوله (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) إلى (وسبعةٍ إذا رجعتم) وهذا على المتمتِّع بالعمرة إذا لم يجد هدياً، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه، وسبعة إذا رجع إلى أهله} رواه ابن جرير الطبري (2/248) .

…قوله في الآية الكريمة {فصيام ثلاثة أيام في الحج} فسَّرها علي وابن عمر وابن عباس في الآثار 3، 4، 6 بأن الصيام يُؤدَّى قبل عرفة، أو يُؤدَّى آخِرُه يومَ عرفة، وهذا يعني عدم تأديتها في أيام التشريق، وذلك لورود النهي عن صيام أيام التشريق. ولكن وحيث أن صيام هذه الأيام الثلاثة واجب شرعاً، وحيث أن أيام التشريق هي آخر أيام الحج، فإنَّ من لم يصم هذه الأيام الثلاثة في وقتها أجاز له الشرع أن يصومها في أيام النهي، أي في أيام التشريق. …وإذن فإن الصيام في أيام التشريق لمن فاته صيام الأيام الثلاثة هو رخصة، وهو ما جاء في الحديث الثاني (لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهَدْي) وحتى هذه الرخصة قد قُيِّدت بمن لم يتمكن من الصيام وليس على إطلاقها لأن الأصل كما قلنا هو أن تُصام الأيام الثلاثة قبل أيام التشريق وهذا المعنى مذكور في الأثر الرابع (وإذا فاته صامها أيام منى) ومذكور في الأثر الخامس (فإن لم يجد هدياً ولم يصم، صام أيام منى) والآثار وهي أقوالُ الصحابة، وإن كانت غير أدلة، إلا أنها أحكام شرعية يصح تقليدها واتِّباعها، وهنا جاءت أقوال الصحابة تشرح وتفسِّر الآية الكريمة فيصح قبول هذا الشرح والتفسير لا سيما وأنهم أقدر المسلمين على فهم الآيات وبيان مدلولاتها.

صوم الوصال

…وعليه فإنَّا نقول إن الفريق الأول قد أصابوا فيما ذهبوا إليه من تحريم الصوم في أيام التشريق إلا للحاج المتمتِّع الذي لا يجد الهَدْيَ. وأضيف إلى قولهم [وقد فاته الصيام] وهي إضافة لا بد منها. أما أصحاب الشافعي فإنهم مصيبون فيما ذهبوا إليه لو كانوا قد حصروا السبب في فوات صيام الأيام الثلاثة قبل أيام التشريق، ومخطئون فيما ذهبوا إليه من تعدُّد الأسباب كالنذر والكفَّارة والقضاء، لأن النصوص لا تدلُّ إلا على سبب واحد، وهو فوات الصيام قبل أيام منى فحسب، وليس النذر ولا الكفَّارة ولا القضاء مما رخَّص فيه الشرع هنا، والأصل في المسلم التقيد بالنصوص ولا سيما في العبادات. صومُ الوِصال: …الوِصال هو مواصلة الصوم يوماً وليلة أو أكثر دون إفطار. وقد ذهب أحمد وإسحق، ومن الشافعية محمد بن المنذر وابن خُزيمة وابن حجر، وجماعة من المالكية إلى جواز الوِصال إلى السَّحر، أي صيام نهارٍ وليلٍ بعده إلى آخره. وحكى محمد بن المنذر كراهة الوصال عن مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحق، وهو قول ابن قدامة. وقال ابن حجر: ذهب الأكثرون إلى تحريم الوِصال وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة، هكذا اقتصر عليه النووي. وقد نصَّ الشافعي في الأم على أن الوصال محظور. وحرَّمه ابن حزم. وفي المقابل أجازه عبد الله بن الزبير وابنه عامر وأخت أبي سعيد وأبو الجوزاء وإبراهيم التيمي. وحتى نستطيع استنباط الحكم الصائب في هذه المسألة لا بدَّ لنا من استعراض النصوص التالية: 1- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوِصال رحمةً لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقينِ} رواه البخاري (1964) ومسلم والنَّسائي.

2- عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم، إني أُطْعَم وأُسقَى} رواه مسلم (2563) والبخاري وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إياكم والوصال، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: إنكم لستم في ذلك مثلي، إني أَبيتُ يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما تطيقون} رواه مسلم (2567) . ورواه ابن خُزيمة (2071) وأحمد ومالك وابن أبي شيبة بلفظ {إياكم والوصال قالها ثلاثاً} ورواه الدارمي (1704) وابن حِبَّان بلفظ {إياكم والوصال، مرتين ... } . 4- عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل؟ قال: لست كأحدٍ منكم، إني أُطعَم وأُسقَى، أو إِني أَبيتُ أُطْعَم وأُسْقَى} رواه البخاري (1961) وأحمد وابن حِبَّان وابن أبي شيبة والدارمي. ورواه الترمذي وقال [والعمل على هذا عند بعض أهل العلم كرهوا الوِصال في الصيام ورُوي عن عبد الله بن الزبير أنه كان يواصل الأيام ولا يفطر] . 5- عن ليلى امرأة بشير – بن الخصاصيَّة – قالت {أردتُ أن أصوم يومين مواصلةً، فمنعني بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: يفعل ذلك النصارى ... } رواه أحمد (22301) والطبراني في المعجم الكبير وسعيد بن منصور وعبدُ بن حميد بإسناد صحَّحه ابن حجر. 6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السَّحَر، ففعل بعض أصحابه فنهاه، فقال: يا رسول الله إنك تفعل ذلك؟ قال: لستم مثلي، إني أظلُّ عند ربي يطعمني ويسقيني} رواه ابن خُزيمة (2072) بسند صحيح.

7- عن أبي ذر رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل بين يومين وليلة فأتاه جبريل فقال: إن الله عزَّ وجلَّ قد قَبِل وِصالك ولا يحلُّ لأحدٍ بعدك، وذلك بأن الله تبارك وتعالى يقول (وأتموا الصيام إلى الليل) ولا صيام بعد الليل، وأمرني بالوتر بعد الفجر} رواه الطبراني في المعجم الأوسط (3162) . وفيه عبد الملك، قال الهيثمي [ولم أعرف عبد الملك] وقال ابن حجر: ليس إسناده بصحيح، فلا حجة فيه. 8- عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُب رضي الله تعالى عنه قال {نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نواصل وليس بالعزيمة} رواه البزَّار (1024) والطبراني في المعجم الكبير. قال الهيثمي [إسناده ضعيف] . 9- عن علي رضي الله تعالى عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السَّحَر} رواه أحمد (700) وابن أبي شيبة والطبراني في المعجم الكبير. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] وأخرجه عبد الرزاق (7752) من طريق محمد بن علي بلفظ {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سَحَرٍ إلى سَحَرٍ} . 10- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمهما، إِبقاءً على أصحابه، فقيل له: يا رسول الله إنك تواصل إلى السحر؟ فقال: إني أُواصل إلى السحر، وربي يطعمني ويسقيني} رواه أبو داود (2374) وأحمد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة. وصحح ابن حجر إسناده وقال [هو من أحسن ما ورد في ذلك] .

11- عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله سلم يقول {لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يواصل فلْيواصل حتى السَّحَر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطْعِمٌ يُطعمني، وساقٍ يَسقيني} رواه البخاري (1963) وأبو داود وأحمد وابن حزم. قال ابن حزم [ورويناه أيضاً مُسْنداً صحيحاً من طريق أم المؤمنين عائشة وأنس وأبي هريرة وابن عمر كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] وقال البخاري [ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه رحمةً لهم وإبقاءً عليهم وما يُكْرَه من التعمُّق] . 12- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأيُّكم مثلي؟ إني أَبِيتُ يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخَّر الهلال لزدتكم، كالمنكِّلِ لهم حين أبوا أن ينتهوا} رواه مسلم (2566) والبخاري والنَّسائي وأحمد وابن حِبَّان وابن حزم والدارمي. وفي رواية ثانية لمسلم (2570) وأحمد وابن خزيمة بلفظ { ... قال: فأخذ يواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك في آخر الشهر، فأخذ رجالٌ من أصحابه يواصلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال رجالٍ يواصلون؟ إنكم لستم مثلي أما والله لو تمادَّ لي الشهرُ لواصلت وصالاً يدع المتعمِّقون تعمُّقَهم} .

…الحديثان في البندين 7، 8 ضعيفان فيتركان ولا يُحتجُّ بهما. لقد جاء النهي عن الوصال بألفاظٍ ثلاثة (نهى عن الوصال) في الأحاديث 1، 2، 5، 10، 12 و (إياكم والوصال) في الحديث 3 و (لا تواصلوا) في الحديثين 4، 11. فهذا النهي بألفاظه الثلاثة ردٌّ على من قالوا بجواز الوصال وإباحته، فلم تبق إلا الكراهة أو التحريم، فلننظر في الأحاديث مرة أخرى باحثين عن الدليل أو القرينة التي تحدِّد أياً من الحُكْمين هو المشروع. …جاء في الحديث الرابع، رواية ابن خُزيمة (إياكم والوصال، قالها ثلاثاً) أي جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إياكم والوصال، إياكم والوصال، إياكم والوصال) وما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدِّد في النهي عن الوصال هذا التشديد إلا لأنه حرام لا يجوز، فالتكرار يصلح قرينة على أن النهي نهيٌ جازم. ثم جاء الحديث الثاني عشر يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاقب الذين واصلوا وأبَوْا أن ينتهوا عن الوصال أي رفضوا النهي عن الوصال، ووصف العقوبة بأنها تنكيلٌ حين أَبَوْا أن ينتهوا، ولا يكون كل ذلك إلا دالاً على أن النهي هو نهي جازم يفيد التحريم، ولو كان النهي غير جازم لما عاقبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما نكَّل بهم. فهذا الحديث يدلُّ لفظه على أن النهي الوارد في الأحاديث هو نهي جازم. …ثم جاءت الرواية الثانية عند مسلم تؤكِّد الجزم والإلزام بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أما والله لو تمادَّ لي الشهرُ لواصلتُ وصالاً يدع المتعمِّقون تعمُّقَهم) فقد وصف الذين يواصلون بأنهم متعمِّقون، وتوعدهم بوصالٍ طويلٍ كعقوبة، حتى يلتزموا بالنهي ويَدَعوا الوصال. فالتوعُّد بالعقوبة قرينةٌ، ووصفُهم بالتعمُّقِ قرينةٌ ثانيةٌ على أن النهي عن الوصال في الأحاديث هو نهي تحريم، وليس نهي كراهة فقط.

…أما التوعد بالعقوبة فظاهر، وأما وصفهم بالتعمُّق فلأن التعمُّق في الشرع حرام ومحظور، فعن عبد الله – بن مسعود – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {هلَك المتنطِّعون، قالها ثلاثاً} رواه مسلم (6784) وأبو داود وأحمد. والمتنطِّعون من التنطُّع وهو التعمُّق قاله صاحب مختار الصحاح وصاحب أساس البلاغة وصاحب لسان العرب وغيرهم. فالتنطُّع لغةً هو التعمُّق. فقوله في الحديث: هلك المتنطِّعون، أي هلك المتعمِّقون، ولا يقال ذلك إلا إذا كان التعمُّق حراماً. …وأخيراً جاء الحديث الخامس يصف الوصال بأنه فعل النصارى، وهو من أبلغ صيغ القول على إرادة التحريم وذلك أن تقليد الكفار في شؤون الدين حرام لا يجوز. …ثم إن الصوم عبادة والعبادة حتى تصح ويجوز فعلها لا بد من أن تَرِدَ في الشرع فإن لم تَرِدْ في الشرع لم يصح فعلها، لأنها لا تكون عبادة أصلاً. وكذلك الوصال في الصوم، فإنه حتى يكون عبادةً شرعاً ومن ثمَّ يصح فعلُه، لا بد من أن يَرِدَ في الشرع، فإن ورد في الشرع واصلنا، وإلا توقفنا عنه، فإن لم نفعل نكن قد عبدنا الله سبحانه بغير ما شرع، وهو حرام لا يجوز، فأين الدليل على جواز الوصال؟ …فإن قال قائل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يواصل، أجبناه بقوله عليه وآله الصلاةُ والسلام (إني لست كهيئتكم) ، (إنكم لستم في ذلك مثلي) (لست كأحدٍ منكم) ، (لستم مثلي) ، (وأيُّكم مثلي؟) وهذه من أبلغ الصيغ على أن الوصال من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي لأحد أن يفعله، أو أن يدَّعي أنه مشروع لغيره صلى الله عليه وسلم. فما اختصَّ به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُشرع للمسلمين وإنما شُرع له فحسب، فكان مقصوراً عليه وحده، وهذا معلوم لكلِّ عالم وفقيه.

…فإن قال قائل: إن الحديث الأول يبيِّن أن النهي عن الوصال إنما هو رحمة بالناس، وأن الحديث العاشر يقول (نهى عن الحجامة والمواصلة ولم يحرِّمْهما إبقاءً على أصحابه) وهذا تعليل للنهي عن الوصال، والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإن وجدت العلة وُجد الحكم وإن انتفت العلة انتفى الحكم، فالشخص إن كان قادراً على الوصال فقد انتفت في حقِّه علةُ الرحمة به والإبقاء عليه؟ أجبناه بما يلي: …إن تعليل النهي عن الوصال بالرحمة، والإبقاء على الناس هو من قول عائشة في الحديث الأول، ومن قول صحابيٍّ في الحديث العاشر، وليس هو من لفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعائشة ذكرت أن النهي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو رحمة بالناس، والصحابي ذكر أن النهي منه إنما هو للإبقاء على الناس، ثم إنَّ هذا التعليل كان يمكن قبوله لو لم ترد نصوصٌ صريحةٌ تحظر الوصال على إطلاقه فيُترك هذا التعليل ولا يُلتفت إليه. …ثم إن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال لأمرين: أولاً لأنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام كما بيَّنَّا، وثانياً لأنه تعمُّق في الدين، ولم يذكر الرحمة ولم يذكر الإبقاء على الناس، فنقف عند ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وندع ما ظنَّته عائشة وما ظنه الصحابي. …وأقول مثل ذلك بخصوص قول الصحابي في الحديث العاشر (نهى عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما) فهو وإن كان قوله (نهى عن الحجامة والمواصلة) يعتبر مرفوعاً ومن ثمَّ يجب قبوله، فإن قوله (ولم يحرمهما) هو اجتهادٌ وفهمٌ لهذا الصحابي فيما نقله، ونحن لسنا بملزمين باجتهاد الصحابي ولا بفهمه، لا سيما وقد جاءت النصوص تعارض هذا الاجتهاد والفهم.

الفصل السابع: الكفارات

…وقد يقول قائل: إن الحديث الحادي عشر قد شَرع للمسلمين الوصال حتى السحر، فكان الوِصال للمسلمين مشروعاً، فنقول له: إنه تخصيصٌ للعام، والشرع يملك تخصيص العام طبعاً، فالشرع الذي حرَّم عموم الوصال، أخرج الوصال إلى السحر من هذا العموم، بمعنى أنه قد أجاز الوصال إلى السَّحر وحده ولم يُجِزْ غيره، ولم يخصِّص غيره، ولم ينسخ الحكم العام، بل بقي الحكم العام قائماً، وهذا ظاهر في الحديث الحادي عشر نفسه، فأوَّلُه يقول (لا تواصلوا) هكذا على إطلاقه، ثم قال (فأيُّكم أراد أن يواصل فلْيواصل حتى السَّحَر) ولا ينسخ القولُ الثاني القولَ الأول طبعاً، فالقول الأول باق، والقول الثاني باقٍ هو الآخر، وكلاهما مشروع، ولا يلغي ولا ينسخُ أحدُهما الآخر. …وعليه فإنا نقول إن الوصال أكثر من يوم وليلة حتى السحر، أي موعد تناول السَّحور، حرام لا يجوز، ويزداد حُرمةً كلما زاد الوصال وطال، فالوصال يومين حرام والوصال ثلاثة أيام أشدُّ حرمة، وهكذا، لأن الزيادة في الحرام زيادة في التعدِّي على شرع الله وأمرِ الله، وتمادٍ في المعصية. …ومن ذلك يظهر أن ما ذهب إليه الأكثرون من تحريم الوصال هو الصحيح، ويظهر بظهوره أن القول بالكراهة خطأ فضلاً عن القول بالجواز. صومُ الحائض والنُّفَساء: …لا يحل لامرأةٍ حائضٍ ولا لنُفَساء أن تصوما في حالتي الحيض والنفاس، وقد مرَّ هذا البحث بتمامه في الفصل [صيام رمضان – أحكامٌ عامة] . صومُ المرأة تطوُّعاً بدون إذن زوجها: …لا يحل لزوجة أن تصوم تطوعاً إلا بإذنٍ من زوجها، وقد مرَّ هذا البحث بتمامه تحت عنوان [صوم المرأة بإذن زوجها] في الفصل [صيام التطوع – أولاً: أحكامٌ عامة] . الفصل السابع: الكفَّارات الفصل السابع الكفَّارات أ – الكفَّاراتُ بالصيام صيامُ شهرين متتابعين: أولاً: صيامُ الظِّهار:

…الظِّهارُ هو قول الزوج لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، ومثله كظهر أختي، أو كظهر عمتي، أو كظهر خالتي، أو كظهر أية امرأة يحرم عليه الزواج منها. وهو يقصد من هذا القول أن يُحرِّم جماع زوجته. …وكفَّارة الظهار تحرير رقبة أولاً، وحيث أنه لا يوجد عبيد اليوم، فإن الكفَّارة تبدأ اليوم بصيام شهرين متتابعين، وهذا لمن يقوى عليه، فإن كان عاجزاً عن الصوم لمرض أو شيخوخة أو ضعفٍ وهزالٍ أطعم ستين مسكيناً وجبةً واحدة لكل واحد منهم …وتجب الكفَّارة على الزوج إن هو أراد العود، أي أراد جماع زوجته، وقبل أداء الكفَّارة لا تحل له، وبمعنى آخر تجب الكفَّارة عندما يعود عن قوله بتحريم جماع زوجته إلى القول بأنها تحلُّ له، وعندما يقول إن زوجته تحلُّ له، آنذاك تجب عليه الكفَّارة وقبل أن يجامع. …وهذه الأحكام وإن كانت ليست في باب الصيام، ولكنني أوردتها مختصرة وبدون سوق الأدلة عليها لإفادة القراء الكرام، ولما لها من اتصال بموضوع الصيام، والدليل على أن كفَّارة الظِّهار هي صيام شهرين متتابعين قولُه تعالى {الذين يُظاهِرون مِنْكُم مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إنْ أُمَّهاتُهُم إلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وإِنَّهم لَيَقُولون مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً وإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ? والذين يُظاهِرون من نِسائِهم ثم يعودون لِمَا قالوا فتحريرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسَّا ذلكم تُوعَظون به واللهُ بما تعملونَ خبيرٌ ? فمَنْ لم يجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ مِنْ قَبْل أن يتماسَّا فَمَنْ لَم يستطعْ فإِطعامُ ستينَ مِسكيناً ذلك لِتُؤمنوا باللهِ ورسولِه وتلك حدودُ اللهِ وللكافرين عذابٌ أليمٌ} سورة المجادلة الآيات 2، 3، 4. ثانياً: صيامُ القاتل خطأً:

…من قتل نفساً بريئة خطأً فقد وجب عليه أولاً عِتقُ رقبة، أي تحرير عبد، ودفعُ ديةٍ إلى أهل القتيل، ولا يدفعها القاتل من ماله، وإنما تدفعها العاقلة من أموالها، وحيث أن العبيد لم يعودوا موجودين في أيامنا هذه، فإن المحصلة هي أن من قتل نفساً بريئة خطأً فعليه صوم شهرين متتابعين، وعلى عاقلته دفعُ الدية لأهل القتيل. …أما صوم الشهرين فإنه لا بد من تتابعه وعدم قطعه إلا لعذرِ المرضِ، أو لعذر الحيض أو النِّفاس إن كان القاتل امرأةً. وقد روى الطبري في تفسيره عن سعيد بن المسيِّب وعن الحسن وعن عطاء وعن عمرو بن دينار وعن عامر الشعبي قولَهم إِن من صام شهرين متتابعين ثم أفطر من عذرٍ كمرض أنه يُتمُّ ما بقي ويعتدُّ بما مضى. وهو قول صحيح. …وجاء في الموطأ (1/254) [قال يحيى: وسمعت مالكاً يقول: أحسنُ ما سمعت فيمن وجب عليه صيام شهرين متتابعين في قتلِ خطأٍ أو تظاهُرٍ فعرض له مرض يغلبه ويقطع عليه صيامه أنه إن صحَّ من مرضه وقوي على الصيام، فليس له أن يؤخِّر ذلك، وهو يبني على ما قد مضى من صيامه، وكذلك المرأة التي يجب عليها الصيام في قتل النفس الخطأ إذا حاضت بين ظهري صيامها أنها إذا طهُرت لا تؤخِّر الصيام، وهي تبني على ما قد صامت، وليس لأحدٍ وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله أن يفطر إلا من علة: مرضٍ أو حيضةٍ وليس له أن يسافر فيفطر] وهو بيان صحيح.

صيام من جامع زوجته في نهار رمضان

…والدليل على أن كفَّارة القاتل خطأً من الصيام هي صيامُ شهرين متتابعين، قولُه تبارك وتعالى {وما كان لمُؤمنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلا خَطأً وَمَنْ قَتَلَ مؤمناً خَطأً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمةٌ إلى أهلِه إلا أن يَصَّدَّقوا فإِن كان من قومٍ عدوٍّ لكم وهو مؤمنٌ فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ فدِيَةٌ مسلَّمةٌ إلى أَهلِهِ وتحريرُ رقبةٍ فمن لم يجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ توبةً من اللهِ وكان اللهُ عليماً حكيماً} الآية 92 من سورة النساء. ثالثاً: صيامُ مَن جامع زوجته في نهار رمضان: …لا يجوز لصائم أن يجامع زوجته إلا في الليل بعد أن يفطر، فإِنْ واقَعَ زوجته وهو صائم فقد أفطر، ووجب عليه عندئذٍ أن يُعْتق رقبة، أي يُحرِّر عبداً من الرِّقِّ، فإن لم يجد رقبة يعتقها، كما هو حاصل في أيامنا هذه، فقد توجَّب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يكن في استطاعته صوم الشهرين لمرضٍ أو عجزٍ أطعم ستين مسكيناً، والأدلة على ذلك ما يلي: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكتُ، قال: ويحَك، قال: وقعتُ علي أهلي في رمضان، قال اعتقْ رقبةً، قال: ما أَجدُها، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: فأَطعمْ ستين مسكيناً، قال: ما أَجد، فأُتي بعَرَقٍ فقال: خذه فتصدَّق به، فقال: يا رسول الله أَعَلى غيرِ أهلي؟ فوالذي نفسي بيده ما بين طُنُبَيِ المدينةِ أحوجُ مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، قال: خذه} رواه البخاري (6164) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد والدارمي. قوله ما بين طُنُبي المدينة: أي ما بين طرفي المدينة. والعَرَق، وهو الزِّنْبيل، يساوي خمسةَ عشرَ صاعاً.

2- وعنه رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يُعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يُطعم ستين مسكيناً} رواه مسلم (2599) وأبو داود وأحمد ومالك والبيهقي. …الحديث الثاني جاء عاماً (رجلاً أفطر في رمضان) وجاء الحديث الأول خاصاً بمن أفطر بالجماع، فيُحمل العام وهو الحديث الثاني على الخاص وهو الحديث الأول، فنقول إِنَّ من أفطر بالجماع في رمضان، فقد وجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، طبعاً إن كان في استطاعته ذلك وإلا سقط عنه الصوم وانتقل إلى إِطعام ستين مسكيناً. …أما كيفية صيام الشهرين، فإن الأحاديث اشترطت التتابع (شهرين متتابعين) وهو ما ذهب إليه الفقهاء والعلماء كافةً، إلا ما رُوي عن ابن أبي ليلى ورواية ضعيفة عن مالك، فقد قالا بجواز التفريق. واشترط جمهور الفقهاء أن لا يكون رمضان أحد الشهرين، وأن لا يكون فيهما أيامُ نهيٍ عن الصوم،كالعيدين وأيام التشريق. وذهب الأحناف والشافعية إلى أن التتابع ينقطع ولو أفطر لعذرٍ إلا الحيض والنفاس، فإنهما لا يقطعان التتابع. وذهبت المالكية إلى أن التتابع ينقطع إذا أفطر عامداً قبل اكتمال الشهرين. فأقول ما يلي:

…أما قول ابن أبي ليلى فهو قولٌ شاذ لا يُلتفت إليه ولا يحلُّ العمل به لأنه معارِض ومعانِد للأحاديث القائلة بالتتابع. أما قول الجمهور أن لا يكون رمضان أحد الشهرين فظاهر الصحة، بل هو أمر بديهي. وأما قولهم أن لا يكون فيهما أيامُ نهي، وقول الأحناف والشافعية إن التتابع ينقطع ولو أفطر لعذر إلا الحيض والنفاس، فليس دقيقاً وليس صحيحاً كله. أما أنه ليس صحيحاً كله، فإن قول الجمهور أَنْ لا يكون فيهما أيام نهي غير صحيح، وأما قول الأحناف والشافعية إن التتابع ينقطع ولو أفطر لعذر إلا الحيض والنفاس فإنه ليس دقيقاً، وذلك أن الشرع الحنيف لم يُحدِّد أشهراً للصوم، وذلك يعني أن أي شهرين متتابعين من الأشهر الأحد عشر، باستثناء رمضان طبعاً، يصلحان للصوم ككفَّارة، فمن حظر الصوم في شهر ذي الحجة فليس له دليل، ومن حظر الصوم في شهر شوال فليس له دليل، ثم إن التتابع لا ينقطع حكماً إن تخلله عذر مانع من الصوم، فالحيض عذر والنفاس عذر، والتوقف عن صوم يومي العيدين وأيام التشريق عذر والمرض الذي يعجز صاحبه عن الصوم عذر وليس عُذر من هذه الأعذار بأقل من غيره حتى نفرِّق بينها، فهذه الأعذار لا تلغي التتابع إن هي وُجدت في خلال الشهرين، وإنما يبقى التتابع قائماً ومُجْزِئاً. …أما عذر السفر خاصَّةً، فهو عذر دون تلك الأعذار، ومثله عذر المرض الذي لا يُعجِز صاحبَه عن الصوم، فهذا العذر أراه يقطع التتابع لأن الله سبحانه أجاز الصوم في السفر ولم يجعل السفر مانعاً من الصوم، كما هو الحال في أعذار العيدين والحيض والنفاس والعجز. فلهذا أقول إنه لا يجوز قطع التتابع بالإِفطار لعذر السفر، بل يجب على الصائم أن يتابع صومه وهو مسافر في هذه الحالة.

…بقيت مسألة من جامع زوجته في رمضان أكثر من مرَّة كيف تكون الكفَّارة؟ فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن من جامع زوجته مرتين، أو أكثر في يوم واحد لزمته كفَّارةٌ واحدةٌ بالجماع الأول، سواء أكان كفَّر عن الأول أم لا. وقال أحمد: إن كان الوطءُ الثاني بعد تكفيره عن الأول لزمته كفَّارة ثانية، لأنه وطء محرَّم فأشبه الأول. وهذا بخصوص الوطء مرتين أو أكثر في يومٍ واحد. …أما إن كان الوطء في يومين أو أيام من رمضان، فذهب أبو حنيفة والزُّهري والأوزاعي إلى أنَّ الرجل إن وطِيء في اليوم الثاني قبل أن يكفِّر عن اليوم الأول كفته كفَّارة واحدة، وإن هو كفِّر عن اليوم الأول فعن أبي حنيفة روايتان. وذهب مالك والشافعي والليث وعطاء ومكحول وابن المنذر وأحمد في أصح الروايتين عنه، وداود ابن علي إلى وجوب كفَّارة لكل يوم، سواء كفَّر عن اليوم الأول أو لم يكفِّر. فأقول ما يلي:

…أما تكرار الجماع في اليوم الواحد فإن كفَّارة واحدة تكفي له، وهي واجبة بالجماع الأول، ولا تجب الكفَّارة عما بعد الجماع الأول، وذلك أن الكفَّارة تجب على من أفطر بالجماع وخرق حرمة الصيام بجماعه، وقد حصل ذلك بالجماع الأول فلا يحتاج معه إلى أداء كفَّارة أخرى عند جماعٍ ثان، لأنه يكون في الجماع الثاني قد جامع وهو مفطر، فقول أبي حنيفة ومالك والشافعي هو قول صحيح. وأما إن هو جامع في يوم فأفطر ولزمته كفَّارة، ثم جامع في يومٍ ثان فإنه يُفطر ثانيةً، فتلزمه من ثمَّ كفَّارةٌ جديدة، فإن تكرر منه الجماع في أيام فقد لزمته كفَّارة عن كل يوم جامع فيه ولا تُدمَج هذه الكفَّارات في كفَّارة واحدة، وذلك أن صوم كل يوم من رمضان عبادة مستقلة قائمة بنفسها، فما يُفسِد صومَ يومٍ لا يُفسِد صومَ يومٍ آخر، ولو كانت أيام رمضان كلها عبادة واحدة لأدَّى إِفسادُ صوم يومٍ واحد إلى إِفساد صوم الشهر كلِّه، وهذا لا يقوله أحد. وحيث أن صوم كل يوم عبادة مستقلة عن غيرها فإن إِفساد كلِّ عبادة من هذه العبادات ينسحب عليها وحدها ولا يشمل غيرها، فمن جامع في يوم فقد أفسد صيام ذلك اليوم فاحتاج إلى كفَّارة، وبقي صيام الأيام الأخرى غير فاسد، فإن عاد وأفسد صيام يوم آخر منها فقد احتاج إلى كفَّارة جديدة ولا بد، دون نظر إن كان قد كفَّر عن اليوم السابق أو لم يكفِّر، فقول مالك والشافعي وأحمد هو القول الصحيح في هذه المسألة. …وهذه الكفَّارة لا تجب إلا في خرق صوم رمضان فحسب، فلا تجب في خرق صوم النذر أو صوم القضاء أو صوم التطوُّع. وهو قول جمهور العلماء وهو الصحيح، خلافاً لقتادة الذي يوجب الكفَّارة في إفساد قضاء رمضان. صيامُ عشرة أيام:

…وهو صيام الحاج المتمتِّع إذا لم يجد الهَدْيَ، أي الذبيحةَ. ولبيان ذلك أقول ما يلي: إنَّ الحج ثلاثة أنواع: حجُّ الإِفراد، وهو أن ينوي الحاجُّ الحجَ فحسب، فلا يُدْخِل فيه العمرة، وحج القِران، وهو أن ينوي الحاجُّ الحجَ والعمرةَ معاً أي مقترنَيْن، وحج التمتُّع، وهو أن ينوي الحاج العمرة أولاً، وبعد أن يؤديها يُحلُّ إحرامَه وينتظر يوم عرفة أو يوم التَّرْوِية قبله فيُحرم ناوياً الحج وحده. فهذا الحاج المتمتِّع يجب عليه أن يذبح الهَدْيَ، فإن لم يجد الهَدْيَ فعلاً، أو وجده ولكنه لا يملك ثمنه، فقد وجب عليه أن يصوم عشرة أيام: ثلاثةً في أيام الحج وسبعةً إذا عاد إلى بلده وأهله، والدليل على ذلك ما يلي: 1- قال تعالى {وأَتمُّوا الحَجَّ والعُمْرةَ للهِ فإِنْ أُحْصِرْتم فما اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْي ولا تحلِقوا رُؤوسَكم حتى يبلغُ الهَدْيُ مَحِلَّه فمَنْ كان منكم مريضاً أو به أَذىً من رأْسِهِ ففِدْيةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ فإِذا أَمِنْتم فمن تمتَّعَ بالعُمْرةِ إلى الحجِّ فما اسْتيْسَرَ من الهَدْي فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِ وسبعةٍ إذا رَجَعْتم تلك عَشَرَةٌ كاملةٌ ذلك لمن لم يكن أَهلُهُ حاضِري المسجدِ الحرامِ واتقوا اللهَ واعلموا أنَّ اللهَ شديدُ العقابِ} الآية 196 من سورة البقرة. والهَدْي والنُّسُك هنا هو ذبح شاة. 2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال {تمتَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج – فذكر الحديث بطوله إلى أن قال – إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ... فمن لم يجد هَدْياً فلْيصمْ ثلاثةَ أيام في الحج، وسبعةً إذا رجع إلى أهله ... } رواه البخاري (1691) ومسلم. وقد مرَّ مزيدُ بحثٍ في هذه المسألة في موضوع [صوم أيام التشريق] من الفصل [الصيام المحرَّم الذي لا يجوز] . صيامُ ثلاثة أيام:

صيام الحانث في يمينه

أولاً: صيامُ الحانث في يمينه: …من حَنَثَ في يمينه وجب عليه أن يُطعم عشرة مساكين أو أن يكسُوَهم، أو أن يُعتقَ رقبةً، فإن لم يجد مالاً ولم يجد رقيقاً كما هو الحاصل في أيامنا هذه، وجب عليه أن يصوم ثلاثة أيام. والحَلْف الجائز هو الحلف بالله وأسمائه وصفاته فحسب، ولا يحل الحَلْفُ بغير ذلك، فلا يحل الحلف بالنبي ولا بالإسلام ولا بالأب ولا بالشرف ولا بأي شيء سوى الله وأسمائه وصفاته لا غير. … وإذا شك الحالف بقدرته على الوفاء باليمين فيمكنه أن يحتاط لنفسه بأن يقول عقب اليمين (إن شاء الله) وعندها لا يجب عليه الوفاء باليمين، ولا كفَّارةَ عليه. وهذه هي الأدلة: 1- قال تعالى {لا يُؤاخذُكُم اللهُ باللَّغْوِ في أَيْمانِكُمْ ولكن يُؤاخذُكُم بما عقَّدتم الأَيْمانَ فكفَّارتُهُ إِطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أَوسَطِ ما تُطْعِمون أَهليكُم أو كِسوتُهم أو تحريرُ رقبةٍ فمَنْ لم يجد فصيامُ ثلاثةِ أَيَّامٍ ذلك كفَّارُة أَيْمانِكم إِذا حَلَفْتم واحْفَظوا أَيْمانَكم كذلك يُبيِّنُ الله لكم آياتِه لعلكم تشكرون} الآية 89 من سورة المائدة. 2- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركبٍ يحلف بأبيه، فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فلْيحلفْ بالله أو لِيصمتْ} رواه البخاري (6646) ومسلم والدارمي والبيهقي. ورواه النَّسائي والحاكم دون قوله (فمن كان حالفاً ... ) . 3- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون} رواه أبو داود (3248) والنَّسائي والبيهقي وابن حِبَّان.

صيام الحانث في نذره

4- عن ابن عمر رضي الله عنهما، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال {مَن حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى} رواه أبو داود (3261) والنَّسائي والترمذي وأحمد والدارمي والحاكم وابن حِبَّان. ولفظ الترمذي (1570) {مَن حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه} ولفظ الدارمي (2340) والحاكم {من حلف على يمين ثم قال إن شاء الله فهو بالخيار، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل} وليعذرني القائل إن أنا خرجت قليلاً عن البحث، وأوردت شيئاً من الأحكام التي لا علاقةَ مباشرة لها بالصوم. ثانياً: صيامُ الحانث في نذره: …وكما أن الحانث في يمينه يصوم ثلاثة أيام ككفَّارة، فإن الحانث في نذره يصوم أيضاً ثلاثة أيام ككفَّارة، فكفَّارة اليمين هي كفَّارة النذر. والدليل على ما نقول ما يلي: 1- عن عُقْبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {كفَّارة النذر كفَّارةُ اليمين} رواه مسلم (4253) وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. 2- وعنه رضي الله عنه {أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أختٍ له نذرت أن تحجَّ حافيةً غيَر مختمِرة، فقال: مُرُوها فلْتختمرْ ولْتركب، ولتصُم ثلاثةَ أيام} رواه أبو داود (3293) وابن ماجة. ورواه الترمذي وقال [هذا حديث حسن والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحق] والأدلة واضحة لا تحتاج إلى شرح وبيان. …وأُلفت النظر إلى أن الناذر ربما نذر أن يصوم أياماً كثيرةً أو قليلةً، ففي هذه الحالة يتوجب عليه أن يفي بنذره ويصوم الأيام التي نذر أن يصومها، وهذا الصوم يدخل في باب النذر وليس في باب الصِّيام، فقط أحببتُ الإشارة إليه هنا دون أن أُفردَ له بحثاً منفصلاً. صيامٌ غيرُ محدَّد، وهو صيامُ قاتلِ الصيدِ وهو مُحْرِم:

…روى الطبري (7/57) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه { (أو عَدْلُ ذلك صياماً) قال: إذا قتل الْمُحْرِم شيئاً من الصيدُ حُكِمَ عليه فيه، فإن قتل ظبياً أو نحوه فعليه شاةٌ تُذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعامُ ستة مساكين، فإن لم يجد فصيامُ ثلاثة أيام، وإن قَتَل أَيْلاً أو نحوَه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكيناً، فإن لم يجد صام عشرين يوماً، وإن قتل نعامة أو حمارَ وحشٍ أو نحوَه فعليه بَدَنهٌ من الإبل، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً، والطعام مُدٌّ مُدٌّ يُشبعهم} والبَدَنة هي ما سَمُن من الإبل والبقر يُذبح بمكة. فابن عباس ذكر صيام ثلاثة أيام في حالة، وصيام عشرين يوماً في حالة ثانية، وصيام ثلاثين يوماً في حالة ثالثة، فالصيام هنا يُقدَّر بقدر ما يقتل من الصيد. …وأقول باختصار: يُقوَّم الصيدُ المقتول حياً قيمته من الطعام عموماً أو من القمح ثم يصوم مكان كلِّ مُدٍّ يوماً، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد عدل المُدَّ من القمح بصوم يومٍ في كفَّارةِ مَن جامع أهله في رمضان، والصيد المقصود هنا هو كل حيوان باستثناء الغراب والحِدَأة والفأرة والعقرب والكلب العقور، فهذه الحيوانات فواسق لا عقوبة على المُحْرِم إن قتل واحداً منها. والدليل على ما سبق ما يلي: 1- قال تعالى {يا أَيها الذين آمنوا لا تَقْتُلوا الصَّيْدَ وأَنتم حُرُمٌ ومَن قَتَلَه منكم متعَمِّداً فجَزَاءٌ مثلُ ما قَتَلَ من النَّعَمِ يَحْكُمُ به ذوا عَدْلٍ منكم هَدْياً بالِغَ الكعبةِ أو كفَّارةٌ طعامُ مساكين أو عَدْلُ ذلك صياماً ليذوقَ وَبَالَ أمرِهِ عفا اللهُ عما سَلَفَ ومن عاد فينتقمُ اللهُ منه واللهُ عزيزٌ ذو انتقام} الآية 95 من سورة المائدة.

الكفارات بالفدية

2- عن عبد الله – بن مسعود - رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول {خمسٌ من الدواب، وفي رواية خمسُ فواسق، لا جُناح على من قَتَلَهُنَّ في قَتْلِهِنَّ: الغرابُ والحِدَأةُ والعقربُ والفأرةُ والكلبُ العَقور} رواه مسلم (2873) . والحِدَأَة، ويقال الحُدَيَّا: طائرٌ جارح مشهورٌ بخطفِ الدجاج. وفي رواية ثانية عند الإمام مسلم (2862) من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ {خمس فواسق يُقتلن في الحِل والحَرَم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحُدَيَّا} فذكر الحية بدل العقرب. ورواه البخاري. ب – الكفَّاراتُ بالفِدْية …ونحن هنا نحصر البحث في الفدية فيما يتعلق بالصوم فقط دون سواه: أولاً: مُوجِباتُ الكفَّارة: 1- العجزُ عن الصيام: …العاجزُ عن الصيام هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة والمريض الذي يُعْجِزه المرض عن الصوم ولا يُرجى بُرؤُه، وأمثالهم. …قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصِّيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلَّكُم تتَّقون ? أَياماً معدوداتٍ فمن كان منكم مريضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وعلى الذين يُطِيقُونه فِدْيةٌ طعامُ مِسكين فمن تطوَّع خيراً فهو خيرٌ له وأَنْ تصوموا خيرٌ لكم إِن كنتم تعلمون} الآيتان 183 و 184 من سورة البقرة. قوله فِدْيَة: الفدية معناها الجزاء والبدل.

…وقد اختلف المفسرون والفقهاء وحتى الصحابة في الآية 184 هل نُسخت أم لم تُنسخ، فرُوي عن سَلَمة بن الأَكْوع رضي الله عنه قال {لما نزلت (وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها} رواه البخاري (4507) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه {أنه قرأ (فِدْيةٌ طعامُ مسكين) قال: هي منسوخة} رواه البخاري (4506) والطبري والبيهقي. وجاء في صحيح البخاري (39) باب [وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين] حدثنا ابن أبي ليلى: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {نزل رمضان فشقَّ عليهم، فكان مَن أطعم كلَّ يوم مسكيناً ترك الصوم ممن يطيقه، ورُخِّص لهم في ذلك فنسختها (وأَنْ تصوموا خير لكم) فأُمروا بالصوم} . …فهذه ثلاثة آثار تذكر أن قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين} منسوخٌ مع اختلافهم في الناسخ، فسَلَمةُ بيَّن أن الناسخ هو الآية التي بعدها، وهي {شهر رمضان ... فمن شهد منكم الشهر فلْيَصُمْه} وابن عمر أبهم الآية الناسخة، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بيَّنوا أن الناسخ هو الجزء الأخير من الآية نفسها {وأن تصوموا خيرٌ لكم} .

…ثم رأينا عطاء يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه {يقول (وعلى الذين يُطَوَّقونه فِديةٌ طعامُ مسكين) قال ابن عباس: ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيُطعمان مكان كل يوم مسكيناً} رواه البخاري (4505) وأبو داود. ورواه النَّسائي (2638) في السنن الكبرى، والدارَقُطني بلفظ { ... قال (يُطِيقونه) يُكلَّفونه فدية طعام مسكين واحد (فمن تطوَّع) فزاد طعام مسكين آخر، ليست منسوخة (فهو خير له وأن تصوموا خير لكم) لا يُرخَّص في هذا إلا للكبير الذي لا يطيق الصيام أو مريضٍ لا يشفى} قال الدارَقُطني [وهذا الإِسناد صحيح] . …ومع هذا الاختلاف في كون الآية الكريمة {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} منسوخة أو مُحْكَمة، فقد استدل الطرفان بها على أن الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إن هما عجزا عن الصيام، أطعما مسكيناً واحداً عن كل يوم أفطراه. أما استدلال ابن عباس ومن قال بقوله إن الآية ليست منسوخة فواضح بهذه الآية الكريمة، وأما استدلال القائلين بالنسخ فإنهم استثنوا منه وجوب الفدية على الكبير غير القادر على الصوم، وكمثال على هذا الاستثناء نذكر ما رواه الطبري في تفسيره (2/134) عن ابن شهاب – الزُّهري – قال [قال الله (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) قال ابن شهاب: كتب الله الصِّيام علينا، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيام من صحيح أو مريض أو مسافر، ولم يكن عليه غير ذلك فلما أوجب الله على من شهد الشهر الصيام، فمن كان صحيحاً يُطيقه، وضع عنه الفدية وكان من كان على سفر أو كان مريضاً فعدةٌ من أيام أُخر قال: وبقيت الفدية التي كانت تقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يطيق الصيام، والذي يعرض له العطش أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام] .

…ثم رأينا ابن جرير الطبري يروي عن سعيد بن المسِّيب (2/137) وهو شيخ التابعين أنه قال [في قول الله تعالى ذِكْرُه (فديةٌ طعامُ مسكين) قال: هو الكبير الذي كان يصوم، فكبر وعجز عنه، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام، فعلى كل واحد منهما طعام مسكين، مدٌّ من حنطة لكل يوم حتى يمضي رمضان] فهو قد نحا منحىً مختلفاً عمن سبقوه في الاستدلال بهذه الآية، فهو قد فسَّرها بإضافة كلمة (كبروا) بعد كلمة (يطيقونه) فكأَنَّ الآية عنده فيها حذف، وتقديره (وعلى الذين يطيقونه فكبروا فديةٌ طعامُ مسكين) وهو تأويل واضح وجميل، لولا أننا لا نجد مستنداً للقول بالحذف هذا. وأنا أقول ومن الله التوفيق والسداد ما يلي: …إن القول بالنسخ لا يُلجأ إليه إلا عند تعذُّر الجمع، فإنْ تعذَّر الجمع، وكانت الآيتان متعارضتين لا يمكن الجمع بينهما لجأنا إلى القول بالنسخ، وهنا لا يتعذَّر الجمع بين الآيتين، ولو كان التعذُّر قائماً لما خفي على ابن عباس تَرْجُمَانِ القرآن وحَبْرِ هذه الأمة القائل بعدم النسخ، والواجب في هذه الحالة أن ندع القول بالنسخ، ونتمسك بالقول إن الآيتين محكمتان لا نسخ في أي منهما.

…ثم إن القول بالحذف كقول سعيد بن المسيِّب، لا يصح أن يُلجَأ إليه في النظم القرآني إلا بدليل، وهنا لا دليل ولا شبهة دليل على القول بالحذف، فوجب ترك هذا القول دون تردُّد. وحيث أن الآية {وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين} مُحْكَمَةٌ غيرُ منسوخة، فإن تفسيرها أو قل تأويلها، يجب أن ينسجم مع ما قبلها ومع ما بعدها من الآيات. أما ما قبلها، فإن الآية هي {يا أيها الذين أمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} فقولها كُتب عليكم الصيام يجب أن لا يُفهم منه التخيير بين الصيام والإفطار كما رُويت في ذلك روايات كثيرة، وإلا لا يكون الصيام قد كُتب بمعنى قد فُرض، فالقول بالتخيير مناهِض ومعارِض لهذه الآية المصرِّحة بأن الصوم مكتوب، أي مفروض، فيُردُّ القول بالتخيير مهما كثرت رواياته. وأما الآيةُ التي بعدها فهي {شهرُ رمضانَ الذي أُنزل فيه القرآنُ هدىً للناس وبيِّناتٍ من الهُدى والفرقان فمن شهد منكم الشهرَ فلْيصُمه} فقد جاءت هذه الآية الكريمة تعمِّم القولَ بوجوب الصوم {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فهي تأكيد وتثبيت للآية الأولى. …وحيث أنَّ الآية الكريمة الأولى تذكر أن الصوم مكتوب وأنَّ الآية الكريمة الثالثة تذكر أن الصوم واجب بالمعنى طبعاً، فإن الآية الوسطى لا ينبغي، ولا يجوز أن يقال عنها إنها جاءت بالتخيير، وإنما يجب أن يقال إنها جاءت هي الأخرى بالوجوب وذلك حتى يتَّسق النظمُ القرآني فلا يكون فيه تعارض ولا اضطراب. وبناء على هذه المقدِّمة التي لا بد منها أقول ما يلي:

…إن الآية الوسطى قد جاءت لبيان الأعذار لترك الصوم الواجب ولم تأت للتخيير بين الصوم والإِفطار، فذكرت عُذْر المرض وعُذْر السفر، وبيَّنت أن ما يقابل الإِفطار في هاتين الحالتين هو القضاء {فعدَّةٌ من أَيام أُخَرَ} ثم جاءت تقول {وعلى الذين يُطيقونه فِدْيةٌ طعامُ مسكين} فعطفت الذين يطيقونه بحرف الواو على المريض والمسافر، وما هذا العطف بالواو، إلا لاشتراك الجميع في الموضوع، وهو هنا الأَعذارُ المُبيحةُ للإِفطار، وإلا فلا عطف، فصارت الأعذار هي: المرض والسفر وبلوغ الطاقة أو استنفاذها، بمعنى أن من كان مريضاً أو مسافراً أو بالغاً الطاقة، فإن لهم أن يفطروا وحيث أن من كان بالغاً الطاقة يترتب عليه ما لا يترتب على المريض والمسافر فإن الآية الكريمة لم تُدْخله معهما، فلم تقل مثلاً فمن كان مريضاً أو على سفر أو بالغاً الطاقة فعدَّةٌ من أيام أخر، إذ أنَّ الدقة في النظم القرآني قد اقتضت إدخالَ مستنفِذِ الطاقة في الأعذار بعطفه على المريض والمسافر، واقتضت عدم إِدخاله في المترتَّب عليهما، وهو قضاء الصوم، فجاءت الآية الكريمة تذكر المغايرة بين العذرين الأولين، وبين العذر الثالث، فقالت {فدْيةٌ طعامُ مسكين} وكانت قد قالت بخصوص العذرين الأَوَّلين {فعدَّة من أيام أُخَر} وبهذه المغايرة تكون الآية الكريمة قد نفت عن العذر الثالث قضاء الصوم، وأتت بحكم جديد غير مطلوب من المريض والمسافر، هو أداء الفدية.

…أما كيف جرى تفسيرنا لهذه الآية الكريمة بما سلف، فإنَّا نقول ما يلي: إن قول هذه الآية الكريمة {وعلى الذين يطيقونه} لا يصح أن يُفسِّر بأنه يعني: وعلى الذين يستطيعونه. وإلا دخل الناس كلُّهم في هذا اللفظ ودخل فيه المريض والمسافر، فإنهما على الأعم الأغلب يستطيعان الصوم أيضاً، وإنما الواجب أن يُفسَّر، أو إن شئت قلت، إنما الواجب أن يؤوَّل بأنه يعني الذين إذا صاموا استنفذوا الطاقة، أي أوشكوا على العجز عن الصوم حقيقة، وبمعنى آخر فإن هؤلاء الفئة من الناس لا يستطيعون الصوم وإتمامَه إلا ببذل أقصى الطاقة والقدرة بحيث يوشكون على العجز عن الإتمام، فجاءت الآية تعذر هؤلاء الناس وتستثنيهم من وجوب الصيام كما تستثنيهم من وجوب القضاء، لأن القضاء في حقهم كالأداء يشق عليهم، ويبلغ بهم أقصى الطاقة والجهد، وأتت بما لا يعجزون عنه ولا يحتاجون إلى بذل طاقتهم كلِّها في أدائه وهو الفدية، أي دفع مالٍ عن كل يوم لا يصومونه. ومما يشهد لهذا الفهم هو ما وجدته في تفسير مجاهد بن جبر وهو من شيوخ المفسِّرين لكتاب الله الكريم فقد وجدت فيه الأثر التالي (في الصفحة 97 من المجلد الأول) عن عطاء عن ابن عباسٍ في قوله { (وعلى الذين يطيقونه) قال: يتكلفونه ولا يستطيعونه (طعام مسكينٍ فمن تطوع خيراً) فأَطعم مسكيناً آخر (فهو خيرٌ له) وليست منسوخةً ... } . فقد فسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لفظة (يطيقونه) بـ لا يستطيعونه، وهو تفسيرٌ قريب من تفسيرنا. …وبهذا التفسير، أو قل بهذا التأويل، نكون قد أَبقينا على الانسجام بين الآيات الثلاث ونفينا عنها وجود نسخٍ أو تعطيل، وبهذا التفسير نخرج بالدليل على أن العاجز يفطر ويفدي، وهو الدليل على أن الرجل والمرأة الطاعِنَيْن في السن يفطران ويطعمان بدل ذلك مسكيناً عن كل يوم أفطراه.

الشخص يموت وعليه صيام

…أما المريض الذي يعجزه المرض عن الصوم، فإن كان يُرجَى شفاؤُه ألحقناه بالمريض الوارد في قوله تعالى { ... فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدَّةٌ من أيام أُخَر ... } من الآية 184 من سورة البقرة. فهذا يفطر ويقضي، وإن كان هذا المريض لا يُرجى شفاؤُه ألحقناه بالذين يطيقونه، أي بكبار السن من الرجال والنساء الذين يشقُّ عليهم الصوم كثيراً، فهذا يفطر ويطعم مسكيناً عن كل يوم أفطره. وستجدون مزيد بحث في هذه المسألة في البند 3. 2- الشخصُ يموت وعليه صيام: …هذا الشخص يُخيَّر وليُّه بين أن يصوم عنه ما فاته من صيام، وبين أن يطعم عنه مسكيناً بدل كل يوم فاته صيامُه. فالفدية عن الميت جائزة وليست واجبة على الوليِّ، وقد نُقل عن الفاروق عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم جوازُ الإِطعام عن الميت، ولم يَرِدْ شيءٌ من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الحق وابن حجر: لا يقع في الإِطعام شيء يصح يعني مرفوعاً. …وحيث أن هذه الأقوال المروية عن هؤلاء الصحابة لا تتعارض مع النصوص الشرعية، فإنه يصح تقليدها واتِّباعها. وقد تمِّ بحث هذه المسألة في موضوع [قضاء الصوم عن الميت] من الفصل [قضاء الصوم] فيرجع إليه. 3- الرجلُ يجامع زوجته في نهار رمضان ويعجز عن صوم شهرين متتابعين:

…هذا الرجل يُطعم ستين مسكيناً، ويجب هذا الإِطعام إن كان الرجل قد جامع عامداً ذاكراً للصيام، أَمَّا إِنْ هو جامع زوجته ناسياً، فلا كفَّارة عليه ولا إثم. قال البخاري [وقال الحسن ومجاهد: إن جامع ناسياً فلا شيء عليه] وذكر عبد الرزاق هذا القول، كما ذكر (7375) عن مجاهد قوله [لو وَطِيءَ الرجلُ امرأتَه وهو صائم ناسياً في رمضان لم يكن عليه شيء] وعن عطاء (7376) قوله [عليه قضاء] فلم يُوجِب عليه كفَّارة. وبمثل قول عطاء قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك وأحمد، وهو أحد وجهي الشافعية. ولم أَعْلم أن فقيهاً قال بوجوب الكفَّارة في حالة الجماع ناسياً، بل إنه قد رُوي عن عامر الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة أنه لا كفَّارة عليه بإفساد الصوم بشكلٍ مطلقٍ وهو بلا شك رأي شاذ لا يُلفت إليه لمعارضته ومصادمته للنصوص الصريحة القائلة بالكفَّارة. …وقد اختلف الفقهاء في المرأة يجامعها زوجها، هل عليها كفَّارة، أي عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين، أو إِطعام ستين مسكيناً؟ فذهب الشافعي في أصحِّ القولين عنه والأوزاعي والحسن البصري وأحمد في رواية عنه إلى أن المرأة لا كفَّارة عليها، وأن الكفَّارة تجب على الرجل فقط. وقال الأَوزاعي: إنْ كانت الكفَّارة بالصيام كان على كل واحد منهما صوم شهرين. فيما ذهب أبو حنيفة ومالك وأبو ثور وابن المنذر إلى أن المرأة عليها كفَّارةٌ أخرى، وهي رواية عن أحمد. والأحناف والمالكية قالوا إن الكفَّارة تجب على المرأة إن كانت مختارة أما إن كانت مكرهة فالكفَّارة على زوجها.

…والصحيح هو قول الأحناف والمالكية، وهو أن على المرأة كفَّارة إن كانت مختارة غير مُكْرَهة، لأن الجماع الذي تجب فيه الكفَّارة على الرجل تشترك فيه الزوجة فلا معنى لإِعفائها من الكفَّارة، وإن قول الشافعية ومن قال بمثل قولهم إنهم لم يسمعوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الزوجة بأداء الكفَّارة، لا يكفي هذا القولُ لإعفاء المرأة من الكفَّارة ومن الإثم، وذلك أن النصَّ إن كان يخاطب المذكَّر، فإن المخاطبة تشمل الرجل والمرأة على السواء، وهي الحالة الغالبة في النصوص، وأما إن أراد النصُّ مخاطبة النساء خاصة فإنه يذكرُهنَّ بلفظ صريح، وهذه قاعدةٌ لغوية وشرعية معروفة. فالمرأة تدخل في عموم النصوص إلا أن تُستثنى، فلا حُجَّةَ للشافعية فيما ذهبوا إليه. …أما إن جامع الزوج زوجته بالإِكراه، فلم تستطع الزوجةُ دفعَه، فإِنه لا شيء عليها، وقد أَعْلَمَنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن الله رفع عن أمته الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه، فالمُكرَه لا إثم عليه ومن ثمَّ لا عقوبة عليه. فإن قال قائل إن المرأة لا تملك مالاً تُعتِق به رقبةً أو تقدِّمه لستين مسكيناً أجبناه بأن المرأة قد تملك مالاً تفعل به ذلك، أما إِن لم تكن تملك المال فقد تعيَّن عليها صوم شهرين متتابعين، فإن كانت عاجزة عن الصوم ولا تملك المال فإِنَّ الكفَّارةَ تسقط عنها. …والجماع الذي يُوجِب الكفَّارة هو إِيلاجُ الذَّكر في الفرج ولو لم يحصل إِنزالٌ، ولا تجب الكفَّارة إذا حصل الإِنزال دون جماع، أي حصل الإنزالُ بالمباشرة والمداعبة والتقبيل مثلاً. لا فِديةَ على من أخَّر قضاءَ رمضان لغير عذرٍ حتى أدركه رمضانُ آخر:

…إذا كان على شخصٍ قضاءُ أيامٍ من رمضان فتأخر في القضاء حتى جاء رمضان آخر، فقد اختلف الفقهاء في حكمه: فذهب أبو حنيفة وأصحابه وإبراهيم النخعي والحسن البصري والمُزَني وداود بن علي إلى وجوب القضاء فقط. وذهب الجمهور إلى وجوب القضاء وإطعام مسكينٍ عن كل يوم، ورُوي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. قال البخاري [ ... وقال إبراهيم: إذا فرَّط حتى جاء رمضان آخر، يصومهما ولم ير عليه إِطعاماً، ويُذكر عن أبي هريرة مرسلاً، وعن ابن عباس أنه يُطعِم] . …والحق أن ما ذهب إليه الأحناف هو الصحيح، وذلك أن فرض الفدية على من تأخَّر في القضاء حتى جاء رمضان آخر يحتاج إلى نصٍّ من الشرع، ولا نصَّ هنا، فلا يصح تشريع هذا الحكم، وأما ما رُوي عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة، وما نقله الطَّحاوي عن يحيى بن أكثم من القول [وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفاً] فإن هذه المرويَّات عن الصحابة لم تثبت، إذ هي قد رُويت من طرق ضعيفة، فوجب ردُّها وعدم جواز تقليدها أو اتِّباعها.

مقدار الفدية

…وقد اختلط على عدد من الفقهاء ما رُوي عن الصحابة من القول إنَّ مَن كان مريضاً فلم يصم رمضان حتى جاء رمضان آخر صام الآخِر وأطعم عن رمضان الفائت مسكيناً عن كل يوم أفطره، اختلط عليهم هذا القول مع المرويات السابقة الضعيفة، فقالوا بوجوب الإطعام بشكل مطلق. والحق أن المرويات القائلة بالإطعام على المريض يصح الاستدلال بها وهي مما يتفق مع كتاب الله سبحانه، وقد بيَّنَّا قبل قليل أن المريض العاجز عن الصيام يُطعِم، فهذه المرويات تذكر أن المريض قد عجز عن الصيام طيلة عام كامل، وأنه لم يصحَّ طيلة العام حتى جاء رمضان آخر، وهذا العام الذي كان مريضاً فيه، هو الوقت الذي يُقضى فيه ما فات من صيام رمضان، فكون الشخص لم يصحَّ في وقت القضاء، وعجز عن القضاء في وقته، فإنه لم يبق عليه إلا أن يُطعِم. وتجدون هذا البحث موجوداً بتمامه في البند الأول من هذا الفصل وهو غير موضوعنا. ثانياً: مقدارُ الفدية: …لقد اختلف صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد مقدار الفدية ورُويت عنهم روايات متباينة تذكر أن الفِدية مُدٌّ واحد، وأنها مُدَّان اثنان، أي نصف صاع، وأنها أربعة أمداد، أي صاع، أذكر لكم عدداً منها: 1- عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال {مَن أدركه الكِبَرُ فلم يستطع أن يصوم رمضان فعليه لكل يومٍ مُدٌّ من قمح} رواه الدارَقُطني (2/208) . 2- عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال {يصوم الذي حضر، ويقضي الآخر، ويطعم لكل يوم مِسكيناً} رواه البيهقي (4/253) . وقال [ورواه ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وقال: مداً من حنطة لكل مسكين] . 3- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {إذا عجز الشيخ الكبير عن الصيام أطعم عن كل يوم مُدّاً مُدّاً} رواه الدارَقُطني (2/204) بإسناد صحيح.

4- روى البيهقي وعبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه (4/254) أنَّ قدر الإطعام مُدٌّ من حنطة. 5- وروى عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7629) أن الإطعام مُدٌّ من حنطة لكل مسكين. …فهؤلاء الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس في رواية عنه، وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله يذكرون أن الفدية مُدٌّ واحدٌ، أي ربع صاع. 6- وعن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه {قرأ (وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين) يقول: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام فيفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، نصفَ صاع من حنطة} رواه الدارَقُطني (2/207) . …فهذه الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنه تذكر نصف صاع، أي مُدَّين من حنطة. 7- وعن السائب بن قيس رضي الله تعالى عنه، قال {إن شهر رمضان يفتدي به الإنسان يُطعم فيه كل يوم مسكيناً فأَطعموا عني مسكيناً لكل يوم صاعاً ... } نسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (4953) إلى الطبراني في المعجم الكبير، وقال [رجاله ثقات] وقد بذلت وسعي في البحث عنه في معجم الطبراني فلم أجده. …فهذه الرواية تذكر صاعاً، أي أربعة أمداد. وهؤلاء كلهم صحابة وقد اختلفوا في تحديد مقدار الفدية، واختلف باختلافاتهم التابعون والفقهاء. فالأحناف قالوا: نصف صاع بُرٍّ أو ما يعادله وقاسوها على صدقة الفطر. والجمهور قالوا: يكفي المُدُّ الواحد، أي ربع الصاع.

الفصل الثامن: ما يفطر الصائم

…وهذه الأقوال كلها اجتهادات وليست نصوصاً شرعية، فالشرع لم يحدِّد مقدار الفدية، أي لم يحدد مقدار ما يُطعَمُ المسكينُ، وإنما هي اجتهادات في تحقيق مناطِ النصوص الشرعية أي مناط حكم إطعامِ مسكينٍ واحد، فجاءت آراؤهم مختلفة متباينة ولو أن هؤلاء الصحابة والتابعين والفقهاء أدركوا عصرنا هذا لربما تغيَّرت تقديراتهُم، فالعُرفُ وأحوالُ الناس والعصرُ الذي يُعاش فيه لها مدخل وأثر في تحديد مقدار ما يُقدَّم للمسكين الواحد من القوت. ولهذا فإننا غير ملزمين بتقديرات الصحابة ولا بتقديرات الفقهاء الذين سبقونا، ونقف عند قوله سبحانه وتعالى {فديةٌ طعامُ مسكين} وندع تحديد الفدية وما يُقدَّم للمسكين إلى الناس يبذلون ما يرونه كافياً لإطعام المسكين، لا سيما وأَن تقديم المدِّ الواحدِ والمدين والأربعة أمداد من القمح أو من التمر لم يعد ينفع المسكين وإنما أصبح المقبول والمتَّبع في عصرنا الراهن تقديمُ وجباتٍ من الطعام المطبوخ أو دفع مبلغ من المال يفي بالحاجة. …وللعلم فقط أقول ما يلي: قال أبو عبيد في كتاب الأموال (1602) ما يلي [وأما أهل الحجاز فلا اختلاف بينهم فيه أَعلمه أن الصاعَ عندهم خمسةُ أرطال وثلثٌ يعرفه عالِمُهم وجاهِلُهم، ويباع في أسواقهم ويحملُ علمَه قرنٌ عن قرنٍ (1603) وقد كان يعقوب – هو أبو يوسف القاضي – زماناً يقول كقول أصحابه فيه، ثم رجع عنه إلى قول أهل المدينة] وقال (1623) أيضاً [فقد فسَّرنا ما في الصاع من السنن وهو كما أعلمتُك خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ، والمُدُّ رُبُعُه، وهو رطل وثلث، وذلك برطلنا هذا الذي وزنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً ... ] . …وبتقدير ما سبق بالأوزان الحديثة نقول ما يلي: إن المد يساوي 543 غراماً، فيكون الصاع 175،2غراماً، أي كيلو غرامين ومائةً وخمسة وسبعين غراماً. الفصل الثامن: ما يفطِّر الصائم الفصل الثامن ما يُفطِّرُ الصائم

1- قطعُ نيَّة الصيام: …الصوم عبادة، فيحتاج إلى نية من بدئه إلى انتهائه، فإن قُطعت النية قُطع الصوم. 2- الأكلُ والشربُ عمْداً: …لا يحتاج هذا إلى سَوق الأدلة عليه هنا، فهو معلوم للعالم والجاهل. 3- الحيضُ والنفاسُ: …وهو أيضاً معلوم، وقد سبق بحثه في فصل [صيام رمضان – أحكام عامة] . 4- القيءُ عمْداً: …قال محمد بن المنذر: وقع الإجماع على بطلان الصوم بتعمُّد القيء، لكن نقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود – رضي الله عنهما -: لا يفطِّر مطلقاً، وهي إحدى الروايتين عن أصحاب مالك. وقال عطاء بن أبي رباح وأبو ثور: من تعمَّد القيء فعليه القضاء والكفارة. وقد رُوي عن علي وابن عمر وزيد بن أرقم ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحق بن راهُويه والشافعي وأصحاب الرأي القولُ إنَّ من ذرعه القيء – أي قاء غير متعمِّدٍ – لا يبطل صومه. ونقل ابن المنذر الإجماع – ويعني به إجماع العلماء – على ترك القضاء على من ذرعه القيء ولم يتعمده، إلا في إحدى الروايتين عن الحسن البصري. ونحن نذكر الآن جملةً من الأحاديث والآثار تتناول هذه المسألة: 1- عن معدان بن طلحة أن أبا الدرداء رضي الله عنه حدَّثه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فلقيتُ ثوْبانَ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق، فقلت: إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، قال: صدق وأنا صَبَبْتُ له وَضوءَ هـ صلى الله عليه وسلم} رواه أبو داود (2381) والنَّسائي وابن حِبَّان والدارمي. ورواه الترمذي وأحمد وقالا: هذا أصح شيء في هذا الباب. وقال ابن مَنْده: إِسناده صحيح متصل. 2- عن خالد بن معدان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال {استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر وأُتي بماء فتوضأ} رواه عبد الرزاق (7548) والنَّسائي وأحمد وإسناده صحيح.

3- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من ذَرَعهُ قيءٌ وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فلْيَقْضِ} رواه أبو داود (2380) والترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي والبيهقي وابن حِبَّان. قال الترمذي [حديث حسن غريب] وصححه الحاكم والذهبي. أَما البخاري فقال: لا أراه محفوظاً. وقال أحمد: ليس من ذا شيءٌ. ورواه النَّسائي في السنن الكبرى (3117) بلفظ {إذا ذرع الصائمَ القيءُ فلا إفطار عليه، وإذا تقيأ فعليه القضاء} وقال: وقفه عطاء على أبي هريرة. قوله ذَرَع: أي غلب وسبق إلى الخروج. 4- عن عمر بن الحكم بن ثوبان {سمع أبا هريرةَ رضي الله عنه: إذا قاء فلا يفطر إنما يُخْرِج ولا يُولِج ويُذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح وقال ابن عباس وعكرمة الصوم مما دخل، وليس مما خرج ... } ذكره البخاري في مقدمة باب [الحجامة والقيء للصائم] . 5- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال {من ذرعه القيءُ فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء} رواه البيهقي (4/219) . ورواه مالك (48 كتاب الصوم) . 6- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاثة لا يفطِّرن الصائم: القيءُ والحجامةُ والاحتلامُ} رواه البزَّار (1016) . قال الهيثمي [بإسنادين وصحَّح أحدَهما، وظاهرُه الصحةُ] وضعَّفه آخرون. ورواه الدَّارَقُطني (2/183) والطبراني في المعجم الأوسط من طريق أبي سعيد الخدري بلفظه. …الحديث الأول جاء فيه (قاء فأفطر) فسَّره الحديث الثاني (استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر) والحديث الثالث (وإن استقاء فلْيقضِ) فيكون التعبير عن تعمُّد القيء بلفظتين: استقاء، وتقيأ. وهذا الحديث الثالث وإن شكَّك البخاري وأحمد في كونه محفوظاً، إلا أن تصحيح الحاكم والذهبي، وتحسين الترمذي له كافٍ لقبوله.

…هذه الأحاديث النبوية تذكر أن من تقيأ أو استقاء، أي تعمَّد القيء، فقد أفطر ووجب عليه القضاء، ولم أجد حديثاً مرفوعاً واحداً يعارض هذه النصوص فيُعمَلُ بها ويُقال إنَّ تعمُّدَ القيء من مُفَطِّرات الصوم. وجاء أثر ابن عمر في البند الخامس موافقاً لما ذهبنا إليه. …أما ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه فقد روي عنه قولان يبدوان متعارضَيْن ففي الحديث الثالث جاء قول عطاء إن الحديث موقوف على أبي هريرة، فعلى فرض صحة هذا القول من عطاء فإنا نقول إن أبا هريرة قال (إذا تقيَّأ فعليه القضاء) (وإن استقاء فليقضِ) أي إذا تعمَّد القيء بطل صومه وأفطر. …أما ما ذكره البخاري عن أبي هريرة فإنه جاء بصيغة عامة (إذا قاء فلا يفطر) (عن أبي هريرة أنه يفطر) ورجَّحَ الرواية الأولى، فلْنأخذ الرواية الراجحة عنده (إذا (إذا قاء فلا يفطر) هذه الرواية لم تفرِّق بين القيء المتعمَّد والقيء غير المتعمَّد، وإنما جاءت عامة، ونحن لا ننكر أن القيء غيرَ المتعمَّد لا يفطِّر، فتصبح عندنا روايتان عن أبي هريرة: الأولى تخصِّص القيءَ المتعمَّد بأنه مفطِّر، والثانية تعمِّم القيء بأنه غير مفطِّر، فتُؤخذُ الرواية المخصِّصةِ القائلةِ بأنَّ القيء المتعمَّدَ يفطِّر وتُحمَل الروايةُ العامة على ما سوى ذلك. وبذلك يثبت القول المخصِّص الوارد في الحديث الثالث، وهو المتوافق مع الأحاديث المرفوعة.

…نأتي لأثر ابن عباس عند البزَّار: إن البزَّار قد ذكر إسنادين عن ابن عباس بلفظ واحد، وفي الإسنادين محمد بن عبد العزيز – وهو أبو عبد الله الرملي المعروف بابن الواسطي، كما ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب – هذا الراوي قال عنه أبو زُرعة: ليس بقوي. وقال أبو حاتم: كان عنده غرائب ولم يكن عندهم بالمحمود، وهو إلى الضعف ما هو. ومع أن ابن حِبَّان قد وثَّقه – وهو المعروف عنه بالتساهل في توثيق الرواة – فإنه قال: ربما خالف. وأما قول الهيثمي عنه – بإسنادين وصحح أحدهما – وهو يعني أن البزَّار صحَّح أَحدَ الإسنادين، فقولٌ غير دقيق، وذلك أن البزَّار بعد أن روى الروايتين قال [وهذا من أحسنها إسناداً وأصحِّها، لأن محمد بن عبد العزيز لم يكن بالحافظ] فقوله هذا لا يعني أن الإِسناد صحيح، وإنما يعني أنه أصح من غيره. ومثله رواية الدارَقُطني من طريق أبي سعيد، فإن فيها هشام بن سعد، ضعَّفه النَّسائي وأحمد ويحيى بن معين. وليَّنه ابن عدي، وقال: ومع ضعفه يُكتَب حديثه. وقال عبد الحق: يُكتَب حديثه ولا يُحتجُّ به. وفي المقابل احتج به مسلم واستشهد به البخاري، فعلى فرض أن هذا الحديث صالح للاحتجاج والاستدلال، فإنَّا نقول عنه ما قلناه عن أثر أبي هريرة العام في مقابل أثره الخاصِّ وذلك أنَّ حديث الدارَقُطني والبزَّار جاء بصيغة العموم (القيء) دون بيان إن كان متعمَّداً، أو غير متعمَّد، فنخصِّصه بالوارد في الأحاديث السابقة القائلة إنَّ القيء المتعمَّدَ يفطِّرُ الصائمَ. …وعليه فإنَّا نقول إن القيء إذا كان متعمَّداً فهو من المفطِّرات للصائم، وقد مرَّ مزيد بحث في هذه المسألة في موضوع [قضاء الصوم على المتقيء عمداً] في الفصل [قضاء الصوم] . 5- الجماعُ:

السعوط

…الجماع يفطِّر الصائم، وهو معلوم من الدين بالضرورة، وقد ورد بحث جوانبه المختلفة في موضوع [حِلُّ الجماع في ليالي الصيام] من الفصل [صيام رمضان – أحكام عامة] وكذلك في موضوع [صيام من جامع زوجته في نهار رمضان] من الفصل [الكفَّارات] وأيضاً في موضوع [الرجل يجامع زوجته في نهار رمضان، ويعجز عن صوم شهرين متتابعين] من الفصل [الكفَّارات] فيُرجَعُ إليها. 6- السُّعوطُ: …ويسمى النُّشوق والنُّشوغ، وهو أن تُوضَعَ مادةٌ في الأنف وتُستنشَق، ويسمى الدواء الذي يُستنشق السَّعوط بفتح السين. …وقد ورد السُّعوط في عدد من الأحاديث كدواء، ولكن أياً منها لم يتناوله بالذِّكر مع الصيام، ولذا لم يجد المحدِّثون من حديثٍ نبوي يذكرونه في هذا الباب إلا ما رُوي عن لقيط بن صَبْرة رضي الله تعالى عنه قال {قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: أَسبغ الوضوءَ وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} رواه ابن ماجة (407) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد. فأدخلوا الاستنشاق في الوضوء في باب السُّعوط. …وقد اختلف الفقهاء في السُّعوط هل هو جائز للصائم ولا يفطِّره أم هو مُفطِّر؟ فقال البخاري (1934) [وقال الحسن: لا بأس بالسَّعوط للصائم إن لم يصل إلى حلقه، ويكتحل] وذكره ابن أبي شيبة موصولاً بلفظ قريب. وروى ابن أبي شيبة (2/462) عن القعقاع قال [سألت إبراهيم – النخعي- عن السُّعوط بالصَّبِرِ للصائم فلم ير به بأساً] وفي رواية أخرى [قال: لا بأس بالسُّعوط للصائم] وذهب الجمهور إلى أن الاستعاط يفطِّر ويوجِب القضاء.

…واختلفوا في الماء يستنشقه الصائم، فيصل إلى الحلق دون قصد: فقالت الحنفية والمالكية والشافعي في أحد قوليه: إنه يفسد الصوم. وقال أحمد وإسحق بن راهُويه والأوزاعي وأصحاب الشافعي: إنه لا يُفسد الصوم كالناسي. وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي: إنه يُفسد الصوم إن لم يكن لفريضة. فأقول ما يلي: …إن الحديث الذي رواه ابن ماجة من طريق ابن صبرة لا يصح إِدراجه في باب السُّعوط، وذلك لأن السُّعوط هو أن تُدخِلَ مادةً في الأنف وتقوم باستنشاقها لتَدخُل كلُّها أو جزءٌ منها في الرئتين، فهذا هو السُّعوط. وأما إدخال ماء أو دواء في الأنف لعلاج التهاب الجيوب الأنفية مثلاً، دون أن يصل الماء، أو الدواء إلى الرئتين، فليس بسُّعوط. ولذا فإن استنشاق الماء في الوضوء لا يصح إِدراجه في باب السُّعوط. وقد جاء النهي عن المبالغة فيه في حالة الصوم تحرُّزاً من أن يصل الماء إلى الحلق، ومن ثم إلى البلعوم والمعدة، وهو ما نوَّه به الحسن وذكره البخاري. وعليه فإني أقول إنه لم يرد في هذه المسألة أي حديث نبوي. …أما ما رُوي عن عائشة رضي الله عنها قالت {دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عائشة هل من كِسرة؟ فأتيته بقُرْصٍ، فوضع على فيه، وقال: يا عائشة هل دخل بطني منه شيء؟ كذلك قُبلة الصائم، إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج} رواه أبو يَعلى (8/4954) . قال الهيثمي [رواه أبو يعلى، وفيه من لم أعرفه] ففيه راوٍ مجهول، فهو ضعيف. وهو يشير إلى راوية الحديث المدعوَّةِ سلمى من قبيلةِ بكرِ بن وائل، وهي مجهولة لا تُعرف، فيترك هذا الحديث.

…فلم تبق إلا آثار الصحابة رضوان الله عليهم. فوجدنا عبد الرزاق (7518) يروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال {إنما الصيام مما دخل وليس مما خرج والوضوء مما خرج وليس مما دخل} ووجدنا ابن أبي شيبة (2/467) والبيهقي يرويان عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال {في الحجامة للصائم قال: الفطر مما دخل وليس مما خرج} وذكره البخاري تعليقاً. وهذان الأثران صحيحان. فأقول ما يلي: …هذان الأثران ورد اللفظ فيهما عاماً، دون بيان إن كان الداخل يدخل إلى الصدر والبطن أو كان يدخل إلى الجمجمة أي إلى الدماغ ويبعد أن يكون الصحابيان الجليلان قد قصدا الجمجمة أي الدماغ، لأن مثل هذا القصد بعيد التوقع، فمن أراده وقصده فإنه يتوجب عليه أن يفصح عنه وإلا انصرف القول إلى المتبادر إلى الأذهان منه وهو ما يدخل في الصدر والبطن، لا ما يدخل في الجمجمة، ولذا فإن قول الفقهاء إنَّ ما يصل إلى الدماغ يفطِّر الصائم استدلالاً بهذين الأثرين غير صحيح. والغريب هو أن الفقهاء كانوا يظنُّون أن السَّعوط يصل إلى الدماغ فقالوا إن ما يصل إلى الدماغ يفطِّر لأجل ذلك. …والحق – وهو ما توصَّل إليه العلم بشكل يقيني قطعي – هو أن السَّعوط وكلَّ ما يستنشقه الإنسان يدخل في الرئتين مروراً بالبلعوم أي يذهب إلى داخل الصدر وليس إلى الدماغ، فوجب بحث هذه المسألة على هذا الصعيد، ولذا أقول ما يلي:

…إنه لمن المتفق عليه عند المسلمين قديماً وحديثاً أن دخول جسم في الحلق ومن ثم بلعه، أي نزوله إلى البلعوم يفطِّر الصائم، دون اشتراط أن يصل إلى المعدة أو إلى الرئة فنزول أي جسم إلى البلعوم يفطِّر الصائم، وهذا هو مقتضى اللغة، فاللغة تُطلِق على من بلع جسماً صلباً أنه أكله، أو سائلاً أنه شربه، فنزول الشيء إلى البلعوم يعتبر أكلاً له أو شرباً له، وحيث أن الأكل والشرب يفطِّران، فإن بلع أي شيء يفطِّر الصائم. وإنه لمن المتفق عليه عند المسلمين قديماً وحديثاً، إلا من شذَّ، أن نزول أي جسم إلى البلعوم يفطِّر الصائم، سواء كان مغذياً، أو غير مغذٍّ كحصاةٍ أو حفنة تراب. …بقي أن نعرف مواصفات هذا الجسم، فأقول إن الجسم إن دخل كلُّه دفعةً واحدة فإنه لا خلاف في أنه يفطِّر، كاللقمة أو كحبة الحمص أو كجرعة ماء أو دواء وهو مُجْمَعٌ عليه عند المسلمين قديماً وحديثاً، فإذا جاء أحدهم ليحتال على الصيام، فسحق حبةَ الحمص أو حبة الدواء، ثم أدخل المسحوق بالتدريج في جوفه إما ببلعه مع الريق، أو باستنشاقه مع الهواء فإنه يكون قد أفطر، ولا تنفعه حيلته هذه، لأن النتيجة واحدة في الحالتين، وهي إن جسماً قد نزل إلى البلعوم ومن ثمَّ إلى الرئتين في الصدر، أو إلى المعدة في البطن، ولا يختلف الحال إن كان قد دخل جسماً على حاله، أو دخل مسحوقاً فبلعه مع الريق فوصل إلى المعدة، أو استنشقه مع الهواء، فوصل إلى الرئتين، وإذن فإن دخول أي جسم عن طريق البلعوم يفطِّر على أيةِ حالةٍ دخل، لأنه في واقعه فعلٌ واحد.

…أما إن دخل في البلعومَ ما ليس له جسمٌ محسوس، أو ما لا يتشكل منه جسمٌ محسوس فإنه لا يفطِّر وذلك كالعطور والروائح بأنواعها الزكية والكريهة فهذه العطور والروائح لا شيء في تعمُّد شمِّها، فقد روى الطبراني في المعجم الأوسط (4449) وفي المعجم الصغير (614) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيقبِّل الصائم؟ فقال: وما بأس بذلك ريحانةٌ يشمُّها} وسنده حسن. فقد شبه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام تقبيل الصائم بشمِّ الريحان، فدل هذا التشبيه على أن شمَّ الريحان لا يفطِّر الصائم كالتقبيل. فما يدخل في الصدر أو في البطن من طريق الحلق والبلعوم يفطِّر، لا فرق بين أن يدخل على شكل جسم محسوس أو على شكل مسحوقٍ مُذاب في الريق، أو على شكل مادة تطير في الهواء ثم تنعقد في الداخل مادةً محسوسة. أما الحالتان الأُوْليان فإنه لا خفاء فيهما، ولا يحتاجان منا إلى ضرب أمثلة عليهما، وأما الحالة الثالثة فهي ما تحتاج إلى ضرب أمثلة عليها: أ - السَّعوط، وهو نوع من التبغ يُسحَق ويستنشقه الشخص فيدخل في الرئتين. ب - دخان التبغ، ودخان البخُّور. ج - بخار الماء وبخار الدواء. د - بخَّاخ الرَّبْو.

…هذه الأنواع الأربعة يدخل منها من طريق الحلق والبلعوم في الرئتين في الصدر ما ينعقد أَجْراماً وأجساماً أما بالنسبة للسَّعوط فإنه يدخل كلُّه في الرئتين مروراً بالبلعوم حاله كحال حبة حمص أو حبة دواء تُسحَق فتدخل مع الريق في المعدة. وأما دخان التبغ من سجاير وغلايين ونرجيلة فإنه يتشكَّل في الصدر أَجْراماً وأجساماً من القَطِران والنيكوتين وغيرهما وهي ما تشاهد بوضوح تام في ما يسميه الناس بـ (البِلْبِلة) لدى مرور الدخان من خلالها، وهي ما تشاهد بوضوح على الثياب إذا جرى تبخيرها بكثرة. وأما بخار الماء وبخار الدواء، فإن حقيقته وواقعه أنه ماء ودواء، فلا يصح استنشاقه وإدخاله في الداخل بحالٍ من الأحوال. وأما بخَّاخ الربو فإن حقيقته وواقعه أنه دواء ينبعث من الإناء الموضوع فيه كرذاذ يدخل في الفم ومن ثم ينزل إلى البلعوم، قسمٌ منه يختلط باللعاب فيدخل في المعدة، والقسم الأكبر يدخل مع الهواء في الرئتين. فالقاعدة هي أن أي جسم إذا دخل في البلعوم فطَّر الصائم سواء دخل على حاله، أو دخل على شكل دخان أو رذاذ أو بخار، ثم انعقد جسماً ومادة في الداخل. …وهذا كله إن حصل بفعلٍ إراديٍّ من الإنسان، أي قام بالاستعاط، أو قام بالتدخين، أو استنشق عامداً الدخان المتصاعد من البخور المشتعِل، أو ترك الماء، أو الدواء يغليان على النار وقام باستنشاق بخارهما للعلاج أو لغيره، أو رشَّ بخَّاخ الربو في فمه ليدخل منه في جوفه فكل ذلك في واقعه إِدخال أجرامٍ وأجسامٍ في البلعوم، فيُفْطِر الصائم بأي منها.

…أما إن حصل كل ذلك بغير إرادةٍ من الإنسان فإنه لا يُفْطِر، لأن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب على فعلٍ لا إرادة للإنسان فيه فمن جلس إلى جوار مدخِّن أو قربَ عودِ بخُّورٍ مشتعلٍ في غرفة، ودخل في صدره شيءٌ منه دون قصد ولا إرادة فإنه يظلُّ صائماً ولا يفطر، وإذا كان الجو رطباً مُشْبَعاً ببخار الماء، أو كان الحمَّام مشبعاً ببخار الماء المتصاعد من الماء الحار، واستنشق الصائم بخار الماء هذا أو ذاك رغماً عنه، دون إرادة ولا قصد، فإنه لا يفطر. وقل مثل ذلك بخصوص الغبار في الجو، وخاصةً في أيام الزوابع والعواصف الخماسينية، فإن استنشاق الغبار آنذاك لا يفطر الصائم، ولا يفطر إلا إذا أدخل هو بإرادةٍ منه وقصدٍ أشياءَ مما سبق. …يتضح مما سبق أن قول الجمهور إِنَّ الاستعاط يفطِّر ويوجب القضاء هو القول الصحيح وأنَّ ما عداه خطأ وأن أثري ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما يرشدان إلى هذا (الصيام مما دخل) ، (والفطر مما دخل) أما معنى (الصيام مما دخل) فهو أن يصوم الشخص أو يمتنع عن إدخال أي شيء في جوفه وأما معنى (الفطر مما دخل) فهو أن أي شيء يدخل في الجوف يفطِّر الصائم، فإدخال أي شيء في البلعوم ومنه السَّعوط يفطِّر الصائم. تطبيقاتٌ على الطب: …وبناءً على ما سبق بيانُه فإني أذكر جملةً من التطبيقات الطبية المتعلقة بمسألتنا، وإنزال الحكم الشرعي عليها، وبيان أيٍّ منها يفطِّر الصائم وأيٍّ لا يفطِّر:

1- قد يعمد الطبيب أو الجرَّاح إلى إدخال سلكٍ (أو منظارٍ كما يسمونه) في جسد المريض، إِما للعلاج، كوضع شبكةٍ في الشريان المصاب أو إجراء عملية نفخٍ لفتح الشريان المسدود، وإما للفحص فقط، فهذا السلك أو المنظار في كلِّ حالاته يُنظَر فيه فإن هو أُدخِل من طريق الأنف أو من طريق الفم فإنه يفطِّر الصائم، وكذلك إن هو أُدخل من طريق الجلد فوصل إلى الرئتين أو إلى المعدة أو إلى الأمعاء، فإنه أيضاً يفطِّر الصائم، ولكنه إن أُدخل من طريق الجلد فوصل إلى القلب مثلاً، أو إلى الكبد أو إلى المثانة، أي لم يصل إلى الرئتين، ولا إلى الجهاز الهضمي، فإنه لا يفطِّر الصائم. 2- عمليات تخطيط الدماغ وعمليات تخطيط القلب وما يصاحبها من وضع أطراف الأسلاك على الجلد، هذه العمليات لا تفطِّر الصائم. 3- العلاج بالأشعة كما يحصل أحياناً في عمليات تفتيت الحصى في الكليتين، أو في الحالب أو في المثانة، وكما يحصل في علاج السرطان، هذا العلاجُ لا يفطِّر الصائم. ومثله العلاجُ بالرَّنين المغناطيسي، وذلك لأن الأشعة والرَّنين المغناطيسي ليست أجساماً فدخولها في جسدِ الصائم لا يفطِّره بحالٍ من الأحوال. 4- التقطير في ذَكَر الرجل، أو في الإحليل كما يقول الفقهاء، وهم يعنون بالتقطير إدخال سائل في الذَّكَر، هذا التقطير لا يفطِّر الصائم، وذلك لأن هذا السائل لا يصل إلى الرئتين ولا إلى الجهاز الهضمي. ومثله إدخال سلك (أو منظار) في الذَّكَر لتنظير المثانة أو الكليتين وكذلك عمليةُ التنظير لرحم المرأة، فإِنَّ كلَّ ذلك لا يفطِّر الصائم.

الجائفة والآمة

5- الحُقْنةُ الشرجية والتحاميل الطبية الخافضة للحرارة مثلاً تفطِّر الصائم لأن التحاميل والحُقَن تصل إلى المستقيم، ومنه تنفذ إلى الأمعاء الغليظة، والمستقيم والأمعاء الغليظة هي من الجهاز الهضمي كما هو معلوم، وعليه فإن رأي الإمام أحمد القائل بأن الحقنة الشرجية تفطِّر الصائم هو الرأي الصحيح. 6- مطاعيم الجلد بأنواعها لا تفطِّر الصائم، وأما مطاعيم الفم فإنها تفطِّر. 7- عملية التنظيفات للمرأة ومثلها إجراء الفحص الطبي الداخلي للمرأة وما يستلزمه ذلك من إدخال أدوات وموادَّ كل ذلك لا يفطِّر الصائمة، لأن الرحم ليس من الجهاز الهضمي ولا من الجهاز التنفسي. 8- الخارج من فرج المرأة يُنظَر فيه: فإن كان دمَ حيضٍ أو نفاسٍ فقد مرَّ أنه يفطِّر الصائمة، وأما إن كان الدم الخارج من الفرج دم استحاضة – وهو ما يخرج من عِرْقٍ مقطوع – فإنه لا يفطِّر الصائمة. ولا يفطِّر الصائم ولا الصائمة خروجُ الدم من أي عضوٍ أو جزء من البدن، وسيمرُّ ذلك بإِذن الله في بحث [الحِجامة] من الفصل التالي [ما لا يفطِّر الصائم] وكذلك غير الدم من السوائل كالإِفرازات الطبيعية، أو الإِفرازات الناتجة عن التهابات الجهاز التناسلي الأنثوي فإنها كلَّها لا تفطِّر. 9- الجائفة والآمَّة – أو المأمومة -: ونعني بالجائفة الجرحَ الواصلَ إلى الجوف، والآمَّة الجرحَ الواصلَ إلى أُمِّ الدماغ، وهي جلدة رقيقة تحيط به. أما الآمة فإنها لا تفطِّر، فدخول أي جسم في تجويف الجمجمة لا شيء فيه، ولا يفطِّر الصائم بحالٍ. وأما الجائفة فيُنظر فيها: فإن هي وصلت إلى داخل الرئتين أو إلى داخل الجهاز الهضمي فإنها تفطِّر، وأما إن هي لم تصل إلى أيٍّ من ذلك، فإنها لا تفطِّر، كأن تصل إلى القلب أو إلى الكبد أو إلى المثانة مثلاً.

إبرة الطبيب لا تفطر

10- التخديرُ باستنشاق المواد المخدِّرة كالنشادر مثلاً يفطِّر الصائم، فهو والاستعاط فعلٌ واحد له حكم واحد، وقد مرَّ بحث السُّعوط قبل قليل. 11- شقُّ الصدر أو البطن وما يتبعه من إدخال الأدوات المستعملة في الجراحة يُنظَر فيه فإن كان الشقُّ يصل إلى داخل الرئتين أو إلى داخل الجهاز الهضمي فإنه يفطِّر، وأما إن كان الشق لا يصل إلى داخل الرئتين، ولا إلى داخل الجهاز الهضمي وبقي خارجهما، كإجراء عملية الفتق أو زرع الكلى أو زرع بطارية في القفص الصدري لتنظيم ضربات القلب فإن كل ذلك لا يفطِّر بحال، اللهم إلا أن يصاحب هذه العملياتِ دخولُ موادَّ أو أدواتٍ إلى الرئتين، أو إلى الجهاز الهضمي. 12- تصويرُ أيِّ جزء في الجسم بواسطة أشعة إِكس، أو بطريقة التصوير الطبقي، أو بواسطة الرَّنين المغناطيسي، والذي يصاحبه عادة حقنُ موادَّ عن طريق الوريد لا يفطِّر الصائمَ، وأما إن صاحبه إعطاءُ مادةٍ عن طريق الفم أو عن طريق الشرج (وهي المادة الملونة) فإنه حينئذٍ يفطِّر الصائم. 13- إجراء عمليات في الركبتين، أو في الوَرِكَين، وزرعُ أجسامٍ صلبة فيهما بدل الأعضاء التالفة وتثبيتها بالمسامير، كل ذلك لا يفطِّر الصائم. 14- إبرةُ الطبيب لا تفطِّر بحالٍ سواءٌ منها ما كان للعلاج بالأدوية أو ما كان للتغذية بالمواد المغذية وبالدم، أو ما كان للتخدير، وسواءٌ منها ما كان في الأوردة، أو ما كان في العضل ما دامت هذه الأدوية وهذه المواد المغذية والدم بجميع مشتقاته لا تصلُ مباشرةً إلى داخل الجهاز التنفسي، ولا إلى داخل الجهاز الهضمي. …وباختصار أقول: إِن إدخال أيةِ مادة صلبة أو سائلة، أو أداةٍ أو أيِّ شيء في داخل الجسم إن كان الإدخال في الجهاز التنفسي أو في الجهاز الهضمي فإنه يفطِّر، وما عداه لا يفطِّر.

الفصل التاسع: ما لا يفطر الصائم

…وهنا قد تثور شبهة، هي أن الصيام إنما هو امتناع عن الأكل والشرب، أي امتناع عن تناول الغذاء، فلماذا نجيز إدخال المواد المغذية في بدن الصائم بواسطة إبرة الطبيب، ولا نعتبرها مُبْطِلة للصوم؟ أليست هذه كتلك؟ …وللرد على هذه الشبهة أقول إن الصائم يُحْظَر عليه الأكل والشرب أي يُحظَر عليه أن يفعل ما يصح إطلاقُ اسم الأكل والشرب عليه، فهذا هو ما جاء في النصوص ولم يأت نصٌّ واحد يأمر الصائم بالامتناع عن المُغَذِّيات أو عن التغذية، ولذا فإن بلع حفنةِ تراب أو حباتٍ صغيرةٍ من الحصى يُفطِّر الصائم رغم أنها لا غذاء فيها، فالعبرة هي بعملية الأكل والشرب وليس بالتغذية والغذاء، ولا شك في أن التغذية بالمواد المغذية أو بالدم عن طريق الجلد ليست أكلاً ولا شرباً قطعاً، فلا تفطِّر الصائم إذن. …وعليه فإني أقول إن تغذية الصائم جائزة ولا تفطِّر الصائم إن هي تمَّت بغير أكل وشرب، أو بغير إدخال المواد المغذية في الجهاز الهضمي، كأن تتم التغذية بهذه المواد أو بالدم بواسطة إبرة الطبيب تُغْرَزُ في الجلد مثلاً. الفصل التاسع: ما لا يفطِّر الصائم الفصل التاسع ما لا يفطِّرُ الصائم القُبلةُ والمباشرةُ: …ونعني بالمباشرة ملامسةَ الزوجةِ ومضاجعتَها دون إيلاج، أي دون جماع. قال الترمذي [واختلف أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم في القُبلة للصائم فرخص بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القُبلة للشيخ ولم يُرَخِّصوا للشاب مخافةَ أن لا يَسْلَمَ له صومُه والمباشرةُ عندهم أشدُّ. وقد قال بعض أهل العلم: القُبلة تُنقِصُ الأَجر ولا تفطِّر الصائم، ورأوا أن للصائم إذا ملك نفسه أن يُقبِّل، وإذا لم يأمن على نفسه تَرَك القُبلة ليَسْلَمَ له صومُه وهو قول سفيان الثوري والشافعي] .

…وقد ذهبت المالكية إلى أن القُبلة والمباشرة مكروهتان للصائم. وقال مالك: من باشر أو قبَّل فأَنْعظَ – أي تحرك ذَكَرُه – ولم يُمذِ ولا أنزل، بطل صومه وقضى. وقال عبد الله بن شُبْرُمة أحدُ فقهاء الكوفة إِنَّ القُبلةَ تُفطِّر. فيما ذهب ابن حزم وأهل الظاهر إلى استحباب القُبلة للصائم. وأباح القُبلةَ والمباشرةَ مطلقاً أبو هريرة وسعيد وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم. وفرَّق ابن عباس رضي الله تعالى عنه بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب وأباحها للشيخ. وقال ابن حجر: من حرَّكت القُبلةُ شهوَته فهي حرام في حقِّه على الأصح. وحتى نقف على الحكم الصائب بإذن الله تعالى لا بد من استعراض النصوصَ التاليةَ: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلني وهو صائم وأنا صائمة} رواه أبو داود (2384) وأحمد والبيهقي والطحاوي. ورواه النَّسائي (3038) في السنن الكبرى بلفظ {أَهْوى النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليقبِّلني، فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم، فقبَّلني} وسنده جيد. 2- وعنها رضي الله تعالى عنها قالت {إنْ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليقبِّلُ بعضَ أزواجه وهو صائم ثم ضحكت} رواه البخاري (1928) ومسلم والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وروى أحمد مثل ذلك أيضاً من طريق حفصة وأم حبيبة زوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- وعنها رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنه أملكُكُم لإِرْبِهِ} رواه مسلم (2576) والبخاري وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة والبيهقي. قوله لإِرْبه: أي لعضوه. وفي لفظ:لأَرَبِهِ: أي لحاجته. 4- وعنها رضي الله عنها قالت {كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّل في رمضان وهو صائم} رواه مسلم (2584) وأحمد.

5- عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل بعض نسائه وهو صائم، قلت لعائشة: في الفريضة والتطوُّع؟ قالت عائشة: في كل ذلك، في الفريضة والتطوُّع} رواه ابن حِبَّان (3545) والنَّسائي في السنن الكبرى وأحمد وعبد الرزاق والطحاوي. وسنده صحيح. 6- عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله تعالى عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم، ثم يجعل بينه وبينها ثوباً، يعني الفَرْجَ} . رواه أحمد (24818) بسند جيد. ورواه ابن خُزيمة. 7- عن مسروق {سألتُ عائشة: ما يحلُّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كلُّ شيء إلا الجماعَ} رواه عبد الرزاق (7439) وسنده صحيح. وروى الطحاوي (2/95) من طريق حكيم بن عقال أنه قال {سألت عائشة رضي الله عنها: ما يحرم عليَّ من امرأتي وأنا صائم؟ قالت: فرجُها} . 8- عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال {رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في القُبلة للصائم، ورخَّص في الحِجامة للصائم} رواه النَّسائي (3224) في السنن الكبرى. ورواه الدارَقُطني وقال [رجاله ثِقات] ورواه ابن خُزيمة موقوفاً ومرفوعاً وصحَّح وقفَه. 9- عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه {أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبِّل الصائمُ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل هذه – لأمِّ سَلَمة –؟ فأخْبَرَته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا والله إِني لأتقاكم لله وأخشاكم له} رواه مسلم (2588) وابن حِبَّان والبيهقي. فأقول ما يلي:

……إن حديثاً واحداً من هذه الأحاديث العشرة، إن احتسبنا في البند 7 حديثين، يكفي لبيان جواز التقبيل للصائم، فكيف بها كلِّها؟ إنه لمما لا شك فيه، ولا يجوز القول بخلافه، أن الصائم والصائمة يجوز لهما أن يُقبِّلا ويُقبَّلا، في صوم الفريضة كما في صوم التطوُّع، كما يحل للصائم أن يباشر زوجته، دون أن تصل المباشرة إلى حدِّ الإيلاج في الفرج، فهذا هو الحكم الصائب الذي تدلُّ عليه النصوص. ……وعندما أعلمتْ أمُّ سلمة عمرَ بن أبي سلمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبِّل وهو صائم، كان يخشى أن يكون التقبيل حراماً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعله فيُغفَر له، فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأجابه عليه الصلاة والسلام بنفي ذلك وأنه الأتقى والأخشى لله لا يفعل الحرام كما هو معنى الحديث التاسع، وهو دليل يضاف إلى الأدلة المصِّرحة بالجواز. ……ومع هذا الوضوح في الحكم والقوة في الاستدلال يأتي من يقول إن القُبلة حرام أو إنها تفطِّر الصائم!! ويأتي من يقول إن القُبلة والمباشرة مكروهتان للصائم!! وقد نظر هؤلاء في النصوص، فوجدوا في النص الثالث قولَ عائشة (ولكنه أَملكُكُم لإِرْبِه) فجعلوا من هذا القول مدخلاً لأمرين: الأول: أن الترخيص بالتقبيل إنما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك إِرْبه، أي لا يملك التحكُّم في شهوته ومن ثم كان التقبيل والمباشرة مكروهَين بحقه. وأضاف هؤلاء إن القُبلة للصائم مكروهة إن كان شاباً وجائزة إن كان شيخاً، وعلَّلوا ذلك بأن الشاب تتحرك شهوته إن هو قبَّل، فخرجوا بحكم تحريم تحريك الشهوة كما يقول مالك وابن حجر، وأتوا بجملة من النصوص تعضد قولهم هذا، منها:

1- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال {هَشَشَتُ فقبَّلتُ وأنا صائم فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لقد صنعتُ اليوم أمراً عظيماً قال: وما هو؟ قلت: قبَّلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ لو مضمضتَ من الماء؟ قلت: إذاً لا يضرُّ؟ قال: نعم} رواه ابن حبَّان (3544) وأبو داود وأحمد والدارمي والبيهقي والحاكم والطحاوي وابن خُزيمة. وقد صححه الطحاوي وابن خُزيمة وابن حِبَّان وأنكره النَّسائي، وضعفه أحمد وابن حزم. 2- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال {كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء شاب فقال: يا رسول الله أُقبِّل وأنا صائم؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: أُقبِّل وأنا صائم؟ قال: نعم، قال: فنظر بعضُنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمتُ لِمَ نظر بعضُكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه} رواه أحمد (6739) والطبراني في المعجم الكبير. وفيه عبد الله بن لهيعة وفيه كلام. 3- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخَّص له وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخَّصَ له شيخٌ، والذي نهاه شاب} رواه أبو داود (2387) والبيهقي. 4- عن ميمونة – بنت سعد – مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت {سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن رجل قبَّل امرأتَه وهو صائم قال: قد أفطر} رواه أحمد (28177) وابن ماجة والدارَقُطني. 5- عن عمر رضي الله عنه قال {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فرأيته لا ينظر إليَّ فقلت: يا رسول الله ما شأنُك؟ قال: أوَ لستَ المقبِّل وأنت صائم؟ فقلت: والذي نفس عمر بيده لا أُقبِّل وأنا صائم أبداً} رواه البزَّار (1018) والبيهقي.

6- عن سعيد بن المسيِّب [أن عمر نهى عن القُبلة للصائم] رواه ابن أبي شيبة (2/476) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط باختلاف في الألفاظ. 7- عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر العُذْري - وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد مسح على وجهه وأدرك أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال {كانوا ينهَوْني عن القُبلة تخوُّفاً أن أتقرَّب لأكثرَ منها، ثم المسلمون اليوم ينْهَوْن عنها، ويقول قائلهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له من حفظِ الله ما ليس لأحد} رواه أحمد (24069) ورجاله رجال الصحيح. فأقول لهؤلاء ولغيرهم ما يلي:

…الحديثُ الأول مختلَفٌ فيه، فمنهم من صححه، ومنهم من ضعَّفه وأنكره، فيجوز أخذُه والعمل به. والحديث الثاني فيه عبد الله بن لهيعة، والكثيرون على أن رواياته ضعيفة، وحسَّنها بعضُهم، فلْنقبل الحديثَ على ضعفٍ فيه. والحديث الثالث فيه إسرائيل، ضعَّفه ابن حزم ويحيى القطان وعلي بن المَديْني وعبد الرحمن بن مهدي، وفيه أبو العنبس لا يُدْرَى مَن هو، قاله ابن حزم. وقال الذهبي إنه مجهول لا يُعرف. فيترك الحديث. والحديث الرابع قال عنه الدارَقُطني [راويه مجهولٌ لا يثبت] وقال البوصيري في زوائد ابن ماجة: إِسناده ضعيف، لاتفاقهم على ضعف زيد بن جُبَير، وضعف شيخه أبي يزيد الضِّنِّي. وقال الزُّبيري: حديثٌ منكر وأبو يزيد مجهول. وفيه أيضاً إسرائيل ضعَّفه ابن حزم والقطان وعلي بن المَديني. فالحديث ضعيف جداً فيترك والحديث الخامس قال البزَّار [لا نعلمه عن عمر إلا من هذا الوجه بهذا اللفظ، وقد رُوي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا] وقال البيهقي [تفرَّد به عمر بن حمزة] وعمر هذا ضعَّفه يحيى بن معين والرازي وغيرهما. ثم إن هذا الحديث يناقض ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بإباحة القبلة، وعليه فإن هذا الحديث مردود. والحديث السادس فيه انقطاع بين سعيد بن المسيِّب وعمر بن الخطاب، إضافة إلى أنه أثر وليس حديثاً مرفوعاً فلا حُجَّةَ فيه فيترك. والحديث السابع رجاله رجال الصحيح، ولكنه أثر وليس حديثاً مرفوعاً فلا حُجَّةَ فيه فيترك. فيبقى عندنا الحديث الأول والحديث الثاني فقط، على ضعفٍ فيهما.

…أما الحديث الأول فهو يدل على جواز التقبيل أكثر مما يدل على كراهته، وذلك أن تشبيه التقبيل بالمضمضة هو دليل على الجواز، لجواز المضمضة في الصيام، وكان بإمكانهم أن يقفوا عند هذه الدلالة الواضحة، إلا أنهم لم يقفوا عندها بل قالوا: حيث أن المضمضة يمكن أن يتسرب الماء منها إلى الحلق، فكذلك القُبلة يمكن أن تؤدي إلى تحرُّك الشهوة. فمثل هذا التأويل المتعسِّف هو من الضعف بحيث لا يحتاج إلى بذل أيِّ جهدٍ لردِّه. …وأما الحديث الثاني فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الشيخ يملك نفسه) هو مثل قول عائشة (ولكنه أملكُكم لإِرْبِه) والقصد من العبارتين الخوف من الجماع لا الخوف من تحرُّك الشهوة، فمن خاف على نفسه من أن تؤدي به القُبلة إلى الجماع امتنع عنها، ومن لم يخف ذلك فلا بأس بالقُبلة وهي جائزة. أما تحرُّكُ الشهوة فإن الأَعَمَّ الأَغْلَبَ أن التقبيل يحرِّك الشهوة، فلو كان تحرُّك الشهوة هو العلة من النهي لصار التقبيل محظوراً على الجميع، وهو مُعارَض بالأحاديث الكثيرة القائلة بالجواز. وإذن فليس في هذه الأحاديث السبعة ما يعضد دعواهم بكراهة التقبيل أو بتحريمه، وليس فيها ما يدل على أن تحريك الشهوة محظور. والآن نعود إلى النقطتين المذكورتين قبل قليل، فنقول ما يلي:

…أما الإدعاء بأن التقبيل هو من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمردودٌ جملةً وتفصيلاً لأن التقبيل فعل مشترك من شخصين، فالقول إِن التقبيل خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم يُوجبُ إِلحاقَ أزواجِه بهذه الخصوصية، ويجعلنا نقول إن القُبلة في الصيام هي من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وهذا منتفٍ تماماً ولم يقلْ به أحد. ويكفي للرد على دعوى هذه الخصوصية أن الحديث الأول يقول (يقبلني وهو صائم وأنا صائمة) ، (فقلت: إني صائمة، فقال: وأنا صائم، فقبلني) وقول عائشة الصريح في البند السابع (ما يحلُّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كل شيء إلا الجماع) فدعوى الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم هنا هي دعوى باطلة. …أما النقطة الثانية القائلة إن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك إِرْبَه، فالرَّد عليها آتٍ من جميع الأحاديث القائلة بالجواز، إِذ لو كان غير الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملكون أنفسهم لوجب تحريم التقبيل عليهم. وعليه فإنَّا نقول إن القُبلة حلال للصائم، وإنها لا تفطِّر الصائم ولو حرَّكت الشهوة، وإن المباشرة حلالٌ للصائم وإنها لا تفطِّر الصائم ولو حرَّكت شهوته.

الحجامة

…بقيت مسألة الاستمناء أو استخراج المني، هل يُفطِّر الصائم؟ فذهب جمهور العلماء إلى أن الاستمناء وإنزال المني بفعلٍ مقصودٍ من الرجل يُفطِّر الصائم، أما إن كان نزول المني بفعل غير مقصود، كأن نظر الرجل إلى جسد امرأته فأنزل، أو تفكَّر فأنزل فلا يفطِّر الصائم، ولا يفطِّر الصائمَ عندهم الاحتلامُ ولو نزل المني. قال النووي: من قبَّل فأنزل بطل صومه. وقال ابن قدامة في كتاب المغني: إن قبَّل فأنزل بطل صومه بلا خلاف. وقد مرَّ قول مالك: من باشر أو قبَّل فأَنْعَظَ ولم يُمْذِ ولا أنزل بطل صومه وقضى. ومفهوم قول مالك أن بطلان الصوم من حصول الإنزال هو من باب أولى. بل إن عدداً من الفقهاء قالوا إن الرجل إذا أمذى، أي أنزل المذي بطل صومه!! وهو قول مالك وابن قدامة وإسحق. وفي المقابل ذهب ابن حزم إلى أن الاستمناء وإِنزال المني بفعلٍ مقصودٍ وغيرِ مقصود لا يفطِّر الصائم. …والحق أن هذه المسألة لم تذكرها النصوص، لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حتى من أقوال الصحابة، اللهم إلا ما رواه عبد الرزاق (7452) عن حذيفة رضي الله عنه (أن من تأمَّل خَلْقَ امرأةٍ وهو صائم بطل صومه) فهذا الأثر قد ضعَّف ابن حجر إِسناده، إضافةً إلى أن الأحاديث كلها تدحض هذا القول. وإن هؤلاء القائلين ببطلان الصوم من إنزال المني إنما قاسوا إنزالَ المني على الجماع وأعطَوْه حكمَه، فشمس الدين بن قدامة في الشرح الكبير يقول [أن يُمني فيُفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين، ولأنه أنزل بمباشرةٍ أشبه الإنزال بجماع دون الفرج] . …وحيث أن هذه المسألة غير واردة في النصوص، وحيث أنني التزمت في هذا الكتاب بفقه النصوص فحسب، فإنني اكتفيت باستعراض الآراء السابقة دون تعليق عليها. الحِجامةُ:

…الحجامة هي شق جلدة الرأس بآلة تسمى المِحْجَم أو المِحْجَمة، وقيام الحاجم بمصِّ الدم الخارج من الشق، وذلك عند وفرة الدم في البدن وفَوَرانه. والغالب في الحجامة أن تكون في الرأس، فعن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بُحَيْنةَ {أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بطريق مكة وهو مُحْرِمٌ وَسَطَ رأسه} رواه مسلم (2886) . …وقد اختلف الفقهاء، ومِن قبلهم الصحابةُ، في الحجامة هل تفطِّر أم لا تفطِّر؟ فذهب محمد بن سيرين والحسن البصري وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهُويه وأبو ثور والأوزاعي والداودي من المالكية، ومحمد بن المنذر وابن خُزيمة وابن حِبَّان من الشافعية إلى أن الحجامة تفطِّر الصائمَ الحاجمَ والمحتجمَ، وأوجبوا عليهما القضاء، بل إن عطاء أوجب عليهما أيضاً الكفَّارة، وهو قول شاذٌ. ورُوي ذلك عن علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة من الصحابة رضي الله عنهم. …وذهب سعيد بن المسيِّب وعُروة بن الزبير والشعبي وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري إلى أن الحِجامة لا تفطِّر الصائم، وروي ذلك من الصحابة عن أم سلمة وعبد الله بن عباس وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وأبي سعيد الخدري، وعن عائشة وعبد الله بن عمر في الرواية الثانية عنهما. وحتى نستطيع معرفة أي الحكمين هو الصحيح، لا بد من استعراض النصوص التالية: 1- عن ثوبان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {أفطر الحاجم والمحجوم} رواه أبو داود (2367) والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان والدارمي وابن خُزيمة. وإسناده صحيح على شرط البخاري.

2- عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجلٍ بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخِذٌ بيدي لثمانَ عَشْرَةَ خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم} رواه أبو داود (2369) وأحمد والنَّسائي وابن ماجة والدارمي. ورواه ابن حِبَّان (3534) والبيهقي بلفظ {كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع زمانَ الفتح ... } . 3- عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أفطر الحاجم والمحجوم} رواه ابن حِبَّان (3535) والترمذي وأحمد وابن خُزيمة والبيهقي والطبراني والحاكم. وصححه ابن المَدِيني، ذكر ذلك ابن خُزيمة والحاكم. وقال الترمذي [حسن صحيح] وقال أحمد بن حنبل: حديث شدَّاد بن أوس أصحُّ حديث يُروى في هذا الباب، وإسناد حديث رافع إسنادٌ جيد. وقال: حديث ثوبان وشدَّاد صحيحان. وقال ابن قدامة: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحدَ عشرَ نفساً. 4- عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرِم، واحتجم وهو صائم} رواه البخاري (1938) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة. ورواه أحمد (1943) والبيهقي بلفظ {احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة وهو صائمٌ مُحْرِمٌ} .

5- عن ثابت البُناني قال {سُئِل أنس بن مالك رضي الله عنه: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف – زاد شبَّابة: حدثنا شُعْبة: على عهد النبي صلى الله عليه وسلم} رواه البخاري (1939) وأبو داود والبيهقي. وروى البيهقي (4/268) والدارَقُطني عن ثابت البُناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {أول ما كرهتُ الحجامة للصائم، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه احتجم وهو صائم، فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أفطر هذان، ثم رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم بعدُ في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم} . قال الدارَقُطني [كلهم ثقات ولا أعلم له علة] . 6- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاثة لا يفطِّرن الصائم: القيءُ والحِجامةُ والاحتلامُ} رواه البزَّار (1016) ورواه الدارَقُطني (2/183) والطبراني في المعجم الأوسط من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقد مرَّ في بحث [القيء] من هذا الفصل. 7- عن أبي سعيد رضي الله عنه قال {رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في القُبلة للصائم، ورخَّص في الحِجامة للصائم} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (3224) والدارَقُطني والطبراني في المعجم الأوسط. ورواه البزَّار (1012) بلفظ {أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص في الحِجامة للصائم} ورجاله رجال الصحيح. ورواه ابن حزم وصححه. أما ابن خُزيمة فصحَّح وقفه على أبي سعيد. فأقول ما يلي:

…إن مما لا شك فيه أن الأحاديث الثلاثة الأولى وهي صالحة للاحتجاج، تصلح دليلاً على أن الشرع الحنيف قد حظر على الصائم أن يَحتجم، وجعل الاحتجام من مبطلات الصوم، وأن أي تأويل لهذه النصوص البالغة الوضوح هو ردٌّ لها وإِبطالٌ لها من مثل قولهم: إن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان في صومهما، فقيل ما قيل. حتى قال الشافعي: وعلى هذا التأويل يكون المراد بإفطارهما أنه ذهب أجرُهما. ومن مثل ما ذكره الخطابي أن معناه أنهما تعرَّضا للفِطر، أما المحجوم فلضعفه بخروج الدم فربما لحقته مشقة فأفطر، وأما الحاجم فقد يصل جوفَه شيءٌ من الدم إذا ضمَّ شفتيه. إلى غير ذلك من تأويلاتٍ أقل ما يقال فيها إنها باطلة. أما القول الأول فالردُّ عليه من وجوه: أولاً: إن الغيبة لا تفطِّر الصائم على الرأي الأصح حتى يقال إنهما كانا يغتابان. وثانياً: إن أحاديث (أفطر الحاجم والمحجوم) قد وردت في أحوالٍ عدة، فلا يُتصوَّر فيها كلِّها وجودُ الغيبة، ثم إِنَّ الأحاديث هذه قد خلت من ذِكر الغيبة، فمن أين أتوَا بها؟ . وثالثاً: إن التأويل لا يصح تأويله لأن التأويل في ذاته ضعيف نوعاً، فإن هو أُوِّلَ صار ضعيفاً بلا شك، فتأويل الأحاديث بالقول إِنهما أفطرا لأنهما كانا يغتابان لا يصح أن يجري تأويله بالقول إنه يُؤوَّل بأنه قد ذهب أجرُهما. …وأما القول الثاني الذي ذكره الخطَّابي وهو أنهما تعرضا للفطر، ثم راح يُفسِّر هذا القول باحتمال لحوق مشقة به وضعف، أو باحتمال وصول شيء من الدم إلى جوف الحاجم، فالردُّ عليه هو أن الفقه لا يُبنى على الاحتمالات، وخاصة إن كانت الاحتمالات غير محتمَلَة!! أما أنها غير محتمَلة هنا، فهو أن الإقرار بهذا الاحتمال يجعلنا نقول إن المضمضة تفطِّر الصائم، لاحتمال أن يصل شيء من الماء إلى جوف الصائم عند الوضوء، فنحظر المضمضة على الصائم؟!

… وفي المقابل وجدنا بعض الفقهاء يقولون إِن الحجامة تفطِّر الصائم، واقفين عند هذه النصوص الثلاثة والنصوص الأخرى المماثلة دون أن يتعبوا أنفسهم في قراءة ما بعدها، وإن هم قرأوها أوَّلوها هم أيضاً، كقولهم عن الحديث في البند الرابع إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما احتجم وهو مُحْرِم، إنما كان ذلك وهو ذاهبٌ إلى الحج، أي وهو مسافرٌ، والمسافر لا يصوم، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبتت عنه عدة روايات بأنه قد أفطر في السفر!! أي أنهم قالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين احتجم في السفر إنما كان مفطراً ولم يكن صائماً! وهكذا ردُّوا الحديث بهذه البساطة وأغمضوا عيونهم عن الحديثين الخامس والسادس لصعوبة تأويلهما! …إن كثيراً من خلافات الفقهاء والعلماء ناتجةٌ عن تناول قسم من النصوص في المسألة الواحدة وترك القسم الآخر، كأن يأخذوا بالأحاديث العامة ويَدَعوا الأحاديث المخصِّصة، أو يأخذوا بالأحاديث السابقة ويدعوا الأحاديث اللاحقة الناسخة، أو يقيسوا أشياء على أشياء وعندهم نصوص فيها لا يحتاجون معها إلى القياس، أو يستغرقوا في استحضار معاني الألفاظ كما تُوردها كلَّها معاجمُ اللغة، ثم ينتقوا المعنى المطلوب عندهم. ومن العلماء، وأخصُّ المتأخرين والمعاصرين، من يراعي المصلحة والبلاء العام فيبيح ما حرَّمه الله ورسوله، وقد وجدت ذلك كله في قراءاتي لكتب الفقه، ولو أن الفقهاء والعلماء يتفقون على ترك كل ما سبق لتضاءلت الخلافات بينهم إلى درجة كبيرة وكبيرة جداً. وكمثال على ما نقول ما نحن بصدده الآن:

…إن الأحاديث الثلاثة الأولى تذكر أن الحِجامة تفطِّر الصائم، ولكن هذه الأحاديث ليست وحدها في هذه المسألة، فعندنا النص الرابع يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم وهو حديث صحيح، ولو لم يكن عندنا مع الأحاديث الثلاثة إلا هذا الحديث لاختلف فهمنا لهذه المسألة لوجود التعارض بينهما كما يظهر، ولكن النظر في جميع النصوص في المسألة الواحدة يمنع الاختلاف كما ذكرنا أو يقلِّصه فجاء الحديث الخامس يذكر أن الحجامة كانت أولاً تفطِّر الصائم، ثم جرى الترخيص بها بعدئذٍ، وجاء الحديث السابع يؤكد هذا المعنى بلفظة (رخَّص) والمعلوم أن لفظة (رخَّص) لا تَرِدُ عادةً إلا بعد التحريم ولا تَرِدُ ابتداءً، فكلمة رخَّص في ذاتها تدل على أن ما قبل ذلك لم يكن مرخَّصاً به. وإذن فإنه لا مندوحة لنا، وقد نظرنا في هذه النصوص، عن القول بوجود نسخ في هذه المسألة، أي نسخ الحكم المستفاد من الأحاديث الثلاثة الأولى. …وقد يقول قائل إن حديث شداد في البند الثاني حصل زمانَ الفتح، وقد كان الفتح – أي فتح مكة - في العام الثامن من الهجرة وهذا يعني أن القول بإِفطار الحاجم والمحجوم جاء متأخراً، فلا نسخ إذن؟ فنجيبه بأن ابن عباس رضي الله عنه الذي روى الحديث الرابع كان قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ولم يصحبه مُحْرِماً قبل ذلك، وحجة الوداع حصلت في العام العاشر من الهجرة، أي أنها حصلت بعد فتح مكة بعامين اثنين، فيكون قول الحديث الرابع متأخراً عن قول الحديث الثاني بعامين، وبذلك يكون حديث ابن عباس ناسخاً لما قبله، وهذا وحده يكفي للردِّ على هؤلاء، ثم جاء الحديث السادس يثبِّت القول بعدم الإِفطار من الحجامة.

…أما عن الحديث الخامس الذي رواه البخاري، والذي يذكر كراهة الحجامة، ويذكر أن علة هذا الحكم هي ما يصيب المحتجِم من ضعف نتيجة خروج الدم منه، فإن لقائلٍ أن يقول: إن حكم الكراهة – وقد يُطلق الفقهاء هذه اللفظة ويعنون بها التحريم – باقٍ وأنه لم يُنسَخ لأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، وحيث أن العلة في هذا الحديث ثابتة وباقية، لأن الضعف الذي يطرأ على المحجوم لا يتخلف، فإن الواجب إِعمالُ هذه العلة والقولُ من ثمَّ بكراهة الحجامة أو بحرمتها؟ فنرد على هذا القول من عدة وجوه: …أولاً: إن هذا القول هو قولٌ لأنس بن مالك وليس قولاً مرفوعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعتبر دليلاً شرعياً يجب الالتزام به. …ثانياً: إن تعليل كراهة الحجامة بأنه الضعف، ينطبق على المحجوم، ولا ينطبق على الحاجم. فالمحجوم قد يضعف من خروج الدم منه وليس كذلك الحاجم. فكيف نكره الحجامة للاثنين معاً؟ إن هذا الحال يجعلنا نشك في صحة نسبة هذا القول لأنس رضي الله عنه، كما يجعلنا نشك أكثر في نسبة هذا القول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. …ثالثاً: إن السبب في احتجام الشخص، هو ما يشعر به من وفرة دمه وفَوَرانه، وقوةِ ضغطه، وما يلحقه بسبب ذلك من اضطراب في صحته، فيلجأ إلى الاحتجام لإزالة الاضطراب، ولإراحة بدنه مما يعاني، فكيف يقال مع هذا إن الحجامة تُلحق بالبدن ضعفاً يُلْجِيءُ إلى الإفطار؟ …رابعاً: أما القول إن العلة باقية وإنه يصح القياس عليها فهذا قول صحيح، ولكنه إنما يكون كذلك إن كان الحكمُ مُحْكَماً وثابتاً لم ينسخ، وفي مسألتنا هذه لا يقال ذلك لأنَّ الحكم منسوخٌ. ……لهذه الأمور الأربعة فإننا نقول: إن هذا الحديث لا يصح أن يُنظر إليه على أنه معارِضٌ للقول بجواز الحجامة. وبذلك يثبت عندنا حكم جواز الحجامة للصائم.

……وبناء على ما سبق، أي بناء على جواز الحجامةِ للصائم، وهي خروج الدم وإخراجه من البدن، فإنَّا نقول ما يلي: 1- إن عملية التبرع بالدم في أيامنا المعاصرة هي في واقعها إخراجُ الدمِ من البدن، وحيث أن إخراج الدم جائز ولا يفطِّر الصائم، فإنَّا نقول إن عملية التبرع بالدم لا تفطِّر الصائم. 2 - إن الجِراح وما يرافقها عادةً من خروج الدم، سواء كان ذلك في القتال في سبيل الله، أو في حادث سيارة، أو في إطلاق نارٍ في عرسٍ أو شِجارٍ، أو نتيجةَ سقوطٍ من مكان مرتفع، أو في غير ذلك من الحالات لا تفطِّر الصائم. 3 - إن عملية غسيل الكُلَى، وهي عبارة عن خروج الدم من الجسد ليصبَّ في جهاز التنقية، ثم يعود بعد التنقية إلى الجسد، هذه العملية لا تفطِّر الصائم، لأن خروج الدم في هذه العملية هو كخروجه في الحِجامة، فهما فعلٌ واحد، فما ينطبق على الحجامة ينطبق على هذه العملية تماماً. 4 - إن سحب الدم بإبرة من أجل إجراء فحص طبي في المختبر على هذا الدم جائز هو الآخر ولا يفطِّر الصائم. 5 – إن مصَّ الدم بواسطة دودة العلق لا يفطِّر الصائم، والعلق، ومفردها عَلَقَة، هي دودة تعيش في الماء تُستخدم في مصِّ الدم من الجسد كعلاج. …فخروج الدم، أو إخراجه من البدن لا يفطِّر الصائم، مهما كانت الدواعي والأسباب لهذا الخروج أو الإِخراج. الاكتحالُ:

…اختلف الفقهاء في حكم الاكتحال هل هو جائز للصائم لا يُفطِّر أم هو مكروه أم هو حرام مُبْطِلٌ للصوم؟ فذهب إلى أن الاكتحال يُبطل الصيام ابن شُبرُمة وابن أبي ليلى ومنصور بن المعتمِر وسليمان التيمي، ذكر ذلك ابن المنذر. وذهب إلى كراهة الاكتحال للصائم مالك وأحمد وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وإسحق. وقال مالك وأحمد: إِلاَّ أن يصل الكحلُ إلى الحلق فيفطِّر. وذهب أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور والأوزاعي وداود بن علي وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن شهاب الزهري إلى حكم الجواز وأنه لا يفطِّر بحالٍ، وروى ذلك عن عبد الله بن عمر وأنس ابن مالك وابن أبي أوفى من الصحابة رضوان الله عليهم. …والحق أن هذه المسألة هي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى وقفة طويلة لبيانِ أن الاكتحال جائز للصائم وللصائمة وأنه لا يفطِّر بحالٍ من الأحوال إذ لم يُرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته حديثٌ واحدٌ صحيحٌ أو حسنٌ ينهى الصائم عن الاكتحال، لا نهياً جازماً ولا نهياً غير جازم، وكذلك لم يُرو عنه عليه الصلاةُ والسلام أيُّ حديث صحيح أو حسن يجيزه للصائم، فكون النصوص لم تُدرجْه في باب المبطلات، فإن ذلك يدلُّ على أنه من الأفعال الجائزة في الصوم. أما ما رُوي من أحاديث تجيز الاكتحال أو تنهى عنه، فكلها أحاديث ضعيفة أو منكَرَة لا تصلح للاحتجاج مطلقاً، أذكر منها على سبيل المثال:

1- عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هَوْذة عن أبيه عن جدِّه عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه أمر بالإِثْمِد المروَّح عند النوم، وقال: لِيَتَّقِهِ الصائم} رواه أبو داود (2377) . ورواه الدارمي (1734) والبيهقي بلفظ {لا تكتحل بالنهار وأنت صائم واكتحل ليلاً بالإثمِد فإنه يجلو البصر ويُنبت الشعر} والإِثْمِد: هو حجرٌ أسودُ معروفٌ يُسحَق ويُعمَل منه الكحل. والمروَّح: أي المطيَّب بالمسك أو بغيره من أنواع العطور والطيب. 2- عن أبي رافع قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتحل بالإثمِد وهو صائم} رواه الطبراني في المعجم الكبير (1/939) والبيهقي. قال الهيثمي [مِن رواية حِبَّان بن علي عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع وقد وُثِّقا وفيهما كلام كثير] . 3- عن الزبيدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: {اكتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم} رواه ابن ماجة (1678) والبيهقي وابن عَديٍّ.

…الحديث الأول بعد أن ذكره أبو داود قال [قال لي يحيى بن معين: هو حديث منكَرٌ، يعني حديث الكحل] فلا يصلح للاحتجاج. وهذا الحديث هو مستند ابن شُبرُمة وجماعته في القول بإبطال الكحل للصوم، فيسقط بسقوطِه قولُهم هذا. أما الحديث الثاني الذي يفيد أن الاكتحال جائز للصائم فهو حديث ضعيف، بل ضعيف جداً. ولقد أوهم الهيثميُّ القاريءَ بما قال، فالبخاري قال في كتابه التاريخ الكبير عن محمد بن عبيد الله: منكَر الحديث. وقال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء هو وابنه معمر. ونقل ابن الجوزي عن الدارَقُطني تضعيفه له. وأن الرازي قال عنه: ذاهبُ الحديث. وقال البيهقي: ليس بالقوي. أما حِبَّان بن علي فإنه وإن وثَّقه ناس فقد قال عنه ابن أبي خيثمة: ليس حديثه بشيء. وقال أبو داود: لا هو ولا أخوه ولا أُحدِّث عنهما. وقال علي بن المَديني: لا أكتب حديثه. وقال أبو زُرعة: حِبَّان لين. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يُحتجُّ به. وقال البخاري: ليس عندهم بالقوي. وقال الدارَقُطني: متروك. وضعَّفه النَّسائي. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. فهذا الحديث ضعيف جداً فيترك. وأما الحديث الثالث فالزبيدي واسمه سعيد بن عبد الجبار ضعيف، وذكر البيهقي أنه من مجاهيل شيوخ بقية، ينفرد بما لا يتابَع عليه، فيُردُّ حديثه. وقل مثل ذلك بخصوص ما سواها من الأحاديث في هذا الباب، فكلها ضعيفة أو منكَرة لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً. …وتبقى الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي تجيز الاكتحال على العموم، وبشكل مطلق تبقى على عمومها وعلى إِطلاقها من الجواز في كل الأحوال والأوضاع، ومنها حالة الصيام. أما أقوالهم بأن الكحل إن وصل إلى الحلق فطَّر الصائم، فلا أجد ما أردُّ به عليها بأكثر من أنها أقوال لا تستحق الاهتمام.

السواك

…فالكحل في حالة الصيام جائز، سواء منه ما كان من الإثمِد، أو ما كان من المواد الصلبة الأخرى أو السائلة الحديثة، وسواء منها ما وُضع بالمرود، أو ما وضع بالأقلام الحديثة، فكل ذلك جائز ولا دليل على حرمته. …وما أقوله بخصوص الكُحل أقوله بخصوص قطرة العين، فإنه لا دليل من الشرع على أنها تفطِّر الصائم بل الدليل قائم على جوازها، لأن واقعها كواقع الماء في الأغسال والوضوء، فما يدخل العين من ماء أو دواء لا يفطِّر الصائم مطلقاً، وما قاله بعض الفقهاء من أن قطرة العين تصل إلى الحلق هو قول متهافت لا يُؤْبَهُ به ولا يُلتفَت إليه. ومثل قطرة العين قطرة الأذن فإنها لا تفطِّر، لأن واقعها كواقع الماء الداخل إليها في الأغسال والوضوء، وهو لا يفطِّر مطلقاً. …أما قطرة الأنف فيُنظَر، فإن هي وصلت إلى الحلق وشربها الصائم فقد أفطر، إما إن وصلت الفم فبصقها الصائم فلا تفطِّر، فالأنف يختلف عن العين والأذن بكونه نافذاً إلى الفم كما هو معلوم ومعروف. السِّواك: ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى جواز التَّسوُّك للصائم أولَ النهار وآخِرَه أو قُل قبل الظهر وبعده. وذهب أحمد وإسحق إلى جوازه أول النهار، وكراهته بعد الزوال، أي بعد الظهر. وهو المشهور عند الشافعية خلافاً لما رُوي عن الشافعي. واختلفت الرواية في التَّسوُّك بالعود الرطب، ومثله فرشاة الأسنان مع ما عليها من معجون، فرويت الكراهة عن أحمد وقتادة وعامر الشعبي والحَكَم وإسحق، ومالك في رواية. ورُوي القول بالجواز عن مالك في رواية ثانية، وعن مجاهد والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وعروة، كما رُوي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما. …وقد استدل المجوِّزون بما يلي:

1- عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم - زاد مسدَّد - ما لا أَعُدُّ ولا أُحصي} رواه أبو داود (2364) والترمذي وحسَّنه. ورواه أحمد وابن خُزيمة والبيهقي وأبو داود الطيالسي والدارَقُطني والبزَّار. وقال البخاري [ويُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استاك وهو صائم، وقال ابن عمر: يستاك أولَ النهار وآخِره ولا يبلع ريقه ... ] . 2- عن مُجالِد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِن خير خصال الصائم السِّواكُ} رواه ابن ماجة (1677) والدارَقُطني والطبراني في المعجم الأوسط. 3- وكذلك بالأحاديث الصحيحة الواردة في السِّواك مطلقاً دون تقييد، من مثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال {لولا أن أشقَّ على أمتي - أو لولا أن أشق على الناس - لأمرتُهم بالسواك مع كل صلاة} . رواه البخاري (887) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن حِبَّان وأحمد. فأقول ما يلي:

الحديث الأول وإن ضعَّفه ناس فقد حسَّنه الترمذي، وذكره البخاري تعليقاً، وهو المعروف عنه شدةُ التَّحَرِّي فيما يروي أو يقول، فيصح الاستدلال به. أما الحديث الثاني فضعيف لضعف مجالد. قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يضعِّفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وكان أحمد لا يراه شيئاً. وقال ابن معين: لا يُحتجُّ بحديثه. ومثله قال أبو حاتم. فيترك الحديث. أما الحديث الثالث الصحيح فهو وحده كاف في الاستدلال على أن الصائم يستاك، لأن الأمر بالسواك مع كل صلاة يشمل رمضان كما يشمل غيره، فهو حديث عام لم يخصَّص، ومطلق لم يقيَّد، فصلح للاستدلال به على مسألتنا. قال البخاري [وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتُهم بالسواك عند كل وضوء، ورُوي نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخصَّ الصائم من غيره ... ] . …فالسواك مندوب ومسنون للصائم ولغير الصائم، وفي كل حين، قبل الزوال وبعده، ومن خصَّه بما قبل الزوال أو من كرهه على العموم للصائم، فليأتنا بدليل من الشرع ولا دليل. أما ادعاؤُهم أن الخُلُوف - وهو تغيُّر رائحة الفم عند الصوم - تُكره إزالتُه بالسِّواك في آخر النهار، لأن الخُلُوف كما ورد في الأحاديث أطيب عند الله من رائحة المسك، فيُندبُ بقاؤُه في آخر النهار وتكره إزالته، فهذا ليس دليلاً على كراهة السواك للصائم.

…أما ما يتعلق بالسواك من حيث رطوبته وجفافه وقولهم بكراهته إن كان رطباً فقول لا دليل عليه أولاً، وهو تفريق لا لزوم له في الحقيقة والواقع، وذلك أن السِّواك الجاف إن استاك به أحدٌ فإنه يبتلُّ باللُّعاب، فيصبح السِّواك رطباً له طعم في الفم مثله مثل السِّواك الرطب، فالحالان حال واحدة، وحكمهما حكم واحد، ولكن استعمال السواك في الحالين يُوجب لفظَ ما تجمَّع في الفم مما تحلَّل من مادة السواك وعدم بلعِه، ويُعفى عن اليسير مما لا يمكن التحرُّز منه. إنَّ إِدخال أية مادة في الفم جائز للصائم سواء كانت هذه المادة مأكولة أو غير مأكولة، شرط عدم بلعها أو بلع أي جزء متحلِّل منها، مثلما نُدخِل الماء في الفم عند الوضوء، ونتحرى أن لا يدخل منه شيء في الحلق والبلعوم. مسألةٌ:

ما ينطبق على ما يتحلَّل من مادة السِّواك ينطبق على ما يتحلَّل من مادة العلك إذا مضغها الصائم، فالصائم يجوز له أن يمضغ العلك شرط أن يلفظ ما يتجمع في فمه من مادته، وهذا إنما يكون إن كانت مادة العلك متحلِّلة، أما إن كانت مادة العلك غير متحلِّلة ولا يتحلَّب منها شيءٌ فلا شيء في مضغها. وممن رُوي عنهم القول بجواز مضغ العلك: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي وعطاء ابن أبي رباح، ذكر ذلك ابن أبي شيبة (2/453) . فمضغ العلك رخَّص فيه أكثر العلماء إن كان لا يَتَحلَّبُ منه شيء، فإن تحلَّب منه شيء فازدرده، فالجمهور على أنه يفطِّر، وهو الرأي الصحيح. وقد ذهب في المقابل أصحاب الرأي والشافعي إلى القول بكراهة مضغ العلك. وروى البيهقي (4/269) عن أم حبيبة زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: لا يمضغ العلكَ الصائمُ. وروى ابن أبي شيبة (2/454) وعبد الرزاق عن عدد من التابعين أنهم كرهوا مضغ العلك، منهم من روى ابن أبي شيبة عنهم القولَ بالجواز، ولم أر أحداً حرَّم مضغ العلك، وقال إنه يفطِّر الصائم. أما قول من قال بالكراهة، فهو آتٍ عندهم من احتمالية بلع شيء من مادة العلك، فنردُّ عليهم بأن الاحتمالية لو كانت تصلح دليلاً، أو مُستَنَداً للقول بالكراهة لقلنا بها في التسوُّك، ولقلنا بها في المضمضة بالماء، لأن هذه وتلك حالٌ واحدة. مسألةٌ: …وكما قلنا، وحيث أن الفم لا يفطِّر دخولُ أيِّ شيء فيه، وحيث أن إدخال الماء في الفم في المضمضة والتَّسوك في الفم جائزان ويدعمان هذا القول، فإن القاعدة العامة تقول: إن إدخال أية مادة في الفم لا يفطِّر الصائم إلا إن بلع ما تحلَّل منها مما يمكن التحرُّزُ منه، أما إن لم يمكن التحرُّز منه كالقليل القليل فلا شيء فيه.

وبإقرار هذه القاعدة نقول إن تذوُّق الطعام جائز، وإن إدخال ميزان الحرارة في الفم لقياس درجة الحرارة جائز وإن حفر الأسنان وتلبيسها جائز ولا يفطِّر الصائمَ، ولا يُفْطِرُ الصائمُ إلا إن تسرَّب إلى حلقه شيءٌ من المواد الداخلة في فمه وبَلَعَهُ. …أما بقايا الأكل بين الأسنان، فإنها إن بقيت في مكانها، فلا خلاف في أنها لا تفطِّر، ولا تفطِّر كذلك إن ازدرد الصائم شيئاً منها وكان يسيراً، لأن الشرع عفا عن اليسير مما لا يمكن التحرُّز منه. وأما إن تجمع في فمه منها كمية وشكلت جسماً يُبلع، أي جسماً يحتاج إدخاله في الجوف إلى عملية بلع وليس بجريانه مع الريق دون إحساس به، فإن الواجب طرحه ولفظه، فإن بلعه أفطر، حاله كحال بلع حبة عدس مثلاً. قال محمد بن المنذر: أجمعوا - يقصد علماء المسلمين - على أنه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه، مما لا يقدر على إخراجه. وكان أبو حنيفة يقول: إذا كان بين أسنانه لحمٌ فأكله متعمِّداً فلا قضاء عليه. وقد خالفه الجمهور لأنه معدود من الأكل. والصحيح هو ما ذهب إليه الجمهور، فإنَّ تعمُّدَ أكلِ اللحمِ العالقِ بين الأسنان، وقد أمكن لفظُهُ، يفطِّر الصائم. …أما ما يضعه المريض بالقلب والجلطات من حبَةٍ تحت اللسان، لتذوب تدريجياً كعلاجٍ للحالة عند اشتدادها، فإن ذلك يفطِّر الصائم قولاً واحداً، إذ لا فرق بين بلع الحبة دفعةً واحدة وبين بلعها تدريجياً. ومثلها القطرة في الفم لتُشرب كعلاج كما هو الحال في التطعيم ضد الشلل، فإنها تفطِّر الصائم. …فما يدخل الفم لا يفطِّر الصائم، إلا إن هو نزل إلى البلعوم، أي تمَّ بلعُه، فلْيحرص الصائم على صومه، وليحذر من أن يُفْطِر وهو لا يقصد. قولُ الزُّورِ والغِيبةِ والجهلُ على الآخرين:

ذهب الجمهور إلى أن الغِيبة لا تفطِّر الصائم. قال أحمد بن حنبل: ومَن سَلِمَ من الغِيبة؟ لو كانت الغيبة تفطِّر ما كان لنا صوم. وذهب الشافعي إلى أن الإِفطار بالغِيبة محمول على سقوط أجر الصوم، وأنه مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمتكلم وخطيبُ الجمعة يخطب (لا جمعة لك) ولم يأمره بالإعادة، فدلَّ على أنه أراد سقوط الأجر، قاله الصنعاني صاحب سبل السلام. فيما ذهب الأوزاعي وابن حزم ورواية عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى أن الغِيبة تفطِّر الصائم. وحتى يتبين لنا وجهُ الحق في هذه المسألة لا بد لنا من استعراض النصوص المتعلقة بها: 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم {من لم يَدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشرابَه} رواه البخاري (1903) وأبو داود والنَّسائي والترمذي وأحمد. ورواه ابن ماجة (1689) بلفظ {من لم يَدَعْ قولَ الزور والجهلَ والعملَ به فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه} . 2- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَن لم يدع الخَنَا والكذب فلا حاجة لله أن يدع طعامَه وشرابَه} رواه الطبراني في المعجم الصغير (472) وفي المعجم الأوسط. قال ابن حجر [رجاله ثقات] وفي المقابل قال الهيثمي [وفيه من لم أعرفه] قوله الخَنَا: هو الفُحْشُ في القول. 3- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {الصيام جُنَّة، فلا يَرْفُثْ ولا يَجْهَلْ، وإِن امرؤٌ قاتله أو شاتمه فلْيقلْ إِني صائم، مرتين ... } . رواه البخاري (1894) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. قوله فلا يرفث: أي فلا يتكلم بكلام فاحش، فهو هنا بمعنى الخَنَا الوارد في الحديث المار قبل هذا.

4- وعنه رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال {لا تستابَّ وأنت صائم فإن سبَّك أحدٌ فقل إني صائم، وإن كنت قائماً فاْجلسْ} رواه النَّسائي (3246) في السنن الكبرى. ورواه ابن حبَّان وأحمد وابن خُزيمة. وسنده صحيح. 5- عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {الصوم جُنَّة ما لم يخرِقْها، قال أبو محمد: يعني بالغِيبة} رواه الدارمي (1733) والنَّسائي وأحمد. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط (4533) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ {الصيام جُنَّة ما لم يَخْرِقْهُ، قيل: وبم يَخْرِقُهُ؟ قال: بكذبٍ أو غِيبةٍ} . 6- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {ما صام من ظلًّ يأكل لحوم الناس} رواه ابن أبي شيبة (2/423) . ورواه أبو داود الطيالسي (2107) جزءاً من حديث طويل بلفظ { ... وكيف صام من ظلَّ يأكل لحوم الناس؟ …} . هذا الحديث الأخير ضعيف جداً، فقد رواه يزيد بن أبان الرقاشي، ضعفه ابن سعد ويحيى بن معين. وقال فيه شُعْبة قولاً فاحشاً. وقال النَّسائي وأحمد: متروك الحديث. فيترك. …والحديث الرابع لا دلالة فيه على مسألتنا، وهو لا يعدو كونَه ينهى الصائم عن التَّسابِّ، ويُرشد إلى كيفية التصرُّف حيال من سابَّ الصائم. ومثله أو قريب منه الحديث الثالث فهو والحديث الرابع ليسا في موضوع إن كانت الغِيبة أو الجهلُ يفطِّران الصائم أو لا يفطِّران. فتبقى عندنا الأحاديث (1، 2، 5) وبدمج ما جاء في الحديثين (1، 2) نقول إن قول الزور والعمل به، والجهل والعمل به، والخَنَا والكذب يجب أن يتركها الصائم، وإلا فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه، وكأن الحديثين حديث واحد، كلٌّ منهما ذكر أفراداً من المنهيَّات عنها في الصوم. فلْنتعامل مع الحديثين على هذا الأساس، فنقول ما يلي:

إن الله سبحانه أمر الصائم أن يترك عدداً من المنهيَّات عنها مبيِّناً أنه إن لم يترك هذه المنهيَّات عنها فإنه لا حاجة به إلى ترك الطعام والشراب. وبعبارة أخرى: إنْ من لم يترك هذه المنهيَّات عنها فإنه لا حاجة به إلى الصيام، إذ عبِّر الحديثان عن الصيام بترك الطعام والشراب. فالحديثان يقرران أن الصيام هو ترك الطعام والشراب، ويطالبان مَنْ تركهما - أي من صام - بترك الزور وغيره، فمن صام وجب عليه أن يترك هذه المنهيَّات عنها، وهذا يعني أن ترك المنهيَّات عنها غير الصيام، فالصيام ينعقد بترك الطعام والشراب، وإذا انعقد الصيام فإن المطلوب معه تركُ هذه المنهيَّات عنها. …وبذلك يظهر أن هناك مغايرة بين ترك الطعام والشراب، وبين ترك الزور وغيره، تركُ الطعام والشراب يُوجدان الصيام، بينما ترك الزور وغيره مجرد منهيَّاتٍ عنها في أثناء الصيام. وبذلك يظهر جلياً أن قول الزور وغيره ليس كتناول الطعام والشراب، ومن هذه المغايرة نخرج بالحكم: أَنَّ قول الزور وغيره لا يُسقط الصيام ولا يبطله، وإنما هو محظورٌ فحسب ينبغي للصائم أن يتركه، والفرق واضح بين المبطلات والمحظورات. …وإن الحديث الخامس الذي يقول (الصوم جُنَّة ما لم يخرقها) والذي ذكر أن الغِيبة والكذب يخرِقانها يدل على ما ذهبنا إليه. وذلك أن خرق الجُنَّة، أي الترس، لا يعني تلفَه بالكلية، وإنما يعني إلحاقَ نقصٍ وأَذى فيه، وهذا يعني أَن الغِيبة والكذب يُلحقان بالصوم نقصاً كما يُلحق الخرق والثقب بالترس نقصاً وأذى، دون أن يصل هذا وذاك إلى حدِّ الإبطال والإتلاف التام.

الفصل العاشر: قيام رمضان وليلة القدر

…ومن ذلك يظهر صواب الرأي الذي نُسب للجمهور، وهو أن الغِيبة وما ذُكر معها لا تفطِّر الصائم. وأُضيف أنا إلى هذا القولِ القولَ إن الغِيبة وما ذُكر معها تُنقِص أجر الصائم وثوابَه، ولا تُحْبِطه كلَّه كما يقول الشافعي، وإِنَّ الصائمَ ليخسرُ من أجر الصيام وثوابه بقدر ما يرتكب من معاصٍ. …أما لماذا جاءت هذه الأحاديث بعبارة (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ؟ فالجواب عليه هو أن القصد منها، والله أعلم، نهيُ الصائم نهياً شديداً، وتحذيرُه تحذيراً قوياً من ارتكاب معاصي الغِيبة وما ذُكر معها في أثناء الصوم. وهذه نكتة لطيفة وجليلة ينبغي لكل مسلم أن يقف عليها ويدركها. أما هذه النكتة فهي أن الشرع عندما يأمر بعبادة من العبادات فإنه إنما يأمر بها المسلم من أجل أن يجني منها الثوابَ والأجرَ، فإن قام المسلمٌ بارتكاب معصيةٍ في أثناء هذه العبادة، فإنه بذلك يكون قد خرق القصد من عبادته، ولم يتنبه للغايةِ منها، وهو بدلاً من أن يَجْني ثواب العبادة وأجرَها يقوم بجني الآثام والسيئات، فيلغي بفعله هذا القصد من العبادة، ولذا جاء النص الشرعي يحذر المسلم من أن يحصد إثماً ومعصية في موسم حصاد الأجر والثواب، ليبقى موسمُ الأجرِ والثوابِ موسمَ أجرٍ وثوابٍ. الفصل العاشر: قيام رمضان وليلة القدر الفصل العاشر قيامُ رمضان وليلة القدر فضلُ قيام رمضان وليلة القدر: ورد في فضل قيام رمضان عامةً وليلة القدر خاصةً عددٌ من الأحاديث النبوية الشريفة، أذكر منها ما يلي:

1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه} رواه البخاري (37) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ولفظ مسلم (1780) والنَّسائي {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في قيام رمضان مِن غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك} وجاءت العبارة عند البخاري (2009) هكذا { ... والناس على ذلك} . 2- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه - عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننتُ لكم قيامَه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيومِ ولدته أمه} رواه النَّسائي (2210) وابن ماجة وأحمد. 3- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه} رواه البخاري (2014) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والدارمي وابن حِبَّان. 4- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرِمَها فقد حُرِم الخيرَ كلَّه، ولا يُحْرَم خيرَها إلا محرومٌ} رواه ابن ماجة (1644) . ورواه أحمد والنَّسائي من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

قوله في الحديثين الأول والثاني (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه) هو بيانٌ لفضل قيام رمضان، وهل هناك ما هو أفضل للمسلم من غفران الذنوب؟ إن ابن آدم خطَّاء وإن ذنوبه لتوبِقُهُ وتدخلُه النار، فكان هو في أمسِّ الحاجة لمكفِّرات الذنوب وغفرانها حتى ينجو من النار ويدخل الجنة فكان أن أنعم الله سبحانه عليه بقيام رمضان ليغفر له ذنوبه ويكفِّرها ويغسله من الأوضار، ويجعله من أهل الجنة …وقد جاء قول الحديثين (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له) بتقييد قيام رمضان بالإيمان والاحتساب ولم يجيء الأمرُ بالقيامُ مطلقاً، ليُعلِم القائمين أنه لا يكفي أن يقوموا الشهر المبارك رياءً وسمعةً، أو أنْ يقوموه وظيفةً كحالِ كثير من الأئمة اليوم الذين يؤُمُّون الناس ابتغاءَ الرواتبِ والمصالح، أو أنْ يقوموه قياماً صُورياً بأداء الصلوات نقراً كنقر الديك ينتظرون اللحظة التي يفرغون فيها من صلواتهم. نعم لا ينتظر هؤلاء وأمثالهم غفرانَ ذنوبِهم، ولا يظنُّ هؤلاء وأمثالُهم أنَّ القول النبوي ينطبق عليهم، فقيام رمضان كصيامه يجب أن يكون (إيماناً واحتساباً) أي يدفعهم إيمانهم للقيام به برغبةٍ وصدقٍ وإخلاصٍ، ويدَّخرون ذلك ليوم الحساب، محتسبين راغبين في قبوله من العلي العظيم، فليتنبه القائمون لهذه النقطة فإنها حاسمة. …وقد خصَّ الله سبحانه رمضان ولياليَه بليلة القدر، وهي أشرف ليلة في العام، فكان اختصاص رمضان ولياليه بها فضلاً عظيماً فوق فضل عظيم، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة اخترنا منها الحديثين الثالث والرابع كنموذجَين لفضل قيامها ولخيرها، كي يزيد المسلمون فيها من صلواتهم ودعائهم وصدقاتهم وصنوف الخير المختلفة، فهي خير من ألف شهر، وقد نزل فيها عددٌ من آيات الله البينات:

1- قال تعالى {حم O والكتابِ المُبينِ O إِنَّا أنَزلناه في ليلةٍ مُبارَكةٍ إنَّا كنا مُنْذِرِين O فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ عظيمٍ O أَمْراً من عندِنا إِنَّا كنا مُرسِلين O رحمةً من ربِّك إنه هو السميعُ العليمُ O} الآيات الستُّ الأولى من سورة الدخان. 2- وقال سبحانه {إِنَّا أَنْزلناه في ليلةِ القَدْرِ O وما أَدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ O ليلةُ القَدْر خيرٌ من أَلْفِ شهرٍ O تَنَزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإِذنِ ربِّهم من كلِّ أمرٍ O سلامٌ هي حتى مطلعِ الفجرِ O} الآياتُ الخمسُ الأولى من سورة القَدْر. في الآية الرابعة من سورة الدخان قوله سبحانه {فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ} أي أن كل أمرٍ مُحْكَمٍ عظيمٍ يُقضَى ويقرَّر في ليلة القدر من العام إلى العام الذي يليه، فهي ليلة تقدير الأمور عند ربنا عزَّ وجلَّ، وهذا لا شك فيه فضلٌ أعلى ومنزلةٌ عليا لليلة القدر. …أما في سورة القدر ففضل ليلة القدر بارز واضح كل الوضوح في كل آية منها ففي الآية الأولى بيان أن القرآن قد أنزله الله فيها، وفي الآية الثانية التنبيه إلى فضلها، وفي الآية الثالثة أنها خير من ألف شهر، وحيث أنَّ الشهر ثلاثون يوماً فهي إِذن خيرٌ من ثلاثين ألف يومٍ ليس فيها ليلة القدر، وفي الآية الرابعة بيان تنزُّلِ الملائكةِ وجبريل فيها من كل أمرٍ أبرمه الله وقضاه، وفي الآية الأخيرة بيان أنها سلام، أي سلام من الشرور حتى الصباح. ولهذا جاء في الحديث الرابع (من حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كله، ولا يُحْرَمُ خيرَهَا إلا محرومٌ) اللهم لا تحرمناها ما دمنا أحياءً، وآتنا بفضلك خيرَها يا رب العالمين، آمين. وقد روى أحمد (25898) والنَّسائي والترمذي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت {يا نبي الله إنْ وافقتُ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني} قال الترمذي [هذا حديث حسن صحيح] .

أوصاف ليلة القدر

أوصافُ ليلة القدر: وردت في الأحاديث الشريفة أوصافٌ عديدةٌ لليلةِ القدر، منها أنها ليلة سَمْحةٌ طَلْقَةٌ لا حارةٌ ولا باردةٌ، ومنها أن الشمس تطلع صبيحَتَها بيضاءَ تترقرق لا شُعاعَ لها ومنها أنها تخلو من الشهب المتساقطة، ومنها أنها ساكنة ساجية. وهذه طائفة من الأحاديث التي تذكر هذه الأوصاف: 1- عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر {ليلةٌ سَمْحَةٌ طَلْقَةٌ لا حارَّةٌ ولا باردةٌ، تصبح شمسُها صبيحَتَها صفيقةً حمراءَ} رواه أبو داود الطيالسي (2680) والبزَّار. ورواه ابن خُزيمة (2192) بلفظ {ليلةٌ طَلْقةٌ، لا حارةٌ ولا باردةٌ، تصبح الشمسُ يومَها حمراءَ ضعيفةً} قوله: صفيقة، في الرواية الأولى: فسَّرتها الروايةُ الثانيةُ بأنها تعني ضعيفة. 2- عن زر بن حبيش قال: سمعت أُبيَّاً – بن كعب – رضي الله تعالى عنه يقول {ليلةُ القدر هي سبعٌ وعشرون، هي ليلةٌ التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع بيضاءَ تَرَقْرَقُ} رواه ابن أبي شيبة (2/489) ومسلم وأبو داود وأحمد والبيهقي. وهذا لفظ مسلم (2777) { ... قال: بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذٍ لا شعاع لها} .

3- عن عُبادةَ بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {ليلة القدر في العشر البواقي، مَن قامهن ابتغاءَ حِسْبتِهِنَّ فإن الله تبارك وتعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر: تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أَمارةَ ليلةِ القدر أنها صافيةٌ بَلْجةٌ، كأنَّ فيها قمراً ساطعاً، ساكنةٌ ساجيةٌ، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يُرمَى به فيها حتى تصبح، وإن أَمارتها أن الشمس صبيحَتَها تخرج مستوية ليس لها شعاعٌ مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ} رواه أحمد (23145) وقال الهيثمي [رجاله ثقات] قوله بلجة: أي مشرقة. قوله ساجية: أي ساكنة. قوله مستوية: أي لا يشوب قرصَها شعاعٌ، فهي كالقمر. 4- عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {إني كنت أُرِيتُ ليلةَ القدر ثم نسيتها، وهي في العشر الأواخر من ليلتها، وهي ليلة طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لا حارةٌ ولا باردةٌ} رواه ابن خُزيمة (2190) . 5- عن جابر بن سَمُرَةَ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فإني قد رأيتُها فَنُسِّيتُها، وهي ليلة مطرٍ أو ريح، أو قال: مطر وريح} رواه البزَّار (1031) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/1962) بلفظه إلا أنه زاد {ورعد} ورواه عبد الله بن أحمد بن حنبل. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] .

هذا هو ما أوردته الأحاديث الصالحة للاستدلال من أوصاف ليلة القدر دون ما جاء من أوصافٍ أخرى لها في روايات وأقوالٍ سقيمةٍ هزيلةٍ من مثل [لا يُرسَلُ فيها شيطان ولا يُحْدَثُ فيها داء] عند ابن أبي حاتم. ومن مثل [أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها وأن كلَّ شيء يسجد فيها] عند الطبري. ومن مثل [أن المياه المالحة تعذب تلك الليلة] عند البيهقي. وغير ذلك مما لا يصحُّ، إِضافة إلى مخالفته للواقع المحسوس. …فليلة القدر تأتي معتدلةَ الحرارة في الصيف وفي الشتاء، بمعنى أن الليالي التي قبلها والتي بعدها ليست مثلَها في الاعتدال، وتكون ساكنة هادئة مشرقة كأن القمر فيها بدر، فلا رياح فيها ولا أعاصيرَ ولا ثورانَ غبارٍ ولا ضبابَ، ولا تُرى فيها شُهُبٌ ونيازكُ متساقطة، فهي ليلةٌ ترتاحُ فيها النفوس وتهدأ فيها الخواطر رحمةً من الله سبحانه لعباده العُباد في تلك الليلة المباركة الشريفة. ولم يخرج على هذه الأوصاف إلا ما جاء من وصفٍ في الحديث الخامس (وهي ليلةُ مطرٍ أو ريحٍ) ورغم أن الهيثمي قال إن رجاله رجال الصحيح، فإني لم أطمئن، لأن الأحاديث الصحيحة لا يناقض بعضُها بعضاً ولا تتعارض. وبالرجوع إلى السند وهو [حدثنا عبد الله، حدثني محمد بن أبي غالب، حدثنا عبد الرحمن بن شريك، حدثني أبي، عن سِماك، عن جابر بن سمرة] وجدتُ ما يلي: أولاً: عبد الرحمن بن شريك قال عنه أبو حاتم: واهي الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ربما أخطأ، ذكر ذلك ابن حجر في تهذيب التهذيب، ولم يذكر أحداً وثَّقه أو ذكره بخير، فهذا الراوي ضعيف إذن.

ثانياً: عن سماك - بن حرب - قال عنه الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وكان شعبة يضعِّفه. وقال عمار: يقولون إنه كان يغلط، ويختلفون في حديثه. وكان الثوري يضعِّفه بعض الضعف. وقال ابن مبارك: سِماك ضعيفٌ في الحديث. وقال ابن حِبَّان في الثقات: يخطئ كثيراً. وقال النَّسائي: كان ربما لُقِّن فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة لأنه كان يُلقَّن فيتلقن. ذكر كلَّ ذلك ابنُ حجر في كتاب تهذيب التهذيب، ورغم أن ابن حجر ذكر عن عدد أقلَّ ثناءهم عليه، فإنه لمما شك فيه أن هذا الراوي ليس من رجال الصحيح، وأراه أنا ضعيفاً، ويكفي قول النَّسائي: فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة، وهنا قد انفرد بروايةٍ عن أوصاف ليلة القدر مغايرةٍ للروايات الصالحة، وعليه فإن الحديث ضعيف فيُرَدُّ، ويُرد بالتالي الوصفُ الوارد فيه. …أما وصف الشمس في صبيحة ليلة القدر بأنها تشرق لا شعاع لها، وأنها تكون حمراء ضعيفة وبيضاءَ تترقرق، فهو ليس وصفاً لها بقدر ما هو أَمارة على ليلة القدر تظهر عقب انصرامها.

وأقف عند هذه الأَمارة فأقول: إن الشمس آنذاك تشرق حمراءَ ضعيفةَ الشعاع كحالها عندما تتدلى للغروب، يسهل النظر إليها لأن أشعتها ضعيفة فلا تؤذي العيون، ولا بد من أنَّ ضعف شعاعها آنذاك آتٍ من حالة الجو، إما لكثرة رطوبةٍ، أو انتشارِ سُحُبٍ رقيقة أو ضبابٍ خفيف يحجب معظم أشعتها، يرسل الله سبحانه هذه الأشياء في ذلك الوقت لتكون حالةُ الشمس عندها أَمارةً على ليلة القدر، وإلا فإن الشمس في حقيقتها وطبيعتها ثابتة لا تتغير، بمعنى أن الشمس صبيحةَ تلك الليلة حالُها كحالِها صبيحةَ الأيام الأخرى من حيث طبيعتُها وشروقُها وشعاعُها، ولكن أشياءَ تطرأ على الحالة الجوية في تلك الليلة تُظهر الشمسَ بتلك الأوصاف الواردة، ولو كانت الشمس تخرج صبيحَةَ ليلةِ القدر على غير طبيعتها لأحسَّ بها الناس مسلمُهم وكافرُهم، ولكان في ذلك التحديدُ القطعيُّ لها، وهذا مناهِضٌ للواقع أولاً ومناهِضٌ للأحاديث الصحيحة الكثيرة التي أبهمت التعيين، كما سنتبين ذلك في البحث اللاحق بحول الله سبحانه. …أما ما نجده مسطوراً في كتب الصوفية والعُبَّاد، وما يقول به بعض الفقهاء من معاينةِ ليلةِ القدر والتَّحقُّقِ منها، ورؤيةِ بابِ السماءِ يُفتَح فيها عياناً، وخروجِ أنوارٍ ساطعةٍ من السماء فيها تغمرُ الكونَ، وغير ذلك من المشاهد والأمور الخارقة فلا يثبت منه شيء في الأحاديث، وهو لا يعدو أن يكون من القصص والحكايات التي يتناقلها العُبَّاد والزهاد وعدد من الفقهاء دون دليل، وليتهم يدلُّوننا على حديث صحيح واحد أو حسن يذكر حصول هذه الأمورِ ومشاهدتها. والعبادة في الشرعٌ لا بد لها من نصٍّ ولا نصَّ هنا فهي إِذن أُمورٌ خارجةٌ عن الشرع ولو كانت هذه المشاهدُ تحصل بالفعل لحصلت مع الصحابة رضوان الله عليهم، ولتناقلها الناس عنهم، وانتشرت وشاعت، وهم بلا شك أفضل عند الله ممن بعدهم، ولكن شيئاً من ذلك لم يُنقَل عنهم.

…والأَدهى من ذلك هو أنهم ربما أَسندوا حصولَ هذه الأمورِ إلى رُؤىً يرونها في نومهم، كأن يقول أحدهم: رأيت في منامي بابَ السماء يُفتح، وأشرقت منه أنوارٌ ربانيةٌ ساطعةٌ ملأت جَنَبَاتِ الكون. أو يقول أحدهم: رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، وأعلمني أن الليلةَ هي ليلةُ القدر. وهؤلاء الناس يعتبرون الرؤى والمنامات أدلةً شرعيةً، أو كالأدلة الشرعية يأخذون منها الأحكام، فيقول أحدهم مثلاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتاني الليلة وأمرني بأن أفعل كذا وكذا، وأنه يتوجب عليَّ تنفيذُ أمرِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يساوون بين أقواله صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في الأحاديث المروية المسندة الصحيحة وبين ما يسمعونه منه في المنام، ويعتبرون كلا القولين من الشرع، وكأن الشرع لا زال يفيض علينا بالنصوص التي لا تنفذ ولا نهاية لها. وهذه بلا شك أُحْبُولةٌ من أحابيل الشيطان، والله سبحانه يقول { ... اليوم أكملتُ لكم دينكم ... } من الآية 3 من سورة المائدة ولكنهم يتجاهلون ذلك ويرون أن الدين لا يزال يزداد بهذه الأحاديث التي يسمعونها في منامهم، وكأنَّ الدين عندهم لم يكتمل، وهذا بلا شك كفرٌ لا خفاء فيه.

ليلة القدر متى هي؟

…نعم إن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام حقٌّ كما ورد في الأحاديث ولكن هذه الرؤية مشروطةٌ برؤيته عليه الصلاة والسلام على حاله وصفاته دون تغيير، ومَنْ مِنْ هؤلاء الناس قد وقف على حاله وصفاته كلها حتى يتأكد لديه أن الشخص المرئي هو فعلاً الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وحتى لو افترضنا حصولَ علمِنا بهذه الحال والصفات وأنها وُجدت في الشخص المرئي، فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام ليس من الشرع وليست أقوالُه فيه من الأدلة الشرعية، ولا تجب طاعتها ولا تنفيذها، وهي لا تعدو كونَها مما يُطَمْئِنُ النفوسَ ويصقُلُها، فهي بشائرُ وأَماراتُ خيرٍ خاصةٌ بالرائي، والله سبحانه يقول {ألا إنَّ أولياءَ اللهِ لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ? الذين آمنوا وكانوا يتَّقونَ ? لهم البُشرى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ لا تبديلَ لكلماتِ الله ذلك هو الفوزُ العظيمُ ?} الآيات 62، 63، 64 من سورة يونس. والبُشرى هنا هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له كما ورد في الأحاديث. ليلةُ القدر متى هي؟ قال ابن حجر في فتح الباري ما يلي [وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصَّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثرُ من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظيرُ ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إِخفاء كل منهما ليقع الجِدُّ في طلبهما] وذكر ستة وأربعين قولاً. وأنا الآن أذكر أبرزَها وأشهرَها، وأدع من يريد الوقوف عليها كلِّها ليطلبها في كتاب فتح الباري. القول الرابع: أنها ممكنة في جميع السنة، وهو قولٌ مشهورٌ عن الحنفية ...

القول الخامس: أنها مختصةٌ برمضان ممكنةٌ في جميع لياليه، وهو قول ابن عمر، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه ... وفي شرح الهداية الجزم به عند أبي حنيفة، وقال به ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية، ورجَّحه السبكي في شرح المنهاج، وحكاه ابن الحاجب روايةً. وقال السروجي في شرح الهداية: قال أبو حنيفة إنها تنتقل في جميع رمضان، وقال صاحباه إنها في ليلة معينة منه مبهمة، وكذا قال النَّسَفي. القول العاشر: أنها ليلةُ سبعَ عشْرةَ من رمضان، روى ابن أبي شيبة والطبراني من حديث زيد بن أرقم قال: ما أشك ولا أمتري أنها ليلةُ سبعَ عشرةَ من رمضان، ليلة أُنزل القرآن. وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أيضاً. القول الحادي عشر: أنها مبهَمَة في العَشْرِ الأوسط، حكاه النووي، وعزاه الطبراني لعثمان بن أبي العاص والحسن البصري، وقالت به الشافعية. القول الثالث عشر: أنها ليلةُ تسعَ عشْرةَ، رواه عبد الرزاق عن علي وعزاه الطبراني لزيد بن ثابت وابن مسعود، ووصله الطحاوي عن ابن مسعود. القول الرابع عشر: أنها أولُ ليلة من العَشْرِ الأخير، وإليه مال الشافعي، وجزمت به جماعة من الشافعية، ولكن قال السبكي: إنه ليس مجزوماً به عندهم. القول الخامس عشر: مثلُ الذي قبله، إلا أنه إن كان الشهر تاماً فهي ليلة العشرين وإن كان ناقصاً فهي ليلة إحدى وعشرين، وهكذا في جميع الشهر، وهو قول ابن حزم ... القول السابع عشر: أنها ليلة ثلاث وعشرين، رواه مسلم عن عبد الله بن أنيس مرفوعاً: أُريتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيتُها، فذكر مثل حديث أبي سعيد، لكنه قال فيه: ليلة ثلاث وعشرين بدل إحدى وعشرين ... [وقد ذكر ابن حجر روايات بذلك عن معاوية وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيِّب وعائشة ومكحول] .

القول الثامن عشر: أنها ليلةُ أربع وعشرين ... [وقد أشار ابن حجر إلى حديث ابن عباس في هذا الباب وذكر حديث أبي سعيد، وأن ذلك رُوي عن ابن مسعود والشعبي وحسن وقَتادة. وذكر ابن حجر رواية لأحمد من طريق بلال: التمسوا ليلة القدر ليلة أربع وعشرين] . القول الحادي والعشرون: أنها ليلة سبع وعشرين وهو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة، وبه جزم أُبيُّ بن كعب وحلف عليه كما أخرجه مسلم. وروى مسلم أيضاً من طريق أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: تذاكرنا ليلة القدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أيكم يذكر حين طلع القمرُ كأنه شقُّ جَفْنةٍ؟} قال أبو الحسن الفارسي: أي ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة. وروى الطبراني من حديث ابن مسعود {سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: أيُّكم يذكر ليلة الصهباوات؟ قلت: أنا، وذلك ليلة سبع وعشرين} ورواه ابن أبي شيبة عن عمر وحذيفة وناس من الصحابة. وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم: رأى رجل ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين. ولأحمد من حديثه، مرفوعاً: ليلةُ القدر ليلة سبع وعشرين. ولابن المنذر: من كان متحريها فلْيتحرَّها ليلةَ سبعٍ وعشرين وعن جابر بن سمرة نحوه، أخرجه الطبراني في أوسطه. وعن معاوية نحوه، أخرجه أبو داود، وحكاه صاحب الحِلْية من الشافعية عن أكثر العلماء. القول الخامس والعشرون: أنها في أوتار العَشْرِ الأخير، وعليه يدل حديث عائشة وغيرها في هذا الباب، وهو أرجح الأقوال، وصار إليه أبو ثور والمُزَني وابن خُزيمة وجماعة من علماء المذاهب.

القول السابع والعشرون: تنتقل في العَشْرِ الأخير كله قاله أبو قُلابة ونصَّ عليه مالك والثوري وأحمد وإسحق، وزعم الماوَرْدي أنه متفق عليه، وكأنه أخذه من حديث ابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العشر الأخير، ثم اختلفوا في تعيينها منه، كما تقدم ... [وذكر ابن حجر أحاديث أخرى تدعم هذا الرأي] . القول الثامن والعشرون: قال الشافعي: أرجاه ليلة إحدى وعشرين. وبعد أن أتى ابن حجر العسقلاني على ذكرها كلِّها وهي ستة وأربعون قولاً، قال معقِّباً [ ... وأرجحها كلِّها أنها في وِتر من العَشْرِ الأخيرِ، وأنها تنتقل كما يُفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتارُ العَشْر، وأرجى أوتار العَشْر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين على ما في حديث أبي سعيد وعبد الله بن أنيس وأرجاها عند الجمهور ليلة سبعٍ وعشرين، وقد تقدمت أدلة ذلك ... ] . …والحق أن هذه المسألة قد تضاربت النصوص فيها وتناقضت وتعارضت، فأخذ كل فريق نصاً أو أكثر من هذه النصوص واستنبط منها رأيه فيها، ولم يستطع التوفيق بينها كلِّها، ولا بيانَ وجهِ الخطأ في استدلالات غيره. والذي أود أن أسجِّله هنا هو أن معظم الخلافات الواقعة بين المذاهب والعلماء آتية من الأحاديث الضعيفة بصفة رئيسية، ومن التمسُّك بنص واحد أو بنصين وإِهمال النصوص الأُخرى، ولو أن الفقهاء تركوا الأحاديث الضعيفة ونظروا في كل النصوص الصالحة للاستدلال نظرةً متساويةً، ولم يُفردوا نصاً واحداً أو نصين بالنظر والاستنباط لضاقت الخلافات بينهم، ولتقلَّصت كثيراً.

…وبعبارةٍ أُخرى أقول ما يلي: إن معظم الخلافات بين الأئمة والفقهاء آتية إِما من الأخذ بالأحاديث الضعيفة - وهذه الأحاديث تختلف فيما بينها اختلافاً كبيراً يصل إلى درجة التناقض في كثير من الأحيان - وإما من عدم بذل الجهد الكافي للتوفيق بين النصوص الصحيحة، والاقتصار منها على نص واحد، أو نصين يراهما الفقيه كافياً لأخذ الحكم منهما وهو يرى أن عدداً من النصوص الصحيحة الأخرى قد تمت تنحيتها جانباً. وقد عمدت في هذا الكتاب كما عمدت في الكتاب السابق [الجامع لأحكام الصلاة] إلى ترك الأحاديث الضعيفة، وأعني بالضعيفة ما اتفق المحدِّثون على ضعفها، أما الأحاديث التي اختلف المحدِّثون فيها فربما أخذتها وربما تركتها وذلك تبعاً لموافقتها أو مخالفتها للأحاديث الصالحة للاستدلال. كما أنني عمدتُ إلى الأخذ بالأحاديث الصحيحة والحسنة، ووضعِها كلِّها على صعيد البحث، فإِن رأيت اختلافاً أو تعارضاً ظاهراً بينها عمدت بكامل الطاقة والوسع إلى إِعمالِها كلِّها ولو بالتأويل، فذلك أولى من إِهمال بعضها. والآن أعود إلى موضوعنا، فأقول بخصوص تعيين ليلة القدر، واختلافات الأئمة والفقهاء فيها ما يلي:

أولاً: إنه قد وردت أقوالٌ للفقهاء كثيرةٌ لم أجد لها سنداً من النصوص، رغم أن النصوص الصحيحة التي عالجت هذه المسألة هي من الوفرة بحيث لا تخفى عليهم. ومِن هذه الأقوال القولُ الرابع المار: أنها ممكنة في جميع السنة، وحيث أن القائلين بهذا القول لا يملكون نصاً شرعياً واحداً يدعم قولهم، فقد لجأوا إلى قول ابن مسعود رضي الله عنه {من يَقُم الحولَ يُصِبْ ليلةَ القدر} الذي رواه مسلم (2777) من طريق زر بن حبيش، وأغفلوا أو تركوا عشرات النصوص النبوية الصحيحة والحسنة، ولا أظنهم يجهلون أن أقوال الصحابة ليست نصوصاً ولا أدلة شرعية، وإنما هي مجرد اجتهادات لهم فحسب، إلا أنْ يُجْمِعوا على حكم واحد فيكون إجماعَ صحابة، وهو دليل شرعي. ومنها القول العاشر والقائلون به يستدلون عليه بما روى ابن أبي شيبة والطبراني من قول زيد بن أرقم، تاركين النصوص الصحيحة والحسنة جانباً، وغفر الله لهم، إضافةً إلى أن حديث زيد بن أرقم هو من رواية الحوط الخزاعي، قال عنه البخاري: حديث منكَرٌ، والحوط ضعيف عند المحدِّثين. …ومنها القول الحادي عشر، والقائلون به يستدلون بقولٍ لعثمان بن أبي العاص وللحسن البصري، وكأن أقوالهما أدلة!! وليتهم يستدلون بأقوال الصحابة والتابعين فيما ليس فيه نص شرعي، فإن الأمر عندئذٍ يهون، ولكنهم غفر الله لهم وعفا عنهم، تنكَّبوا الطريق الصحيحة الممهَّدة – وهي طريق النصوص الشرعية – وسلكوا الطرق الصعبة الوعرة المتشعبة. ولو أنني ذكرت الأقوال الستة والأربعين كلَّها لرأيتم العجب في الأقوال والاستدلالات.

ثانياً: إن من الأمور الأخرى التي سبَّبت الخلافات بين الفقهاء إِغفالَهم أحياناً الخاصَّ أمام العام، والمقيَّد أمام المطلق، فتجدهم أحياناً يأخذون بنص عام ويتمسكون به رغم وجود نصٍّ خاص، فمثلاً القول الخامس: إنها مختصة برمضان ممكنة في جميع لياليه، فقد استند القائلون به إلى قول عبد الله بن عمر الذي رواه ابن أبي شيبة، وهو قول عام – هذا على افتراض أن قول ابن عمر نصٌّ شرعي وليس هو كذلك – وتركوا النصوص الكثيرة التي حصرت ليلة القدر بالعشر الأواخر من رمضان. …ومثلاً القول السابع والعشرون أنها تنتقل في العَشْرِ الأخير كلِّه. لاحظوا لفظة (كلِّه) فقد استند القائلون به إلى حديثٍ لابن عباس أن الصحابة اتفقوا على أنها في العَشْرِ الأخير. وهذا القول أيضاً عام، في حين أن النصوص قد حصرته في الأوتار من العشر الأخير، فلا معنى إذن للإِتيان بكلمة (كلِّه) .

ثالثاً: إن من الأمور الأخرى التي سبَّبت كثرة الخلافات بين الفقهاء لجوءَ هم أحياناً لتأويل ألفاظ النصوص، وتحميلها مالا تحتمل، في الوقت الذي تتوفر فيه عندهم نصوصٌ ذاتُ منطوقٍ لا يحتمل التأويل، ولا التحميل البعيد، فمثلاً القول الحادي والعشرون: إنها ليلة سبع وعشرين فقد استدلَّ القائلون به بما روى مسلم (2779) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يذكر حيث طلع القمر وهو مثل شقِّ جَفْنة؟} قوله شق جفنة: أي نصف صحن كبير. ثم إِنهم لجأوا لأبي الحسن الفارسي في شرح هذا النص، فقال لهم: إنه يعني ليلةَ سبعٍ وعشرين لأن القمر يطلع فيها بتلك الصفة. وكأن هذه الصفة لا يعرفها إلا هو؟! ولا أدري ماذا يقولون في هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد (23517) عن أبي إسحق، أنه سمع أبا حذيفة يحدِّث عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {نظرتُ إلى القمر صبيحةَ ليلةِ القدر، فرأيته كأنه فَلْقُ جَفْنَة. وقال أبو إسحق: إنما يكون القمر كذاك صبيحةَ ليلةِ ثلاثٍ وعشرين} فبأي التفسيرين نأخذ، بتفسير أبي الحسن الفارسي أم بتفسير أبي إسحق؟ رابعاً: لِيعذرْني القراءُ إن أنا أطلتُ عليهم، فإن هذا الأمر – وهو الاختلاف الواسع بين الفقهاء – ليستحقُّ وقفةً أطول بل يستحق كتاباً كاملاً، هذا عند من يهمُّه تقليصُ الخلافات بين المذاهب والفقهاء، فأقول ما يلي:

إن من أسباب اتساع الخلافات بين المذاهب والفقهاء، إِضافةً إِلى ما سبق، هو جمعهم أحياناً الأقوال التي تبدو لهم متناقضة متعارضة على صعيد واحد وفي مستوى واحد في الأخذ والاستدلال دون إجراء أي ترجيحٍ بينها، وكمثالٍ على ذلك القول السابع والعشرون: تنتقل في العشر الأخير كله، بمعنى أن ليلة القدر تأتي سنةً في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين، وتأتي سنةً أُخرى في ليلة خمسٍ وعشرين، وتأتي سنةً ثالثةً في ليلة سبعٍ وعشرين، وهكذا، وقد استنبطوا هذا الرأي من عدةِ نصوصٍ، يذكر كلُّ نصٍّ منها ورود ليلة القدر في إحدى ليالي العشر الأخير، فقاموا بجمعها كلِّها على صعيد واحد دون ترجيح، وقالوا بتنقُّلِ ليلة القدر، رغم أن النصوص لم تذكر التنقُّل مطلقاً وإنما ذكرت هذه الليالي المختلفة على أن كلاً منها هي ليلة القدر بالذات. خامساً: قيام هؤلاء بترجيح نصٍ على نصٍّ آخر، بل على نصوص مماثلة له في الصحة، دون بيان أسباب هذا الترجيح، مما فتح المجال واسعاً أمامهم للاختلاف والتعارض، إذ ما دام الترجيح لا يُشترط له بيانُ الأسباب، فإن كل فقيه يستطيع أن يعمد إلى نصٍّ من هذه النصوص فيرجحه على غيره ويستدلُّ به وحده، وهذا يفتح الباب واسعاً للأخذ بجميع النصوص على كثرتها وتعارضها، فتكثر آراء الفقهاء وتتعارض بنفس أعدادها. فمثلاً القول الثالث عشر إنها ليلة تسعَ عشرةَ رجَّحه القائلون به دون بيان الأسباب، وكمثالٍ على ذلك أيضاً القول الرابع عشر والقول الثامن والعشرون، فإن الترجيحات فيها قد حصلت دون بيان الأسباب، مما لا يمنع الآخرين من رفضها، والإِتيان بترجيحات غيرها. …وحتى نتبين وجهَ الحق والصواب في هذه المسألة لا بدَّ من استعراض النصوص المتعلقة بها على كثرتها وتعارضها: أ - مجموعة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:

1- عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال {اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العَشْر الأوسطَ من رمضان، فخرج صبيحةَ عشرين فخطَبَنا، وقال: إني أُريتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيْتُها – أو نُسِّيتُها – فالتمسوها في العَشْر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف معي فلْيرجعْ، فرجعنا وما نرى في السماء قَزَعةً، فجاءت سحابةٌ فمطرت حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته} رواه الإمام البخاري (2016) (2018) (2036) (2040) ومسلم (2769) (2772) . 2- وعنه رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشْرِ الأوسطِ من رمضان، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين – وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه – قال: من كان اعتكف معي فلْيعتكف العَشْرَ الأواخرَ، فقد أُريتُ هذه الليلة ثم أُنْسيتُها، وقد رأيتُني أسجد في ماء وطين من صبيحتِها، فالتمسوها في العَشْر الأواخرِ والتمسوها في كل وتر، فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوَكَفَ المسجد، فبصرت عينايَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صُبح إحدى وعشرين} رواه البخاري (2027) ومسلم ومالك وأبو داود والبيهقي.

3- وعنه رضي الله تعالى عنه قال {اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العَشْرَ الأوسطَ من رمضان يلتمس ليلةَ القدر قبل أن تُبان له، فلما انقضين أمر بالبناء فقُوِّض ثم أُبِينتْ له أنها في العَشْرِ الأواخر، فأمر بالبناء فأُعيدَ ثم خرج على الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس إنها كانت أُبِينتْ لي ليلةُ القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقَّان معهما الشيطان فنُسِّيتُها، فالتمسوها في العَشْر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ... } رواه مسلم (2774) . وقد فسَّرها أبو سعيد بأن التاسعة هي ليلة 21، والسابعة ليلة 23، والخامسة ليلة 25. 4- وعنه رضي الله تعالى عنه قال {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العَشْر الأوسط ... فقال: إني اعتكفت العَشْرَ الأوَّلَ ألتمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيتُ فقيل لي: إنها في العَشْر الأواخر، فمن أحبَّ منكم أن يعتكف فلْيعتكفْ، فاعتكف الناس معه، قال: وإني أُريتُها ليلةَ وِترٍ ... } رواه مسلم (2771) . ب - مجموعة عبد الله بن عمر رضي الله عنه: 1- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه: {أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلةَ القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان مُتَحَرِّيها فلْيتَحَرَّها في السبع الأواخر} رواه البخاري (2015) ومسلم وأحمد والدارمي وابن حِبَّان. 2- وعنه رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {تحرَّوا ليلةَ القَدْرِ في السبع الأواخر} رواه مسلم (2762) ومالك وأحمد وابن حِبَّان والبيهقي والدارمي.

3- وعنه رضي الله تعالى عنه قال {رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر فاطلبوها في الوِتر منها} رواه مسلم (2763) . 4- وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {التمسوها في العشر الأواخر – يعني ليلة القدر – فإن ضعُفَ أحدُكم أو عجز فلا يُغلَبنَّ على السبع البواقي} رواه مسلم (2765) وابن خُزيمة وابن حِبَّان والبيهقي. ورواه عبد الله ابن أحمد بن حنبل (1111) من طريق علي رضي الله عنه بلفظ {اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، فإن غُلبتم فلا تُغلَبوا على السبع البواقي} . 5- وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من كان متحريها فلْيتحرَّها ليلةَ سبعٍ وعشرين، وقال: تحرَّوْها ليلةَ سبعٍ وعشرين، يعني ليلة القدر} رواه أحمد (4808) . ج - مجموعة عبد الله بن عباس رضي الله عنه: 1- عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلةَ القدر في تاسعةٍ تبقى في سابعةٍ تبقى في خامسةٍ تبقى} رواه البخاري (2021) وأبو داود وأحمد والبيهقي. ورواه البزَّار (1029) من طريق أنس. ورواه أبو داود الطيالسي (881) وأحمد والترمذي باختلاف في الألفاظ من طريق أبي بكرة بلفظ { ... لتاسعةٍ تبقى أو سابعةٍ تبقى أو خامسةٍ تبقى أو ثالثةٍ تبقى، أو آخر ليلة} كما رواه أبو داود الطيالسي (2166) من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ {التمسوها لسبعٍ يبقين أو خمسٍ يبقين أو ثلاثٍ يبقين} .

2- وعنه رضي الله عنه قال {أُتيتُ وأنا نائم في رمضان فقيل لي إن الليلة ليلة القدر قال: فقمت وأنا ناعس فتعلَّقتُ ببعض أَطنابِ فسطاط رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإذا هو يصلي، فنظرت في تلك الليلة فإذا هي ليلةُ ثلاثٍ وعشرين} رواه أحمد (2547) والطبراني في المعجم الكبير وابن أبي شيبة. 3- وعنه رضي الله تعالى عنه {أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، إني شيخٌ كبير عليل يَشقُّ عليَّ القيام، فأْمرني بليلةٍ لعلَّ الله يوفقني فيها، ليلةِ القدرِ، قال: عليك بالسَّابعة} رواه أحمد (2149) والبيهقي. د - مجموعة زرٍّ بن حُبَيْشٍ عن أُبي بن كعب رضي الله عنه: 1- عن زر بن حُبَيْش يقول {سألت أُبيَّ بنَ كعبٍ، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: مَنْ يَقُم الحولَ يُصِبْ ليلة القدر فقال: رحِمَهُ الله أراد أن لا يتَّكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العَشْرِ الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني أنها ليلةُ سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة، أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها تطلع يومئذٍ لا شُعاع لها} رواه مسلم (2777) وأحمد. وفي لفظ ثان عند مسلم (2778) : {… قال أُبيٌّ في ليلة القدر: والله إني لأعلمُها – قال شعبة – وأكثر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين} ورواه ابن خُزيمة وابن حِبَّان والبيهقي باختلاف في الألفاظ. 2- وعن زر قال: سمعت أُبيَّ بنَ كعبٍ - رضي الله تعالى عنه - يقول {ليلة سبع وعشرين هي الليلة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشمس تطلع بيضاء تَرَقْرَقُ} رواه أحمد (21510) وابن أبي شيبة.

3- وعن زر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال {تذاكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر فقال أُبي: أنا والذي لا إله غيره أعلمُ أيَّ ليلةٍ هي، هي الليلة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة سبع وعشرين تمضي من رمضان، وآية ذلك أن الشمس تصبح الغدَ من تلك الليلة تَرَقْرَقُ ليس لها شعاعٌ، فزعم سلمة ابن كُهَيل أن زِرَّاً أخبره أنه رصدها ثلاث سنين من أول يومٍ يدخل رمضان إلى آخره، فرآها تطلع صبيحة سبع وعشرين، تَرَقْرَقُ ليس لها شعاعٌ} رواه أحمد (21509) وأبو داود والبيهقي. 4- وعن زر قال {لولا سفهاؤُكم لوضعتُ يدي في أذني فناديت: إن ليلة القدر سبع وعشرون، نبأ من لم يكذبني عن نبأ من لم يكذبه، يعني أبيَّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم} رواه ابن خُزيمة (2187) . ورواه بمعناه عبد الله بن أحمد ابن حنبل وابن حِبَّان وأبو داود الطيالسي. هـ – مجموعة أبي ذر رضي الله عنه:

1- عن أبي ذر رضي الله عنه قال {قلت يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان أو في غيره؟ قال: بل هي في رمضان، قال: قلت: يا رسول الله تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قُبض الأنبياء رُفعتْ أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة، قال: فقلت: يا رسول الله في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأُوَل والعشر الأواخر، قال: ثم حدَّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدَّث فاهتبلتُ غفلتَه، فقلت: يا رسول الله في أي العَشْرَيْن؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيءٍ بعدها، ثم حدَّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحدَّث، فاهتبلتُ غفلتَه، فقلت: يا رسول الله، أقسمتُ عليك لَتُخبرني – أو لَمَا أخبرتَني – في أي العَشْرِ هي؟ قال: فغضب عليَّ غضباً ما غضب عليَّ مثلَه قبلَه، ولا بعدَه فقال: إن الله لو شاء لأطلعكم عليها التمسوها في السبع الأواخر} رواه الحاكم (1/437) وصححه وأقره الذهبي. ورواه أحمد والنَّسائي والبزَّار. قوله: فاهتبلتُ: أي فاغتنمتُ وتحيَّنتُ. 2- وعنه رضي الله عنه قال {صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يَقُمْ بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب نحوٌ من ثلث الليل ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة، وقام بنا الليلة التي تليها، حتى ذهب نحوٌ من شطر الليل، قال: فقلنا يا رسول الله، لو نفَّلتنا بقيةَ ليلتنا هذه؟ فقال: إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حُسِب له بقيةُ ليلته، ثم لم يقم بنا السادسة، وقام بنا السابعة، وقال: وبعث إلى أهله واجتمع الناس فقام بنا، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاحُ، قال: قلت: وما الفلاح؟ قال: السُّحور} رواه أحمد (21778) .

3- وعنه رضي الله عنه قال {قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قال: لا أحسَب ما تطلبون إلا وراءَ كم ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل ثم قال: لا أحسَبُ ما تطلبون إلا وراءَ كم، فقمنا معه ليلةَ سبعٍ وعشرين حتى أصبح، وسكت} رواه الإمام أحمد (21899) بسند جيد. و مجموعة عُبادة بن الصامت رضي الله عنه: 1- عن عُبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {ليلة القدر في العَشْرِ البواقي، من قامهنَّ ابتغاءَ حِسْبتِهِنَّ فإن الله تبارك وتعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وترٍ: تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أَمارةَ ليلةِ القدر أنها صافيةٌ بَلْجةٌ كأنَّ فيها قمراً ساطعاً، ساكنةٌ ساجيةٌ لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكبٍ أن يُرمى به فيها حتى تصبح، وإن أَمارتها أنَّ الشمس صبيحَتَها تخرج مستوية ليس لها شُعاعٌ مثل القمرِ ليلةَ البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذٍ} رواه أحمد (23145) . وقد مرَّ في البند 3 من بحث [أوصاف ليلة القدر] . 2- وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {التمسوها في تاسعةٍ وسابعةٍ وخامسةٍ، يعني ليلة القدر} رواه أحمد (23043) . وفي رواية أخرى لأحمد من طريقه (23089/23090) بلفظ { ... فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر، في إحدى وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين أو خمسٍ وعشرين أو سبعٍ وعشرين أو تسعٍ وعشرين، أو في آخر ليلة} .

3- وعنه رضي الله عنه قال {خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: خرجتُ لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة} رواه البخاري (2023) وأحمد والبيهقي والدارمي وأبو داود الطيالسي. وجاء في صحيح البخاري (49) في رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس، عن عُبادةَ رضي الله تعالى عنه لفظ { ... التمسوها في التسع والسبع والخمس} . ز- أحاديث متفرقة: 1- عن عائشة رضي الله عنها، زوجِ النبي صلى الله عيه وسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشرَ الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده} رواه البخاري (2025) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 2- وعنها رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحرَّوا ليلةَ القدر في العشر الأواخر من رمضان} رواه البخاري (2020) والترمذي. ورواه مسلم مفرَّقاً (2782) {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشرَ الأواخر من رمضان} و (2776) {قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحرَّوْا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان} 3- عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أول سنةٍ العَشْرَ الأَوَّلَ ثم اعتكف العَشْرَ الأوسطَ ثم اعتكف العَشْرَ الأواخرَ وقال: إني رأيت ليلة القدر فيها فأُنسيتُها، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيهنَّ حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه الطبراني في المعجم الكبير (23/994) قال الهيثمي [إسناده حسن] .

4- عن معاوية رضي الله عنه وعفا عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {ليلة القدر ليلة سبع وعشرين} رواه ابن حِبَّان (3680) وأبو داود والبيهقي والطبراني وابن أبي شيبة. 5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر {إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، فإن الملائكة في تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى} رواه أبو داود الطيالسي (2545) وابن خُزيمة. ورواه أحمد والطبراني في المعجم الأوسط والبزَّار. قال الهيثمي: [رجاله ثقات] . 6- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال { ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ما قد علمتم، فالتمسوها في العشر الأواخر وتراً، ففي أي الوتر ترونها} رواه أحمد (85) والبزَّار وأبو يعلى. قال الهيثمي [رجال أبي يعلى ثقات] 7- عن بُسْر بن سعيد عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أُريتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيتها، وأُراني صبيحتَها أسجد في ماء وطين قال: فمُطرنا ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإنَّ أثر الماء والطين على جبهته وأنفه قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين} رواه مسلم (2775) وأحمد والبيهقي. ووقع أيضاً عند أحمد (16142) من طريقه بلفظ { ... فقلنا له: يا رسول الله متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ قال: التمسوها هذه الليلة وقال: وذلك مساءَ ليلةِ ثلاثٍ وعشرين ... } كما وقع أيضاً عند البيهقي (4/309) من طريقه { ... فأَمَرَنا – أي الرسول صلى الله عليه وسلم – بليلة ثلاث وعشرين ... } . 8- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كم مضى من الشهر؟ قالوا: مضى ثنتان وعشرون، وبقي ثمان، فقال: بل مضى ثنتان وعشرون وبقي سبع، اطلبوها الليلة} رواه البيهقي (4/310) وأحمد.

9- عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه يقول على منبر حمص {قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ ثلاثٍ وعشرين في شهر رمضان إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قام بنا ليلة سبع وعشرين، حتى ظننَّا أن لا ندرك الفلاح، قال: وكنا ندعو السُّحورَ الفلاحَ فأما نحن فنقول: ليلة السابعة ليلة سابعة وعشرين، وأنتم تقولون: ليلة ثلاث وعشرين السابعة، فمن أصوب: نحن أم أنتم؟} رواه أحمد (18592) والنَّسائي وابن خُزيمة. 10- عن عبد الله – بن مسعود – رضي الله تعالى عنه قال {سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ فقال: كنت أُعْلِمْتُها ثم انفلتت مني، فاطلبوها في سبعٍ يبقين أو ثلاثٍ يبقين} رواه البزَّار (1028) . قال الهيثمي [رجاله ثقات] . 11- عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال {التمسوها في العشر الأواخر: في التاسعة والسابعة والخامسة} رواه البزَّار (1029) . قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] 12- عن جابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {التمسوا ليلة القدر ليلةَ سبعٍ وعشرين} رواه الطبراني في المعجم الصغير (285) . فأقول والله الموفِّق للصواب: أولاً: هناك أحاديث صحيحة اتفق عليها البخاري ومسلم، وهناك أحاديث صحيحة انفرد بها البخاري ومسلم وغيرهما، فما كان من أحاديث صحيحة متفق عليها من البخاري ومسلم فهي في القمة عند الاستدلال وفي المقدمة عند التعارض أو الاختلاف، وهناك أحاديث صحيحة وأخرى حسنة، فما كانت متوافقةً صلحت كلُّها للاستدلال، وما تعارضت فالصحيحة تُؤخَذُ وتُرَدُّ الحسنة.

ثانياً: بالنظر في النصوص المذكورة التي تربو على الثلاثين نجد هذا النص المتفق عليه أي الذي رواه البخاري ومسلم (إني أُريتُ ليلةَ القدر ثم أُنسيتُها - أو نُسِّيتُها -) فهذا اللفظ هو في القمة من حيث الصحة ولم يأت نصٌّ آخر يضارعه ويماثله في الصحة معارِضاً له، وكل ما ورد من نصوص معارِضة له فإنما نزلت مرتبتها عن مرتبة هذا النص، لا سيما وأن أيَّاً منها لم يأت لبيانِ تأخُّرِ القولِ أو الحادثةِ حتى يصح آنذاك القولُ بالنسخ، وإنما جاءت جميع هذه النصوص على صعيد واحد من حيث التاريخ، وإذن فإنه لا نسخ في هذه المسألة مطلقاً. ثالثاً: إذا صدر قول نبوي كريم في مسألةٍ، وصدرت أقوال من الصحابة في المسألةٍ نفسها، طُرحت أقوال الصحابة ولم يُلتفت إليها، وفي مسألتنا هذه صدر قول نبوي كريم، بل صدرت عدة أقوال نبوية كريمة، وإذن فلا ضرورة ولا حاجة لذكر أقوال الصحابة في هذه المسألة، فقمت بطرحها وتركها بالكُلِّية. ولمن أحب الاطلاع على هذه الأقوال فدونه مصنَّف ابن أبي شيبة كمثالٍ في الصفحات 488، 489، 490، من الجزء الثاني.

رابعاً: إذا أَمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرٍ، أو نهانا عن أَمرٍ، فقد وجب علينا الامتثال، وإذا أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأي خبر قمنا بتصديقه ولم يحلَّ لنا تكذيبُه مطلقاً، وهنا أخبرنا عليه الصلاة والسلام بالنص المتفق عليه أنه كان يعلم ليلة القدر ثم إنه قد نسيها، أو بالأصح أُنْسيها، أي أنساه الله سبحانه إياها، ولم يرد أيُّ نصٍّ يُعْلِمنا ويخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد وتذكَّرها، وحيث أن هذا الخبر صحيح وفي القمة من النصوص، وحيث أن هذا الخبر لم يطرأ عليه تبديلٌ ولا تغييرٌ، فإنَّ على كل مسلم فقيه وغير فقيه أو يقبل بهذا الخبر، ولا يحل له القول بما يعارضه ويخالفه، فلا يحل له أن يقول مثلاً إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا زال في حياته يعلم ليلة القدر، ولكن قام بإخفائها عن المسلمين حتى يجتهدوا في العبادة في أواخر رمضان، لا أن يجتهدوا في ليلة واحدة فحسب، فهذا القول لا يحلُّ لمسلم فقيه وغير فقيه أن يقوله، لأن هذا القول يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله أراه ليلة القدر ثم إِنه أنساه إياها، وبقي الحال على ذلك. والأسوأ من ذلك أن يأتي مسلم مهما علت منزلته في العلم والفقه فيدَّعي أنه يعلم ليلة القدر، وكأنه بهذا القول يدَّعي عِلمَ ما لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنه يعلم فوق علم الرسول عليه الصلاة والسلام.

خامساً: قام عدد من الصحابة، فيما رُوي عنهم، وعدد من الفقهاء بتحديد ليلة القدر، مستدلين بنصوصٍ مما أوردتها، فأقول: إن كان هؤلاء قد قاموا بالتحديد بناء على الأَمارات التي أخبرهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التحديد لا يرقى إلى درجة العلم اليقيني، وإنما هو تحديدٌ ظني، قد يصح وقد يخطيء. وبناء عليه فإني أقول إن جميع التحديدات المسنَدة إلى الصحابة والتابعين والفقهاء إنما هي من قبيل الظن أو غلبة الظن، وليست بأية حال من الأحوال علماً يقينياً لا تحل مخالفته. وكمثال على ذلك ما ورد على لسان الصحابي الجليل أُبي بن كعب رضي الله عنه من قوله المذكور في الحديث 1 من مجموعة زر بن حبيش (ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين) فقد أخذ علمه بالتحديد من الأَمارات التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولم يدَّعِ أخذَ علمِه بها من أقواله عليه الصلاة والسلام، فهو يقول (بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلعِ يومئذٍ لا شعاع لها) وقل مثل ذلك بخصوص سائر الروايات المروية عنه. فأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه سمع الأَمارات والعلامات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اجتهد في تطبيقها على الواقع فخرج بالنتيجة أنها ليلة سبع وعشرين، وإذن فإن التحديد هو اجتهادٌ منه وليس خبراً ينقله إلينا يتوجب علينا قبولُه والأخذُ به. أما قول الحديث (ثم حلف لا يستثني) فلا ينفي القول باجتهاده، ولا يجعله بالحلف خبراً يقينياً ما دام قد خرج بهذه النتيجة من النظر في الأَمارات. فالاجتهاد في الأَمارات لا يؤدي إلى القطع في التحديد والعلم، وإلا لاتفق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحديد أُبي، بل ولاتفق المسلمون على التحديد لتوفُّر الأَمارات لديهم.

سادساً: قد ظن بعض الفقهاء أن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة) أو قوله عليه وآله الصلاة والسلام: (التمسوها في العشر الأواخر في الوتر) يدل على أنه كان يعلم التحديد وإنما هو أحبَّ للمسلمين الاجتهادَ في العبادة. وكان يمكن لهذا الفهم أن يكون صحيحاً لولا قوله عليه الصلاة والسلام إنه نَسِيَها أو أُنْسِيها، فهذا القول منه ينفي أي فهم من هذا القبيل، فلْيكُفَّ المسلمون عن البحث عنها وتحديدها، وليتواضعوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعلمهم أنه هو لا يعلمها بالتحديد.

سابعاً: وكدليل على أن الأَمارات تخطيء، هو ما حصل من الصحابيين الجليلين: أبي سعيد الخدري وعبد الله بن أنيس رضي الله عنهما. أما أبو سعيد فإنه كان قد سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى نفسه الكريمة تسجد في صبيحة ليلة القدر في الماء والطين، حسبما جاء في بعض الروايات، فعندما رأى أبو سعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في صلاة الصبح من ليلة إحدى وعشرين في الماء والطين، فهم من هذه الأَمارة أن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين، فراح ينشر رأيه هذا بثقة، فأخذ كثير من الأئمة والفقهاء بهذا الرأي. وأما عبد الله بن أنيس فإنه كان قد سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله كما جاء في الحديث رقم 7 من الأحاديث المتفرقة (وأُراني صبيحَتَها أسجد في ماء وطين، قال فمُطِرْنا ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف، وإِن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه) فعندما رأى عبد الله بن أنيس رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في صبيحة ليلةِ ثلاثٍ وعشرين في ماء وطين، فهم من هذه الأمارةِ أن ليلة القدر هي ليلةُ ثلاثٍ وعشرين، فنشر رأيه هذا، فأخذ عدد من الفقهاء بهذا الرأي. إن ذلك يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الأفهام تتفاوت في الاستدلال بالأَمارات وأن الاستدلال بها لا يعطيها درجة العلم، وإنما يبقيها في دائرة الظن، أو غلبة الظن. فقط أحببت التنبيه على أن الإدِّعاء بالعلم اليقيني هو حرام في هذه المسألة، لأنه تطاولٌ على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‍‍‍‍‍‍‍.

ثامناً: لننظر في روايات أبي سعيد، فيما يتعلق بالأَمارات التي اعتمد عليها: لقد أورد البخاري أربع روايات له: (2016) (2018) (2036) (2040) يذكر فيها الأَمارة مطلقةً هكذا (وإني رأيت أني أسجد في ماءٍ وطين) لم يقيدها بصبيحة ليلة القدر، وأورد مسلم روايتين بنفس اللفظ هما (2769) (2772) في حين أن البخاري قد أورد رواية واحدة فقط، جاء فيها اللفظ مقيداً هكذا (وقد رأيتُني أسجد في ماءٍ وطينٍ من صبيحتها) وأما مسلم فقد أورد روايتين فيهما التقييد بالصبيحة هما (2771) (2775) .

وإذن فقد تحصَّلت عندنا ستُّ روايات عند الشيخين،لم تأت فيها الأمارة مقيدة بصبيحة ليلة القدر، وثلاث روايات فقط عندهما قُيدت الأَمارة بالصبيحة، وأنا أُرَجِّح الروايات الست على الروايات الثلاث ولا يبعد عندي أن ذِكْر (من صبيحتها) قد حصل بسبب حصول الماء والطين صبيحة تلك الليلة، فنسبوا ذلك التقييد للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا تأويل ممكن، حتى نتمكن من التوفيق بين الروايات، لا سيما وأن الروايات المطلقة أكثر من الروايات المقيدة، فهي أرجح منها في الاستدلال، ثم إننا نلجأ لهذا التأويل حتى تتوافق هذه الروايات المقيدة مع روايات عبد الله بن أنيس في البند السابع من الأحاديث المتفرقة التي ذكرت أن الأَمارة قد حصلت صبيحة ليلة ثلاثٍ وعشرين، وبدون هذا التأويل نضطر لرد روايات أبي سعيد المقيِّدة أو ردِّ رواية عبد الله بن أنيس، وإعمال الأدلة دائماً أولى وأفضل من إهمال بعضها. وبقولنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقيِّد سجوده في الماء والطين بأي قيد، وإنما أطلق القول ثم صدف أنَّ المطر نزل في صبيحة ليلة إحدى وعشرين، ونزل أيضاً في صبيحة ثلاث وعشرين فظن أبو سعيد أن ليلة إحدى وعشرين هي التي انطبقت عليها الأمارة، وظن عبد الله بن أنيس أن ليلة ثلاث وعشرين هي التي انطبقت عليها الأمارة، فجاء القولان مختلفَيْن بسبب ذلك، فإنا نكون بهذا القول قد أعملنا الروايات كلِّها ولم نقم بردِّ أيٍّ منها. إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال قولين منفصلين: رأى ليلة القدر وأُنسيها، ورأى أنه يسجد في ماء وطين، ولم يربط أحد القولين بالآخر، وجاء الربط كما يبدو من فهم الرواة بسبب نزول المطر في صبيحة كلا الليلتين، وبهذا الفهم وبهذا التأويل نكون قد أعملنا الأدلة كلها.

…وقد يأتي أحدهم ويقول: إن النصوص إن كانت صحيحة، وجاء في أحدها زيادةُ لفظٍ فهي زيادة مقبولة، لأن الزيادة من الثقات مقبولة، فلماذا لا نقبل زيادة (من صبيحتها) ونحمل الروايات الأخرى عليها؟ والجواب عليه هو أن الاختلاف بين ما روى أبو سعيد وما روى عبد الله بن أنيس لا يجعلنا نقبل هذه الزيادة، ولولا ذلك لقبلناها، فالعذر عندنا قائم لرفض هذه الزيادة، والأصح هو ما ذهبنا إليه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلم المسلمين أنه رأى ليلة القدر ثم أُنسيها، قال لهم معلومة جديدة مقطوعة الصلة عما قبلها هي أنه رأى نفسه الكريمة تسجد في ماء وطين، فتحقق قوله الثاني في ليلتين نزل فيهما المطر، ولم يُرِد عليه الصلاة والسلام أن يجعل سجوده في الماء والطين أَمارة على ليلة القدر، وبالتالي فقد أخطأ كلٌّ من أبي سعيد وعبد الله بن أُنيس في تحديد ليلة القدر، وكان خطأُهما آتياً من الربط بين المعلومتين المقطوعة إحداهما عن الأخرى. وبهذا التأويل نتوصل إلى نتيجة، هي أن هذين الحديثين بالروايات المتعددة لا يفيدان تحديداً لليلة القدر، ولا يصح أن يُستنبط منهما أي تحديد، ويُكتفى بما جاء من المعلومة الأولى فيهما وهي (أُريتُ ليلة القدر ثم أُنسيتُها) .

وبذلك تبقى عندنا الحقيقة الثابتة وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعد يعلم متى ليلة القدر بعد أن أَنْساه الله إياها، وأن ذلك قد أراده الله وقضاه لخير المسلمين كما جاء في رواية عبادة بن الصامت بند 3 (فرُفعت وعسى أن يكون خيراً لكم) وما دام أنَّ الخير هو في رفع ليلة القدر وعدم تحديدها، فلماذا يُجهد الفقهاء أنفسهم في تحديدها!؟ ولماذا يرفضون الخير لأنفسهم وللمسلمين!؟ ‍ثم لماذا لم يتوقفوا عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو ذرٍّ رضي الله تعالى عنه في البند الأول من مجموعته (إِن الله لو شاء لأطلعكم عليها) !؟ وهل بعد مشيئة الله سبحانه تبقى مشيئةٌ لأحدٍ من البشر!؟ تاسعاً: نأتي الآن للروايات المروية من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه: الروايات عنه عند البخاري ومسلم (… فلْيتحرها في السبع الأواخر) وعند مسلم فقط (أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها) و (التمسوها في العشر الأواخر … فلا يُغلبن على السبع البواقي) فهي مترددة بين العشر الأواخر والسبع دون تعيين ليلة معينة لليلة القدر، وهذا هو الشائع الذي يكاد أن يبلغ حد التواتر، وهو أن ليلة القدر في العشر الأواخر، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي يعتكف طيلة العشر الأواخر يلتمسها فيها حتى توفاه الله تعالى، لحديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (1) في الأحاديث المتفرقة، مما يدل دلالة واضحة على استمرار هذا الحكم وعدم نسخه.

عند البخاري رواية واحدة (2015) من طريق ابن عمر، وعند مسلم من طريقه أربع روايات (2762) و (2765) و (2766) و (2767) ليس في أيٍّ منها تعيينٌ محدَّدٌ لليلة القدر. ثم نجد عند الإمام أحمد بن حنبل روايتين اثنتين من طريق ابن عمر (4808) و (6474) تحددان ليلة القدر في ليلة سبع وعشرين. وبالرجوع إلى مسند الإمام أحمد، نجد أنه قد رَوَى من طريق ابن عمر حديثين آخرين (5430) و (5932) يطلبان تحري ليلة القدر في السبع الأواخر، دون تحديدها بليلة سبع وعشرين، ورواة أحمد قد رووا جميع أحاديثه هذه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، فهل يعقل هذا الاضطراب؟ وقد وجدت في كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر قول العُقَيلي: في رواية المشايخ عنه – عن عبد الله بن دينار – اضطراب. فتؤخذ الأحاديث الصحيحة عند الشيخين وعند أحمد أيضاً التي طلبت التماس ليلة القدر بالعشر الأواخر أو بالسبع الأواخر، وتترك الروايتان عند أحمد القائلتين بالتحديد وأن ليلة القدر تُلتمَس ليلة سبع وعشرين، لا سيما وأن جميع هذه الروايات قد جاءت من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه. …وإذن فقد تضافرت الروايات الصحيحة من طريق أبي سعيد وعبد الله بن عمر على طلب التماس ليلة القدر في العشر الأواخر، أو في السبع الأواخر، وهذا هو أثبت ما ورد في الأحاديث الصحيحة.

…أما مجموعة ابن عباس، فقد جاء الحديث الأول منها متوافقاً مع مجموعتي أبي سعيد وابن عمر فيُضم إليهما. وأما الحديث الثاني الذي يحدِّد ليلة ثلاث وعشرين على أنها ليلة القدر، فهو رؤيا رآها ابن عباس وليس خبراً من الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن لا نتعبد الله تعالى لا برؤى أنفسنا ولا برؤى غيرنا، باستثناء رؤى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو رُؤى صحابته إن هو أقرَّها، وفي هذا الحديث جاءت رؤيا ابن عباس رضي الله عنه دون إقرارٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا حجة فيها. هذا من حيث المتن. وأما من حيث السند فقد روى الحديث سِماك عن عكرمة عن ابن عباس، وسِماك ضعيف، فيُردُّ الحديث سنداً ومتناً. وأما الحديث الثالث ففي رواته معاذ بن هشام، ضعَّفه الحُميدي ويحيى بن معين وأبو داود، فيُردُّ. …وأما مجموعة زر بن حبيش، أو بالأحرى مجموعة أُبيِّ بن كعب، فقد أبنَّا وجه الضعف فيها كلِّها وأنها مبنية على الاجتهاد في فهم الأَمارات، وأن الأَمارات لا تُفهم على وجه واحد، خاصةً إن جاءت روايات أخرى بفهمٍ مغاير لنفس الأَمارات كما هو حاصل في حديث عبد الله ابن أنيس المار.

…وأما مجموعة أبي ذر رضي الله عنه، فإن الحديث الأول متوافق مع جمهرة الأحاديث الصحيحة الناطقة بالعشر الأواخر والسبع الأواخر. أما الحديث الثاني فليس فيه ذكرٌ لليلة القدر، وهو لا يعدو كونه يشير إشارة إلى فضيلة القيام في ليالي ثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين، وهذا أمرٌ متفق عليه ويتَّسق مع القول بتحري ليلة القدر في الوتر من السبع الأواخر. وأما الحديث الثالث ففي رواته زيد بن الحباب، قال عنه أحمد بن حنبل: كان صدوقاً، وكان يضبط الألفاظ عن معاوية بن صالح، لكن كان كثير الخطأ. وذكره ابن حِبَّان في الثقات وقال: يخطيء يُعتبر حديثه إذا روى عن المشاهير، وأما روايته عن المجاهيل ففيها المناكير. فهو لا يرقى إلى رواة الصحيح، لا سيما إذا جاء بما يخالفهم أو بما لا يوافقهم. …وأما مجموعة عبادة بن الصامت، فهي متوافقة مع الروايات الصحيحة الآمرة بتحرِّيها في العشر الأواخر أو في السبع الأواخر في الوتر منها. وأما الأحاديث المتفرقة فروايتا عائشة ورواية أم سلمة، ورواية عمر بن الخطاب، ورواية أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين تذكر كلها العشر الأواخر، أو السبع الأواخر والأوتار منها. …وأما رواية معاوية عند ابن حِبَّان رقم 4 (ليلة القدر ليلة سبع وعشرين) ففي رواتها عبيد الله بن معاذ بن معاذ، قال يحيى بن معين: ابن سَمينة وشبَّاب وعبيد الله بن معاذ ليسوا أصحاب حديث، ليسوا بشيء. فالحديث يُردُّ سنداً، وإن وَثَّق عبيدَ الله عددٌ من المحدثين، فالثقة في الشخص شيء وصلاحه للحديث شيء آخر، فقد يكون الراوي ثقة وصالحاً وصادقاً ولكنه غير ضابط وغير حافظ، فلا يصلح لرواية الأحاديث، وعبيد الله بن معاذ من هؤلاء.

…وأما رواية أبي هريرة رقم 5 فسندها عند أبي داود الطيالسي هكذا [يونس قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عمران عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة] فذكره. وقد ورد توثيق أبي ميمونة عند عدد من المحدِّثين، ووصفوه بأنه الفارسي. وممن وثقوا أبا ميمونة الفارسي الدارَقُطني، ولكن أبا ميمونة الذي روى حديثنا هذا هو غير أبي ميمونة الفارسي الثقة الصالح الصادق كما وُصف، وقد تنبه الدارَقُطني لهذا التفريق فقال [أبو ميمونة عن أبي هريرة عنه قتادة مجهولٌ يُترك] وإذن فالحديث ضعيف فيردُّ. …وأما الحديث رقم 8 عند البيهقي ففي رواته أحمد بن عبد الجبار، قال عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب [قال ابن أبي حاتم كتبت عنه وأمسكت عن الرواية عنه لكثرة كلام الناس فيه. وقال مطين: كان يكذب. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم تركه ابن عقدة. وقال ابن عدي: رأيت أهل العراق مُجمِعين على ضعفه، وكان ابن عقدة لا يحدِّث عنه ... ] فأحمد بن عبد الجبار ضعيف عند جمهرة علماء الحديث، فيُردُّ حديثُه. …وأما حديث جابر بن سمرة رقم 12 الذي رواه الطبراني في المعجم الصغير، ففي رواته سِماك بن حرب، وهو ضعيف كما أبنَّا ذلك أكثر من مرة، فيرد. وأما حديث النعمان بن بشير رقم 9 فنقول فيه ما قلنا في الحديث رقم 2 من مجموعة أبي ذر من أنه ليس فيه ذِكْرٌ لليلة القدر.

الفصل الحادي عشر: الاعتكاف

…وأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ففي رواته عبد الله بن الجهم، قال عنه أبو زُرعة: رأيته ولم أكتب عنه، وكان صدوقاً. وقال أبو حاتم: رأيته ولم أكتب عنه، وكان يتشيَّع. وفيهم أيضاً عمرو بن أبي قيس الرازي، قال الآجري عن أبي داود: في حديثه خطأ. وقال عثمان بن أبي شيبة: لا بأس به، كان يَهِمُ في الحديث قليلاً. فالحديث فيه لين وفيه ضعف فلا يصمد أبداً أمام الأحاديث الصحيحة ثم إن هذا الحديث لم يحدِّد ليلة القدر بليلة، وإنما جعلها تتردد بين ليلتي ثلاث وعشرين وسبع وعشرين. …نخلص مما سبق إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم في البدء متى ليلة القدر، ثم إن الله العليم الحكيم قد أنساه إياها، وبقي الحال كذلك إلى وفاته عليه الصلاة والسلام، وما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعد يعلم وقتها، فإنه لا ينبغي لأحد من الصحابة ولا من غيرهم أن يحدِّد وقتها، وعلى جميع المسلمين علماءَ وغيرَ علماء أن يكتفوا بالتماسها وتحريها في العشر الأواخر أو في السبع الأواخر من رمضان في الوتر منها، فهي لا تعدو أن تكون إما ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، تماماً كما ورد في حديث أبي داود الطيالسي في البند الأول من مجموعة عبد الله بن عباس من طريق أبي بكرة بلفظ { ... لتاسعةٍ تبقى، أو سابعةٍ تبقى، أو خامسةٍ تبقى، أو ثالثةٍ تبقى، أو آخر ليلةٍ} . الفصل الحادي عشر: الاعتكاف الفصل الحادي عشر الاعتكافُ تعريفُ الاعتكاف:

الاعتكاف هو مِن عَكَفَ على الشيء إذا لزمه وحبس النفس عليه. وقد جاء ذِكْرُ الاعتكاف بهذا المعنى في عدد من آيات الله، قال تعالى {وجاوزنا ببني إِسرائيلَ البحرَ فأَتَوْا على قومٍ يَعْكُفُون على أَصنامٍ لهم قالوا يا موسى اجْعَلْ لنا إِلهاً كما لَهُم آلهةٌ قال إِنَّكم قومٌ تجهلون} الآية 138 من سورة الأعراف. وقال سبحانه {قال فاْذَهَبْ فإِنَّ لك في الحياةِ أن تقولَ لا مِسَاسَ وإنَّ لك موْعِداً لن تُخْلَفَهُ واْنظُرْ إلى إِلهِكَ الذي ظَلْتَ عليه عاكفاً لنُحَرِّقَنَّهُ ثم لَنَنْسِفَنَّهُ في اليمِّ نَسْفاً} الآية 97 من سورة طه. وقال عزَّ وجلَّ {ولقد آتينا إِبْراهيمَ رُشْدَهُ مِنْ قبلُ وكنَّا به عالِمين ? إذ قال لأبيهِ وقومِهِ ما هذهِ التماثيلُ التي أَنتم لها عاكِفونَ} الآيتان 51 و 52 من سورة الأنبياء. وقال جلَّ جلاله {هُمُ الذين كفروا وَصَدُّوكم عن المسجدِ الحرامِ والهَدْيَ مَعْكوفاً أنْ يَبلغَ مَحِلَّهُ ... } . من الآية 25 من سورة الفتح. وهناك آياتٌ أُخرى ذكرت الاعتكاف، وكلها بمعنى واحد، وهو لزومُ الشيءِ وحبسُ النفسِ عليه. هذا هو معنى الاعتكاف في اللغة.

حكم الاعتكاف

…وأما في الشرع، فيُعرَّف الاعتكاف بأنه اللَّبثُ في المسجد مُدَّةً على صفةٍ مخصوصةٍ مع نيَّة التَّقرُّب إلى الله سبحانه. وهو والجِوارُ أو المجاورة بمعنى واحد، فقد روى البخاري (4922) ومسلم وأحمد من طريق جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {جاورتُ بِحِراءَ، فلما قضيت جِواري هبطتُ ... } وروى البخاري (2020) من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: تحرَّوْا ليلةَ القدر في العشر الأواخر من رمضان} وروى مسلم (2770) من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قوله {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشرَ التي في وسط الشَّهر ... } . ولذلك فإنه ليس صحيحاً التفريق بين الاعتكاف والمجاورة أو الجوار كما روى عبد الرزاق (8003) عن عطاء – بن أبي رباح – قوله [إن الاعتكاف يكون في بطن المسجد أما الجوار فبباب المسجد أو في بطنه] فهو تفريقٌ ظاهرُ الخطأ وظاهرُ الضعف وحتى في معاجم اللغة جاء الجوار أو المجاورة بمعنى الاعتكاف ففي لسان العرب ومختار الصحاح والقاموس المحيط جاء فيها القول: المجاورة: الاعتكاف في المسجد. حكمُ الاعتكاف: لقد وردت في الاعتكاف الأحاديث التالية: 1- عن عائشة رضي الله عنها، زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العَشْرَ الأواخرَ من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجهُ من بعده} رواه البخاري (2025) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 2- عن أُبي بن كعب رضي الله تعالى عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العَشْرَ الأواخر من رمضان، فسافر عاماً فلم يعتكف، فلما كان العامُ المقبلُ اعتكف عشرين} رواه النَّسائي في السنن الكبرى (3330) وأبو داود وابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة.

3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأَوَّل من رمضان، ثم اعتكف العَشْر الأوسط في قُبَّةٍ تُركيَّة على سُدَّتها حصير قال: فأخذ الحصيرَ بيده فنحَّاها في ناحية القبة ثم أطلع رأسَه فكلَّم الناس فَدَنوْا منه فقال: إني اعتكفت العَشْر الأوَّل التمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العَشْر الأوسط ثم أُتيتُ، فقيل لي: إنها في العَشْر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فلْيعتكفْ، فاعتكف الناس معه ... } رواه مسلم (2771) والبخاري وأحمد ومالك وأبو داود والنَّسائي. قوله في قبة تُركيَّة: أي في قبة صغيرة من لَبُّود. 4- عن عَمْرَةَ بنتِ عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصةُ عائشةَ أن تستأذن لها، ففعلت، فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبُني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى انصرف إلى بنائه فأبصر الأبنية، فقال: ما هذا؟ قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلبرَّ أردنَ بهذا؟ ما أنا بمعتكِفٍ، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال} رواه البخاري (2045) ومالك وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة. بالنظر في هذه الأحاديث الأربعةِ نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد داوم على الاعتكاف في العَشْرِ الأواخر من رمضان حتى وفاته، وكان إذا لم يتسَنَّ له الاعتكافُ بسبب السفر قام بالاعتكاف بدله في العام الذي يليه، ليؤكِّد كلُّ ذلك على أن الاعتكاف قُربةٌ إلى الله سبحانه.

والقُربة إما أن تكون فرضاً واجباً، وإما أن تكون سُنةً مندوبةً، فجاء النصان الثالث والرابع كقرينة على أن هذه القُربة مندوبة وليست فرضاً. الحديث الثالث يقول (فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه) أي أن الحديث قد علَّق الاعتكاف على محبة الناس له وهذا دليل واضح على عدم الوجوب فلم يبق إلا الندب وكذلك الحديث الرابع الذي يقول (ما أنا بمعتكف فرجع، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال) وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن قُربةٍ ويتركها لو كانت فرضاً واجباً. …وهذه المسألةُ، وأنَّ حكمَ الاعتكاف الندبُ،لم يخالف فيها إلا بعضُ أصحاب مالك، فقد قالوا إن الاعتكاف جائز وليس مندوباً، وقد أنكر ذلك عليهم ابن العربي وهو مالكي، قائلاً إنه سُنَّة مؤكَّدة. وقال ابن بطَّال إِنَّ في مواظبةِ النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكُّدِهِ. وقال ابن حجر [قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون] .

أين يكون الاعتكاف

…أما الشبهة التي استند إليها بعض أصحاب مالك فهي قول مالك [فكَّرتُ في الاعتكاف وتركِ الصحابة له مع شدة اتِّباعهم للأثر، فوقع في نفسي أنه كالوصال، وأراهم تركوه لشدته] ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري، وقد بحثت عنه في الموطأ في مظانِّه فلم أجده، وهذه شبهة بالغة الضعف، ثم إن من يقرأ الموطأ يجد الإمام مالكاً ينص على أن الاعتكاف سُنَّةٌ في أكثر من عبارة ففي الجزء الأول في الصفحة (267) جاء ما يلي [قال مالك: لم أسمع أحداً من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطاً وإنما الاعتكاف عملٌ من الأعمال مثلُ الصلاة والصيام والحج، وما أشبه ذلك من الأعمال ما كان من ذلك فريضة أو نافلة، فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السُّنَّة، وليس له أن يُحْدِث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون لا من شرط يشترطه ولا يبتدعه، وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرف المسلمون سُنَّةَ الاعتكاف] فالاعتكاف سُنَّة، وهذه السُّنَّة تتأكد في العشر الأواخر من رمضان. أين يكونُ الاعتكاف؟ : قد وردت في هذه المسألة أحاديث كثيرة، لا حاجة لاستعراضها كلِّها هنا، وحسبنا أن ننظر في عدد منها لأن فيها الغُنْيَةَ: 1- قال تعالى { ... ولا تُباشِروهنَّ وأنتم عاكِفون في المساجدِ تلك حدودُ اللهِ فلا تَقْرَبوها كذلك يبينُ اللهُ آياتهِ للناسِ لعلهم يتَّقون} من الآية 187 من سورة البقرة. 2- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت {كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصغي إليَّ رأسَه وهو مجاورٌ في المسجد، فأُرجِّلَه وأنا حائض} رواه البخاري (2028) وأبو داود وابن ماجة وأحمد باختلافٍ في الألفاظ.

3- عن علي بن الحسين، أن صفية رضي الله عنها، زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته {أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدَّثت عنده ساعةً ثم قامت تنقلِبُ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُها} رواه البخاري (2035) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد وابن ماجة. 4- عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال {اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا كلُّكم مُناجٍ ربَّه فلا يُؤْذِينَّ بعضُكم بعضاً، ولا يرفع بعضُكم على بعضٍ في القراءة، أو قال: في الصلاة} رواه أبو داود (1332) وأحمد وابن خُزيمة والبيهقي وصحَّحه النووي. 5- وعنه رضي الله عنه قال {اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، قال: فخرجنا صبيحةَ عشرين، قال: فخَطَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صبيحةَ عشرين فقال: إني أُريتُ ليلةَ القدر وإني نُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الأواخر في وترٍ، فإني رأيت أني أسجد في ماء وطين، ومن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلْيرجعْ، فرجع الناس إلى المسجد وما نرى في السماء قَزَعة، قال: فجاءت سحابةٌ فمطرت، وأُقيمت الصلاةُ، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطين والماء حتى رأيت الطين في أرنبته وجبهته} رواه الإمام البخاري (2036) ومسلم وأحمد ومالك وابن حِبَّان والبيهقي. ومن الآثار ورد ما يلي: 1- عن حذيفة رضي الله عنه قال { ... إِنما الاعتكافُ في هذه المساجد الثلاثة: مسجدِ الحرام، ومسجدِ المدينة، والمسجدِ الأقصى} رواه عبد الرزاق (8014) والطبراني والبيهقي وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور. وقال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] .

2- عن – محمد بن شهاب - الزُّهْري قال [لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة] رواه عبد الرزاق (8017) وابن أبي شيبة. 3- عن عطاء – بن أبي رباح - قال [لا يجاور إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة] رواه عبد الرزاق (8020) . 4- عن سعيد بن المسيِّب قال [من نذر أن يعتكف في مسجد إِيلِياءَ، فاعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أَجْزأَ عنه، ومن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فاعتكف في المسجد الحرام أَجْزأ عنه] رواه عبد الرزاق (8025) . قال ابن حجر [اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن لُبابةَ المالكي فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعدُّ للصلاة فيه، وفيه قولٌ للشافعي قديم، وفي وجهٍ لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء، لأن التطوع في البيوت أفضل. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات، وخصَّه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع وشرَّطه مالك، لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة، ويجب بالشروع عند مالك وخصَّه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقاً، وأومأ إليه الشافعي في القديم، وخصَّه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجد مكة والمدينة، وابن المسيِّب بمسجد المدينة] .

…من هذا الاستعراض لأقوال الفقهاء كما أوردها ابن حجر في فتح الباري نجد أنهم كالعادة لا يكادون يتفقون على حكم، وأنهم يُوغِلون في التفريعات والاستنباطات دون مراعاةٍ لواضحِ النصوص وما تدل عليه حتى لقد تناقل الناس القول [اختلاف أمتي رحمة] على أنه حديثٌ نبوي، وليس هو كذلك فإنه لا أصل له. والقول [اختلاف أصحابي لكم رحمة] على أنه أيضاً حديث نبوي، وليس هو بحديث صحيح، فقد رواه البيهقي والطبراني والديلمي وغيرهم من طريق ابن عباس بسند منقطع فلا يصح. وما أحراهم وقد وجدوا بين أيديهم النصوص التي تعالج المسائل أن يقفوا عندها، وعند ما تدل عليه، ويكفونا مؤونة هذه الخلافات التي تعمَّقت لدى المسلمين، حتى غدت كأنها تشريعاتٌ مختلفةٌ، وغفر الله للجميع. …إن جميع النصوص من القرآن الكريم ومن السنة النبوية لا تذكر إلا المساجد أو المسجد، هكذا دون بيانِ إن كانت مساجدَ جماعةٍ أو غيرها، أو إن كانت المساجد هي الثلاثة أو غيرها، أو إن كانت المساجد تُقام فيها صلاة الجمعة أو لا تقام فيها، أو إن كان الاعتكاف فيها واجباً كالنذر، أو كان نفلاً ومندوباً، وهكذا يبدو جلياً أنَّ كثيراً مما نراه من تفريعاتٍ وتفصيلاتٍ مبثوثةٍ في كتب الفقه ليس له سندٌ من الشرع. …والحق والصواب أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجدٍ، أي في بُقعةٍ خصَّصها المسلمون للصلاة، لا فرق بين المساجد الثلاثة وبين غيرها، ولا فرق بين المساجد الجامعة وبين غيرها، فما أُطلق عليه لفظُ مسجدٍ فالاعتكاف فيه جائز. أما القول إن المسجد ينبغي أن يكون مما تقام فيه صلاة الجمعة، وإلا انقطع الاعتكاف بخروج المعتكف إلى المسجد الجامع للصلاة فيه، فإنَّ الرد عليه آتٍ بإذن الله عندما نتناول ما يجوز للمعتكف أن يفعله. وأما القول إن الاعتكاف يصحُّ في كل مكان فهو قول بلا دليل، بل الأدلة ردٌّ عليه، فلا قيمة له.

متى يكون الاعتكاف

قد يقال إن ذِكْر المساجد في النصوص لم يأت كشرط، وإنما جاء مجرد خبر عما كان يحصل وأن ما جاء كخبرٍ لا يُعتبر شرطاً؟ فنجيب عليه بأن الآية قد خُتِمت بالقول {تلك حدودُ اللهِ فلا تَقْربوها كذلك يُبَيِّنُ اللهُ آياتِه للناسِ لعلهم يتقونَ} مما ينفي عما جاء في صدرها من أحكام أن تكون أخباراً لا تُلتَزَم، فقولُ الآيةِ الكريمة: {ولا تُباشِروهُنَّ وأَنتم عاكفونَ في المساجد} يدخل تحت القول {تلك حدودُ اللهِ فلا تقْربوها} ولا يصح أن يدخل تحت القول الأخير لو كانت المباشرة مثلاً في غير المساجد، أو كانت الأفعال في المساجد لا تصل إلى حدِّ المباشرة، وهي هنا الجماع، كما روى البيهقي (4/321) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد، قال: المباشرةُ والملامسةُ والمسُّ جِماعٌ كله ولكن الله عزَّ وجلَّ يَكْني ما شاء بما شاء} ونقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع، فكان ذِكْرُ المباشرةِ وذِكْرُ المساجد أمرين لازمين غير منفصلين، مما ينفي عنهما الإِخبار المجرَّد. …ثم انظروا في الحديث الخامس (ومن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجعْ، فرجع الناس إلى المسجد) فهو أمر منه عليه الصلاة والسلام بالرجوع إلى المسجد لمن كان قد اعتكف، ولولا أن المسجد هو مكان الاعتكاف لما صدر الأمر النبوي هكذا. …وأما الآثار المروية عن الصحابة والتابعين، فهي لا تعدو كونها آراءً اجتهاديةً لأصحابها. أما قول ابن المسيِّب في البند الرابع، فلا يعارض ما ذهبنا إليه من وجوب المسجد للاعتكاف بقدر ما يوفقنا، وما هو إلا بيان لأفضلية هذه المساجد بعضها على بعض. متى يكونُ الاعتكاف؟

يصحُّ الاعتكاف في أي يوم وفي أي ليلة على مدار العام دون استثناء، إذ النصوصُ لم يَرِدْ فيها أيُّ تقييد أو تخصيص، بل جاءت مطلقة غير مقيَّدة وعامة غير مخصَّصة وما جاء فيها من ذكرٍ للعشر الأواخر من رمضان فإنما جاء من باب الأفضلية والندب فحسب، ولم يجيءْ كشرطٍ واجب. ونتناول النصوص المتعلقة بهذه المسألة لاستنباط الحكم منها: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان} رواه البخاري (2025) ومسلم وأبو داود وابن ماجة. 2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشْرةَ أيام، فلما كان العامُ الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يوماً} رواه البخاري (2044) وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد وابن خُزيمة والدارمي. 3- عن أم سلمة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أول سنة العَشْرَ الأول ثم اعتكف العَشْرَ الأوسط ثم اعتكف العَشْرَ الأواخر وقال: إني رأيت ليلة القدر فيها فأُنسيتُها فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيهن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه الطبراني في المعجم الكبير (23 /994) قال الهيثمي [إسناده حسن] وقد مرَّ في الفصل [قيام رمضان وليلة القدر] .

4- عن عَمْرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنْ يعتكف العَشْرَ الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصةُ عائشةَ أن تستأذن لها ففعلت فلما رأت ذلك زينبُ بنتُ جحش أمرت ببناء فبُني لها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى انصرف إلى بنائه فأبصر الأبنية، فقال: ما هذا؟ قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلبرَّ أردن بهذا؟ ما أنا بمعتكِفٍ، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال} رواه البخاري (2045) ومالك وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمة وقد مرَّ. والعشر من شوال هو العشر الأَوَّل، كما جاء في روايةٍ لمسلم (2285) وأبي داود والبيهقي، فعن عائشة رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف، صلى الفجر ثم دخل مُعْتَكَفَهُ، وإِنه أمر بخِبائِه فضُرب لمَّا أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخِبائِها فضُرب وأمر غيرُها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخِبائِها فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأَخبية، فقال: ألْبِّر يُرِدْنَ؟ فأمر بخِبائِه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في العشر الأَوَّل من شوال} قوله الخِباء: هو مَسْكَنٌ من صوف أو وَبَرٍ منسوجٍ يقوم على عمودين أو ثلاثة، فإذا قام على أربعةٍ أو أكثر فهو بيتٌ. ولكن العَشْرَ من شوال حسب روايةٍ للبخاري هي العشر الأواخر، ففي البخاري (2041) من طريق عائشة رضي الله عنها قالت { ... فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغَداة، أبصر أربع قِباب، فقال: ما هذا؟ فأُخْبِر خبرهنَّ، فقال: ما حملهن على هذا؟ آلبِرُ؟ انزعوها فلا أراها فنُزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال} .

متى يبدأ الاعتكاف

5- عن ابن عمر رضي الله عنه {أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلةً في المسجد الحرام؟ قال: أَوْفِ بنذرك} رواه البخاري (2032) والنَّسائي وأبو داود والدارَقُطني. ووقع عند البخاري في رواية ثانية من طريقه (2042) بلفظ { ... فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أَوْف نذرَكَ، فاعتكف ليلة} . يتضح من هذه النصوص ما قلناه في صدر البحث من أن الاعتكاف يصح في أي يوم على مدار العام، وأن ما ورد في النصوص من حصول الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فإنما جاء على سبيل الندب والأفضلية ليس غير وذلك أن الحديث الثاني والحديث الثالث قد ذكرا غير العشر الأواخر، ففي الحديث الثاني جاء ذكر عشرين يوماً، وفي الحديث الثالث جاء ذكر العشر الأول والعشر الثاني، ثم العشر الأخير، ولكن الحديث الرابع جاء أوضحها من حيث الدلالة على جواز الاعتكاف في غير العشر الأواخر بل في غير رمضان، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اعتكف في شوال على اختلافٍ بين الروايات، فروايةٌ تذكر العشر الأُوَل وأخرى تذكر العشر الأواخر، وكلا الروايتين تدلُ على أَنَّ الاعتكاف يجوز في غير رمضان. أما الحديث الخامس فهو أكثر النصوص إطلاقاً، إذ هو لم يقيد الاعتكاف بأي زمنٍ، مما يدل دلالة أكيدة على جواز الاعتكاف في أي يوم من أيام السنة. …ولكنني أعود وأقول إن الاعتكاف في رمضان هو أفضل منه في غيره، وإن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان هو أفضل منه في غيرها. …أما أفضلية الاعتكاف في العشر الأواخر فإنما هي من أجل التماس ليلة القدر فيها وما يناله المسلم إذا وفقه الله في طلبها والتماسها من فضل لا يعدله فضل. متى يبدأُ الاعتكاف؟ ونعني به الساعة التي يدخل فيها المعتكِف مُعْتَكَفَه لا يبرحه.

وقد اختلف الفقهاء في تحديد بدء الاعتكاف على رأيين: فذهب الأوزاعي وإِسحق بن راهُوَيْه والليث وأحمد في روايةٍ عنهما، إلى أن الرجل إذا أراد الاعتكاف صلى الفجر ثم دخل في مُعتَكَفه. وذهب الآخرون، وهم الأئمةُ الثلاثةُ، وأحمد في الرواية الثانية إلى أن الرجل إذا أراد الاعتكاف دخل معتكَفه قبل غروب الشمس. قال الترمذي [والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يقولون: إذا أراد الرجل أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل في معتَكَفه، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحق بن إبراهيم. وقال بعضهم: إذا أراد أن يعتكف فلْتغِبْ له الشمسُ من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها من الغد وقد قعد في معتكَفه، وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس] . …استدل الفريق الأول على رأيهم بحديث عائشة رضي الله عنها قالت {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خِباءً فيصلي الصبح ثم يدخله ... } رواه البخاري (2033) ورواه مسلم (2785) والنَّسائي في السنن الكبرى وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد بلفظ {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل مُعْتَكَفه ... } . …أما الفريق الآخر، وهم الأئمة الثلاثة وأحمد في الرواية الثانية عنه، فقد قالوا: يدخل المعتكِف في مُعْتَكَفه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهرٍ، أو اعتكاف عشرٍ، وأَوَّلوا حديث عائشة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المعتكَف وانقطع فيه وتخلَّى بنفسه بعد صلاة الصبح وأنه عليه الصلاةُ والسلام كان معتكِفاً لابثاً في المسجد قبل غروب الشمس!! وقال الشافعي في كتاب الأم [من أوجب على نفسه اعتكاف شهر فإنه يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس ويخرج منه إذا غربت الشمس آخر الشهر] .

…وبالتدقيق في هذين القولين نجد أنه يمكن التوفيق بينهما، فقول الفريق الآخر بوجوب دخول المعتكَف قبل غروب الشمس مقيَّدٌ بما إذا أراد المعتكِف تحديد يومٍ أو عشرةِ أيام أو شهرٍ مثلاً لاعتكافه، وحيث أن المسلمين يعتدُّون لدخول اليوم بحلول الليل أولاً، فإن بداية اليوم عندهم أو بداية الشهر لا شك في أنها تكون بحلول الليل، فكان إيجابهم دخول المعتكِف معتكَفه قبل غروب شمس اليوم الذي سبقه قول صحيح بلا شك. وأنا لا أظن أن الفريق الأول يخالفون هذا القول، وإنما الخلاف الحقيقي في الاستناد إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، هل كان يبدأ اعتكافه في بداية الليل أم عقب صلاة الصبح؟ الصحيح الذي ينبغي الذهاب إليه هو أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبدأ اعتكافه عقب صلاة الصبح وقد جاء ذلك منطوقاً فلا حجة لمن عارضه بتأويلات بعيدةٍ، فالحديث يقول صراحة (فيصلي الصبح ثم يدخله) ويقول (إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفه) وهذا منطوقٌ في أَنَّ بدء الاعتكاف يكون عقبَ صلاة الفجر لا يُستطاع تأويله بغير هذا الذي يدل عليه. وكان يمكن للحديث مثلاً أن يأتي بصيغة: إذا صلى الصبح عاد إلى معتكَفه، أو: ثم يصلي بالمسلمين صلاة الصبح فيدخل في معتكَفه مجدَّداً، فيكون دليلاً على ادعائهم، أما وأنه لم يأت هكذا، بل جاء صريحاً بالقول (إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكَفَه) فإِنه ينبغي الوقوف عنده وعدم مخالفته بتأويلات بعيدةٍ.

مدة الاعتكاف

…وأقول هنا ما يلي: إِ نَّ كلَّ ما سبق ينبغي أن لا يُفهَم منه أنَّ الاعتكاف لا يصح أن يبدأ إلا عقب صلاة الفجر أو قبيل الغروب، وإنما الاعتكاف كما يصحُّ أن يُبدأ به عقب صلاة الفجر أو قُبَيل غروب الشمس، فإنه يصح أن يُبدأ به في أي وقت من ليلٍ أو نهارٍ. أما ما سبق وناقشناه من أدلةٍ، فإنما ذلك من أجل الردِّ على أقوال الأئمة والفقهاء واستدلالاتهم لا غير، وإنَّ الوصول في المناقشةِ إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتكف عقب صلاة الفجر لا يدلُّ على أنَّ ذلك مُلزِمٌ أو أنه شرطٌ، إذ لا دليل ولا قرينة على أنَّ ذلك قد جاء على سبيل الإلزام والوجوب. مدةُ الاعتكاف: لقد اتفق الأئمةُ والفقهاء على أنه لا حدَّ لأكثر الاعتكاف، وإنما اختلفوا في أقلِّه: فذهبت الحنفية إلى أن أقلَّه يوم. وقالت المالكية: يوم وليلة. وقال الشافعي وأحمد وإسحق بن راهُويه: أقل ما يطلق عليه اسم لَبْث، ولا يُشترط القعود. وهذا الرأي الأخير هو الصحيح، وما سواه فتحكُّمٌ وتحديدٌ لا دليل من الشرع عليه، إِذْ لا يوجد أَيُّ نصٍّ يحدد مدةً للاعتكاف، لا كثرةً ولا قلةً، فيبقى الأمر على إِطلاقه دون أي تقييد. …أما ما جاء في الأحاديث من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعتكف عشراً من رمضان أو من شوال أو اعتكف عشرين، فهي لا تعدو كونها وقائع عين لا مفهوم لها ولا توجِبُ التزاماً، ولا تصلح للتقييد.

وقد روى البخاري (2032) وأبو داود والنَّسائي والدارَقُطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما {أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلةً في المسجد الحرام قال: أوف بنذرك} ووقع عند البخاري في رواية ثانية من طريقه (2042) لفظ { ... فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف نذرَكَ، فاعتكف ليلةً} وهذا دليل صحيح يرد قول الحنفية بأنَّ أقل الاعتكاف يوم، فاليوم هو نهار وليل. ويرد قول المالكية بأنه يوم وليلة. ومع ذلك فإِنَّا نقول إِن هذا النص لا يفيد تحديدَ الأقل بليلة، وإنما جاء هو الآخر واقعة عين فحسب. وقد روى ابن أبي شيبة (4/501) عن الصحابي يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه كان يقول لصاحبه {انطلقْ بنا إلى المسجد، فنعتكف فيه ساعةً} وروى عبد الرزاق (8006) وابن حزم عنه قوله {إني لأمكث في المسجد ساعة، وما أمكث إلا لأعتكف} وهو أثرٌ يُستَأنَسُ به. وعليه فإني أقول: إن الاعتكاف غير محدِّدٍ بمدة، فيصحُّ الاعتكاف شهراً ويصحُّ شهرين، كما يصح الاعتكاف ساعة ويصحُّ ساعتين، وما دام ذلك كذلك فإنه يصح البدء في الصباح، كما يصحُّ وقت الظهيرة أو عقب صلاة العصر، أو بعد صلاة العشاء أو عقب صلاة الفجر دون حرج، ودون أي مانعٍ شرعي، ولا حاجة للتَّمسُّكِ بقول ذلك الفريق من أن بدء الاعتكاف يجب أن يكون قبل غروب الشمس فحسب، أو بقول الفريق الآخر من أنَّ البدء يجب أن يكون عقب صلاةِ الصبح. فالاعتكاف كما عرَّفناه في البدء [الَّلبثُ في المسجد مدَّةً على صفةٍ مخصوصة مع نية التقرب إلى الله سبحانه] هو تعريف واضح فيه أنه أطلق المدة فلم يقيدها بأي قيد.

هل الصيام شرط في صحة الاعتكاف

…ويحضرني هنا قول ابن حزم في المحلى [وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاعتكاف أقل من يوم. وقال مالك: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة ثم رجع وقال: لا اعتكاف أقل من عشر ليال، وله قول: لا اعتكاف أقل من سبع ليال من الجمعة إلى الجمعة. وكل هذا قول بلا دليل] وقد صدق ابن حزم بأن كل هذا قول بلا دليل. هل الصيامُ شرطٌ في صحة الاعتكاف؟ ذهب ابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم، فيما رُوي عنهم، إلى اشتراط الصيام مع الاعتكاف، وبرأيهم قال مالك بن أنس والأوزاعي والثوري وأحمد في رواية عنه، ووافقهم أبو حنيفة في الاعتكاف الواجب بالنذر فقط، وأن ما عداه عنده فليس الصيام شرطاً فيه. فيما ذهب علي وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهما، فيما رُوي عنهما، إلى عدم اشتراط الصيام مع الاعتكاف وبرأيهما قال الشافعي والحسن البصري وإسحق بن راهُويه وأحمد في الرواية الأخرى عنه، قائلين إن الصيام مع الاعتكاف مستحَبٌّ فحسب وليس بواجب، بمعنى أن الصيام ليس شرطاً في صحة الاعتكاف. وحتى نتبين وجه الحق في هذه المسألة، ونقف على الصحيح فيها لا بد من استعراض الأدلة المتعلقة بها: 1- قال جلَّ جلاله { ... ثم أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلى الليلَ ولا تُباشِروهُنَّ وأَنتم عاكفونَ في المساجد ... } من الآية 187 من سورة البقرة. 2- عن عائشة رضي الله تعالى عنها {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العَشْر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده} رواه البخاري (2025) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. 3- وعنها رضي الله تعالى عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال {لا اعتكاف إلا بصيام} رواه الدارَقُطني (2/200) والحاكم والبيهقي وابن أبي شيبة.

4- عن ابن عمر رضي الله عنه {أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتكافٍ عليه؟ فأمره أن يعتكف ويصوم} رواه الدارَقُطني (2/200) والبيهقي وأبو داود وابن حزم. 5- وعنه رضي الله تعالى عنه {أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف في الشِّرك ويصوم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فقال: أوف بنذرك} رواه الدارَقُطني (2/201) وحسَّن إسناده. 6- وعنه رضي الله تعالى عنه {أن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلةً في المسجد الحرام قال: أَوْفِ بنذرك} رواه البخاري (2032) وأبو داود والنَّسائي والدارَقُطني. ووقع عند البخاري في رواية ثانية (2042) من طريقه بلفظ { ... فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوف نذرَكَ، فاعتكف ليلة} . 7- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {ليس على المعتكف صيام، إلا أن يجعله على نفسه} رواه الدارَقُطني (2/199) والحاكم وصححه مرفوعاً. ورواه البيهقي وصحَّح وقفه على ابن عباس وقال: رَفْعُه وَهْمٌ. 8- حديث عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وقد مرَّ برقم 4 في بحث [متى يكون الاعتكاف؟] وجاء فيه { ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلبِرَّ أردنَ بهذا؟ ما أنا بمعتكِف، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال} رواه البخاري (2045) وغيره.

استدل الفريق الأول القائلون باشتراط الصيام مع الاعتكاف بالأدلة الخمسة الأولى، فقال هذا الفريق إن قوله تعالى {ثم أَتِمُّوا الصيامَ إلى الليل ولا تُباشروهنَّ وأنتم عاكِفونَ في المساجد} فيه ذكرٌ للاعتكاف إثْرَ الصوم ورَبطُ الاعتكافِ بالصيام وعن الدليل الثاني قالوا إن كون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فهو يدل على أن الاعتكاف ملازمٌ للصيام، لأن العشر الأواخر من رمضان يصومها المسلمون طبعاً. وعن الدليل الثالث والدليل الرابع والقريب منه الدليل الخامس قالوا إن دلالتها واضحة باشتراط الصيام مع الاعتكاف. …أما الفريق الثاني فقد استدلوا على رأيهم بعدم اشتراط الصيام مع الاعتكاف بالأدلة التالية: الحديث رقم 6 بلفظيه وفيه الأمر بالاعتكاف خالياً من الأمر بالصيام، والليل ليس محلاً للصوم، ومع ذلك جاء الأمر لعمر (أوف بنذرك) والحديث رقم 8 القائل (اعتكف عشراً من شوال) وليس شوال شهر صيام. والحديث رقم 7 نفى وجوب الصيام إلا أن يشترطه على نفسه، وهو قولٌ لابن عباس فهو ليس دليلاً. والحق أن رأي هؤلاء هو الصحيح وذلك لما يلي: إن الآية الكريمة ليس فيها ما يشير إلى وجود تلازمٍ بين الصوم والاعتكاف، ولا على أن أحدَهما شرطٌ لحصول الآخر، فالقول بالتلازم بين الصوم والاعتكاف خطأ، وذلك أن الآية تتحدث عن الصيام وجواز الجماع في ليل رمضان، وأن الأكل في الليل ينتهي عندما يتبين للصائمين حلولُ الفجر، وبعد أن أطلقت الآية جواز الجماع في ليل رمضان جاء بعده الحظر عليه عند الاعتكاف ليدل على بقاء الجواز فيما سواه فهي آية ذكرت عدة أحكام تتعلق بالصوم وبالاعتكاف، كل حكم منها مختلف عن غيره، دون أن يظهر أن للتلازم علاقة بتشريع هذه الأحكام.

…أما دليلهم الثاني فيدل على أفضلية الاعتكاف في العشر الأواخر، لا سيما إذا علمنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحرى ليلة القدر ويلتمسها في العشر الأواخر هذه والتماس ليلة القدر وتحريها مندوب غيرُ واجب، وليس في الحديث أي شيء يدل على قصر الاعتكاف عليها، وإن الحديث رقم 8 دليل على ما نقول، فإنه عليه الصلاة والسلام قد اعتكف في شوال، وليس في شوال ليلة قدر، ولا يجب الصيام فيه. فإن هم قالوا إنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم أيام شوال هذه، قلنا لهم إن النصوص لم تذكر الصيام والقول بالصيام فيها تقوُّلٌ على النص لا يجوز. أما الحديث الثالث (لا اعتكاف إِلا بصيام) فقد قال الدارَقُطني الذي رواه [تفرَّد به سويد عن سفيان بن حسين] وقال البيهقي وهو أيضاً راوي الحديث [سويد ضعيف لا يُقبل ما تفرَّد به] وقال الحاكم وهو أيضاً راوي الحديث [الشيخان لم يحتجا بسفيان بن حسين] وقد ضعَّفه أحمد وقال: متروك. وقال البخاري: فيه نظر. فالحديث ضعيف فيُترك. …وأما الحديث الرابع (فأمره أن يعتكف ويصوم) فقال الدارَقُطني الذي رواه [تفرَّد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف الحديث] وقال أبو بكر النيسابوري: هذا حديث منكر. وأضاف: وابن بديل ضعيف الحديث. وقال ابن حزم [هذا خبر لا يصح] فالحديث ضعيف فيترك.

ما يفعله المعتكف وما لا يفعله

…وأما الحديث الخامس (نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم) فإنَّ الدارَقُطني وإن هو حسَّن الإسناد، إلا أن البيهقي قال [ذِكْرُ نذرِ الصوم فيه غريبٌ تفرَّد به سعيد ابن بشير عن عبيد الله] وقال عبد الحق: تفرد به سعيد بن بشير، وهو مختلَف فيه. وقد ضعف ابن الجوزي هذا الحديث من أجله. وقال أبو مُسْهِر وابن نُمَير: منكَر الحديث. كما ضعفه أحمد والنَّسائي. فهو حديث ضعيف فيترك. هذا إِضافةً إلى أن الحديث بروايتيه عند البخاري ليس فيه ذِكْرٌ للصوم، فكلمة (يصوم) في الحديث غير محفوظة في صحاح الأحاديث فتترك. وعليه فإِنَّا نقول إنه لا يصح، ولا يوجد دليل واحد معتبرٌ على اشتراط الصيام لصحة الاعتكاف. وبذلك يتبين وجه الحق في هذه المسألة، وهو أن الاعتكاف عبادة منفصلة عن الصيام تصح بوجوده وبعدم وجوده. ما يفعلُه المعتكِف وما لا يفعلُه:

اتفق العلماءُ على أنه يجوز للمعتكِف في المسجد أن يخرج منه لقضاء الحاجة التي لا بد منها، وهي البول والغائط والقيء والاغتسال والوضوء، وما هو من هذا القبيل وأنه إن فعل ذلك لم يبطل اعتكافه، واختلفوا فيما سوى ذلك: فذهب الثوري والشافعي، وأحمد في رواية، إلى أن للمعتكِف أن يخرج لعيادة المريض وصلاة الجنازة إن هو اشترطه في ابتداء اعتكافه سواء أكان الاعتكاف واجباً كاعتكاف النذر أم كان غير واجب. ووافقهم إسحق في الاعتكافِ تطوُّعاً، أما في الاعتكاف الواجب فلا يصح ذلك عنده. وقال مالك والأوزاعي: لا يكون في الاعتكاف شرط. وقال سعيد ابن جبير والحسن البصري والنخعي وأحمد في رواية إن للمعتكِف أن يعود المريض ويشهد الجنازة، دون أن يعلِّقوا ذلك بالشرط المسبق، ورُوي ذلك عن علي رضي الله عنه. وقال ابن حزم: كل فرض على المسلم فإن الاعتكاف لا يمنع منه وعليه أن يخرج إليه، ولا يضرُّ ذلك باعتكافه. ومثله قال ابن قدامة، فقد قال: إن له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه، وأجاز الخروج لتحصيل المأكول والمشروب إذا لم يكن له مَن يأتيه به. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجوز للمعتكِف أن يخرج مطلقاً، فإن خرج بطل اعتكافه وإن قلَّ. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن تلميذا أبي حنيفة: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم، لأن اليسير معفوٌّ عنه. كما اختلفوا في خروج المعتكِف لحضور صلاة الجمعة إن كان الاعتكاف في مسجدٍ لا تقام الجمعة فيه، فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنه يخرج لصلاة الجمعة ولا يبطل اعتكافُه بذلك الخروج. وللشافعي قولان أصحهما: يبطل اعتكافه إن خرج لصلاة الجمعة إلا إن كان قد شرطه مسبقاً، ثم يستأنف الاعتكاف.

…أما في داخل المعتَكَف، أي في داخل المسجد، فقد اتفق معظم الفقهاء على أنه ليس للمعتكِف أن يتَّجرَ ويكتسب بالصنعة على الإطلاق. وقال الشافعي: لا بأس للمعتكِف بأن يبيع ويشتري ويخيط الثيابَ. ونقل ابن قدامة عن أحمد قوله: لا يبيع ولا يشتري إلا ما لا بد منه. …والحق الذي ينبغي الذهاب إليه والقول به هو أن للمعتكف أن يخرج لحاجته التي لا بد له منها دون تحديدٍ، سواء شرَّط ذلك أم لم يشرِّط، ولا يفسد اعتكافه به. ولا حاجة بنا للدخول في سرد هذه الحاجات الضرورية الواجبة، فهي ليست ثابتة، وتختلف من شخص لآخر، ومن وقت لآخر، فلو خرج المعتكِف في يوم برد لإحضار مدفأة له، أو خرج في يوم حر لإحضار مروحةٍ له، فإن له ذلك ولا يقدح في اعتكافه وطبعاً يحق للمعتكِف بل يجب عليه أن يخرج لحضور صلاة الجمعة، ولا يبطل اعتكافه به، ولو جاءه خبر أن ابنه تعرَّض لحادث دهس ويحتاج للنقل إلى المستشفى، فإن له أن يخرج لذلك ولا يُبطِلُ ذلك اعتكَافَه، وهكذا ... أما الخروج من المسجد، دون حاجة ملحة فلا شك في أنه يُبطِل الاعتكاف. وأما في داخل المسجد، فإن كل ما جاء النهي عن فعله فيه يُنهى المعتكِف عنه وما لا نهيَ عنه فيه فإن للمعتكِف أن يفعله، دون أن يؤثر ذلك في صحة اعتكافه، ونقول هذا القول أيضاً دون سردٍ للأفعال الجائزة، فهي أكثر من أن تحصى وتحدَّد في ورقة أو ورقتين. وهذه جُملة من النصوص المتعلقة بهذه المسألة: 1- قال تعالى { ... ولا تُباشروهُنَّ وأَنتم عاكفونَ في المساجدِ تلكَ حُدودُ اللهِ فلا تَقْرَبُوها كذلك يبينُ الله آياتِه للناسِ لعلَّهُمْ يَتَّقُونَ} من الآية 187 من سورة البقرة. 2- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصغي إليَّ رأسَه وهو مجاوِرٌ في المسجد، فأُرجِّلَه وأنا حائض} رواه البخاري (2028) وأبو داود وابن ماجة وأحمد باختلافٍ في الألفاظ.

3- وعنها رضي الله عنها قالت {وإنْ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليُدخِلُ عليَّ رأسَه وهو في المسجد فأُرَجِّلَه وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكِفاً} رواه البخاري (2029) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد والترمذي. 4- عن علي بن الحسين أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته {أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يَقْلِبُها} رواه البخاري (2035) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد 5- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ بالمريض وهو معتكِف فيمرُّ كما هو ولا يعرِّج يسأل عنه} رواه أبو داود (2472) والبيهقي 6- وعنها رضي الله عنها قالت {إنْ كنت لأدخُلُ البيت للحاجة والمريضُ فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارَّة، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كانوا معتكفين} رواه ابن ماجة (1776) وأحمد والبيهقي وابن خُزيمة باختلافٍ في الألفاظ. 7- وعنها رضي الله عنها قالت {السُّنة على المعتكِف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمسَّ امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع} رواه أبو داود (2473) . في تفسير الآية الكريمة البند الأول نُقل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال (المباشرة والملامسة والمس جماعٌ كله، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ يَكْني ما شاء بما شاء) رواه البيهقي وغيره. وقد مرَّ في بحث [أين يكون الاعتكاف؟] ونقل ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع.

…والحديث في البند الثاني كالحديث في البند الثالث، كلاهما يفيد أن المعتكِف يُخرِج رأسَه من المسجد من أجل إِصلاحه وتمشيطه، وفي روايةٍ للبخاري (2031) {فأُغسِّله وأنا حائض} مما يدل كل ذلك على جواز الاغتسال للنظافة وإصلاح الهيئة بتمشيط وحُسْنِ هندام. والحديث الثالث واضح الدلالة على جواز الخروج لحاجة، وقد اتفقوا على أن الحاجة تعني هنا البول والغائط وشبههما. أما الحديث الرابع فهو يدل على استقبال المعتكِف لزواره ومحادثتِهم والمشيِ معهم لتوديعهم. فقوله (فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يَقْلِبُها) معناه أنه مشى معها في عودتها من عنده. أما الحديث الخامس الذي رواه أبو داود، ففيه ليث بن أبي سليم، ضعَّفه أحمد ويحيى بن سعيد وأبو حاتم وابن معين وابن المَديني وغيرهم فيترك. وأما الحديث السادس فهو دالٌ على جواز الخروج للحاجة، وقد فسَّرها ابن شهاب الزُّهري بالبول والغائط. قال ابن حجر: قد اتفقوا على استثنائهما واختلفوا في غيرهما. وأما الحديث السابع، فإن أبا داود بعد أن رواه قال [غير عبد الرحمن بن إسحق لا يقول فيه (قالت: السُّنَّة) قال أبو داود: جعله قول عائشة] وقال الدارَقُطني [إن السُّنَّة للمعتكِف إلى آخره، ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنه من كلام الزهري، ومَن أدرجه في الحديث فقد وهم، والله أعلم، وهشام بن سليمان لم يذكر هـ] فلا يعدو الحديث أن يكون من قول عائشة رضي الله عنها، وقول عائشة ليس دليلاً شرعياً حتى يتوجَّب الأخذُ به لا سيما وأن غيرها من الصحابة قد أفتَوْا بعكس قولها هذا، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه (4/500) عن علي رضي الله عنه قوله {إذا اعتكف الرجل فلْيشهدْ الجمعةَ ولْيَعُد المريضَ وليشهد الجنازةَ ولْيأت أهلَه ويأمرهم بالحاجة وهو قائم} وأقوال الصحابة إن اختلفت وتضاربت فإنها تدلُّ على أنها أفهامٌ لهم واجتهادات لا يجب علينا الأخذ بها

الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان

إلا تقليداً لهم فحسب، فمن شاء قلَّد عائشة، ومن شاء قلَّد علياً. والحق الذي أراه، هو أن عيادة المريض، وحضور الجنازة ليسا من الحاجات الضرورية الواجبة، حتى يخرج إليها المعتكِف، وإنما هي مندوبات فحسب، ولا تُجيز المندوبات للمعتكِف أن يخرج. وأما ما جاء النهي عن فعله في المسجد فيمكن الوقوفُ عليه بمراجعة كتابي [الجامع لأحكام الصلاة] الجزء الثاني، بحث [أدب المسجد] الفصل الثاني. الاجتهادُ في العشر الأواخر من رمضان: قد وردت فيه الأحاديث التالية: 1- عن عائشة رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره} رواه مسلم (2788) والنَّسائي والترمذي وابن ماجة وأحمد. 2- وعنها رضي الله عنها قالت {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العَشْرُ أحيا الليل وأيقظ أهله وجدَّ، وشدَّ المِئْزَر} رواه مسلم (2787) والبخاري وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. 3- عن عليٍّ رضي الله عنه قال {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أيقظ أهله ورَفَع المِئْزَر، قيل لأبي بكر – بن عياش أحد الرواة – ما رَفَعَ المِئزر؟ قال: اعتزل النساء} رواه أحمد (1103) وابن أبي شيبة والبيهقي وأبو يعلى. ورواه الترمذي وقال [هذا حديث حسن صحيح] . فهذه الأحاديث الشريفة تدل على مشروعية الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، وعلى إحيائها بالعبادة، وعلى الحث على إيقاظ الأهل فيها لجني ما أعدَّ الله فيها لعباده العُبَّاد من خير وثواب. اعتكافُ النساء: وردت فيه الأحاديث التالية: 1- عن عائشة رضي الله عنها {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشرَ الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده} رواه البخاري (2025) ومسلم وأبو داود والنَّسائي وأحمد. وقد مرَّ في بحث [حكم الاعتكاف] البند الأول.

2- وعنها رضي الله عنها قالت {اعتكفتْ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةٌ مستحاضةٌ من أزواجه، فكانت ترى الحُمرة والصُّفرة، فربما وضعنا الطَّست تحتها وهي تصلي} رواه البخاري (2037) وأبو داود والنَّسائي وابن ماجة وأحمد. وفي رواية ثانية للبخاري (309) من طريقها بلفظ {أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطَّست تحتها من الدم} . 3- عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشةَ رضي الله عنها {أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكفَ العشر الأواخرَ من رمضان، فاستأذنته عائشةُ فأَذن لها، وسألت حفصةُ عائشةَ أن تستأذنَ لها ففعلت فلما رأت ذلك زينب بنت جحشٍ أَمرت ببناء فبُنيَ لها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا صلى انصرف إِلى بنائه فأَبصر الأبنيةَ، فقال: ما هذا؟ قالوا: بناء عائشةَ وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَلبرَّ أَردنَ بهذا؟ ما أَنا بمعتكفٍ، فرجع، فلما أَفطر اعتكف عشراً من شوال} رواه البخاري (2045) ومالك وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزيمةَ. وقد مرَّ في بحث [حكم الاعتكاف] البند الرابع. تدل هذه النصوص الثلاثة على جواز اعتكاف النساء، وطبعاً في مكانٍ منعزلٍ في المسجد عن الرجال، ويدل الحديث الثالث على أن المرأة لا تعتكف حتى تستأذن زوجها، وأنها إن اعتكفت بغير إذنه كان له أن يُخرجها، وحتى إن هي اعتكفت بإذنه فإن للزوج أن يرجع عن إذنه فيمنعها وإليه ذهب الجمهور وهو الصحيح. ذلك أن الاعتكاف مندوب، ولو كان واجباً على الزوجة لما جاز للزوج منعُها منه، وليس صحيحاً قول أهل الرأي: إذا أذن لها الزوج بالاعتكاف ثم منعها أثم بذلك، وهو قولٌ لمالك أيضاً.

الفصل الثاني عشر: زكاة الفطر

وقد شرَّط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن يكون في مسجد بيتها، وهو قولٌ يردُّه الحديث رقم 3. وقال أحمد في رواية عنه: إن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها، وهو قول لا يختلف فيه أحد، ولم يجيء بصيغة الشرط أي لم يجيء قوله: إن لها الاعتكاف في المسجد بشرط أن تكون مع زوجها، فإن كان القول مشروطاً فهو خطأ لا دليل عليه، إذ الحديث الثالث يردُّه أيضاً، فنساء الرسول صلى الله عليه وسلم قد ضربن لأنفسهن أخبية خاصة بهن، والحديث الأول يقول (ثم اعتكف أزواجه من بعده) بمعنى أنهن اعتكفن وحدهن بدون إِذن زوجهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الحديث الثاني فيدل منطوقُه على أن المستحاضة – وهي من يسيل دمها من فرجها بسبب مرض – يجوز لها الاعتكاف، ويلحقُ بها دائمُ الحدَث – أي من كان عنده سَلَسُ البول – ومن به جُرح يسيل، بشرط أن لا تُنجِّسَ هي أو يُنجِّسَ هو المسجد. …وقد انقطع اعتكاف النساء في زمننا هذا أو كاد، فلم نعد نرى نساءً يعتكفن بل كاد اعتكاف الرجال ينقطع أيضاً في زمننا هذا، ولم نعد نشاهده بصورة ملموسة إلا في ليلة القدر المحتملة فحسب، اللهم إلا الاعتكاف القصير لمدة ساعة أو ساعات، أي المكث في المسجد بنية الاعتكاف، فهذا ما يستمر وقوعه لسهولته. وأقول إن المرأة إن كانت زوجة، أو كان لها أولاد صغار لا يتولى خدمة الزوج أو الأولاد إلا هي، فإن ترك الاعتكاف يتعين عليها ويصبح اعتكافها غير جائز، ذلك أنه إذا تعارض واجب مع مندوب وجب القيام بالواجب وتُرِك المندوب، ولا شك في أن القيام على خدمة الزوج والأولاد واجب على المرأة، فهو مقدَّم على الاعتكاف المندوب. الفصل الثاني عشر: زكاة الفطر الفصل الثاني عشر زكاةُ الفِطْر

حكم زكاة الفطر

…وتسمى أيضاً صدقة الفطر، فقد جاء الاسمان في الأحاديث الشريفة، وشاع استعمالهما في كتب الفقه. وصدقة الفطر، أو زكاة الفطر هي زكاة كسائر الزَّكَوات المفروضة، فهي صنف من أصناف الزكاة، ويضعها الفقهاء في باب الزكاة، ولكنني أحببت أن أضعها في باب الصوم لتعلُّقِها به، كما وضعتُ عدداً من الأبحاث الأخرى ذات العلاقة بالصوم فيه، مع كونها توضع عادة في أبواب الفقه الأخرى، وما ذلك إلا لأنني كما عنونت الكتاب أردت جمع جميع الأحكام الخاصة بالصيام، فهذا الكتاب – الجامع لأحكام الصيام – أردته شاملاً لأحكامِ الصيام، كلِّ الأحكام، مما يساعد القارئ على استحضار هذه الأحكام كلِّها في كتاب واحد. …وصدقة الفطر، أو زكاة الفطر، قد وردت الإشارة إليها في كتاب الله الكريم إضافةً إلى أنها مشمولة بجميع الآيات الناطقة بالزكاة، فقد روى الطبري في تفسيره (30/156) عن أبي خَلْدة قال [دخلتُ على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غداً إلى العيد فمُرَّ بي، قال: فمررت به، فقال: هل طعِمْتَ شيئاً؟ قلت: نعم، قال: أفضتَ على نفسك من الماء؟ قلت: نعم، قال: فأَخبرني ما فعلتَ بزكاتك؟ قلت: قد وجَّهتُها، قال: إنما أردتُك لهذا ثم قرأ (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضلَ منها، ومن سقاية الماء] وقال ابن قُدامة في المغني [قال سعيد بن المسيِّب وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى (قد أفلح من تزكَّى) هو زكاة الفطر] وقد سميت زكاةُ الفطر بهذا الاسم، لأن الفطر بعد الصوم هو السبب فيها، أو قل لأنها تجب بالفطر. حكمُ زكاةِ الفطر:

قال ابن المنذر إن أهل العلم قد نُقل عنهم الإجماع على أن زكاة الفطر فرض. وهذا القول غير دقيق، وإنما الدقيق هو قول إسحق: إيجابُ الفطر كالإجماع. ذلك أنه قد نُقل عن متأخري أصحاب مالك وداود وبعض الشافعية القولُ إنها سُنة، وأوَّلوا ما ورد في الأحاديث من القول (فَرَضَ) بـ (قدَّر) على أصل معناه في اللغة، وقال الجمهور إن زكاة الفطر فرض. والصحيح إن زكاة الفطر فرض، لأنها أولاً زكاةٌ كسائر الزَّكَوات، ولأنها ثانياً قد نُصَّ عليها بأنها فرض وإذا جاءت في النص كلمةُ (فَرَضَ) وجب أن تُصرف إلى معناها الشرعي وهو الواجب وليس إلى معناها اللغوي. فالحقائق الشرعية مقدَّمة على الحقائق اللغوية، وإن أيةَ لفظةٍ واردةٍ في النصوص ينبغي أن تُفسَّر بمعناها الشرعي أَولاً. 1- فعن ابن عمر رضي الله عنه قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة} رواه البخاري (1503) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة والدارمي، باختلافٍ في الألفاظ. 2- وعنه رضي الله عنه قال {فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر – أو قال رمضان – على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير ... } . رواه البخاري (1511) وأحمد وابن خُزيمة. 3- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهْرَةً للصائم من اللغو والرَّفَث وطُعْمَةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات} رواه أبو داود (1609) وابن ماجة والدارَقُطني. ورواه الحاكم (1/409) وصححه وأقره الذهبي قوله الرَّفَث هنا: يعني الفُحش في الكلام، قاله ابن الأثير.

4- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فِجاج مكة: أَلاَ إِنَّ صدقة الفطر واجبةٌ على كل مسلم ذكرٍ أو أنثى، حرٍّ أو عبد، صغيرٍ أو كبير، مُدَّان من قمح أو سواه صاعٌ من طعام} رواه الترمذي (669) وقال [هذا حديث غريب حسن] ورواه الدارَقُطني وسكت عنه. فهذه أحاديث صحيحة وحسنة صالحة للاحتجاج ذكرت أن صدقة الفطر فرض - الأحاديث الثلاثة الأولى – وأنها واجبة – الحديث الرابع – بل إن الحديث الثالث يقول (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) فهذا القول من أوضح الدلالات على أن زكاة الفطر واجبةٌ. وقد تمسك بعض الفقهاء بحديثٍ رواه قيسُ بن سعد يروْنه دالاً على أن زكاة الفطر لم تعد واجبة بعد أن كانت واجبةً فترةً من الزمن، وأنه يدل على نسخ الوجوب وهذا الحديث هو: عن قيس بن سعد رضي الله عنه، قال {أَمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله} رواه ابن ماجة (1828) والنَّسائي وأحمد وابن خُزيمة والبيهقي بسندٍ صحيح. فنقول لهؤلاء ما يلي:

وقت وجوبها

إن هذا الحديث ليس حجةً لكم بقدر ما هو حجةٌ لنا فالحديث يدل بالمنطوق على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بها قبل أن تنزل الزكاة، وأن هذا الحديث قد قرنها بالزكاة ليشير بذلك إلى أنها زكاة فتأخذ حكمها، وهذا لا يخالفونه هم، وما دام أنها تأخذ حكم الزكاة وأنها تندرج تحت حكم وجوب الزكاة بلا خلاف بين المسلمين، فإن إبطال هذا الحكم يحتاج إلى نصٍّ، ونصُّهم هذا لا يدل على ما ذهبوا إليه من النسخ، فقول الحديث (فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا، ولم ينهنا ونحن نفعله) يدل على بقاء الحكم وأنه لم يجر عليه تغيير لا أمر ولا نهي، مع استمرار العمل به عند المسلمين. أما دعوى النسخَ فهي باطلةٌ، إِذ لو كان النسخُ مراداً لقال الحديثُ: لقد نهانا أو لم يعزم علينا أو من شاء فعله منكم ومن شاء تركه، فلما لم يقل شيئاً واستمر الحال على حاله من العمل به، فإن ذلك من أوضح الدلالات على بقاء حكم الوجوب إِذ المعلوم بداهةً أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه أن يكرر أقواله وتشريعاته بين الفينة والأخرى. …فالزكاة مفروضة وواجبة - إلا أنَّ الأحناف يقولون إنها واجبة غير مفروضة جرياً على قاعدتهم التي يفرِّقون فيها بين الفرض والواجب – وهذا الفرض مستمر منذ بدئه إلى يومنا هذا على قاعدة الاستصحاب الأصولية المعروفة، ولا حجةَ ذاتَ اعتبار لمن قالوا بالنسخ أو بالندب. وقتُ وجوبها:

أما وقت وجوبها، فيبدأ عند غروب شمس آخر أيام رمضان، أو عند بدء ليلة الفطر، ذلك أن هذه الزكاة هي زكاة الفطر والفطر يبدأ عند انتهاء الصيام، والصيام ينتهي عندما تغرب شمس آخر أيام رمضان. وممن قال بهذا مالك في رواية عنه، والشافعي وأحمد والثوري وإسحق بن راهُويه. وهو الصحيح الذي يتعين القول به، والعمل به، خلافاً لأبي حنيفة والليث بن سعد وأبي ثور ومالك في الرواية الأخرى عنه القائلين بأن وقت الوجوب يبدأ عند طلوع فجر يوم العيد، بدعوى أن الفطر لا يظهر إلا آنذاك، وأن الفطر لا يظهر في الليل لأنه ليس وقتاً للصوم. فأقول ما يلي: إن هذا الأمر لمن الوضوح والبيان بحيث لا يلزم الخلاف حوله، فنحن نصوم شهر رمضان عند بدء الشهر ونفطر عند انصرامه، وانصرام الشهر أيٍّ شهر يحصل عند غروب شمس آخر نهار منه، فنحن معشرَ المسلمين قد درجنا على اعتبار أن اليوم، أيَّ يومٍ، يبدأ بغروب شمس النهار الذي يسبقه بمعنى أننا نعتبر الليل يسبق النهار في حساب الأيام، فيوم الجمعة مثلاً يبدأ عند غروب شمس نهار الخميس، فعندما تغرب شمس نهار الخميس يبدأ يوم الجمعة، ولا يُعتدُّ بقول من يخالف هذا الحساب. وعلى ذلك فإن شهر رمضان إذا انصرم آخرُ نهارٍ فيه بغروب شمسه فقد انصرم الشهر، ودخل شهر شوال، وهو بدء الفطر، ولذلك لا تُصلَّى صلاة التراويح في تلك الليلة، لأنها ليست من رمضان، وبذلك يظهر أن الفطر الذي هو سبب الزكاة قد حصل عند غروب شمس آخر نهار من رمضان.

وقت إخراجها

…أما القول إن الفطر لا يظهر إلا بطلوع فجر يوم العيد، فلا حجة فيه على مسألتنا، لأن الفطر قد حصل بدخول شهر شوال، أي قد حصل سبب الزكاة وهو حصول الفطر، فالقول بظهور الفطر وعدم ظهوره لا يؤثر في حصول الفطر بالفعل، فلا يؤثر في وجود سبب أداء الزكاة وهو حصول الفطر بالفعل، فالعبرة بتحقق وجود الفطر، وقد تحقق وجوده بانصرام شهر الصوم، وصومُ الشهر ينصرمُ بدخول أول لحظة من شهر شوال، وعليه فإِنَّ تعليقهم أداء الزكاة على ظهور الفطر هو خطأ ظاهر وقتُ إخراجها: لقد اختلف الأئمة الأربعة وغيرهم في تحديد وقت الإخراج على النحو التالي: فأبو حنيفة يُجيز تقديم أداء زكاة الفطر قبل رمضان ولو بعامين. وقال مالك لا يجوز تقديم هذه الزكاة عن وقتها، بل يجب أن تُؤدَّى في وقتها مثلها مثل الصلاة. وقال الشافعي يجوز إخراجها من أول رمضان. وقال أحمد يجوز إخراجها قبل يوم العيد بيوم أو يومين. وقال الجمهور: يستحب تقديمها قبل صلاة العيد، ويُجْزيءُ إِخراجها إلى آخر يوم العيد. …واتفق الجميع على أنها لا تسقط بالتأخير بعد الوجوب، بل تصير دَيْناً حتى تؤدى، ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد، إلا ما نُقل عن محمد بن سيرين وإبراهيم النخعي من القول بجواز تأخيرها عن يوم العيد. وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها. وحتى يتبين لنا الحكم الصائب في مسألتنا هذه بإِذن الله لا بد من استعراض النصوص المتعلقة بها: 1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة} رواه البخاري (1503) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي وابن ماجة.

2- وعنه رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج زكاة الفطر أن تًؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة} رواه مسلم (2289) وأبو داود والترمذي وأحمد والدارمي. 3- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال {من السُّنة أن تُخْرَجَ صدقةُ الفطر قبل الصلاة} رواه ابن أبي شيبة (3/60) والدارَقُطني. 4- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج زكاة الفطر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس، وأن عبد الله كان يؤديها قبل ذلك بيوم أو يومين} رواه ابن حِبَّان (3299) والدارَقُطني. 5- وعن نافع {أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجْمَعُ عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة} رواه مالك (1/238) ورواه ابن أبي شيبة (3/115) بلفظ {أنه كان إذا جلس من يقبض زكاة الفطر بيوم أو يومين، ولا يرى بذلك بأساً} . 6- عن أبي معشر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: أَغنوهم في هذا اليوم} رواه الدارَقُطني (2/153) ورواه البيهقي مطولاً (4/175) وجاء فيه { ... أَغنوهم عن طواف هذا اليوم} ورواه ابن سعد من طريق محمد بن عمر الواقدي. 7- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طُهْرَةً للصائم من اللغو والرَّفَث وطُعْمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات} رواه أبو داود (1609) وابن ماجة والدارَقُطني والبيهقي. ورواه الحاكم (1/409) وصحَّحه، وأقرَّه الذهبي.

8- عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العُذْري {خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفطر بيومين فقال: أدُّوا صاعاً من بُرٍّ أو قمحٍ بين اثنين، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على كل حُرٍّ وعبدٍ وصغير وكبير} رواه أحمد (24063) وأبو داود والدارقطني والطبراني والطحاوي بإسنادٍ رجالُه ثقات. ورواه الدارَقُطني أيضاً من طريق أخرى بقوله [عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير عن أبيه] فصار مسنداً. الحديث الثالث من رواية الحجَّاج بن أرطأة ضعَّفه الكثيرون فيُترك. والحديث السادس من طريق أبي معشر عند الدارَقُطني والبيهقي ومن طريق محمد بن عمر الواقدي عند ابن سعد في طبقاته وهما ضعيفان جداً، فيترك الحديث بروايتيه. فتبقى عندنا ستة أحاديث صالحة للاحتجاج والاستدلال. …وهذه الأحاديث قد بيَّنت وقتَ إخراج الزكاة، وأنه قبل الصلاة، أو قبل خروج الناس إلى الصلاة، دون أن تحدد هذه الأحاديث أول وقت الإخراج، فالأحاديث كلها قد ذكرت نهاية وقت الإخراج، وهو صلاة عيد الفطر، ولكنها أغفلت أول وقت الإخراج، فنقول إن الواجب على كل مسلم أن يخرج زكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد، ولا يصلي إلا بعد أن يكون قد أخرج زكاة فطره. أما أن يخرجها قبل الصلاة بوقت طويل أو بوقت قصير فهذا ما لم تحدِّده الأحاديث وما لم تنصَّ عليه، بل تركته لاختيار المسلم نفسه، فله أن يؤديها قبيل الصلاة، وله أن يؤديها في ليلة العيد، وله أن يؤديها قبل ذلك بكثير أو بقليل، فالأمر في ذلك موسَّع. …أما ما جاء في الحديث الرابع (وأن عبد الله كان يؤديها قبل ذلك بيوم أو يومين) فليس فيه تحديدٌ لأول الإخراج، وإنما هو اختيار من ابن عمر لهذا الوقت فحسب، فكما أنه يحق لابن عمر أن يختار هذا الوقت، فإنه يحقُّ لغيره أن يختار وقتاً قبله أو بعده.

…أما ما جاء في الحديث الخامس (أَن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجْمَع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) من رواية مالك. و (أنه كان إذا جلس من يقبض زكاةَ الفطر بيوم أو يومين ولا يرى بذلك بأساً) من رواية ابن أبي شيبة. فإنه وإن دلَّ على أن المسلمين في أيام ابن عمر كانوا يجمعون ويقبضون زكاة الفطر قبل الصلاة بيومين أو بثلاثة فإن هذه الدلالة بصفتها الواردة هنا غير مُلزمةٍ، إذ ليس في هذه الصفة أيةُ دلالة على الإلزام، وهي لا تعدو كونها مما يجوز فعله من تنظيمٍ لإخراج الزكاة وما يحتاجه التنظيم إلى تحديدٍ وتوقيت، ولا تدل على أكثر من ذلك، فمن أراد أن يتخذ تنظيماً لقبض الزكاة، فإنه ولا شك في حاجة لاختيار وقتٍ لهذا التنظيم، وهذا لا يعني أن هذا الاختيار وحده هو المشروع. وانظر في قول ابن عمر (ولا يرى بذلك بأساً) فإنه يدلُّ دلالةً واضحة على أن هذا التحديد في قبض الزكاة ليس ملزماً، وإلا لما كان لقول ابن عمر معنى، بل ولما جاز هذا القول. …أما الحديث الثامن فقوله (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفطر بيومين فقال: أدُّوا صاعاً من بُرٍّ ... ) فليس هو أيضاً نصاً على تحديد أول إخراج الزكاة وإنما هو ذِكرٌ للوقت الذي شرع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر والفرق كبير بين النص على وقت الوجوب والنص على وقت إعلان الحكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين حكم زكاة الفطر وأمر بإخراجها، وكان ذلك منه قبل الفطر بيومين، أي أنه أمر بزكاة الفطر، واختار لإِعلان هذا الأمر وقتاً يسبق الفطر بيومين، ولم يتطرق النص مطلقاً إلى تحديد بدء الإخراج، كما لا يخفى على البصير المدقِّق. وإذن فإن النصوص كلها قد أغفلت تحديد بدء إخراج زكاة الفطر ليكون الأمر موسَّعاً، وليختار المسلم الوقت المناسب له لإِخراج هذه الزكاة.

…وأقول أخيراً إن زكاة الفطر هي زكاة، أحكامُها أحكامُها، إلا ما ورد من استثناءات، وقد ورد في عموم الزكاة جواز تقديمها، فقد رُوي عن علي رضي الله عنه {أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخص له في ذلك} رواه الترمذي (673) وأبو داود وابن ماجة وأحمد والدارَقُطني ولم يرد لهذا الحديث استثناءٌ ولا نسخٌ فيظل معمولاً به. قال الترمذي عقب روايته لهذا الحديث [قد اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل مَحلِّها، فرأى طائفة من أهل العلم أن لا يعجِّلها، وبه يقول سفيان الثوري، قال: أَحَبُّ إليَّ أن لا يعجلها. وقال أكثر أهل العلم إن عجَّلها قبل محلِّها أجزأت عنه، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحق] وحيث أن صدقة الفطر زكاة، فإن هذا القول في الزكاة يشملها. …أما قول الأحاديث أن تُؤدَّى الزكاة قبل خروج الناس إلى الصلاة فهو لا شك فيه تحديد واضح وملزمٌ لآخِرِ وقت الإخراج، وقول الحديث السابع (من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) هو أكثر وضوحاً لتحديد نهاية وقت الإخراج ولبيان الوجوب والإلزام، فقوله من أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، أي فهي صدقة تطوُّع، يعني أنها لم تعد زكاةَ فطرٍ مفروضة، وإذن فإن زكاة الفطر حتى تبقى زكاةً مفروضة لا يصح تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد، ويقع الإثم بهذا التأخير. وبناء عليه فليس صحيحاً قول من يقول بجواز تأخيرها عن يوم العيد، أو بإِجزاء إِخراجِها إلى آخر يوم العيد، كما ذهب إلى ذلك الجمهور.

على من تجب زكاة الفطر

…أما قولهم إن الفقهاء قد اتفقوا على أن الزكاة هذه لا تسقط بالتأخير وتصير ديناً حتى تؤدَّى، فلا أراه صحيحاً، والحديث السابع يردُّه، إذ كيف يمكن أن تُؤدَّى هذه الزكاة المفروضة بعد صلاة العيد بصدقة تطوُّع ‍‍‍‍؟ ذلك أنَّ الحديث السابع يقول بشكل واضح ( ... من أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) أي أنَّ أداءها بعد الصلاة لا يبقيها زكاة فطرٍ، وإنما تكون مجرد صدقة من الصدقات، فهل إخراج صدقة تطوُّع عندئذٍ يعتبر تأديةً لزكاة الفطر الواجبة؟ …وبناء على ما سبق نقول إن الشرع قد حدَّد لإخراج زكاة الفطر نهايةَ وقتٍ، هي صلاة العيد، وترك بداية الإخراج دون تحديد، ليختار المسلم الوقت الذي يراه لإخراج هذه الزكاة، فله أن يؤديها قبل العيد بيومين أو بأسبوع، أو حتى بشهر، ولا ضير عليه في كل ذلك. نعم لو صح الحديث السادس لأمكن أن نأخذ منه علةً يُستنبط منها القولُ بتقديم الإخراج عن الصلاة أياماً قليلة، حتى لا تنفذَ الزكاةُ من بين أيدي المساكين في يوم العيد، ولكنه من الضعف الشديد بحيث لا يصح الاستدلال به. على من تجب زكاة الفطر: تجب زكاة الفطر على كل مسلم دون استثناء، فتجب على الغني وعلى الفقير وتجب على الكبير وعلى الصغير، وتجب على الذكر وعلى الأنثى، وتجب على الحر وعلى العبد، وتجب على من صام، وعلى من لم يصم، فهي واجبة على كل مسلم ومسلمة، ولم يرد في النصوص أي استثناء ولا أي تقييد لهذا الحكم العام المطلق. وهذه جملة من النصوص تبين هذا الحكم: 1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين ... } رواه البخاري (1503) وغيره. وقد مرَّ هذا الحديث في بحث [حكم زكاة الفطر] .

2- عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال {كنا نُخْرِج زكاة الفطر ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا عن كل صغيرٍ وكبيٍر حرٍّ ومملوكٍ ... } رواه مسلم (2285) والبخاري والدارمي. 3- عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال {زكاة الفطر عن كل حرٍّ وعبد، ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبير، غنيٍّ أو فقير، صاعٌ من تمر، أو نصفُ صاعٍ من قمح، قال مَعْمَر: وبلغني عن الزُّهري أنه كان يرفعه} رواه الطحاوي (2/45) وعبد الرزاق والبيهقي. ورواه أحمد (7710) بلفظ {عن أبي هريرة في زكاة الفطر: عن كل حرٍّ وعبد، ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبير، فقيرٍ أو غني، صاع من تمر، أو نصف صاع من قمح. قال مَعْمَر: وبلغني أن الزُّهري كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم} وسنده صحيح. 4- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فِجاج مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكرٍ أو أنثى، حرٍّ أو عبد، صغيرٍ أو كبير، مُدَّان من قمح، أو سواه صاعٌ من طعام} رواه الترمذي (669) وقال [هذا حديث غريب حسن] ورواه الدارَقُطني وسكت عنه.

ودلالة هذه الأحاديث واضحة. فقط قولي [وتجب على من صام وعلى من لم يصم] يحتاج إلى وقفة قصيرة، فأقول: إن هذا القول مستنبَط من عموم الأحاديث إذ عندما تذكر الأحاديثُ الأنثى على العموم، والأُنثى قد تكون أفطرت في أيام نفاسها، ومع ذلك تجب عليها الزكاة، وعندما تذكر الأحاديث الكبير على العموم، والكبير قد يفطر رمضان كله أو بعضه ويطعم بدل ذلك، ومع ذلك تجب عليه الزكاة وعندما تذكر الأحاديث الصغير على العموم، وهذه اللفظة تشمل الطفل الرضيع كما تشمل من هو قبل البلوغ، وهما لا يصومان أو يصوم الطفل قبل البلوغ قليلاً أو كثيراً ومع ذلك تجب عليه الزكاة، فإنَّ كلَّ ذلك يدلُّ دلالةً مؤكَّدةً على أنَّ من صام ومن لم يصم تجب عليه الزكاةُ، وإذن فإن الزكاة واجبة على كل مسلم دون استثناء. …أما ما رُوي عن أبي حنيفة والثوري وإسحق والنخعي وعطاء من قولهم: إن زكاة الفطر تجب على الكافر إن كان عبداً، وعلى الكافرةِ إِن كانت زوجةً لمسلم، فإن هذا القول خطأ والنصوص تردَّه وهؤلاء إنما اعتمدوا على بعض النصوص، وهذه هي: 1- عن عراك بن مالك قال: سمعت أبا هريرة يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {ليس في العبد صدقةٌ إلا صدقة الفطر} رواه مسلم (2276) وأحمد وابن خُزيمة. 2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {صدقة الفطر عن كل صغيرٍ وكبير، ذكرٍ وأنثى، يهوديٍّ أو نصرانيٍّ، حرٍّ أو مملوكٍ، نصفَ صاع من بُرٍّ، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير} رواه الدارَقُطني (2/150) . 3- الأحاديث المارَّة قبل قليل (على العبد والحر) رقم 1، و (عن كل صغير وكبير حرٍّ ومملوكٍ) رقم 2، و (عن كل حرٍّ وعبدٍ) رقم 3، و (حرٍّ أو عبدٍ) رقم 4.

وغفر الله لهؤلاء، فقد استدلوا بالأحاديث التي جاءت بصيغة العموم، ولم يلتفتوا إلى تخصيص هذه الصيغة، والمعلوم بداهةً أن الخاص يُعمَل به، وأن العام يُحمل على الخاص، ففي الحديث الأول جاء التخصيص بقوله (من المسلمين) وفي الحديث الرابع جاء التخصيص بقوله (على كل مسلم ذكر أو أنثى، حرٍّ أو عبد) وهذا تخصيص ظاهر ظهور الشمس. فالعبد إن كان مسلماً وجبت عليه الزكاة، والأنثى كالزوجة مثلاً إن كانت مسلمة، وجبت عليها الزكاة، فيخرج العبد الكافر والأنثى الكافرة. ثم إن الزكاة عبادة، والعبادة لا تصحُّ من كافرٍ لأن شرطها الإسلام، وهذا ظاهر ومعلوم. وما قلناه هنا نقوله بخصوص الحديث الأول الذي رواه مسلم، فإنه يُحمَل على أن العبد هنا هو العبد المسلم حملاً للعام على الخاص. …أما الحديث الثاني، فهو حجة قوية وواضحة لهم لو كان صحيحاً أو حسناً، ولكنه حديث لا يصح أخذه ولا العمل به، فالدارَقُطني راوي الحديث يقول [سلام الطويل متروك الحديث ولم يسنده غيره] وقال النَّسائي: متروك الحديث. وقال يحيى ابن معين: لا يكتب حديثه. وضعفه علي بن المَدِيني جداً. واعتبره ابن الجوزي من الموضوعات. فأين اجتهادهم هذا مما قلناه؟ وهل يصمد هذا الاجتهاد أمام الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفسٍ من المسلمين، حرٍّ أو عبدٍ، رجلٍ أو امرأةٍ، صغيٍر أو كبيٍر، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير} رواه مسلم (2282) وابن خُزيمة وابن حِبَّان والبيهقي والدارقطني. والحجة هنا دامغة.

…أما ما رُوي عن محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، من قوله إنَّ الصدقة لا تجب على الصغير، ومن قول الحسن البصري وعامر الشعبي وسعيد بن المسيِّب إن الزكاة واجبة على من صام فقط، مستدلين بالحديث المار قبل قليل في بحث [وقت إخراجها] رقم 7 { ... زكاة الفطر طُهرة للصائم من اللغو والرَّفَث ... } . رواه أبو داود (1609) وغيره. فإن الأحاديث كلها تردُّ هذين القولين، فالصغير جاء ذكره صريحاً في العديد من الأحاديث فلا يحل القول بخلافه، وأما أن زكاة الفطر طُهرة للصائم فإنها خرجت على التغليب، وإلا فإن الأحاديث التي ذكرت من لا يصومون مردودة، وهؤلاء لا يقولون ذلك. …أما هذا الوجوب فعلى من يقع القيام به؟ قال مالك والشافعي وأحمد والليث ابن سعد وإسحق بن راهُويه إن الوجوب يقع على الزوج لزوجته في حين أن أبا حنيفة والثوري، وابن المنذر من الشافعية، قالوا إن الوجوب يقع على الزوجة. والصحيح هو أن زكاة الفطر هي إخراج مال أو قل هي إنفاق مال، وإنفاق المال يقع على الزوج لزوجته، كما يقع على الرجل لابنه الصغير، ويقع عليه لأبيه الكبير العاجز، ويقع عليه عن كل من تلزمه نفقتهم من أهله وعياله ومنها زكاة الفطر فهي واقعة على المعيل لمن يعيل بغض النظر عن أصنافهم، وهذا البحث ليس هنا محلُّه، فلا نستقصي البحث فيه وحسبنا أن نذكر عدداً من الأحاديث التي تشير إلى ما نقول: 1- الأحاديث التي تذكر العبد والصغير، وهما لا يستطيعان إخراج الزكاة، إما لعدم ملك العبد مالاً، وإما لجهل الصغير وعدم تكليفه بالأحكام الشرعية.

2- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما {فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر - أو قال رمضان - على الذكر والأنثى، والحر والمملوك، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بُرٍّ، فكان ابن عمر يعطي التمر، فأَعوز أهلُ المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إنْ كان يعطي عن بَنيَّ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها للذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين} رواه البخاري (1511) وأحمد وابن خُزيمة. وروى النَّسائي (4615) الجزء الأول منه فقط. فهنا كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إنه كان يعطي عن أبناء نافع راوي هذا الحديث، وقد سبق أن كان نافع مملوكاً لابن عمر، وهذا الفعل من ابن عمر لمما يُستأنسُ به. 3- عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {كنا نُخرج، إذ كان فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، زكاةَ الفطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ أو مملوكٍ، صاعاً من طعام ... } رواه مسلم (2284) وأبو داود وابن ماجة والترمذي وابن خُزيمة. فقوله (عن كل صغير وكبير حر أو مملوك) واضح الدلالة، إذ لم يقل: كان الصغير والكبير والحر والمملوك يُخرجون. 4- حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق، ولفظه {زكاة الفطر عن كل حرٍّ وعبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، صاعٌ من تمر، أو نصف صاع من قمح ... } رواه الطحاوي (2/45) وغيره. فقوله عن كل حرٍّ وعبد ... الخ وعدم قوله على كل حرٍّ وعبد ... واضح الدلالة أيضاً ولا يضير هذا الفهم إن جاءت نصوص تقول (على) فإنها آنذاك تدل على أن الوجوب هو على هؤلاء ونحن لا ننكر ذلك، وإنما نقول إن أداء هذا الواجب يقع على المعيل عنهم.

5- عن عروة {أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أخبرته أنها كانت تُخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها الحرِّ منهم، والمملوك مُدَّين من حنطة، أو صاعاً من تمر بالمد، أو بالصاع الذي يتبايعون به} رواه الطحاوي (2/43) . والدلالةُ واضحة وقوية. ويبقى السؤال: هل يُشترط في المُخْرِج للزكاة أن يكون غنياً، أم تجب الزكاة على كل مسلم فقير وغني وما حدُّ الغِنى عند مَن يُوجبونه؟ قال أبو حنيفة وأصحابه: يشترط في المخرج للزكاة أن يكون غنياً غنىً شرعياً. وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحق وعطاء: يشترط فيه أن يكون مالكاً لقوت يومٍ وليلة. أبو حنيفة وأصحابه قاسوا زكاة الفطر على الزكاة، فأوجبوا في المخرج لزكاة الفطر ما يجب في المخرج للزكاة من وجود الغِنى ومِلك النِّصاب. أما مالك والشافعي وأحمد بن حنبل فقد اعتمدوا على حديث سهل بن الحنظلية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ... إنه من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله وما يُغنيه؟ قال: ما يُغَدِّيه أو يُعَشِّيه} رواه أحمد (17775) وابن حِبَّان ورواه أبو داود (1629) بلفظ {قدر ما يُغَدِّيه ويُعَشِّيه} بالواو، وليس بـ أو. فقالوا: يشترط فيه أن يكون مالكاً لقوت يوم وليلة. …والحق أن الجميع قد جانبهم الصواب، أما أبو حنيفة وأصحابه فإن حديث أبي هريرة الذي رواه الطحاوي المار في صدر هذا البحث يرد عليهم قولهم، فقد جاء فيه (زكاة الفطر عن كل حرٍّ وعبد، ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبير، غنيٍّ أو فقيرٍ ... ) ، وهو حديث صحيح لا تجوز مخالفته إلى حكم عقلي أو قياسي، إذ لا اجتهاد في موضع النص كما هو معلوم، فالفقير هو ممن يجب عليهم أن يُخرجوا زكاة الفطر بالنص، فلا مُسوِّغ لقياسه على مخرج الزكاة.

…وأما مالك والشافعي وأحمد ومن معهم فإن هذا الحديث أيضاً يرد عليهم قولهم إذ قد أوجب هذا الحديث زكاةَ الفطر على الفقير دون أن يحدِّدَ قدر الفقر لديه، أي جاء الحكم عاماً في الفقر، فلا يجوز تخصيصه بالعقل، أو بالقياس على من يسأل الناس ويستجدي، فهذا باب وذاك باب آخر. …ومن جهة ثانية أقول إن حديث سهل بن الحنظلية قد ذكر أن مَنْ مَلَكَ الغداءَ والعشاءَ فهو غني، وبمعنى آخر أن مَنْ مَلَكَ قوتَ يوم وليلة فهو غني، فقولهم إن من ملك قوت يوم وليلة توجَّبَ عليه إخراجُ زكاة الفطر، معناه أنهم أوجبوا زكاة الفطر على الغني ولم يوجبوها على الفقير، في حين أن النص قد أوجبها على الفقير، كما أوجبها على الغني، فماذا يقولون؟ فقولهم بوجوبها فقط على من ملك قوت يوم وليلة – أي على الغني - معارَضٌ بالنص الذي أوجبها أيضاً على الفقير، ولو كان النص يقول بوجوبها على الغني ولم يذكر الفقير لكان بحثهم في محله وعلى صعيد صحيح، أما وأن النص لم يستثن الفقير فإنه لا يصحُّ لهم استثناؤه. …ثم إن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الذي رواه الترمذي المار أيضاً في صدر هذا البحث يقول (ألا إن صدقة الفطر واجبةٌ على كل مسلم ... ) وإن حديث ابن عمر الذي رواه مسلم وغيره، المار أيضاً قبل قليل يقول (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين حرٍّ أو عبدٍ ... ) ليؤكِّد ما قلناه، وليشمل النصُّ الفقيرَ لأنه نفسٌ من المسلمين، فإن استثنى هؤلاء الفقيرَ من وجوب إخراج زكاة الفطر فقد استثنوا عموم النصوص دون أي سند شرعي صحيح. …وأقول أخيراً إن زكاة الفطر هي عبادة عن الأبدان وليست عبادة عن الأموال كسائر الزكاة حتى يبحثوا عن الغنى والفقر وحدودهما، فكل نفس مسلمة لها بدن، فتجب فيه زكاة الفطر، هكذا دون أي تخصيص أو تقييد.

الأصناف التي تجزئ في زكاة الفطر

…نعم إن من لا يملك مقدار زكاة الفطر فهو معذور غير مستطيع، فتسقط عنه زكاة الفطر، وهذه حالة جديدة مغايرة تماماً للحالات التي ذكروها، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ... وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} رواه البخاري (7288) ومسلم وغيرهما من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. فمَن ملك مقدار زكاة الفطر فقد وجب عليه إخراجها، ومن لا فلا شيء عليه. الأصنافُ التي تُجزئُ في زكاة الفطر: إنه لمما لا شك فيه أن الأصناف التي ذُكرت في الأحاديث هي أصناف مُجْزِئة وأَوَّلُها وأَوْلاها هي صنف التمر، فقد ذكرته الأحاديث كثيراً، وجعلته رأسَ ما يُخْرَج من زكاة الفطر. وباستعراض الأحاديث كلها، نجد أن هذه الأصناف المذكورة هي: التمر، والشعير، والحنطة أو القمح أو البُر، والزبيب، والأَقِط، والسويق، والسُّلت - وهو صنف من الشعير لا قِشر له -، والدقيق في روايات قليلة، والطعام - هكذا على العموم - هذه هي الأصناف المذكورة في الأحاديث، ونستعرض الآن عدداً من الأحاديث المتعلقة بهذه المسألةِ: 1- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبدِ والحرِّ، والذكرِ والأنثى، والصغيرِ والكبير من المسلمين ... } . رواه البخاري (1503) وغيره. وقد مرَّ في بحث [حكم زكاة الفطر] . 2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: {كنا نُخْرِج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقِط أو صاعاً من زبيب} رواه البخاري (1506) ومسلم والطحاوي والدارمي.

3- عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول {ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صاعاً من دقيق، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من سُلْتٍ، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أَقِطٍ، قال أبو الفضل: فقال له علي بن المديني وهو معنا: يا أبا محمد، أحدٌ لا يذكر في هذا الدقيقَ، قال: بلى هو فيه} . رواه الدارَقُطني (2/146) واحتج به أحمد. 4- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول {صَدقة رمضان صاع من طعام من جاء ببُرٍّ قُبِل منه، ومن جاء بشعيرٍ قُبِل منه، ومن جاء بتمرٍ قُبل منه، ومن جاء بسُلْتٍ قُبل منه، ومن جاء بزبيبٍ قُبل منه، وأحسبه قال: ومن جاء بسَوِيقٍ أو دقيقٍ قُبل منه} . رواه ابن خُزيمة (2417) وسنده صحيح. ورواه الدارَقُطني. 5- عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {زكاة الفطر عن كل حرٍّ وعبدٍ، ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ، غنيٍّ أو فقيرٍ، صاعٌ من تمر، أو نصفُ صاع من قمح} . رواه الطحاوي (2/45) وعبد الرزاق والبيهقي ورواه أحمد (7710) بلفظ {عن أبي هريرة في زكاة الفطر: على كل حرٍ وعبدٍ، ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ، فقيرٍ أو غنيٍ، صاعٌ من تمر، أو نصف صاع من قمح قال معمر: وبلغني أن الزُّهري كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم} . وسنده صحيح. وقد مرَّ. هذه هي الأصناف التي كان المسلمون في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومَن بعده من الصحابة والتابعين يخرجونها في زكاة الفطر، وهنا نُسجِّل عدداً من النقاط.

أ - إن إخراج البُر أو القمح قد تأخر عن الأصناف الأخرى خاصةً التمر والشعير، وذلك أن حال المسلمين في البدء كان رقيقاً ضعيفاً فكان قُوتُهم في مجملِهِ التمرَ والشعيرَ فلما فتح الله عليهم وتوفَّر وجود القمح، صاروا يُخْرِجونه في زكاة الفطر، فقد روى نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال {كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من شعير أو تمر أو سُلْت أو زبيب، قال: قال عبد الله: فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة، جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء} رواه أبو داود (1614) والدارَقُطني. وروى النَّسائي الجزء الأول منه. ب - وردت في عدد من النصوص لفظةُ (الطعام) منها الحديث بند 2 من رواية أبي سعيد، والحديث بند 4 من قول ابن عباس. وجاءت هذه اللفظةُ أيضاً في الحديث الذي رواه البخاري (1508) وأحمد والطحاوي من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه {كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء، قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين} قوله السمراء: هي الحنطة تُزرع في الشام.

ج - باستعراض هذه الأصناف نجد أنها قد استغرقت الأقوات كلها التي كان المسلمون آنذاك يقتاتون بها، فلم تستثن النصوصُ أيَّ صنف من الأقوات من جواز إخراج زكاة الفطر منها، وبمعنى آخر فإن زكاة الفطر يخرجها المسلمون مما يقتاتون به، ولم تأت الأصناف في الأحاديث على سبيل الحصر كما قد يتوهم بعضهم فالقمح أو قل السمراء وهي القمح الشامي، قد تأخر شيوعه إلى زمان عمر بن الخطاب ومعاوية، فراح المسلمون يخرجون زكاة الفطر منه، مما يدل دلالة واضحة على أن الصحابة لم يفهموا أنَّ الأصناف المذكورة هي للحصر، وأنها لا تعدو كونها مجردَ ذِكرٍ لأقواتهم التي كانوا يقتاتون منها، ومما يؤكد هذا الفهم الحديثُ الذي رواه الدارَقُطني (2/140) من طريق علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده - وهو جعفر الصادق - عن آبائه {أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى ممن تمونون} وهو حديث حسن. ولا يقال إِن آباءه في الحديث جاءوا مجهولين، فإن آباءه يعرفهم المسلمون، فهم محمد بن علي، وعلي بن الحسين، والحسين بن علي، وعلي بن أبي طالب، وهؤلاء جميعاً ثقات، وقد أخرج لجعفر الشيخان، فالحديث يُحتَجُّ به، وهو واضح الدلالة على ما نقول. ومما يزيدنا اطمئناناً الحديث الذي رواه الدارَقُطني أيضاً (2/141) والترمذي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي في فِجاج مكة: ألا إنَّ زكاة الفطر واجبة على كل مسلم على كل ذكرٍ وأنثى، حرٍّ وعبدٍ، وصغيرٍ وكبيرٍ مُدَّان من قمح، أو صاع مما سواه من الطعام} وقد مرَّ في صدر بحث [على من تجب زكاة الفطر] برواية الترمذي. فقوله (مُدَّان من قمحٍ أو صاع مما سواه من الطعام) جاء بلفظ عام، فيدخل تحته كل طعام يأكله الناس. وعلى هذا نقول ما يلي:

1- كما أنه يُجْزئ إخراجُ القمح والتمر والشعير، والزبيب والأقط والسُّلت، وحتى الدقيق والسويق، فإن أي طعام يقتات الناس به يُجْزئ في زكاة الفطر، ففي عصرنا الراهن دخل الأَرُز والفول والحمص والفاصولياء واللوبياء والبازيلاء والعدس في طعامنا الذي نقتات به فصارت هذه الأصناف مُجْزِئة في زكاة الفطر وهذا ردٌّ على من وقفوا عند الأصناف المذكورة، وقالوا لا يُجْزِئ غيرها، بل إن هؤلاء قد اختلفوا في إِجزاء بعض هذه الأصناف، فأبو حنيفة مثلاً يقول بعدم إِجزاء الأَقِط، ومالك والشافعي يقولان بعدم إِجزاء الدقيق والسَّويق. والحنابلة يقولون من قدر على التمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الأقط فأخرج غيره لم يَجْزِئْهُ. ورُوي عن مالك قوله: إنه لا يُجْزِئ غير المنصوص عليه في الأحاديث وما فيه معناه. وفي المقابل، قد رُوي عن الشافعية قولهم: كل ما يجب فيه العُشر فهو صالح لإخراج الفطرة منه كالأرز والذرة والدُّخْن والحمص والعدس والفول وغير ذلك. وعن الحنابلة قولهم: من كل ثمرةٍ وحبَّةٍ تُقتات. وعن المالكية قياسهم على الأصناف المنصوص عليها كلَّ ما هو عيش أهل كل بلد، من القطاني وغيرها. 2- وكما أنه يُجْزِئ إِخراج أي صنف مما يقتات به الناس فإن قيمة أي صنف تُجْزئ هي الأخرى في زكاة الفطر، فقيمة الشيء معادِلةٌ له، لا فضل لأحدهما على الآخر، وكان أبو حنيفة والثوري يقولان بجواز إخراج القيمة. وقال الحسن البصري [لا بأس أن تُعطَى الدراهمُ في صدقة الفطر] رواه ابن أبي شيبة (3/64) من طريق هشام. كما روى ابن أبي شيبة في مصنَّفه (3/64) من طريق قُرَّة قال [جاءنا كتاب عمر ابن عبد العزيز في صدقة الفطر نصفُ صاعٍ عن كل إنسان، أو قيمتُه نصفُ درهم] ورُوي عن بعض المالكية القول بإخراج القيمة ولكن مع الكراهة. وحتى نتبين وجه الصواب في هذه المسألة دعونا ننظر في عدد من النصوص ذات العلاقة:

أ- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما {فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر - أو قال رمضان - على الذكر والأنثى، والحر والمملوك، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاعٍ من بُرٍّ ... } رواه البخاري (1511) وأحمد وابن خُزيمة والنَّسائي. ب- عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {كنا نُخْرِج، إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، زكاةَ الفطر عن كل صغيٍر وكبير، حرٍّ أو مملوك، صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقِطٍ، أو صاعاً من شعيرٍ، أو صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نُخْرِجُه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجاً، أو معتمراً، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلَّم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أُخرجه كما كنت أُخرجه أبداً ما عشتُ} رواه الإمام مسلم (2284) والترمذي وأبو داود وابن ماجة وابن خُزيمة وابن حِبَّان والدارمي. وفي رواية ثانية عند مسلم (2285) والبخاري بلفظ { ... حتى كان معاوية، فرأى أن مُدَّين من بُرٍّ تعدل صاعاً من تمر} من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ج- حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أبي داود (1614) والدارَقُطني والنَّسائي، وقد مرَّ في بند (أ) وجاء فيه {فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء} . قول الحديث بند (أ) (فعدل الناس به نصف صاع من بر) وقول الحديث بند (ب) (أرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك) وقول الحديث بند (ج) (جعل عمر نصف صاع حنطة، مكان صاع من تلك الأشياء) هذه الأحاديث الثلاثة ذكرت المعادلة أو التعادل بين شيئين، ولا تكون المعادلة إلا بين شيئين متماثلين في القيمة، وإلا فلا تعادل، هذه نقطة.

والنقطة الثانية هي أن التعادل هنا قد حصل بين شيءٍ منصوصٍ عليه، وشيءٍ آخر غير منصوص عليه كما جاء في الحديث الثاني، فسمراء الشام، أو قل قمح الشام لم يُنصَّ عليه في أي حديث، وجاء هذا الحديث بمعادلته بشيء منصوص عليه هو التمر مما يدل على أن التعادل لا يجب أن يكون بين شيئين منصوص عليهما، بل إن التعادل لا يُتصور وجودُه في النصوص، ذلك أن النصوص إذا أرادت الشيئين ذكرتهما معاً بصيغة الواو أو بصيغة أو، فيكون الشيء المنصوص عليه مطلوباً بالنص، ولا يكون مطلوباً بتعادله مع غيره، فالتعادل إنما يكون بين شيئين أحدهما مذكور والآخر غير مذكور، أو يكون بين شيئين مذكورين أحدهما أفضل من الآخر، فيأتي التعادل مع التفاوت في المقدار، وما سوى هاتين الحالتين فلا يأتي ذِكْرُ التعادل. …وقد فهم عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان قضية التعادل أو المعادلة بين شيئين أحدهما منصوص عليه والآخر غير منصوص عليه وعملا به، فأخذ الناس بذلك كما نطقت الآثار، والناس هنا هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من مخالفة قلة من الصحابة لذلك الأمر كما حصل من أبي سعيد الخدري، إذ أن له ذلك شرعاً ذلك أن قضية التعادل لا تأتي على سبيل الإلزام ولا حتى على سبيل الندب وهي لا تعدو كونها مباحةً أو جائزةً فحسب، والمباح أو الجائز لا مانع من مخالفته وعدم أخذه، فالتعادل بين شيئين هو مباح وجائز. قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يُعتمد عليه، ولم يكن البُرُّ بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأَوْا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير وهم الأئمة ...

…وبناءً على جميع ما سبق، وبناءً على فهمنا للتعادل نقول: إن إخراج القيمة جائز، وبمعنى آخر إن إخراج الدنانير والقروش جائز ولا يجوز إخراج الدنانير والقروش إلا إذا كانت تعادل الشيء أو الأشياء المنصوص عليها، وإلا فلا تعادل، وبالتالي فلا قيمة. فلا يقبل قول من يجيز إخراج الدنانير والقروش مطلقاً بدون معادلتها بالأشياء المنصوص عليها فإن جاء فقيه وقال يجوز إخراج مبلغ كذا وكذا، هكذا بشكل مطلق قلنا له إن قولك هذا غير جائز ولا يصبح جائزاً إلا إن عادلتَ هذا المبلغ بأحد الأشياء المنصوص عليها. …ولقد أصاب أبو حنيفة ومن قال بقوله فيما ذهب إليه من جواز إخراج القيمة بشرط معادلتها بأحد الأشياء المنصوص عليها. ونحن نقول: نُخْرِج صاعاً من تمر أو ديناراً مثلاً إن كان صاع التمر يساوي الدينار في السوق، ونقول نخرج ثمانين قرشاً أو صاعاً من الدقيق، إن كان صاع الدقيق أو الطحين يساوي الثمانين قرشاً في السوق وهكذا. …أما التعادل بخصوص القوت المستحدَث في عصرنا الراهن، فهو التعادل نفسه بخصوص إخراج القيمة، وبمعنى آخر فإنه يتوجب عند إخراج الفول مثلاً أو الأرز مثلاً أن لا نخرج صاعاً منهما، إلحاقاً بهما للأجناس المنصوص عليها، وإنما نتعامل معهما حسب قاعدة التعادل، أي نتعامل معهما كما تعامل صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القمح، فقدَّروه بالتعادل بضعف الأجناس الأخرى، أي أنه عند إخراجنا للفول أو الأرز مثلاً نقوم بمعادلتهما بالتمر أو بالشعير، فإن كان الفول عند التعادل أو الأرز أغلى قيمة من التمر أو الشعير فإن نصف صاع أو ثلثي صاع مثلاً هو المجزئ في زكاة الفطر، وفي المقابل إن كان سعر الفول أو الأرز مثلاً عند التعادل أرخص من سعر التمر أو الشعير فإن الواجب عندئذٍ إخراج صاعين أو صاعٍ ونصفٍ منهما، أي أننا نجري عملية التعادل حسب الأسعار في السوق.

مقدار زكاة الفطر

…بقيت آخر نقطة هي: أيُّ الأصناف نتخذها مقياساً عند التعادل؟ هل نقيس الأجناس المستحدَثة على جنس التمر، أو على جنس الشعير، أو على جنس الزبيب؟ الصواب الذي ينبغي الذهاب إليه هو اتخاذ أهم وأكثر المواد شيوعاً في طعامنا في عصرنا الراهن المقياس عند التعادل. وبالنظر في النصوص المارة نجد أنها أطلقت مراتٍ الأجناس وقيدتها مراتٍ أخرى بالتمر. والتمر آنذاك كان هو الطعام الرئيسي الأول، وكانوا يقيسون عليه الأصناف المستحدَثَةَ، فقد رُوي عن أبي سعيد قولُ معاوية في الحديث الذي رواه مسلم (2284) وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن خُزيمة وابن حِبَّان {… إني أرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك} وفي الحديث الذي رواه مسلم (2285) والبخاري { ... حتى كان معاويةُ، فرأى أنَّ مُدَّيْنِ من بُرٍّ تعدل صاعاً من تمرٍ} فأقول ما يلي: حيث أن القمح في عصرنا الراهن هو الطعام الرئيسي الأول وليس التمر، فإني أرى أنه يتوجب عند إخراج القيمة النقدية أو إخراج الأصناف المستحدَثة، أن يجري تعادلها بالقمح، وعدم معادلتها بالتمر ولا بالزبيب ولا بالشعير، فالعبرة هي في شيوع جنس الطعام، ففي حين أن التمر كان الطعام الرئيسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة رضوان الله عليهم، ولذا قاسوا القمح عليه، فإن القمح، لكونه هو الطعام الرئيسي في زمننا هذا، هو ما ينبغي أن نتخذه المقياس الآن عند إخراج القيمة، أو إخراجِ صنفٍ من الأصناف المستحدَثة. أما في جنوب شرق آسيا، أي في شبه القارة الهندية وما حولها فإن الطعام الرئيسي هو الأرُزُّ وليس القمح، ولذا فإن على المسلمين في تلك البلاد أن يتَّخذوا الأرزَّ المقياس عند إخراج القيمة، أو إخراجِ صنفٍ من الأصنافِ المستحدَثة. مقدارُ زكاة الفطر:

اختلف الصحابة والفقهاء من بعدهم في تحديد مقدارِ ما يُخْرَجُ من القمح في زكاة الفطر على رأيين، واتفقوا على إخراج صاعٍ واحد من سائر الأصناف الأخرى فذهب من الصحابة أبو بكر الصِّدِّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وعبد الله ابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر وأبو قلابة رضي الله عنهم إلى أن نصف صاعٍ من قمح يُجْزِئُ في زكاة الفطر وبه قال سعيد بن المسيِّب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وعروة بن الزبير وعطاء وطاووس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز، والإمام أبو حنيفة. وقد أسند ابن المنذر عن كلٍّ من عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر أسانيد - قال ابن حجر إِنها صحيحة - أنهم رأوا أنَّ في زكاة الفطر نصفَ صاعٍ من قمحٍ. وقد أورد عبد الرزاق أقوال كلٍّ من ابن الزبير وابن مسعود وجابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وأبي قُلابة بأن مُدين من قمحٍ - أي نصف صاعٍ - أو صاعاً مما سواه يجزئ في زكاة الفطر. وأَورد ابن أبي شيبة أقوالاً مماثلة مسندة لابن الزبير وابن مسعود وعلي وعثمان وأبي قُلابة. فيما ذهب أبو سعيد الخدري وأبو العالية وأبو الشعثاء رضي الله عنهم إلى أن المجزئ في زكاة الفطر صاعٌ من القمح، وبه قال الحسن البصري وجابر بن زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحق بن راهُويه والشوكاني. قال الترمذي [والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يرون من كل شيء صاعاً، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من كل شيء صاع إلا من البُرِّ، فإنه يجزئ نصف صاع، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل الكوفة يرون نصف صاع من بُرٍّ] ونحن حتى نصل إلى الحكم الصائب في هذه المسألة بإذن الله لا بد لنا من استعراض أدلة الطرفين:

أ -أدلة من قالوا إن المجزئ في زكاة الفطر صاعٌ من قمح: 1- عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {كنا نخرج، إذ كان فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، زكاةَ الفطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ أو مملوكٍ، صاعاً من طعام، أو صاعاً من أَقِطٍ، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجاً، أو معتمراً، فكلَّم الناس على المنبر، فكان فيما كلَّم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أُخْرِجُه كما كنت أُخْرِجه أبداً ما عشتُ} رواه الإمام مسلم (2284) وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن خُزيمة وابن حِبَّان. 2- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما {فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر – أو قال رمضان – على الذكر والأنثى، والحرِّ والمملوكِ، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاعٍ من بُرٍّ ... } رواه البخاري (1511) وأحمد وابن خُزيمة والنَّسائي. 3- عن ابن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذَكَر في صدقة الفطر، قال: {صاعاً من بر أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من سُلْتٍ} رواه النَّسائي (2509) وابن خُزيمة والبزَّار باختلافٍ في الألفاظ. 4- عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال {خَطَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من كان عنده طعام فلْيتصدقْ بصاعٍ من بُرٍّ، أو صاعٍ من شعير، أو صاعٍ من تمر، أو صاعٍ من دقيق، أو صاعٍ من زبيب، أو صاعٍ من سُلْتٍ} رواه الحاكم في مستدركه (1/411 – 412) وسكت عنه الذهبي. ب - أدلة من قالوا إن المجزئ في زكاة الفطر نصف صاعٍ من قمح:

1- عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العُذْري {خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس قبل الفطر بيومين، فقال: أدُّوا صاعاً من بُرٍّ أو قمحٍ بين اثنين، أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حرٍّ وعبدٍ، وصغيرٍ وكبيرٍ} رواه أحمد (24063) وأبو داود وعبد الرزاق بإسنادٍ رجالُه ثِقات. ورواه الدارَقُطني (2/148) من عدَّة طرق بلفظ - عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير عن أبيه - فصار مُسنداً متصلاً. وكذا رواه ابن خُزيمة – عن أبيه – (2410) . 2- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً في فِجاج مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبةٌ على كل مسلمٍ، ذكرٍ أو أنثى، حرٍّ أو عبدٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ، مُدَّان من قمحٍ، أو سواه صاع من طعام} رواه الترمذي (669) والدارَقُطني. قال الترمذي [هذا حديث غريبٌ حسن] . 3- عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال {كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: صاعاً من شعيرٍ أو تمرٍ، أو سُلْتٍ أو زبيبٍ، قال: قال عبد الله: فلما كان عمر رضي الله عنه وكثرت الحنطة جعل عمر نصفَ صاعِ حنطة مكان صاع من تلك الأشياء} رواه أبو داود (1614) والنَّسائي والدارَقُطني. 4- عن أبي هريرة رضي الله عنه في زكاة الفطر {على كل حر وعبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، فقير أو غني، صاعٌ من تمر، أو نصفُ صاعٍ من قمح، قال معمر: وبلغني أن الزهري كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم} رواه أحمد (7710) بسند صحيح. ورواه الطحاوي وعبد الرزاق والبيهقي. 5- عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، قالت: {كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدَّين من قمح، بالمدِّ الذي تقتاتون به} رواه أحمد (27475) والطحاوي.

6- إضافةً للآثار المروية عن عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أشرت إلى ذلك، مما جاء عند ابن المنذر وعبد الرزاق وابن أبي شيبة، يقولون: زكاة الفطر نصف صاعٍ من قمح، أو مُدَّانِ منه. وبالنظر في أدلة الفريق الأول، نجد أن الحديث الثالث قد رواه ابن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنه، والمعلوم أن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس شيئاً، فصار الحديث منقطعاً ضعيفاً، قال أحمد وعلي بن المَديني ويحيى بن معين والبيهقي: محمد بن سيرين لم يسمع من ابن عباس شيئاً. فيُرَدُّ هذا الحديث. …وأما الحديث الرابع الذي رواه الحاكم ففي رواته سليمان بن أرقم، قال عنه أحمد: سليمان بن أرقم ليس بشيء. وقال ابن معين: ليس بشيء ليس يسوى فلساً. وقال البخاري وأبو داود: تركوه. وقال أبو حاتم والترمذي: متروك الحديث. فيرد الحديث. فيبقى عندهم حديثان صحيحان: حديث أبي سعيد وحديث ابن عمر. أما حديث أبي سعيد فقد جاء فيه (صاعاً من طعام، أو صاعاً من أَقِط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب) ولا حجة فيه على ما يقولون: فأولاً: لم يرد فيه لفظ القمح أو البُر أو الحنطة مطلقاً، ولم يرد فيه من شبهةِ دليلٍ عندهم إلا قوله (صاعاً من طعام) قائلين إن الطعام إذا أطلق فإنما معناه القمح. فنجيبهم بأنا لا نسلِّم بأن لفظة الطعام إذا أُطلقت فإن معناها القمح، وذلك أن التمر والشعير والزبيب والأقط وغيرها تدخل تحت هذه اللفظة، فلا مبرِّر لقصرها على القمح.

وثانياً: إن غالب طعام المسلمين في العهد النبوي كان التمر والشعير، وأقلَّ منهما الزبيب والأقِط، ولم يكونوا يأكلون القمح إلا نادراً، وذلك لندرته آنذاك، فكيف يدَّعون أن لفظة الطعام تطلق على القمح وحده؟ انظروا إلى ما جاء في روايةٍ لعبد الله بن عمر رضي الله عنه {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين …} رواه البخاري (1503) وأبو داود ومسلم والنَّسائي والترمذي وابن ماجة، وما جاء في روايةٍ أخرى له {أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، فجعل الناس عدلَه مُدَّين من حنطة} رواه البخاري (1507) ومسلم والترمذي وابن ماجة والدارمي. فهاتان الروايتان قد ذكرتا أن طعام المسلمين آنذاك الذي كانوا يخرجون منه زكاة الفطر هو التمر والشعير، ولم يرد فيهما ذكرٌ للقمح إلا من باب قيام المسلمين بعد العهد النبوي طبعاً بالتعادل أو المعادلة إذ لا يُتصوَّر أن يقوم المسلمون بالتعادل أو المعادلة في العهد النبوي. وقد بيَّنا سابقاً أن التعادل كان من فعل عمر ومن فعل معاوية وأن الناس قد أخذوا به، بل إنَّا نقول إنه لم ترد لفظة الحنطة، أو القمح في أية رواية صحيحةٍ لابن عمر تذكر الأصناف التي يُخرج منها في زكاة الفطر. وقد رويت عدة روايات من طريق أبي سعيد تذكر الأصناف ليس فيها ذكرٌ للقمح مطلقاً، وقولوا مثل ذلك بخصوص رواياتٍ من طريق ابن عباس وعمار بن سعد وأبي هريرة رضي الله عنهم.

واقرأوا ما روى ابن خُزيمة (2406) بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال {لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير، ولم تكن الحنطة} واقرأوا ما روى النَّسائي (2518) عن عياض بن عبد الله بن سعد أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه حدَّثه، قال {كنا نُخْرِج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقِطٍ، لا نخرج غيره} . فهاتان شهادتان من هذين الصحابيين واضحتان تماماً بأن القمح لم يُدْرَج في قائمة الأصناف التي كان المسلمون يخرجون منها زكاة فطرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقوم هؤلاء بتفسير لفظة الطعام الواردة في الأحاديث بالقمح؟ وثالثاً: وقد روى عياض بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال {كنا نُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعاً من طعام، وقال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأَقِط والتمر} رواه البخاري (1510) فهذا أبو سعيد الخدري نفسه الذي رُوي حديثهم من طريقه، قد فسَّر لفظة الطعام تفسيراً يقطع الشك باليقين، بأن معناها عندهم الشعير والزبيب والأقط والتمر، أي الأصناف ذاتها الواردة في حديثهم عقب لفظة الطعام، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، وعليه فإِنَّا نَحْمِلُ حديثَهم على هذا الحديث، فنقول إن هذا الحديث قد ذكر العامَ، ثم ذكر بعده الخاص، وهذا أسلوب يعرفه الكل.

ورابعاً: وهؤلاء القائلون إن لفظة الطعام تعني القمح، وإِنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد فرض صاعاً من الطعام، أي من القمح، كيف يفسرون فعل معاوية بمعادلة نصف صاع من القمح بصاع مما سواه؟ وهل يتهم هؤلاء معاويةَ بمخالفةِ الأمر النبوي وبموافقةِ الناس له، ومنهم الصحابة، على هذه المخالفة؟ وكيف يفسِّرون معادلةَ عمر بن الخطاب نصف صاع من القمح بصاع مما سواه أيضاً؟ نعم أكان يُتصوَّر، وقد فرض الرسول صلى الله عليه وسلم صاعاً من القمح على ادعائهم، أن يأتي عمر بن الخطاب ومعاوية، والصحابةُ متوافرون، ويقولان إن مُدَّين من القمح تكفيان؟! قال ابن خُزيمة [ذِكْرُ الحنطةِ في خبر أبي سعيد غير محفوظ ... إذ لو كان أبو سعيد قد أعلمهم أنهم كانوا يخرجون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعَ حنطة، لما كان لقول الرجل: أو مُدَّين من قمح معنى] ثم يقرُّه المسلمون ويعملون بقوله!! لهذه النقاط الأربع أقول إنه لا حجة لهؤلاء على ما ذهبوا إليه من هذا الحديث، بل إن هذا الحديث حجة عليهم وليس حجة لهم. …أما حديثهم الثاني (فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر ... صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من بُر) فإني لأعجب من ادعائهم أن هذا النص دليل على أن صدقة الفطر صاع من بر!! فلا المنطوق يسعفهم ولا المفهوم يعضد قولهم بل إن هذا النص هو حجة عليهم أكثر مما هو حجة لهم، فالحديث قد ذكر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد فرض صاعاً من تمر أو شعير، ولم يذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد فرض صاعاً من قمح، والسبب في ذلك أن القمح آنذاك لم يكن متوافراً عندهم إلا القليل منه، وبقي الحال كذلك حتى فتح الله سبحانه على المسلمين الأمصارَ من بعدُ وكثر وجود القمح عندئذٍ، وعندئذٍ فقط عدل الناس بصاع التمر أو الشعير نصفَ صاع من القمح. فأية حجةً لهؤلاء بهذا الحديث؟

أمَّا قول ابن قُدامة في كتاب المغني [ولأنه – أي القمح – جنسٌ يُخْرَج في صدقة الفطر فكان قدره صاعاً كسائر الأجناس] فهو قياس مع الفارق فلا يصح، إضافة إلى أنهْ معارَض بالنصوص التي ذكرت نصف صاع من القمح. وننتقل الآن إلى استعراض الأحاديث التي يستدل بها القائلون بأن نصف صاع من القمح يجزئ في صدقة الفطر، فنقول ما يلي: الحديث الأول – حديث ثعلبة – روي من عدة طرقٍ، إحداها أنه رُوي من طريق النعمان بن راشد عند أحمد (24064) هكذا {حدَّثنا عفان قال: سألت حماد بن زيد عن صَدَقة الفطر، فحدَّثني عن نعمان بن راشد عن الزُّهري عن ثعلبة بن أبي صُعَير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ... } فذكر الحديث. وكذلك رواه أبو داود بهذا السند (1619) وقد قال صاحب المغني رادَّاً هذا الحديث بقوله [وحديث ثعلبة تفرَّد به النعمان بن راشد] وردَّ الحديث على اعتبار أن النعمان بن راشد ضعيف عند جمهرة المحدِّثين. فأقول إن هذا الحديث كما قلت آنفاً قد رُوي من عدة طرق وأوردتُ الحديث (24063) عند أحمد وهذا سنده {حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن جُرَيج قال: وقال ابن شهاب: قال عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العذري} فذكر الحديث. وكما ترون فإِنَّ السند قد خلا من ذِكْر النعمان بن راشد، ورواته ثقات. وكذا رواه أبو داود (1621) وعبد الرزاق (5785) فالحديث من هذه الطريق صالح للاستدلال والاحتجاج. هذا من حيث السند. وأما الحديث الثاني ففي سنده سالم بن نوح، ضعَّفه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وابن عدي، ووثَّقه ابن حِبَّان وأبو زُرعة، وقبله أحمد بن حنبل، فهو مختلَف فيه، فيكون صالحاً للاستدلال إلا أن يخالف متنُهُ متونَ الأحاديث الصحيحة فيُترك.

…وأما الحديث الثالث ففي سنده عبد العزيز بن أبي رواد، ضعَّفه المنذري وابن الجوزي وابن حِبَّان، ووثقه يحيى القطان ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي، فهو أيضاً مختلَف فيه، فيكون صالحاً للاستدلال، إلا أن يخالف متنُهُ متونَ الأحاديث الصحيحة فيُترك. …أما الحديث الرابع فإنه صحيح الإسناد ولكنه قولٌ لأبي هريرة، وليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حديث موقوف، وهو بالتالي أثر، فنلحقه بالآثار المشار إليها في البند 6. أما قول معمر (وبلغني أن الزهري كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم) هكذا دون أن يذكر اسم الراوي الذي بلغه عنه هذا القول، فإن السند في هذه الحالة – أي سند الرفع – ضعيف، لأن فيه راوياً مجهولاً، فهو سند منقطع، فلا يُعمل به. ومن ذلك يظهر أنَّ الحديث هو قول لأبي هريرة فحسب. …وأما الحديث الخامس ففي سنده عبد الله بن لهيعة، والأكثرون من المحدِّثين على أنَّ رواياته ضعيفة، وهو متَّهم بأن أوراقه التي كان يحدِّث منها فترةً من الزمن قد تلفت، فصار يحدِّث من حفظه فوقع في أخطاء، فضعَّفوا رواياته. ويقول راوي هذا الحديث أحمد بن حنبل: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب اعتبر به. فيترك الحديث.

…فيبقى عندنا الحديث الأول، والحديثان الثاني والثالث، على لينٍ فيهما من حيث السند، إضافة إلى الآثار في البند 6. الحديثان الأول والثاني فقط قد أسندا ذكر القمح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وحيث أنه ثبت عندنا بالأحاديث الكثيرة الصحيحة المارَّة قبل قليل أنه لم يكن القمح طعاماً للناس في العهد النبوي، وأنه لم يرد ذكرٌ للقمح في تلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة ونفي تلك الأحاديث لإخراج القمح في زكاة الفطر فإن المحصلة هي أن متن هذين الحديثين يخالف متون الأحاديث الكثيرة الصحيحة النافية لوجود القمح وذِكره كجنسٍ يُخرج في زكاة الفطر، فيرد الحديثان متناً، وتُرجِّح الأحاديث الكثيرة الصحيحة عليهما. …أما الحديث الثالث، فمتنه موافق لمتون الأحاديث الكثيرة الصحيحة، فيُقبل ويعمل به، وهو صريح الدلالة على أن التعادل بين القمح والأجناس الأخرى هو من فعل عمر، وهو متأخر قطعاً عن العهد النبوي، فيصح إلحاقه بالآثار في البند 6. قال ابن المنذر: لا نعلم في القمح خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم يُعتمد عليه، ولم يكن البُرُّ بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاعٍ منه يقوم مقام صاع من الشعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يُعدل عن قولهم إلى قول مثلهم. …وهكذا لم يبق للقائلين بأن مقدار زكاة الفطر من القمح نصف صاع إلا الآثار في البند 6 وما الحقناه بها من الأثر في البند 3 والأثر في البند 4. الأول فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والثاني قول أبي هريرة رضي الله عنه. ولم يبق لهؤلاء أي حديث نبوي صالح للاحتجاج به على أن زكاة الفطر نصف صاع من قمح.

مقدار الصاع النبوي

…هذه الآثار تدل على أن الصحابة قد قاموا بمعادلة نصف صاع من القمح بصاع مما سواه، من الأصناف المنصوص عليها، ولم يُعرف لهم مخالف غير أبي سعيد الخدري، ولا أدري إن كان أبو الشعثاء هو وابصة بن معبد الصحابي كما هي كنيتة، أم هو أحد رواة الحديث من التابعين، وهو من ذُكر عنه القول بصاع من القمح، وحتى لو كان أبو الشعثاء هو الصحابي، فإن صحابيين أثنين يخالفان جميع الصحابة لا يكاد يقدح في إجماعهم إلا من ناحية نظرية. فيصح الأخذ بقول جمهرة الصحابة، والقول إن نصف صاع من القمح يكفي في زكاة الفطر. …ومن شاء الوقوف على أقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما عليه إلا أن يقرأ المرويات (5766) و (5769) و (5772) و (5773) في مصنَّف عبد الرزاق، و (3/61) في مصنَّف ابن أبي شيبة، و (2/45) في كتاب شرح معاني الآثار للطَّحاوي، وغيرهم من كتب الحديث والفقه، إضافة طبعاً إلى البند رقم 3 والبند رقم 4. …نخلص من هذا الاستعراض إلى أن الواجب القول بأن إخراج نصف صاع من القمح مُجْزِئ في زكاة الفطر، وهذا الحكم المستنبَط يقوي ويدعم رأينا بجواز الأخذ بالتعادل أو المعادلة، وعدم الإِلزام بإخراج الأصناف المنصوص عليها في الأحاديث فقط أي يدعم ويقوي رأْينا بجواز إخراج القيمة النقدية، وبإخراج ما يقتات به الناس اليوم من الأرز والعدس والفول والحمص وغيرها، فكل ذلك جائز شرعاً ومجزئ. مقدارُ الصاع النبوي: 1- عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة} رواه النَّسائي (2520) والطبراني والبيهقي. ورواه أبو داود (3340) بلفظ {الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة} وسنده صحيح. كما رواه ابن حِبَّان (3283) والبيهقي أيضاً من طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

2- عن السائب بن يزيد قال {كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مُداً وثلثاً بمُدِّكم اليوم، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز} رواه البخاري (6712) والنَّسائي. 3- عن الحسين بن الوليد قال [قدم علينا أبو يوسف من الحج، فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم باباً من العلم همَّني تفحَّصتُ عنه فقدمتُ المدينةَ فسألت عن الصاع فقالوا: صاعُنا هذا صاعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ فقالوا: نأتيك بالحجة غداً، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخاً من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه أو أهل بيته أن هذا صاعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرت فإذا هي سواء قال: فعايرته فإذا هو خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ بنقصانٍ معه يسير، فرأيت أمراً قوياً، فقد تركت قول أبي حنيفة في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة] رواه البيهقي (4/171) وسنده جيد. 4- قال أبو عبيد في كتاب الأموال (1602) ما يلي [وأما أهل الحجاز فلا اختلاف بينهم فيه أعلمه. إن الصاع عندهم خمسةُ أرطال وثلثٌ، يعرفه عالمهم وجاهلهم، ويباع في أسواقهم، ويحمل عِلْمَه قرنٌ على قرن] وأضاف (1603) [وقد كان يعقوب – هو أبو يوسف القاضي - زماناً يقول كقول أصحابه فيه. ثم رجع عنه إلى قول أهل المدينة] وقال أيضاً (1623) [فقد فسرنا ما في الصاع من السنن، وهو كما أعلمتُك خمسةُ أرطالٍ وثلثٌ، والمد رُبعُهُ وهو رطلٌ وثلثٌ، وذلك برطلنا هذا الذي وزنه مائةُ درهمٍ وثمانيةٌ وعشرون درهماً ... ] فأقول ما يلي:

إلى من تدفع زكاة الفطر

أولاً: الحديث الأول برواياته يقرر أن المكيال مكيال أهل المدينة، وهذه المكاييل أشهرها الصاع، وهو يساوي أربعةَ أَمدادٍ، والفَرَق وهو يساوي ثلاثة آصُعٍ أو صِيعان، والعَرَق وهو يساوي خمسةَ عشرَ صاعاً، والمكُّوك وهو يساوي صاعين ونصفاً. والوَسق وهو يساوي ستين صاعاً، فهذه المكاييل ينبغي أن تؤخذ من أهل المدينة ولا يصح أن تؤخذ من غيرهم. وما يهمنا من بحثنا هنا هو الصاعُ وأَجزاؤُه من الأَمدادِ فحسب. ثانياً: حيث أن زكاةَ الفطر نصفُ صاعٍ من القمح، أو صاعٌ مما سواه، وحيث أن الصاع أربعة أَمدادٍ، والمد هو مقدار ما تحمل الكفان المتوسطتان من القمح عند مَدِّهما، فإن معرفة المد والصاع بالأوزان الحديثة ييسِّر على مُخرج زكاة الفطر عمله. وقد قام أهل الخبرة والاختصاص بمعادلة الصاع بالأوزان الحديثة فكان وزنه من القمح كيلو غرامين و 175 من الغرام، وبالقسمة على أربعة نصل إلى أن وزن المد هو 543 غراماً من القمح. وحيث أن زكاة الفطر من القمح نصف صاع، أو مُدَّان من القمح فإن زكاة الفطر من القمح تصبح كيلو غراماً من القمح وستة وثمانين غراماً منه وتصبح مما سواه كيلو غرامين و 175 غراماً منها. ثالثاً: أما ما ورد من أن عمر بن عبد العزيز في البند الثاني قد زاد في الصاع، وما حصل من الحَجَّاج في عهد عبد الملك كما جاء في روايات كثيرة في كتب الفقه، وما أجراه هشام بن عبد الملك على الصاع من تغيير فإن كل ذلك لا يعنينا ولا يصرفنا عن الصاع النبوي. وبذلك يظهر خطأ أبي حنيفة عندما أخذ بالصاع الكبير في العراق وكان آنذاك ثمانية أرطال، وترك صاع أهل المدينة ويساوي خمسة أرطال وثلثاً. إلى من تُدفعُ زكاة الفطر:

صدقةُ الفطر زكاةٌ، فتأخذ حكمها في كل شيء، إلا ما استثناه الدليل، وبالنظر في الأدلة لم نجد ذِكراً لمصرفها على الخصوصِ، وعليه فإن زكاة الفطر تُدفع إلى الأصناف الثمانية الواردة في قوله تعالى {إنما الصَّدَقاتُ للفقراءِ والمساكينَ والعامِلينَ عليها والمُؤلَّفةِ قُلوبُهم وفي الرِّقابِ والغارمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابنِ السبيل} الآية 60 من سورة التوبة. أما المؤلفةُ قلوبُهم وفي الرقاب فلا وجود لهم في أيامنا الراهنة، وحتى العاملين عليها لا وجود لهم الآن بعد أن توقف الحكم بالإسلام في بلاد المسلمين، ولم تبق دولة واحدة فيها تطبِّق شرع الله كما أمر الله سبحانه. فيبقى الفقراء والمساكين والغارمون، وفي سبيل الله وابن السبيل، أي تبقى خمسة أصناف فحسب الآن، وألفت النظر إلى أن الغارمين لا يُعْطَوْن من الزكاة إلا إن كانوا يعجزون عن السداد، أما في التجارات الحالية فإن التاجر يبقى عليه الكثير من الديون المستحقة للذين اشترى بضائعه منهم، وليس ذلك عجزاً منه عن السداد، وإنما أصبحت التجارة الآن يُتعامل بها بالشيكات – أو بالصُّكوك – وهي عبارة عن سندات دين، فمثل هؤلاء التجار ليسوا غارمين فلا يُعطون من الزكاة. وإنَّ أبرز الأصناف وأولاها بالإعطاء هما الفقراء والمساكين، وقد ورد التنويه بصنف المساكين هنا في الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه قال {فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طُهرة للصائم من اللغو والرَّفَث، وطُعْمة للمساكين ... } رواه أبو داود (1609) وغيره. وقد مرَّ بتمامه في بحث [وقت إِخراجها] .

فهرست الكتاب

…وهذا التنويه لا يُفهم منه الحصرُ في الإِعطاء، بقدر ما يفهم منه الحضُّ عليهم أكثر من الحض على غيرهم، وإلا فإن دافع زكاة الفطر يجزئ عنه دفع زكاته إلى أي صنف من الأصناف الأخرى، مَثَلُ هذا الحديث كمَثَلِ الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: ادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأَعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تُؤخذ من أغنيائهم، وتُردُّ على فقرائهم} رواه البخاري (1395) وغيره. فقوله ( ... صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فقرائهم) لا يعني حصر صرف الصدقة في الفقراء، فهذا كذاك. …وإخراج زكاة الفطر تصح لصنفٍ واحد ولصنفين وللجميع، لا فرق بين هذا وذاك، أما قول الشافعي وعكرمة: يجب أن يَقْسِمَ زكاةَ كلِّ صنفٍ من ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سُهْمانُهُم ثابتة قسمةً على السواء، ثم حصة كل صنف منهم لا تصرف إلى أقل من ثلاثة أو أكثر، فإن لم يجد إلا واحداً صرف حصة ذلك الصنف إليه. فإن هذا القول منهما تفصيلٌ وتفريعٌ لا دليل عليه من الشرع، ولا حاجة إليه، وإنما الصواب هو جواز إعطاء صنف واحد كجواز إعطاء أكثر من صنفٍ وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وحذيفة من الصحابة رضي الله عنهم، وسعيد بن جبير والحسن البصري وعطاء والثوري وأبي حنيفة، وابن قدامة. تم بحمد الله فهرست الكتاب مقدمة الفصل الأول: صيام رمضان - أحكام عامة فضل الصيام فضل رمضان متى شُرع الصيام الواجب؟ النية في الصيام

صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته مسألة هل يصح العمل بالحساب الفلكي؟ دعوى اختلاف المطالع مسألة كم الشهر الهجري؟ صوم الحائض والنُّفَساء صيام من أصبح جُنُباً إثم من أفطر في رمضان بغير عذر صوم الصبيان صوم الحامل والمرضع لا صوم على المجنون وعلى المغمى عليه حِلُّ الجماع في ليالي الصيام الفصل الثاني: الفِطْر والسُّحُور أولاً: الفطر متى يفطر الصائم؟ ما يُستحَب للصائم أن يفطر عليه ما يقوله الصائم إذا أفطر ثواب من فطَّر صائماً الصائم إذا أفطر ناسياً ثانياً: السُّحور فضل السُّحور حكم السحور وقت السحور الفصل الثالث: الصيام في السَّفر حكم الصيام في السفر أدلة من قالوا بوجوب الإفطار في السَّفر قدر مسيرة ما يفطر فيه الفصل الرابع: قضاء الصوم أولاً: قضاء الصوم عن النفس أ- قضاء الصوم المفروض 1- قضاء الصوم على المريض وعلى المسافر

2- قضاء الصوم على المرأة الحائض وعلى النُّفَساء 3- قضاء الصوم على المتقيئ عمداً 4- قضاء الصوم على من أفطر قبل الغروب ظاناً أن الشمس قد غربت 5- قضاء الصوم على المجنون وعلى المغمى عليه يصحوان في نهار رمضان 6- قضاء الصوم على الحامل وعلى المرضع إن أفطرتا 7- قضاء الصوم على الصبي وعلى الكافر إذا وقع عليهما التكليف في نهار رمضان 8- قضاء صوم التطوُّع ثانياً: قضاء الصوم عن الميت كيف ومتى يُقضى الصوم؟ الفصل الخامس: صيام التطوع أولاً: أحكام عامة صوم المرأة بإذن زوجها الصائم المتطوِّع إذا دُعي الصوم في الشتاء الصوم في الجهاد يصح قطع صيام التطوُّع الصيام في أيام الأسبوع ثانياً: أنواع صيام التطوع صيام ما تيسَّر من كل شهر صيام يوم بعد يوم صيام ثلاثة أيام من الشهر صيام الاثنين والخميس صيام ستة أيام من شوال الصيام في الأشهر الحُرُم أ- الصومُ في شهر الله المحرَّم ب- صيام تسعٍ من ذي الحجة ج- الصيام في رجب د- الصيام في ذي القعدة صيام يوم عرفة

صوم عاشوراء صوم شعبان صوم يوم ويومين وأربعة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر يوماً في الشهر الفصل السادس: الصيام المحرَّم الذي لا يجوز صوم يوم الشك صوم الدهر صوم يومي الفطر والأضحى صوم أيام التشريق صوم الوِصال صوم الحائض والنُّفَساء صوم المرأة تطوُّعاً بدون إذن زوجها الفصل السابع: الكفَّارات أ- الكفَّاَرات بالصيام صيام شهرين متتابعين أولاً: صيام الظِّهار ثانياً: صيام القاتل خطأ ثالثاً: صيام من جامع زوجته في نهار رمضان صيام عشرة أيام صيام ثلاثة أيام أولاً: صيام الحانث في يمينه ثانياً: صيام الحانث في نذره صيامٌ غير محدد، وهو صيام قاتل الصيد وهو محرم ب- الكفَّارات بالفدية أولاً: موجبات الكفارة 1- العجز عن الصيام 2- الشخص يموت وعليه صيام 3- الرجل يجامع زوجته في نهار رمضان، ويعجز عن صوم شهرين متتابعين لا فدية على من أخَّر قضاء رمضان لغير عذر حتى أدركه رمضان آخر ثانياً: مقدار الفدية الفصل الثامن: ما يفطِّر الصائم 1- قطع نية الصيام

2- الأكل والشرب عمداً 3- الحيض والنفاس 4- القيء عمداً 5- الجماع 6- السُّعوط 7 - تطبيقات على الطب الفصل التاسع: ما لا يفطِّر الصائم القُبلة والمباشرة الحِجامة الاكتحال السِّواك مسألة مسألة قولُ الزور والغيبة والجهل على الآخرين الفصل العاشر: قيام رمضان وليلة القدر فضل قيام رمضان وليلة القدر أوصاف ليلة القدر ليلة القدر متى هي؟ الفصل الحادي عشر: الاعتكاف تعريف الاعتكاف حكم الاعتكاف أين يكون الاعتكاف؟ متى يكون الاعتكاف؟ متى يبدأ الاعتكاف؟ مدة الاعتكاف هل الصيام شرط في صحة الاعتكاف؟ ما يفعله المعتكف وما لا يفعله الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان اعتكاف النساء الفصل الثاني عشر: زكاة الفطر حكم زكاة الفطر وقت وجوبها وقت إخراجها على من تجب زكاة الفطر؟

مصادر النصوص الواردة في الكتاب

الأصناف التي تُجزئ في زكاة الفطر مقدار زكاة الفطر مقدار الصاع النبوي إلى من تُدفع زكاة الفطر؟ مصادرُ النصوص الواردة في الكتاب 1- القرآن الكريم. 2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري - إصدار شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلي وأولاده بمصر - الطبعة الثانية. 3- صحيح البخاري - إصدار دار الفيحاء بدمشق ودار السلام بالرياض - الطبعة الثانية، ذو الحجة 1419 هـ - مارس (آذار) 1999 م. 4- صحيح مسلم - إصدار دار السلام للنشر والتوزيع بالرياض - الطبعة الأولى، ربيع الأول 1419 هـ - يونيو (حزيران) 1998. 5- سنن أبي داود - إصدار دار إحياء السُّنَّة النبوية - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 6- السنن الكبرى للنَّسائي - إصدار مؤسسة الرسالة ببيروت - الطبعة الأولى، 1422 هـ - 2001 م، تحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط. 7- سُنن النَّسائي (المجتبى) ، الطبعة الثانية المفهرسة، بيروت، 1409 هـ - 1988 رقَّمه ووضع فهارسه عبد الفتاح أبو غدة. 8- سنن الترمذي وهو الجامع الصحيح - إصدار دار الفطر للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت - 1400 هـ - 1980 م، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. 9- سنن ابن ماجة - إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت - تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. 10- مسند الإمام الحافظ أبي عبد الله أحمد بن حنبل - إصدار بيت الأفكار الدولية للنشر والتوزيع بالرياض - 1419 هـ - 1998. 11-كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس - إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - 1407 هـ - 1987م. 12- سنن الدارمي - إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت - 1414 هـ - 1994 م. 13- صحيح ابن خُزَيمة - إصدار المكتب الإسلامي - 1412 هـ - 1992 م. تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي.

14- الإحسان في تقريب صحيح ابن حِبَّان – إصدار مؤسسة الرسالة ببيروت - 1408 هـ – 1988 م، تحقيق شعيب الأرنؤوط. 15-كتاب التاريخ الكبير للبخاري – إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - محرم 1407 هـ – أيلول (سبتمبر) 1986 م. 16- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري – إصدار دار الكتاب العربي ببيروت - وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي. 17- سنن الدارَقُطني – إصدار عالم الكتب ببيروت - 1403 هـ – 1983 م، وبذيله التعليق المغني على الدارَقُطني لأبي الطيب محمد آبادي. 18-كتاب السُّنن الكبرى للبيهقي – إصدار دار المعرفة ببيروت - وفي ذيله الجوهر النقي لابن التركماني علاء الدين المارديني. 19-كشف الأستار عن زوائد البزَّار على الكتب الستة للهيثمي – إصدار مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1399 هـ – 1979 م، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. 20- المصنَّف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني – إصدار المجلس العلمي - تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. 21- المصنَّف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة – إصدار دار الفطر للطباعة والنشر والتوزيع - 1409 هـ – 1989 م، تحقيق سعيد محمد اللحام. 22- مسند أبي يَعْلَى الموصلي – إصدار دار الثقافة العربية بدمشق – الطبعة الثانية، 1410 هـ – 1989 م، تحقيق حسين سليم أسد. 23- مسند أبي داود الطيالسي – إصدار دار المعرفة ببيروت -. 24- المعجم الكبير للطبراني، الطبعة الثانية، 1404 هـ – 1983 م، تحقيق حمدي عبد المجيد السِّلفي. 25- المعجم الأوسط للطبراني – إصدار مكتبة المعارف بالرياض - 1405 هـ – 1985 م. تحقيق د. محمود الطحَّان. 26- الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني – إصدار المكتب الإسلامي ببيروت ودار عمَّار بعمان - 1405 هـ – 1985 م، تحقيق محمد شكور محمود الحاج أَمرير

27- شرح معاني الآثار للطحاوي – إصدار دار الكتب العلمية ببيروت – 1407 هـ – 1987 م، تحقيق محمد زهري النجار. 28- المحلى لابن حزم – إصدار دار الفكر - مقابلة على النسخة التي حقَّقها الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر.

§1/1