الجامع لأحكام الصلاة - عادل بن سعد

عادل بن سعد

الكتاب: الجَامعُ لأحكامِ الصَّلاة وصِفة صَلاة النَّبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمعه: عادل بن سعد عدد الصفحات: 328 سنة الطباعة: 2006 م بلد الطباعة: لبنان الطبعة: الأولى جميع الحقوق محفوظة 1427 هـ - 2006 م

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونشكره ولا نكفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبيًا عن أمته، ورسولًا عن دعوته ورسالته، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن صحابته أجمعين، وعمن سار على نهجه وهديه واقتفى أثره وسنته إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فهذا كتاب جامع لأحكام الصلاة، نسأل الله أن يكون سببًا لإقبال المسلمين على الصلاة والتمسك بها، فإن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، فقد أمر الله بإقامة الصلاة، وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ولقد حذر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إضاعتها، فهي آخر عرى الإسلام انتقاضًا حيث قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" أخرجه أحمد. والناظر إلى حال المسلمين اليوم وما أصابهم من ضعف وهوان يعلم يقينًا سبب ذلك وهو بعدهم عن الله سبحانه وتعالى وضعف إيمانهم به سبحانه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وذلك بالعودة إلى الله سبحانه وتعالى والتمسك بشرعه والالتجاء إليه فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وفي الحديث: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن غثاء كغثاء السيل ينزع الله المهابة من صدور أعدائكم ويلقي في قلوبكم الوهن، قيل: ما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت". نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم مردًا جميلًا. أبو عبد الرحمن عادل بن سعد

باب: أسرار الصلاة

باب: أسرار الصلاة (¬1) اعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين. هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين، رحمة بهم، وإكراما لهم، لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه لا لحاجة منه اليهم، بل منَّة منه، وتفضَّلا عليهم، وتعبد بها قلوبهم وجوارحهم جميعا، وجل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما؛ وهو إقباله على ربه سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله عبوديته ظاهرًا وباطنًا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه. ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخلع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرات، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة، لذة ومنفعة ومصلحة ووقار لهذا العبد، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية ويُكرمه بكل صنفٍ من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفرا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ويثيبه عليه نورًا خاصًا، فإن الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه وسعة في رزقه، ومحبة في العباد له، وإن الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض، وجبالها وأشجارها، وأنهارها تكون له نورًا وثوابًا خاصًا يوم لقائه. فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول، وأغناه، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع والقحط والجدب والظمأ والعري والسقم ما ناله، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه. ولما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، وقحطُ النفوس متواليًا عليها، جدْد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيًا، طالبًا إلى من بيده غيثُ القلوب، وسَقيُها مستمطرًا سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، وكلأ الإحسان وعشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب، فلا يزال القلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جدبه، وقحطه، وضرورته إلى سُقيا رحمته، وغيث بره، فهذا دأب العبد أيام حياته. فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب وجلبها، وما دام العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلة منه، واستحكمت صارت أرضه خرابًا ميتة، وسنته جرداء يابسة، وحريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم. فتصير أرضه بورًا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، والثمار وغيرها، وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه وأعماله وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها وخضرتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها وذبلت أغصانها، وحُبست ثمارها، وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددت منها غصنًا إلى نفسك لم يمتد، ولم ينْقَد لك، وانكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيم البستان قَطع تلك الشجرة وجعلَها وقودًا للنار. ¬

_ (¬1) من كتاب أسرار الصلاة للإمام ابن القيم.

فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه، فتصيبه حرارة النفس، ونار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، والانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعدُ هي والشجرة إلا للنار، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، فإذا كان القلب ممطورًا بمطر الرحمة، كانت الأغصان لينة مُنقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، وأقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريه، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البر؛ لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية، ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه، وطاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها وهيئت لها. والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام: أحدهما: من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له، وأريد منها، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة، وباع نفسه لله بأربح البيع. والصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها وهذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح وما أنعم عليه من الآلاء، والنعم، فقام بعبوديته ظاهرًا وباطنًا واستعمل جوارحه في طاعة ربه، وحفظ نفسه وجوارحه عما يُغضب ربه ويشينه عنده. والثاني: من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له، بل حبسها على المخالفات والمعاصي، ولم يطلقها، فهذا هو الذي خابَ سعيه، وخسرت تجارته، وفاته رضا ربه عز وجل عنه، وجَزيل ثوابه، وحصل على سخطه وأليم عقابه. والثالث: مَن عطل جوارحه، وأماتها بالبطالة والجهالة، فهذا أيضًا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله، فإن العبد إنما خُلق للعبادة والطاعة لا للبطالة. وأبغض الخلق إلى الله العبد البطال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة. بل هو كل على الدنيا والدين، بل لو سعى للدنيا ولم يسع للآخرة كان مذمومًا مخذولًا، وكيف إذا عطل الأمرين، وإن امرءًا يسعى لدنياه دائما، ويذهل عن أُخراه، لا شك خاسر. فالرجل الأول، كرجل أُقطع أرضًا واسعة، وأعين على عمارتها بآلات الحرث، والبذر وأعطي ما يكفيها لسقيها وحرثها، فحرثها وهيَّأها للزراعة، وبذر فيها من أنواع الغلات، وغرس فيها من أنواع الأشجار والفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط، ولم يهملها بل أقام عليها الحرس، وحصنها من الفساد والمفسدين، وجعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منها، ويغرس فيها عوض ما يبس، وينقي دغلها ويقطع شوكها، ويستعين بغلتها على عمارتها. والثاني: بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، وجعلها مأوى السباع والهوام، وموضعًا للجيف والأنتان، وجعلها معقلًا يأوى إليه فيها كل مفسد ومؤذ ولصٍّ، وأخذ ما أعين به من حرثتها وبذارها وصلاحها، فصرفه وجعله معونة ومعيشة لمن فيها، من أهل الشر والفساد. والثالث: بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل الماء ضائعًا في القفار والصحاري فقعد مذمومًا محسورًا. فهذا مثال أهل اليقظة، وأهل الغفلة، وأهل الخيانة. فالأول: مثال أهل اليقظة، والاستعداد لما خلقوا له.

والثاني: مثال أهل الخيانة. والثالث: مثال لأهل الغفلة. فالأول: إذا تحرْك أو سَكَن، أو قام أو قعد، أو أكل أو شرب، أو نام، أو لبس، أو نطق، أو سكت كان كله له لا عليه، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد. والثاني: إذا فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طرد وإبعاد وخُسران. والثالث: إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط. فالأول: يتقلب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة. والثاني: يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدي، فإن الله لم يملكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته، فهو جان متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعم بها في غير طاعته. والثالث: يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة والهوى ونهمة النفس وطبعها، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى والتقرب إليه، فهذا خسرانه بين واضح، إذ عطل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجارات. فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس، رحمة منه بهم، وهيأ لهم فيها أنواع العبادة؛ لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظه من عطاياه. وكان سرُّ الصلاة ولُبها إقبال القلب فيها على الله، وحضوره بكليته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطاياه وزله مستمطرًا سحائب جوده وكرمه ورحمته، مستطعمًا له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، ولم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا وشمالًا، أو ولاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، وأقلّه عنده قدرًا عليه، فآثره عليه، وصيره قلبة قلبه، ومحل توجهه، وموضع سره، وبعث إيمانه وخدمه ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضًا عنه ويعتذروا عنه، وينوبوا عنه في الخدمة، والملك يشاهد ذلك ويرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده وسعة بره وإحسانه تأبى أن يصرف عنه تلك الخدم والأتباع، فيصيبه من رحمته وإحسانه؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، وبين الرضخ لمن لا سهم له: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19]، والله سبحانه وتعالى خلق هنا النوع الإنساني لنفسه واختصه له، وخلق كل شيء له، ومن أجله كما في الأثر الإلهي: "ابن آدم خلقتك لنفسي، وخلقت كل شيء لك، فبحقي عيك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له". وفي أثر آخر: "ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلّ شيء". وجعل سبحانه وتعالى الصلاة سببًا موصلًا إلى قُربه، ومناجاته، ومحبته والأنس به. وما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة، والإعراض والزَّلات، والخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، وينحيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيًا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره، وغله، وقيَّده، وحبسه في سجن نفسه وهواه. فحظه ضيق الصدر، ومعالجة الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات، ولا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمة ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء، والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.

فبالوضوء يتطهر من الأوساخ، ويُقدم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن: فظاهره: طهارة البدن، وأعضاء العبادة. وباطنه وسره: طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وشرع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين". فكمَّل له مراتب العبدية والطهارة، باطنًا وظاهرًا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة. فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباق. وبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين. والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف التذلل والانكسار، فقد استدعى عطف سيده عليه، وإقباله عليه بعد الإعراض عنه. وأُمر بأن يستقبل القبلة -بيته الحرام- بوجهه، ويستقبل الله عز وجل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيده عليه، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، طرفة عين، لا يمنة ولا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كله إليه. وأقبل بكليته عليه، ثم كبره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء، وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دل على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، وكان قوله "الله أكبر" بلسانه دون قلبه؛ لأن قلبه مقبل على غير الله، معظمًا له، مجلًا، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبر المنافي للعبودية، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حق قوله: الله أكبر والقيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه وبين الله تعالى. فإذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك" وأثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها، فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله. وأتى بالتحية والثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمهيدًا، وكان ذلك تمجيدًا ومقدمة بين يدي حاجته. فكان في الثناء من آداب العبودية، وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، ورضاه عنه، وإسعافه بفضله حوائجه. فإذا شرع في القراءه قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، وانتفاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطله، وألقى

فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك وتعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه وليحي قلبه، ويستنير ما يتدبره ويتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة. ولما علم الله سبحانه وتعالى حَسَد العدو للعبد، وتفرْغه له، وعلم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته ومقاومته، وكأنه قيل له: لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك منه، واستجر بي أجيرك منه، وأكفيكه وأمنعك منه. وقال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يومًا: إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، ومدافعته، وعليك بالراعي فأستغث به فهو يصرف عنك الكلب، ويكفيكه. فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه. فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المونقة وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وكان الحائل بينه وبين ذلك، النفس والشيطان، فإن النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، وطُرد ألم بها الملَك، وثبتها وذكرها بما فيه سعادتها ونجاتها. فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه، بأن يناجيه ويخاطبه، وقلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، ويكون بمنزلة رجل قربه ملك من ملوك الدنيا، وأقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، وقد ولاه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة ويسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا. فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين وقيوم السماوات والأرضين. فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحه وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربه له، وكأنه يسمعه وهو يقول: "حمدني عبدي" إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وقفَ لحظة ينتظر قوله: "أثنى عليَّ عبدي". فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} انتظر قوله: "مجدني عبدي". فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر قوله تعالى: "هذا بيني وبين عبدي". فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها انتظر قوله: "هذا لعبدي ولعبدي ما قال". ومَن ذاق طعم الصلاة عَلمَ أنه لا يقوم مقام التكبير والفاتحة غيرهما مقامها، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها، فلَكل عبوديته من عبودية الصلاة سر وتأثير وعبودية لا تحصل في غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووجد يخُصها لا يوجد في غيرها. فعند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تجد تحت هذه الكلمة إثبات كلّ كمال للرب وصفًا واسمًا، وتنزيهه سُبحَانه وبحمده عن كلِّ سوء، فعلًا ووصفًا واسمًا، وإنما هو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، مُنزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه. فأفعاله كلّها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ولا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت جلال، وأسماؤه كلّها حُسنى. وحمده تعالى قد ملأ الدنيا والآخرة، والسموات والأرض، وما بينهما وما فيهما، فالكون كله ناطق

بحمده، والخلق والأمر كله صادر عن حمده، وقائم بحمده، ووجوده وعدمه بحمده، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود، وهو غاية كل موجود، وكل موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمرت بأهلها بحمده، والنَار عُمرت بأهلها بحمده، كما أنها إنما وجدتا بحمده. وما أُطيع إلا بحمده، وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يتحرك في الكون ذرة إلا بحمده، فهو سبحانه وتعالى المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد. كما أنه هو الواحد الأحد، وإن لم يوحِّده العباد، وهو الإله الحقُّ وإن لم يؤلهه، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سَمعَ اللهُ لمن حَمدَه". فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه هو الذي أجرى الحمدَ على لسانه وقلبه، وأجزأه بحمده فله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، علانيته وسره. فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد، وهي نقطة من بحر لُجي من عبوديته. ومن عبوديته أيضًا: أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه، يستحق عليها الحمد، فإذا حمده عليها استحق على حمده حمدًا آخر، وهلم جرا. فالعبد ولو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فور ذلك، وأضعاف أضعافه، ولا يُحصي أحد البتة ثناء عليه بمحمدته، ولو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكل نعمة من ربه، يحمده عليها، فإذا حَمده على صرفها عنه، حمده على إلهامه الحمدُ. قال الأوزاعي: "سمعت بعض قوال ينشد في حمام لك الحمدُ إمّا على نعمة وإما على نقمة تُدفع". ومن عبودية الحمد: شهود العبد لعجزه عن الحمد، وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك، فهو محمود عليه، إذ هو الذي أجراه على لسانه وقلبه، ولولا الله ما اهتدى أحد. ومن عبودية الحمد: تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها وباطنها على ما يحب العبد منها وما يكره، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم، برهم وفاجرهم، علويهم وسفليهم، فهو سبحانه المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة، وإن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك، وما يستحق الرب تبارك وتعالى من الحمد على ذلك والحمد لله: هو إلهام من الله للعباد، فمستقل ومستكثر على قدر معرفة العبد بربه. وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث الشفاعة: "فأقع ساجدًا فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط". ثم لقول العبد: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية وحده، وأنه كما أنه رب العالمين، وخالقهم، ورازقهم، ومدبر أمورهم، وموجدهم، ومغنيهم، فهو أيضًا وحده إلههم، ومعبودهم، وملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إله سواه. عنوان: عبودية {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. ولقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عبودية تخصه سبحانه، وهي شهود العبد عموم رحمته. وشمولها لكلّ شيء، وسعتها لكل مخلوق وأخذ كل موجود بنصيبه منها، ولا سيما الرحمة الخاصَّة بالعبد وهي التي أقامته بين يدي ربه: أقم فلانًا - ففي بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا، وأنم فلانًا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه، ويتملقه ويسترحمه ويدعوه ويستعطفه ويسأله هدايته ورحمته، وتمام نعمته عليه دنياه وأخراه فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن

حمده وسع كل شيء، وعلمه وسع كل شيء، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، وغيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصة فهو منفي عنها. عنوان: عبودية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. ويعطي قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} عبوديته من الذل والانقياد، وقصد العدل والقيام بالقسط، وكف العبد نفسه عن الظلم والمعاصي، وليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد وتفرد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير والشر، وذلك من تفاصيل حمده، وموجبه كما قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]. ويروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة وأهل النار، عدلًا وفضلًا، ولما كان قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إخبارًا عن حمد عبده له قال: حمدني عبدي. ولما كان قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إعادة وتكريرًا لأوصاف كماله قال: "أثنى علي عبدي"، فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد، وتعداد أوصاف المحمود، فالحمد ثنْاء عليه، و {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وصفه بالرحمة. ولما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين وهو الملك الحق، مالك الدنيا والآخرة؛ وذلك متضمن لظهور عدله، وكبريائه وعظمته، ووحدانيته، وصدق رُسله، سمَّى هذا الثناء مجدًا فقال: "مجدني عبدي" فإن التمجيد هو: الثناء بصفات العظمة، والجلال، والعدل، والإحسان. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظر جواب ربه له: "هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل". وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميز الكلمة التي لله سبحانه وتعالى، والكلمة التي للعبد، وفِقهِ سر كون إحداهما لله، والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والتوحيد الذي تقتضيه كلمة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، وفِقهَ سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، والدعاء بعدهما، وفِقه تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، وتقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخرًا أوجز وأخصر، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة. قلت: أراد تقديم العبادة -وهي العمل- على الاستعانة، فالعبادة لله والاستعانة للعبد، فالله هو المعبود، وهو المستعان على عبادته، فإياك نعبد؛ أي إياك أريد بعبادتي، وهو يتضمن العمل الصالح الخالص، والعلم النافع الدال على الله، معرفة ومحبة، وصدقًا وإخلاصًا، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه، والاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره، وهي القول المتضمن قسم العبد. (فكل عبادة لا تكون لله وبالله) فهي باطلة مضمحلة، (وكل استعانة تكون بغير الله) وحده فهي خذلان وذل. وتأمل علم ما ينفع العباد وما تدفع عنهم كل واحدة من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعًا ودفعًا وكيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبودية. وتأمل علم كيف يدور القرآن كله من أوْله إلى آخره عليهما، وكذلك الخلق، والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمْنتا لأجل الغايات، وأكمل الوسائل، وكيف أتى بهما بضمير

المخاطب الحاضر، دون ضمير الغائب، وهذا موضوع يستدعي كتابًا كبيرًا، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطناه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب: "مراحل السائرين بين منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" وفي كتاب "الرسالة المصرية". ثم ليتأمل العبد ضرورته وفاقته إلى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي مضمونه معرفة الحق، وقصده وإرادته والعمل به، والثبات عليه، والدعوة إليه، والصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية وما نقص منها نقص من هدايته. ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه، بل وفي جميع ما يأتيه، ويذره من: * أمور فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادة، فهو محتاج إلى التوبة منها والتوبة منها هي من الهداية. * وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها. * وأمور قد هُدى إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم، وأن يزداد هدى إلى هداه. * وأمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها. * وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقادًا صحيحًا. * وأمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل، وتُثبت فيه ضده. * وأمور من الهداية: هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة. * وأمور منها: هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها. * وأمور منها: هو غير قادر عليها ولا مريد لها، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها والإرادة لها لتتم له الهداية. * وأمور: هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة، وعلمًا وعملًا، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات، ولهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم وليلة في أفضل أحواله، وهي الصلوات الخمس، مرات متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب. * ثم بين أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، وهو اليهود، والنصارى وغيرهم. فانقسم الخلق إذًا إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية: مُنعم عليه: بحصولها له واستمرارها وحظه من المنعم عليهم، بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها. وضالٌ: لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفق لها. ومغضوب عليه: عَرفها ولم يوفق للعمل بموجبها. فالضال: حائد عنها، حائر لا يهتدى إليها سبيلا. والمغضوب عليه: متحير منحرف عنها؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها. فالأول المنعم عليه قائم بالهدى، ودين الحق علمًا وعملًا واعتقادًا والضال عكسه، منسلخ منه

علمًا وعملًا. والمغضوب عليه لا يرفع بها رأسًا، عارف به علمًا منسلخ عملًا، والله الموفق للصواب. ولولا أن المقصود التنبيه على المضادة والمنافرة التي بين ذوق الصلاة، وذوق السماع، لبسطنا هذا الموضوع بسطًا شافيًا، ولكن لكل مقام مقال، فلنرجع إلى المقصود. وشرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلًا بإجابته، وحصوله، وطابعًا عليه، وتحقيقًا له، ولهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم. ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيمًا لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو حليةُ الصلاة، وزينتها وتعظيم لشعائرها. ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن، كالتلبية في إنتقالات الحاجِّ، من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أن التلبية شعار الحج، (مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده). ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمة ربه، واستكانة لهيبته وتذللًا لعزته. فثناء العبد على ربه في هذا الركن؛ هو أن يحني له صلبه، ويضع له قامته، وينكس له رأسه، ويحني له ظهره، ويكبره مُعظمًا له، ناطقًا بتسبيحه، المقترن بتعظيمه. فاجتمع له خضوع القلب، وخضوع الجوارح، وخضوع القول على أتم الأحوال، ويجتمع له في هذا الركن من الخضوع والتواضع والتعظيم والذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه، والخضوع للعبيد بعضهم لبعض، فإن الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب. وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع، ويتضاءل لربه، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كل تعظيم فيه لنفسه، ولخلقه ويثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له. وكلما استولى على قلبه تعظيم الرب، وقوى خرج منه تعظيم الخلق، وازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات، والقصد والجوارح بالتبع والتكملة. ثم شرع له أن يحمد ربه، ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه ورجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه وهداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره. ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء، واقفًا في خدمته، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك، ولهذا شرع له من الحمد والمجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك. ولهذا الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب، ويخصه سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته كركن الركوع والسجود سواء. ولهنا كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُطيلُه كما يطيل الركوع والسجود، ويُكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد، كما ذكرناه في هديه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلاته وكان في قيام الليل يُكثر فيه من قول: "لربي الحَمد، لربي الحمد" ويكررها. ثم شرع له أن يكبر ويدنو ويخر ساجدًا، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندة راغمًا له أنفه، خاضعًا له قلبه، ويضع أشرف ما فيه -وهو وجهه- بالأرض ولا سيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدًا على الأرض معفرًا له وجهه وأشرف ما فيه بين يدي سيده، راغمًا أنفه، خاضعًا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمة ربه، خاضعًا لعزته،

منيبًا إليه، مستكينًا ذلًا وخضوعًا وانكسارًا، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله. وقد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، وقد سجد معه أنفه ووجهه، ويداه وركبتاه، ورجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. وشرع له أن يُقل فخذيه عن ساقيه، وبطنه عن فخذيه وعَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظه من الخضوع لا يحمل بعضه بعضًا. فأحرى به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلها، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجد". [رواه مسلم (482) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-]. ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة، كما قيل لبعض السلف: هل يسجد القلب؟ قال: "أي والله سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عز وجل". [هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/ 287) (23/ 138)]. إشارة إلى إخبات القلب، وذلّه، وخضوعه، وتواضعه وإنابته وحضوره مع الله أينما كان، ومراقبته له في الخلاء والملأ، ولما بنيت الصلاة على خمس: القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر. سميت باسم كل واحد من هذه الخمس: فسمّيت "قيامًا" لقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2]، وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. و"قراءة" لقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]. وسمّيت "ركوعًا" لقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]. و"سجودًا" لقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. و"ذكرًا" لقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]. وأشرف أفعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} افتتحت بالقراءة، وخُتمت بالسجود، فوضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجود. ثم شرع له أن يرفع رأسه، ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين؛ سجود قبله، وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه، ثم منه إلى السجود الآخر، كان له شأن، فكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه، ويدعوه ويستغفره، ويسأله رحمته، وهدايته ورزقه وعافيته، وله ذوق خاص، وحال للقلب غير ذوق السجود وحالهن؛ فالعبد في هذا القعود يتمثل جاثيًا بين يدي ربه، مُلقيًا نفسه بين يديه، مُعتَذرًا إليه مما جَناَه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه، مستَعديًا له

على نفسه الأمَّارة بالسوء. وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي"، ويكثر من الرغبة فيها إلى ربه. فمثل أيها المصلي نفسك فيها بمنزلة غريم عليه حق، وأنت كفيل به، والغريم مماطل مخادع، وأنت مطلوب بالكفالة، والغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق، لتتخلص من المطالبة، والقلب شريك النفس في الخير والشر، والثواب والعقاب، والحمد والذم. والنفس من شأنها الإباق والخروج من رقِّ العبودية، وتضييع حقوق الله عز وجل وحقوق العباد التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها، وهي شريكته وأسيرته إن قوى سلطانه. فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديًا على نفسه، معتذرًا من ذنبه إلى ربه ومما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويرحمه ويهديه ويرزقه ويعافيه، وهذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا والآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضار عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله. فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه وأخراه ويجمع رزق بدنه ورزق قلبه وروحه، وهو أفضل الرازقين. والعافية تدفع مضارها. والهداية تجلب له مصالح أخراه. والمغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا والآخرة. والرحمة تجمع ذلك كلّه. والهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها. وشرع له أن يعودَ ساجدًا كما كان، ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد من ربِّه وموقعه من الله عز وجل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد، وهو أشهر في العبودية وأعرق فيها من غيره من أركان الصلاة؛ ولهذا جُعل خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة، وكما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف كما قال ابن عمر لمن خطب ابنته وهو في الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال: أتذكر أمرًا من أمور الدنيا ونحن نتراءى لله سبحانه وتعالى في طوافنا. ولهذا والله أعلم، جُعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالًا من الشيء إلى ما هو أعلى منه. وشُرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال؛ إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، والشرب نفسًا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فإذا كانت يغني عنه تلك اللقمة؟ وربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به؛ ولهذا قال بعض السلف: "مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك". وفى إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيد خير وإيمان من فعلها، ومعرفة وإقبال وقوة قلب، وانشراح صدر وزوال درنٍ ووسخٍ عن القلب بمنزلة كسل الثوب مرَّة بعد مرَّة. فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه وأمره، ودلت على كمال رحمته ولطفه، وما لم

تحط به علمًا منها أعلى وأعظم وأكبر وإنما هذا يسير من كثير منها. فلما قضى صلاته وأكملها ولم يبق إلا الانصراف منها، فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنيًا عليه بما هو أهله، فأفضل ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله، ولا تليق بغيره. ولما كان من عادة الملوك أن يحيوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع لهم، والذل، والثناء عليهم وطلب البقاء، والدوام لهم، وأن يدوم ملكهم. فمنهم: من يحيي بالسجود ومنهم من يحيي بالثناء عليه. ومنهم: من يحيي بطلب البقاء، والدوام له. ومنهم: من يجمع له ذلك كله فيسجد له، ثم يثني عليه، ثم يدعي له بالبقاء والدوام. وكان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة وهو أهلها؛ ولهذا فُسرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات المُلك والمَلك والمليك. فالله سبحانه هو المتصف بجميع ذلك، فهو أولى به فهو سبحانه المَلك، وله المُلك، فكل تحية تحيي بها ملك من سجود أو ثناء، أو بقاء، أو دوام فهي لله على الحقيقة؛ ولهذا أتى بها مجموعة معرفة بالألف واللام إرادة للعموم، وهي جمع تحية، تحيا بها الملوك، وهي "تُفعُلة" من الحياة، وأصلها "تحييه" على وزن "تكرمه"، ثم أدغم إحدى اليائين في الآخر فصارت "تحيَّة" فإذا كان أصلها من الحياة، والمطلوب منها لمن تحي بها دوام الحياة، كما كانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية، ولك الحياة الدائمة. وبعضهم يقول: عش عشرة آلاف سنة. واشتق منها: أدام الله أيامك أو أيامه، وأطال الله بقاءك. ونحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك، فذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم الذي لا يموت. الذي كل مَلكٍ سواه يموت، وكل مُلك سوى ملكه زائل. ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع والتعريف؛ ليشمل ذلك كلما أُطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا، فكلّها لله ولا تنبغي إلا له، فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبودية واستحقاقًا، فالتحيات لا تكون إلا لله، والصلوات لا تنبغي إلا له. ثم عطف عليها بالطيبات، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك. فأما الوصفُ: فإنه سبحانه طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا طيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب. فالطيبات له وصفًا وفعلًا وقولًا ونسبةً، وكلّ طيب مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبات والأفعال، وكل مضاف إليه كبيته وعبده، وروحه وناقته، وجنته دار الطيبين، فهي طيبات كلّها، وأيضًا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده، فإنها تتضمن تسبيحه، وتحميده، وتكبيره، وتمجيده، والثناء عليه بآلائه وأوصافه؛ فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها، ومعانيها له وحده لا شريك له: كسبحانك اللهمَّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وكسبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وسبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ونحو ذلك. وكلّ طيّب له وعنده ومنه وإليه، وهو طيب

لا يقبل إلا طيّبًا، وهو إله الطيبين وربهم، وجيرانه في دار كرامته، هم الطيبون. فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن، كيف لا تنبغي إلا لله؟ وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن "سبحان الله" تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء عن خصائص المخلوقين وشبههم. و"الحمد لله" تتضمن إثبات كلّ كمال له قولًا، وفعلًا، ووصفًا على أتمِّ الوجوه، وأكملها أزلًا وأبدًا. و"لا إله إلا الله" تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه وحده الإله الحق، وأن من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت، يأوي إليه، ويسكنه من الحرِّ والبرد، فهل يغني عنه ذلك شيئًا. و"الله أكبر" تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء، وأجل، وأعظم، وأعز وأقوى وأمنع، وأقدر، وأعلم، وأحكم، فهذه الكلمات لا تصح هي ومعانيها إلا لله وحده. ثم شرع له أن يسلِّم على سائر عباد الله الصالحين، وهم عباده الذين اصطفى بعد الثناء، وتقديم الحمد لله فطابق ذلك قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وكأنه امتثال له، وأيضًا فإن هنا تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق وقدم في هذه التحية أولى الخلق بها وهو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، الذي نالت أمته على يده كل خير، وعلى نفسه، وبعده يأتي الثناء على سائر عباد الله الصالحين، وأخصهم بهذه التحية الأنبياء والملائكة، ثم أصحاب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في السماء والأرض. ثم شرع له بعد هذه التحية السلام على من يستحق السلام عليه خصوصًا وعمومًا. ثم شرع له أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، والصلاة حق من حقوقها، ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي الشهادة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة، وختمت بها الصلاة كما قال عبد الله بن مسعود: "فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك، فإن شئت فقم وإن شئت فاجلس". وهذا إما أن يحمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة، كما يقوله الكوفيون، أو على مقاربة انقضائها ومشارفته، كما يقول أهل الحجاز وغيرهم، وعلى التقديرين فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة. كما شرع أن تكون هي خاتمة الحياة. "فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وكذلك شرع للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين، ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته. وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء، كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، وليصل على رسوله ثم ليسل حاجته". ثم جعل الدعاء لآخر الصلاة كالختم عليها. فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمد لله، والثناء عليه ثم الصلاة على رسوله ثم الدعاء آخر الصلاة، وأَذِنَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من المسألة ما يشاء. ونظير هذا ما شرع لمن سمعٍ الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن. وأن يقول رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولًا. وأن يسأل الله لرسوله الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام المحمود. ثم ليصل عليه. ثم يسأل حاجته.

فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها. وسرُّ الصلاة وروحها ولبُّها، هو إقبال العبد على الله بكليّته فيها، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّه إلى غيره فيها. بل يجعل الكعبة -التي هي بيت الله- قبلة وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته، يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرضَ أعرض الله عنه، كما تدين تُدان. والإقبال في الصلاة على ثلاثة منازل: * إقبال العبد على قلبه فيحفظه ويصلحه من أمراض الشهوات والوساوس، والخطرات المُبطلة لثواب صلاته أو المنقصة لها. * والثاني: إقباله على الله بمراقبته فيها حتى يعبده كأنه يراه. * والثالث: إقباله على معاني كلام الله، وتفاصيله وعبودية الصلاة ليعطها حقها من الخشوع والطمأنينة وغير ذلك. فباستكمال هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقًا، ويكون إقبال الله على المصلي بحسب ذلك. فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه، بإقباله على قيُّومية الله وعظمته فلا يتفلت يمنة ولا يسرة. وإذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه وإجلاله وعظمته. وكان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه والثناء عليه وعلى سُبحات وجهه، وتنزيهه عمَّا لا يليق به، ويثني عليه بأوصافه وكماله. فإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كان إقباله على ركنه الشديد، وسلطانه وانتصاره لعبده، ومنعه له منه وحفظه من عدوه. وإذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه ويشاهده في كلامه كما قال بعض السلف: لقد تجلّى الله لعباده في كلامه. والناس في ذلك على أقسام ولهم في ذلك مشارب، وأذواق فمنهم البصير، والأعور، والأعمى، والأصم، والأعمش، وغير ذلك، في حال التلاوة والصلاة، فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلًا على ذاته وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وأحكامه وأسمائه. وإذا ركع كان إقباله على عظمة ربه، وإجلاله وعزه وكبريائه، ولهذا شرع له في ركوعه أن يقول: "سبحان ربي العظيم". فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه والثناء عليه وتمجيده وعبوديته له وتفرده بالعطاء والمنع. فإذا سجد، كان إقباله على قربه، والدنو منه، والخضوع له والتذلل له، والافتقار إليه والانكسار بين يديه، والتملق له. فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه، وكان إقباله على غنائه وجوده، وكرمه وشدّة حاجته إليهنّ، وتضرعه بين يديه والانكسار؛ أن يغفر له ويرحمه، ويعافيه ويهديه ويرزقه. فإذا جلس في التشهد فله حال آخر، وإقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، واستشعر قلبه

الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا والعلائق والشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه وقد ذاق قلبه التألم والعذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القرب، ونعيم الإقبال على الله تعالى، وعافيته منها وانقطاعها عنه مدّة الصلاة، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة وفراغه منها ويقول: ليتها اتصلت بيوم اللقاء. ويعلم أنه ينصرف من مناجاته مَن كلّ السعادة في مناجته، إلى مناجاة من كان الأذى والهم والغم والنكد في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا من قلبه حي معمور بذكر الله ومحبته، والأنس به، ومن هو عالم بما في مناجاة الخلق ورؤيتهم، ومخالطهم من الأذى والنكد، وضيق الصدر وظلمة القلب، وفوات الحسنات، واكتساب السيئات، وتشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز وجل. ولما كان العبد بين أمرين من ربه عز وجل: أحدهما: حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرًا وباطنًا، واقتضاؤه من القيام بعبودية حكمه، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدري. والثاني: فعل، يفعله العبد عبودية لربه، وهو موجب حكمه الديني الأمري. وكلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه، ولهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري، ولحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى، والشهوات، والمعاصي، ويقول: قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له: مسلم. ولما اطمأن قلبه بذكر الله، وكلامه، ومحبته وعبوديته سكن إلىٍ ربه، وقرب منه، وقرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه ونال السعادة بإحسانه، وكان قيامه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا أي لا حياة له، ولا فلاح ولا سعادة إلا به. ولما كان ما بُلي به من النفس الأمارة، والهوى المقتضي لمرادها والطباع المطالبة، والشيطان المغوي، يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك، أو نقصانه، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك، رادَّة عليه ما ذهب منه، مجددة له ما ذهب من عزمه وما فقده، وما أخلِقَ من إيمانه، وجعل بين كل صلاتين برزخًا من الزمان حكمة ورحمة، ليُجمّ نفسه، ويمحو بها ما يكتسبه من الدرن، وجعل صورتها على صورة أفعاله، خشوعًا وخضوعًا وانقيادًا وتسليمًا وأعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من العبودية، وجعل ثمرتها وروحها إقباله على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها ومحلها الدخول عليه تبارك وتعالى، والتزين للعرض عليه تذكيرًا بالعرض الأكبر عليه يوم القيامة. وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس إليه، التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال وجميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها. ولهذا لم يقل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جعلت قرة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة، ولا في شيء من هذه الأعمال وإنما قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة". وتأمل قوله: "وجلت قرة عيني في الصلاة" ولم يقل: "بالصلاة"، إعلامًا منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه وتقر عين الخائف بدخول في محل أنسه وأمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أتم وأكمل متى قرت العين به قبل الدخول فيه، ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه

ونصبه قال: "يا بلال أرحنا بالصلاة". أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه ومنزله وقرَّ فيه، وسكن وفارق ما كان فيه من التعب والنصب. وتأمل كيف قال: "أرحنا بالصّلاة" ولم يقل: "أرحنا منها"، كما يقوله المتكلف الكاره لها، الذي لا يصليها إلا على إغماض وتكلف، فهو في عذاب ما دام فيها، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه ونفسه؛ وذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره، والصلاة قاطعة له عن أشغاله ومحبوباته الدنيوية، فهو معذَّب بها حتى يخرج منها، وذلك ظاهر في أحواله فيها، من نقرها، والتفات قلبه إلى غير ربه، وترك الطمأنينة والخشوع فيها، ولكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ له من أدائها، فهو يؤديها على أنقص الوجوه، قائل بلسانه ما ليس في قلبه ويقول بلسان قلبه حتى نصلي فنستريح من الصلاة، لا بها. فهذا لونٌ وذاك لونٌ آخر. ففرق بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيدًا ثقيلًا، ولقلبه سجنًا ضيقًا حرجًا، ولنفسه عائقا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة ولجوارحه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة. فالأول: الصلاة سجن لنفسه، وتقييد لجوارحه عن التورط في مساقط الهلكات، وقد ينال بها التكفير والثواب، أو ينال من الرحمة بحسب عبوديته لله تعالى فيها، وقد يعاقب على ما نقص منها. والقسم الآخر: الصلاة بستان له، يجد فيها راحة قلبه، وقرة عينه، ولذَّة نفسه، وراحة جوارحه، ورياض روحه، فهو فيها في نعيم يتفكَّه، وفي نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص والدنو، والمنزلة العالية من الله عز وجل، ويشارك الأولين في ثوابهم، بل يختص بأعلاه، وينفرد دونهم بعلو المنزلة والقربة، التي هي قدر زائد على مجرد الثواب. ولهذا تَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب، كما قال السحرة لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لَأجرًا إِن كُنا نَحنُ الغالبينَ} [الشعراء: 41]، {قَالَ نَعَمْ وَإنكم لَمِنَ المقربِينَ} [الأعراف: 114]. فوعدهم بالأجر والقرب، وهو علو المنزلة عنده. فالأول: مَثَله مثل عبد دخل الدار، دار الملك، ولكن حيل بينه وبين رب الدار بسترٍ وحجاب، فهو محجوب من وراء الستر فلذلك لم تقر عينه بالنظر إلى صاحب الدار والنظر إليه؛ لأنه محجوب بالشهوات، وغيوم الهوى ودخان النَفس، وبخار الأماني، فالقلب منه بذلك وبغيره عليل، والنفس مُكبَّة على ما تهواه، طالبة لحظها العاجل. فلهذا لا يريد أحد من هؤلاء الصلاة إلا على إغماض، وليس له فيها راحة، ولا رغبة ولا رهبة فهو في عذاب حتى يخرج منها إلى ما فيه قرة عينه من هواه ودنياه. والقسم الآخر: مَثَلُهُ كمثل رَجُلٍ دخَل دار الملك، ورفع الستر بينه وبينه، فقرَّت عينه بالنظر إلى الملك، بقيامه في خدمته وطاعته، وقد أتحفه الملك بأنواع التحف، وأدناه وقربه، فهو لا يحب الانصراف من بين يديه، لما يجده من لذَّة القرب وقرة العين، وإقبال الملك عليه، ولذة مناجاة الملك، وطيب كلامه، وتذلُّله بين يديه، فهو في مزيد مناجاة، والتحف وافدة عليه مِن كلِّ جهة، ومكان وقد اطمأنت نفسه، وخشع قلبه لربه وجوارحه، فهو في سرورٍ وراحةٍ يعبد الله، كأنه يراه، وتجلى له في كلامه، فأشد شيء عليه انصرافه من بين يديه، والله الموفق المُرشد المعين، فهذه إشارة ونبذة يسيرة في ذوق الصلاة، وسرّ من أسرارها وتجل من تجلياتها.

أحكام الصلاة

وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (¬1). شروط الصلاة تسعة: الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسة، وستر العورة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية. الشرط الأول: الإسلام، وضده الكفر والكافر عمله مردود ولو عمل أي عمل، والدليل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. الشرط الثاني: العقل وضده الجنون؛ والمجنون مرفوع عنه القلم حتى يُفيق. والدليل حديث: "رُفِع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ". الشرط الثالث: التمييز، وضده الصغر: وحده سبع سنين، ثم يؤمر بالصلاة لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". الشرط الرابع: رفع الحدث، وهو الوضوء المعروف وموجبه الحدث. وشروطه عشرة: الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، واستصحاب حكمها، بأن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، وانقطاع موجب، واستنجاء أو استجمار قبله، وطهورية ماء، وإباحته، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه. وأما فروضه فستة: غسل الوجه، ومنه المضمضة والإستنشاق، وحدُّه طولا من منابت شعر الرأس إلى الذقن، وعرضًا إلى فروع الأذنين، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح جميع الرأس، ومنه الأذنين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب، والموالاة. والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]. ودليل الترتيب الحديث: "ابدؤوا بما بدأ الله به". ودليل الموالاة حديث صاحب اللُمعة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنه لما رأى رجلًا في قدمه لُمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره بالإعادة. (وواجبه التسمية مع الذكر). ونواقضه ثمانية: الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش النجس من الجسد، وزوال العقل، ومس المرأة بشهوة، ومس الفرج باليد، قبلًا كان أو دبرًا، وأكل لحم الجزور، وتغسيل الميت، والردة عن الإسلام. أعاذنا الله من ذلك. ¬

_ (¬1) من كتاب شروط الصلاة وأركانها وواجباتها.

الشرط الخامس. إزالة النجاسة من ثلاث: من البدن، والثوب، والبقعة، والدليل قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. الشرط السادس. ستر العورة. أجمع أهل العلم على فساد صلاة من صلى عريانًا وهو يقدر. وحد عورة الرجل من السرة إلى الركبة، والأمة كذلك، والحرة كلها عورة إلا وجهها. والدليل قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. أي عند كل صلاة. الشرط السابع: دخول الوقت. والدليل من السنة حديث جبريل عليه السلام: "أنه أم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أول الوقت، وفي آخره فقال: يا محمد: الصلاة بين هذين الوقتين". وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]. أي مفروضًا في الأوقات. ودليل الأوقات قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78]. الشرط الثامن: استقبال القبلة. والدليل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. الشرط التاسع: النية، ومحلها القلب، والتلفظ بها بدعة. والدليل: الحديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". وأركان الصلاة أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينة في جميع الأركان، والترتيب والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والتسليمتان. الركن الأول: القيام مع القدرة. والدليل قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. الثاني: تكبيرة الإحرام. والدليل: الحديث: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وبعدها الاستفتاح -وهو سنة- قول: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك". ومعنى "سبحانك اللهم": أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك. "وبحمدك" أي ثناء عليك. "وتبارك اسمك" أي البركة تنال بذكرك. "وتعالى جدك": أي جلت عظمتك. "ولا إله غيرك": أي لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا الله "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". معنى: "أعوذ" ألوذ وألتجئ وأعتصم بك يا الله. "من الشيطان الرجيم" المطرود المبعد عن رحمة الله"، لا يضرني في ديني ولا في دنياي. وقراءة الفاتحة ركن في كل ركعة، كما في الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" وهي أم القرآن.

(بسم الله الرحمن الرحيم): بركة واستعانة. (الحمد لله) "الحمد" ثناء، والألف واللام لاستغراق جميع المحامد، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه، مثل الجمال ونحوه، فالثناء به يسمى مدحًا لا حمدًا. (رب العالمين) "الرب" هو المعبود الخالق الرازق المالك المتصرف مربي جميع الخلق بالنعم. "العالمين" كل ما سوى الله عالم، وهو رب الجميع. (الرحمن) رحمة عامة جميع المخلوقات. (الرحيم) رحمة خاصة بالمؤمنين. والدليل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}. (مالك يوم الدين) يوم الجزاء والحساب، يوم كل يجازى بعمله، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. والدليل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار: 17]، والحديث عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الكيس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني". (إياك نعبد) أي لا نعبد غيرك، عهد بين العبد وبين ربه أن لا يعبد إلا إياه. (وإياك نستعين) عهد بين العبد وبين ربه أن لا يستعين بأحد غير الله. (اهدنا الصراط المستقيم) معنى "اهدنا" دلنا وأرشدنا وثبتنا، و"الصراط" الإسلام، وقيل: الرسول، وقيل: القرآن، والكل حق. و"المستقيم" الذي لا عوج فيه. (صراط الذين أنعمت عليهم) طريق المنعم عليهم. والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. (غير المغضوب عليهم) وهم اليهود، معهم علم ولم يعملوا به. تسأل الله أن يجنبك طريقهم. (ولا الضالين) وهم النصارى، يعبدون الله على جهل وضلال، نسأل الله أن يجنبك طريقهم. ودليل الضالين قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]، والحديث عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لتتَّبِعُنَّ سَنَنَ من [كان] قبلكم حذو القُذَّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن" أخرجاه. والحديث الثاني: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قلنا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي". والركوع، والرفع منه، والسجود على الأعضاء السبعة، والاعتدال منه، والجلسة بين السجدتين.

والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، والحديث عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أُمِرْتُ أن أسجد على سبعة أعظم"، والطمأنينة في جميع الأفعال، والترتيب بين الأركان. والدليل حديث المسيء صلاته عن أبي هريرة قال: "بينما نحن جلوس عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ دخل رجل فصلى [فقام] فسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعلها ثلاثًا، ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيًا لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّرْ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"، والتشهد الأخير ركن مفروض، كما في الحديث عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على جبريل وميكائيل" وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تقولوا: السلام على الله عن عباده، فإن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". ومعنى "التحيات" جميع التعظيمات لله ملكًا واستحقاقًا، مثل الانحناء والركوع والسجود والبقاء والدوام، وجميع ما يعظم به رب العالمين فهو لله، فمن صرف منه شيئا لغير الله فهو مشرك كافر، و"الصلوات" معناها جميع الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس. "والطيبات لله" الله طيب ولا يقبل من الأقوال والأعمال إلا طيبها، "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته": تدعو للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالسلامة والرحمة والبركة والذي يدعى له ما يدعى مع الله. و"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين": تسلم على نفسك وعلى كل عبد صالح في السماء والأرض، و"السلام" دعاء، و"الصالحون" يدعى لهم ولا يُدعَون مع الله، "أشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له" وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: "تشهد شهادة اليقين ألا يُعبد في الأرض ولا في السماء بحق إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله بأنه عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذَّب بل يطاع ويُتبع، شرفه الله بالعبودية. والدليل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد": الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، كما حكى البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، وقيل: الرحمة. والصواب الأول، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء، و"بارك" وما بعدها سنن أقوال [وأفعال]. والواجبات ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام. وقول "سبحان ربي العظيم في الركوع"، و"قول سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد، وقول "ربنا ولك الحمد" للكل، وقول: "سبحان ربي الأعلى" في السجود، وقول: "رب اغفر لي" بين السجدتين، والتشهد الأول والجلوس له. فالأركان ما سقط منها سهوًا أو عمدًا بطلت الصلاة بتركه. والواجبات ما سقط منها عمدًا بطلت الصلاة بتركه، وسهوًا جبره السجود للسهو. والله أعلم.

باب: أحكام الصلاة

باب: أحكام الصلاة (¬1) (شروط الصلاة تسعة): الإسلام، والعقل، والتمييز، والطهارة وستر العورة، واجتناب النجاسة، والعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، والنية والقصد. (أركان الصلاة أربعة عشر ركنًا): القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والاعتدال، والسجود، والرفع منه، والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة في الجميع، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والتسليمة الأولى. (مبطلات الصلاة ثمانية): الكلام العمد، والضحك، والأكل، والشرب، وكشف العورة، والانحراف عن جهة القبلة، والعبث الكثير، وحدوث النجاسة. (واجبات الصلاة ثمانية): التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، الثاني: قول سمع الله لمن حمده لإمام ومنفرد، الثالث: قول ربنا ولك الحمد، الرابع: تسبيح الركوع، الخامس: تسبيح السجود، السادس قول رب اغفر لي بين السجدتين والواجب مرة، السابع: التشهد الأول لأنه عليه السلام فعله وداوم على فعله وأمر به وسجد للسهو حين نسيه، الثامن: الجلوس له. (فرائض الوضوء ستة أشياء): غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح جميع الرأس، وغسل الرجلين إلى الكعبين، والترتيب، والموالاة. (شروط الوضوء خمسة): ماء طهور، وكون الرجل مسلما مميزًا، وعدم المانع، ووصول الماء إلى البشرة ودخول الوقت في دائم الحدث. (نواقض الوضوء ثمانية): الخارج من السبيلين، والخارج الفاحش من البدن، وزوال العقل بنوم أو غيره، ولمس المرأة بشهوة، ومس الفرجين من الآدمي، وغسل الميت، وأكل لحم الجزور، والردة عن الإسلام أعاذنا الله منها. والله أعلم. ¬

_ (¬1) من كتاب أحكام الصلاة لشيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

أحكام وآداب المساجد

أحكام وآداب الحضور إلى المساجد (¬1) إن الصلاة جماعة في بيوت الله تعالى من واجبات الدين، وسنن الهدي. يجتمع للمصلي فيها شرف المناجاة لله تعالى، وشرف العبادة، وشرف البقعة. ولقد رتب الإسلام على حضور المساجد أجرًا عظيمًا تحدثت عنه نصوص كثيرة. وإذا كان حضور الجماعة بهذه المنزلة، فإنه يجب على قاصد المسجد لأداء هذه العبادة العظيمة أن يتحلى بأشرف الصفات، وأحسن الخصال، مما ورد في أحكام حضور المساجد مما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ تأدبًا مع الله تعالى، واحترامًا للبقعة، ومراعاة لإخوانه المصلين، وتطبيقًا للسنة. وإن من الملاحظ أن كثيرًا ممن يقصدون المساجد لأداء الصلاة يخلون بأشياء كثيرة تتعلق بالمساجد، سواء قبل دخولها أو بعد دخولها. فهناك أخطاء، وهناك مخالفات، وهذا يرجع -في نظري- إلى سببين: الأول: ضعف الإيمان عند جمع من الناس مما أدى إلى الجهل بأحكام كثيرة تتعلق بالمساجد، أو العلم بها مع الزهد فيها والرغبة عن العمل بها. وإن الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به أمر جدّ خطر، وقد ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إن الله يبغض كلّ عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة" (¬2). وإني أخشى أن يكون التساهل بأحكام المساجد تساهلًا بالصلاة ذاتها. السبب الثاني: تحول هذه العبادة العظيمة -وهي الصلاة- إلى عادة عند كثير من الناس؛ تجد أن الذاهب إلى المسجد كالذاهب إلى مكان آخر، لا يجد فرقًا بين الاتجاهين، إن لم يهتم للثاني أكثر من الأول. إن الصلاة التي كانت قرة عيون المؤمنين، ومعراج المتقين، أصبحت عند كثير من المصلين عبارة عن حركات منظمة تفتقد الخشوع والطمأنينة والإقبال الحقيقي على مالك يوم الدين. وأنَّى لصلاة كهذه أن تنهي عن الفحشاء والمنكر، فتؤدي وظيفتها في حياة الناس وسلوكهم .. ! إن مرتكب الكبائر يجلس في المسجد ويتلو آيات الله، فتمر عليه آيات الربا، وآيات الأمر باتباع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغيرها، دون أن تهزّ من نفسه أو تنبه شعوره!! (¬3). أقول: لهذين السببين وغيرهما رغبت في جمع ما حضرني من أحكام حضور المساجد وآدابه في بحث مستقل؛ حرصًا على إحياء السنة، وتذكير الناس بما غفلوا عنه، وحثًا على العمل بها، كما هو شأن السلف الصالح من هذه الأمة. المسجد، وفضل بنائه، وما ينبغي فيه المسجد لغة: على وزن (مَفْعِل) -بكسر العين-: اسم لمكان السجود، وبالفتح: اسم للمصدر. قال في "الصحاح": (المسجد بالفتح: جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود. والمسْجِد ¬

_ (¬1) من كتاب أحكام الحضور إلى المساجد للشيخ عبد الله بن صالح الفوزان. (¬2) هنا جزء من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/ 273)، والبيهقي (10/ 194)، وهو حديث صحيح. انظر الصحيحة للألباني (195). (¬3) في مجلة البحوث الإسلامية، العدد الثاني، ص (185)، مقال جيد، في موضوع: تحول العبادات إلى عادات، للدكتور محمد أبي الفتح البيانوني.

والمسْجَد: واحد المساجد) (¬1). وقال في "تثقيف اللسان": (ويقال للمسجد: مسيد، بفتح الميم، حكاه غير واحد) (¬2). فتحصل في ذلك ثلاث لغات: كسر الجيم، وفتحها، ومسيد بالياء موضع الجيم. أما المسجد شرعًا: فكل موضع من الأرض، لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "جعلت لي الأرض مسجدًا" (¬3). أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها موضع دون غيره. وهذا يدل على أن الأصل في الأرض الطهارة حتى تعلم نجاستها، وأن كل أرض طاهرة طيبة للصلاة، إلا ما دل الدليل على استثنائه كالمقبرة والحمام ومعاطن الإبل ونحو ذلك. وتعريف المسجد شرعًا بأنه كل موضع من الأرض ذكره الزركشي الشافعي وتبعه على ذلك الجرّاعي الحنبلي (¬4). لكن هذا تعريف المسجد لغة -كما مضى- لا شرعًا كما سيأتي إن شاء الله. أما المسجد شرعًا: فهو بقعة من الأرض تحررت عن التملك الشخصي، وعادت إلى ما كانت عليه لله تعالى، وخصصت للصلاة والعبادة (¬5). وهذا ما جعله الزركشي مسجدًا في العرف حيث قال: (ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس، حتى يخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يعطي حكمه، وكذلك الربط والمدارس فإنها هيئت لغير ذلك) (¬6). ولعل مراده بذلك العرف الشرعي، فإن العلماء أجمعوا على أن البقعة لا تكون مسجدًا حتى يقفها مالكها وقفًا صحيحًا مؤبدًا، لا اشتراط فيه ولا خيار. سواء وقفها باللفظ، أو وجد من القرائن الفعلية ما يدل على ذلك؛ كأن يبني مسجدًا ويأذن للناس في الصلاة فيه (¬7). فإن لم يوقف فليس بمسجد ولو اتخذ للصلاة، وذلك كما لو اتخذ رجل معذور شرعًا في التخلف عن الجماعة مصلى في بيته، أو اتخذت المرأة مصلى في قعر دارها، وكذا ما يوجد في الدوائر الحكومية، أو المدارس من أماكن يصلى فيها فليست بمساجد، فلا تعطى حكمه. قال البغوي بعد إيراد حديث (أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببناء المساجد في الدور .. ) (¬8): (وفي الحديث دليل على أن المكان لا يصير مسجدًا بالتسمية حتى يسبّله صاحبه، ولو صار مسجدًا لزال عنه ملك المالك) (¬9). وقد اختلف العلماء في مصلى العيد -وهو المكان المخصص لصلاة العيد سواء أحيط بسور ¬

_ (¬1) الصحاح (2/ 484، 485). (¬2) تثقيف اللسان ص (186). (¬3) أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521). (¬4) إعلام الساجد ص (27)، تحفة الراكع ص (12). (¬5) أحكام المساجد في الإسلام ص (18). (¬6) إعلام الساجد ص (28)، تحفة الراكع ص (12). والربط: مفرده رباط وهو: مكان يبنى للفقراء. (¬7) المغني (8/ 190)، أحكام المساجد في الإسلام ص (18). (¬8) أخرجه الترمذي (594، 595)، وأبو داود (455)، وابن ماجه (758)، وإسناده صحيح. إلا أنه أعلّ بالإرسال. لكن جاء وصله من ثقة فيقبل. والمراد بالدور: القبائل، كما فسرها سفيان بن عيينة. ونقله الترمذي، وقيل: البيوت، وهو قول الخطابي. انظر: تحفة الأحوذي (3/ 206)، معالم السنن (1/ 258). (¬9) شرح السنة (2/ 400).

أم لا- هل يعدّ مسجدًا فيعطى أحكام المساجد؟ قولان: الأول: أن مصلى العيد ليس بمسجد، فلا يأخذ أحكامه، إلا ما يتعلق بطهارة البقعة، وتواصل الصفوف، والاقتداء بالإمام، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأن مصلى العيد ليس له جماعة راتبة يقيمون الصلاة المفروضة، وما لا تقام فيه الصلاة المفروضة لا يعتبر مسجدًا، فلا تكون له أحكام المسجد (¬1). القول الثاني: أن مصلى العيد مسجد، إذا جعله صاحبه وقفًا، فيأخذ أحكام المسجد من تحريم البيع والشراء فيه ودخول الحائض، ونحو ذلك، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة. وهو قول عياض الدارمي (¬2). قال في الفروع: (والصحيح أن مصلى العيد مسجد) (¬3). واستدلوا بقول أم عطية -رضي الله عنه-: (أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور، ويعتزلن الحيّض المصلى) (¬4). ووجه الدلالة: أن فيه أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحيض باعتزال المصلى، فدل على أنه مسجد، له حكم المساجد، ولو لم يكن كذلك لما منعت منه الحائض ... وأجاب الجمهور عن ذلك بأن أمر الحيّض باعتزال المصلى ليتميزن، ولئلا يلوثن المصلى، وليتسع لغيرهن (¬5). والقول بأن مصلى العيد مسجد قول قوي، وذلك لوقفه لله تعالى للصلاة فيه، ولا فرق بين أن يكون لصلاة عيد أو راتبة؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر الحيّض باعتزاله، والمرأة الحائض لا تعتزل إلا المسجد، لا تعتزل مصلاها في بيتها أو مصلى رجل في بيته. وعلى هذا فيصلي الإنساق إذا دخل مصلى العيد (¬6). أما مصلى الجنائز -إن وجد لها مكان خاص- فليس بمسجد؛ لأن صلاة الجنازة لا ركوع فيها ولا سجود (¬7). ومما يأخذ حكم المسجد: رحبة المسجد -وهي ساحته ومتّسعه- والغالب أنها متصلة به، يشملها سوره، سواء كانت في وسط المسجد وخلفها وأمامها أروقة، أو كانت الأروقة في جهة القبلة فقط، كما في أكثر المساجد (¬8). وكذا مكتبة المسجد؛ وهي غرفة تبنى في رحبته غالبًا، فلها حكم المسجد إن كان بابها في وسط المسجد، فتشرع تحية المسجد لمن دخلها، ويصح الاعتكاف فيها، فإن كان بابها خارج المسجد فليست منه، وكذا لو كانت خارج سور المسجد، بأن بنيت بجواره وفتح لها باب إلى المسجد فإنها لا تكون منه (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: المجموع (2/ 180)، إعلام الساجد ص (386). (¬2) المجموع شرح المهذب (2/ 180). (¬3) الفروع (1/ 202). (¬4) أخرجه البخاري (324). (¬5) المجموع (2/ 180). (¬6) منتهى الإرادات (1/ 83)، معونة أولي النهى (1/ 397)، الإنصاف (1/ 346)، الشرح الممتع (5/ 204)، مجالس عشر ذي الحجة ص (105). (¬7) انظر: كشاف القناع (1/ 148). (¬8) انظر: المجموع (6/ 507)، الإنصاف (3/ 364). (¬9) أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (2/ 79)، فتاوى ابن عثيمين (14/ 351)، أحكام المساجد في الإسلام (2/ 59).

وقد ورد في بناء المساجد أو المساهمة في بنائها أدلة كثيرة، تدل على أن ذلك من أجل الطاعات، وأفضل القربات؛ لأن المساجد بيوت الله تعالى، وهي الوسيلة لإقامة صلاة الجماعة، ولها وظائف عظيمة في نظر الإسلام. قال تعاإلى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]. وقوله: {يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} شامل للعمارة بالبناء والعمارة بالعبادة؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه، فهو يعمر المسجد لطاعة الله تعالى. وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: إني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنة" وفي رواية: "بنى الله له مثله في الجنة" (¬1). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "من بنى لله مسجدًا ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة" وفى رواية: "ولو كمفحص قطاة" (¬2)، وفى حديث جابر -رضي الله عنه- بلفظ: "كمفحص قطاة أو أصغر" (¬3). ومفحص القطاة: هو الموضع الذي تفحص التراب عنه، أي: تكشفه وتحيه لتبيض فيه (¬4). وخصّ القطاة بهذا؛ لأنها لا تبيض في شجرة ولا على رأس جبل، إنما لخعل مجثمها على بسيط من الأرض. فلذلك شبه به المسجد (¬5). قال في فتح الباري: (وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه لتضع بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويويده رواية جابر هذه، وقيل: بل هو على ظاهره، والمعنى: أن يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه، تكون الزيادة هذا القدر، أو يشترك جماعة في بناء مسجد، فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر ... ) (¬6). وتنبغي العناية ببناء المسجد بتهيئة المساحة الكافية، والاهتمام بتحديد جهة القبلة، وأن يتولى البناء أيد مسلمة أمينة، وأن تبنى ما يتناسب مع البنيان الحديث، ويجب الحذر من زخرفة المساجد والتباهي بذلك -كما هو الواقع اليوم- وذلك من علامة الساعة، وقد نص العلماء على كراهة ذلك، وصرح بعضهم بالتحريم (¬7). وقد ورد عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" (¬8). قال البخاري: قال أنس: يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلًا، وقال ابن عباس: لتزخرفنها كما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (450)، ومسلم (533). (¬2) أخرجه البزار (260 مختصر زوائده)، والطبراني في الصغير (2/ 120)، وابن حبان (4/ 490)، وابن أبي شيبة (1/ 310). وهر حديث صحيح. (¬3) أخرجه ابن ماجه (738)، وابن خزيمة (2/ 269)، قال في الزوائد (1/ 261): "هذا إسناد صحيح ... ". (¬4) انظر: أساس البلاغة ص (335). (¬5) انظر: حياة الحيوان الكبرى (2/ 255). (¬6) فتح الباري (1/ 545). (¬7) المجموع (2/ 180)، أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (2/ 46). (¬8) أخرجه أبو داود (449)، والنسائي (2/ 32)، وابن ماجه (739)، وأحمد (19/ 372)، من طرق عن حماد بن سلمة، وإسناده صحيح على شرط مسلم. رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم.

زخرفت اليهود والنصارى. اهـ. والتباهي بها: العناية بزخرفتها، والتسابق في ذلك. وقد نهى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن زخرفة المساجد؛ لأن ذلك يشغل الناس عن صلاتهم، مع ما فيه من الإسراف والتبذير، فقال -رضي الله عنه- عندما أمر بتجديد المسجد النبوي -مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال-: "أكنّ الناس من المطر، وإياك أن تحمّر أو تصفّر، فتفتن الناس" (¬1). قال النووي: (يكره زخرفة المسجد ونقشه وتزيينه؛ للأحاديث المشهورة، ولئلا يشغل قلب المصلي) (¬2). ولعل المراد بذلك كراهة التحريم لما في ذلك من إضاعة المال، والتسبب في إشغال المصلين، وإبعادهم عن الخشوع والتدبر والحضور مع الله تعالى. وقد ذكر كثير من أهل العلم زخرفة المساجد من البدع في الدين (¬3). قال ابن بطال بعد أن ذكر آثارًا تدل على كراهية المغالاة في تشييد المساجد وتزيينها قال: (وهذه الآثار مع ما ذكر البخاري في هذا الباب تدل على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنائها ... ) وكان عمر -رضي الله عنه- قد فتح الله الدنيا على أيامه ومكنه من المال فلم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال في زمانه أكثر، فلم يزد أن جعل في مكان اللبن حجارة وقصّة (¬4)، وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصّر هو وعمر عن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما من الرسول بكراهة ذلك، وليقتدى بهما في الأخذ من الدنيا بالقصد والكفاية، والزهد في معالي أمورها، وإيثار البلغة منها (¬5). ويجب الحذر من الإسراف في توابع المسجد أو مكملاته من محرابه وأبوابه ونوافذه وفرشه وإنارته ومكبرات الصوت، ووسائل التبريد، فلا بد أن يكون ذلك بالقدر الكافي، والحذر مما يزيد على كفاية. وينهى عن زخرفة المحراب، أو كتابة شيء من الآيات أو تعليق الساعات ونحو ذلك مما يكون في قبلة المصلي، قال الإمام مالك -رحمه الله-: "أكره أن يكتب في قبلة المسجد بشيء من القرآن والتزويق" وقال: "إن ذلك يشغل المصلي" (¬6). وينبغي أن يكون المسجد مربعًا أو مستطيلًا؛ لتتساوى فيه الصفوف، وتتضح جهة القبلة لمن رأى المسجد، كما ينبغي الحذر من عمارة المسجد على هيئة توحى بالتشبه، حتى إن من رأى بعضها لا يدري أهي مساجد أم لا، بسبب أشكالها الغريبة (¬7)، والله المستعان. كما يجب البعد عن الإسراف والمبالغة في تطويل المنائر أو تعددها -كما في بعض المساجد- مما ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (1/ 539). (¬2) المجموع (2/ 180). (¬3) انظر: الإبداع في مضار الابتداع ص (74، 183)، الأمر بالاتباع ص (300). (¬4) القصة: بفتح القاف: الجصّ بلغة الحجاز. (¬5) شرح ابن بطال على صحيح البخاري (2/ 97، 98)، وانظر: الحوادث والبدع للطرطوشي ص (103). (¬6) الحوادث والبدع ص (107). (¬7) أحكام المساجد في الشريعة الإسلامية (2/ 101، 102).

وجوب صلاة الجماعة والتحذير من التهاون فيها

يكلف مبالغ عظيمة، قد تكفي لبناء مساجد أخرى، ومكبرات الصوت تغني عن رفع المنائر أو تعددها، بل قد تغني عنها البتة. كما ينبغي الحذر من وضع الهلال في رأس المنارة، فإنه شعار اتخذه المسلمون في وقت مضى، وهو مقتبس من غير المسلمين، الذين اتخذوه لزخرفة بعض مبانيهم (¬1). ولا بد أن تكون فرش المسجد من الألوان الهادئة. التي ليس فيها شيء من التصاوير ولا الزخرفة، لأن صور الصلبان والحيوان تكثر في الفرش لا سيما ما يصنع للمساجد. ويجوز وضع المدافئ الكهربائية في المسجد، فإن كانت في غير جهة القبلة فهو أولى وإلا فقد أفتى بعض العلماء بجواز وضعها في قبلة المسجد أمام المصلين؛ لحاجة الناس إليها في أيام الشتاء (¬2)، وإن أتي بدلها بالمدافئ الكهربائية الزيتية فهو أفضل؛ لأنه لا أثر لها إلا الحرارة. وجوب صلاة الجماعة والتحذير من التهاون فيها للاجتماع المشروع في العبادات شأن كبير عند الله تعالى، وله فوائد كثيرة اجتماعية وفردية دينية ودنيوية، ومن هذه الاجتماعات صلاة الجماعة في المسجد، يجتمع فيه أهل المحلة الواحدة كلّ يوم وليلة خمس مرات. فيحصل التواصل والتعاون، ويظهر عز الإسلام وقوة المسلمين. يتم في هذا الاجتماع تعليم الجاهل، وتنشيط العاجز، والتعاون على البر والتقوى والتنافس في أعمال الخير؛ من العطف على الفقير والعاجز وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تعود على الفرد والمجتمع بالخير والبركة. ولقد كثرت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب صلاة الجماعة وأدائها مع عباد الله في المساجد التي بنيت لها، وأنه ليس لأحد من عباد الله رخصة إذا سمع النداء أن يدع الجماعة ويصلي في منزله أو مكان عمله إلا من عذر. قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102]. ووجه الدلالة من الآية على أن صلاة الجماعة واجبة: أن الله تعالى أمر بإقامة صلاة الجماعة وهم في حالة الحرب والخوف. ولو كانت الجماعة سنة -كما يقول بعض الناس- لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف. ولكن لما أمر الله تعالى بها في هذه الحال، وسمح بأن يترك لها أكثر واجبات الصلاة دل ذلك على أن وجوبها في حال الأمن أولى، وإلا فلو صلوا فرادى لم يكونوا بحاجة إلى ترك بعض الواجبات، فإن هذه الأمور وغيرها تبطل الصلاة لو فعلت بغير عذر. ثم تأمل كيف دلت الآية الكريمة على أن صلاة الجماعة فرض عين وليست فرض كفاية وإلا لسقطت عن الطائفة الثانية بفعل الطائفة الأولى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: العمارة في صدر الإسلام، ص (26)، المساجد بين الاتباع والابتداع ص (16). (¬2) مجموع فتاوى ابن عثيمين -رحمه الله- (13/ 338). (¬3) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص (112)، ومجموع الفتاوى (23/ 227).

وانظر كيف جاز الجمع بين الصلاتين للمطر وتقديم الصلاة الثانية عن وقتها لأجل الجماعة، لو كان فعلها في البيت جائزًا لما جاز الجمع لذلك؛ لأن أكثر الناس قادرون على الجماعة في البيوت فإن الإنسان غالبًا لا يخلو أن تكون عنده زوجة أو ولد أو صديق أو نحوهم، فيمكنه أن يصلي كل صلاة في وقتها جماعة، فلما جاز الجمع علم أن المقصود بالجماعة جماعة المسجد، وأن حضور المساجد واجب على الأعيان إلا بعارض يجوز معه ترك الجماعة (¬1). وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. قال ابن الجوزي: أي: صلوا مع المصلين. وقال أبو بكر الكاساني: (أمر الله تعالى بالركوع مع الراكعين، وذلك يكون في حالة المشاركة في الصلاة، فكان أمرًا بإقامة الصلاة بالجماعة، ومطلق الأمر لوجوب العمل) (¬2). وقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42، 43]. قال ابن كثير رحمه الله: (لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة إذا تجلى الرب -عز وجل- فسجد له المؤمنون لا يستطع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه، عكس السجود، كما كانوا في الدنيا، بخلاف ما عليه المؤمنون) (¬3). وعليه فإجابة الداعي هي إتيان المسجد، كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأعمى: (أجب) (¬4)، والله أعلم. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (¬5). ووجه الدلالة: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- همّ بتحريق بيوت المتخلفين عنها عليهم. ولا يهم بهذه العقوبة إلا من أجل ترك واجب، وهو حضور الجماعة. وإلا فالظاهر أنهم يصلون في بيوتهم؛ لقوله: "لا يشهدون الصلاة". وفي رواية: "فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد". أي: بعد أن يسمع النداء إليها أو بعد أن يبلغه التهديد المذكور (¬6). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: (من سرّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهنّ، فإن الله شرع لنبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ¬

_ (¬1) انظر: كتاب الصلاة ص (137). (¬2) زاد المسير (1/ 75)، بدائع الصنائع (1/ 155)، وانظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص (113). (¬3) تفسير ابن كثير (8/ 225). (¬4) كتاب الصلاة لابن القيم ص (112). (¬5) أخرجه البخاري (626)، ومسلم (651). (¬6) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص (114)، وانظر فتح الباري (2/ 141).

وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط بها عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف) (¬1). فتأمل أولًا كيف جعل ابن مسعود -رضي الله عنه- الصلاة في البيوت وترك المساجد تركًا للسنة، وترك السنة ضلال وانحراف. ومثل هذا لا يقال بالرأي، ولا ضلال إلا بترك شعيرة من شعائر الدين، مما يدل على أن المساجد من أعظم شعائر الدين، وأنها ما بنيت إلا ليصلي فيها. ثم تأمل ثانيًا: كيف أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على أن ترك صلاة الجماعة في المسجد من علامات النفاق، حيث قال: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) ولا يوصف بالنفاق من ترك سنة، بل من ترك فريضة أو فعل محرمًا (¬2). ثم تأمل ثالثًا: تعظيم الصحابة -رضي الله عنهم- لأمر الجماعة حيث إن الرجل المريض يؤتى به وقد مسك رجلان بعضديه حتى يقام في الصف، مما يدل على تأكيد صلاة الجماعة وتحمل المشقة في حضورها. وإذا كان هذا في حق المريض، فكيف يكون الحكم في حق المعافى الآمن الذي يتقلب صباح مساء في نعم الله تعالى، ثم يقابل ذلك بالتخلف عن صلاة الجماعة، فهل هذا من الشاكرين؟ وقد ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تفضيل صلاة الرجل في المسجد جماعة على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفًا، وذلك ما يرويه لنا أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلاة الرجل في الجماعة تضعّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلّ عليه، اللهم ارحمه! ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة" (¬3). وهذا أجر عظيم، وثواب جزيل، لا يفرط فيه ويكتفي بدرجة واحدة إلا محروم اتبع هواه، وزهد فيما عند الله من الأجر، نسأل الله السلامة. وهذه المضاعفة لصلاة الجماعة في المسجد لأوصاف ثلاثة دل عليها الحديث: الوصف الأول: إحسان الوضوء، وذلك -والله أعلم- بأن يتوضأ كوضوء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. الوصف الثاني: الخروج إلى المسجد بنية خالصة لا يخرجه إلا قصد الصلاة في الجماعة. الوصف الثالث: المبادرة إلى صلاة ما كتب له من حين يصل إلى المسجد. والتضعيف المذكور في الحديث مرتب على هذه الأوصاف الثلاثة، وما رتب على أوصاف متعددة لا يوجد بوجود بعضها، إلا إذا دلّ الدليل على إلغاء ما ليس معتبرًا أو ليس مقصودًا لذاته (¬4). بهذه الأوصاف الثلاثة يحصل المصلي على ثلاث فوائد عظيمة وهي: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (654). (¬2) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص (120). (¬3) أخرجه البخاري (620)، ومسلم (649). (¬4) فتح الباري (2/ 135).

الأولى: أن لا يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة. الثانية: أن الملائكة تصلي عليه ما دام في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد تقول: (اللهم صلّ عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه). ومن قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك -إن شاء الله-؛ لأن قوله: "في مصلاه" خرج مخرج الغالب، وهذا هو الظاهر (¬1)، وسيأتي زيادة بيان لذلك إن شاء الله. الثالثة: أنه لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. ولا ريب أن هذه الفوائد لا يحصل عليها ويظفر بها إلا من صلى مع الجماعة في المسجد، أما من صلى في بيته منفردًا أو في جماعة فإن هذه المزايا لا تحصل له؛ فإن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثم خرج إلى المسجد" وصف لا يجوز إلغاؤه، وعليه فالتضعيف خاص بمن صلى في المسجد (¬2). وهناك بشارة عظيمة لمن صلى مع الجماعة، يرويها لنا عن نبي الهدى والرحمة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ونصها: "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر له ذنوبه" (¬3). فقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة" مؤيد لقوله في الحديث المتقدم: "ثم خرج إلى المسجد". ولقد زهد في هذا الثواب العظيم كثير من الناس في زماننا هذا مع كثرة المساجد وقربها من البيوت، فصاروا يتخلفون عن صلاة الجماعة عمومًا، أو عن صلاة الفجر خصوصًا، ثم يذكرون أعذارًا لا تنفعهم عند الله، وهم يتقلبون في نعم الخالق من المال والصحة والمسكن والأمن. إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يرخص لعبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- في التخلف عن صلاة الجماعة، مع وجود أعذار ستة، دلت عليها النصوص (¬4)، وإليك بيانها؛ لتعلم تأكيد الإسلام لصلاة الجماعة، ولتعلم أن هذه الأعذار لو كانت موجودة لديك فلا رخصة لك في التخلف، ولو وجد عذر واحد فقط فلا رخصة لك من باب أولى، فكيف وليس لك عذر؛! اقرأها أو اسمعها وكن منصفًا .. : 1 - العذر الأول: كونه فاقد البصر. 2 - العذر الثاني: عدم وجود قائد يرافقه إلى المسجد. وقد دل على هذين العذرين حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتى النبّي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لى قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: "هل تسمع النداء بالصلاة"؛ فقال: نعم، قال: "فأجب" (¬5). 3 - العذر الثالث: بُعْدُ داره عن المسجد. وقد دل عليه ما رواه عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- أنه سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله! إني رجل ضَريرُ البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلاومني (لا يلايمني) فهل في رخصة أن أصلي في بيتي؟ ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 136)، وانظر: الموطأ (1/ 161). (¬2) المصدر السابق. (¬3) أخرجه مسلم (232). (¬4) انظر كتاب (أهمية صلاة الجماعة)، للدكتور: فضل إلهي ص (46)، وما بعدها. (¬5) أخرجه مسلم (653).

قال: "هل تسمع النداء"؟ قال: نعم. قال: "لا أجد لك رخصة" (¬1). ما أعظم صلاة الجماعة! إنه أعمى، وداره بعيدة، ولا قائد له، لكن يجب عليه أن يصلي في المسجد ما دام أنه يسمع النداء. نعم داره بعيدة، وله عذر، فكيف بمن داره قريبة، وهو مبصر، وصوت المؤذن يخترق أجواء بيته؟؟ ورحم الله الإمام ابن خزيمة على تبويبه لهذا الحديث بقوله: (باب أمر العميان بشهود صلاة الجماعة وإن كانت منازلهم نائية عن المسجد لا يطاوعهم قائدهم بإتيانهم إياهم المساجد. والدليل على أن شهود الجماعة فريضة لا فضيلة، إذ غير جائز أن يقال: "لا رخصة في ترك الفضيلة") (¬2). 4 - العذر الرابع: وجود شجر ونخل بينه وبين المسجد. وقد دل علي ذلك ما رواه ابن أم مكتوم -أيضًا- رضي الله عنه؛ أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتى المسجد، فرأى في القوم رقة فقال: "إني لأهُمُّ أن أجعل للناس إمامًا، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه". فقال ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-: يا رسول الله! إن بيني وبين المسجد نخلًا وشجرًا، ولا أقدر على قائد كل ساعة، أيسعني أن أصلي في بيتي؛ قال: "أتسمع الإقامة؟ " قال: نعم، قال: "فأتها". (¬3). 5 - العذر الخامس: وجود الهوام والسباع في المدينة. وقد دل على ذلك ما رواه ابن أم مكتوم أيضًا -رضي الله عنه-، قال: يا رسول الله! إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تسمع حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح. فحيّ هلا" (¬4) أي: أقبل وأجب. 6 - العذر السادس: كبر سنه ورق عظمه. وقد دل عليه ما ورد عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: أقبل ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-، وهو أعمى، وهو الذي نزل فيه: {عَبَس وَتَوَلى (1) أن جَآءَهُ الأعمَى} وكان رجلًا من قريش - إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال له: يا رسول الله! بأبي وأمي، أنا كما تراني، قد دَبَرَتْ سني، ورقّ عظمي، وذهب بصري، ولي قائد لا يلايمني قيادتي إياي، فهل تجد لي من رخصة أصلي في بيتي الصلوات؟ قال: "هل تسمع المؤذن من البيت الذي أنت فيه"؟ قال: نعم. يا رسول الله! قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما أجد لك من رخصة". ولو يعلم هذا المتخلف عن الصلاة في الجماعة ما لهذا الماشي إليها لأتاها ولو حبوا على يديه ورجليه" (¬5). إن جميع ما تقدم دليل واضح وبرهان قاطع على أن حضور الجماعة في المساجد واجب، وأنه لا رخصة في التخلف عنها إلا من عذر يمنع الحضور، ولو كان التخلف سائغًا أو الحضور ندبًا لكان أولى من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 257)، وقال عنه النووي: (رواه أبو داود بإسناد صحيح أو حسن)، [شرح المهذب 4/ 191]. وقوله: (لا يلايمني) أصله: يلائمني بالهمز أي: يوافقني ثم خفف الهمز فصار ياء، وقد جاء في رواية بالواو [النهاية لابن الأثير 4/ 278]. (¬2) صحيح ابن خزيمة (2/ 368). (¬3) أخرجه أحمد (24/ 245). قال في بلوغ الأماني (5/ 178): (وأخرجه ابن خزيمة (1479)، والحاكم (1/ 247)، وصحح إسناده وأقره الذهبي)، وله شاهد من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه وقد تقدم في أول الكلام. (¬4) أخرجه أبو داود (2/ 257)، والحاكم (1/ 247)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. (¬5) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 266)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 247).

أحكام حضور المساجد

يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-، وإذا كان الأعمى لا رخصة له فالبصير أولى بأن لا تكون له رخصة (¬1). إن الجماعة في نظر الشارع هي جماعة المسجد لا جماعة البيوت ولا غيرها. والتضعيف خاص بجماعة المسجد -كما تقدم- ومن صلى في بيته مع أهله أو غيره واعتقد أنه صلى في جماعة وأنه ينال التضعيف فاعتقاده بمعزل عن الصواب. ومما يدل على أن الجماعة تكون في المساجد دون البيوت أن السلف من الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم إذا طمعوا في إدراك جماعة المسجد لم يكونوا يصلونها في البيوت، بل كان الواحد منهم إذا فاتته الجماعة في مسجده ذهب إلى آخر. قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر) (¬2). وعن معاوية بن قرة قال: (كان حذيفة -رضي الله عنه- إذا فانته الصلاة في مسجد قومه يعلق نعليه ويتبع المساجد حتى يصليها في جماعة) (¬3). وهكذا فعل سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى- (¬4). فيا أخي حافظ على صلاة الجماعة، وكن من عمار ييوت الله تعالى، وبادر لحضور المسجد، ففي ذلك الأجر العظيم، والخير الكثير في الدنيا والآخرة، وإياك والكسل في عبادة عظيمة، هي من أشرف العبادات وأفضل الطاعات، وستجد -إن شاء الله- ثواب صلاتك، ومحافظتك على الجماعة أحوج ما تكون إليه والله يتولى الصالحين. أحكام حضور المساجد أولًا: في أحكام الخروج إلى المسجد "وفيه ثمانية أحكام": الحكم الأول الخروج في أحسن هيئة الصلاة صلة بين العبد وربه، يقف المصلي بين يدي الله تعالى يناجيه، يقرأ كلامه، ويذكره، ويدعوه، فيلزم أن يكون في هذا الموقف العظيم على أحسن هيئة وأتم حال. ومن هنا وجبت طهارة البدن والثوب والبقعة، وكانت الطهارة من الأحداث والأنجاس شرطًا في صحة الصلاة على ما هو مبين في كتب الحديث والفقه. والمقصود هنا الحديث عن مكملات الطهارة التي ينبغي لكل مصلّ أن يتحلى بها قبل الدخول في الصلاة، وذلك لأن كثيرًا من المصلين لا يهتم بها ولا يلقي لها بالًا؛ لأن الصلاة تحولت عنده من عبادة إلى عادة، فهو يأتي إليها بهيئة أقل من الهيئة التي يذهب بها إلى مكان عمله، ومما يتعلق بحسن الهيئة ما يلي: أولًا- الزينة الظاهرة. ثانيًا- طيب الرائحة. ثالثًا- السواك. أولًا: الزينة الظاهرة، ويراد بها: (1) جمال الثياب: فينبغي للمصلي أن يلبس عند مناجاة ربه أحسن ثيابه في الصلوات كلها، من غير تفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار، أو صلاة الفجر وغيرها، إذ ليس المقصود من اللباس هو ستر العورة فحسب، وإنما ¬

_ (¬1) انظر معالم السنن للخطابي (1/ 160). (¬2) فتح الباري (2/ 131). (¬3) المصنف لابن أبي شيبة (2/ 205). (¬4) مصنف عبد الرزاق (1/ 515).

يراد مع ذلك التجمل للوقوف بين يدي رب العالمين، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. فهذه الآية دليل على وجوب ستر العورة بلبس الثياب عند كل صلاة. والثياب من نعم الله على عباده؛ لما فيها من ستر العورات، وهي -أيضًا- زينة وجمال، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت نظيفة. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب؛ لأنه من الزينة، والسواك؛ لأنه من تمام ذلك) (¬1). وقال ابن عبد البر: (إن أهل العلم يستحبون للواحد المطيق على الثياب أن يتجمل في صلاته ما استطاع من ثيابه وطيبه وسواكه) (¬2). وفي الحديث الصحيح: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل عن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس" (¬3). قال الشوكاني: (الحديث يدل على أن محبة لبس الثوب الحسن والنعل الحسن وتخير اللباس الجميل ليس من الكبر في شيء، هذا مما لا خلاف فيه فيما أعلم .. ) (¬4). ومن الناس من لا يهتم باللباس عند خروجه للصلاة، بل يصلي بثيابه التي عليه ولو كانت رثة أو لها رائحة كريهة، كقميص المهنة، ورداء العمل، ولا يكلف نفسه بتبديلها، فيؤذي المصلين بِدَرَنِها، ويُزْكِمُ أنوفهم بنتن ريحها، ويلوث فرش المسجد بوسخها، وهذا منهي عنه شرعًا؛ قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ .... } [الأعراف: 31]. مع أن هذا الإنسان لو أراد مقابلة شخص له جاه دنيوي، أو أراد الذهاب لمناسبة من المناسبات ما ذهب بهذه الثياب، بل يرتدي أجمل ما يملك، ويتطب بأحسن ما يجد، حتى لو لقي في المسجد من يكن له احترامًا تأسف على مظهره، وتمنى أنه لو لبس أحسن ثيابه، فكيف يهتم للوقوف أمام المخلوق ولا يهتم للوقوف أمام الخالق؟ إن هذا دليل على التساهل في شأن الصلاة، وعدم إدراك حقيقتها. فحري بالمسلم أن يستشعر عظمة من يقف بين يديه، ويعرف أنه سيكون في بيت من بيوت الله تعالى، ولا ريب أن الوقوف أمام رب العالمين وزيارة بيته يستدعي حسن المنظر وبهاء الطلعة. أضف إلى ذلك أن لقاء إخوانه المصلين والاجتماع بهم وإظهار المسجد بالمظهر المريح والرائحة الطيبة مما يؤكد جمال المظهر ونظافة الثياب، وذلك مما يعين على العبادة. ومن الناس من لا يهتم بلباس صلاة العشاء الآخرة ولا صلاة الفجر بحجة أن هذه ثياب الليل، وقد يصلي بلباس النوم كالقميص المعروف، ولا يحمّل نفسه عناء تبديلها، وذلك خوفًا على الثياب الثمينة أن تتأثر طياتها ويتبدل صقلها، والناس لا يرون هذا اللباس في هاتين الصلاتين غالبًا، وكأن التجمل صار لهام. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (3/ 402). (¬2) التمهيد (6/ 369). (¬3) أخرجه مسلم (91). ومعنى (بطر الحق): دفعه وإنكاره ترفعًا وتجبرًا، و (غمط الناس): احتقارها. ذكره النووي. (¬4) نيل الأوطار (2/ 124).

(2) ستر الفخذين:

فهل يتنبه الناس لهذا ولا سيما الشباب؟ لعل وعسى (¬1). (2) ستر الفخذين: إن ستر الفخذين من زينة الصلاة، سواء قلنا: هما عورة، أم لا؛ لأن زينة الصلاة شيء، والعورة شيء آخر. وهذا داخل في عموم قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ .... } [الأعراف: 31]. وبعض الملابس الصيفية تكون شفافة لا تستر الفخذين إذا كان على المصلي سراويل قصيرة، فينبغي التنبه لذلك، وأنه لا بد من لبس السراويل الطويلة أو تجنب هذا النوع من اللباس؛ لأن ستر العورة شرط في الصلاة، ولا بد أن يكون الساتر مما لا يصف البشرة؛ لأن الستر لا يحصل بدون ذلك (¬2). قال الإمام الشافعي رحمه الله: (وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجز الصلاة) (¬3). قال في شرح المهذب: (يجب الستر بما يحول بين الناظر ولون البشرة، فلا يكفي ثوب رقيق يشاهد من ورائه سواد البشرة أو بياضها ... ) (¬4). وكذا ينبغي تنبيه بعض الآباء إلى أنه لا ينبغي لهم أن يلبسوا صبيانهم السروايل القصيرة ويحضروهم إلى المساجد؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "مروهم بالصلاة لسبع" (¬5)، وهذا يشمل أمرهم بشروطها، ومن ذلك الوضوء وستر العورة وما يكمل ذلك (¬6). (3) ستر العاتق: العاتق: هو موضع الرداء من المنكب، وهو ما بين المنكب إلى أصل العتق، وستره مطوب حتى على القول بالاستحباب، فإن ستره من تمام الزينة. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء". وفى رواية: "عاتقيه" (¬7). قال في فتح الباري: (والمراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه، بل يتوشح بهما على عاتقيه؛ ليحصل الستر لجزء من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة، أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة) (¬8). وإذا ثبت أن العاتقين ليسا من العورة دل على أن الأمر بهذا الستر لحق الصلاة وحرمتها، ولذا يرى فريق من العلماء بطلان الصلاة إذا لم يكن على عاتقي المصلي من ثوبه شيء، وهو المذهب عند الحنابلة، كما في الإنصاف (¬9). وعند الجمهور أن هذا للاستحباب، كما نقله الحافظ في الفتح (¬10)، ولا ريب أن ستر المنكبين زينة وجمال، وقد ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صلى ¬

_ (¬1) اقرأ في كتاب (وفي الصلاة صحة ووقاية)، للدكتور: فارس علوان. (¬2) انظر الروض المربع بحاشية ابن قاسم (1/ 493). (¬3) الأم للشافعي (1/ 111). (¬4) شرح المهذب للنووي (3/ 170). (¬5) سيأتي تخريجه إن شاء الله في حضور الصبيان المساجد. (¬6) انظر تعليق الشيخ الألباني على حجاب المرأة ولباسها في الصلاة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ص 27). (¬7) أخرجه البخاري (352)، ومسلم (516). (¬8) فتح الباري (1/ 471). (¬9) الإنصاف: (1/ 454)، والمغني (2/ 290). (¬10) فتح الباري (1/ 472).

(4) ستر الرأس:

أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يتزيّن له" (¬1). ومن الخطأ ما يفعله بعض المصلين عندما يصلي بالفنلة العلاقية ذات الحبل اليسير الذي يكون على الكتف؛ لأن الأمر بوضع الثوب على العاتق لقصد الستر، وما كان بهذه الصفة لا يسمى سترة ولا لباسًا (¬2)، وكذا ما يفعله بعض المحرمين عندما يصلي وقد وضع وسط ردائه على رقبته وسدل طرفيه على صدره، فبقي العاتقان مكشوفين، وكذا الظهر والصدر والبطن، وهذا إخلال بالزينة المطلوبة من المصلي. (4) ستر الرأس: تقدم أن المطلوب من المسلم أن يدخل في صلاته على أحسن هيئة وأتم حال، لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فإن الله أحق من يتزين له"، وليس من الهيئة الحسنة والمنظر البهي كشف الرأس في أماكن العبادات، ولا سيما في مجتمع اعتاد أهله أن يستروا رؤوسهم كما في مجتمعنا هذا، وليس كشف الرأس أمرًا مقبولًا في أعرافنا وتقاليدنا؛ لأن هذا المجتمع نشأ على عادة ستر الرأس، والمقرر في باب اللباس أن يلبس الإنسان زيّ بلده بشرط التقيد بالضوابط الشرعية، وقد ذكر أهل العلم أنه يكره للإنسان مخالفة عادة بلده في اللباس، وأنه قد يدخل في لباس الشهرة، فيشار إليه بالأصابع، وربما كان ذلك يزري به، وينقص مروءته (¬3). ومن هنا يتأكد ستر الرأس حال الصلاة؛ لأن ذلك داخل في الزينة المأمور بها في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ .... } (¬4). ولو قيّد اعتبار ستر الرأس من زينة الصلاة في مجتمع يعتبر ستر الرأس عندهم من الزينة لكان متوجهًا؛ لعموم الآية. أما في مجتمع لا يرى ستره من الزينة فإنه لا يمكن أن نحدد فيه حكمًا شرعيًا، بل له أن يصلي مكشوف الرأس ولا حرج عليه (¬5). ومن الملاحظ أن عادة كشف الرأس قد تسربت إلى بلادنا، وسار عليها ثلة من شبابنا تشبهًا بالآخرين، وعشقًا لما هم عليه من الغث والسمين، وهم يسعون للقضاء على الشخصية الإسلامية وطمس معالمها المهتدية بكتاب الله وسنة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنه ليمر بك بعض الشباب وقد حسر عن رأسه، فتكره ذلك وتستهجنه؛ لأنه تأثر بغيره وترك زيّ بلده، والله المستعان. (5) لا يغطي فاه في الصلاة: وهذا من الآداب التي ينبغي للمصلي التنبه لها والاهتمام بها. وقد روى لنا الصحابي أبو هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن يغطي الرجل فاه (¬6). ولا ريب أن التلثم -وهو: تغطية الفم- ليس من الزينة ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط (10/ 170)، من طريق زهير بن عباد، قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. قال في "مجمع الزوائد" (2/ 51): إسناده حسن. اهـ. ولعل ذلك من أجل زهير فهو متكلم فيه كما في التهذيب (3/ 297)، وأخرجه البيهقي (2/ 236)، من طريق أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، به. قال الألباني: (وهنا إسناد صحيح على شرط الشيخين)، انظر السلسلة الصحيحة (3/ 356). (¬2) انظر المغني: (2/ 291). (¬3) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 527)، غذاء الألباب للسفاريني (2/ 163)، وتمام المنة للألباني (ص 164، 165). (¬4) سورة الأعراف: الآية 31. (¬5) انظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (12/ 294). (¬6) أخرجه أبو داود (643)، والترمذي (378)، وغيرهما، وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (6883). وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (2/ 242).

ثانيا: مما يتعلق بحسن الهيئة: الاهتمام بطيب الرائحة

المأمور بأخذها عند الصلاة، بل ليس من الزينة أصلًا. وأما التلثم على الأنف فلا يكره؛ لأن تخصيص الفم بالنهي عن تغطيته يدل على إباحة غيره، وروي عن ابن عمر أنه كرهه (¬1)، ومن المعلوم أن التلثم على الأنف يلزم منه تغطية الفم غالبًا. فعلى المسلم أن يمتثل النهي السابق، إلا لحاجة مثل أن يتثاءب، فإن السنّة أن يضع يده على فيه لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل" (¬2). ومن الناس من يتلثم في صلاته على أنفه وفمه، ولا سيما في أيام الشتاء في صلاة الفجر غالبًا. فينبغي التنبه لذلك والتنبيه عليه (¬3). ثانيًا: مما يتعلق بحسن الهيئة: الاهتمام بطيب الرائحة ومن تمام حسن الهيئة وجمال المظهر أن يكون المصلي طيب الرائحة، بعيدًا عن كل ما له رائحة كريهة، سواء كان من الجسم ذاته أو من أسباب خارجية كالثوم والبصل والكراث، فقد نهى الشرع الإنسان إذا تناول شيئًا من ذلك أن يحضر المساجد؛ لما في حضوره من أذية الملائكة والمسلمين. ودرء هذه الأذية العامة أولى من مراعاة مصلحة هذا الشخص بحضور المسجد؛ لأنه هو السبب في تفويت ذلك على نفسه. وقد ورد عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أكل من هذه الشجرة -يريد الثوم- فلا يغشانا في مساجدنا" (¬4). وعنه -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربنّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬5). وعنه أيضًا -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا أو فليعتزل مسجدنا ويقعد في بيته"، وإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحًا، فسأل فأُخبر بما فيها من البقول، فقال: "قربوها" إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، قال: "كل فإني أناجي من لا تناجي" (¬6). فهذه نصوص صريحة صحيحة تدل بمفهومها على أن الرائحة الطيبة لا بد منها لمن أراد حضور المساجد. وكذا مصلي العيد (¬7)، وتدل كمنطوقها على أن من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا فهو مأمور باعتزال مساجد المسلمين، وجماعتهم، وعدم قربها، وأنه مأمور من قبل الشرع بالجلوس في منزله، عقوبة له حيث فوت على نفسه فضيلة الجماعة، ولم يبال بأذية الملائكة، ولم يراع شعور إخوانه المصلين. وينبغي أن يفهم المسلم أن إباحة هذه الخضروات ذوات الرائحة الكريهة ليس دليلًا على عدم وجوب صلاة الجماعة، بحجة أن الجماعة لو كانت واجبة لحرم جميع ما يمنع حضورها. وذلك لأن كون ¬

_ (¬1) انظر المغني (2/ 298). (¬2) أخرجه مسلم (2995). (¬3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/ 344)، ففيه تعليل للنهي عن تغطية الفم في الصلاة. (¬4) أخرجه البخاري (816)، ومسلم (564). (¬5) أخرجه مسلم (564)، (74)، وانظر: (عمدة الأحكام)، تحقيق: محمود الأرناءوط (124). (¬6) أخرجه البخاري (718)، ومسلم (564)، (73)، واللفظ للبخاري. (¬7) انظر شرح النووي على مسلم (5/ 52)، وفتح الباري (2/ 343).

ثالثا: السواك

أكلها يحول دون حضور الجماعة ليس لسقوط الطلب عن المكلف بل هو مطالب بالجماعة، ولكنه منع من حضورها وأمر بالقعود في بيته عقوبة له؛ لوجود المانع وهي الرائحة المؤذية، ألا ترى أن حضور الطعام يسوغ ترك الجماعة لمن قدّم بين يديه وهو محتاج له مع كون ذلك مباحًا، أما إذا أراد إنسان أن يتخذ أكل هذه البقول حيلة لترك الجماعة والصلاة في بيته فإن ذلك يحرم عليه (¬1). وهذا الحكم، وهو نهي من أكل ثومًا وبصلًا أن يدخل مساجد المسلمين، خاص بالنَّيئ لأجل رائحته. وأما الثوم المطبوخ الذي ذهبت رائحته فلا مانع منه، لكن إن لم تذهب بقي الحكم، فإن الحكم إذا لم يكن له إلا علة واحدة فإنه يدور معها وجودًا وعدمًا، والشرع علل ذلك بالأذية فمتى وجدت الأذية ترتب الحكم (¬2). وعن قرّة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن هاتين الشجرتين وقال: "من أكلهما فلا يقربن مسجدنا"، وقال: "إن كنتم لا بدّ آكليهما فأميتوهما طبخًا" قال: يعني البصل والثوم (¬3). وهذا النهي عن حضور المسجد ليس خاصًا بالجزء الداخلي منه، بل رحبة المسجد وساحته كذلك؛ لأنها من المسجد، وقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: إنكم أيها الناس تأكلون من شجرتين ما أراهما إلا خبيثين: هذا البصل والثوم، ولقد رأيت نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا (¬4). وإذا كان هذا هو الحكم الشرعي في كل الثوم والبصل والكراث، وهي من المباحات؛ فكيف يكون حكم شرب الدخان ونحوه وهو محرم شرعًا إذا حضر شاربه مساجد المسلمين وآذاهم برائحته، وقبل ذلك آذى الملائكة المكرمين، وكيف يناجي ربه بتلاوة كلامه وذكره ودعائه بهذا الفم ذي الرائحة الكريهة؟ إن شارب الدخان داخل تحت عموم النهي عن حضور المسجد لمن أكل ثومًا من باب أولى؛ لوجود العلة وهي الأذية بصورة أعظم من أذية أكل الثوم، بل إن شارب الدخان بالإضافة إلى أذيته قد تلبس بأمر محرم مصرًّا عليه، لأنه مضر بالصحة بإخبار الأطباء المعتبرين، وفيه إضاعة المال، وهو مسكر تارة ومفتر أخرى، ولا أدري كيف يرضى هذا المسلم بأذية إخوانه في مساجدهم برائحة جسمه أو ثيابه أو فمه، مما يجعلهم يتضايقون من مجاورته في الصلاة، فيكون سببًا في عدم خشوعهم وتلذذهم بمناجاة الله تعالى، وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" (¬5)، فإذا كان هذا في الطرق فكيف يكون الإيذاء في المساجد؟؟ ثالثًا: السواك وهو من مكملات الطهارة، لأنه تنظيف للفم مما علق به من أوساخ تسبب الروائح الكريهة، وقد ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 343)، ومعالم السنن للخطابي (5/ 329)، تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام لابن عثيمين (2/ 68). (¬2) انظر فتح الباري (2/ 343). (¬3) رواه أبو داود (10/ 305)، وأحمد (17/ 74 الفتح)، وسنده جيد، وقد رواه مسلم في صحيحه (567)، عن عمر -رضي الله عنه- موقوفًا عليه، وهو المذكور بعد. (¬4) انظر فتح الباري (2/ 344). (¬5) رواه الطبراني في الكبير (3050)، بإسناد حسن.

الحكم الثاني المبادرة بالحضور إلى المسجد

اعتنى الشارع بالسواك عند الصلاة، ورغب فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولًا وفعلًا. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، وفي رواية لمالك: "عند كل وضوء" (¬1). وعنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (¬2)، فهو مرضاة للرب -تبارك وتعالى- من جهة أن الإتيان بالمندوب امتثالًا موجب للثواب، ومن جهة أنه مقدمة للصلاة، والصلاة مناجاة، ولا ريب أن طيب الرائحة يحبه صاحب المناجاة، وهو مطهرة للفم، لأنه الطريقة المثلى لتنظيف الأسنان والفم، وقد وجد العلماء فائدة ومفعول السواك بعد أربعة عشر قرنًا من ذكر المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لتلك الحقيقة، وثبت بعد الدراسات والأبحاث التي أجريت على السواك أنه يحوي جميع المواد المطهرة القوية التي تساعد على الفتك بالجراثيم التي تتسبب في أمراض الفم واللسان. كما ثبت أنه يفوق الفرشاة والمعجون، ولا يوجد معجون للأسنان يحتوي على المواد التي يحويها السواك، بل ثبت أن أغلب المعاجين الموجودة في السوق تجارية ورخيصة لا يقصد بها إلا الربح، وقد لا يستفيد منها الفم واللثة. ولا فرق في استحباب السواك عند الصلاة بين الفريضة والنافلة، حتى صلاة الصائم بعد الزوال، كالظهر والعصر يتأكد فيها السواك على أرجح الأقوال، لعموم أدلة الحث على السواك عند الصلاة كحديث أبي هريرة المتقدم. فإذا كان السواك مطهرة للفم مرضاة لله تعالى فحري بالمسلم والمسلمة أن يهتم كل منهما به عند الصلاة فرضًا كانت أو نفلًا، فإن من الناس من لا يقيم للسواك وزنًا، إما للجهل بقدره أو التساهل، والتساهل عند النساء أكثر، فليحرص المسلم على ما يحبه مولاه ويقربه إليه ويستاك حتى عند النافلة، فإن من الناس من يتساهل به ولا سيما في النافلة التي بعد الصلاة (¬3). الحكم الثاني المبادرة بالحضور إلى المسجد اعلم أن نصوص الشريعة قد وردت بالحث على المبادرة بالأعمال الصالحة، والمسارعة لأداء الواجبات، ومنها حضور المساجد والجلوس فيها لانتظار الصلاة. وتضمنت هذه النصوص ما أعد الله تعالى من الفضل والتكريم لمن اتصف بهذه الصفة العالية التي تدل على رغبة صاحبها في فعل الخيرات والمسارعة لنيل القربات. قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. وقال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148]. وقال تعالى عن الصفوة من عباده: {يسارعون في الخيرات} [الأنبياء: 90]. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: (والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (847)، ومسلم (252)، والحديث له طرق، وله ألفاظ. (¬2) أخرجه النسائي (1/ 10)، وأحمد (6/ 47)، وعلّقه البخاري مجزومًا به (4/ 158 الفتح). (¬3) انظر: كتاب (زينة المرأة المسلمة)، لراقمه (ص 95). ط الرابعة.

بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وجهاد ونفع متعدّ وقاصر) (¬1). إن التبكير إلى المساجد وانتظار إقامة الصلاة والاشتغال بالذكر والقراءة والنوافل من أسباب المغفرة ومن أعظم الخيرات، ولقد أجمل النبي -رضي الله عنه- الثواب العظيم في التبكير بقوله عليه الصلاة والسلام: "ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ... " الحديث (¬2)، ويأتي بتمامه إن شاء الله. قال النووي: (التهجير: التبكير إلى الصلاة، أيّ صلاة كانت. قال الهروي وغيره: وخصه الخليل بالجمعة، والصواب المشهور: الأول) (¬3). وقال ابن أبي جمرة: (فيه دليل على أن المسابقة تكون حسًا ومعنى. فهنا تكون معنى لا حسًا، فإن المسابقة على الأقدام حسًا تقتضي الجري والسرعة. والجري هنا والسرعة ممنوعان من حديث آخر. فلم يبق هنا إلا أن تكون معنى وهي الشغل بمراقبة الوقت) (¬4). إن المبادرة إلى المساجد دليل على تعظيم الصلاة وتعلق القلب بالمسجد، وعلى قدر الطاعة عمومًا في نفس المصلي، وعلى أن الصلاة مقدمة عنده على كل شأن من شؤون حياته، وهذا -والله- عنوان الفلاح وعلامة الصلاح. قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38]. إن الإنسان ما دام حيًا فهو مشغول بجسمه وعقله كلّ بحسب حاله. ولكن لا شغل عند حضور الصلاة عن الصلاة لمن وفقه الله تعالى لطاعته ورزقه تعظيم شعائره، فقدم طاعة مولاه ومراده ومحبته على مراده ومحبته، فسارع إلى الخيرات ونافس في نيل القربات، وازداد يقينه بأن من تعظيم الصلاة الإتيان إلى المسجد قبل الإقامة. ولقد كان السلف الصالح على حرص شديد على صلاتهم، يبادرون إليها مهما كان الأمر؛ لأنهم عرفوا قدرها عند خالقهم، فصار ذلك سجية لهم وخلقًا، وإليك طرفًا من أخبارهم، فنعم القدوة هم بعد نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. ذكر الإمام ابن المبارك عن عبدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: (ما دخل وقت صلاة قط حتى اشتاق إليها) (¬5). ولم يكن -رضي الله عنه- يشتاق إلى الصلاة فحسب، بل كان يستعد لها ويحضر إلى المسجد قبل الإقامة، فقد ذكر الحافظ الذهبي عنه أنه قال: (ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء) (¬6). ¬

_ (¬1) تفسير ابن سعدي (1/ 112). (¬2) أخرجه البخاري (590)، ومسلم (437). (¬3) انظر شرح مسلم للنووي (4/ 402)، وفتح الباري (2/ 97). (¬4) بهجة النفوس لابن أبي جمرة (1/ 214). (¬5) كتاب الزهد (ص 460). (¬6) سير أعلام النبلاء (3/ 164).

فضائل المبادرة إلى المسجد وفوائدها

وهذا الأحنف بن قيس -رحمه الله- قيل له: إن فيك أناة شديدة! فقال: (قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها) (¬1). وكان سعيد بن المسيب -رحمه الله- يحضر المسجد قبل الأذان واستمر على ذلك مدة لا تقل عن ثلاثين سنة؛ فقد روى الإمام ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: (ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد) (¬2). ونقل ابن سعد عنه أنه قال: (ما سمعت تأذينًا في أهلي منذ ثلاثين سنة) (¬3). ولم تفته صلاة الجماعة طيلة أربعين سنة، فقد روى ابن سعد -أيضًا- عنه أنه قال: ما فاتته صلاة الجماعة منذ أربعين سنة ولا نظر في أقفائهم (¬4). وكان الأعمش رغم كبر سنه يحرص على التكبيرة الأولى. فقد قال وكيع: (اختلفت إليه قريبًا من سنتين ما رأيته يقضي ركعة، وكان قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى) (¬5). وكان المحدث الثقة بشر بن الحسن يقال له: (الصفّي)؛ لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة (¬6). وهذا إبراهيم بن ميمون المروزي أحد الدعاة المحدثين الثقات من أصحاب عطاء بن أبي رباح، وكانت مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة. قالوا: (كان فقيهًا فاضلًا من الأمّارين بالمعروف). قال ابن معين: (كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردّها) (¬7). قال قاضي الشام سليمان بن حمزة المقدسي، وهو من ذرية ابن قدامة صاحب كتاب "المغني": (لم أصلّ الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلهما قط) مع أنه قارب التسعين (¬8). فضائل المبادرة إلى المسجد وفوائدها جاءت النصوص في فضل التبكير إلى المسجد، وبيان ما رتب الله تعالى على ذلك من الأجر العظيم، وما يحصل من الفوائد الجمة التي يظفر بها كل من بادر، مما يجعل المسلم ينهض مسارعًا لأداء فريضة الله إذا سمع منادي الله يدعوه: (حي على الصلاة حي على الفلاح)، متخليًا عن مشاغله، فرحًا بحلول وقت المناجاة. وإن المتأمل في هذه الفضائل والفوائد ليرى عظيم فضل الله تعالى وسعة رحمته بعباده الصالحين الذين لبوا النداء ونهضوا إليه مبادرين، فأثابهم الله على حسن صنيعهم وزادهم من فضله. وهذه -أخي المسلم- نبذة لا بأس بها في فضائل وفوائد المبادرة جمعتها من النصوص وذيلتها بكلام أهل العلم -رحمهم الله- أضعها في العناوين التالية، راجيًا من الله تعالى أن يجعلها نافعة، فمنها: ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد (7/ 96). (¬2) المصنف (1/ 351). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 131). (¬4) المصدر السابق. (¬5) تهذيب التهذيب (4/ 196). (¬6) المصدر السابق (1/ 391). (¬7) المصدر السابق أيضًا (1/ 151). (¬8) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 365)، وانظر كتاب (الرقائق)، للأستاذ محمد أحمد الراشد (ص 24).

الاتصاف بصفة من يظلهم الله في ظله:

الاتصاف بصفة من يظلهم الله في ظله: إن من السعداء في الدار الآخرة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الرجل الذي تعلق قلبه بالمسجد، فأحبه حبًا شديدًا، إذا أدى فريضة انتظر الأخرى، يصلي مع الجماعة، ويبادر إلى الحضور. فالمبادرة وتعلق القلب في المسجد أمران متلازمان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". فذكر منهم: "ورجل قلبه معلق بالمساجد" وفي رواية الإمام مالك: "ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه" (¬1). قال ابن عبد البر في التمهيد: (هذا أحسن حديث يروى في فضائل الأعمال وأعمها وأصحها إن شاء الله. وحسبك به فضلًا؛ لأن العلم محيط بأن كل من كان في ظل الله يوم القيامة لم ينله هول الموقف .. ) (¬2). ويقول الإمام النووي في شرح قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ورجل قلبه معلق في المساجد": (معناه: شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها. وليس معناه: دوام القعود فيها) (¬3). أن المبادر في صلاة ما انتظر الصلاة: إن مما يدل على فضل صلاة الجماعة وفضل المبادرة بحضور المسجد أن من خرج إليها فهو في صلاة طال الوقت أو قصر. وهذا فضل من الله ورحمة. دل على ذلك ما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة .. ". وفى رواية: "إن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ما لم يقم من مصلاه أو يحدث .. " (¬4). ورواه مالك موقفًا عن نعيم المجمر أنه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: (إذا صلّى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي) (¬5). قال ابن عبد البر: (في هذا الحديث دليل على أن فضل منتظر الصلاة كفضل المصلي؛ لأنه معلوم أن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه" لم يرد به أن ينتظر الصلاة قائم ولا أنه راكع ساجد؛ وإنما أراد أن فضل انتظار الصلاة بالقصد إلى ذلك وبالنية فيه كفضل الصلاة، وأن منتظرها كالمصلي في الفضل، ولله أن يتفضل بما شاء على من يشاء فيما شاء من الأعمال، لا معقب لحكمه ولا راد لفضله، ومن الوجه الذي عرفنا فضل الصلاة فيه عرفنا فضل انتظارها، وقد علم الناس أن المصلي في تلاوته وقيامه وركوعه أتعب من المنتظر للصلاة ذاكرًا كان أو ساكتًا، ولكن الفضائل لا تدرك بنظر، ولا مدخل فيها لقياس، ولو أخذت قياسًا لكان من نوى السيئة كمن نوى الحسنة، ولكن الله منعم كريم، متفضل رحيم، يكتب الحسنة بالنية وإن لم تعمل، فإن عملت ضعفت عشرًا إلى سبع مائة، والله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (629)، ومسلم (1031). (¬2) التمهيد (2/ 282). (¬3) شرح النووي (7/ 127). (¬4) أخرجه البخاري (434، 628)، ومسلم (649). (¬5) أخرجه مالك (1/ 161).

يضاعف لمن يشاء، ولا يؤاخذ عباده المسلمين بما وسوست به صدورهم، ونووا من الشر ما لم يعملوه، وهذا كله لا مدخل فيه للقياس) (¬1). وقال أيضًا: (هذا الحديث من أفضل ما يروى في فضل المنتظر للصلاة؛ لأن الملائكة تستغفر له، وفي استغفارهم له دليل على أنه يغفر له -إن شاء الله- ألا ترى أن طلب العلم من أفضل الأعمال. وغنمًا صار كذلك -والله أعلم- لأن الملائكة تضع أجنحتها له بالدعاء والاستغفار ... ) (¬2). واعلم أن في الموقوف الذي رواه مالك -رحمه الله- فائدة مهمة، وهي أن قوله في رواية البخاري: "ما لم يقم من مصلاه" خرج مخرج الغالب. والمراد به المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد. فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة كان كذلك -إن شاء الله تعالى- ولا سيما إن كان لغرض يعينه على الانتظار كالانتقال من مكان بارد إلى دافئ أو من حار إلى بارد، أو ليستند إلى حائط ونحو ذلك. بل إن قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا في صلاة ما انتظر الصلاة" يفيد هذا المعنى، والله أعلم (¬3). وقد جعل الله تعالى انتظار الصلاة بعد الصلاة من أسباب محو الذنوب وتطهير العبد من خطاياه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات"؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" (¬4). فالحديث بعمومه يفيد فضل انتظار الصلاة، والمبادرة بحضور المسجد. فإن الانتظار يشمل انتظار الوقت وانتظار الجماعة، كما يشمل انتظارها في المسجد بالحضور مبكرًا، وانتظارها في البيت أو الشغل أو السوق ليبادر بالحضور، وذلك لتعلق فكره وقلبه بها، فهو دائم الحضور والمراقبة غير ملته عن أفضل العبادات البدنية بشيء (¬5). وتأمل كيف شبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه الأعمال الثلاثة بالرباط الذي هو الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها. مما يؤكد فضل هذه الأعمال وعظيم مكانتها عند الله تعالى. وقد ورد -أيضًا- في فضل المبادرة إلى المسجد التي من لوازمها توطن المسجد حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشش الله تعالى إليه كما يتبشش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم" (¬6). قال ابن الأثير: (البشّ: فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة والإقبال عليه) (¬7). وقد بوب ابن ¬

_ (¬1) التمهيد (19/ 26، 43). (¬2) المصدر السابق. (¬3) انظر فتح الباري (2/ 136)، والفواكه العديدة (1/ 102). (¬4) أخرجه مسلم (251). (¬5) انظر دليل الفالحين (1/ 366). (¬6) أخرجه ابن ماجه (1/ 262)، والحاكم (1/ 213). وقال: صحيح على شرط الشيخين، وانظر صحيح الترغيب والترهيب (1/ 202). (¬7) النهاية (1/ 130).

صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له:

خزيمة على هذا الحديث بقوله: (باب ذكر فرح الرب تعالى بمشي عبده إلى المسجد متوضيًا) (¬1). صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. فهذه نعمة عظيمة أنعم الله بها على عباده الطائعين تستدعي منهم شكرها والإكثار من ذكر الله تعالى الذي لطف بهم ورحمهم وجعل ملائكته يستغفرون لهم. فكان ذلك سببًا في هدايتهم وإخراجهم من ظلمات الذنوب والجهل إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل (¬2)، والصلاة من الله تعالى: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، والصلاة من الملائكة: الدعاء والاستغفار (¬3). إن الله تعالى قد كلف الملائكة بالدعاء للذين يؤمون المساجد للصلاة ويجلسون فيها منتظرين الإقامة، أو يمكثون في مصلاهم بعد الصلاة قائلين: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه. كما تقدم في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. فانظر -أخي المسلم- إلى قدرك عند الله تعالى إذا أطعته؛ كلف ملائكته المقربين بالدعاء لك والصلاة عليك، ما أعظمها من نعمة وأكبرها من منحة!! المشي إلى المسجد بسكينة: إن من فوائد التبكير لحضور الصلاة أن المصلي يمشي إليها بسكينة ووقار، لسعة الوقت. أما الذي يأتي متأخرًا فإنه يسرع، ولا يصل المسجد إلا وقد حفزه النفس، وهذا أمر ملاحظ. وسيأتي الكلام في هذا الأدب قريبًا إن شاء الله. دخول المسجد داعيًا: وهذه فائدة أخرى، فإن المبكر للصلاة يتمكن من الإتيان بالدعاء المأثور عند دخول المسجد؛ لأنه لا يخاف فوت الصلاة فيسرع ويخل بهذا الدعاء، وسأذكر ذلك إن شاء الله تعالى. تحصيل الصف الأول: في الصف الأول فضل عظيم دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فهو على مثل صف الملائكة. والله تعالى وملائكته يصلون على الصفوف الأولى، وقد صلى النبي الكريم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الصف الأول والثاني. وهذه الفضائل لا يظفر بها إلا من سارع لحضور الجماعة، وتقدم للصف الأول، كما سيأتي ذكره إن شاء الله. تحصيل ميمنة الصف: إن تحصيل ميمنة الصف والدنو من الإمام لا يكون لمن جاء متأخرًا، فإن أردت فضيلة ميمنة الصف فعليك بالمبادرة؛ لأن جهة يمين الإمام أشرف وأفضل من جهة يساره؛ ولهذا لما قام ابن عباس -رضي الله عنهما- عن يسار النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذ بيده حتى أقامه عن يمينه، وقد بوب البخاري -رحمه الله- على حديث ابن عباس بقوله: "باب: ميمنة المسجد والإمام" قال ابن رجب -رحمه الله-: "ويستدل بذلك ¬

_ (¬1) صحيح ابن خزيمة (2/ 374). (¬2) انظر تفسير ابن سعدي (4/ 158). (¬3) ذكر ذلك البخاري عن أبي العالية. انظر فتح الباري (8/ 532).

الدعاء بين الأذان والإقامة:

على أن جهة يمين الإمام للمأمومين الذين يقومون خلف الإمام أشرف وأفضل من جهة يساره" (¬1). ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يحبون أن يكونوا عن يمين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا صلوا؛ يقول البراء -رضي الله عنه-: كنا إذا صلينا خلف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: "رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك" (¬2). يقول العلامة محمد شمس الحق تعليقًا على كلام البراء -رضي الله عنه-: (لكون يمين الصف أفضل، ولكونه -عليه الصلاة والسلام- يقبل علينا بوجهه عند السلام أولًا قبل أن يقبل على من يساره) (¬3). الدعاء بين الأذان والإقامة: من مواطن إجابة الدعاء: الدعاء بين الأذان والإقامة، وذلك -والله أعلم- لشرف الوقت. فعلى المسلم أن يبادر بالحضور إلى المسجد ويدعو بين الأذان والإقامة؛ لعل الله أن يستجيب له؛ فإن من ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة، لأن الله تعالى يقول: {ادعوني أستجب لكم} وقد ورد عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة" وعند أحمد وابن خزيمة: "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد فادعوا" (¬4). ومثل هذا مقيد بما إذا اجتمعت شروط الدعاء وآدابه، وما لم يكن دعاء بإثم ولا قطيعة رحم، والله أعلم. الصلاة قبل الإقامة: عن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة"، ثم قال في الثالثة: "لمن شاء" (¬5). وهذا الحديث دليل على استحباب النافلة بين الأذان والإقامة؛ لأن المراد بالأذانين: الأذان والإقامة؛ لأن الأذان إعلام بحضور الوقت، والإقامة أذان بفعل الصلاة. والصلاة قبل الإقامة قد تكون تحية المسجد، وقد تكون نفلًا مطلقًا أو مقيدًا. وعن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان" (¬6). إن الصلاة قبل الإقامة حمى للفريضة، وذريعة للمداومة عليها؛ لأن النوافل رياضة للنفس، يستدعي القيام بها أداء الفرض على أكمل وجه، فمن أدى النوافل استمر على الفرائض، ومن قصر في النوافل فهو عرضة لأن يقصر في الواجب، وهذا ملاحظ، والتوفيق من الله (¬7). إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام: من ثمار المبادرة إلى المسجد: إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، وفي ذلك ثواب عظيم، فعن أنس بن ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري لابن رجب (6/ 294)، وابن حجر (2/ 213). (¬2) أخرجه مسلم (709)، واللفظ له. (¬3) عون المعبود (2/ 322). (¬4) أخرجه أحمد (20/ 41)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (67)، وابن خزيمة (67) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس، به وهنا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وأخرجه أبو داود (2/ 224)، والترمذي (1/ 624)، والنسائي (68)، وغيرهم من طريق زيد العمّي، وإسناده ضعيف، وحسنه الترمذي، ولعل ذلك للطريق الذي قبله. وانظر: "نتائج الأفكار" لابن حجر (1/ 364). (¬5) أخرجه البخاري (601)، ومسلم (838)، وانظر معالم السنن للخطابي (2/ 83). (¬6) أخرجه ابن حبان (4/ 77)، وانظر الصحيحة للألباني الحديث (232). (¬7) انظر الموافقات للشاطبي (1/ 151)؛ وأصول الفقه لأبي زهرة (ص 32).

التأمين مع الإمام:

مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق" (¬1). قال الطيبي في شرح الحديث: (يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق، ويوفقه لعمل أهل الإخلاص، وفى الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق، أو يشهد له أنه غير منافق، فإن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وحال هذا بخلافهم) (¬2). قال النووي في شرح المهذب: (يستحب المحافظة على إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، بأن يتقدم إلى المسجد قبل وقت الإقامة ... ) ثم قال: (واختلف أصحابنا فيما يدرك به فضيلة تكبيرة الإحرام على خمسة أوجه: أصحها: بأن يحضر تكبيرة الإمام، ويشتغل عقبها بعقد صلاته من غير وسوسة ظاهرة، فإن أخر لم يدركها .. ) (¬3). ومما يدل على ذلك أن من أهل العلم من قال: إذا أقيمت الصلاة وهو في نافلة قطعها، ليدرك الفريضة من أولها. وسيأتي -إن شاء الله تعالى- الكلام على هذه المسألة. التأمين مع الإمام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬4). وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: "إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم يؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: أمين، يجبكم الله" (¬5). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا أمّن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬6). إن في التأمين وراء الإمام ثوابًا عظيمًا وخيرًا كثيرًا لا يحصل لمن صلى منفردًا. فأولًا: أن الملائكة تؤمّن مع المصلين. والمراد بهم -والله أعلم- من أذن لهم بالتأمين مع الإمام، لا جميع الملائكة، فيما يظهر (¬7). وثانيًا: أن من وافق تأمينه تأمين الملائكة وصادفه في الزمن غفر له ما سبق من الذنوب. وثالثًا: أن الله تعالى يستجيب دعاءهم. وهذه الأمور الثلاثة تدل على فضل التأمين والاهتمام به. وهذا إنما يكون بالتقدم إلى المسجد وحضور تأمين الإمام، وانظر إلى هذا القول اليسير الذي لا كلفة فيه كيف ترتبت عليه هذه الفضائل وأهمها ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2/ 440)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 77). (¬2) شرح الطيبي (3/ 74). (¬3) المجموع شرح المهذب (4/ 206)، وشرح النووي على مسلم (4/ 363)، وفتح الباري (2/ 179). (¬4) أخرجه البخاري (749)، ومسلم (410). (¬5) هنا جزء من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أخرجه مسلم (404). (¬6) أخرجه البخاري (2/ 262 فتح)، ومسلم (410). (¬7) انظر فتح الباري (2/ 265).

الصلاة بخشوع:

مغفرة الذنوب واستجابة الدعاء! وهذا فضل من الله ونعمة (¬1). وقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" (¬2). وظاهر قوله في الحديث المتقدم: "إذا أمّن الإمام فأمّنوا" أن تأمين المأموم يتأخر عن تأمين الإمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء، لكن حديث "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين" يدل على اقتران تأمين المأموم بتأمين الإمام، ليقارن تأمين الملائكة في السماء، وذلك لأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه، ويكون معنى قوله: "إذا أمّن الإمام فأمّنوا" أي: إذا شرع في التأمين، وهذا قول الجمهور. ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬3). فعلل باقتران تأمين الإمام والملائكة. ولذا قال العلماء: لا تستحب للمأموم مقارنة إمامه في شيء غير التأمين، والله أعلم (¬4). الصلاة بخشوع: اعلم أن الله تعالى أثنى في كتابه العظيم على الخاشعين في صلاتهم. ووعدهم أجرًا عظيمًا فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11]. ولقد بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثر الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها؛ فقال -عليه الصلاة والسلام- في بيان فضل الوضوء وثوابه: "فإن هو قام، وصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو أهله، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" (¬5). وعن عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها" (¬6). وإن هذا وغيره يحمل المسلم على أن يخشع في صلاته ويقبل على الله تعالى، محاولًا قدر استطاعته التجرد عن كل ما يشغله ويحول بينه وبين الخشوع. يقول ابن كثير -رحمه الله-: ( .. والخشوع في ¬

_ (¬1) المصدر السابق (2/ 266). (¬2) أخرجه ابن ماجه (1/ 278)، بإسناد صحيح، كما في "الزوائد" للبوصيري (1/ 176)، وأخرجه ابن خزيمة (1/ 288). (¬3) أخرجه أحمد (13/ 95)، والنسائي (2/ 144)، وإسناده صحيح. (¬4) انظر: فتح الباري لابن رجب (7/ 91)، ولابن حجر (2/ 262). (¬5) هذا جزء من حديث طويل، أخرجه مسلم عن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- (832). (¬6) أخرجه أبو داود (3/ 3)، والنسائي في "الكبرى" (1/ 211)، وسنده حسن. صحيح الجامع (2/ 65).

الحكم الثالث الدعاء عند الخروج إلى الصلاة

الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقرة عين، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "حبب إليّ الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة .. ") (¬1). وتعتبر المبادرة لحضور المسجد والانقطاع عن مشاغل الدنيا ومتاعبها في تلك اللحظات من أسباب الخشوع في الصلاة وإقبال المصلي على ربه. فإن المصلي كلما طال لبثه في المسجد واشتغل بالصلاة والقراءة والذكر والدعاء قبل إقامة الفريضة حضر قلبه، وسكنت جوارحه، ووجد نشاطًا وراحة وروحًا، فهو يقول: أصلي فأستريح بصلاتي، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا بلال أرحنا بالصلاة" (¬2). وإنك لترى علامات الهدوء والطمأنينة بادية على وجوه المبادرين حتى إنهم آخر أهل المسجد خروجًا في الغالب، وهم أولهم دخولًا، وانظر إلى حال المتأخرين الذين تفوتهم الصلاة أو بعضها فهم أسرع الناس خروجًا، مما يدل على أن للمبادرة والبقاء في المسجد لانتظار الفريضة أثرًا كبيرًا. وبعد .. فهذه نبذة لا بأس بها في فضائل المبادرة لحضور الصلاة، لعلك بعد قراءتها أو سماعها تشمر مع المشمرين، راغبًا إلى الله تعالى أن يحقق لك هذه الفضائل، ويمنحك هذه الفوائد، فتكون من المفلحين. الحكم الثالث الدعاء عند الخروج إلى الصلاة إذ ارتدى المصلي ثيابه النظيفة واهتم برائحته وسواكه وخرج من بيته إلى المسجد سنّ له أن يدعو بدعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي ورد في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: رقدت عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاستيقظ فتسوك، وتوضأ، وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] فقرأ هؤلاء الآيات حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين، فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن، فخرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، واجعل فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم اعطني نورًا ... " (¬3). واعلم أخي المسلم أن هذا الدعاء ورد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مواطن أخرى غير وقت الخروج إلى المسجد، فقد ورد في بعض الروايات عند مسلم: (فجعل يقول في صلاته أو في سجوده)، وعند البخاري في الدعوات: (فصلى ولم يتوضأ، وكان يقول في دعائه)، وعند الترمذي: (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين فرغ من صلاته ... ) الحديث، وفيه زيادات. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (5/ 456)، والحديث أخرجه أحمد (3/ 128)، والنسائي (7/ 61، 62). وغيرهما من حديث أنس -رضي الله عنه-، وهو حديث صحيح. (¬2) راجع الوابل الصيب لابن القيم (ص 25، 26). والحديث أخرجه أبو داود (4985)، وأحمد (5/ 364)، وهو حديث صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (763)، وأصله في البخاري، لكن جاء بدل قوله: (فخرج إلى الصلاة وهو يقول): (وكان يقول في دعائه). وانظر: شرح النووي على مسلم (6/ 295 - 298)؛ وفتح الباري (11/ 116)، وتحفة الأحوذي (9/ 367). وقد ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في (آداب المشي إلى الصلاة)، ص 4.

الحكم الرابع الذهاب إلى المسجد ماشيا

وهذه الروايات كلها ثابتة، وطريق الجمع بينها أن يدعو المسلم بهذا الدعاء في هذه المواضع كلها، كما أفاد ذلك الحافظ أبن حجر في "تخريج أحاديث الأذكار" (¬1). وهذه قاعدة في كل عبادة ترد على وجوه متنوعة ثابتة، كأدعية الاستفتاح، وصيغ التشهد، وأدعية الرفع من الركوع، وغير ذلك، فالأفضل أن يفعل هذا تارة، ويفعل هذا تارة؛ ليكون عاملًا بالسنة، وإن كان بعض الأنواع أرجح وأفضل (¬2). وأحسب أن هذا الدعاء من السنن المهجورة اليوم، التي قلما يفطن لها كثير من الناس، لا سيما وأنه يحتاج إلى حفظ، فينبغي حفظه والاعتناء به؛ فإنه دعاء عظيم؛ لأنه دعاء بالعلم والهداية، والمسلم إذا اجتمع له نور الفطرة ونور الإيمان ونور العلم حاز الخير كله، وليس كل أحد يصلح لذلك. قال تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]. قال النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم: (قال العلماء: سأل النور في أعضائه وجهاته، والمراد به: بيان الحق وضياؤه والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجملته في جهاته الست حتى لا يزيغ شيء منها عنه) (¬3). هذا وقد ذكر النووي في كتابه: (الأذكار) أن المصلي إذا خرج من بيته يضم هذا الدعاء إلى الأدعية الواردة فيما يقول من خرج من بيته إلى أي موضع (¬4). قلت: ولا سيما إذا كان المسجد بعيدًا. ومن ذلك ما ورد عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: ما خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: "اللهم إني أعوذ بك أن أضِلّ أو أضَلّ، أو أزِل أو أزَلّ، أو أظِلم أو أظلَم، أو أجهل أو يجهل علي" (¬5). وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا خرج الرجل من بيته فقال: باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله". قال: "يقال حينئذ: هديت وكفيت ووقيت. فتتنحى له الشياطين. فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟ " (¬6). الحكم الرابع الذهاب إلى المسجد ماشيًا اعلم أنه قد ورد الأجر العظيم في المشي إلى المسجد، وأن أعظم المصلين أجرًا أبعدهم منزلًا. وقد نص فقهاؤنا -رحمهم الله- على أنه يسن مقاربة الخطا، وعدم العجلة في الذهاب إلى المسجد؛ لتكثر حسنات الماشي إليه، استنادًا إلى النصوص الشرعية الدالة على فضل كثرة الخطا إلى المساجد. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؛ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، ¬

_ (¬1) انظر تخريج أحاديث الأذكار (2/ 266). (¬2) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (22/ 335). (¬3) شرح النووي على مسلم (6/ 291). (¬4) الأذكار (ص 31). (¬5) أخرجه أبو داود (5094)، والترمذي (3423)، والنسائي (8/ 268)، وابن ماجه (3884)، وإسناده صحيح. (¬6) أخرجه أبو داود (5095)، والترمذي (3426)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (89)، وهو حديث صحيح.

الحكم الخامس المشي بسكينة ووقار

وأكثر العلل والآفات. إن السعي إلى بيوت الله تعالى كل يوم في أوقات معلومة متقطعة يكفي لتمرين العضلات وتنشيط الأوصال وتحسين حالة الجسم العامة، كما أن المشي إلى المساجد يساهم في الوقاية من الأمراض التي سببها الخمول وكثرة الجلوس وعلى رأسها السّمن؛ لأن المشي يعمل على إذابة الشحوم والدهون. كما أن المشي علاج لأمراض القلب حيث إنه يعطي القلب -بإذن الله- القدرة على العمل وتحمل الجهود، حيث تكون الدورة الدموية أكثر انتظامًا. كما أن المشي إلى المسجد علاج للتعب الذهني والتفكير الطويل؛ إذ أنه يعيد العقل إلى حالته الطيعية، ويساعد على الاسترخاء العصبي والعضلي. وبالجملة ففي المشي إلى بيوت الله تعالى من الفوائد الصحية الشيء الكثير مما أبان عنه الطب الحديث، وهي فوائد عاجلة ينعم الله تعالى بها على عبده المؤمن في الدنيا حيث لبى النداء وأجاب داعي الله. وهناك الأجر العظيم والنور التام في الدار الآخرة إن شاء الله (¬1). الحكم الخامس المشي بسكينة ووقار عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (¬2). وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا ثوّب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" (¬3). وعنه أيضًا -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا ثوّب بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم، ولكن ليمش، وعليه السكينة والوقار، فصلّ ما أدركت، واقض ما سبقك" (¬4). إن هذه النصوص تبين أدب الحضور لأداء الصلاة، وأن المصلي يمشي إليها بسكينة ووقار، والسكينة هي: التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار: غض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات. ولا ريب أن المسلم إذا حضر المسجد بهذه الصفة فقد حاز على ثلاثة أمور: الأول: الراحة والطمأنينة؛ لأنه إذا أسرع ودخل الصلاة على هذه الحال فإنه يثور نفسه، فلا يحصل له تمام الخشوع في القراءة وغيرها، وهذا ملاحظ، بخلاف ما إذا دخلها وهو ساكن مرتاح فإنه إلى الخشوع والخضوع أقرب. الثاني: امتثال قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة". أي: أنه في حكم المصلي، فينبغي له اعتماد ما ينبغي للمصلي اعتماده واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه. الثالث: كثرة الخطا إلى المسجد، وهذا لا يتأتى مع السرعة. وهو معنى مقصود لذاته وردت فيه ¬

_ (¬1) راجع كتاب (الصلاة والرياضة البدنية)، تأليف: عدنان الطرشة (ص 82)، وما بعدها، وكتاب (في الصلاة صحة ووقاية)، للدكتور: فارس علوان (ص 159 - 246). (¬2) أخرجه البخاري (610)، ومسلم (603)، واللفظ للبخاري. (¬3) أخرجه مسلم (151، 602). (¬4) أخرجه مسلم (154، 602).

أحاديث، كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن لكم بكل خطوة درجة" (¬1). وعن سعيد بن المسيّب قال: حضر رجلًا من الأنصار الموت فقال: إني محدثكم حديثًا ما أحدثكموه إلا احتسابًا؛ سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله عز وجل له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله عز وجل عنه سيئة، فليقرب أحدكم أو ليبعد. فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضًا وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فإن أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة، كان كذلك" (¬2). فعلى المصلي أن يخرج إلى صلاته بسكينة ووقار، وأن يجتنب العبث في طريقه إلى المسجد، فلا يتكلم بكلام قبيح؛ لأنه في هذا الموضع أقبح. ولا ينظر على ما لا يحل له، ولا يتعاطى ما يكره، فكل ذلك يتعين اجتنابه، وهو في هذا الموضع أهم. واعلم أن هذه الأحاديث التي فيها الأمر بالمشي إلى الصلاة والنهي عن الإسراع عامة في جميع الأحوال، لا فرق بين أن يخاف فوات تكبيرة الإحرام، أو فوات ركعة، أو فوات الجماعة بالكلية، أو لا يخاف شيئًا من ذلك. كما أنه لا فرق بين الجمعة وغيرها، وهذا هو الصواب إن شاء الله؛ لأن النصوص عامة لم تستثن حالة واحدة، ولا يجوز لأحد أن يخصص نصًا إلا بدليل، بل قد ورد ما يدل على العموم، وهو ما جاء عن قتادة عن أبيه قال: بينما نحن جلوس مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: "ما شأنكم"؛ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. قال: "فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (¬3). فهذا حديث عام غير مخصّص بسماع الإقامة، وهو دال على العموم في جميع الأحوال، وفي جميع الصلوات، كما تقدم. وأما ما ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسرعون إذا سمعوا الإقامة فلعله محمول على أنه لم يبلغهم النهي، ومن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه. إن أكثر الداخلين إلى المساجد يخلّون بهذا الأدب فتراهم إذا ركع الإمام يسرعون فيشوشون على أنفسهم، بالعجلة وعدم التأني، وعلى غيرهم من المصلين بأصوات أحذيتهم وحركات أرجلهم، وإعلامهم الإمام بدخولهم لينتظرهم، وهذا مخالف للهدي النبوي: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"، ولا يعد المشي بهدوء استهانة بالصلاة كما يفهمه بعض الناس، بل هذا عين الاهتمام بالصلاة، فإن الإنسان في صلاة منذ خروجه من منزله للصلاة. فإن قال قائل: وما معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ .... } [الجمعة: 9] مع حديث: "فلا تأتوها وأنتم تسعون"؟ فالجواب -والله أعلم- أن المراد بالسعي في الحديث: الإسراع والعدو، بدليل مقابلة السعي بالمشي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم بتمامه (664). (¬2) أخرجه أبو داود (563)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1/ 112)، وانظر: تحفة الأشراف (11/ 157). (¬3) أخرجه البخاري (609)، ومسلم (603)، وانظر القواعد النورانية لابن تيمية (ص 49)، ففيها بيان أن الأمر بالسكينة في المشي إلى الصلاة يقتضي وجوب السكينة في الصلاة. وهذه من الفوائد.

الحكم السادس لا يشبك بين أصابعه

في قوله: "وأتوها وأنتم تمشون"، فيكون الحديث نهيًا عن الإسراع. وأما السعي في الآية الكريمة فهو: المضيّ والذهاب. يقال: سعيت في كذا أو إلى كذا: إذا ذهبت إليه وعملت فيه. قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب الجمعة: (باب المشي إلى الجمعة. وقول الله جل ذكره: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، ومن قال: السعي: العمل والذهاب؛ لقول الله تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون" وتقدم بلفظ آخر، وإيراد البخاري حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في هذا الباب بعد الآية يشعر بأنه يرى أنه لا فرق بين الجمعة وغيرها، كما ذكره الحافظ في الفتح (¬1). وعلى هذا يكون المراد بالسعي في الآية -والله أعلم- هو المضي إلى الجمعة والذهاب إليها، مع الجد والمبادرة ومراعاة ما جاء في السنة من السكينة والوقار). قال الراغب الأصفهاني: (السعي: المشي السريع. وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيرًا كان أو شرًا، قال تعالى: {وَسَعَى فِى خَرَابها} [البقرة: 114]، وقال تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة .. ) (¬2). ولا يعارض ما قررناه لك ما ورد في حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- في شأن الكسوف قال: (خسفت الشمس ونحن عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقام يجرّ ثوبه مستعجلًا حتى أتى المسجد)، فإن سبب ذلك فزعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما دل عليه حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: (خسفت الشمس فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فزعًا يخشى أن تكون الساعة ... ) (¬3). فتكون هذه السرعة لصلاة الكسوف من الأحوال العارضة؛ لوجود المقتضي لها وهو الفزع، والله أعلم. الحكم السادس لا يشبك بين أصابعه وهذا من آداب الخروج إلى المسجد التي نهي المصلي عنها، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع، فلا يفعل كذا" وشبك بين أصابعه (¬4). وعن أبي ثمامة الحنّاط أن كعب بن عجرة أدركه وهو يريد المسجد، أدرك أحدهما صاحبه، قال: فوجدني وأنا مشبك بيد، فنهاني عن ذلك وقال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنه في صلاة ... " (¬5). فهذا وما قبله دليل على النهي عن تشبيك الأصابع حال المشي إلى المسجد للصلاة؛ لأن هذا العامد ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 390). (¬2) المفردات في غريب القرآن ص 233، وانظر مجموع الفتاوى (22/ 259)، وحاشية السندي على النسائي (2/ 114)، والتبيان لابن القيم (ص 6، 7). (¬3) حديث أبي بكرة أخرجه البخاري (993)، وحديث أبي موسى أخرجه البخاري (1010)، ومسلم (912). (¬4) أخرجه الدارمي (1/ 267)، والحاكم (1/ 206)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال الألباني: "وهو كما قالا": (الإرواء: 2/ 102). (¬5) أخرجه أبو داود (562)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 112).

الحكم السابع في حضور الصبيان المساجد

إلى المسجد في حكم المصلي. قال الخطابي -رحمه الله-: (تشبيك اليد هو: إدخال الأصابع بعضها في بعض، والاشتباك بهما، وقد يفعله بعض الناس عبثًا، وبعضهم ليفرقع أصابعه عندما يجده من التمدد فيها، وربما قعد الإنسان فشبك بين أصابعه واحتبى بيديه، يريد به الاستراحة، وربما استجلب به النوم، فيكون ذلك سببًا لانتقاض طهره، فقيل لمن تطهر وخرج متوجهًا إلى الصلاة: لا تشبك بين أصابعك؛ لأن جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا يلائم شيء منها الصلاة ولا يشاكل حال المصلي) (¬1). وقد ورد في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في قصة ذي اليدين في موضوع سجود السهو بلفظ: (فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها، كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه ... ) (¬2). ولا منافاة بين هذا وما قبله؛ لأن هذا التشبيك وقع بعد انقضاء الصلاة في حكم المنصرف عن الصلاة، ويكون النهي خاصًا بالمصلي؛ لأن ذلك من العبث وعدم الخشوع، أو بمن قصد ظنه، فهو في المسجد، كما تقدم (¬3). ومما يحسن التنبيه عليه أن من المصلين من يعبث بأصابعه يفرقعها بغمز مفاصلها حتى تصوت -كما قال الخطابي- وهذا عبث لا يليق بالمصلي، وهو دليل على عدم الخشوع، إذ لو خشع القلب لخشعت الجوارح وسكنت. وعن شعبة مولى ابن عباس قال: صليت إلى جنب ابن عباس ففقّعت أصابعي، فلما قضيت الصلاة قال: لا أمّ لك! تفقع أصابعك وأنت في الصلاة! (¬4). الحكم السابع في حضور الصبيان المساجد الصبيان: جمع صبي، وهو في اللغة: من حين يولد إلى أن يفطم، أما الفقهاء فيقولون: الصبي من دون البلوغ (¬5)، وهذا هو المراد بموضوعنا هنا، ويؤيد ذلك الحديث الآتي: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين" فسماه صبيًا وقد جاوز السابعة. فإن كان مميزًا وهو من بلغ سبع سنين، فإن وليه يحضره إلى المسجد؛ لأنه مأمور بتكليفه بالصلاة إذا بلغ هذه السن. لما ورد عن سبرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين. وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" (¬6). وقد دل هذا الحديث على مسألتين: الأولى: أن ولي الصبي من أب أو جد أو أخ أو وصي أو غيرهم مكلّف من قبل الشرع بأن يأمر الصغير بالصلاة: ذكرًا كان أم أنثى، وتعليمه ما تتوقف عليه صحة الصلاة من الشروط والأركان، وذلك إذا أكمل سبع سنين؛ لأن التمييز يحصل بعدها غالبًا. وكثير من الأولياء قد تساهل في هذا الأمر العظيم، ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 295). (¬2) أخرجه البخاري (468)، ومسلم (573). (¬3) راجع فتح الباري (1/ 565)، وانظر غذاء الألباب (2/ 391). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (2/ 344). قال في إرواء الغليل (2/ 99): سنده حسن. (¬5) اللسان (14/ 450)، الدر النقي لابن عبد الهادي (1/ 170)، الأشباه والنظائر للسيوطي ص (311)، فتح الباري (2/ 346). (¬6) أخرجه أبو داود (494)، والترمذي (407)، وقال: حديث حسن صحيح، وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عند أبي داود (495).

ولا سيما مع البنات. وهذا الأمر للصغير وإن كان أمر تدريب لا أمر إيجاب، لكن له فوائد عظيمة، والشارع الحكيم لا يأمر إلا بما فيه مصلحة. المسألة الثانية: إن الحديث يدل على الإذن للصبيان بدخول المساجد؛ لأنها أماكن أداء الصلاة. وعلى ولي الصغير أن يعوده الذهاب على المسجد وحضور الجماعة، فيأخذه معه، ويجعله بجانبه، لينشأ على حب العبادة والتعلق بالمسجد، فيسهل عليه الأمر بعد البلوغ. وأما إذا كان الصبي غير مميز، فقد ورد في نصوص الشريعة ما يدل على جواز دخوله المسجد، وهي نصوص صحيحة صريحة، رواها عدد من الصحابة -رضي الله عنهم- بألفاظ متعددة ... ومن ذلك ما روى أبو قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي وهو حامل أمامه بنت زينب بنت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. وفي لفظ: (رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤم الناس، وأمامه بنت أبي العاص ... على عاتقه .. ) (¬1). فهذا الحديث دل على مسألتين: الأولى: جواز إحضار الصبي إلى المسجد وإن كان صغيرًا، لما ورد في بعض الروايات: (بينما نحن في المسجد جلوسًا خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحمل أمامه ... وهي صبية .. ) (¬2)؛ وجواز حمله في الصلاة ولو كانت فريضة لقوله: (رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤم الناس .. ) الحديث. الثانية: أن ثياب الأطفال وأبدانهم طاهرة ما لم تعلم نجاستها (¬3)، وعليه فلا يجوز منعهم من المساجد لمجرد احتمال تنجيسهم لها. ومن الأدلة -أيضًا- ما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أعتم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في العشاء حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان .. الحديث (¬4). فدل هذا الحديث على مسألتين: الأولى: جواز دخول الصبيان المساجد، وحضورهم الصلوات، وهو صريح في أن ذلك وقت صلاة العشاء في ظلمة الليل. وقد بوب البخاري -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: (باب وضوء الصبيان .. -إلى قوله-: وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم)، وهنا يدل على أن البخاري فهم أن هولاء الصبيان كانوا حضورًا في المسجد، وهذا هو الظاهر. خلافًا لمن قال: إن المراد: ناموا في البيوت؛ لأن عمر -رضي الله عنه- نبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أنهم ناموا، ولو كان ذلك النوم في البيوت لكان طبيعيًا ولا حاجة للتنبيه إليه (¬5). وإنما خصهم بذلك؛ لأنهم مظنة قلة الصبر عن النوم، ومحلّ الشفقة والرحمة، بخلاف الرجال (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (516)، ومسلم (543)، والرواية المذكورة له. وقوله: (ولأبي العاص .. )، معطوف على (زينب)، والتقدير: بنت لزينب ولأبي العاص. (¬2) أخرجه أبو داود (918)، وإسناده صحيح. (¬3) انظر معالم السنن للخطابي (1/ 431)، الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (3/ 156). (¬4) أخرجه البخاري (566)، وقوله: (أعتم)، أي: دخل في العتمة مثل: أصبح، دخل في الصباح. والمعنى: أخَّر صلاة العشاء إلى العتمة، وهي: ثلث الليل بعد مغيب الشفق، ومثل حديث عائشة حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند البخاري (7239)، ومسلم (642). (¬5) فتح الباري (2/ 344)، تحذير الساجد (25). (¬6) فتح الباري (2/ 48).

المسألة الثانية: أن لفظ "الصبيان" في الحديث جمع معرف باللام، فيعم كل صبي صغيرًا كان أو كبيرًا. وأما منع الصبيان من دخول المساجد بحجة التشويش على المصلين بما يحدث منهم من بكاء أو صراخ أو لعب، فهذا مردود؛ لأن الصبي إن كان مميزًا أمكن تأديبه وتعليمه السلوك الطيب والأخلاق الحميدة، لا سيما في بيوت الله. فيتعلم الإنصات، وحسن الاستماع، والهدوء؛ لأن ما يسمع من هولاء المميزين من الألفاظ السيئة، والعبارات البذيئة، والحركات التي لا تناسب المسجد إنما هو بسبب إهمال الأولياء، وعدم العناية بهذه الناشئة. ومن أسباب ذلك: ترك الصغار في الصف متجاورين فيحصل منهم اللعب والحركات التي تشوش على المصلين عمومًا وعلى من يجاورهم خصوصًا. أما إذا فرّق بينهم، أو صلى صبي بجانب وليه فإنه يزول هذا المحذور. وهذا هو الواجب على الأولياء وجماعة المسجد الذين يكثر الصبيان فيهم، وإن تركوهم وشأنهم صاروا مصدر إزعاج. وقد يصعب علاج الأمر إن لم يتدارك من أوله. وهذا أمر مشاهد وملحوظ. وإن كان الصبي غير مميز فيمكن حمله في الصلاة، كما فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو تلهيته بشيء من اللعب، كما ثبت في السنة (¬1). وإذا تقدم الصبيان -ولا سيما المميزون- إلى الصف الأول أو كانوا وراء الإمام فإنه لا ينبغي إبعادهم -على الراجح من قولي أهل العلم- لما يلي: ما ورد في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه، وفي لفظ: (أن يقيم الرجل الرجل) (¬2)، فهذا نهي صريح في إقامة الرجل أخاه من مكانه ثم يجلس فيه، والصبي المميز داخل في هذا الحكم. قال القرطبي: (نهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أن يقام الرجل من مجلسه إنما كان ذلك لأجل أن السابق لمجلس قد اختص به إلى أن يقوم باختياره عند فراغ غرضه، فكأنه قد ملك منفعة ما اختص به من ذلك، فلا يجوز أن يحال بينه وبين ما يملكه .. ) (¬3). أن إبقاءهم في أماكنهم فيه ترغيب لهم في الصلاة، واعتياد المسجد. أما طردهم وإبعادهم -كما يفعله كثير من الناس (¬4) - فهذا فيه محاذير عديدة منها: أن هذا مخالف لما كان عليه سلف الأمة، فإنه لو كان تأخير الصبيان أمرًا مشهورًا لاستمر العمل عليه، كتأخير النساء، ولنقل كما نقلت الأمور المشهورة نقلًا لا يحتمل الاختلاف (¬5). ¬

_ (¬1) ورد ذلك في حديث الربيع بنت معوّذ -رضي الله عنها- أخرجه البخاري (4/ 200)، ومسلم (1136). (¬2) أخرجه البخاري (911)، ومسلم (2177). (¬3) المفهم (5/ 509). (¬4) قد يحتج من يرى إبعاد الصبيان عن المساجد بحديث "جنبوا مساجدكم صبيانكم" وقد أخرجه ابن ماجه (750)، والطبراني في الكبير (22/ 57)، من طريق الحارث بن نبهان حدثنا عتبة عن أبي سعيد عن مكحول عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- والحارث هنا ضعيف جدًا، قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي وأبو حاتم: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، ومرة قال: لا يكتب حديثه. ذكر ذلك الذهبي في الميزان (1/ 444)، والحديث له شواهد لا يصح منها شيء. انظر: نصب الراية (2/ 491). (¬5) حاشية ابن قاسم على الروض المربع (2/ 341).

الحكم الثامن في دخول الجنب والحائض المسجد

وأما ما ورد من أن بعض السلف أخّر الصبي فهو إما رأي صحابي، أو محمول على صبي لا يعقل الصلاة، ويعبث فيها (¬1). أن طرد الصبي من الصف الأول يؤدي إلى كسر قلبه، وتنفيره من الصلاة، وبغضه المسجد. والشارع الحكيم يحرص على ترغيبهم في الصلاة وحضور المسجد. أن هذا قد يؤدي إلى اجتماع الصبيان في مكان واحد متأخر، وهو سبب في عبثهم وتشويشهم. أن هذا الصبي يكره الرجل الذي أقامه من مكانه ويحقد عليه، ويدوم على ذكره بسوء؛ لأن الصغير عادة لا ينسى ما فعل به (¬2). ثم إن إحضار الصبيان للمسجد ليس مقصورًا على تعليمهم الصلاة وترغيبهم في المسجد، بل هناك مقاصد أخرى منها: أن يكون الصبي صغيرًا وليس له في البيت من يرعاه وقت الصلاة فيصحبه المصلي معه. أو يكون الإنسان في السوق أو في الطريق ومعه ابنه فتحضر الصلاة فيدخله المسجد معه. ونحو ذلك مما يعرض ولا سيما في أوقات الصلاة. أما ما ورد في حديث أبي مسعود -رضي الله عنه- من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬3) فهذا لا يفيد تأخير الصغار عن أماكنهم، وإنما هو حث لأولى الأحلام والنهي -وهم أصحاب العقول- على التقدم ليكونوا وراء الإمام، لتنبيهه على سهو إن طرأ، أو استخلاف أحدهم إن احتاج إلى ذلك. ولو كان المراد النهي عن تقدم الصبيان لقال: لا يلني إلا أولو الأحلام والنهي (¬4). وتجوز مصافة الصبي، وذلك بأن يقف معه رجل بالغ في صف واحد، أو يصلي بالغ بعدد من الصبيان، فيكونون صفًا -وهذا على الراجح من قولي أهل العلم، وهو قول الجمهور- لورود أدلة صحيحة صريحة تفيد ذلك؛ ومن ذلك حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن جدته مليكة -رضي الله عنها- دعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لطعام صنعته، فأكل منه، فقال: "قوموا فلأصل بكم"، فقمت إلى حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبث فنضحته بماء، فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واليتيم معي، والعجوز من ورائنا، فصلى بنا ركعتين (¬5). فهذا الحديث دليل على جواز مصافة البالغ الصبي؛ لأن هذا اليتيم صفّ مع أنس -رضي الله عنه- خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. واليتيم: من مات أبوه ولم يبلغ. الحكم الثامن في دخول الجنب والحائض المسجد دخول الجنب والحائض المسجد إما أن يكون عبورًا ومرورًا به لأخذ شيء منه كسجادة أو كتاب ونحو ذلك، أو يكون لبثًا وجلوسًا فيه. ¬

_ (¬1) انظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن (2/ 533)، الفروع (1/ 406، 407). (¬2) الشرح الممتع (3/ 21). (¬3) أخرجه مسلم (432)، ومثله حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وهو عند مسلم أيضًا. (¬4) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1116). (¬5) أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658)، وقوله: "فلأصلّ لكم" اللام لام الأمر وهي ساكنة لوقوعها بعد فاء العطف، والفعل مجزوم بحذف الياء. وفي رواية: "فلأصل" بكسر اللام على أنها للتعليل. والفعل بعدها منصوب بفتح الياء. (تنبيه الأفهام)، لابن عثيمين (1/ 172).

فإن كان مرورًا به فإنه يجوز ذلك للجنب والحائض على الراجح من أقوال أهل العلم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. والمراد بالصلاة: أماكنها وهي المساجد، والمعنى: لا تقربوا المصلّى للصلاة وأنتم سكارى .. ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: مجتازين للخروج منه، وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس بأسانيد فيها مقال، وثبت هذا التفسير عن جماعة من التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي (¬1). وذهب إلى هذا التفسير الشافعي، كما في كتابه "الأم" ونقله عنه ابن المنذر (¬2). ورجحه ابن جرير وابن كثير وقال: وهو الظاهر من الآية. ومال إليه القرطبي والشوكاني في تفسيرهما (¬3)، قالوا: ولا يراد بالآية: الصلاة، وبقوله: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} المسافر؛ لأن التيمم لا يخص المسافر، ولأنه بين حكم المسافر في آخر الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن النهي في الآية عن قربان الصلاة وعن قربان موضعها (¬4). وأما الحائض فقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: "ناوليني الخُمرة من المسجد"، قالت: إني حائض، قال: "إن حيضتك ليست في يدك" (¬5). فهذا يدل على جواز مرور الحائض في المسجد وأنها ليست نجسة، ولكن النجس منها هو موضع الدم وهو الفرج؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرها أن تأتيه بالخمرة من المسجد. والخُمرة: بضم الخاء: حصير صغير. وأما لبث الجنب في المسجد فلا يجوز، على الراجح من أقوال أهل العلم، استدلالًا بالآية السابقة، وأخذًا بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" (¬6). لكن إن توضأ الجنب جاز له اللبث على ما قال الإمام أحمد. واختاره ابن تيمية (¬7) لما روى حنبل بن إسحاق عن أبي نعيم، عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحدثون في المسجد على غير رضوء، وكان الرجل يكون جنبًا فيتوضأ، ثم يدخل المسجد فيتحدث (¬8). ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير (8/ 379 - 384). (¬2) الأم (1/ 70، 71)، الأوسط لابن المنذر (2/ 108). (¬3) تفسير ابن كثير (2/ 275)، تفسير القرطبي (5/ 207)، فتح القدير (1/ 469). (¬4) الفتاوى الكبرى (1/ 126). (¬5) أخرجه مسلم (298)، وأخرجه بلفظ آخر (299). (¬6) أخرجه أبو داود (232)، وابن خزيمة (1327)، وهو حديث مختلف في تصحيحه، فقد صححه ابن خزيمة، وحسنه ابن القطان في "الوهم والغيهام" (5/ 332)، والزيلعي في "نصب الراية" (1/ 194)، كما صححه الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 270)، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: لا بأس بإسناده. وضعفه البيهقي في سننه (2/ 443)، وقال عبد الحق: لا يثبت، وبالغ ابن حزم فقال في "المحلى" (2/ 186): إنه باطل. (¬7) الفتاوى (21/ 344، 345). (¬8) ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 275)، وذكره المجد في المنتقى (1/ 399)، وقال ابن كثير: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. اهـ. وهذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، سوى هشام بن سعد. فقد قال عنه الحافظ في "التقريب": صدوق له أوهام. اهـ. لكن نقل الحافظ في تهذيبه (11/ 37)، أن الآجري روى عن أبي داود أنه قال: أثبت الناس في زيد بن أسلم هشام بن سعد. اهـ.

أحكام حضور المسجد

وعن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالًا من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة (¬1). وأما الحائض -ومثلها النفساء- فليس في منعها من المسجد إلا حديث عائشة -المتقدم- والأحوط ألا تلبث في المسجد إلا لضرورة -كما قال ابن تيمية- كما لو خافت على نفسها أو كان البرد شديدًا أو كان فيه مطر أو نحو ذلك (¬2). ويدخل في حكم المسجد ساحته، ومكتبة المسجد -على ما تقدم في أول الكتاب- فلا تلبث فيها الحائض لاستماع محاضرة أو درس أو نحو ذلك؛ لأن لها حكم المسجد. والله أعلم. أحكام حضور المسجد وفيه خمسة وعشرون حكمًا: الحكم الأول تعاهد النعلين كل مسلم مطالب بنظافة المسجد كنظافة منزله بل أشد، فتصان المساجد عن كل وسخ وقذر، وكل رائحة كريهة، ويتعين في حق داخل المسجد أن يتعاهد نعله عند إرادة دخول المسجد؛ لإزالة ما علق بها من أذى يكون سببًا في نجاسة المسجد إذا تساقط فيه، ولا ريب أن ساحة المسجد ورحبته في حكم المسجد، ويكثر كونها طريقًا إلى الجزء الداخلي من المسجد، ومن هنا يتعين الاهتمام بها وصيانتها من أذى النعلين. وقد ورد عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاته قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله إلى: "إن جبريل -عليه السلام- أتاني فأخبرني أن فيها قذرًا -أو قال:- أذى" وقال: "إذ جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعيه قذرًا أو أذى فليمسحه ويصلّ فيهما" (¬3). فهذا الحديث دلّ على مسائل: الأولى: مشروعية الصلاة في النعال، وأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يصلون في نعالهم، وفي هذا مخالفة لليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم. وقد دلّ على مشروعية الصلاة بالنعال نصوص كثيرة منها: ما رواه أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزدي قال: سألت أنس بن مالك: أكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي في نعليه؟ قال: نعم (¬4). ¬

_ (¬1) عزاه في "إعلام الساجد" ص (315)، إلى مسند أحمد ومسند سعيد بن منصور، وقال: هنا إسناد على شرط مسلم. وكنا عزاه إلى الثاني فقط المجد في المنتقى (1/ 399)، وساقه بإسناده. (¬2) مجموع الفتاوى (26/ 177). (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 353)، وإسناده صحيح على شرط مسلم، كما في "مشكاة المصابيح" بتحقيق الألباني (1/ 238)، وله شاهد من حديث أنس -رضي الله عنه- أخرجه الحاكم (1/ 235)، والبيهقي (2/ 404)، وغيرهما. وهو حديث صحيح على شرط البخاري كما قال الحاكم. (¬4) أخرجه البخاري (386)، ومسلم (555).

الحكم الثاني تقديم اليمنى عند الدخول

وعن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي في نعليه (¬1). وينبغي للمسلم أن يصلي في نعليه أحيانًا، لا سيما إذا كان المسجد غير مفروش، أو في رحبته، أو مصلى العيد، أو في الصحراء لسفر أو نزهة ونحوهما، ومن فوائد ذلك تطبيق السنة، وإشاعتها بين الناس. ويرى فريق من أهل العلم استحباب الصلاة في النعال. ويرى آخرون أن الصلاة بها من الرخص، لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، ولبس النعال في الصلاة وإن كان ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة (¬2). أما إذا كان المسجد مفروشًا فإنه لا يصلي في نعليه لأمرين: الأول: أن المساجد لا تسلم من تلويث فرشها حتى مع العناية بالنعال وتفقدها؛ لأن الفرش سريعة التأثر باللون والرائحة، ولذا قال ابن عابدين: "إذا خشي تلويث فرش المسجد ينبغي عدمه -أي عدم الصلاة بالنعال- وإن كانت طاهرة" (¬3)، وقال ابن دقيق العيد: (وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة النجاسة قدمت الثانية؛ لأنها من باب دفع المفاسد، والأخرى من باب جلب المصالح) (¬4). الأمر الثاني: أن الغالب على الناس الغفلة عن العناية بنعالهم حين يدخلون المسجد، لا سيما إذا اعتادوا دخول المساجد بها فإنه مع طول الزمن تضعف عنايتهم بها. المسألة الثانية: أن مسح النعل ودلكها بالأرض مطهر لها من القذر والأذى (¬5)، فليحرص المسلم على مسح نعله ودلكها بالأرض عند دخول المسجد ولو لم يرد الصلاة بها، لئلا يؤدي ذلك إلى تساقط الأذى في المسجد، وهذا أمر تركه كثير من الناس، نتيجة العجلة في دخول المسجد. الثالثة: أن المصلي إذا خلع نعليه وكان وحده وضعهما عن يساره، وإذا كان مع غيره في الصف وكان عن يمينه وعن يساره ناس فإنه يضعهما بين رجليه؛ لما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذي بهما أحدًا، ليجعلهما بين رجليه أو ليصلّ فيهما" (¬6). وبعض المصلين يضع نعليه أمامه، أو خلفه، أو عن يمين غيره، فيؤذي بهما الآخرين، ولا سيما مع تقارب الصفوف، كما في ساحة المسجد الحرام، والمقصود هو عدم أذية الآخرين، فليتصرف فيهما بعيدًا عن ذلك. الحكم الثاني تقديم اليمنى عند الدخول اعلم أن لدخول المسجد صفة خاصة، وهي تقديم الرجل اليمنى؛ لأن اليمين أعدت لكل ما هو من باب التكريم، واليسار لما هو بضد ذلك، وهذه الصفة يخل بها كثيرون جهلًا أو عجلة، مع أنه ثبت فيها نصوص عامة ونصوص خاصة. ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرازق (1/ 384)، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) انظر إحكام الأحكام لابن دقيق العيد بحاشية الصنعاني (2/ 344)، وفتح الباري (1/ 494). (¬3) حاشية ابن عابدين (2/ 344). (¬4) إحكام الأحكام (2/ 345)، وقارنه بفتح الباري (1/ 494)، وانظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (24/ 195). (¬5) انظر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم (1/ 166). (¬6) أخرجه أبو داود (654، 655)، وصححه الألباني، صحيح أبي داود (1/ 128، 129).

الحكم الثالث الدعاء عند دخول المسجد

فعن أنس -رضي الله عنه- أنه قال: (من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى) (¬1). قال في فتح الباري: (والصحيح أن قول الصحابي: "من السنة كذا" محمول على الرفع) (¬2). قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: (باب التيمن في دخول المسجد وغيره) وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى، ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- بلفظ: (كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله) (¬3). قال العيني: (مطابقته للترجمة من حيث عمومه؛ لأن عمومه يدل على البداءة باليمين في دخول المسجد) (¬4). وقال ابن علان في شرح الأذكار: (وخصت اليمنى بالدخول؛ لشرفه واليسرى بالخروج؛ لخسته، وهذا مما ينبغي الاعتناء بها كغيره من الآداب) (¬5). الحكم الثالث الدعاء عند دخول المسجد لما كانت المساجد أحب البقاع إلى الله تعالى؛ لأنها بيوت الطاعة ومظنة لنزول الرحمة وأساسها على التقوى، فيها يعبد الله ويوحد، أرشد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى من دخل المسجد إلى أدعية جامعة مناسبة للحال، فقد ورد عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك" (¬6). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنه كان إذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"، قال عقبة لحيوة: أقط؟ قلت: نعم. قال: "فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم" (¬7). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (1/ 218)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. (¬2) فتح الباري (523). (¬3) أخرجه البخاري (426)، ومسلم (268). وانظر: فتح الباري (1/ 523). (¬4) عمدة القاري (3/ 429). (¬5) الفتوحات الربانية لابن علان (2/ 42). (¬6) أخرجه مسلم (713). وأما زيادة (رب اغفر لي، وافتح لي .. )، فقد وردت عند الترمذي (314)، من طرق ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى. وهذا سند منقطع، كما قال الترمذي، وليث بن أبي سليم ضعيف، وقد تفرد بهذه الزيادة، وقد تابعه على رواية أصل الحديث إسماعيل بن علية، وليس فيه هذه الزيادة، وقد ساقه الترمذي (315). وإسماعيل ثقة حافظ، والله أعلم. (¬7) أخرجه أبو داود (466)، بإسناد جيد، كما قاله النووي في "الأذكار" ص (33)، وقد عزاه الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 70)، إلى صحيح البخاري، فلعله سهو، والله أعلم. (¬8) أخرجه ابن خزيمة (1/ 231)، وابن حبان (3/ 247)، والحاكم (1/ 206)، وقال: على شرطهما. وأقره الذهبي، وأخرجه النسائي (90)، وابن السني (85)، كلاهما في عمل اليوم والليلة، وأخرجه ابن ماجه (1/ 254)، من طريق =

الحكم الرابع التقدم للصف الأول

وسر تخصيص طلب الرحمة بالدخول وسؤال الفضل بالخروج أن من دخل المسجد اشتغل بما يقربه إلى الله تعالى وإلى رضوانه وجنته من الصلاة والذكر والدعاء، فناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب ذكر الفضل، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] (¬1). فإذا دخل المسجد وانتهى إلى الصف سنّ له أن يدعو بما ورد في حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن رجلًا جاء إلى الصلاة ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين، فما قضى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصلاة، قال: "من المتكلم آنفًا"؟ قال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: "إذ يعقر جوادك، وتستشهد في سبيل الله" (¬2). وكثير من الناس لا يعرف هذه الأدعية، أو يخلّ بها، أو يقولها على صفة تخالف ما هي عليه، فليحرص المصلي على الدعاء. فما أقرب الإجابة لمن توفرت عنده شروط الدعاء!! الحكم الرابع التقدم للصف الأول من آداب حضور المساجد: التقدم للصف الأول، والقرب من الإمام، كما دلت على ذلك النصوص؛ لما في الصف الأول من الفضل العظيم. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا" (¬3). والتهجير: التبكير إلى الصلاة، والمبادرة إليها (¬4). وعنه أيضًا -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لو تعلمون، أو يعلمون، ما في الصف المقدم لكانت قرعة". وفي رواية: "ما كانت إلا قرعة" (¬5). وعن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه" (¬6). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى في أصحابه تأخرًا، فقال لهم: "تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله" (¬7). فهذه الأحاديث وغيرها تدل على فضل الصف الأول، وأنه ينبغي الحرص عليه بالتبكير إلى الصلاة، ¬

_ = محمد بن بشار، وفيه: (اللهم اعصمني)، بدل (أجرني)، وهذا الحديث إسناده حسن لشواهده. (¬1) الفتوحات الربانية لابن علان (2/ 42). (¬2) أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (93)، وابن السني (106)، والحاكم (1/ 207)، قال الحافظ: إسناده حسن. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: فتح الباري (2/ 97)، والنهاية لابن الأثير (5/ 246). (¬5) أخرجه مسلم (439). (¬6) أخرجه أبو داود (544)، وإسناده حسن كما قال الألباني. (¬7) أخرجه مسلم (438)، وأبو داود (680)، والنسائي (2/ 83).

المكان الفاضل في المسجد النبوي:

حتى أنه لو أدى الأمر إلى القرعة لكانت مشروعة فيه. والمراد بالصف الأول: هو ما يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدمًا أو متأخرًا، وإن كان المتقدم حاز فضيلة التبكير فجمع بين الفضيلتين. وفي الصف الأول مزايا عظيمة ينبغي للمسلم أن يهتم بها ويحرص على الظفر بها. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري طرفًا منها. فمن ذلك: المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين (¬1). ومن الناس من لا يهتم بالصف الأول مع إمكان الصلاة والجلوس فيه، فتراه يدخل المسجد مبكرًا ويقف متنفلًا وسط المسجد، أو في مؤخره، أو يقف في طرف الصف الأول مع خلوه من جهة الإمام، وهذا رغبة عن الخير، وزهد فيه، مبعثه الجهل أو عدم المبالاة باكتساب الفضائل، فالله المستعان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فمن جاء أول الناس وصف في غير الأول فقد خالف الشريعة، وإذا ضم إلى ذلك إساءة الصلاة أو فضول الكلام أو مكروهه أو محرمه ونحو ذلك مما يصان المسجد عنه، فقد ترك تعظيم الشرائع، وخرج عن الحدود المشروعة من طاعة الله، وإن لم يعتقد نقص ما فعله ويلتزم اتباع أمر الله استحق العقوبة البليغة التي تحمله وأمثاله على أداء ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه، والله أعلم) (¬2). وينبغي لطلبة العلم أن يتقدموا إلى الصف الأول؛ لأنهم داخلون في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .. " (¬3). قال النووى: (وفي هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها، وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم .. ) (¬4). وقال في الإنصاف: (السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والسن، وأن يلي الإمام أكملهم وأفضلهم، قال الإمام أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان) (¬5). وهذا الحكم -وهو الحث على الصف الأول والدنو من الإمام- خاص بالرجال، أما النساء إذا حضرن المساجد فيتعين في حقهن التأخر والبعد عن الإمام وعن صفوف الرجال، كما سيأتي بيانه في الباب الثالث، إن شاء الله تعالى، والله أعلم. المكان الفاضل في المسجد النبوي: اعلم أن المكان الفاضل في مسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي أمام المحراب النبوي في الزيادة التي في قبلة المسجد، وليس ما يفهمه كثير من الناس من أن المكان الفاضل هو في المسجد القديم، الذي كان في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون ما زاده عمر وعثمان -رضي الله عنهما- والذي هو موضع المحراب اليوم. إن عمر -رضي الله عنه- كان يقف في تلك الزيادة ووراءه الصحابة -رضي الله عنهم- وهم متوافرون ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 208). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 262). (¬3) أخرجه مسلم (432)، والنسائي (2/ 90)، وأبو داود (674). (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 399، 400). (¬5) الإنصاف (2/ 285).

ومتفقون على أن هذا هو المكان الفاضل، وهل يظن بهم أنهم يتركون المكان الفاضل ويعتقدون أن الصلاة في غير موضعهم أفضل؟! والناس اليوم يزدحمون للصلاة في موضع المسجد القديم اعتقادًا منهم أنه أفضل، فترى الصفوف تتكامل في ذلك الموضع دون الزيادة، وهذا وإن كان الدافع إليه محبة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكن فيه مخالفات شرعية منها: ترك وصل الصفوف وإتمام الأول فالأول، وقد ثبت ما يدل على الأمر بوصل الصفوف وأن من وصل صفًا وصله الله ومن قطع صفًا قطعه الله. تفويت الصلاة في الصف الأول مع إمكانه لمن يحضر متقدمًا ولكنه يرغب عنه، ومن المعلوم أن الصف الأول هو الذي يلي الإمام، كما أسلفنا، وقد حث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المبادرة بحضور المساجد والدنو من الإمام، كما تقدم -أيضًا-. أن في ذلك مخالفة لهدي الصحابة -رضي الله عنهم- فإن عمر -رضي الله عنه- أمَّ الصحابة في هذه الزيادة، ولا ريب أنهم كانوا يتسابقون للصلاة وراء الإمام ويحرصون على الصف الأول. فليحرص المسلم على الصف الأول في المسجد النبوي كغيره من المساجد، ولا يغتر بمن يتأخر عنها ويصلي في موضع المسجد القديم. ولا يقال: إن هذه الزيادة ليست من المسجد، فإن صلاة الصحابة فيها دال على أنها في حكم المسجد قطعًا. وأما قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة أو كألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا أن يكون المسجد الحرام" (¬1)؛ فهذا لم يقصد به نفي مضاعفة الأجر في الإضافات الحادثة، ولكن المراد به -والله أعلم- نفي التضعيف في المساجد التي بناها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المدينة كمسجد قباء، فأكد أن التضعيف خاص بمسجده بقوله: "هذا" ولم يقصد إخراج ما سيزاد فيه، والله أعلم (¬2). وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلامًا نفيسًا حول هذا الموضوع، فأنقله هنا، يقول رحمه الله: (وقد جاءت الآثار بأن حكم الزيادة في مسجده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكم المزيد، تضعّف فيه الصلاة بألف صلاة، كما أن المسجد الحرام حكم الزيادة فيه حكم المزيد، فيجوز الطواف فيه والطواف لا يكون إلا في المسجد لا خارجًا منه، ولهذا اتفق الصحابة على أنهم يصلون في الصف الأول من الزيادة التي زادها عمر ثم عثمان، وعلى ذلك عمل المسلمين كلهم، فلولا أن حكمه حكم مسجده لكانت تلك صلاة في غير مسجده، والصحابة وسائر المسلمين بعدهم لا يحافظون على العدول عن مسجده إلى غير مسجده، ويأمرون بذلك)، ثم قال: (وهنا الذي جاءت به الآثار، وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم، فإنهم قالوا: إن صلاة الفرض خلف الإمام أفضل، وهنا الذي قالوه هو الذي جاءت به السنة، وكذلك كان الأمر على عهد عمر وعثمان -رضي الله عنهما- فإن كليهما مما زاد من قبلي المسجد، فكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة، وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل ما يقام فيه بالسنة والإجماع، وإذا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1133)، ومسلم (1394)، وراجع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2/ 403). (¬2) انظر وفاء الوفاء (1/ 358).

الحكم الخامس السلام على من في المسجد

كان كذلك فيمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده، أفضل منها في مسجده، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده، وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا، لكن رأيت بعض المتأخرين قد ذكر أن الزيادة ليست من مسجده، وما علمت لمن ذكر ذلك سلفًا من العلماء) (¬1). الحكم الخامس السلام على من في المسجد ومن آداب دخول المساجد السلام على من فيه ولو كان يصلي، فإن السلام على المصلي مشروع، كما هو مذهب الجمهور من أهل العلم، وذلك لما ورد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنت أسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في الصلاة فيرد عليّ فلما رجعنا سلمت عليه فلم يردّ علي، وقال: "إن في الصلاة شغلًا" (¬2). وعنه -رضي الله عنه- قال: كنت آتي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يصلي فأسلم عليه فيرد علي، فأتيته فسلمت عليه وهو يصلي فلم يردّ عليّ، فلما سلم أشار إلى القوم فقال: "إن الله عز وجل -يعني- أحدث في الصلاة ألا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين" (¬3). فهنا وما قبله دليل على جواز السلام على المصلي، فإن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يسلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في صلاته، فيرد عليه السلام باللفظ، ولما حرّم الكلام في الصلاة، ورجع المسلمون من الهجرة الثانية إلى الحبشة سلم ابن مسعود -رضي الله عنه- كعادته فلم يرد عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باللفظ، وإنما رد بالإشارة كما في حديث ابن عمر الآتي قريبًا، وبين أن سبب امتناع الرد باللفظ هو أن المصلي مشغول شغلًا عظيمًا متنوعًا من ذكر وقراءة ودعاء وغير ذلك مما يتعلق بمناجاة الله تعالى التي تستدعي الاستغراق بخدمته، فلا يصلح فيها الاشتغال بغيره، ولو كان السلام على المصلي غير مشروع لبيّنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولو بعدم الإشارة في الرد؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلما ثبت الرد بالإشارة وعدم الإنكار علم أن السلام على المصلي مشروع. وثبت الرد عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإشارة، وذلك فيما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى قباء يصلي فيه، فجاءته الأنصار، فسلموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه، وبسط جعفر بن عوف كله، وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره فوق (¬4). وورد في السنة صفات أخرى لرد المصلي السلام، ومنها: الرد بالإشارة بالأصبع، والأظهر أنها السبابة؛ لأنها أيسر؛ ولأن العادة جرت برفعها، وذلك في حديث ابن عمر -أيضًا- عن صهيب قال: مررت برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يصلي فسلمت عليه فردّ علي إشارة، وقال الليث بن سعد -أحد رواته-: لا أعلم إلا أنه قال: إشارة بإصبعه (¬5). قال الشوكاني: (ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون أشار بإصبعه مرة ومرة بجميع يده، ويحتمل ¬

_ (¬1) الرد على الأخنائي المطبوع بهامش "تلخيص كتاب الاستغاثة" ص (196 - 198). (¬2) أخرجه البخاري (1141، 1158)، ومسلم (538)، وأبو داود (3/ 191). (¬3) أخرجه أبو داود (3/ 193)، والنسائي (3/ 19)، واللفظ له، وأصله الصحيحين. (¬4) أخرجه أبو داود (3/ 195)، والترمذي (2/ 204)، وابن ماجه (1/ 324)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) أخرجه أبو داود (3/ 194)، والترمذي (2/ 363)، والنسائي (3/ 5)، وحسنه الترمذي.

الحكم السادس صلاة تحية المسجد

أن يكون المراد باليد الإصبع؛ حملًا للمطلق على المقيد) (¬1). كما ورد الرد إيماء بالرأس، وذلك في حديث ابن مسعود: (فأومأ برأسه)، وفي رواية: (فقال برأسه، يعني: الرد) (¬2). قال في نيل الأوطار: (ويجمع بين الروايات أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل هذا مرة وهذا مرة فيكون جميع ذلك جائزًا) (¬3) والله أعلم. الحكم السادس صلاة تحية المسجد ومن آداب حضور المساجد -وهي بيوت الله تعالى وأمكنة عبادته- أن يصلي الداخل ركعتين تعظيمًا لله تعالى، وإكرامًا لموضع العبادة. وهذه الصلاة هي تحية المسجد؛ لأن الداخل يبتدئ بهما كما يبتدئ الداخل على القوم بالتحية. وقد دلّ على مشروعية تحية المسمجد حديث أبي قتادة السلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". وفي رواية: "فيركع ركعتين قبل أن يجلس" (¬4). حكم تحية المسجد جمهور العلماء على أن تحية المسجد من السنن المندوب إليها وليست واجبة. قال في فتح الباري: (اتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب) (¬5). وقال ابن دقيق العيد: (وجمهور العلماء على عدم الوجوب لهما) (¬6). وقال النووي: (إنه إجماع المسلمين) (¬7). ولكن نقل الإجماع فيه نظر، فقد نقل ابن بطال عن أهل الظاهر قولهم بالوجوب (¬8). وحكى ذلك القاضي عياض عن داود وأصحابه (¬9)، والذي صرح به ابن حزم خلافه (¬10)، وعمدة الجمهور في عدم الوجوب: حديث عبد الله بن بسر -رضي الله عنه- قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب. فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اجلس فقد آذيت" ولني رواية: "وآنيت" (¬11). أي: أبطأت وتأخرت. ووجه الدلالة: أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره بالجلوس ولم يأمره بتحية المسجد فدل على أنها غير واجبة. حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- في قصة الأعرابي، وهو ضمام بن ثعلبة لما سأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عما يجب ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (2/ 370). (¬2) أخرجه البيهقي (2/ 260)، من طريق محمد بن الصلت التوزي، وقد تفرد به، قال البيهقي وقاله عنه الحافظ في التقريب: صدوق يهم. اهـ وعلى هنا ففي ثبوت هذه الصفة نظر، والأولى الاقتصار على الصفتين الأوليين، والله أعلم. (¬3) نيل الأوطار (2/ 371)، وانظر في موضوع السلام على المصلي "زاد المعاد" (2/ 413). (¬4) أخرجه البخاري (433)، ومسلم (714). (¬5) فتح الباري (1/ 537). (¬6) إحكام الأحكام (2/ 467). (¬7) شرح مسلم (5/ 233). (¬8) شرح ابن بطال على صحيح البخاري (2/ 93). (¬9) شرح القاضي عياض على صحيح مسلم (3/ 49). (¬10) المحلى (2/ 231). (¬11) أخرجه أبو داود (3/ 467)، والنسائي (3/ 103)، وأحمد (4/ 188). والزيادة له، والحديث إسناده حسن، وله شواهد، وصححه ابن خزيمة (3/ 156).

عليه من الصلاة فأجابه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الصلوات الخمس، فقال: هل علي غيرها؛ قال: "لا، إلا أن تطوّع" (¬1). ومن قال بالوجوب استدل ما يلي: حديث أبي قتادة المذكور، وقد ورد بلفظ الأمر "فليركع ركعتين" وبلفظ النهي "فلا يجلس"، والأمر عند الإطلاق للوجوب، والنهي عند الإطلاق للتحريم؛ وحديث أنس في قصة الأعربي لا يصلح أن يكون صارفًا كما سيأتي إن شاء الله. حديث جابر -رضي الله عنه- قال: دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب فقال: "أصليت؛ " قال: لا. قال: "فصلّ ركعتين". والرجل هو: سليك الغطفاني، كما وقع مسمى عند مسلم (¬2). ووجه الدلالة: أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر سليكًا بتحية المسجد بعدما جلس، وقطع الخطبة لأجل سؤاله وأمره بالصلاة. وهذا من مؤكدات الايجاب. ولو سقطت التحية في حال لكان هذا الحال أولى بها؛ فإنه مأمور باستماع الخطبة، فلما ترك لها استماع الخطبة دل على تأكدها. وقد أجاب القائلون بالوجوب عن أدلة الأولين ما يلي: أما حديث "اجلس فقد آذيت" فلا دلالة فيه صريحة على عدم الوجوب؛ لاحتمال أن المراد "اجلس" أي: لا تتخط. ولم يقصد ترك التحية، أو أن المراد: اجلس بشرط الجلوس المفهوم من قوله: "قال يجلس حتى يصلي ركعتين"، ولاحتمال أن يكون هذا الصحابي صلّى التحية في جانب من المسجد قبل وقوع التخطي منه، أو أنه كان ذلك قبل الأمر بها والنهي عن تركها، وإذا وجد الاحتمال بطل الإستدلال، لا سيما والحديث معارض بمثل حديث جابر في قصة سليك وحديث في قتادة، ودلالتهما أصرح (¬3). وأما حديث أنس في قصة الأعرابي فعنه ثلاثة أجوبة: إن التعاليم الواقعة في مبادئ الشريعة لا تصلح لصرف ما تجدد من الأوامر عن الوجوب؛ لأن الشريعة كانت شيئًا فشيئًا وإلا لزم على ذلك أن واجبات الشريعة هي ما ذكر في حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة من الشهادتين والصوم والحج والزكاة، وعلى ما قُرِّرَ يكون له: "إلا أن تطوع" حصرًا باعتبار وقت السؤال، ولم يقل: إنه لا يجب عليه ما يوجبه الله على عباده بعد ذلك، بل ما أوجبه الله وجب. ولا ريب أن واجبات الشريعة قد بلغت أضعاف أضعاف تلك الأمور. إن قوله: "إلا أن تطوع" ينفي وجوب الواجبات ابتداء لا الواجبات بأسباب يختار المكلف فعلها، كتحية المسجد -مثلًا-. إن جماعة من المتمسكين بحديث ضمام بن ثعلبة في صرف الأمر عن الوجوب في حديث أبي قتادة قالوا بوجوب صلوات خارجة عن الخمس، كالجنازة وركعتي الطواف والعيدين. فما أجابوا به عن إيجاب هذه الصلوات هو جواب الموجبين لتحية المسجد، والله أعلم (¬4). قال ابن دقيق العيد على حديث أبي قتادة: (ولا شك أن ظاهر الأمر الوجوب وظاهر النهي التحريم، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (46)، ومسلم (11). (¬2) أخرجه البخاري (930)، ومسلم (875). (¬3) انظر فتح الباري (9/ 402). (¬4) انظر نيل الأوطار (3/ 79).

تحية المسجد وقت النهي

ومن أزالهما عن الظاهر فهو محتاج إلى دليل) (¬1). قال الصنعاني في حاشيته على شرح ابن دقيق العيد: (أقول: هذا هو الصواب، وإيجابها هو الجاري على مقتضى الأوامر والنواهي) (¬2). وقال الشوكاني: (إذا عرفت هذا -أي ما ذكر من الأجوبة- لاح لك أن الظاهر ما قاله أهل الظاهر من الوجوب) (¬3). والحق أن القول بالوجوب قوي؛ لقوة مأخذه؛ ولأن سبب الوجوب هو دخول المسجد، فلا معارضة بين هذا وبين ما يدل على أن ما عدا الصلوات الخمس تطوع، لكن إن قيل: بأن تحية المسجد من السنن الموكدة ما كان ذلك بعيدًا، والعلم عند الله تعالى. تحية المسجد وقت النهي اختلف العلماء في صلاة تحية المسجد وقت النهي، كأن يدخل بعد الفجر أو قبل المغرب، على قولين: الأول: تصلّى تحية المسجد وقت النهي، وهذا هو الأصح عند الشافعية، ورواية في مذهب الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحم الله الجميع. وقد بسط ابن تيمية -رحمه الله- أدلة هذا القول، وأيده بما لا مزيد عليه (¬4). القول الثاني: لا تصلى في وقت النهي، وهو مذهب الحنفية والمالكية ورواية عن الإمام أحمد، كما في الإنصاف (¬5). وسبب الخلاف: هوة تعارض العمومين؛ عموم أحاديث تحية المسجد وفيه أمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، وعموم أحاديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي، كقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" (¬6)، وهذا عام في كل صلاة كما يفيده النفي بـ (لا) التي لنفي الجنس، فتدخل تحية المسجد في هذا العموم المنفي. فذهب الأولون إلى تخصيص عموم حديث: (لا صلاة بعد الصبح .. ) إلخ ... بحديث تحية المسجد، فأخرجوها من عموم هذا الحديث، فتصلى في أوقات النهي، وذلك لأن حديث (لا صلاة) قد ثبت تخصيصه بغير تحية المسجد، ومن ذلك: قضاء الفوائت؛ لحديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من نسي صلاة فيصلّ إذا ذكرها، لا كفارة إلا ذلك: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14] " (¬7). ومن ذلك -أيضًا-: إعادة الجماعة، لحديث يزيد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: شهدت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته انحرف، فإذا هو برجلين في أخرى القوم ¬

_ (¬1) إحكام الأحكام (4/ 468). (¬2) حاشية الصنعاني (4/ 468). (¬3) نيل الأوطار (3/ 79). (¬4) انظر مجموع الفتاوى (23/ 178 - 199، 210 - 217). (¬5) انظر (2/ 208). (¬6) أخرجه البخاري (561)، ومسلم (827). (¬7) أخرجه البخاري (572)، ومسلم (684).

لا صلاة إذا أقيمت الصلاة

لم يصليا. فقال: "علي بهما"، فجيء بهما ترعد فرائصهما فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا"؟ فقالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا، قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" (¬1). فهذا صريح في جواز إعادة الجماعة لمن دخل مسجدًا وأهله يصلون بعد الفجر وهو وقت نهي. ومن ذلك -أيضًا-: ركعتا الطواف، لحديث جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى آية ساعة شاء من ليل أو نهار" (¬2). فهذه الأحاديث وغيرها مخصصة لعموم حديث "لا صلاة"، وحديث تحية المسجد عام محفوظ لم يدخله التخصيص، وأحاديث النهي ليس فيها حديث واحد عام باق على عمومه، بل كلها مخصوصة، والعام والذي لم يدخله التخصيص مقدم على العام الذي دخله التخصيص (¬3). ومما يؤيد إخراج تحية المسجد من عموم النهي غير ما ذكر: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بتحية المسجد حال الخطبة، كما سيأتي إن شاء الله. والنهي عن الصلاة في وقت الخطبة أشد؛ لأن السامع منهي عن كل ما يشغله عن الاستماع حتى الصلاة حيث أمر الشرع بتخفيفها، فإذا فعلت تحية المسجد وقت الخطبة ففعلها في سائر الأوقات أولى (¬4). ثم إن تحية المسجد كغيرها من ذوات الأسباب تفوت إذا أخرت عن وقت النهي ويحرم المصلي ثوابها، وهذا بخلاف النفل المطلق، فإنه إذا منع منه المكلف وقت النهي ففي غيره من الأوقات متسع لفعله، فلا تضييق عليه ولا حرمان، بل قد يكون في المنع من الصلاة في بعض الأوقات مصلحة للمكلف من إجمام نفسه وإقبالها على فعل الطاعة بنشاط، وهذا أمر ملحوظ (¬5). وعلى هذا فتحمل أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المذكورة على ما لا سبب له، كالنفل المطلق، ويخص منها ما له سبب كتحية المسجد. وهذا هو الرأي المختار -إن شاء الله- وبه تجتمع الأدلة، ويعمل بها كلها (¬6). والله أعلم. لا صلاة إذا أقيمت الصلاة اعلم أن النافلة لا تشرع إذا دخل المسجد والإمام في الفريضة، أو قد شرع المؤذن في الإقامة، أو دخل والصلاة ستقام، فلا تصلِّ تحية المسجد في هذه الحالات؛ وذلك لعموم حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬7). وعند ابن حبان: "إذا أخذ المؤذن في الإقامة" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 283)، والترمذي (219)، والنسائي (2/ 112)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. والفرائص بالصاد: جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها. قاله في النهاية (3/ 431). (¬2) أخرجه الترمذي (3/ 604)، والنسائي (1/ 284)، وأحمد (4/ 80)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬3) انظر مجموع الفتاوى (23/ 185، 195)، وأعلام الموقعين لابن القيم (2/ 322). (¬4) انظر مجموع الفتاوى (23/ 192، 193). (¬5) انظر مجموع الفتاوى (23/ 187، 196). (¬6) انظر فتح الباري (2/ 59)، وتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله عليه-. (¬7) أخرجه مسلم (710)، وأبو داود (4/ 143)، والترمذي (2/ 481)، والنسائي (2/ 16). (¬8) صحيح ابن حبان (3/ 307)، ورجال إسناده ثقات.

قال النووي: (الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة) (¬1). وقال القاضي: (وفيه حكمة أخرى: وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة) (¬2). قال العراقي: (إن قوله "فلا صلاة" يحتمل أن يراد: فلا يشرع حينئذ في صلاة عند إقامة الصلاة، ويحتمل أن يراد: فلا يشتغل بصلاة وإن كان قد شرع فيها قبل الإقامة، بل يقطعها المصلي؛ لإدراك فضيلة التحرم، أو أنها تبطل بنفسها وإن لم يقطعها المصلي، يحتمل كلًا من الأمرين) (¬3). واعلم أنه لا فرق في منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة بين الراتبة أو غيرها، كما أنه لا فرق بين ركعتي الفجر أو غيرهما، وما يتوهمه بعض الناس من جواز ركعتي الفجر ولو كان الإمام في المكتوبة؛ بحجة طول القراءة وأنه يتمكن من أدائها قبل الركوع فهذا غير صحيح، وصلاته باطلة؛ لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬4). وأداء ركعتين والصلاة قد أقيمت ليس عليه أمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيكون مردودًا على صاحبه، وما كان مردودًا على صاحبه فهو فاسد، كيف وقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك كما تقدم، فيكون أشد ردًا. وأما ما ورد من زيادة: (فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الصبح) فهي كما قال ابن القيم: (زيادة كاسمها لا أصل لها). وقال البيهقي: (هذه الزيادة لا أصل لها)؛ وذلك لأن في إسنادها حجاج بن نصير الفساطيطي، وعباد بن كثير الثقفي: (وهما ضعيفان). وفي التقريب: أن الأول ضعيف، والثاني متروك (¬5). لكن إذا أقيمت الصلاة وهو في تحية المسجد، أو في راتبة، فهل يقطعها؟ ثلاثة أقوال: الأول: أنه يقطعها؛ لعموم "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". فإن الحديث عام يشمل من شرع في النافلة بعد سماع الإقامة للفريضة، أو كان قد شرع في النافلة وسمع الإقامة بعد ذلك، وقد أخرج ابن أبي شيبة عن بيان قال: (كان قيس بن أبي حازم يؤمنا فأقام المؤذن للصلاة وقد صلى ركعة، قال: فتركها، ثم تقدم فصلى بنا) (¬6). ولأجل أن يدرك الفريضة من أولها بإدراك تكبيرة الإحرام بعد تكبير الإمام، كما ذكر النووي سابقًا، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا كبر فكبروا" (¬7) وهذه الجملة تدل على أن تكبير المأموم يقع عقب تكبير الإمام فلا يقارنه ولا يتقدم عليه، بدليل رواية أبي داود: "ولا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد". القول الثاني: أنه لا يقطعها بل يتمها، واستدل من قال بهذا بعموم قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم} [محمد: 33]. ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم (5/ 230). (¬2) شرح صحيح مسلم للقاضي عياض (3/ 46). (¬3) انظر: نيل الأوطار (3/ 97). (¬4) أخرجه مسلم (1718)، وأخرجه البخاري تعليقًا في البيوع وموصولًا في الصلح. انظر فتح الباري (4/ 355)، وأخرجه أبو داود (4606)، وابن ماجه (14). (¬5) انظر أعلام الموقعين (2/ 356)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 483)، ومجموع الفتاوى (23/ 264). (¬6) المصنف لابن أبي شيبة (2/ 79). (¬7) أخرجه البخاري (371)، ومسلم (411)، وهو من حديث أنس -رضي الله عنه- وقد ورد اللفظ في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ورواه أبو داود (2/ 314)، من حديث أبي هريرة.

ووجه الدلالة: أن قطع النافلة وعدم إتمامها إبطال للمؤدي، والآية تنهي عن إبطال الأعمال مطلقًا، فيدخل ذلك في عمومها، قال الشوكاني في فتح القدير: (والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائنًا ما كان، من غير تخصيص بنوع معين) (¬1). وأجابوا عن حديث أبي هريرة -المتقدم- بأن النهي متوجه إلى الشروع في غير تلك المكتوبة. وأما إتمام المشروعة قبل الإقامة فضروري لا اختياري، فلا يدخل في النهي المستفاد من الحديث، عملًا بعموم الآية. القول الثالث: التفصيل: وهو أنه إذا كان في الركعة الثانية فلا يقطعها بل يتمها خفيفة، وإن كان في الركعة الأولى فإنه يقطعها؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬2). فمن صلى ركعة قبل الإقامة فقد أدرك ركعة من الصلاة سالمة من المعارض الذي هو الإقامة، فيكون قد أدرك الصلاة بإدراكه الركعة فيتمها خفيفة، ومن كان في الركعة الأولى ولو في السجدة الثانية منها فإنه يقطعها؛ لأنه لم تتمّ له هذه الصلاة، ولم تخلص له حيث لم يدرك منها ركعة قبل النهي عن النافلة (¬3). يقول العلامة المباركفوري في شرح المشكاة: (الراجح عندي: أن يقطع عند الإقامة إن بقيت عليه ركعة، فإن أقل الصلاة ركعة، وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة" فلا يجوز له أن يصلي ركعة بعد الإقامة، وأما إذا أقيمت الصلاة وهو في السجدة أو التشهد فلا بأس لو لم يقطعها؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صلى صلاة، أكما: ركعة بعد الإقامة ... ) (¬4). وأما الآية فيجاب عليها بثلاثة أجوبة: الأول: أنها عامة والحديث خاص، والخاص يقضي على العام، ولا يخالفه، كما في الأصول، فيكون إبطال النافلة بإقامة الصلاة مخصّصًا من عموم الآية بمقتضى الحديث. الثاني: أن سياق الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] يدل على -والله أعلم- أن الإبطال إنما يكون بمعصية الله تعالى أو معصية رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن الآية أمر بطاعة الله وطاعة رسوله ونهي عن المعصية المؤدية إلى إبطال الأعمال. الثالث: أن قطع النافلة إذا أقيمت الفريضة لا معصية فيه، بل هو عين الطاعة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القائل: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". قال في المحلى: (فإن قيل: قال الله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}! قلنا: نعم هذا حق وما هو أبطلها، ولو تعمد إبطالها لكان مسيئًا. ولكن الله عز وجل أبطلها عليه، كما تبطل بالحدث، وبمرور ما يبطل الصلاة مروره، ونحو ذلك) (¬5). وعلى القول بأنه يقطعها فإنه لا يحتاج إلى تسليم -على أرجح الأقوال- بل يخرج منها ويلحق ¬

_ (¬1) فتح القدير (5/ 41). (¬2) أخرجه البخاري (555)، ومسلم (607)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. (¬3) الممتع (4/ 238)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (15/ 99). (¬4) المرقاة شرح المشكاة (2 - 71). (¬5) المحلى (3/ 112).

تحية المسجد الحرام

بالفريضة التي أقيمت؛ وذلك لأمرين: الأول: أن التسليم خاص بالصالة الكاملة؛ لحديث علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬1). الثاني: قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أحدث أحدكم في صلاته فيأخذ بأنفه ثم لينصرف" (¬2) فأمره بالانصراف ولم يأمره بالسلام لوجود هذا العارض الذي قطع صلاته، وإقامة الفريضة عارض تقطع النافلة لأجله، فلم تحصل النافلة الكاملة التي لا يكون الخروج منها إلا التسليم. والله أعلم. تحية المسجد الحرام اعلم أن داخل المسجد الحرام له حالتان: الأولى: أن يريد الطواف، فهذا تحيته الطواف، سواء كان لحج أو عمرة، أو كان الطواف تطوعًا أو غير ذلك، فيبدأ بالطواف ثم يصلي ركعتي الطواف خلف المقام فلا يجلس -إن أراد الجلوس- إلا وقد صلى. فحصلت التحية ضمنًا؛ لأن المقصود افتتاح محل العبادة بعبادة، وعبادة الطواف تحصّل هذا المقصود (¬3). هذه هي السنة في حقه، وأما كونه يصلي ركعتين تحية المسجد ثم يبدأ بالطواف فهذا خلاف السنة؛ فإنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما دخل المسجد بدأ بالطواف، كما في حديث جابر وغيره (¬4). وبعض الناس لا يعرف هذا، فتراه يصلي ركعتين ثم يذهب إلى المطاف لأداء نسكه. أما لو أراد الجلوس قبل الطواف وأراد تأخيره لعذر، كانتظار رفقة أو لاستراحة فهذا يشرع له أن يصلي تحية المسجد ركعتين؛ لعموم حديث أبي قتادة: "فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". الحالة الثانية: أن يريد الجلوس لانتظار صلاة أو قراءة أو ذكر ونحو ذلك فهذا يشرع في حقه أن يصلي التحية؛ لعموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس، فإنها تشمل المسجد الحرام بلا ريب. ولا يقال: عن تحية المسجد الحرام هي الطواف؛ لأمرين: الأول: أن ما اشتهر على الألسنة من أن تحية المسجد الحرام الطواف لا أصل له. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (حديث "من أتى البيت فليحيه بالطواف" لم أجده) (¬5). وقال القاري في الموضوعات الكبرى: (حديث "تحية البيت الطواف". قال السخاوي: لم أره بهذا اللفظ. قلت: المراد بالبيت هو الكعبة، وهو بيت الله الحرام، ومعناه صحيح، كما في الصحيح عن عائشة: "أول شيء بدأ به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف .. " الحديث. وذلك لأن كل من يدخل المسجد الحرام يسن له أن يبدأ بالطواف فرضًا أو نفلًا، ولا يأتي بصلاة تحية المسجد إلا إذا لم يكن في نيته أن يطوف لعذر أو غيره. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275)، وقال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن". وقال النووي: حديث حسن، والحديث له شواهد يرقى بها إلى درجة الصحة. انظر: نصب الراية (1/ 308). (¬2) أخرجه أبو داود (1114)، وابن ماجه (1222)، والحاكم (1/ 184)، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي. والحديث له طرق، وقد اختلف في وصله وإرساله. فانظر السنن الكبرى للبيهقي (2/ 254)، وانظر معناه في "معالم السنن" (1/ 248). (¬3) انظر إحكام الأحكام بحاشية الصنعاني (2/ 474)، والقواعد النورانية (ص 101). (¬4) انظر فتح الباري (2/ 412). (¬5) الدراية (2/ 17)، وانظر نصب الراية (3/ 51).

سقوط تحية المسجد

وليس معناه أن تحية المسجد ساقطة عن هذا المسجد، كما توهم بعضهم من مفهوم هذه العبارة الصادرة عن الفقهاء وغيرهم). اهـ (¬1). الأمر الثاني: أن في ذلك حرجًا عظيمًا لا تأتي الشريعة الإسلامية بمثله، فلو كان الداخل للمسجد الحرام لا يجلس حتى يطوف لوقع الناس في مشقة، لا سيما مع تكرر دخول المسجد الحرام لصلاة وغيرها. وكيف يكون الحال أوقات المواسم كالحج أو رمضان وغيرها من الأوقات التي يزدحم فيها المسجد الحرام بالمعتمرين والحجاج والمصلين. فالحمد لله على تيسيره. سقوط تحية المسجد تسقط تحية المسجد في صور عديدة أهمها ما يلي: إذا تكرر دخول الإنسان المسجد عدة مرات متوالية، فمن أهل العلم من قال: يكفيه ركعتان، وهو قول الحنفية (¬2)، ونقله المرداوي عن ابن عقيل الحنبلي، وعلل ذلك بالمشقة لو صلى لكل مرة (¬3). وقال الأكثرون: تستحب التحية لكل مرة، قال النووي: وهو الأقوى والأقرب على ظاهر الحديث. اهـ (¬4). ورجحه الشيخ عبد الرحمن السعدي (¬5). والأظهر أنه يكفيه ركعتان؛ لأن من خرج من المسجد وعاد إِليه عن قرب لم يخرج خروجًا منقطعًا، فلا يعد خروجًا، بدليل أن مثل ذلك لا يقطع اعتكاف المعتكف، أما من خرج خروجًا منقطعًا ولم ينو الرجوع فهذا تشرع له التحية مرة أخرى إن رجع. والله أعلم (¬6). إذا دخل المسجد وجلس قبل التحية، فإن لم يطل الفصل قام وصلى، على الأظهر من قولي أهل العلم (¬7)، ويدل لذلك حديث جابر -رضي الله عنه- قال: بينما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أصليت يا فلان؟ " قال: لا. قال: "قم فصلّ ركعتين" (¬8). قال النووي: (الذي يقتضيه هذا الحديث أنه إذا ترك التحية جهلًا بها أو سهوًا يشرع له فعلها ما لم يطل الفصل، وهذا هو المختار) (¬9). أما إِذا جلس وطال الفصل فمن أهل العلم من قال: إنه فات محلها، وقال آخرون: بل يقوم ويصلي ولو طال الفصل؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر سليكًا -كما تقدم- بتحية المسجد بعد جلوسه، ولا تحديد لهذا الفصل، فلا يتركها الداخل حتى ولو جلس فإنه يصليها (¬10). والقول بأنه إذا طال الفصل لا يصليها لا يخلو من وجاهة، ونقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" ¬

_ (¬1) الموضوعات الكبرى (ص 156)، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (3/ 73). (¬2) حاشية ابن عابدين (2/ 460). (¬3) تصحيح الفروع مع الفروع (1/ 502). (¬4) المجموع (4/ 52). (¬5) الفتاوى السعدية ص (161). (¬6) فتاوى ابن عثيمين (4/ 353). (¬7) أحكام المساجد (2/ 188). (¬8) تقدم تخريجه. (¬9) المجموع (4/ 53). (¬10) المغني (2/ 554)، أحكام المساجد (2/ 188).

الحكم السابع الصلاة إلى سترة

عن المحب الطبري أنه قال: (يحتمل أن يقال: وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة، وبعده وقت جواز، أو يقال وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل) (¬1). إذا دخل المسجد وقد أقيمت الفريضة -كما تقدم- أو صلاة نفل كالتراويح، أو صلى مقضية سقطت عنه تحية المسجد؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬2). لأن المقصود من تحية المسجد هو تعظيم المسجد بأي صلاة كانت وشغل بقعة المسجد بصلاة، فقامت الفريضة أو النافلة أو المقضية ونحوها مقام التحية، فلم تبق التحية مطلوبة (¬3). إذا دخل والخطيب يوشك أن ينهي خطبة الجمعة فإنه يقف إلى قيام الصلاة، لكراهة الجلوس قبل التحية، ولا يصليها؛ لأنه مأمور بصلاتها حيث يمكنه ذلك، وفى هذه الحال لا يمكنه أن يصلي، فتسقط عنه، وكذا لو خشي فوات تكبيرة الإحرام، أو الفاتحة، أو الركعة الأولى سقطت عنه تحية المسجد (¬4). إذا دخل المسجد الحرام وهو يريد الطواف سقطت عنه التحية. وقد مضى الكلام على هذه الصورة. والله أعلم. الحكم السابع الصلاة إلى سترة ومما ينبغي أن يحرص عليه المصلي بعد دخول المسجد أن يصلي النافلة إلى سترة، وأن يدنو منها، وهي مشروعية في حق الإمام والمنفرد، وكذا المسبوق إذا قام لقضاء ما فاته إن أمكن، حتى ولو كان المصلي في مكان لا يخشى فيه مارًا؛ لعموم الأدلة لكل مصلّ؛ ولأنه قد يكون المار من الجنس الذي لا يراه الإنسي، وهو الشيطان، كما في حديث سهل الآتي -إن شاء الله-. ولا فرق في مشروعية اتخاذ السترة بين الرجال والنساء، على أن التساهل فيها موجود، فمن المتنفلين من لا يصلي إلى سترة، بل يصلي وسط المسجد، أو في مؤخره بلا سترة، وهذا من الجهل وعدم الفقه في الدين. والنساء يتساهلن في السترة، فلا تكاد تجد امرأة تصلي في بيتها إلى سترة إلا القليل النادر (¬5). وقد دلت السنة القولية والفعلية على تأكيد اتخاذ السترة، وقد واظب عليها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يتركها حضرًا ولا سفرًا، وأمر بها في عدة أحاديث، حتى ذهب فريق من أهل العلم إلى وجوبها، وهو مروي عن الإمام أحمد رحمه الله، وبه قال ابن خزيمة وبدر الدين العيني والشوكاني وغيرهم، رحم الله الجميع، وهذا قول قوي وإن كان الجمهور قالوا بالسنية، فإن الأمر باتخاذ السترة أمر مطلق لا قرينة معه تصرفه عن الوجوب، فيكون مقتضيًا له، وإليك بعضًا من هذه النصوص: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، ولا يدع أحدًا يمر يه وبينها، فإذا جاء أحد يمر فيقاتله؛ فإنه شيطان" (¬6). ¬

_ (¬1) فتح الباري (1/ 538)، كشاف القناع (2/ 46). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) فتح الباري (1/ 14). (¬4) انظر: الأم (1/ 227). (¬5) انظر: عمدة القاري (4/ 123)، ونيل الأوطار (3/ 3). (¬6) أخرجه أبو داود (2/ 390)، وابن ماجه (1/ 307)، والبيهقي (2/ 267)، وقد صححه ابن خزيمة (2/ 27)، والألباني =

قال الشوكاني: (فيه أن اتخاذ السترة واجب) (¬1). وعن سهل بن أبي حثمة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (¬2). وعن سبرة بن معبد الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم" (¬3). والسهم: عود من الخشب يسوّى، في طرفه نصل يرمى به عن القوس، ويبلغ طوله فترًا تقريبًا، والفتر: بالكسر، ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة بالتفريج المعتاد (¬4)، ويقدر بحوالي ستة عشر سنتًا. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في سفره، فمن ثمّ اتخذها الأمراء (¬5). والحربة: آلة قصيرة من الحديد، محددة الرأس، تستعمل في الحرب (¬6). وعن عون بن أبي جحيفة قال: سمعت أبي: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى بالبطحاء وبين يديه عنزة الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، يمر بين يديه المرأة والحمار، وفي رواية: يمر من ورائها المرأة والحمار والكلب (¬7). والعنزة: أطول من العصا، وأقصر من الرمح، في أسفلها زج كزج الرمح، يتوكأ عليها الشيخ الكبير (¬8). وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود" (¬9). قال النووي: (آخرة الرحل: بهمزة ممدودة، وكسر الخاء، وهي العود الذي في آخر الرحل). اهـ (¬10). والرحل: هو المعروف عند أهل الإبل بالشداد، وهو المركب المعد للراكب، يكون من الخشب، وفي آخره خشبة يستند إليها الراكب. فهذه النصوص دليل صريح على مشروعية اتخاذ السترة عند الصلاة، سواء كان ذلك في المسجد، أو المنزل، أو في الصحراء. ¬

_ = في "صحيح الجامع" (654، 664). (¬1) نيل الأوطار (3/ 2)، وانظر السيل الجرار للشوكاني (1/ 176). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 388)، وصححه ابن خزيمة (2/ 27)، والنووي في المجموع (3/ 8). (¬3) أخرجه أحمد (3/ 404)، والطبراني في الكبير (7/ 114)، وابن خزيمة (2/ 13)، وإسناده حسن. (¬4) لسان العرب (12/ 308)، (5/ 44)، والمعجم الوسيط (1/ 459)، وانظر: "الحرف والصناعات في الحجاز" ص (212). (¬5) أخرجه البخاري (1/ 573)، ومسلم (4/ 464). (¬6) المعجم الوسيط (1/ 164)، وانظر: "الحرف والصناعات في الحجاز" ص (218). (¬7) أخرجه البخاري (1/ 573)، ومسلم (4/ 464). (¬8) المعجم الوسيط (2/ 631). (¬9) أخرجه مسلم (4/ 473). (¬10) شرح النووي على مسلم (4/ 462).

ولقد امتثل السلف الصالح مدلول هذه النصوص، وثبت من أقوالهم وأفعالهم ما يدل على ذلك. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لقد رأيت أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبتدرون السواري عند المغرب حتى يخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي رواية: وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب (¬1). وعن قرّة بن إياس قال: رآني عمر وأنا أصلي بين أسطوانتين -أي: عمودين- فأخذ بقفائي فأدناني إلى سترة، فقال: صل إليها (¬2). قال الحافظ ابن حجر: (أراد عمر بذلك أن تكون صلاته على سترة) (¬3). وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (أربع من الجفاء: أن يصلي الرجل إلى غير سترة، وأن يسمح جبهته قبل أن ينصرف، أو يبول قائمًا، أو يسمع المنادي ثم لا يجيبه) (¬4). والحكمة من الأمر باتخاذ السترة دفع الضرر عن الصلاة الذي سببه مرور الشيطان أمام المصلي، وهذا ما يفهم من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث سهل المتقدم: "فليصل إلى سترة، وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (¬5). قال السندي: (هذه جملة مستأنفة بمنزلة التعليل، أي: لئلا يقطع الشيطان عليه صلاته) (¬6). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذ كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين" (¬7). والشيطان يطلق حقيقة على الجن، ويطلق على الإنس أيضًا. قال العيني: (وقد يكون أراد بالشيطان المار بين يديه: نفسه، وذلك أن الشيطان هو المارد الخبيث من الجن والإنس) (¬8). وقال بعض العلماء: الحكمة في السترة كفّ البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز بقربه، وهذا أمر محسوس؛ فإن من يصلي إلى سترة أجمع لقلبه وأقرب لخشوعه وأغض لبصره، لا سيما إذا كانت سترة شاخصة كجدار أو سارية؛ والله المستعان. وتحصل السترة بكل ما يجعله المصلي تجاه القبلة كالسارية، والجدار ولو قصيرًا، والراحلة، والسيارة، والشجرة، والسرير، واللبنة، والمخدة، والعصا والحجر، وغير ذلك (¬9). وأجاز بعض العلماء فرش السجادة واعتبار نهايتها سترة له. قال في سبل السلام: (وقاس الشافعية على ذلك -أي وضع الخط- بسط المصلي لنحو سجادة، بجامع إشعار المار أنه في الصلاة، وهو صحيح) (¬10). ولا تحديد لعرض السترة؛ فإن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى إلى العنزة (وهي عصا في أسفلها حديدة)، وصلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 577)، (2/ 106). (¬2) رواه البخاري تعليقًا (1/ 577)، بصيغة الجزم، ووصله ابن أبي شيبة (2/ 370)، وهو أثر حسن. (¬3) فتح الباري (1/ 577). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 61)، وسنده حسن. (¬5) انظر: إتحاف الأخوة بأحكام الصلاة إلى السترة (ص 128). (¬6) حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 62). (¬7) أخرجه مسلم (4/ 470). (¬8) عمدة القاري (4/ 122). (¬9) شرح النووي على مسلم (4/ 463). (¬10) المجموع (3/ 248)، سبل السلام (1/ 284).

على الرمح ونحوهما، وفي حديث سبرة المتقدم: "ولو بسهم". وأما ارتفاعها فتقدم في حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنها مثل آخرة الرحل، والمراد بذلك: الخشبة التي يستند إليها الراكب، كما مضى، ومقدارها ذراع، كما صرح به عطاء، وأفتى به الثوري، قال ابن جريج: قال عطاء: كان من مضى يجعلون مؤخرة الرحل إذا صلوا، قلت: وكم بلغك قدر مؤخرة الرحل؛ قال: ذراع، قال: سمعت الثوري يفتي بقول عطاء (¬1)، وذكر النووي أنها ثلثا ذراع (¬2)، والظاهر أن طولها يختلف، والله أعلم. واعلم أن ظاهر النصوص يدل على أن المصلي يجعل السترة قبالة وجهه ولا ينحرف عنها، فإن قول الراوي: صلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الحربة. وقوله: بين يديه عنزة، ونحوهما يدل على مقابلة السترة وعدم الانحراف. قال ابن عبد البر: (وأما استقبال السترة والصمد لها فلا تحديد في ذلك عند العلماء، وحسب المصلي أن تكون سترته قبالة وجهه). اهـ (¬3). وأما حديث ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها قالت: (ما رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى على عمود ولا عود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد له صمدًا)؛ فهو حديث ضعيف، كما حققه ابن القيم وغيره من أهل العلم (¬4). وقد دلت الأحاديث المتقدمة على وجوب الدنو من السترة على ما ذهب إليه فريق من أهل العلم لأمرين: الأول: أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بذلك، والأمر عند الإطلاق يقتضي الوجوب. الثاني: التعليل بقوله: "وليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" (¬5). وأما مقدار ذلك فقد دل عليه حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: كان بين مصلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين الجدار ممر شاة (¬6). والمراد بالمصلّى: مكان الصلاة، وهو ما يصلي فيه الإنسان من موضع القدمين والجبهة في السجود، فتكون المسافة بين موضع سجوده وبين سترته قدر ممر شاة، وهو نصف ذراع تقريبًا، أو ثلاثة أذرع ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرازق في المصنف (2/ 9)، ورواه أبو داود عن عطاء (2/ 481)، وهو أثر صحيح. (¬2) شرح النووي على مسلم (4/ 463). (¬3) التمهيد (4/ 197). (¬4) أخرجه أبو داود (693)، وأحمد (6/ 4)، وغيرهما من طريق علي بن عياش ثنا أبو عبيدة الوليد بن كامل البجلي، حدثني المهلب بن حجر البهراني عن ضباعة. به. وهذا إسناد ضعيف، تفرد به الوليد بن كامل، كما قاله البيهقي (2/ 279)، وعلته ثلاثة أمور: جهالة الوليد بن كامل، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام " (3/ 352): "الوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم تثبت عدالتهم، ولا لهم من الرواية كبير شيء يستدل به على حالهم". اضطراب الوليد فيه، كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر وغيره، ففي رواية علي بن عياش -هذه- جعله فعلًا، وفي رواية بقية جعله قولًا. كما عند النسائي -على ما قاله ابن القيم في "تهذيب السنن" (1/ 341) - كما أنه تارة يقول: ضباعة بنت المقداد، وتارة: ضبيعة بنت المقدام. جهالة ضباعة والمهلب. ذكر ذلك ابن القطان -أيضًا- (2/ 352)، ولهذا ضعفه المحققون من أهل العلم أمثال: البيهقي وعبد الحق وابن القطان والنووي والمنذري وغيرهم. والله أعلم. انظر تهذيب السنن (1/ 341)، ونصب الراية (2/ 83)، وإتحاف الأخوة ص (131). (¬5) انظر: المحلى (4/ 261)، فتح الباري (1/ 575)، شرح ثلاثيات مسند أحمد (2/ 786). (¬6) رواه البخاري (1/ 574)، ومسلم (4/ 472).

السترة في المسجد الحرام:

تقريبًا من موضع القدمين على السترة (¬1)، كما ورد في حديث بلال -رضي الله عنه-: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى في الكعبة، وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع (¬2). يقول البغوي رحمه الله: (والعمل على هذا عند أهل العلم؛ استحبوا الدنو من السترة، بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفين) (¬3)، وعلى هذا فينبغي قرب الصف الأول من الإمام؛ لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. والله أعلم. السترة في المسجد الحرام: اعلم أن النصوص الدالة على مشروعية السترة في الصلاة، وتحريم المرور بين يدي المصلي، ووجوب رد المار تشمل المسجد الحرام، فإنها أدلة عامة لا مخصص لها، بل قد ورد في اتخاذ السترة بمكة عمومًا وفي المسجد الحرام خصوصًا أدلة صريحة تؤيد ذلك. فمنها حديث أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالهاجرة فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين، ونصب بين يديه عنزة .. الحديث (¬4). وقد بوب عليه البخاري رحمه الله فقال: (باب السترة بمكة وغيرها). قال ابن حجر في فتح الباري: (فأراد البخاري التنبيه على ضعف الحديث -أي حديث المطلب الآتي- وأنه لا فرق بين مكة وغيرها في مشروعية السترة) قال: (وهذا هو المعروف عند الشافعية وأنه لا فرق في منع المرور بين يدي المصلي بين مكة وغيرها) (¬5). وعن جابر -رضي الله عنه- في حديثه الطويل في صفة حج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم -عليه السلام- فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت. فذكر صلاته ركعتين (¬6). وعن يحيى بن أبي كثير قال: رأيت أنس بن مالك في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها (¬7). وعن صالح بن كيسان قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، ولا يدع أحدًا يمر بين يديه (¬8). فهذه نصوص صحيحة صريحة في أن اتخاذ السترة في المسجد الحرام ومكة عمومًا مشروع. وعلى هذا فلا يجوز المرور بين يدي المصلي عامة، ولا أعلم دليلًا يستثني المسجد الحرام، والوعيد في الأحاديث عام يستحقه كل من يمر بين مصلّ في أي مكان. وأما ما ورد عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طاف بالبيت سبعًا، ثم صلى ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (1/ 574، 575). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 113)، والنسائي (2/ 63)، وأبو داود (2024)، وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. (¬3) شرح السنة (2/ 447). (¬4) أخرجه البخاري (479)، ومسلم (503). (¬5) فتح الباري (1/ 576). (¬6) أخرجه مسلم (1218). (¬7) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 277). (¬8) أخرجه البخاري معلقًا مختصرًا، وانظر فتح الباري (1/ 581)، وتغليق التعليق (2/ 247)، وانظر في هذا الأثر وما قبله (حجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، للألباني (ص 24)، ط الثالثة.

الحكم الثامن لا يخرج من المسجد بعد الأذان

ركعتين بحذائه في حاشية المقام، وليس بينه وبين الطواف أحد (¬1)، وفي رواية: (وليس بينه وبين الطواف سترة)، فهذا قد استدل به من قال: لا سترة في المسجد الحرام. ولكن هذا الإستدلال غير ناهض؛ لوجوه منها: الأول: أن الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده، ففي إسناده مجهول وهو الواسطة بين كثير وجده وفيه علة أخرى، وهي الاختلاف في إسناده (¬2). الثاني: أنه فعل، وأحاديث الأمر بالسترة قول، وقد تقرر في الأصول أن فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعارض القول الخاص بالأمة. الثالث: أنه معارض بما هو أقوى منه، وهو ملازمة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اتخاذ السترة سفرًا وحضرًا الثابت بالأحاديث الصحيحة. وكذلك أمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالسترة أمرًا صريحًا مطلقًا في نصوص كثيرة -كما تقدم-. الرابع: أن الثابت في حديث جابر -رضي الله عنه- وغيره أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى بعد فراغه من الطواف خلف المقام، فيكون المقام سترة له. قال جابر -رضي الله عنه-: (وطاف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالبيت وصلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت .. ) (¬3) ولهذا قال السندي -رحمه الله- على حديث المطلب: (قلت: لكن المقام يكفي سترة، وعلى هذا فلا يصلح هذا الحديث دليلًا لمن يقول: لا حاجة في مكة إلى سترة، فليتأمل) (¬4). ومن العلماء من يجيز المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام في حال الضرورة (¬5) كالزحام الشديد للمشقة، ولا أعلم لذلك دليلًا. لكني أقول؛ ليت الأمر اقتصر في المسجد الحرام على حال الضرورة، كأيام الحج، ورمضان -مثلًا-؛ لأن الواجب على العبد أن يتقي الله ما استطاع، ولكن صار المرور شيئًا عاديًا لدى عموم الناس، حتى إن بعضهم ليمر بين يدي المتنفلين ذهابًا وإيابًا لأدنى حاجة، دون أن يحسّ بحرج، وهذا مما يشاهد ويؤسف عليه، إذ لا ريب أن المرور بين يدي المصلي فيه تشويش عليه وأذية له، فالله المستعان. الحكم الثامن لا يخرج من المسجد بعد الأذان من آداب حضور المساجد: أن لا يخرج المسلم بعد الأذان إلا لعذر؛ لأن الخروج إعراض عما يقتضيه الأذان من طلب الإقبال وحضور المساجد لأداء الصلاة؛ ولئلا يكون الخروج ذريعة إلى الاشتغال عن صلاة الجماعة والتأخر عنها، وقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين .. " الحديث (¬6). قال ابن بطال: (يشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن من هذا المعنى؛ ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 399)، وأبو داود (2016)، وابن ماجه (2/ 986)، والنسائي (2/ 67، 5/ 235)، واللفظ له. (¬2) انظر السلسلة الضعيفة للألباني (928). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 67). (¬5) انظر فتح الباري (1/ 576). (¬6) أخرجه البخاري (583)، ومسلم (389).

لئلا يكون متشبهًا بالشيطان الذي يفرّ عند سماع الأذان، والله أعلم) (¬1). وعن أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة -رضي الله عنه- فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فاتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (¬2). وهذا المرفوع حكمًا الذي يحتج به؛ لأن الحكم على الشيء بأنه طاعة أو معصية لا يكون إلا بنص من الشارع، ولا يجزم الصحابي بذلك إلا وعنده علم منه، على أنه قد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يسمع النداء في مسجدي هذا، ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق" (¬3). قال الترمذي -رحمه الله- بعد حديث أبي هريرة المتقدم: (وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر؛ أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه) اهـ (¬4). أما من خرج لعذر شرعي كوضوء فقد ورد الدليل بجوازه، وهو ما دل عليه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف، حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال: "على مكانكم" فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه ماء، وقد اغتسل (¬5). وكذا يجوز الخروج لمن كان إمامًا في مسجد آخر حضر درسًا أو محاضرة؛ لأن هذا عذر شرعي داخل في عموم الحاجة المنصوص على استثنائها. وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج، لحاجة، وهو لا يريد الرجعة فهو منافق" (¬6). وعن سعيد بن المسيب: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " قال: "لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق، إلا أحد أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع" (¬7). والمعنى: أن فعله هذا فعل المنافق؛ إذ المؤمن حقًا ليس من شأنه ذلك، فالنفاق هنا النفاق العملي، وليس الاعتقادي، والله أعلم (¬8). وبعض المؤذنين إذا أذن خرج إلى بيته أو لشغله، وهذا وإن كان يريد الرجوع لكن الأولى في حقه عدم الخروج؛ لأنني أخشى أن يكون خروجًا لغير حاجة، بل دعت إليه العادة والملل من الجلوس في المسجد حتى الإقامة لا سيما في الأوقات التي يتسع فيها الزمن بين الأذان والإقامة في غالب المساجد، والمؤذن أولى بالامتثال من غيره؛ لأنه يدعو الناس إلى حضور الصلاة والمبادرة إليها، ثم هو يخرج ولا يعود إلا قبيل الإقامة. فينبغي التنبه لذلك، والتنبيه عليه. ¬

_ (¬1) شرح ابن بطال على البخاري (2/ 235)، فتح الباري (2/ 87). (¬2) أخرجه مسلم (3/ 162)، وغيره. وانظر أعلام الموقعين (3/ 160)، وفيه (قال عمار .. )، بدل (قال أبو هريرة). (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 501، 502)، ورواته محتج بهم في الصحيح، قاله في مجمع الزوائد (2/ 5)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 179). (¬4) جامع الترمذي (1/ 608 مع التحفة). (¬5) أخرجه البخاري (613)، ومسلم (605). (¬6) أخرجه ابن ماجه (1/ 123 صحيح ابن ماجه)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 179). (¬7) رواه أبو داود في المراسيل (ص 82)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 179). (¬8) قاله الألباني في المصدر المذكور.

الحكم التاسع وظيفة الجالس في المسجد

الحكم التاسع وظيفة الجالس في المسجد إن المساجد موضع العبادة وحضور الملائكة ونزول الرحمة. فما بنيت إلا لذكر الله تعالى والصلاة. فلها من الحرمة ما ليس لغيرها. وقد اختصت المساجد بآداب ينبغي للجالس فيها أن يتحلى بها، وتكون طبيعة له وسجية بلا تكلف ولا مشقة. وقد نوه الله تعالى بذكر المساجد، وأثنى على المتعبدين فيها؛ قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]. وجمهور المفسرين على أن المراد بالبيوت: المساجد (¬1). وقد وصف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المساجد بأنها أحب البقاع إلى الله تعالى، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" (¬2). قال في بلوغ الأماني: (وإنما كانت المساجد أحب البقاع إلى الله عز وجل؛ لأنها مكان الصلاة، والعبادة، وذكر الله، وتعمرها الملائكة، أما الأسواق فكانت أبغض البقاع إلى الله؛ لما يكثر فيها من الكذب والغش والخداع والأيمان الكاذبة؛ ولأنها مساكن الشياطين، تلهيهم عن ذكر الله وإقام الصلاة، وتغويهم على الكذب والأيمان الفاجرة، نعوذ بالله من ذلك) (¬3). وكما أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المساجد بأنها أفضل البقاع، فقد أخبر عن وظيفتها ومهمة الجالس فيها؛ ففي حديث أنس -رضي الله عنه- في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد جاء قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن" (¬4). فليحرص من وفقه الله تعالى للتقدم إلى المسجد قبل الإقامة على التحلي بالآداب الشرعية بعد أن يصلي تحية المسجد أو السنة الراتبة، ومن ذلك ما يلي: قراءة القرآن: لا مكان أفضل من المسجد لقراءة القرآن. يقول النووي رحمه الله: (ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار، ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد؛ لكونه جامعًا للنظافة وشرف البقعة) (¬5). وقراءة القرآن في المسجد أفضل من الذكر سواء كانت القراءة حفظًا أو غيبًا عن ظهر قلب، وليحرص القارئ على التأدب بآداب التلاوة، من الإخلاص والترتيل وتحسين الصوت والخشوع والسؤال عند آية الرحمة والتعوذ عند آية العذاب والسجود في مواضعه، وألا يرفع صوته بالقراءة، وألا يقطعها لمحادثة أحد، إلا لرد السلام وإجابة المؤذن؛ لعموم الأدلة على وجوب رد السلام ومشروعية إجابة المؤذن، كما ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (6/ 65). (¬2) أخرجه مسلم (5/ 177). (¬3) بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني للساعاتي (15/ 22). (¬4) أخرجه البخاري (1/ 322)، ومسلم (3/ 195). (¬5) التبيان في آداب حملة القرآن (ص 56).

الحذر من الكلام الباطل وما لا فائدة فيه:

يجوز قطعها لكلام لا بد منه كتنبيه غافل أو إرشاد أعمى، ونحو ذلك. ومن الناس من يتساهل في ذلك فيتحدث مع جاره أثناء التلاوة، بل ويقطعها لأدنى كلام، ولا يتحرج من تكرار ذلك. ومن كان لا يحسن القراءة فليكثر من ذكر الله تعالى ومن التسبيح والتحميد والتهليل، ففي ذلك ثواب عظيم وخير كثير، دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولا سيما إذا كان ذلك في المساجد. الحذر من الكلام الباطل وما لا فائدة فيه: لا مكان في المسجد للكلام الباطل من الغيبة والكذب ونحو ذلك، وإذا كانت هذه الأمور محرمة فهي في المسجد أشد تحريمًا، وكلّ كلام لا فائدة فيه فإن المسجد ينزه عنه، فإن المساجد لم تبن لذلك. ومن الناس لا يفتأ يتحدث مع جاره في كلام لا خير فيه أو فيه مضرة، وأكثر هؤلاء ممن يتقدمون إلى المسجد، ويحرمون أنفسهم من فضائل الأعمال التي لا كلفة فيها من الذكر والتسبيح، فهي حفظ للوقت، واحترام للبقعة، وخير يدخره أحوج ما يكون إليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريمًا، وكذلك المكروه، ويكره فيه فضول المباح) (¬1). وقد ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، قال: (نهى سبحانه عن اللغو فيها)، وكذا قال جمع من السلف (¬2). قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: (من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيرًا) (¬3). الحذر من رفع الصوت: لقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن رفع الصوت بالقراءة؛ لئلا يشوش القارئ على غيره من المصلين والتالين -كما تقدم-، وإذا كان القارئ منهيًا عن رفع صوته بالقراءة وهي عبادة إذا تأذى به أحد، فكيف يكون الحكم فيمن يرفع صوته في غير ذلك كحديث الدنيا، وكيف يكون الحكم إذا كان يرفع صوته ومن بجواره يقرأ القرآن؟! قال ابن عبد البر: (وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فإيذاؤه في غير ذلك أشد تحريمًا) (¬4). وعن السائب بن يزيد -رضي الله عنه- قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! (¬5). وقد نص أهل العلم على كراهة رفع الصوت في المسجد، إلا فيما لا بد منه من العلم ونحوه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (22/ 200، 262). (¬2) تفسير ابن كثير (6/ 66). (¬3) تفسير القرطبي (12/ 277). (¬4) شرح الزرقاني على الموطأ (1/ 168). (¬5) أخرجه البخاري (470)، وفي لفظ (كنت نائمًا). انظر: فتح الباري (1/ 560).

الحذر من البيع والشراء في المسجد:

الحذر من البيع والشراء في المسجد: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا رد الله عليك" (¬1). وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الشراء والبيع في المسجد (¬2). وروى مالك: أن عطاء بن يسار كان إذا مر عليه بعض من يبيع في المساجد دعاه فسأله: ما معك، وماذا تريد؟ فإن أخبره أنه يريد أن يبيعه قال: عليك بسوق الدنيا، وإنما هذه أسواق الآخرة (¬3). وإنما نهي عن البيع والشراء في المسجد؛ لما يصاحب ذلك من اللغط ورفع الصوت وتلويث المسجد بمخلفات البيع ونحو ذلك مما يفقد المساجد حرمتها ومكانتها؛ فإن المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله تعالى والصلاة والعلم، والبيع والشراء ونشد الضالة إخراج لها عن وظيفتها التي قررها الشرع، ويلحق بالبيع ما في معناه من الإجارة والرهن والقرض ونحوها من العقود. الحذر من استدعاء النوم بالنعاس: ينبغي للجالس في المسجد ألا يكون للنوم أو النعاس عليه سبيل، ولا سيما مع طول المكث كيوم الجمعة، ولا ريب أن النعاس قد يكون من الأمور القهرية إلا أنه يمكن تفادي ذلك براحة تامة قبل الحضور إلى المسجد، ولا سيما يوم الجمعة، ولا يليق بمسلم أن يجعل اليقظة وقوة الانتباه في الأسواق، ويجعل حظ المسجد النوم والنعاس. كما ينبغي استدعاء النعاس بسبب من الأسباب كالاستناد إلى جدار، أو خفض الرأس، بل يشتغل الجالس بما تقدم، ولا سيما تلاوة القرآن. ومن الناس من لا يبالي بذلك ولو كان في مجلس من المجالس ما كان للنعاس عليه من سبيل، فليحرص المسلم على اغتنام الأوقات لا سيما في أفضل البقاع وهي المساجد، وقد أرشد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ينعس إلى علاج ميسور؛ فقد ورد عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فيتحول من مجلسه ذلك على غيره" (¬4). قال الشوكاني: (والحكمة في الأمر بالتحول: أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان أصابته فيه الغفلة بنومه وإن كان النائم لا حرج عليه، فقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصة نومهم عن صلاة الصبح في الوادي بالانتقال منه، وأيضًا من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والنعاس في الصلاة من الشيطان، فربما كان الأمر بالتحول لإذهاب ما هو منسوب إلى الشيطان من حيث غفلة الجالس عن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (568)، وأبو داود (473)، والترمذي (1321)، واللفظ له. (¬2) رواه الترمذي (322)، وأبو داود (1079)، والنسائي (2/ 47)، وإسناده حسن. انظر: صحيح أبي داود (1/ 201). (¬3) رواه مالك في الموطأ (1/ 174). (¬4) أخرجه أبو داود (1119)، واللفظ له، والترمذي (526)، بلفظ: (يوم الجمعة)، والبيهقي (3/ 273)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ. وفيه عنعنة محمد بن إسحاق، لكن أخرجه أحمد في المسند (2/ 135)، فصرح فيه ابن إسحاق بالتحديث، فزالت شبهة تدليسه، لكن قال البيهقي عقبه: (ولا يثبت رفع هذا الحديث، والمشهور عن ابن عمر من قوله). لكن ذكر الألباني أن المرفوع يتقوى بأن له طريقًا أخرى وشاهدًا، ثم ذكر ذلك. انظر: جامع الأصول (5/ 194)، والصحيحة للألباني (469).

الحكم العاشر تسوية الصفوف وإتمامها

الذكر أو سماع الخطبة أو ما فيه منفعة) (¬1). وقد ورد في بعض طرق الحديث تقييد ذلك بالجمعة، وسأذكر ذلك -إن شاء الله- عند الكلام على أحكام حضور الجمعة. الحكم العاشر تسوية الصفوف وإتمامها من آداب حضور المساجد تسوية الصفوف إذا أقيمت الصلاة، ولقد أولى الإسلام صفوف المصلين عناية كبيرة، حيث أمر بتسوية الصفوف، وبين كيفية التسوية، وأظهر فضيلة تسويتها، والاهتمام بها. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"، وفي رواية: "من إقامة الصلاة" (¬2). وعن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم .. " (¬3). وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لتسوُّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (¬4). فهذه نصوص واضحة في وجوب تسوية الصفوف، قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: (باب إثم من لا يتم الصفوف)، وأورد فيه بسنده عن بشير بن يسار الأنصاري عن أنس بن مالك: أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: (ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف) (¬5). قال في فتح الباري: (يحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله: "سووا صفوفكم"، ومن عموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ومن ورود الوعيد على تركه، فترجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة) (¬6). وفي تسوية الصفوف ثواب عظيم دلت عليه السنة؛ فمن ذلك ما ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله" (¬7). وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (3/ 284). (¬2) أخرجه البخاري (690)، ومسلم (433)، والرواية الثانية للبخاري. (¬3) أخرجه مسلم (432). (¬4) أخرجه البخاري (685)، ومسلم (436). (¬5) أخرجه البخاري (724). (¬6) فتح الباري (2/ 210). (¬7) أخرجه أبو داود (666)، وأخرج آخره من قوله: "ومن وصل صفًا .. " ابن خزيمة (3/ 23)، والنسائي (2/ 93)، والحاكم (1/ 213)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم لم يخرجاه" وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1/ 131).

"من سد فرجة رفعه الله بها درجة، وبنى له بيتًا في الجنة" (¬1). وعن عائشة أيضًا -رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف" (¬2). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وما من خطوة أجرًا من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها" (¬3). فهذه الأحاديث تبين فضيلة تسوية الصفوف وسدّ الفرج، ومدح من يلين بين صاحبه إذا أمره بالاستواء، أو أراد دخولًا في الصف؛ لسد فرجة أو لضيق مكان فلا يمنعه، بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه، فهذا من خيار الناس (¬4). وأما كيفية تسوية الصف فقد دلت عليها نصوص كثيرة تقدم بعضها، ومنها -أيضًا- ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري"، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، وفى رواية: قال أنس: (لقد رأيت أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، ولو ذهبت تفعل ذلك اليوم لترى أحدهم كأنه بغل شموس) (¬5). والشموس: بضم المعجمة والميم: الفرس يستعصي على راكبه (¬6). وقال النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: (فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه) (¬7). وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر" (¬8). ومن مجموع النصوص يتضح أن تسوية الصف تتحقق بما يلي: إتمام الصف الأول فالأول، وسدّ الفرج بالتراص. استقامة الصف وتعديله بالمحاذاة بين الأعناق والمناكب والركب والأكعب، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا منكب على منكب ولا صدر على صدر. ألا يوسع المصلي بين قدميه؛ لأن ذلك يمنع التصاق منكب صاحبه بمنكبه. التقارب فيما بين الصفوف، وفيما بينها وبين الإمام؛ فإن هذا من تسوية الصفوف (¬9). وليس من تسوية الصف ما يفعله بعض الناس من ملاحقة من على يمينه ومن على يساره؛ ليلصق كعبه بكعب جاره، يفعل ذلك في القيام والركوع وبعد الرفع من الركوع. وهذا الفعل لا أصل له في تسوية الصفوف، وفيه أخطاء عديدة: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الأوسط (5793)، وانظر صحيح الترغيب (502). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 316 الفتح الرباني)، وابن ماجه (997)، وغيرهما، وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 103، 115، 141)، وروى الشطر الأول منه البزار (351 زوائده)، وإسناده حسن؛ لأن فيه ليث بن أبي سليم، وهو سيىء الحفظ، ويشهد له حديث ابن عباس الذي عند أبي داود (672)، وأخرجه ابن حبان في صحيحه (5/ 52)، وابن خزيمة (1566). (¬4) انظر معالم السنن للخطابي (1/ 334). (¬5) أخرجه البخاري (692)، والرواية الثانية لأبي يعلى في مسنده (4/ 30)، وسعيد بن منصور والإسماعيلي كما في فتح الباري (2/ 211). وسندها صحيح على شرط الشيخين كما في السلسلة الصحيحة (31). (¬6) المصباح المنير ص (322). (¬7) أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (2/ 211 الفتح). انظر تغليق التعليق (2/ 302). (¬8) أخرجه أبو داود (671)، والنسائي (2/ 93)، وإسناده صحيح. (¬9) انظر: الشرح الممتع (3/ 13).

الأول: أن فيه اشتغالًا؛ فيه اشتغال بما لم يشرع، وإكثار من الحركة، واهتمام بعد القيام لملأ الفراغ، وفيه اشغال للجار بملاحقة قدمه. الثاني: فيه توسيع للفرج بين المتصافين، ويظهر ذلك إذا هوى المأموم للسجود. وهذا يؤدي إلى عدم التصاق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه، فانظر كيف ضيّع هذا المصلي سنة من أجل فعل لا أصل له. الثالث: فيه اقتطاع لمحل قدم غيره بغير حق، فإن جاره يفر منه وهو يلاحقه في مكانه الذي سبق إليه. الرابع: فيه تفويت لتوجيه رؤوس القدمين إلى القبلة؛ لأن أكثر هؤلاء يلوي قدمه، ليلزقها بقدم جاره. الخامس: أن رصّ الصفوف خاص بما يلي الإمام، فمن كان يمين الصف فحقه أن يسد الخلل ويتم الصف متجهًا إلى اليسار، ومن كان على يسار الإمام فيتجه إلى اليمين، وفي هذا الفعل مخالفة بينة لهذه السنة (¬1) ولا دليل لمن يفعل ذلك بقول النعمان بن بشير المتقدم: (فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه)، فإن المراد بالحديث -كما يقول الحافظ في الفتح- المبالغة في تعديل الصف، وسدّ خلله (¬2)؛ بدليل أن إلزاقه الركبة بالركبة حال القيام متعذر. وإنما ذكرت هذه الجزئية؛ لأني رأيت من يفعلها، ويحرص عليها ويناقش فيها، فرحم الله امرأ وقف عند السنة، ولم يفض به تطبيقها على الغلو والزيادة. ولا ينبغي للإنسان أن يقف بين السواري لغير حاجة؛ لما ورد عن معاوية ابن قرة، عن أبيه قال: (كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونطرد عنها طردًا) (¬3)، وله شاهد من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- يتقوى به، يرويه عبد الحميد بن محمود قال: صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري، فتقدمنا وتأخرنا، فقال أنس: "كنا نتقي هذا على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (¬4). فهذا الحديث وما قبله نص صريح في أنه لا ينبغي للمصلين أن يصفوا بين السواري؛ لأن السواري تحول بينهم وبين اتصال الصف وتسويته (¬5). لكن إن ضاق المسجد فلا بأس، كالمسجد الحرام أو بعض المساجد الكبيرة، وذلك للحاجة، لكن لا ينبغي التساهل في هذا، كما يوجد في المسجد الحرام عند قلة الناس، عندما يلزمك بعض الناس بإتمام الصف ولو كان بين السواري مع إمكان التقدم أو التأخر، فالذي أراه أن مثل هذا الصف ينبغي تركه إذا لم يكن حاجة، أما إذا كان الصف صغيرًا قدر ما بين الساريتين فلا بأس؛ لعدم العلة، وهي انقطاع الصف على القول بها. ولا بأس بالصلاة بين الساريتين في غير الجماعة كالنافلة، قال البخاري رحمه الله: (باب الصلاة بين ¬

_ (¬1) انظر رسالة: (لا جديد في أحكام الصلاة)، بقلم: بكر أبو زيد (ص 9)، وما بعدها. مجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 51). (¬2) فتح الباري (2/ 211). (¬3) أخرجه ابن خزيمة (1567)، وابن ماجه (1002)، والحاكم (1/ 218)، والبيهقي (3/ 104)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وواففه الذهبي، وفي سنده: هارون بن مسلم، وهو مستور، لكن يشهد له ما بعده، وانظر السلسلة الصحيحة (335). (¬4) أخرجه أبو داود (2/ 370)، والترمذي (2/ 21)، والنسائي (1/ 131) وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الحافظ في الفتح (1/ 578): حديث أنس إسناده صحيح. (¬5) انظر فتح الباري (1/ 578).

السواري في غير جماعة)، وذكر حديث ابن عمر قال: (دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال، فأطال ثم خرج، كنت أول الناس دخل على أثره، فسألت بلالًا: أين صلّى؟ قال: بين العمودين المقدمين) (¬1). وليحذر المصلي أن يقف في صف متأخر مع وجود أمكنة خالية في الصفوف الأول، كما يفعله بعض الناس عندما يقيمون صفًا أو صفوفًا وبينهم وبين الإمام صفوف شاغرة، فإن هذا مخالف لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه ... " الحديث، وتقدم قريبًا، ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يأخرون حتى يؤخرهم الله" (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة، فإن هذا لا حرمة له). وقال: (بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد، فإن اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشى الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قول العلماء) (¬3). وقال أيضًا: (والسنة في الصفوف أن يتموا الأول فالأول، ويتراصون في الصف، فمن صلى في موخرة المسجد مع خلو ما يلي الإمام كانت صلاته مكروهة، والله أعلم) (¬4). وختامًا أوجه نداء إلى أئمة المساجد أن يهتموا بتسوية الصفوف، ويأمروا المأمومين بذلك قبل تكبيرة الإحرام بألفاظ التسوية الثابتة في السنة؛ مثل: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، اعتدلوا، سوّوا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، أتموا الصف الأول فالأول (¬5)، ونحو ذلك، ويختار من الألفاظ الواردة ما يناسب الحال، والأولى عدم زيادة: (رحمكم الله)؛ لعدم ورودها في أحاديث تسوية الصفوف. ولا يكفي أن يقول الإمام ذلك دون أن يلتفت إلى المأمومين -كما عليه بعض الأئمة- ثم يكبر ويترك الخلل والفرجات، وعلى الإمام أن يحيي السنة المهجورة، فيأتي بنفسه إلى ناحية الصف لتسويته، أو يرسل رجلًا لتسوية الصف، فقد ثبت أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يشرف بنفسه على تسوية الصف، قال أبو مسعود -عقبة بن عمرو رضي الله عنه-: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا ولا تختلفوا .. " (¬6) ويقول البراء -رضي الله عنه-: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية، يمسح صدورنا ومناكبنا، ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" (¬7)، وجاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يأمر بتسوية الصفوف، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (1/ 578)، والسنن الكبرى للبيهقي (3/ 104). (¬2) انظر: القول المبين في أخطاء المصلين (ص 213)، والحديث الثاني تقدم تخريجه في الحكم الرابع من هذا الفصل. (¬3) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 410). (¬4) المصدر السابق (23/ 408). (¬5) انظر: المصنف لابن أبي شيبة (1/ 351). (¬6) تقدم قريبًا. (¬7) رواه أبو داود (664)، والنسائي (2/ 89، 90)، وابن خزيمة (3/ 24)، وإسناده صحيح، وانظر صحيح الترغيب (490).

الحكم الحادي عشر في صلاة المنفرد خلف الصف

فإذ جاءوه فأخبروه أن قد استوت كبّر (¬1)، فلعل الأئمة -وفقهم الله- ينتبهون لهذا، والله أعلم. الحكم الحادي عشر في صلاة المنفرد خلف الصف إذا دخل المسجد فوجد أن الصف قد تم ولم يجد له مكانًا فهل يصلي خلف الصف منفردًا؟ أو يجذب رجلًا يقف معه؟ أو ينتظر حتى يأتي أحد؟ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، أذكره فيما يلي، ثم أبين القول المختار، بعون الله تعالى. فالقول الأول: أن المنفرد يكون صفًا وحده، وصلاته صحيحة. وهذا مذهب الجمهور -كما حكاه صاحب بداية المجتهد- (¬2) ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة. ومن أدلة هولاء: حديث أبي بكر -رضي الله عنه- وفيه: (فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف) (¬3) قال البغوي -رحمه الله-: (في هذا الحديث أنواع من الفقه، منها: أن من صلى خلف الصف منفردًا بصلاة الإمام تصح صلاته؛ لأن أبا بكرة ركع خلف الصف، فقد أتى بجزء من الصلاة خلف الصف، ثم لم يأمره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإعادة، وأرشده في المستقبل إلى ما هو أفضل بقوله: "ولا تعد"، وهو نهي إرشاد، لا نهي تحريم، ولو كان للتحريم لأمره بالإعادة) (¬4). القول الثاني: أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، وهو مذهب الإمام أحمد، ورواية عن الإمام مالك -ما في الإفصاح لابن هبيرة- (¬5) وبه قال جمع من الفقهاء والمحدثين. واستدل هولاء بحديث وابصة بن معبد أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة (¬6). وله شاهد من حديث علي بن شيبان قال: خرجنا قدمنا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبايعناه، وصلينا خلفه، فقضى نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصلاة فرأى رجلًا خلف الصف وحده، فوقف عليه نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انصرف، فقال: "استقبل صلاتك، فلا صلاة للذي خلف الصف" (¬7). وقد نقل عبد الله بن أحمد في المسند بعد حديث وابصة قال: (وكان أبي يقول بهذا الحديث) (¬8). القول الثالث: التفصيل، وهو أنه إن وجد محلًا في الصف فصلى وحده لم تصح، وإن اجتهد ولم يجد جاز أن يقف وحده. وهذا قال به الحسن البصري، كما في المصنف لابن أبي شيبة والبويطي، كما ذكره الشوكاني في نيل الأوطار، وابن قدامة في المغني، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وأيده كما في ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 158)، وانظر المنتقى للباجي (1/ 279)، وشرح السنة للبغوي (3/ 369). (¬2) بداية المجتهد (1/ 187). (¬3) أخرجه البخاري (750)، وأبو داود (684)، واللفظ له. (¬4) شرح السنة (3/ 338). (¬5) الإفصاح (1/ 54). (¬6) أخرجه أبو داود (2/ 376)، والترمذي (3/ 22)، وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن ماجه (1/ 321)، وأحمد (4/ 228)، وحسنه كما في رواية الأثرم، كما نقله الحافظ في التلخيص (2/ 38). (¬7) أخرجه ابن ماجه (1/ 320)، وأحمد (4/ 23)، والبيهقي (3/ 105)، وابن حبان (3/ 312)، وغيرهم، وهو حديث صحيح لغيره، وله شواهد وطرق لا تخلو من مقال. راجع الإرواء (2/ 327). (¬8) انظر: المسند (4/ 228).

الفتاوى، والقواعد النورانية والمسائل الماردينية؛ وكذا ابن القيم، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحم الله الجميع (¬1). وهذا هو المختار -إن شاء الله- لما يلي: أن العلماء مجمعون على أن واجبات الصلاة وأركانها تسقط عند عدم القدرة، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة. فالقيام ركن في صلاة الفرض، فإذا لم يستطع القيام صلّى قاعدًا، وهكذا الركوع والسجود وغيرها، والمصافة ليست من الأركان ولا من الواجبات. ولا ريب أن العجز عن المصافة عذر، ومن القواعد المقررة من نصوص الشريعة. أن الحكم يتغير إذا ما طرأ على صاحب الحكم عذر، فهذا العريان يصلي على حاله إذا لم يجد ما يستر عورته، والذي اشتبهت عليه القبلة يصلي إلى أي جهة، ولا يلزمه الإعادة إذا وجد سترة أو تبينت له القبلة، وهكذا .. إن عمومات الشريعة تؤيد هذا القول، كقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]، وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286]، وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعم" (¬2). أن هذا القول فيه جمع بين الأدلة؛ فقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، محمول على ما إذا قصر في أداء الواجب، وهو الانضمام إلى الصف وسد الفرجة وأما إذا لم يجد فرجة فلا يحمل عليه الحديث، بدليل ما ذكرنا في الأمرين السابقين؛ لأنه ليس بمقصر، فتصح صلاته إن شاء الله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (وأما حديث أبي بكرة فليس فيه أنه صلى منفردًا خلف الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركًا للركعة، فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة ... ) (¬3). وعلى هذا فمن صلى جزءًا من صلاته خلف الصف ثم انضم إليه آخر لا يعد مصليًا خلف الصف منفردًا. وهذا ما فعله أبو بكرة رضي الله عنه. والأظهر في حديث أبي بكرة أن النهي في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "زادك الله حرصًا، ولا تعد"، نهي عن الإسراع والسعي الشديد؛ لما تقدم أول الكتاب من النهي عن إتيان الصلاة في حالة الإسراع، ولا يمكن أن يعود إلى الركوع دون الصف، ولا للاعتداد بتلك الركعة، ولا سيما وقد فعل ذلك بعض الصحابة كأبي بكر، وزيد بن ثابت، وابن مسعود -رضي الله عنهم- وثبت هذا عنهم بأسانيد صحيحة (¬4). ولا يجوز لمن لم يجد مكانًا في الصف أن يجذب رجلًا يقف معه لما يلي: أن الحديث الوارد في الجذب ضعيف، وهو حديث وابصة، وفيه: "ألا دخلت في الصف أو جذبت ¬

_ (¬1) المصنف لابن أبي شيبة (2/ 193)، ونيل الأوطار (3/ 229)، والمغني (3/ 56)، ومجموع الفتاوى (23/ 397)، والقواعد النورانية (ص 98، 99)، والاختيارات (ص 71)، والمسائل الماردينية (ص 84)، وأعلام الموقعين (2/ 21، 22)، والفتاوى السعدية (ص 169)، وما بعدها. (¬2) أخرجه مسلم (1337)، والنسائي (5/ 110، 111). (¬3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/ 397)، وانظر الفتاوى السعدية (ص 171). (¬4) انظر: إرواء الغليل (2/ 263، 264).

رجلًا يصلي معك" (¬1). أن الجذب يفضي إلى إيجاد فرجة في الصف، والمشروع سدّ الفرج. أن الجذب تصرف في المجذوب، وتشويش عليه، وتفويت لفضيلة الصف الأول وكونه خلف الإمام؛ لأن الغالب في الجذب أن يكون لمن هو خلف الإمام (¬2). وإذا دخل اثنان وفي الصف فرجة فأيهما أفضل: وقوفهما معًا أو سد أحدهما الفرجة ووقف الآخر فذًا؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن الراجح الاصطفاف مع بقاء الفرجة؛ لأن سد الفرجة مستحب، والاصطفاف واجب. وفي هذا نظر؛ فإن قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من وصل صفًا وصله الله ومن قطع صفًا قطعه الله" (¬3)، يفيد وجوب سد الفرجة، وعليه فالأولى في هذه الحالة أن يسد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر، والله أعلم. قال في عون المعبود: ("من وصل صفًا": بالحضور فيه، وسدّ الخلل منه. "ومن قطع صفًا": أي: بالغيبة، أو بعدم السد، أو بوضع شيء مانع) (¬4). ومثل ما تقدم ما لو وقف اثنان في الصف ثم انصرف أحدهما لعذر، فإن الآخر يقف وحده على الصحيح، أو يقف عن يمين الإمام إن أمكن، ولا يجذب رجلًا، وأما قول صاحب المغني: (إنه يدخل في الصف، أو ينبه رجلًا يخرج معه، أو يقف عن يمين الإمام، فإن لم يمكن شيء من ذلك نوى الحدث) (¬5)، أقول: هذا فيه نظر، والصواب -إن شاء الله- أنه يتم الصلاة معهم ولو لم يقف معه أحد، ولا شيء عليه؛ لأنه معذور ولا تقصير منه، كما لو سبق إمامه الحدث فإن صلاته لا تبطل ببطلان صلاة إمامه، بل يستخلف على القول المختار في هذه المسألة، وما ذكره في المغني قول في المذهب. ومثل ذلك قول الشيخ منصور البهوتي في باب "صلاة الجمعة" من شرح الزاد: (وإن أحرم ثم زحم وأخرج عن الصف فصلى فذًا لم تصح) (¬6). وهذا مبني على القول بأن صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح، وقد علمت أن المختار القول بالصحة لمن كان معذورًا بأن اجتهد ولم يجد مكانًا، وهذا الذي زحم أولى بالعذر، فصلاته معهم صحيحه، إن شاء الله تعالى، والله أعلم. واعلم أن الذين لا يجيزون صلاة المنفرد خلف الصف اختلفوا في بيان ماذا يفعل: فقال بعضهم: يجذب رجلًا. وقد علمت ضعف ذلك، وقال آخرون: يقف عن يمين الإمام، وهذا لا دليل عليه في هذه المسألة بالذات، وقد ورد أن أبا بكر وقف عن يمين الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرضه -عليه الصلاة والسلام- وهي قضية فردية. أضف إلى ذلك أن الصفوف قد تكون كثيرة واختراقها والوقوف عن يمين الإمام يحدث ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 145)، والبيهقي (3/ 105)، وأبو يعلى (2/ 245)، من طريق السري بن إسماعيل عن الشعبي عن وابصة، والسري بن إسماعيل: متروك، وقد توبع على هذه الزيادة بمتابعة واهية. فانظر "الإرواء" (2/ 326). (¬2) انظر تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- على فتح الباري (2/ 213)، وانظر الضعيفة (2/ 322). (¬3) تقدم تخريجه في الحكم العاشر. (¬4) عون المعبود (2/ 366). (¬5) المغني (3/ 55). (¬6) شرح الزاد بحاشية ابن قاسم (2/ 443).

الحكم الثاني عشر الدخول مع الإمام على أي حال

تشويشًا على الإمام والمأمومين، ولا سيما الصف الأول ومن هم خلف الإمام، ثم إذا حضر ثان وثالث هل يقال لكل واحد يأت بمفرده: قف عن يمين الإمام؟! إن هذه التصرفات تؤيد القول بأنه يصلي خلف الصف إذا لم يجد مكانًا، والله أعلم (¬1). الحكم الثاني عشر الدخول مع الإمام على أي حال إذا دخل المصلي والإمام في الصلاة دخل معه على أي حال كان؛ في القيام أو الركوع أو السجود أو بين السجدتين؛ وذلك لما ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فكبروا، ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" (¬2). وعن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (¬3). قال الحافظ ابن حجر: (استدلّ به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حال وجد عليها) (¬4). وعن معاذ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام" (¬5). هذه هي السنة في حق الداخل والإمام في الصلاة؛ بدلالة ما ذكر من النصوص. ومن الناس من إذا دخل والإمام ساجد أو بين السجدتين لم يدخل معه حتى يقوم إلى الركعة التالية، أو يعلم أنه في التشهد فيجلس معه، وهذا قد حرم نفسه فضل السجود، مع أنه مخالف لما تضمنته الأدلة المتقدمة. قال بعض العلماء في فضل السجود مع الإمام إذا أدركه ساجدًا: (لعله أن لا يرفع رأسه من السجدة حتى يغفر له) (¬6). قال في تحفة الأحوذي: (قوله: "فليصنع كما يصنع الإمام" أي: فليوافق الإمام فيما هو فيه من القيام أو الركوع أو غير ذلك، أي: فلا ينتظر الإمام إلى القيام، كما يفعله العوام) (¬7). واعلم أن أحوال الإمام وقت دخول المأموم المسجد أربع، وهي أهم الأحوال: أن يكون الإمام قائمًا في سرية أو جهرية. أن يكون الإمام راكعًا. أن يكون الإمام ساجدًا وبين السجدتين. أن يكون الإمام في التشهد. ¬

_ (¬1) راجع رسالة: (ثلاث مسائل في الصلاة)، بقلم نزار محمد عرعور (ص 35). (¬2) أخرجه أبو داود (3/ 145)، وابن خزيمة (3/ 57)، والدارقطني (1/ 347)، والحاكم (1/ 216)، والبيهقي (2/ 89)، وقال: "تفرد به يحيى بن أبي سليمان المديني، وقد روي بإسناد آخر، أضعف من ذلك عن أبي هريرة" اهـ ويحيى هنا قال عنه البخاري: منكر الحديث ... لكن له شاهد قوي، فانظر: السلسلة الصحيحة (3/ 185)، والإرواء (2/ 260). (¬3) تقدم هذا الحديث في الحكم الرابع من أحكام الخروج إلى المسجد. (¬4) فتح الباري (2/ 118). (¬5) أخرجه الترمذي (3/ 199)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1/ 183)، وانظر نيل الأوطار (3/ 173)، وانظر الصحيحة (3/ 185). (¬6) تحفة الأحوذي (2/ 199). (¬7) المرجع السابق.

الحالة الأولى: أن يكون الإمام قائما

الحالة الأولى: أن يكون الإمام قائمًا من دخل والإمام يقرأ الفاتحة فإنه يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يسكت حتى يفرغ الإمام من قراءة الفاتحة؛ لأن المأموم مأمور بالاستماع والإنصات لقراءة إمامه، واستفتاحه وتعوذه يشغله عن الاستماع والإنصات المأمور به، وليس له أن يشتغل عما أمر به بشيء (¬1). وهذا القول -أعني أنه لا يستفتح ولا يتعوذ حال جهر إمامه- هو أصح الأقوال في هذه المسألة -إن شاء الله- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (¬2)؛ وذلك لقوة مأخذه؛ فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (¬3). فإذا فرغ الإمام من الفاتحة أتى المأموم بدعاء الاستفتاح، ثم استعاذ وقرأ البسملة والفاتحة، وإذا لم يمكنه أن يستفتح ويستعيذ قبل أن يبدأ الإمام بقراءة السورة فإنه لا يستفتح؛ لأن دعاء الاستفتاح سنة؛ بل يستعيذ ويقرأ؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها" (¬4). وهذا على القول بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية، والراجح وجوبها عليه؛ لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (¬5) وهذا نفي للصحة. أما إذا دخل المسجد والإمام في الصلاة السرية فإنه يكبر تكبيرة الإحرام، ويستفتح، ويستعيذ، ثم يقرأ إذا ظن أنه يتم الفاتحة قبل أن يركع إمامه إذا كان هناك قرينة، حيازةً لفضيلة الاستفتاح والفاتحة وإلا اشتغل بالفاتحة بعد تكبيرة الإحرام ولا يستفتح؛ لأن الاهتمام بالفرض أولى (¬6). ولا يقتصر في قراءته خلف إمامه في السرية على قصار السور إذا كان عارفًا لغيرها في صلاة يطيل الإمام فيها غالبًا كالظهر؛ لأن قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءته خارج الصلاة، وما ورد من الفضل لقارئ القرآن يتناول المصلي أعظم مما يتناول غيره. ثم إن السكوت في الصلاة بلا ذكر ولا قراءة ولا دعاء ليس عبادة، ولا مأمورًا به فيما عدا الإنصات لقراءة الإمام، بل إن السكوت يفتح باب الخواطر والأفكار التي تبعد المصلي عما هو فيه (¬7). وإذا ركع الإمام ترك المأموم بقية الفاتحة وركع معه؛ لأنه لم يدرك غير ما قرأه، ويكون مدركًا للركعة كما لو أدركه في الركوع، فإن الفاتحة تسقط عنه، ولا يتخلف عن إمامه لإتمام الفاتحة؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وإذا ركع فاركعوا" (¬8)، والله أعلم. الحالة الثانية: أن يكون الإمام راكعًا إذا دخل المسجد والإمام راكع ركع معه، ويكون مدركًا للركعة إذا اجتمع مع الإمام في حد أقل ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (23/ 280). (¬2) المصدر السابق (22/ 341)، (23/ 281). (¬3) أخرجه مسلم (404). (¬4) أخرجه أبو داود (823)، والترمذي (311)، وأحمد (5/ 316، 322)، والبخاري في "جزء القراءة خلف الإمام" ص (61)، من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- وقال الترمذي: حديث حسن، وانظر: التلخيص (1/ 246). (¬5) أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394)، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. (¬6) مغني المحتاج (1/ 257)، وانظر تلبيس إبليس (ص 161). (¬7) انظر مجموع الفتاوى (22/ 296). (¬8) انظر شرح المهذب (4/ 212، 213)، والحديث جزء من حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وقد ذكر تخريجه قريبًا.

الركوع، وهو قدر ما يمس وسط الخلقة ركبتيه بيديه، ولو لم يطمئن، قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عمن أدرك الإمام راكعًا، فكبر ثم ركع فرفع الإمام؛ قال: إذا أمكن يديه من ركبتيه قبل أن يرفع الإمام فقد أدرك. اهـ (¬1). ثم يطمئن ويتابع إمامه، وإذا أدركه حال الركوع أجزأته تكبيرة واحدة، وهي تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع، روي ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وسعيد وعطاء والحسن وإبراهيم النخعي، وبه قال الشافعي ومالك وأصحاب الرأي، وهو المنصوص عن أحمد، قال أبو داود: قلت لأحمد: أدرك الإمام راكعًا؟ قال: يجزيك تكبيرة (¬2). اهـ. وذلك لأن حال الركوع يضيق عن الجمع بين تكبيرتين في الغالب، ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل واحد، ونية الركوع لا تنافي نية الافتتاح، فأجزأ الركن -وهي تكبيرة الإحرام- عن الواجب -وهي تكبيرة الركوع- كطواف الإفاضة يغني عن طواف الوداع إذا جعله آخر شيء (¬3). فإن أمكن أن يأتي بتكبيرتين: الأولى للإحرام، والثانية للركوع فهذا أولى، قال أبو داود: قلت لأحمد: يكبر مرتين أحبّ إليك؟ قال: فإن كبر تكبيرتين فليس فيه اختلاف (¬4). اهـ. وعلى الداخل أن يكبر للإحرام قائمًا، فإن أتى بها حال انحنائه للركوع لم يصح (¬5). وإذا ركع مع الإمام أجزأته الركعة ولو لم يقرأ الفاتحة، وهذا قول الجمهور، وهو الراجح -إن شاء الله- لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬6) فدل على أن الداخل مع الإمام الذي لم يتمكن من قراءة الفاتحة قد أدرك الركعة بمجرد إدراكه له راكعًا، قال ابن خزيمة: (باب إدراك المأموم الإمام ساجدًا، والأمر بالاقتداء به في السجود، وأنه لا يعتد به؛ إذ المدرك للسجدة إنما يكون بإدراك الركوع قبلها). ثم ساق الحديث (¬7). وكذلك فإن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر الداخل بأن يصنع كما يصنع الإمام، ومعلوم أنه لا يحصل الامتثال إلا إذا ركع مع إمامه، فإذا أخذ يقرأ الفاتحة فقد أدرك الإمام على حالة ولم يصنع كما صنع إمامه، فخالف الأمر الذي وجب عليه امتثاله (¬8). وكذلك يؤيده حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو راكع، فركع معه قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "زادك الله حرصًا ولا تعد" (¬9). ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن إدراك الركوع مجزئًا لإدراك الركعة مع الإمام لأمره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقضاء تلك الركعة التي لم يدرك القراءة فيها، ولم ينقل عنه ذلك وقت الحاجة، فدل على أن من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة (¬10). وأما أدلة وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فهي عامة تشمل المسبوق وغير المسبوق، وحديث أبي ¬

_ (¬1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص 35)، وانظر حاشية الروض لابن قاسم (2/ 275)، وشرح المهذب (4/ 215). (¬2) مسائل الإمام أحمد (ص 35)، والمغني (2/ 182). (¬3) المغني (2/ 183)، وانظر: القواعد لابن رجب "القاعدة الثامنة عشرة". (¬4) مسائل الإمام أحمد (ص 35). (¬5) المغنى (2/ 130). (¬6) تقدم تخريجه في الحكم السادس. (¬7) صحيح ابن خزيمة (3/ 57). (¬8) من كلام الشوكاني -رحمه الله- في رسالة له أوردها صاحب عون المعبود (3/ 157). (¬9) تقدم تخريجه قريبًا. (¬10) انظر الصحيحة (230).

الحالة الثالثة: أن يكون الإمام ساجدا أو بين السجدتين

بكرة خاص بالمسبوق، ولا تعارض بين العام والخاص، كما في الأصول، حيث يخصص العام بالخاص، ويكون المسبوق الذي لم يدرك القيام ومحل القراءة خارجًا من هذا العموم، والله أعلم (¬1). الحالة الثالثة: أن يكون الإمام ساجدًا أو بين السجدتين إذا دخل المصلي المسجد والإمام في السجود سجد معه -لما تقدم من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدّوها شيئًا .. "- أو بين السجدتين جلس معه؛ لعموم ما تقدم، ولو لم تحسب له هذه الركعة؛ لأنه لم يدرك الركوع معه. وقد ذكر أهل العلم -رحمهم الله تعالى- أن المصلي الذي أدرك إمامه ساجدًا أنه يكبر تكبيرة الإحرام ثم يسجد مع إمامه من غير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير، قال ابن قدامة في المغني: (وإن أدرك الإمام في ركن غير الركوع لم يكبر إلا تكبيرة الافتتاح، وينحط بغير تكبير؛ لأنه لا يعتدّ له به، وقد فاته محل التكبير، وإن أدركه في السجود أو التشهد الأول كبر حال قيامه مع الإمام على الثالثة؛ لأنه مأموم له، فيتابعه في التكبير، كمن أدرك معه من أولها) (¬2). وهذا بخلاف التكبير للركوع؛ فإنه محسوب له، وبخلاف ما إذا انتقل بعد ذلك مع الإمام من السجود أو غيره، فإنه يكبر موافقة للإمام في الانتقال إليه، وإن كان غير محسوب له، كما أفاده ابن قدامة -رحمه الله-. والقول الثاني: أنه ينحط معه بتكبير، فيكبر الأولى للإحرام، والثانية ليقعد بها؛ لأنه التزم متابعة الإمام وهو في القعود أو السجود، والانتقال من القيام إلى السجود يكون بالتكبير، والله أعلم (¬3). ولو أحرم بالصلاة وانحط ساجدًا فرفع الإمام رأسه قبل أن يضع المأموم جبهته على الأرض، فالظاهر أنه يرجع معه ولا يسجد؛ لفوات محل المتابعة برفع الإمام رأسه من الأرض قبل وضع المأموم جبهته عليها، بخلاف ما إذا كان معه من أول الصلاة. ولو أدركه في السجدة الأولى فانحط ساجدًا فرفع الإمام رأسه، وجلس بين السجدتين جلس معه المأموم، فإذا سجد الثانية سجد معه، والله أعلم (¬4). الحالة الرابعة: أن يكون الإمام في التشهد إذا دخل المسجد والإمام في التشهد فقد فاتته صلاة الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة كاملة على القول المختار -كما سيأتي إن شاء الله-. وهنا الذي دخل المسجد والإمام في التشهد الأصل أنه يدخل مع الإمام؛ لعموم، "إذا أتى أحدكم والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام" (¬5). إلا إذا كان يطمع بمجيء غيره فإن من العلماء من يرى أنه لا يدخل مع الإمام؛ لفوات الجماعة، وله ولمن جاء معه أن يقيموا جماعة ثانية (¬6) -كما سيأتي بيانه إن شاء الله- ¬

_ (¬1) انظر مجموع الفتاوى (23/ 290). (¬2) المغني (2/ 183)، والمجموع شرح المهذب (4/ 218). (¬3) شرح المهذب (4/ 218)، وحاشية ابن قاسم (2/ 277)، وانظر الإنصاف (2/ 225)، وانظر السنن الكبرى للبيهقي (2/ 91). (¬4) انظر القول التمام (ص 202). (¬5) تقدم تخريجه قريبًا. (¬6) انظر: فتاوى ابن عثيمين (15/ 89)، وفتاوى ابن باز (12/ 173).

الحكم الثالث عشر ما تدرك به الجماعة

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (إذا كان المدرك أقل من ركعة وكان بعدها جماعة أخرى فصلى معهم في جماعة صلاة تامة فهذا أفضل، فإن هنا يكون مصليًا في جماعة، بخلاف الأول) (¬1)، والله أعلم. الحكم الثالث عشر ما تدرك به الجماعة تدرك الجماعة بإدراك ركعة مع الإمام، فمن أدرك مع إمامه ركعة فقد أدرك الجماعة، ومن أدرك أقل من ركعة، كأن يدركه في السجود من الركعة الأخيرة أو في التشهد؛ فقد فاتته الجماعة، وهذا هو القول الراجح من قولي أهل العلم، ودليل ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬2). فهذا حديث صريح يدل بمنطوقه على أن من أدرك ركعة من صلاة الإمام فقد أدرك صلاة الجماعة؛ لأنه نص عام في جميع صور إدراك ركعة من الصلاة، سواء كان إدراك جماعة، أو إدراك وقت. ويدل بمفهومه على أن من أدرك أقل من ركعة لم يدرك الصلاة، سواء كان إدراك جماعة، أو إدراك وقت. والركعة لا تدرك إلا بإدراك الركوع مع الإمام، بأن يجتمع مع الإمام في حد أقل الركوع، ولو لم يدرك قراءة الفاتحة مع إمامه، وقد مضى بيان ذلك. أما من قال: إن الجماعة تدرك بإدراك التكبير قبل سلام الإمام؛ فهو قول مرجوح، لا يعضده دليل؛ لما يلي: أنه مبني على تعليل، وهو أن المأموم أدرك جزءًا من صلاة الإمام، فأشبه ما لو أدرك ركعة، وهذا تعليل في مقابلة نص. أنه لا يعرف في نصوص الشرع تعليق الإدراك بإدراك تكبيرة لا في الوقت، ولا في الجمعة، ولا في الجماعة، فهو وصف ملغي في نظر الشارع فلا يجوز اعتباره، ولا بناء الحكم عليه. أن ما دون الركعة لا يعتد به في الصلاة؛ لأن المأموم يستقبل جميع صلاته منفردًا فلم يدرك مع إمامه شيئًا يحتسب له به، فتكون صلاته كلها صلاة منفرد (¬3). لكن بقي مسألة يسأل عنها، ويناسب ذكرها هنا؛ وهي: هل يجوز للمسبوق أن يعتد بالركعة الزائدة في حق الإمام، ويعتبرها ركعة صحيحة له؟ ومثال ذلك: إمام قام إلى خامسة في رباعية -كالظهر- أو إلى رابعة في المغرب ساهيًا، وهناك مأموم دخل معه في هذه الركعة، ولم يعلم أنها زائدة، فهل تحسب له ويكون قد أدرك الجماعة؛ الراجح من قولي أهل العلم أنه يعتد بها، فتحسب له من صلاته، ويكون أدرك الجماعة؛ لأنه أدرك مع الإمام ركعة، وهي وإن كانت زائدة في حق الإمام فهو معذور بزيادتها؛ لأنه لم يتعمدها، وهي صحيحة في حق المسبوق؛ لأنها من صلاته الأصلية. ولو قلنا: لا يعتد بها لاقتضى ذلك جواز أن يزيد في الصلاة ركعة متعمدًا، وذلك مبطل للصلاة بالإجماع؛ لأنه يقتضي أن يصلي الرباعية خمسًا، والمغرب أربعًا، وما لزم منه خرق الإجماع ومخالفة الأدلة الشرعية فهو غير صحيح. وأما من قال: إن المسبوق لا يعتد بها، لأنها زيادة لا يعتد بها الإمام فلم يعتد بها المأموم، ففيه نظر؛ لأن الإمام لا يعتد بها؛ لكونها زائدة في حقه والمأموم يعتد بها؛ لكونها من صلاته فكيف نلغيها ونأمره أن يزيد في صلاته؟! والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (23/ 257). (¬2) تقدم تخريجه في الحكم السادس. (¬3) انظر: مجموع الفتاوى (23/ 257)، أحكام الإمامة والائتمام ص (360). (¬4) انظر: الإنصاف (2/ 127، 128).

الحكم الرابع عشر في صفة الصلاة

الحكم الرابع عشر في صفة الصلاة ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1). وقد بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صفة الصلاة بالقول والفعل. وحريّ بالمكلف أن يتأسى بنبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صفة صلاته، فإن ذلك أقوى في إيمانه، وأدلّ على اتباعه لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأكمل في عبادته. وكثير من الناس يخلّون في الصلاة بأشياء، إما جهلًا وإما تهاونًا، وسأذكر -بعون الله- صفة الصلاة كما ثبت في السنة، مجرد عن الدليل خشية الإطالة، مع عزو كل صفة إلى مصدرها من مصادر السنة، فأقول: يسن القيام إلى الصلاة عند قول المؤذن: "قد قامت الصلاة"، وإن قام عند رؤية الإمام، أو عند أول الإقامة فلا بأس؛ لأن في الأمر سعة (¬2). ثم يكبر تكبيرة الإحرام قائلًا: "الله أكبر"، لا يجزئ عنها غيرها (¬3)، رافعًا يديه إلى منكبيه، أو إلى فروع أذنيه، مبسوطتين، مضمومتي الأصابع مستقبلًا ببطونهما القبلة (¬4). وما يفعله بعض الناس من الرفع إلى سرته، أو فوفها بقليل فهو قصور في تطبيق السنة. وهذا الرفع مشروع في حق المرأة أيضًا؛ لأن الأصل أن ما ثبت في حق الرجال يثبت في حق النساء، وكذا العكس، إلا ما دل الدليل على استثنائه (¬5). فإن وجد مانع من الرفع رفع حسب استطاعته، فإن كان لا يستطع رفعهما معًا، رفع واحدة. والأفضل أن يبدأ التكبير مع رفع يديه، وينهيه مع انتهاء الرفع؛ لأن الرفع للتكبير، وله أن يقدم الرفع قبل التكبير، أو يقدم التكبير قبل الرفع (¬6). فإذا فرغ من تكبيرة الإحرام سن له أن يقبض كوع يسراه بيمينه (¬7) أو يضع يده اليمنى على ذراع اليد اليسرى، ثم يضعهما على صدره (¬8)، وهو دليل الخشوع والذل والانكسار بين يدي رب العالمين (¬9). والسنة أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده؛ لأنه أخشع للقلب، وأكف للبصر، وأبلغ في الخضوع، ولا فرق في ذلك بين المسجد الحرام وغيره؛ لعدم المخصص (¬10). ولم يرد في المسافة بين القدمين حال القيام سنة عن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فتكون المسافة بحسب طبيعة الإنسان حال وقوفه؛ لأن كل شيء لم يرد به صفة شرعية فإنه يبقى على طبيعته (¬11). ثم يستفتح وهو سنة، فيقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله ¬

_ (¬1) انفرد بها البخاري (631)، عن بقية أصحاب الكتب الستة. (¬2) انظر: شرح النووي على مسلم (5/ 105)، بدائع الفوائد (3/ 80). (¬3) زاد المعاد (1/ 201). (¬4) البخاري (735)، ومسلم (390، 391)، وانظر: زاد المعاد (1/ 202). (¬5) المغني (2/ 258)، مجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 73، 74). (¬6) انظر: نيل الأوطار (2/ 179). (¬7) أبو داود (723)، النسائي (2/ 97). وإسناده صحيح. وانظر: التلخيص (1/ 238). (¬8) البخاري (740)، ابن خزيمة (479)، البيهقي (2/ 30)، وانظر: الشرح الممتع (3/ 46). (¬9) انظر: الخشوع في الصلاة، لابن رجب ص (35، 36). (¬10) الشرح الممتع (3/ 51). (¬11) انظر: الإنصاف (2/ 69).

غيرك" (¬1)، أو يقول: (اللهم باعد يني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد" (¬2)، أو غير ذلك إحياء للسنة، وهو أحضر للقلب، وأدعى لفهم ما يقول (¬3). ثٍم يستعيذ للقراءة، والاستعاذة سنة؛ ثم يبسمل، وهي سنة أيضًا، ثم يقرأ الفاتحة سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا، وسواء كانت الصلاة سرية أو جهرية، فيقرأ المأموم الفاتحة ولو في أثناء جهر الإمام بالقراءة (¬4)؛ لأن الفاتحة ركن لا تصح الصلاة إلا بها، إلا المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الركعة، وتسقط عنه الفاتحة -كما تقدم-. ويجب أن تكون قراءة الفاتحة في حال القيام، فإن قرأ شيئًا منها قبل أن يقوم إلى الركعة الثانية بلا عذر لم تصح" (¬5). ولا بد أن يقرأ الفاتحة تامة متوالية، مع تشديداتها، فإن أسقط منها حرفًا أو لحن فيها لحنًا يغير المعنى لم تصح، وإذا انتهى من قراءتها قال: آمين. والسنة أن يكون تأمين المأموم مع تأمين الإمام -كما تقدم أيضًا-، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن، وإن كان مأمومًا قرأ بقدر إطالة الصلاة -كالظهر مثلًا-؛ لأن الصلاة ليس فيها سكوت إلا فبحال جهر الإمام. ثم يسكت بعد قراءته سكتة لطيفة، ثم يركع رافعًا يديه -كما تقدم-، والمجزئ من الركوع هو الانحناء بحيث يمكنه مسّ ركبتيه بيديه (¬6). والركوع الموافق للسنة ما اجتمع فيه أربع صفات: الأولى: أن يمد ظهره ويبسطه فلا يقوسه ولا يهصره بحيث ينزل وسطه. الثانية: أن يجعل رأسه حيال ظهره، فلا يرفعه ولا يخفضه (¬7). الثالثة: أن يضع كفيه على ركبتيه، مفرّجتي الأصابع، قابضًا بهما على ركبتيه. الرابعة: أن يجافي مرفقيه عن جنبه ما لم يؤذ أحدًا، وإلا ترك ذلك (¬8)، ثم يقول: سبحان ربي العظيم (¬9). والواجب مرة واحدة، والأفضل الإكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة (¬10)، إلا إذا كان ¬

_ (¬1) أبو داود (775)، والترمذي (242)، والنسائي (2/ 132)، وابن ماجه (806)، والحاكم (1/ 235)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وفي رفع هذا الحديث مقال لأهل العلم، وقد صح عن عمر موقوفًا، وله حكم الرفع. وقد اختار الإمام أحمد هذا الاستفتاح لعشرة أوجه، ذكرها ابن القيم في زاد المعاد (1/ 205). (¬2) البخاري (744)، ومسلم (598). (¬3) وهذا الذي ينبغي في العبادات الواردة على وجوه متعددة كأفعال الصلاة وأقوالها -كما تقدم ص (58) -، انظر: قواعد ابن رجب "القاعدة الثانية عشرة"، مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 459). (¬4) مجموع الفتاوى (22/ 340)، نيل الأوطار (2/ 243)، فتاوى الشيخ ابن باز (1/ 61)، مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (13/ 154). (¬5) مجمع فتاوى ابن عثيمين (13/ 352). (¬6) منتهى الإرادات (1/ 214)، المجموع شرح المهذب (3/ 406). (¬7) مسلم (498)، وابن ماجه (872)، وانظر: مجمع الزوائد (2/ 305)، فتح الباري (2/ 275). (¬8) البخاري (828)، والترمذي (260)، وأبو داود (731)، (734). (¬9) أبو داود (869)، وابن ماجه (887)، وانظر: صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للألباني ص (132). (¬10) انظر: سنن الترمذي (2/ 57)، والمصدر السابق.

إمامًا فلا يطيل، إلا إن علم من حال المأمومين أنهم يؤثرون ذلك. وإن قال: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" (¬1) فحسن، أو غير ذلك من أذكار الركوع الواردة في السنة (¬2). ثم يرفع رأسه من الركوع مكبرًا رافعًا يديه -كما تقدم-، ويعتد قائمًا حتى يرجع كل عضو إلى موضعه (¬3)، ويطمئن (¬4)، ويقول حال رفعه: "سمع الله لمن حمده"، إمامًا كان أو منفردًا، ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد" (¬5)، أو يقول: "ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬6). ويضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى حال قيامه؛ لأنه لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التفريق بين ما قبل الركوع وما بعد الرفع منه، بل ظاهر السنة هو الوضع المذكور (¬7). ثم يهوي للسجود مكبرًا، والأفضل أن يكون ابتداء التكبير مع ابتداء انحطاطه، وانتهاوه مع انتهائه. والسنة أن يضع المصلي ركبتيه على الأرض ثم يديه ثم جبهته وأنفه (¬8)، فإن احتاج لتقديم يديه قبل ركبتيه لكبر أو مرض فله ذلك. فيسجد على جبهته مع أنفه، ويديه وركبتيه وأطراف قدميه. والسجود الموافق للسنة ما اجتمع فيه أربع صفات: الأولى: أن يجعل يديه حال سجوده حذو منكبيه، وله أن يسجد بين كفيه، وله أن يجعلهما حذو أذنيه، فكل ذلك ورد في السنة (¬9). الثانية: أن يبسط كفيه، مضموتي الأصابع إلى القبلة (¬10). الثالثة: أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقية (¬11)، وهذه المجافاة سنة ما لم يؤذ من بجانبه، فإن حصل ذلك ترك المجافاة. الرابعة: أن يضم قدميه في أثناء السجود، ويثني أصابعهما بحيث تكون في اتجاه القبلة (¬12). ويسن ¬

_ (¬1) البخاري (4968)، ومسلم (484). (¬2) الأذكار للنووي ص (50). (¬3) البخاري (828). (¬4) البخاري (757)، ومسلم (397). (¬5) البخاري (789)، مسلم (392/ 28). (¬6) مسلم (477). (¬7) البخاري (740)، وانظر: رسالة الشيخ: عبد العزيز بن باز -رحمه الله- (أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع)، ضمن "ثلاث رسائل في الصلاة" من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. وانظر: النكت على المحرر لابن مفلح (1/ 62). (¬8) أبو داود (838)، والنسائي (2/ 206)، والترمذي (268)، وقال: حديث حسن غريب. وانظر: المغني (1/ 193)، وزاد المعاد (1/ 223)، والشرح الممتع (3/ 154). (¬9) أبو داود (734)، والترمذي (270، 171)، وقال عن كل واحد منهما: حديث حسن صحيح. (¬10) سنن الترمذي (2/ 59 - 61). (¬11) البخاري (390)، ومسلم (495). (¬12) الشرح الممتع (3/ 169). صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للألباني، ص (142)، وانظر: رسالة "لا جديد في أحكام الصلاة" لبكر أبو زيد -الطبعة الثالثة- فقد أثبت أن السنة في القدمين حال السجود هو التفريق باعتدال على سمت =

الاعتدال في السجود، ولا ينبغي الامتداد الزائد، فإنه خلاف السنة (¬1)، ولا يبسط ذراعيه على الأرض، إلا إذا طال السجود فله أن يعتمد مرفقيه على فخذيه (¬2)، وينبغي للمصلي أن يباشر الأرض بجبهته إلا إن كان الحائل منفصلًا -كفراش المسجد- فيجوز، فإن كان متصلًا -كطرف ثوبه أو غترته ونحو ذلك- كره السجود عليه إلا لحاجة، كبرد أو حر أو شوك ونحو ذلك (¬3)، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى (¬4)، ثلاثًا، ويجزئ واحدة، وله أن يقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" (¬5)، أو يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره" (¬6). إلى غير ذلك مما ثبت في السنة، وينبغي الإكثار من الدعاء حال السجود، لقرب العبد من ربه تبارك وتعالى (¬7). ثم يرفع رأسه مكبرًا في حال رفعه، ويجلس مفترشًا رجله اليسرى، ناصبًا اليمنى، مستقبلًا بأصابعها القبلة (¬8)، ويضع يديه على فخذيه، وأطراف أصابعه عند ركبتيه، وله أن يضع اليمنى على الركبة، واليسرى يلقمها الركبة كالقابض لها، وكلا اليدين تكون مبسوطة مضمومة الأصابع، موجهة إلى القبلة (¬9)، وإن قبض من اليد اليمنى الخنْصر -وهي الإصبع الصغرى- والبنْصر -وهي الإصبع التي تلي الخنصر- وحلَّق الإبهام -وهي الإصبع الكبيرة مع الوسطى- أو غير ذلك من الصفات، ورفع السبابة يحركها عند الدعاء جاز، فقد قال بذلك بعض العلماء استنادًا لبعض النصوص (¬10). ويقول: ربي اغفر لي (¬11) ثلاثًا، ويجزئ واحدة، وله أن يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني" (¬12). ثم يسجد الثانية كالأولى في الهيئة والدعاء، ثم يرفع مكبرًا ناهضًا على صدور قدميه (¬13)، معتمدًا بيديه ¬

_ = البدن وضعّف القول برص الساجد عقبيه، والله أعلم. (¬1) مجموع فتاوى ابن عثيمين (13/ 187). (¬2) أبو داود (902)، والترمذي (286)، وأحمد (14/ 182)، وإسناده قوي وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. وانظر: فتح الباري (2/ 294)، والتنقيح المشبع ص (69). (¬3) المغني (1/ 197)، الشرح الممتع (3/ 160). (¬4) أبو داود (871)، والترمذي (262)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) مسلم (483). (¬7) الأذكار للنووي (53)، وصفة الصلاة للألباني ص (145). (¬8) مسلم (498)، وأبو داود (958)، والنسائي (2/ 187)، وانظر: المغني (2/ 205). (¬9) يرى الفقهاء -رحمهم الله- أن اليد اليمنى تبسط بين السجدتين كما تبسط اليسرى، وحملوا الأحاديث التي فيها القبض على الجلوس للتشهد، وانظر: فتاوى ابن باز (11/ 146). (¬10) قال بذلك ابن القيم كما في زاد المعاد (1/ 238)، وتبعه على ذلك الشيخ محمد العثيمين كما في مجموع فتاويه (13/ 191 - 211)، وانظر: رسالة "لا جديد في أحكام الصلاة" لبكر أبو زيد ص (38). (¬11) أبو داود (874)، والنسائي (2/ 183)، وابن ماجه (897)، والحاكم (1/ 271)، وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صفة الصلاة ص (153). (¬12) أبو داود (850)، والترمذي (284)، وابن ماجه (898)، والحاكم (1/ 271)، وصححه ووافقه الذهبي. وحسنه النووي في "الأذكار" ص (56)، وقد نقل الترمذي في هذا الموضع عن الشافعي وأحمد وإسحاق أنهم يرون أن هذا الدعاء جائز في المكتوبة والتطوع. (¬13) أبو داود (992)، (838)، والنسائي (2/ 186)، وابن خزيمة (629).

على ركبتيه إن سهل، وإلا اعتمد على الأرض (¬1)، ولا يجلس جلسة الاستراحة -وهي جلسة خفيفة كهيئة الجلوس بين السجدتين- إلا إن فعلها إمامه، وإلا نهض لئلا يخالفه (¬2). ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، سوى تكبيرة الإحرام والاستفتاح، ولا يستعيذ للقراءة في الركعة الثانية؛ لأن الصلاة جملة واحدة، إلا إذا لم يتعوذ في الركعة الأولى لكونه أدرك الإمام راكعًا، فيتعوذ إذا قام للقراءة، أما البسملة فتسن في كل ركعة؛ لأنها تستفتح بها السورة (¬3). فإذا فرغ من الركعة الثانية جلس للتشهد الأول كجلوسه بين السجدتين، ويضع يديه على فخذيه، ويقبض الخنصر والبنصر، ويحلق حلقة بالإبهام مع الوسطى، أو يضم الخنصر والبنصر والوسطى ويضم إليها الإبهام، وتبقى السبابة مفتوحة، أما اليسرى فهي مبسوطة، مضمومة الأصابع، وأطرافها إلى القبلة (¬4)، ويرفع السبابة يشير بها (¬5)، ويرمي ببصره إليها (¬6). ثم يقرأ التشهد، وله صيغ متعددة، وبأي تشهد تشهّد مما صح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاز (¬7)، فإن تشهد بنوع مرة وبنوع مرة أخرى فهو أفضل. ومن ذلك: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (¬8). فإن فرغ المأموم من هذا التشهد قبل قيام إمامه إلى الركعة الثالثة فإنه يقرأ بقية التشهد، وهو قوله: (اللهم صل على محمد ... ) إلخ، لا سيما إن كان الإمام يكمل التشهد، فإن المأموم يكمله؛ لأنه تابع لإمامه (¬9)، ولأن الصلاة ليس فيها سكوت إلا حال قراءة الإمام. فإذا فرغ من التشهد الأول نهض إلى الثالثة كما تقدم في صفة النهوض من السجود إلى الركعة الثانية، فإذا اعتدل رفع يديه -كما فعل عند تكبيرة الإحرام- ويصلي الركعة الثالثة -إن كانت الصلاة ثلاثية- والرابعة -إن كانت رباعية- كالركعة الثانية، إلا أنه لا يجهر بالقراءة ويقتصر على قراءة الفاتحة (¬10). وإن قرأ أحيانًا شيئًا مع الفاتحة فهذا أفضل، لا سيما عمن كان مأمومًا وفرغ من ¬

_ (¬1) انظر: المغني (2/ 215)، ويرى مالك والشافعي أن السنة أن ينهض معتمدًا على يديه لحديث مالك بن الحويرث: (أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعدًا ثم اعتمد على الأرض)، أخرجه النسائي (2/ 186)، ولعل ذلك محمول على أنه كان منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمشقة القيام عليه لضعفه وكبره، وبهذا تجتمع الأدلة، وهو قول صاحب المغني (2/ 214). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 425)، الممتع (3/ 112). وفي جلسة الاستراحة خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: إنها سنة، ومنهم من قال: إنها تشرع عند الحاجة، وهو الذي اختاره ابن قدامة وابن القيم. فانظر: المغني (2/ 213)، زاد المعاد (1/ 240). (¬3) المغني (2/ 215). (¬4) مسلم (579)، (580). (¬5) أبو داود (726)، والنسائي (2/ 126)، وابن الجارود (208)، وابن خزيمة (1/ 355، 356)، وإسناده صحيح، وانظر: زاد المعاد (1/ 238)، فتاوى ابن باز (11/ 185). (¬6) أبو داود (990)، والنسائي (3/ 39)، وأحمد (26/ 25)، وابن خزيمة (718، 719)، وهو حديث صحيح. (¬7) المغني (2/ 202)، صفة الصلاة للألباني ص (161). (¬8) البخاري (835)، ومسلم (402). (¬9) انظر: صفة الصلاة للألباني ص (164). (¬10) البخاري (776)، ومسلم (451).

الفاتحة قبل أن يركع إمامه، لما تقدم (¬1). وفى آخرها يجلس للتشهد الأخير متورّكًا، وصفته: أن يفرش رجله اليسرى، ويخرجها عن يمينه، وينصب اليمنى، جاعلًا مقعدته على الأرض (¬2) أو يفرش قدميه كليهما، ويخرجهما من الجانب الأيسر (¬3). أو يفرش اليمنى ويدخل اليسرى بين فخذ وساق الرجل اليمنى (¬4)، والأفضل أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، كما تقدم. والمرأة كالرجل في ذلك (¬5). ثم يقرأ التشهد الأخير كالأول، ويزيد الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد وردت بألفاظ متعددة (¬6). ثم يتعوذ قائلًا: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ فتنة المسيح الدجال" (¬7) ثم يدعو بما شاء من أمور دينه ودنياه، ومن الوارد: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" (¬8)، "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت" (¬9). ثم يسلم عن يمينه قائلًا: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك، ويبالغ في الالتفات حتى يرى بياض خده (¬10)، وإن زاد أحيانًا "وبركاته" جاز لثبوت ذلك عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (¬11) لكن لا يداوم عليها؛ لأنها لم ترد في أكثر أحاديث السلام. ولا أصل للمصافحة بعد الصلاة -كما يفعله بعض الناس- فيصافح الذي عن يمينه وشماله، قائلًا: تقبل الله، سواء كان ذلك بعد صلاة الفجر والعصر أو بعد كل صلاة، فإن هذا من البدع المحدثة التي لا ¬

_ (¬1) مسلم (452). (¬2) البخاري (828). (¬3) أبو داود (965)، والترمذي (304)، وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) مسلم (579). (¬5) الشرح الممتع (3/ 301). (¬6) صفة الصلاة ص (164). (¬7) البخاري (835)، ومسلم (588). (¬8) البخاري (834)، ومسلم (2705). (¬9) مسلم (771). (¬10) أبو داود (996)، والنسائي (3/ 52)، والترمذي (295)، وابن ماجه (914)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬11) أبو داود (997)، قال الحافظ في البلوغ (1/ 84): بسند صحيح. اهـ. وقد اختلفت كلمة العلماء في ثبوت كلمة (وبركاته)، في التسليمة الثانية، فلم يذكرها عبد الحق في الأحكام الوسطى (1/ 413)، وابن الأثير في جامع الأصول (5/ 410)، والزيلعي في نصب الراية (1/ 432)، وقد سقطت من طبعة محمد محيي الدين لسنن أبي داود (1/ 265)، لكنها موجودة في النسخة الهندية، وفي طبعة الدعاس ص (607)، وقد تكون عن الهندية، وقد نسبها إلى أبي داود الحافظ في البلوغ -وقد حذفت من بعض الطبعات-، وفي التلخيص (1/ 289)، مع أنه أنكرها في نتائج الأفكار (2/ 236)، كما نسبها إلى أبي داود ابن دقيق العيد في الإلمام (260)، وقد نصّ عليها الصنعاني في سبل السلام (1/ 380)، وقد وردت -أيضًا- في حديث ابن مسعود عند ابن ماجه -كما ذكر الحافظ في التلخيص- لكنها غير موجودة في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (914). وذكر الأرناؤوط أنها في نسخة خطية في السنن لابن ماجه في دار الكتب الظاهرية، وذلك في تعليقه على شرح السنة (3/ 205).

الحكم الخامس عشر في الذكر بعد الصلاة

أصل لها في الشرع، مع ما فيها من الإشغال عن الذكر، ولم يفعل ذلك الصحابة -رضي الله عنهم- ومن سار على نهجهم من سلف هذه الأمة، والمصافحة إنما تشرع عند الملاقاة، لا في أثناء المجالسة. ومثل ذلك ما يفعله بعض المصلين من الإشارة بالأكف يمنة ويسرة مع التسليم فهو بدعة؛ لأن إحداث هيئة في العبادات لم يرد فيها دليل داخل في مسمى البدعة (¬1)، والله أعلم. الحكم الخامس عشر في الذكر بعد الصلاة للذكر بعد الصلاة شأن عظيم، حث عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وركب فيه قولًا وفعلًا، وقد دل على ذلك مجمل قوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قال ابن عباس -رضي الله عنهما- (أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها) (¬2). ولذا قال الإمام النووي -رحمه الله-: (أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة، وجاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة في أنواع منه متعددة) (¬3). والذكر بعد الصلاة من المواضع التي يتأكد فيها الذكر (¬4). فينبغي للمسلم أن يتعلم هذه الأذكار، وأن يحرص على الإتيان بها في مواضعها، وألا تأخذه العجلة، فيتركها، فيفوته خير كثير، كما عليه كثير من الناس اليوم. وسأذكر شيئًا من هذه الأذكار بسياق أحاديثها؛ ليكون المسلم على بصيرة من ذلك -إن شاء الله تعالى- وليحرص على التقيد بالألفاظ الواردة عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأن ذلك أكمل في التعبد. روى ثوبان -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام"، وفي رواية لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "يا ذا الجلال والإكرام"، قيل للأوزاعي -وهو أحد رواة حديث ثوبان-: كيف الاستغفار؟ قال: تقول: استغفر الله، استغفر الله" (¬5). وأما زيادة لفظ (وتعاليت) بعد لفظ تباركت فهي وإن كانت من ألفاظ الثناء على الله تعالى ووردت في أحاديث أخرى، إلا أنه لا أصل لها في هذا الموضع. والله أعلم. وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬6). وفى رواية سندها صحيح: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، ثلاث مرات (¬7). وعن أبي الزبير قال: كان ابن الزبير -رضي الله عنه- يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (23/ 339)، فتاوى العز بن عبد السلام ص (46، 47)، ورسالة: "تمام الكلام في بدعية المصافحة بعد السلام". (¬2) أخرجه البخاري (4852). (¬3) الأذكار ص (66). (¬4) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص (421). (¬5) أخرجه مسلم (591)، وحديث عائشة -رضي الله عنها- (592). (¬6) أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593). (¬7) هذه الزيادة عند أحمد (30/ 127)، والنسائي (3/ 71)، وابن خزيمة (1/ 365)، وانظر: فتح الباري (2/ 333)، =

"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وقال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهلل بهن دبر كل صلاة (¬1). فإن كان بعد صلاة المغرب أو الفجر هلّل عشر مرات، لحديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قال دبر صلاة الفجر، وهو ثاني رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله" (¬2). وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك". فقال يا معاذ لا تدعنّ في دبر كل صلاة تقول: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (¬3). وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه هولاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة، ويقول: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتعوذ بهن دبر الصلاة. "اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من عذاب القبر" (¬4). وقد ورد في "الصحيحين" وغيرهما أدعية أخرى. ثم يبدأ المصلي بالتسبيح، وقد ورد في السنة صفات متعددة ومن ذلك: الصفة الأولى: أن يسبح ثلاثًا وثلاثين، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويكبر ثلاثًا وثلاثين، ويقول تمام المائة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". ودليل ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ غفرت له خطاياه وإن كانت مثل ¬

_ = والسسلة الصحيحة للألباني (196). (¬1) أخرجه مسلم (594). (¬2) أخرجه الترمذي (3474)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (127)، وهنا لفظ الترمذي، إلا قوله: "بيده الخير" فللنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. ونقله النووي عنه في الأذكار ص (70)، وأقرّه، والحديث رجاله كلهم ثقات، إلا شهر بن حوشب فقد قال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق كثير الإرسال والأوهام" ونقل الحافظ في تهذيبه (4/ 325)، عن الترمذي عن البخاري أنه قال: شهر حسن الحديث. وقوّى أمره. وذكر ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 321)، بأنه قد وثقه قوم وضعفه آخرون، ثم قال: ولم أسمع لمضعفيه حجة .. ثم إن الحديث ورد من عدة طرق عن عدد من الصحابة يدل على أنه حفظه. (¬3) أخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (3/ 45)، والحاكم (1/ 273)، وهو حديث صحيح كما قال النووي في الأذكار ص (69)، والحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (2/ 297)، وله شواهد تؤيده فانظر (صحيح كتاب الأذكار وضعيفه)، للهلالي (1/ 206). (¬4) أخرجه البخاري (2822)، وهنا على أن المراد بدبر الصلاة: ما بعد السلام، والقول الثاني: أن دبر الصلاة ما قبل السلام. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نقله عنه ابن القيم في (زاد المعاد)، (1/ 305)، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية (22/ 518)، وقال رحمه الله: (المناجاة والدعاء حين الإقبال والتوجه إليه في الصلاة، أما حال الانصراف من ذلك فالثناء والذكر أولى)، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم كما في الزاد (1/ 257). وانظر فتاوى ابن باز (11/ 194 - 197).

زبد البحر" (¬1). الصفة الثانية: ما ورد في حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة" (¬2) ومعنى "معقبات": أي: تفعل مرة بعد أخرى في أعقاب الصلاة. الصفة الثالثة: ما ورد في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله دبر كل صلاة عشرًا، ويحمده عشرًا، ويكبره عشرًا"، قال: فأنا رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعقدها بيده قال: "فتلك خمسون ومائة باللسان وألف وخمس مائة في الميزان ... " الحديث (¬3). الصفة الرابعة: أن يسبح خمسًا وعشرين، ويحمد خمسًا وعشرين، ويهلل خمسًا وعشرين، ودليل ذلك حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: أمروا أن يسبحوا دبر كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثًا وثلاثين، ويكبروا أربعًا وثلاثين، فأتي رجل من الأنصار في منامه، فقيل له: أمركم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تسبحوا دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدوا ثلاثًا وثلاثين، وتكبروا أربعًا وثلاثين؟ قال: نعم. قال: فاجعلوا خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر ذلك له، فقال: "اجعلوها كذلك" (¬4). والأفضل أن يأتي المصلي بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة أخرى، لما تقدم في العبادات الواردة على صفات متعددة. والأفضل أن يكون عد التسبيح بالأنامل -وهي الأصابع- لدلالة السنة على ذلك -كما سيأتي إن شاء الله- وقد درج على ذلك الصحابة -رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا -ولله الحمد- وهو أولى من استعمال السبحة ونحوها، فإنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء، وأدعى إلى حضور القلب. وللمصلي أن يعقد التسبيح بكلتا يديه؛ لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: (فأنا رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعقدها بيده) ولفظ، "اليد" للجنس، فيراد به: اليدان، وفى بعض ألفاظ الحديث: (ولقد رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعقدها هكذا) وعدّ بأصابعه (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (597). (¬2) أخرجه مسلم (596). (¬3) أخرجه البخاري (6329)، بلفظ آخر من طريق سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود. (¬4) أخرجه أحمد (5/ 184، 190)، والنسائي (3/ 76)، والحاكم (1/ 253)، وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث ابن عمر عند النسائي (3/ 76). وسنده حسن. (¬5) ورد عند أبي داود (1502)، من طريق محمد بن قدامة، حدثنا عثام عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه به، بلفظ: "بيمينه" وهي لفظة تفرد بها محمد بن قدامة -شيخ أبي داود- مخالفًا بذلك بقية الرواة الآخذين عن عثام الذين رووا الحديث بمثل لفظ الجماعة -أقران الأعمش- أمثال: شعبة وسفيان الثوري وإسماعيل بن علية، وغيرهم ممن هم جبال في الحفظ والإتقان، وكلهم لا يذكرون لفظة "بيمينه"، وعليه فهي شاذة غير محفوظة؛ لأن قاعدة المحدثين أنه إذا اتحد مخرج الحديث امتنع الحمل على التعدد، وهذا الحديث متحد المخرج -كما تقدم- ومثل هذه الزيادة لا تقبل إذا خالف الراوي من هم أكثر منه عددًا، أو كان فيهم من هو أحفظ منه، وكلا الأمرين موجود هنا، ولو كانت هذه اللفظة محفوظة لما غفل عنها الجمهور من رواة الحديث، يقول شيخ المفسرين الحافظ محمد بن جرير الطبري -رحمه الله-: (والحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم، كانت الجماعة الأثبات أحق بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم). انظر: رسالة: "لا جديد في أحكام =

الحكم السادس عشر في الفصل بين الفريضة والنافلة

وعن يسيرة -وكانت من المهاجرات- قالت: قال لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا نساء المسلمات، عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسؤولات مستنطقات" (¬1). ويسن رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة؛ لما ورد عن عمرو بن دينار أن أبا معبد مولى ابن عباس أخبره أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخبره: أن رفع الصوت بالذكر -حين ينصرف الناس من المكتوبة- كان على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وعنه قال: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتكبير (¬2). والأصل أن كل إنسان يذكر الله تعالى بمفرده، وأما الذكر الجماعي على صوت واحد بعد التسليم من الصلاة فهذا وصف يحتاج إلى دليل من كتاب أو سنة؛ لأنه وصف يتعلق بعبادة، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الإحداث والاختراع (¬3). وبعد الذكر يقرأ آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ... إلى: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255] لحديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" (¬4)، ثم يقرأ سورة الإخلاص {قُل هُوَ اللهُ أحدٌ} (¬5) والمعوذتين {قُل أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ} و {قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، لما ورد عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: أمرني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أقرأ بالمعوّذات دبر كل صلاة (¬6). الحكم السادس عشر في الفصل بين الفريضة والنافلة دلت نصوص الشريعة على أنه ينبغي لمن صلى الفريضة أن يتحول عن مكانه لصلاة النفل إذا كانت النافلة في المسجد، فإن حصل بينهما بكلام كفى، والمراد به: التحدث مع الآخرين؛ لأنه أبلغ في الفصل، وأبعد عن جنس الصلاة. والحال الأول أكمل، وذلك ليحصل تمييز بين الفريضة والنافلة، وهذا مقاصد الشريعة في مشروعية هذا الحكم. ولا فرق في ذلك بين الإمام والمأموم، ولا بين الرجل والمرأة، لعموم الأدلة. وقد دل على ذلك ما ورد عن عمر بن عطاء أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب ابن أخت نمر يسأل عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة، فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت من ¬

_ = الصلاة" ص (53)، تفسير الطبري (9/ 566)، تحقيق: محمود شاكر، النكت على ابن الصلاح لابن حجر (2/ 691)، فتاوى ابن باز (1/ 186، 187). (¬1) أخرجه أحمد (6/ 371)، وأبو داود (1501)، والترمذي (3635)، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" وانظر: بلوغ الأماني (14/ 221). (¬2) أخرجه البخاري (841)، ومسلم (583)، وانظر: رسالة: "تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام" لابن سحمان -رحمه الله-. (¬3) انظر: تصحيح الدعاء ص (134). (¬4) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (100)، وعزاه المنذري في "الترغيب" (2/ 453)، إلى ابن حبان في كتاب الصلاة، والحديث له طرق، وهو حديث صحيح. فانظر: الصحيحة (972). (¬5) ورد ذلك في حديث أبي أمامة المتقدم عند الطبراني في الكبير (8/ 134)، بزيادة (وقل هو الله أحد)، قال المنذري: وإسناده بهذه الزيادة جيد (2/ 453). وكذا قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 102). (¬6) أخرجه أبو داود (1523)، والنسائي (3/ 58)، والترمذي (2903)، وقال: حديث حسن.

مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إليّ، فقال: لا تعد لما فعلت؛ إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرنا بذلك؛ أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج (¬1). قال النووي: (فيه دليل لما قاله أصحابنا: إن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها من موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره، ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة، وقوله: "حتى نتكلم" دليل على أن الفصل بينهما يحصل بالكلام -أيضًا- ولكن بالانتقال أفضل؛ لما ذكرناه، والله أعلم) (¬2). وعن رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى العصر، فقام رجل يصلي، فرآه عمر فقال له: اجلس، فإنما هلك الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أحسن ابن الخطاب" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: من صلى المكتوبة ثم بدا له أن يتطوع فليتكلم، أو فليمش، وليصلّ أمام ذلك. قال: وقال ابن عباس: إني لأقول للجارية: انظري كم ذهب الليل؟ ما بي إلا أن أفصل بينهما (¬4). فهذه الأدلة بينت مسألتين: الأولى: أن الفصل بين الفريضة والنافلة قد يكون بالزمان، وقد يكون بالتحول من مكان إلى مكان، وقد يكون بالكلام، ففي الحديث الأول الفصل بالتقدم من موضع إلى موضع، وفي الثاني الفصل بالزمان، فإن الظاهر أن عمر -رضي الله عنه- لم يرد بالفصل فصلًا بالتقدم؛ لأنه قال له: اجلس، ولم يقل: تقدم أو تأخر (¬5)، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الفصل بالكلام كما في حديث معاوية -أيضًا- وظاهره أنه لا يحصل الفصل بالذكر بعد الصلاة، وإلا لما احتاج ابن عباس على مخاطبة الجارية (¬6). ويمكن أن يحمل هذا على الأكمل، والله أعلم. وأكمل أنواع الفصل أن يتحول الإنسان إلى بيته فيصلي فيه النافلة؛ لما ورد عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (¬7). وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورًا" (¬8). وعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قضى أحدكم في الصلاة في مسجده، فيجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا" (¬9). قال القرطبي: (والخير الذي يجعل في البيت بسبب التنقل فيه هو: عمارته بذكر الله، وبطاعته، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (883). (¬2) شرح النووي على مسلم (6/ 420). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 368) بإسناد صحيح، وأخرجه أبو داود (3/ 309 عون) مطولًا، ولم يذكر أنها صلاة العصر. (¬4) أخرجه عبد الرازق (2/ 416) وابن أبي شيبة (1/ 89) وإسناده صحيح. (¬5) انظر: إعلام أهل العصر ص (117). (¬6) انظر: رسالة "حكم الفصل بين الفريضة والنفل" ص (21). (¬7) أخرجه البخاري (731) ومسلم (781). (¬8) أخرجه البخاري (432) ومسلم (777). (¬9) أخرجه مسلم (778).

الحكم السابع عشر من دخل المسجد وقد فاتته الصلاة فوجد من يصلي صلى معه

بالملائكة، وبدعائهم واستغفارهم، وما يحصل لأهله من الثواب والبركة) (¬1) اهـ. قلت: ومن الخير الموعود به تربية أهل البيت من الصغار والنساء على محبة الصلاة والعناية بها، والقيام بها على أكمل الوجوه. المسألة الثانية: مما دلت عليه أحاديث هذا الحكم: أن فيها إشارة إلى الحكمة من الأمر بالتحول من مكان الفريضة أو الكلام بعدها، وهي الفصل بين الفريضة والنافلة والتمييز بينهما (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة وغيرها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن توصل صلاة بصلاة، حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام، فلا يفعل ما يفعله كثير من الناس؛ يصل السلام بركعتي السنة، فإن هذا ركوب لنهي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض، كما يميز بين العبادة وغير العبادة. ولهذا استحب تعجيل الفطور، وتأخير السحور، والأكل يوم الفطر قبل الصلاة، ونهي عن استقبال رمضان بيوم أو يومين. فهذا كله للفصل بين المأمور به من رمضان وغير المأمور به، والفصل بين العبادة وغيرها، وهكذا تمييز الجمعة التي أوجبها الله من غيرها. وأيضًا فإن كثيرًا من أهل البدع كالرافضة وغيرهم لا ينوون الجمعة، بل ينوون الظهر، ويظهرون أنهم سلموا وما سلموا، فيصلون ظهرًا، ويظن الظان أنهم يصلون السنة، فإن حصل التمييز بين الفرض والنفل كان في هذا منع لهذه البدعة) (¬3). وما ذكره الشيخ -رحمه الله- موجودًا الآن لا سيما في الحرمين الشريفين، حيث ترى العدد الكثير من المصلين بمجرد السلام ينهضون لأداء السنة البعدية، ولا ريب أن هذا ارتكاب للنهي، وقد يكون فيهم من أهل البدع، كما ذكر -رحمه الله-. وقد ذكر العلماء حكمة أخرى وهي تكثير مواضع العبادة، نسب ذلك الشوكاني إلى البخاري والبغوي (¬4)؛ لأن مواضع العبادة، تشهد للعابد أخذًا من عموم قوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} [الدخان: 29] أي: أن الأرض تبكي على صاحب الطاعة (¬5)، وكذا قوله تعالى: {يَؤمَئذٍ تُحَدِّثُ أخبَارَهَا} [الزلزلة: 4] أي: تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها، من خير وشر، فإن الأرض من جملة الشهود الذين يشهدون على العباد بأعمالهم (¬6). والله أعلم. الحكم السابع عشر من دخل المسجد وقد فاتته الصلاة فوجد من يصلي صلّى معه من دخل المسجد وقد فاتته الجماعة فإما أن يجد من يصلي، أو لا، فإن وجد جماعة يصلون صلى معهم، وإن وجد منفردًا يصلي تلك الصلاة بأمارة دخل معه، وصار الأول إمامًا للثاني، فتصح نية الإمامة في أثناء ¬

_ (¬1) المفهم (2/ 411). (¬2) أعلام الموقعين (3/ 159). (¬3) مجموع الفتاوى (24/ 202). (¬4) نيل الأوطار (3/ 224). (¬5) تفسير ابن كثير (7/ 239). (¬6) تفسير ابن سعدي (5/ 455).

الحكم الثامن عشر إقامة جماعة غير معتادة لمن فاتتهم الصلاة

الصلاة؛ بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما عندما بات عند خالته ميمونة، فقام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي من الليل، فقام معه عن يساره، فجعله عن يمينه (¬1). ففيه إشارة إلى أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نوى الإمامة في أثناء الصلاة (¬2). قال ابن عبد البر: (فيه رد على من لم يجز للمصلي أن يوم أحدًا إلا أن ينوي الإمامة مع الإحرام؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينو إمامة ابن عباس، وقد قام إلى جنبه فأتم به، وسلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنة الإمامة؛ إذ نقله عن شماله إلى يمينه) (¬3). وهناك أدلة أخرى تفيد اقتداء الصحابة -رضي الله عنهم- بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولم ينو الإمامة من أول الصلاة، فأتم بهم، ولم ينكر عليهم، فدل على أن نية الإمامة ليست شرطًا. قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: (ولا فرق بين الفريضة والنافلة؛ لأن الأصل التسوية بينهما في الأحكام، إلا ما خصه الدليل ولا مخصص هنا فيما أعلم، والله أعلم) (¬4). فإن لم يجد أحدًا يصلي طلب من الحاضرين أن يصلي أحدهم معه؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه"؟ فقام رجل فصلى معه (¬5). وعموم الحديث يفيد أن المصلي مع الجماعة يصلي مع هذا المتأخر ولو كانت المغرب أو العصر، وسأذكر ذلك، إن شاء الله (¬6) أو يخرج إلى مسجد آخر فيصلي فيه إذا كان يطمع في إدراك جماعته، وقد ورد في صحيح البخاري أن الأسود بن يزيد النخعي -أحد كبار التابعين- كان إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر. وقد أورد البخاري -رحمه الله- هذا الأثر في باب "فضل صلاة الجماعة"، وبين الحافظ ابن حجر أن البخاري قصد بإيراده في هذا الباب أن الفضل الوارد في صلاة الجماعة مقصور على من جمّع في المسجد، دون من جمّع في بيته -مثلًا-؛ لأن التجميع لو لم يكن مختصًا بالمسجد لجمّع الأسود في مكانه، ولم ينتقل إلى مسجد آخر؛ لطلب الجماعة (¬7). فينبغي لمن فاتته الجماعة في مسجده أن يحرص على تحصيل ثوابها ولو في مسجد آخر؛ لا سيما إذا كان قريبًا من منزله لا يشق عليه، وفي وقتنا هذا كثرت المساجد في الأحياء، وقد يكون هناك فارق في وقت الإقامة بين مسجد ومسجد، مما يكون سببًا في إدراك الصلاة في مسجد آخر. الحكم الثامن عشر إقامة جماعة غير معتادة لمن فاتتهم الصلاة إذا دخل المصلي المسجد فوجد الإمام قد فرغ من الصلاة، أو في التشهد -كما مضى- فإن له أن يقيم جماعة ثانية هو ومن معه، ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى، لكن لا ينبغي للجماعة الثانية أن يصلوا إذا وجدوا الإمام في التشهد إلا بعد أن تنتهي الجماعة الأولى التي مع الإمام الراتب؛ لئلا تجتمع ¬

_ (¬1) هذا قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري (699) وفي مواضع أخرى، ومسلم (763). (¬2) انظر فتح الباري (2/ 192). (¬3) التمهيد (13/ 210). (¬4) انظر فتح الباري (3/ 14). (¬5) المرجع السابق. والحديث يأتي تخريجه -إن شاء الله-. (¬6) انظر: الحكم التاسع عشر. (¬7) انظر فتح الباري (2/ 131).

جماعتان في مسجد، سواء كانت الجماعة الثانية مع الأولى في مكان واحد من المسجد، أو لا؛ لئلا يكون ذلك افتياتًا (¬1) على الإمام. واعلم أن من تأمل مصادر الشريعة ومواردها وما اشتملت عليه من المصالح والرغبة في الاجتماع والائتلاف، وعدم التفريق والاختلاف؛ علم أن إقامة جماعة ثانية غير معتادة أولى من تفرقهم وصلاة كل واحد منهم منفردًا. وقد دلت نصوص الشريعة على هذا، وسأذكر -بعون الله- بعض هذه الأدلة، وشيئًا من كلام أهل العلم في هذه المسألة المهمة: فعن أُبي بن كعب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " ... وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل" (¬2). فدل الحديث بعمومه على أن من صلى مع رجل فهو أزكى من صلاته منفردًا، فيدخل في ذلك إقامة جماعة ثانية لمن فاتتهم الجماعة مع الإمام الراتب. وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبصر رجلًا يصلي وحده، فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه؟ فقام رجل فصلى معه" (¬3). وقد بوب ابن خزيمة على هذا الحديث فقال: "باب الرخصة في الصلاة جماعة في المسجد الذي قد جمّع فيه ضدّ قول من زعم أنهم يصلون فرادى إذا صلى في المسجد جماعة مرة" (¬4). قال البغوي: (ففيه دليل على أنه يجوز لمن صلى في جماعة أن يصليها ثانيًا مع جماعة آخرين، وأنه يجوز إقامة الجماعة في مسجد مرتين، وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين) (¬5). وقول المانعين: إنها صلاة متنفل وراء مفترض فيجوز تكرارها، وأما بمفترض فلا يجوز. فهذا فيه نظر قوي؛ فإنها إذا جازت بمفترض ومتنفل فما الذي ينفي جوازها بمفترضين؟ ومن ادعى الفرق فعليه الدليل (¬6). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬7). فهذا الحديث نص صريح في فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يرد تقييد ذلك بألا تكون جماعة ثانية، بل جاء مطلقًا في كل صلاة الجماعة، والرجل مع الرجل جماعة؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل التضعيف لغير الفذ، فعلم أن ما زاد على الفذ فهو جماعة، فإذا أقام رجلان جماعة ثانية حصل لهما التضعيف -إن شاء الله- لهذا الحديث، والله أعلم. ¬

_ (¬1) افتات عليه في الأمر: حكم، وكل من أحدث دونك شيئًا فقد افتات عليك فيه. "اللسان" (2/ 69). (¬2) أخرجه أبو داود (2/ 259)، والنسائي (2/ 104) وإسناده صحيح، قاله الألباني. (¬3) أخرجه أبو داود (2/ 282) وإسناده صحيح. (¬4) صحيح ابن خزيمة (3/ 57). (¬5) شرح السنة (3/ 438)، وانظر شرح المهذب (4/ 222). (¬6) انظر تحفة الأحوذي (2/ 11). (¬7) أخرجه البخاري (619)، ومسلم (650).

ولقد كان السلف الصالح من هذه الأمة أفهم منا لمدارك النصوص وأعلم بمقاصد الشرع، فجاء عن عدد منهم إقامة جماعة ثانية في مسجد قد صلى فيه، حين فاتتهم الجماعة الأولى. فقد ورد عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه دخل المسجد وقد صلوا فجمّع بعلقمة ومسروق والأسود (¬1). وجاء أنس -رضي الله عنه- إلى مسجد قد صُلّي فيه فأذن وأقام، وصلى جماعة (¬2). وعن ابن جريج: قلت لعطاء: نفر دخلوا مسجد مكة خلاف الصلاة -أي: بعد الصلاة- ليلًا أو نهارًا أو يؤمهم أحدهم؟ قال: نعم، وما بأس ذلك؟ (¬3). وهناك آثار وأقوال أخرى تفيد جواز ذلك (¬4)، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله. وأما ما ورد عن السلف من كراهية جماعة ثانية وأنهم يصلون فرادى فلعله محمول على ما إذا اعتاد أناس إقامة جماعة دائمة في مسجد لا إمام راتب، يصلون وحدهم، ويخرجون وحدهم، فهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى تفريق الكلمة، والقضاء على وحدة المسلمين واجتماعهم، كما أنه سبب لاختلاف القلوب، والتهاون بالصلاة مع الإمام، ولئلا يرغب رجال عن إمامة رجل فيجدون غيره إمامًا، فيؤدي ذلك على تقليل الجماعة مع الإمام الراتب وهذا ممنوع (¬5). ولا ريب أن إقامة جماعة ثانية بصفة دائمة لم يكن في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حدث ذلك فيما بعد، فيكون من البدع، كما نص على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (¬6). ومن الملاحظ أن إقامة جماعة ثانية لا يكون في الغالب من قوم كثر، بل يصلي واحد بمثله أو باثنين أو ثلاثة، ولا أظن أن أحدًا منهم يجري على باله تفريق الكلمة، أو التأخر عن الجماعة مع الإمام الراتب، ثم إن مثل هذه الجماعة إن وجدت في مساجدنا فهي في الغالب من عابري سبيل ليسوا من جماعة هذا المسجد الذي صلوا فيه، فالقول بجواز الجماعة الثانية على الصفة المذكورة وجيه، لما ذكر. والله أعلم. أما ما يقع في المساجد التي على ظهر الطريق مما ليس فيه مؤذن راتب، ولا إمام معلوم، فيصلي فيه المارة جماعة جماعة فهذا لا محذور فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي تقدم من تفرق الكلمة، وأن يرغب رجال عن إمامة رجل فيجدون غيره إمامًا. قال النووي: (إذا لم يكن للمسجد إمام راتب فلا كراهة في الجماعة الثانية والثالثة بالإجماع) (¬7). وقد استدل المانعون من إقامة جماعة ثانية في المسجد بحديث أبي بكرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله فصلى بهم (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 323). قال في بلوغ الأماني (5/ 344): إسناده صحيح. (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 131 الفتح). قال الحافظ في تغليق التعليق (2/ 277): هنا إسناد صحيح موقوف. اهـ. (¬3) المحلى لابن حزم (4/ 237، 238). (¬4) المصدر السابق، وانظر: فتاوى ابن باز (12/ 165 - 173) وابن عثيمين (15/ 93). (¬5) انظر الأم للشافعي (1/ 180). (¬6) مجموع الفتاوى (23/ 258). (¬7) المجموع شرح المهذب (4/ 222). (¬8) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 304) وقال: "لهم لم يرو هنا الحديث عن خالد الحذّاء إلا أبو مطيع معاوية بن يحيى، ولا يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد" قال في التقريب: "معاوية بن يحيى الطرابلسي، أبو مطيع، ... صدوق له =

الحكم التاسع عشر من صلى ثم دخل مسجدا صلى معهم

ووجه الدلالة على المنع: أن الجماعة الثانية لو كانت مشروعة بلا كراهة لصلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد، ولما اختار بيته على جماعة المسجد. والجواب عن ذلك من وجهين: الأول: أن أحاديث فضل صلاة الجماعة أكثر وأقوى سندًا من هذا الحديث، فإنه مختلف في صحته، وللعلماء فيه كلام. وقد ذكره الهيثمي ثم قال: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات). وهذا لا يعني صحة الحديث، ولا أنه حسن، على أن في سنده أبا مطيع معاوية بن يحيى، وهو متكلم فيه، بل إن الحافظ الذهبي في الميزان لما ترجمه ذكر له أحاديث مناكير، ومنها هذا (¬1). الثاني: على فرض صحة الحديث فليس فيه دلالة على المنع، وذلك من ثلاثة أوجه: الأول: أن الحديث ليس بنص على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع أهله فصلى بهم في المنزل، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد، ويكون ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه. الثاني: سلمنا أنه صلى بهم في المنزل، فلا يثبت منه كراهة جماعة ثانية في المسجد، بل غاية ما يفيد أنه لو جاء رجل إلى مسجد قد صلي فيه فله أن لا يصلي فيه، بل يذهب إلى بيته ويصلي بأهله، وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة، أو يكره له ذلك فلا دلالة للحديث عليه. الثالث: لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة؛ لأجل أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يصل في المسجد، فلآخر أن يستدل به على كراهة الصلاة فرادى؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يصل في المسجد لا منفردًا ولا بالجماعة، وعليه فالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك فضل المسجد النبوي ولم يصل فيه منفردًا، وهم يقولون: لو كانت الجماعة الثانية مشروعة بلا كراهة لما ترك فضل المسجد النبوي (¬2). وإذا كان الحديث بهذه الاحتمالات فكيف يؤخذ به ويترك ما هو أوضح دلالة وأقوى سندًا؟ على أن المنع من إقامة جماعة ثانية قوي فيمن اعتاد التخلف عن الجماعة، وصار ديدنه إقامة جماعة ثانية. والله أعلم. الحكم التاسع عشر من صلى ثم دخل مسجدًا صلى معهم من آداب دخول المساجد أن من دخل مسجدًا فوجدهم يصلون وهو قد صلّى، فإنه يشرع له أن يصلي معهم، إدراكًا لفضل الجماعة، سواء كان الوقت وقت نهي أم لا، وتكون له نافلة؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتك الصلاة معهم فصلّ، ولا تقل: إني قد صليت فلا أصلي" (¬3). قال النووى: (وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر والمغرب كباقي الصلوات؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أطلق الأمر بإعادة الصلاة ولم يفرق بين صلاة وصلاة، وهذا هو الصحيح في مذهبنا، ولنا وجه أنه لا يعيد الصبح والعصر؛ لأن الثانية نفل، ولا تنفل بعدهما، ووجه أنه لا يعيد المغرب؛ لئلا تصير شفعًا، ¬

_ = أوهام" وانظر: مجمع الزوائد (2/ 45). (¬1) ميزان الاعتدال (4/ 139، 140). (¬2) انظر تحفة الأحوذي (2/ 9) وما بعدها. (¬3) أخرجه مسلم (648).

وهو ضعيف) (¬1) وقال في بداية المجتهد: (والتمسك بالعموم أقوى) (¬2). وعن يزيد بن الأسود العامري قال: شهدت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة الفجر في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته إذ هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه، قال: "عليّ بهما"، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ "، قالا: يا رسول الله! إنا قد صلينا في رحالنا؛ قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم؛ فإنهما لكما نافلة" (¬3). قال الترمذي (وهو قول غير واحد من أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: إذا صلى الرجل وحده ثم أدرك الجماعة فإنه يعيد الصلوات كلها في الجماعة، وإذا صلى المغرب وحده ثم أدرك الجماعة قالوا: فإنه يصليها معهم ويشفع بركعة، والتي صلى وحده هي المكتوبة عندهم) (¬4). قال السندي: (وقوله: "فصليا معهم": هذا تصريح في عموم الحكم في أوقات الكراهة أيضًا، ورافع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة؛ لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر). اهـ (¬5). وقال في عون المعبود: (وظاهر الحديث حجة على من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه عليه الصلاة والسلام يقول: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصلّ فيصل معه"؟ ولم يستثن صلاة دون صلاة) (¬6). وقد أفتى بمقتضى ذلك إمام السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله- قال أبو داود: سمعت أحمد قال له رجل: إذا دخلت المسجد وقد صليت العصر وأقيمت الصلاة؟ قال: صلّ معهم، قيل: والظهر؟ قال: والصلوات كلها، قال أبو داود لأحمد: والمغرب إذا صليتها أضيف إليها ركعة؟ قال: نعم ... (¬7). وهذه الإعادة سببها حضور الجماعة، ولا فرق بين أن يصلي الأولى وحده أو يصلي مع جماعة، ولا فرق -أيضًا- في إعادتها مع الجماعة بين ما إذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد، أو دخل المسجد وهم يصلون؛ لعموم الأدلة، ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به، والوقوع في عرضه وأنه ليس من المصلين. وظاهر قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث يزيد: "إذا أتيتما مسجد جماعة" أن ذلك مختص بالجماعة التي تقام في المسجد، لا التي قد تقام في غيره، فمن حضر جماعة يصلون في منزل لعذر وكان هو قد صلّى لم يصلّ معهم، فيحمل المطلق الوارد في بعض روايات الحديث على هذا المقيد، والله أعلم (¬8). قال في المغني: (إذا أعاد المغرب شفعها برابعة، نص عليه أحمد؛ لأن هذه الصلاة نافلة، ولا يشرع ¬

_ (¬1) شرح النووي (5/ 154). (¬2) بداية المجتهد (1/ 179). (¬3) تقدم تخريجه في الكلام على تحية المسجد وقت النهي. (¬4) جامع الترمذي (1/ 426). (¬5) حاشية السندي على النسائي (2/ 113). (¬6) عون المعبود (2/ 284)، وراجع مجموع الفتاوى (23/ 188). (¬7) مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص (48). (¬8) نيل الأوطار (3/ 107).

الحكم العشرون اختلاف نية الإمام والمأموم

التنفل بوتر غير الوتر، فكان زيادة ركعة أولى من نقصانها؛ لئلا يفارق إمامه قبل إتمام صلاته). اهـ (¬1). وفي هذه المفارقة مخالفة لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬2)، قال ابن أبي شيبة في مصنفه: (باب من قال: إذا أعدت المغرب فاشفع بركعة)، وذكر آثارًا عن السلف، منها: عن علي -رضي الله عنه- قال: يشفع بركعة. يعني: إذا أعاد المغرب (¬3). ولو قال قائل إنه يصلي معهم المغرب، ولا يلزم أن يزيد عليها ركعة؛ لعموم الأدلة في هذه المسألة؛ لما كان ذلك بعيدًا، لكنه مبني على صحة التطوع بوتر، والله أعلم. الحكم العشرون اختلاف نية الإمام والمأموم من أحكام دخول المسجد التي ينبغي العلم بها أنه لا يشترط اتحاد نية الإمام والمأموم، وأن اختلاف نية الإمام عن المأموم لا يمنع صحة الاقتداء، فالمفترض يأتم بالمتنفل، والمتنفل يأتم بالمفترض، والمفترض يقتدي بمفترض آخر، فهذه ثلاث حالات: فالأولى: كما لو دخل إنسان المسجد، والإمام يصلي التراويح، فله أن يصلي العشاء خلفه ركعتين، ثم يقوم فيتم ركعتين، وهذا قول الإمام الشافعي وأصحابه، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، رحم الله الجميع (¬4)، وذلك لما ورد عن جابر -رضي الله عنه-: أن معاذًا -رضي الله عنه- كان يصلي مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة (¬5). كما يدل على ذلك -أيضًا- أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى بالطائفة الثانية صلاة الخوف، وهي له نافلة، فإنه صلى بطائفة وسلم، ثم صلى بطائفة أخرى وسلم (¬6). وأما حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (¬7)، فلا دليل فيه على عدم الجواز؛ لأنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسّره بذلك، كما في تمام الحديث، وعلى تقدير أنه عام في اختلاف النيات والأفعال الظاهرة، فهو مخصوص بمثل حديث جابر المذكور، ولا تعارض بين العام والخاص. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة، فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع، كقوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، وبأن "الإمام ضامن"، فلا كون صلاته أنقص من صلاة المأموم، وليس في هذين الحديثين ما يدفع تلك الحجج، والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال كما جاء مفسرًا ... ). وقال -أيضًا-: (فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض في عدة أحاديث، وثبت أيضًا بالعكس، ¬

_ (¬1) المغني (2/ 521). (¬2) أخرجه البخاري (689) ومسلم (414). (¬3) المصنف (2/ 276). (¬4) المجموع شرح المهذب (4/ 269)، والمغني (3/ 67)، ومجموع الفتاوى (23/ 386). (¬5) رواه البخاري (668)، ومسلم (465). وانظر: فتاوى ابن باز (12/ 181). (¬6) رواه أبو داود (4/ 126)، والنسائي (3/ 178)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1/ 232)، وانظر كلام ابن القيم عليه في تهذيب السنن (4/ 126) بهامش عون المعبود. (¬7) تقدم تخريجه.

الحكم الحادي والعشرون إذا صلى المسافر خلف المقيم أتم

فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو التنفل ليست بواجبة، والإمام ضامن وإن كان متنفلًا) (¬1). وقال السندي على حديث صلاة الخوف المتقدم: (ولا يخفى أنه يلزم فيه اقتداء المفترض بالمتنفل قطعًا، ولم أر لهم جوابًا شافيًا) (¬2). وأما الصورة الثانية: وهي متنفل يقتدي بمفترض، فكما لو دخل إنسان المسجد فوجدهم يصلون، وقد كان صلى تلك الصلاة، فإنه يصلي معهم وتكون له نافلة. وتقدم بحث هذه المسألة (¬3). وأما الصورة الثالثة: وهي مفترض يقتدي بمفترض آخر، فكما لو دخل إنسان لم يصل الظهر والإمام يصلي العصر، فإنه يصلي وراء إمامه بنية الظهر، ثم بعد فراغه يصلي العصر، لوجوب الترتيب، ولا يسقط خشية فوات الجماعة (¬4). وكذا يجوز أن يصلي الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء خلف من يصلي الفجر، وشرط ذلك: ألا تكون إحدى الصلاتين تخالف الأخرى في الأفعال الظاهرة؛ لحديث "فلا تختلفوا عليه"، فلا يصلي الظهر خلف من يصلي الكسوف -مثلًا- (¬5). وهذا قول الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لقصة معاذ -رضي الله عنه- حيث دل الحديث على أن اختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يؤثر، فكذلك هنا، اختلاف نية الفريضة من فريضة إلى أخرى لا يؤثر، ومن منع ذلك استدل ما تقدم، والجواب كما سلف، والله أعلم. الحكم الحادي والعشرون إذا صلى المسافر خلف المقيم أتم إذا دخل المسجد رجل مسافر، والناس يصلون صلى معهم، ولزمه الإتمام ومتابعة الإمام؛ وذلك لما ورد عن موسى بن سلمة قال: كنا مع ابن عباس بمكة، فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعًا، وإذا رجعنا على رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم (¬6). وعنه -أيضًا- قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين، سنة أبي القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (¬7). وعن الشعبي: أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا صلى بمكة يصلي ركعتين، إلا أن يجمعه إمام فيصلي بصلاته (¬8). وعن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعًا، فإذا صلّى لنفسه صلّى ركعتين (¬9). فهذه النصوص تفيد أن المسافر إذا صلى خلف مقيم لزمه الإتمام؛ لوجوب متابعة الإمام وترك ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (23/ 385، 386). (¬2) حاشية السندي على النسائي (3/ 178). (¬3) انظر: المغني (3/ 68). (¬4) فتاوى ابن باز (12/ 182، 191). (¬5) انظر: المغني (3/ 69). (¬6) رواه أحمد (1/ 216)، وقال في إرواء الغليل (3/ 21): سنده صحيح. (¬7) رواه مسلم (5/ 204). (¬8) أخرجه ابن خزيمة (2/ 74). (¬9) رواه مالك في الموطأ (1/ 149)، وهو في صحيح مسلم في آخر حديث إتمام عثمان -رضي الله عنه- الصلاة بمنى، وفيه بيان أن المراد بالإمام: عثمان رضي الله عنه؛ لأنه أتم الصلاة بمنى (5/ 210).

الحكم الثاني والعشرون لا يحجز مكانا في المسجد

الخلاف له وإن اعتقد المأموم أن القصر أفضل، لأن فضيلة الجماعة آكد، يؤيد ذلك عموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" (¬1). لكن إذا دخل المسافر المسجد وقد صلّى الإمام ركعتين من الظهر -مثلًا- فهل تجزئه الركعتان الباقيتان باعتبار أنها صلاته لو كان منفردًا أم يلزمه الإتمام؟ الجواب: يلزمه الإتمام؛ لما ورد عن أبي مِجْلَز -واسمه: لاحق بن حميد- قال: قلت لابن عمر: المسافر يدرك ركعتين من صلاة القوم -يعني: المقيمين- أتجزئه الركعتان أو يصلي بصلاتهم؟ قال: فضحك، وقال: يصلي بصلاتهم (¬2). وعلى هذا فإذا أدرك المسافر مع المقيم ركعة فأكثر أتم الصلاة؛ لأنه أدرك الجماعة، واقتدى بمقيم في جزء من صلاته، فلزمه الإتمام. أما لو صلى مسافر خلف إمام يصلي التراويح فهل تجزئه الركعتان؟ هذا مبين على مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل. والأظهر الجواز، لدخوله في عموم "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليم"، وهذا صلى ركعتين كإمامه، فلم يختلف عليه، وأما الاختلاف المنهي عنه فهو الاختلاف في الأفعال الظاهرة، بدليل تفسيره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك بالأفعال الظاهرة، كما في بقية الحديث، والله أعلم (¬3). لكن إذا أدرك المسافر أقل من ركعة كأن يدرك إمامه في التشهد فهل يتم أو يقصر؟ هذا مبني على الخلاف فيما تدرك به الجماعة؛ فمن قال: تدرك بركعة، قال: له أن يقصر؛ لأن الجماعة فاتته، فهو كمن صلى منفردًا. نص على ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-، وبه قال مالك وجماعة من السلف: أن من أدرك أقل من ركعة فإنه يقصر، ومن قال: تدرك الجماعة بإدراك التشهد قال: يتم هذا المسافر صلاته؛ لأنه أدرك الجماعة (¬4). والقول بأن الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة هو المختار في هذه المسألة، -كما تقدم- وذلك لأن المأموم لم يدرك مع الإمام شيئًا يحتسب له به؛ لأن ما دون الركعة لا يعتد به في الصلاة، لكونه يستقبل جميع صلاته منفردًا، والله أعلم (¬5). الحكم الثاني والعشرون لا يحجز مكانًا في المسجد اعتاد بعض الناس حجز مكان في بعض المساجد، خلف الإمام، إما بفرش سجادة معينة، أو وضع عصا، ونحو ذلك، وصاحب المكان إما في منزله أو عمله، وهذه الظاهرة تكثر في المسجد الحرام ولا سيما في رمضان، حيث اعتاد أناس فرش سجاجيد في المسجد الحرام، ولا سيما عند الأعمدة يلازمون الصلاة فيها، ولا يكتفون بأماكن أنفسهم، بل يحجزون لأولادهم وأقربائهم وأصدقائهم، ويبذلون دريهمات لفئة من الناس يقومون بفرشها قبل مجيئهم، وطرد الناس عنها. وهذا العمل مخالف لنصوص ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) رواه البيهقي (3/ 157)، وقال في الإرواء (3/ 22): سنده صحيح. (¬3) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/ 385). (¬4) انظر مجموع الفتاوى (23/ 243). (¬5) انظر المغني (3/ 145)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/ 156)، ومجموع الفتاوى (23/ 330، 333).

الشريعة وما عليه سلف هذه الأمة من وجوه: الأول: أن المصلي مأمور بالتقدم إلى المسجد والقرب من الإمام بنفسه، لا بعصاه ولا بسجادته، وغالب من يصنع ذلك حريص على الصف الأول، لكن هذا الحرص أدى إلى مخالفة السنة. الثاني: أن فيه مخالفة لأمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإتمام الصف الأول -كما تقدم- وإتمامه مطلوب حتى قبل الإقامة، بدليل قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (¬1). ومن فهم أنه يدرك فضل الصف الأول وفضيلة التقدم بتقديم عصاه، وأنه يحصل على ذلك ولو جاء متأخرًا فقد أخطأ في الفهم، وأساء التصرف، فإن الفضل لا يحصل بتقدم السجادة، ولا العصا، بل الإنسان نفسه، ولا يبعد أن هذا الشخص يفوته من الأجر ويحصل له من الإثم بقدر تأخره؛ لأنه منع غيره، وخالف أمر الشرع، وكيف يكون مأجورًا بفعل ما نهى عنه الشرع؟ ولا يبعد أن تكون صلاة المتحجر ناقصة؛ لأن المعاصي إذا لم تبطل الأعمال فإنها تنقصها. الثالث: أن الناس في بيوت الله سواء، لا أحقية إلا للمتقدم، والسبق إلى المساجد يكون بالبدن لا بالعصا، فمن وضع عصاه أو نحوها وتأخر فقد غصب طائفة من المسجد، ومنع السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيها، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ولا ريب أن السابق يستحق هذا المكان بسبقه، ولكن هذا المتحجر ظلمه حقه فهو عاص بذلك. ومن تقدم ووجد الصف الأول قد تحجره أحد فصلى في الصفوف المتأخرة كان أفضل وأعظم أجرًا؛ لأنه ما تقدم بنفسه إلا وهو يريد فضيلة السبق وأجر الصف الأول، فمنع ذلك بغير حق، فحصل على الفضل بنيته وقصده، وفات المتحجر الأجر بسبب فعله. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئًا، لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطًا، ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء، والله أعلم). وقال أيضًا: (ليس لأحد أن يتقدم ما يفرش له في المسجد ويتأخر هو، وما فرش له لم يكن له حرمة، بل يزال ويصلي مكانه على الصحيح) (¬2). الرابع: أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير (¬3)، قال ابن الأثير: (معناه أن يألف الرجل مكانًا معلومًا من المسجد مخصوصًا به، يصلي فيه، كالبعير لا يأوي من عطن إلا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) مجموع الفتاوى (22/ 123) و (23/ 410)، وانظر الفتاوى السعدية (ص 184). (¬3) أخرجه أحمد (24/ 292) وأبو داود (862) والنسائي (2/ 214)، وابن ماجه (1429)، والحاكم (1/ 229) من طريق جعفر بن عبد الله الأنصاري عن تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل. به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، مع أنه قال في الميزان (1/ 360) في ترجمة: (تميم بن محمود): "قال البخاري: في حديثه نظر، روى عنه عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي" والحق أنه مجهول، فإنه ما روى عنه إلا جعفر الأنصاري - كما ذكر البحاري في تاريخه الكبير (2/ 154) وهو راوي الحديث السابق عنه، وقد ذكره العقيلي في "الضعفاء" (1/ 170) وذكر حديثه هذا. ثم قال: ولا يتابع عليه. اهـ.

إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخًا) (¬1). قال في كشاف القناع: (ويكره اتخاذ غير الإمام مكانًا بالمسجد لا يصلي فرضه إلا فيه؛ لنهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إبطال المكان كإبطال البعير، ولا بأس باتخاذ مكان لا يصلي إلا فيه في النفل؛ للجمع بين الأخبار) (¬2). إن ملازمة الإنسان لمكان خاص في المسجد قد يفقده لذة العبادة؛ لكثرة إلفه له وحرصه عليه، كما أنه قد يؤدي إلى الشهرة والرياء والسمعة، وفيه الحرمان من تكثير مواضع العبادة التي تشهد له يوم القيامة (¬3). وبعض الملازمين لمكان خاص يحقد على غيره إذا رآه في مكانه، وربما دعاه ذلك إلى إزاحة من سبقه إليه، أو التضجر منه. ورحم الله إمام السنة أبا عبد الله أحمد بن حنبل الذي قال عنه المروزي: (كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام، فجاء يومًا وقد تجافى الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع، فاعتزل وقام في طرف الصف، وقال: نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير) (¬4). الخامس: أن تقديم المفارش أو العصي يجعل صاحبها يتأخر عن الحضور اتكالًا على ذلك، وهذا مشاهد، فإذا حضر تخطى رقاب الناس وآذاهم فجمع بين التخطي والتأخر. السادس: أن في التحجير ترفعًا على الآخرين، وإحساسًا بالفارق الذي قد يفضي بصاحبه إلى الغرور والكبر، دون أن يشعر به صاحبه، وإنك لترى شيئًا من ذلك باديًا على وجوه كثير من المتحجرين في المسجد الحرام، وكيف يتخطون رقاب الناس على أماكنهم بلا مبالاة، ويمرون بينهم وبين سترتهم وهم يتنفلون، وهذا من الشهرة والرياء. السابع: أن هذا التحجر يحدث النزاع ويسبب العداوة والشحناء في أفضل البقاع، وهي المساجد التي لم تبن إلا لذكر الله تعالى وعبادته، وكم رأينا وسمعنا نزاعًا يقع في بيت الله الحرام حول هذه الأماكن المحجوزة، ولا سيما مع من يقومون بذود الناس عنها! الثامن: أن هولاء المتحجرين -ولا سيما في المسجد الحرام- إذا كان في الصف الذي أمامهم فرجة محاذية لأحدهم لم يتقدم لسدها خوفًا على مكانه، بل منهم من لا يرص الصف، بل يطلب من غيره أن يقترب؛ لئلا يزول عن مكانه. وهذا مخالف لنصوص الشريعة القاضية بسد الفرج والتراص في الصفوف. أما من كان في المسجد ووضع عصاه أو سجادته في مقدم الصف وصلى أو قرأ في مكان آخر؛ ليستند إلى عمود، أو ليراجع حفظه، ونحو هذا فلا حرج عليه، بشرط ألا يتخطى رقاب الناس، ولا يؤذيهم إذا جاء إلى مكانه، وإن كان الأولى عدم مثل ذلك متى وجد عنه مندوحة (¬5). ومن تقدم إلى المسجد وفي نيته انتظار الصلاة ثم عرض له عارض من وضوء ونحوه فقام لا حرج ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث (5/ 204). (¬2) كشاف القناع (1/ 494). (¬3) شرح فتح القدير (1/ 422)، والدين الخالص للسبكي (3/ 203). (¬4) بدائع الفوائد لابن القيم (3/ 82)، وانظر في هنا الموضوع مجموع الفتاوى (2/ 189، 193، 195)، والفتاوى السعدية، للشيخ عبد الرحمن السعدي (ص 182) وما بعدها. (¬5) انظر الفتاوى السعدية (ص 186).

عليه في وضع عصا ونحوه حتى يرجع، وإذا رجع فهو أحق بمكانه؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" (¬1). قال النووي: (قال أصحابنا: هذا في حق من جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلًا، ثم فارقه ليعود إليه، كإرادة الوضوء، أو لشغل يسير ثم يعود، لا يبطل اختصاصه به، وله أن يقيم من خالفه وقعد فيه، وعلى القاعد أن يطيعه، واختلف: هل يجب عليه؟ على وجهين: أصحهما الوجوب)، قال: (ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك له فيه سجادة ونحوها أم لا. والله أعلم) (¬2). ومن سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به، فلا يجوز إقامته من موضعه الذي سبق له سواء كان شريفًا أو وضيعًا، صغيرًا أو كبيرًا، إلا إذا حصل منه أذى، كآكل الثوم وشارب الدخان، فإنه يخرج من المسجد، كما تقدم أول الكتاب. وقد ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا (¬3). وهذا الحديث عام في كل المجالس، ولكنه خاص بالمجالس المباحة وفي مقدمتها المساجد، قال ابن أبي جمرة: (والناس في المباح كلهم سواء، فمن سبق إلى شيء استحقه، ومن استحق شيئًا فأخذه منه بغير حق فهو غصب، والغصب حرام) (¬4). وينبغي للجالسين في المسجد وغيره أن يتوسعوا وينضم بعضهم إلى بعض حتى يفضل من الجمع فجوة تسع الداخل، ولا سيما في مثل المسجد الحرام والجوامع الكبيرة، حيث يكون حصول فجوات بواسطة انضمام بعض الجالسين إلى بعض، شريطة ألا يحصل مضايقة وعدم ارتياح في العبادة من صلاة أو غيرها؛ لأن هؤلاء المتقدمين أولى من هذا المتأخر. واعلم أن ما ذكرنا في الأمر الرابع من النهي عن اتخاذ مكان في المسجد لا يصلي الرجل إلا فيه لا يشمل المنزل؛ بدليل حديث عتبان بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- وفيه: أنه قال للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكانًا، اتخذه مصلى. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سأفعل" ... الحديث (¬5). قال الحافظ في فوائد الحديث: (وفيه أن النهي عن استيطان الرجل مكانًا إنما هو في المسجد العام) (¬6). فإن قيل: ما الجواب عما ورد في حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى عند هذه الأسطوانة، قال: فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتحرى الصلاة عندها (¬7)؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أن هذا محمول على النفل، وليس في الفرض، فيكون هذا الحديث مخصصًا لعموم النهي، جمعًا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2179)، وأبو داود (4853). (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 412). (¬3) أخرجه البخاري (5914)، ومسلم (2177). (¬4) انظر بهجة النفوس لابن أبي جمرة (4/ 194). (¬5) أخرجه البخاري (415)، ومسلم (33). (¬6) فتح الباري (3/ 62). (¬7) أخرجه البخاري (502)، ومسلم (509).

الحكم الثالث والعشرون لا يهجر المسجد الذي يليه

بين الأدلة -كما تقدم في النفل عن كشاف القناع- ولهذا كان سلمة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي عندها النفل، كما في رواية مسلم: (أنه -أي سلمة- كان يتحرى موضع المصحف يسبح فيه)، قال النووي: (المراد بالتسبيح: صلاة النافلة) (¬1). الثاني: أن الصلاة عند الأسطوانة معناها: أنه اتخذها سترة، ولهذا بوّب البخاري على هذا الحديث وقال: (باب الصلاة على الأسطوانة) (¬2). الثالث: أنه لم يحجز المكان الذي عندها، وإنما إذا رآه خاليًا صلى عندها، وأما فعل سلمة فلعله أراد الاقتداء بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه يرى أن هذا من الأماكن الفاضلة؛ لكون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى فيه (¬3)، والله أعلم. الحكم الثالث والعشرون لا يهجر المسجد الذي يليه تقدم أول الكتاب أن من حكم مشروعية صلاة الجماعة حصول الألفة بين الجيران وأهل المحلة الواحدة، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض، فيقومون بإغاثة الملهوف وعيادة المريض، وتفقد أحوال العاجز، كما يظهر في صلاة الجماعة الاجتماع والبعد عن التفرق والاختلاف، ثم التعاون على الطاعة، وهذا وغيره إنما يتم إذا صلى أهل المحلة الواحدة في مسجد واحد، ومن هنا رغب الإسلام المسلم في أن يؤدي صلاة الجماعة في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره، إلا لغرض شرعي مطلوب. وقد ورد عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليصل أحدكم في مسجده، ولا يتتبع المساجد" (¬4). إن تخطي الإنسان المسجد الذي بجواره إلى مسجد آخر يترتب عليه أمران محذوران في نظر الإسلام (¬5): الأول: هجر المسجد الذي يليه، فإذا ذهب هذا، وذهب هذا أدى ذلك إلى خلو المسجد عن جماعته، لا سيما مع قلتهم، ولا ريب أن عمارة المسجد، والتعاون على الطاعة، وتنشيط المتكاسل كل ذلك من المطالب العظيمة التي يتحقق بها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى اَلبِرِّ وَاَلتَّقوَى} [المائدة: 2]. الثاني: إيحاش صدر الإمام، وإساءة الظن به، والوقوع في عرضه وذلك بالخوض في الأسباب التي جعلت هذا الإنسان يتخطى مسجده إلى مسجد آخر، وقد يفتعل أسبابًا يبرر بها تصرفه، والإمام منها بريء، وهذا أمر ملاحظ، فإن الغالب أن من يتخطى مسجده إلى مسجد آخر بصفة دائمة إنما هو لسبب بينه وبين الإمام، لا لغرض شرعي. قال في المغني: (وإن كان في قصد غيره -أي غير مسجده- كسر قلب إمامه أو جماعته فجبر قلوبهم أولى، وإن لم يكن كذلك فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب؟ فيه روايتان: إحداهما قصد الأبعد، لتكثر خطاه في طلب الثواب، فتكون حسناته أكثر. ¬

_ (¬1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 472)، والقول المبين في أخطاء المصلين (ص 78). (¬2) انظر فتح الباري (1/ 577). (¬3) انظر شرح النووي (4/ 472). (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 370)، والأوسط (6/ 82، 83) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (5/ 234) و"صحيح الجامع" (5332). (¬5) ذكرها ابن القيم في "أعلام الموقعين" (3/ 160) بإيجاز.

الحكم الرابع والعشرون في إيذاء المصلين والتشويش عليهم

والثانية: الأقرب؛ لأن له جوارًا، فكان أحقّ بصلاته، كما أن الجار أحقّ بهدية جاره ومعروفه من البعيد .. ) (¬1). وظاهرة تخطي المسجد الذي يليه تكثر في شهر رمضان المبارك عندما يتتبع الناس المساجد طلبًا لحسن الصوت في صلاة التراويح، أو صلاة التهجد، وأدى ذلك إلى هجر مساجد أخرى وخلوها من المصلين، وفي ذلك تفريق الجماعة وإضعاف نشاطهم ورغبتهم، ثم إنه انصراف من شاء الله من عباده عن الخشوع في الصلاة وحضور القلب إلى التعلق بمتابعة الصوت الحسن لذات الصوت، فأدى ذلك إلى تكرّه النفوس للصلاة خلف إمام لا يستحسن صوته (¬2)، ومن الناس من لا يستقر على إمام معين فيظل ينتقل من مسجد إلى آخر طوال الشهر، وربما خرج من بعض المساجد قبل انصراف الإمام ونهاية التراويح؛ لأنه لم يعجبه صوته، فالله المستعان. وقد ذكر ابن القيم في بدائع الفوائد عن محمد بن بحر قال: رأيت أبا عبد الله في شهر رمضان، وقد جاء فضل بن زياد القطان بأبي عبد الله التراويح، وكان حسن القراءة، فاجتمع المشايخ وبعض الجيران حتى امتلأ المسجد، فخرج أبو عبد الله، فصعد درجة المسجد، فنظر على الجمع، فقال: ما هذا؟ تدعون مساجدكم وتجيئون إلى غيرها، فصلى بهم ليالي، ثم صرفه كراهية لما فيه -يعني من إخلاء المساجد-، وعلى جار المسجد أن يصلي في مسجده (¬3). أما إذا وجد غرض صحيح لتخطي الإنسان مسجده إلى مسجد آخر، مثل أن يكون إمام مسجده لا يتم الصلاة (¬4)، أو يرتكب بعض المخالفات، أو ضعيفًا في القراءة ونحو ذلك فلا بأس إن شاء الله، أو كان يفعل ذلك في بعض الأوقات لحضور درس أو محاضرة في المسجد الأبعد، أو لكون الأبعد يبادر في الصلاة والمأموم محتاج إلى ذلك فأرجو أن لا حرج، والله أعلم. الحكم الرابع والعشرون في إيذاء المصلين والتشويش عليهم المصلي يناجي ربه ويلهج بذكره ودعائه ويستحضر عظمته وهيبته وجلاله، ولا يليق بمسلم أن يقطع هذه المناجاة على أخيه بالأذية أو التشويش، وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا .. " ويأتي بتمامه إن شاء الله، وقد شدد الإسلام في موضوع الأذية، واعتبرها من موجبات اللعن، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" (¬5). ولا ريب أن الأذية في المساجد والتشويش على المصلين والذاكرين أعظم من الأذية في الطرق، وذلك منكر عظيم، ينبئ عن تساهل في احترام المساجد، ومراعاة المتعبدين، والمطلوب من المسلم الذي قصد بيتًا من بيوت الله أن يكون متحليًا بمكارم الأخلاق من السماحة والهدوء والمرحمة، ولا يليق به أن يهدم من جانب ويبني من جانب آخر. ¬

_ (¬1) المغني (3/ 9). (¬2) انظر الرسالة القيمة المذكورة: للشيخ بكر أبو زيد (ص 54). (¬3) انظر بدائع الفوائد (4/ 149). (¬4) انظر: مجموع الفتاوى (23/ 342). (¬5) تقدم أول الكتاب.

(1) تخطي الرقاب:

وأنا أذكر بعض ما وقع فيه كثير من الناس مما يتعلق بالتشويش على المصلين، لعل في ذكره وبيان حكمه علاجًا إن شاء الله، فإن من صفات المومن أنه إذا ذكّر تذكر، ومن ذلك: (1) تخطي الرقاب: من التشويش على المصلين وأذيتهم قبل إقامة الصلاة: تخطي رقابهم ورفع الأرجل فوق رؤوسهم، مع استكمال الصفوف وخلوها من الفرج، ولا سيما في يوم الجمعة، أو في المساجد التي يكثر فيها المصلون في غير الجمعة. وقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن تخطي الرقاب، فقال للذى رآه يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة: "اجلس فقد آذيت" (¬1). وهذا الحديث من أقوى ما ورد في الزجر عن التخطي، كما قاله الحافظ في الفتح (¬2). وقد وقع التصريح في حبوط ثواب الجمعة للمتخطي في حديث ابن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "من لغا أو تخطى كانت له ظهرًا" (¬3). قال ابن وهب -أحد رواته-: معناه: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة (¬4). والحديث المذكور فيه تقييد النهي عن التخطي بيوم الجمعة، وظاهر ذلك أن النهي مختص به. ويحتمل أن يكون التقييد بيوم الجمعة خرج مخرج الغالب؛ لاختصاص يوم الجمعة بكثرة الناس بخلاف سائر الصلوات، وعليه فلا يختص النهي عن التخطي بيوم الجمعة، بل يكون عامًا لجميع الصلوات، ويؤيد ذلك قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فقد آذيت" فعلّل أمره بالجلوس بالأذية، وهي لا تختص بيوم الجمعة. قال النووي: (ينهي الداخل إلى المسجد يوم الجمعة وغيره عن تخطي رقاب الناس من غير ضرورة) (¬5). وجاء في الاختيارات لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس ليدخل في الصف، إذا لم يكن بين يديه فرجة لا يوم الجمعة ولا غيره؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى) (¬6). وهل تخطي الرقاب يوم الجمعة محرم أو مكروه؟ من أهل العلم من قال بالكراهة، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة. ومنهم من قال: بالتحريم. قال النووى: إن المختار تحريمه للأحاديث الصحيحة. اهـ (¬7)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬8)، قال في الإنصاف: (والظاهر أن الذم إنما يتوجه إلى فعل محرم) اهـ (¬9). وقال في بلوغ الأماني: (وهو الذي أميل إليه وأختاره) (¬10). وإذا ترك المتقدمون إلى الصفوف الأول فرجًا أو صفّوا في آخر المسجد وتركوا بين أيديهم صفوفًا ¬

_ (¬1) تقدم الحديث في الكلام على تحية المسجد. (¬2) فتح الباري (2/ 392). (¬3) يأتي بتمامه، ويذكر تخريجه في أحكام الجمعة إن شاء الله تعالى. (¬4) فتح الباري (2/ 414). (¬5) المجموع شرح المهذب (4/ 546)، ونيل الأوطار (3/ 287). (¬6) الاختيارات (ص 81). (¬7) بلوغ الأماني (6/ 74). (¬8) الإنصاف (2/ 411). (¬9) الإنصاف (2/ 411). (¬10) بلوغ الأماني (6/ 74).

(2) مضايقة المصلين:

خالية فلا حرمة لهم؛ لتقصيرهم. ولا بد من تخطيهم لتكميل الصف الأول، أو لسد فرجة في الصفوف الأول، ولا يعد ذلك من الأذى؛ لأنهم أسقطوا حق أنفسهم بتأخرهم، وهذا هو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وقيده الشافعية بتخطي رجل أو رجلين، وهو رواية عن الإمام أحمد، وخصّ المالكية ذلك بما قبل جلوس الإمام على المنبر، وأما بعده فلا؛ لأن تأخره عن وقت السعي قد أبطل حقه في التخطي إلى الفرجة. ودليل ذلك حديث عبد الله بن بسر المتقدم: "فقد آذيت وآنيت" أي: تأخرت، وهذا قريب من مذهب الحنفية (¬1)، والله أعلم. (2) مضايقة المصلين: ومن الأذية: مضايقة المصلين المتقدمين ومزاحمتهم في أماكنهم بحيث يفقدون الراحة في صلاتهم وقراءتهم، وهذا يكثر فيمن يأتون يوم الجمعة متأخرين، فيجمعون بين التخطي والمضايقة والتأخر. وتكثر المضايقة في الحرمين الشريفين، كما في الجمعة، والعيد، وشهر رمضان المبارك، حتى أن بعض الداخلين المتأخرين يجلس أمامك ويمنع بدنك راحته، ومنهم من يدخل الصف قسرًا، بحيث لا يستطيع المصلي وضع يديه على صدره، ولا أداء صلاته براحة، وهذا من الجفاء، وعدم احترام المصلين المتقدمين، وهو من قلة الفقه في الدين. إن المطلوب من المتقدمين أن يتفسحوا ويتوسعوا للداخل إن أمكن ذلك؛ امتثالًا لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ولكن توسعوا" وتقدم بتمامه. وهذا دليل التواضع المقتضي للمحبة، والنفوس جلبت على حب من أحسن إليها. وليس من خلق المسلم أن يكون جشعًا فيأخذ من الأمكنة ما يزيد عن حاجته، ويأنف أن يفسح لغيره، ويجمع بين سوء القول وقبح الفعل. والمطلوب من المتأخرين أن يحبوا لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم. وليفرض كل واحد منهم أن يكون هو المتقدم وزاحمه غيره. إن الإسلام لا يريد المضايقة حيث لا يمكن التفسح، ومن تعاليم هذا الدين الحنيف لأبنائه أن يجلسوا حيث ينتهي بهم المجلس، وذلك فيما رواه جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: كنا إذا أتينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جلسنا حيث ننتهي (¬2). (3) رفع الصوت بالقراءة: ومن التشويش على المصلين قبل الإقامة: رفع الصوت بقراءة القرآن بحيث يتأذى بجهره القارئ والمصلي، وقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: اعتكف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قبة له، فكشف الستر، وقال: "ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة" أو قال: "في الصلاة" (¬3). وعن البياضي (فروة بن عمرو) -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: "إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض ¬

_ (¬1) المغني (3/ 231)، والإنصاف (2411)، والمجموع (4/ 545)، والمنتقى للباجي (1/ 203). (¬2) أخرجه أبو داود (13/ 173)، والترمذي (7/ 512)، وقال: هنا حديث حسن غريب. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3/ 916). (¬3) أخرجه أحمد (3/ 94)، وأبو داود (4/ 213)، قال الألباني: (وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين) انظر الصحيحة (4/ 134).

(4) المرور بين يدي المصلي:

بالقرآن" (¬1). فهذان الحديثان فيهما نهي القارئ والمصلي عن رفع الصوت بالقراءة، لما في ذلك من أذية الآخرين من قارئ أو مصلّ أو ذاكر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ليس لأحد أن يجهر بالقراءة لا في الصلاة ولا في غير الصلاة إذا كان في المسجد وهو يؤذيهم بجهره) (¬2). وقال في جواب له: (ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك، والله أعلم) (¬3). أما إذا كان القارئ لا يتأذى بجهره أحد فقد جاءت الأحاديث بجواز الجهر؛ لا سيما إذا كان القارئ يأمن على نفسه من الرياء وطلب الشهرة، ويتأكد الجهر إذا كان على سبيل التعليم. ولا ريب أن الجهر أحيانًا فيه إيقاظ القلب وتجديد النشاط وانصراف السمع إلى القراءة وتعدي نفعها إلى السامعين (¬4). ويجوز رفع الصوت بالقرآن في الليل، بل ذلك مستحسن إذا لم يؤذ أحدًا، وأمن من الرياء، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: سمع رجلًا يقرأ في سورة بالليل، فقال: "يرحمه الله، لقد أذكرني آية كذا وكذا، كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا" (¬5). (4) المرور بين يدي المصلي: إن المرور بين يدي المصلي وسترته حرام؛ لأنه تشويش عليه وإشغال لباله وهو يناجي ربه، وقد عبّر بعض العلماء بالكراهة، والمراد التحريم (¬6)، فإنه قد ثبت فيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد؛ فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه"، قال أبو النّضر: لا أدري أقال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟ (¬7). والمراد بما بين يدي المصلي: أن المصلي إن كان له سترة فما بينه وبين سترته محرم، لا يحل لأحد أن يمر منه، وإن لم يكن له سترة؛ فإن كان للمصلي سجادة يصلي عليها فإن هذه السجادة محترمة لا يحل لأحد أن يمر بين يدي المصلي فيها، وإن لم يكن له مصلى فإن المحرم ما بين قدمه وموضع سجوده فلا يمر بينه وبين هذا الموضع (¬8). ويكثر المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام حتى ولو كان المار له مندوحة عن المرور بين يدي أخيه، ومن الناس من يتساهل في المرور بين يدي المصلين الذين يقومون لقضاء ما فاتهم. ويشرع للمصلي رد المار بين يديه سواء صلى إلى سترة أم لا، على الأظهر من قولي أهل العلم؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ (1/ 80). ويشهد له حديث أبي سعيد المذكور قبله، وانظر: التمهيد (23/ 315). (¬2) مجموع الفتاوى (23/ 61). (¬3) المصدر السابق (22/ 205). (¬4) انظر التببان للنووي (ص 71). (¬5) أخرجه البخاري (9/ 84)، ومسلم (788). (¬6) التمهيد (4/ 187)، فتح الباري (1/ 586)، تحفة الأحوذي (2/ 305). (¬7) أخرجه البخاري (509)، ومسلم (507). (¬8) انظر: فتح الباري (1/ 585).

(5) رفع الصوت بالكلام:

الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فيدفعه، فإن أبى فيقاتله، فإنما هو شيطان" (¬1). وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين" (¬2)، ففي حديث أبي سعيد تقييد دفع المار فلم يقيد بوضع السترة، وفي حديث ابن عمر أطلق دفع المار فلم يقيد بوضع المصلي سترة وكذا ورد في حديث أبي سعيد عند البخاري في رواية له (¬3)، لأن التقييد بوضع السترة قيد أغلبي، ولا تعارض بين المطلق والمقيد، فالمقيد يبقى على تقييده، فيدفع إن اتخذ سترة، ويبقى المطلق على إطلاقه، فيرد ولو لم يتخذ سترة، لأن المصلي مأمور بالصلاة إلى سترة، ومأمور بدفع المار سواء امتثل فوضع سترة أم لا (¬4). والمراد بالمقاتلة: الدفع بعنف وقهر، لا جواز القتل؛ لأن هذا اللفظ خرج مخرج التغليظ، والمبالغة في كراهة المرور (¬5). (5) رفع الصوت بالكلام: ومن التشويش بعد الإقامة ما يقوم به بعض الناس، ولا سيما الشباب، في بعض المساجد من تبادل الأحاديث ورفع الصوت بذلك، فتفوتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام، وكذلك قراءة الفاتحة فإذا ركع الإمام أسرعوا وآذوا المصلين بأصواتهم وحركاتهم، وهذا التصرف ينبئ عن تساهل بالصلاة من جانب، وعدم رعاية المصلين من جانب آخر، وإذا كان من يصلي نافلة مأمورًا بقطعها -على أحد الأقوال كما تقدم- لأجل أن يدرك الفريضة من أولها، مع أنه في عبادة، فكيف حال من يتأخر عن أول الفريضة من أولها، مع أنه في عبادة، فكيف حال من يتأخر عن أول الفريضة وشغله القيل والقال بل وأذية الآخرين؟! ثم لا أدري ما حكم هذه الركعة التي ترك فيها هذا المتساهل قراءة الفاتحة مع إمكانه؟ تقدم الخلاف في هذه المسألة، لكني أخشى بطلان هذه الركعة التي لم يقرأ فيها هذا المصلي الفاتحة تساهلًا وتشاغلًا لأن الخلاف ينبغي أن يكون فيمن دخل المسجد فوجد الإمام في الركوع فركع معه، فهذا معذور بفوات محل القراءة وهو القيام، أما هذا فلم يمتثل قول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا" فهو لم يكبر مع إمامه، ولم يقرأ دعاء الاستفتاح، ولم يقرأ الفاتحة مع إمكانه، فأي ركعة هذه؟ بل وأي صلاة هذه؟ ومن المأمومين من اعتاد رفع الصوت في أثناء الصلاة بالقراءة أو الذكر أو الدعاء فيشوش على من بجانبه ويخلّط عليه، وإذا كان هذا بصفة دائمة فهو خلاف السنة، فإن السنة المخافتة باتفاق المسلمين، لا سيما إذا كان الجهر فيه أذية. لكن لو جهر المأموم أحيانًا بشيء من الذكر فلا بأس، فقد ثبت أن من الصحابة المأمومين من جهر بدعاء حين افتتاح الصلاة، وعند رفع رأسه من الركوع ولم ينكر عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقد ورد عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يومًا نصلي وراء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" قال ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505). (¬2) أخرجه مسلم (506). (¬3) أخرجه البخاري (3274). (¬4) انظر: فتح الباري (1/ 582). (¬5) انظر: التمهيد (4/ 189)، شرح السنة (2/ 456).

الحكم الخامس والعشرون في المسألة في المسجد

رجل وراءه ربنا ولك الحمد، حمدًا طيبًا مباركًا فيه فلما انصرف قال: "من المتكلم"؟ قال: أنا، قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول" (¬1). قال في فتح الباري: (استدل به على جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه) (¬2) اهـ. وهذا إذا لم يكن بصفة دائمة وإلا حصل التشويش قطعًا (¬3). ومن التشويش أن يكبر المسبوق بصوت مرتفع إذا أراد الدخول في الصلاة، وقد يكون المصلون مع الإمام في السجود، فإذا سمعوا تكبير المسبوق ظنوه تكبير الإمام فرفعوا رؤوسهم قبل أن يرفع الإمام من السجود (¬4). ومن التشويش على المصلين -أيضًا- عدم إغلاق الوسائل الحديثة للاتصال كجهاز الهاتف النقال، والنداء، فينبغي للمصلي إغلاقها قبل دخوله المسجد، لئلا يشوش على نفسه وعلى غيره من إخوانه المصلين. وما تقدم من النهي عن الكلام في المسجد لا يعنى أن الكلام يحرم فيه بل هو مباح -على الراجع من قولي أهل العلم- إذا خلا من المحاذير السابقة، وهي التشويش على المصلين أو الإعراض عن الصلاة والتشاغل عنها، لكن لا بد من ملاحظة أن المساجد لم تبن إلا لذكر الله تعالى والصلاة، وما يتبع ذلك من تدريس العلم، وموعظة الناس، وقد ورد عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: نعم، كثيرًا كان لا يقوم من مصلاه، الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويبتسم (¬5). قال القرطبي: (هذا الفعل منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدل على استحباب لزوم موضع صلاة الصبح، للذكر والدعاء إلى طلوع الشمس؛ لأن ذلك الوقت وقت لا يصلّى فيه، وهو بعد صلاة مشهودة، وأشغال اليوم بعد لم تأت، فيقع الذكر والدعاء على فراغ قلب وحضور فهم، فيرتجى فيه قبول الدعاء، وسماع الأذكار .. ). ثم نقل عن بعض العلماء كراهة الحديث في هذا الوقت، وأن قوله "وكانوا يتحدثون .. " فصل آخر من سيرة أخرى في وقت آخر .. ثم قال: (وهذا فيه نظر، بل يمكن أن يقال: إنهم في ذلك الوقت كانوا يتكلمون؛ لأن الكلام فيه جائز غير ممنوع، اذ لم يرد في ذلك منع، وغاية ما هنالك أن الإقبال في ذلك الوقت على ذكر الله تعالى أفضل وأولى، ولا يلزم من ذلك أن يكون الكلام مطلوب الترك في ذلك الوقت. والله تعالى أعلم) (¬6). الحكم الخامس والعشرون في المسألة في المسجد المساجد بيوت الله تعالى، بنيت لذكره ودعائه وعبادته، لا للتكسب وجمع حطام الدنيا، ولذا منع البيع والشراء، ونشد الضالة، وسائر الصناعات في المساجد؛ لهذا المعنى. وبناء على ذلك فالمساجد لا تصلح مكانًا للسؤال، وجمع المال، مع ما في ذلك من إيذاء المصلين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2/ 284). (¬2) فتح الباري (2/ 287). (¬3) المصدر السابق. (¬4) المسجد في الإسلام (ص 83). (¬5) أخرجه مسلم (670). (¬6) انظر: إكمال المعلم (2/ 646)، والمفهم (2/ 295)، هذا وأما حديث: "الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" فلا أصل له. كما قال العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء" (1/ 152) وكذا قال غيره من أئمة الحديث.

والذاكرين والتشويش عليهم. وقد وردت النصوص بجواز إعطاء الفقير من غير مسألة، وذلك بأن يعرف فقره وحاجته، فيعطى زكاة أو صدقة ونحو ذلك، أو تقسم أموال في المسجد، فيعطى مع الناس، فله أن يأخذ ما يأتيه. ويدل لذلك ما ورد عن أنس -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي بمال من البحرين، فقال: "أنثروه في المسجد" وكان أكثر مال أتي به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فخرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال: يا رسول الله، أعطي، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا، فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خذ"، فحثا في ثوبه ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، اؤمر بعضهم يرفعه إليّ، قال: "لا"، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: "لا" فنثر منه ثم احتمله، فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبًا من حرصه فما قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وثمّ منها درهم (¬1). وقد بوب البخاري -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: (باب القسمة وتعليق القنو في المسجد). قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: (المقصود بهذا الباب: أن المسجد يجوز أن يوضع فيه أموال الفيء وخمس الغنيمة وأموال الصدقة ونحوها من أموال الله التي تقسم بين مستحقيها) وقال: (وفى الحديث جواز قسمة مال الفيء في المسجد ووضعه فيه، وهو مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث فيه) (¬2). أما إذا سأل الفقير في المسجد فإن من أهل العلم من منع السؤال والإعطاء مطلقًا، ولعل القائلين بذلك نظروا على العمومات الدالة على صيانة المسجد من كل ما سوى العبادات، وأقرب شيء تقاس المسألة عليه قياسًا جليًا نشد الضالة، والجامع بينهما: البحث والمطالبة بأمر مادي دنيوي، والعلة في المقيس أظهر؛ لأن ناشد الضالة يبحث عن ماله دون شبهة، ومع ذلك أمر الشارع بالدعاء عليه بألا ترد عليه، أما السائل فهو لا يطلب ماله، بل يطلب أموال الناس. ومن أهل العلم من رخّص إذا كان السائل مضطرًا، ولم يحصل بسؤاله في المسجد ضرر، من إيذاء المصلين والتشويش عليهم، أو المرور بين أيديهم ونحو ذلك (¬3). واستدلوا على ذلك بحديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينًا"؟!! فقال أبو بكر: دخلت المسجد فإذا أنا بسائل يسأل، فوجدت كسرة خبز بيد عبد الرحمن فأخذتها منه، فدفعتها إليه (¬4). قالوا: فهذا دليل على أن الصدقة على الفقير في المسجد ليست مكروهة، وأن السؤال في المسجد جائز؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقرّ أبا بكر -رضي الله عنه- عليها، ولو كانت حرامًا لم يقرّ عليها، بل كان يمنع السائل من العود إلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1/ 516 فتح). (¬2) فتح الباري لابن رجب (3/ 154). (¬3) فتح الباري لابن رجب (3/ 157) الحاوي (1/ 90) أحكام المساجد في الإسلام ص (269). (¬4) أخرجه أبو داود (1670) والحاكم (1/ 412) وعنه البيهقي (4/ 199) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال النووى في "شرح المهذب" (1/ 176) رواه أبو داود بإسناد جيد وتعقبه الألباني في "الضعيفة" (1458) وحكم على الحديث بأنه منكر؛ لأنه من رواية مبارك بن فضالة.

الحكم السادس والعشرون في الأكل في المسجد

السؤال في المسجد (¬1). ولكن هذا الحديث ضعيف، وعلى هذا فالقول بالمنع وجيه جدًا؛ تأكيدًا لحرمة المسجد، وردعًا لذوي النفوس الضعيفة عن اتخاذهم المسجد مكانًا للتكسب، ولا سيما في زماننا هذا؛ فإن الكذب في هذا الزمان كثير، والحيل متعددة. فإن جلس السائل في زاوية المسجد، أو عند بابه فلا بأس بإعطائه، أما من يشوش على المصلين، ويقطع عليهم تلاوتهم وذكرهم، أو يمر بين أيديهم وهم يصلون، ويلح عليهم بإعطائه فالقول بمنعه وزجره وجيه جدًا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحدًا بتخطيه رقاب الناس ولا غير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله، ولم يجهر جهرًا يضر بالناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علمًا يشغلهم به ونحو ذلك جاز، والله أعلم) (¬2). الحكم السادس والعشرون في الأكل في المسجد يباح الأكل والشرب في المسجد، إلا ما كان له رائحة كريهة كالثوم والبصل والكراث والفجل؛ لأن آكل هذه البقول منهي عن إتيان المسجد كما تقدم في أول الكتاب. والأكل في المسجد إما أن يكون معتكفًا أو غير معتكف ... فإن كان معتكفًا فإنه يأكل ويشرب في المسجد، وليس له أن يخرج من أجل الأكل؛ لأن خروجه ينافي الاعتكاف، قال الإمام مالك -رحمه الله-: (أكره للمعتكف أن يخرج من المسجد فيأكل بين يدي الباب، ولكن ليأكل في المسجد، فإن ذلك له واسع)، وقال: إلا يأكل المعتكف ولا يشرب إلا في المسجد، ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان لغائط أو بول) (¬3). وأما غير المعتكف فكذلك يجوز له الأكل في المسجد، ولا داعي لتقييد ذلك بالغريب دون غيره، فإن الأدلة عامة، ومن ذلك: ما ورد عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي - قال: أكلنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شواء في المسجد، فأقيمت الصلاة، فأدخلنا أيدينا في الحصى، ثم قمنا نصلي، ولم نتوضأ (¬4). وعنه -أيضًا-رضي الله عنه- قال: كنا نأكل على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد الخبز واللحم (¬5). ويشهد لذلك أن أهل الصفة كانوا يسكنون في المسجد، وهذا يدل ضمنًا على أن الأكل فيه جائز. وكذا قصة ¬

_ (¬1) انظر: الحاوي (1/ 89). (¬2) الفتاوى الكبرى (1/ 159). (¬3) المدونة الكبرى (1/ 300). (¬4) أخرجه أحمد (29/ 243)، والترمذي في "الشمائل" (166) وابن ماجه من طرق عن ابن لهيعة، وهو وإن كان ضعيفًا لكنه من رواية قتيبة بن سعيد عنه، وروايته عنه صالحة، ثم هو قد توبع كما في الحديث الآتي. (¬5) أخرجه ابن ماجه (300) وابن حبان (1657) من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سليمان بن زياد عن عبد الله بن الحارث. وحسنه البوصيري في الزوائد لأنه من رواية يعقوب بن حميد وهو مختلف فيه. لكنه لم ينفرد به فقد رواه عنه ابن ماجه مقرونًا مع حرملة بن يحيى، وحرملة ثقة، وعلى هنا فالإسناد صحيح. انظر: "تمام المنة" ص (296).

أحكام حضور الجمعة

ربط ثمامة بن أثال -رضي الله عنه- في المسجد (¬1) وكذا قصة سعد بن معاذ -رضي الله عنه- عندما وضع له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيمة في المسجد يعوده من قريب بعد ما أصيب في غزوة الخندق (¬2). فهذا كله يدل على جواز الأكل في المسجد، إذ لم يشتهر عند الصحابة -رضي الله عنهم- منع الأكل في المسجد، والأصل أنه مباح، فكيف إذا تأيد هذا الأصل بأدلة قوية؟! (¬3). وينبغي للآكل في المسجد أن يضع سفرة ونحوها تقع عليها فضلات الأكل، لئلا تلوث المسجد، أو يتناثر شيء من الطعام فتتجمع عليه الهوام (¬4). والله أعلم. أحكام حضور الجمعة فضل يوم الجمعة، والتحذير من التهاون بالصلاة يوم الجمعة من أفضل الأيام عند الله تعالى، ادخره الله لهذه الأمة؛ لشرفها وكرمها على الله تعالى، وفيه من الفضائل وله من الخصائص ما جعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعظمه ويخصه بعبادات ليست لغيره. وقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "نحن الآخرون ونحن السابقون يوم الجمعة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتياه من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا هدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غد" (¬5). وعنه -أيضًا رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" (¬6). وإذا كان الله تعالى فضلنا على سائر الأمم بهذا اليوم الفضيل، فعلينا أن نشكر الله تعالى على هذه النعمة العظيمة التي منّ بها علينا زيادة في ثوابنا ورفعة لدرجاتنا، ومن شكره أن نهتم بهذا اليوم، وأن نستشعر هذه النعمة، وذلك بأن نخص هذا اليوم بمزيد عناية، وأن نجاهد أنفسنا بالطاعة، وأن نتأدب بالآداب الواردة في نصوص الشريعة والتي جاء تقييد الثواب والمغفرة بالتحلي بها. وإن من فضل الله على عباده كثرة طرق الخيرات وتنوع سبل الطاعات؛ ليدوم نشاط المسلم، ويبقى ملازمًا لخدمة مولاه. يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ذكر خصائص يوم الجمعة: (الثالثة والعشرون: أنه اليوم الذي يستحب أن يتفرّغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مزية بأنواع من العبادات واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كل ملة يومًا يتفرغون فيه للعبادة ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان، ولهذا من صح له يوم جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته، ومن صح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له صح له سائر عمره. فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر، وبالله التوفيق) (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4375) ومسلم (1764) في حديث طويل. (¬2) انظر: صحيح البحارى (1/ 556 فتح). (¬3) انظر: أحكام المساجد (3/ 158). (¬4) انظر: إعلام الساجد ص (329). (¬5) أخرجه البخاري (836)، ومسلم (855). (¬6) أخرجه مسلم (854). (¬7) زاد المعاد (1/ 398).

أحكام الاستعداد للجمعة

إن الاهتمام بالطاعة في هذا اليوم شأن الصالحين من سلف هذه الأمة، وأعني به الاهتمام الذي يتحول إلى واقع عملي يرضى عنه المسلم. وأكثر الناس اليوم يرون أن يوم الجمعة يوم نوم وكسل، ومن آثاره التأخر عن الحضور على الجمعة؛ لأنه مسبوق بليلة سهر على ما حرم الله عند غالب الناس. والله المستعان! ولقد استقر في أذهان الناس عمومًا أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، لكنهم لا يعملون بمقتضى علمهم. إن علينا أن نتأسى بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي كان من هديه -كما يقول ابن القيم- تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره (¬1)، ومن تعظيم هذا اليوم أن نعمل ما شرع لنا من أحكام، وأن نتأدب ما سنّ لنا من آداب. وقد ورد النهي الأكيد، والوعيد الشديد في التخلف عن صلاة الجمعة والتهاون بحضورها. فعن أبي هريرة وابن عمر -رضي الله عنهم- أنهما سمعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول على أعواد منبره: "لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" (¬2). وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلًا، يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم" (¬3). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره (¬4). والأحاديث في هذا كثيرة (¬5)، وفيها دلالة واضحة على عظيم شأن صلاة الجمعة، وأن من تركها أو تساهل بها فهو على خطر عظيم؛ إنه متوعّد بالختم على قلبه، فلا تغشاه رحمة الله تعالى، ولا ألطافه، فلا يزكيه ولا يطهره، بل ييقى دنسًا، تغشاه ظلمات الذنوب والمعاصي. فعلى من كان متساهلًا بهذه الفريضة العظيمة إما كسلًا أو خروجًا في نزهة أو صيد أو حضور مباراة أو نحو ذلك من الموانع التي ظهرت في هذا الزمان - أن يبادر بالتوبة النصوح، فيقلع ويندم ويعزم على أن لا يعود، عسى الله أن يتوب عليه. أحكام الاستعداد للجمعة الحكم الأول غسل الجمعة: يتأكد في حق من أراد حضور الجمعة أن يغتسل سواء كان به رائحة يحتاج إلى إزالتها أو لا، وعليه أن يقصد بذلك الغسل غسل الجمعة لا يقصد به النظافة أو التبرد فحسب، لأجل أن يؤجر على نيته. وقد تعددت النصوص على بيان أهمية غسل الجمعة ومنزلته في نظر الإسلام، بل أكدت النصوص أهمية الغسل في كل أسبوع مرة، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا، يغسل فيه رأسه وجسده" (¬6). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (1/ 375). (¬2) أخرجه مسلم (865). (¬3) أخرجه مسلم (652). (¬4) أخرجه أبو يعلى (3/ 156) موقوفًا بإسناد صحيح، كما قال المنذري في الترغيب (1/ 511). (¬5) ذكره المنذري في الترغيب (1/ 508). (¬6) رواه البخاري (856)، ومسلم (849).

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل" (¬1). وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" (¬2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء الجمعة فليغتسل ... " الحديث (¬3). فهذه النصوص تدل على أن المسلم مطالب بالغسل مرة على الأقل في كل سبعة أيام؛ ليبقى نظيفًا نشيطًا، ولم يترك الإسلام تنظيف الرأس وتنقيته للأهواء والظروف ولا لانتظار الجنابة التي قد يطول أمرها ولا سيما من ليس له زوج، بل أكد ذلك على المسلم وحثه على الإكثار منه، وهذا غسل راتب مسنون للنظافة في كل أسبوع وإن لم يشهد الجمعة (¬4). ولا خلاف في استحباب الغسل يوم الجمعة، كما أنه لا خلاف في أن الصلاة جائزة بدونه، وإنما الخلاف في وجوبه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ويستحب الغسل في ذلك اليوم، وعن جماعة يجب، ودليل وجوبه أقوى من دليل وجوب الوتر، ومن الوضوء من مس النساء ومن القهقهة ومن الرعاف ومن الحجامة ومن القيء، ومن دليل وجوب الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (¬5). وعند تأمل النصوص الواردة في غسل الجمعة يلوح لك رجحان القول بالوجوب، وهو قول الظاهرية وجماعة من الصحابة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وحكى عن مالك (¬6)، فقد ورد في بعض الأحاديث التصريح بالوجوب، وفي بعضها الأمر به وفي بعضها أنه حق على كل مسلم، والوجوب يثبت بأقل من هنا (¬7). وأما تأويل لفظ: (واجب وحق) الواردة في بعض النصوص السابقة بتأكيد المشروعية، وحمل الأمر على الندب، جمعًا بين الأحاديث فهو مسلك لا تطمئن إليه النفس، ولا يطلب الجمع بمثل هذا. والأحاديث القاضية بالغسل فيها حكم زائد على الأحاديث المفيدة لاستحبابه فلا تعارض بينهما، والواجب الأخذ بما تضمن الزيادة (¬8). وأوضح دليل القائلين بالاستحباب -وهم الجمهور- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع، وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا" (¬9). قال الحافظ في التلخيص: (إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل يوم الجمعة) (¬10). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (854)، ومسلم (844). (¬2) رواه البخاري (855)، ومسلم (846). (¬3) رواه ابن ماجه (1098) بإسناد حسن، وانظر الزوائد للبوصيري (1/ 208). (¬4) انظر كتاب (في الصلاة صحة ووقاية) للدكتور: فارس علوان (ص 31)، وانظر مجموع الفتاوى (21/ 307). (¬5) نسبه في كتاب (القول المبين) (ص 352) إلى كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم" ولم أعثر عليه فيه، وانظر زاد المعاد (1/ 386). (¬6) انظر: المغني (3/ 224)، المحلى (2/ 13)، معالم السنن (1/ 211)، فتح الباري (2/ 361). (¬7) نيل الأوطار (1/ 272). (¬8) انظر تمام المنة (ص 120). (¬9) رواه مسلم (857). (¬10) التلخيص الحبير (2/ 72).

قال في فتح الباري: (وأجيب عنه: بأنه ليس فيه نفي الغسل، وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ "من اغتسل" فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء) (¬1). ومنها حديث سمرة قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬2). وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه خلاف بين أهل العلم، فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة القاضية بالوجوب. قال ابن حزم بعد أن ساق هذا الحديث وما في معناه: لو صحت لم يكن فيه نص ولا دليل على أن غسل الجمعة ليس بواجب، وإنما فيها أن الوضوء نعم العمل وأن الغسل أفضل، وهذا لا شك فيه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110]. فهل دل هذا اللفظ على أن الإيمان والتقوى ليس فرضًا؟! -حاشا لله من هذا- ثم لو كان في جميع هذه الأحاديث نص على أن غسل الجمعة ليس فرضًا لما كان في ذلك حجة؛ لأن ذلك كان يكون موافقًا لما كان عليه الأمر قبل قوله عليه الصلاة والسلام: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" و"على كل مسلم". وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام حكم زائد ناسخ للحالة الأولى بيقين لا شك فيه، ولا يحل ترك الناسخ بيقين والأخذ بالمنسوخ) (¬3). وعلى ما تقدم فالظاهر -إن شاء الله- أن غسل الجمعة واجب، فمن تركه فقد قصّر فيما وجب عليه، وصلاته صحيحة إذا كان طاهرًا، فإن الأصل في الأمر أنه للوجوب، ولا يصرف عنه على الندب إلا بدليل، وقد ورد الأمر بالغسل صريحًا، ثم تأيد في معنى الوجوب بورود النص الصريح الصحيح بأن غسل الجمعة واجب. ومثل هذا الذي هو قطعي الدلالة والذى لا يحتمل التأويل لا يجوز أن يؤول لأدلة أخرى، بل تؤول الأدلة الأخرى إن كان في ظاهرها المعارضة له، والله أعلم (¬4). وقد ورد في بعض النصوص أن الفضل المرتب على التبكير للجمعة لا يحصل إلا لمن اغتسل، وذلك كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 362). (¬2) رواه أبو داود (354)، والترمذي (497) وحسنه، ورواه أحمد (5/ 8، 11، 15، 16، 22) والنسائي (3/ 94)، ورواه ابن ماجه من حديث أنس (1091). قال الحافظ في الفتح (2/ 362): (ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها: رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة، وابن خزيمة وابن حبان وله علتان: إحداهما: أنه من عنعنة الحسن، والأخرى: أنه اختلف عليه فيه ... ). لكن من قال: عن الحسن سمع من سمرة؛ صحح الحديث، وعلة الاختلاف في وصله وإرساله منتفية، فقد ورد وصله من طرق صحيحة، فقد ورد من طريق أبان بن يزيد عن قتادة عن الحسن عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرسلًا. وورد من طريق سعيد الجحدري موصولًا، وتابعه ويزيد بن زريع وهمام بن يحيى، وقد صحح الحديث مرفوعًا الدارقطني وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وابن حجر والألباني. (¬3) المحلى (2/ 14). (¬4) انظر فتح الباري (2/ 360) وما بعدها، ونيل الأوطار (1/ 272)، والرسالة للشافعي وتعليق أحمد شاكر (ص 302) وما بعدها وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد بحاشية الصنعاني (3/ 113).

الحكم الثاني حسن اللباس

راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ... " الحديث. ويأتي قريبًا بتمامه إن شاء الله. وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل (¬1). وقوله: "غسل الجنابة" أي: غسلًا كغسل الجنابة في الكيفية لا في الحكم على أحد القولين (¬2). وقد حكى ابن القيم -رحمه الله- في المسألة قولًا ثالثًا، وهو التفصيل بين من له رائحة يحتاج إلى إزالتها، فيجب عليه، ومن هو مستغن عنه، فيستحب له، ثم ذكر الأقوال الثلاثة لأصحاب أحمد. وقد أشار الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" على هذا القول، ونسبه صاحب "الإنصاف" إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحم الله الجميع- (¬3). والأفضل أن يغتسل للجمعة عند مضيه إليها؛ لأنه أبلغ في المقصود، ولا سيما إذا خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه (¬4). إن الحرص على الغسل يوم الجمعة أكبر دليل على تعظيم هذا اليوم والاهتمام بهذه العبادة العظيمة؛ وهذا الجمع الكثير، ومن الناس من لا يقيم وزنًا لذلك، فتراه يحضر المسجد بهيئة رثة، أو بثياب مهنته، ويجمع إلى ذلك رائحة كريهة تنبعث من جسده يؤذي بها الحاضرين. فالله المستعان! وليحذر المسلم من أمر محرم وقع فيه الكثيرون -ولا سيما الشباب- في هذا اليوم المبارك؛ ألا وهو حلق اللحية الذي صار يوم الجمعة ميعادًا له، يعتبرون ذلك من تمام الغسل وتمام الزينة، ولا ريب أن حلق اللحية معصية، لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بإعفائها، ونهى عن حلقها. وحلقها في هذا اليوم أعظم من حلقها في غيره؛ لشرف الوقت، فيكون في حلقها يوم الجمعة محذوران: الأول: الحلق نفسه فإنه محرم شرعًا في الجمعة وغيرها؛ لأن هذا من أحكام الشرع لا من العادات. الثاني: التزين للجمعة بمعصية الله تعالى. فعلى كل مسلم أن يراقب الله تعالى، وأن يكون زيّه ولباسه موافقًا لآداب الشريعة وأحكامها، وأن يحذر كل الحذر من التشبه بمن نهينا عن التشبه بهم؛ لأن المتشبه بأعداء الله تعالى على خطر عظيم. والله الموفق. الحكم الثاني حسن اللباس على قاصد الجمعة أن يهتم بلباسه ويتخير أحسن ما يجد، وتحسين الهيئة في فلصلاة عمومًا مطلوب -كما تقدم أول الكتاب- لكن اختص يوم الجمعة بمزيد عناية وردت عن الشارع. فعن أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد، ثم يركع ما بدا له، ولم يؤذ أحدًا، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت له كفارة لما بينهما" (¬5). ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 368). (¬2) انظر فتح الباري (3/ 366). (¬3) انظر: زاد المعاد (1/ 377)، فتح الباري (2/ 363)، الإنصاف (1/ 247). (¬4) فتح الباري (2/ 358). (¬5) أخرجه أحمد (6/ 53)، والطبراني في الكبير (4/ 160، 161) وابن خزيمة (3/ 138)، وصححه الألباني (صحيح الترغيب 1/ 360).

الحكم الثالث السواك للجمعة

وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول على المنبر يوم الجمعة: "ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" (¬1). إن حسن اللباس يوم الجمعة ظاهرة بادية على كثير من الناس -ولله الحمد-. وهذا دليل إحساس بقيمة الزينة في هذا اليوم، لكن لا يزال أناس مقصرين في هذا الجانب، وأكثرهم ممن تقدمت بهم السن، فهم يحضرون إلى المسجد بثيابهم المعتادة وقد يظهر منها روائح كريهة، فلعلهم يهتمون بلباسهم في هذا اليوم العظيم، فقد كان السلف الصالح من هذه الأمة يتجملون يوم الجمعة (¬2). وعلى المسلم أن يحذر الإسبال، الذي وقع فيه كثيرون -ولا سيما الشباب- فإنه محرم، وفيه وعيد عظيم، وقد ثبت ذلك بنصوص كثيرة، بلغت مبلغ التواتر، ومن ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار" (¬3)، وعنه -أيضًا-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطرًا" (¬4). وعن ابن جريّ -جابر بن سليم- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: "وإياك والإسبال، فإنه من المخيلة" (¬5). ومن هذه الأدلة وغيرها يؤخذ ما يلي: أولًا: أن الإسبال منهي عنه مطلقًا، وأما ما ورد من التقييد بالخيلاء فلا يفيد أن النهي مختصّ به لأمرين: الأول: أن الحكم مختلف؛ فإن الوعيد في حال الخيلاء يختلف عن الوعيد في غير الخيلاء، وعليه فلا يحمل المطلق على المقيد، فإن الإسبال للخيلاء كبيرة، وإن كان لغير الخيلاء فهو محرّم، ويخشى أن يكون من الكبائر. الثاني: أن الإسبال ذاته خيلاء؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وإياك والإسبال، فإنه من المخيلة". ثانيًا: في الإسبال مفاسد ومخالفات عديدة؛ ففيه مخالفة السنة في اللباس، وارتكاب النهي، والخيلاء والإعجاب بالنفس، وفيه التشبه بالنساء، وفيه الإسراف بتعريض الملبوس للنجاسة والقذر ومسح مواطئ الأقدام، وقبل هذا كله التعرض للوعيد الشديد في الدنيا والآخرة (¬6). الحكم الثالث السواك للجمعة من تمام الزينة يوم الجمعة أن يهتم المصلي بالسواك، وهو مطلوب من المصلي عند كل صلاة، وإذا ثبت السواك في غير الجمعة، فهو في الجمعة مع الأمر باغتسال لها وإحسان الهيئة أولى (¬7). وقد ورد في سواك الجمعة نص خاص؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "غسل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1078)، وابن ماجه (1095)، وهو حديث صحيح له شاهد من حديث عائشة -رضي الله عنها -. انظر: الزوائد للبوصيري (1/ 207). (¬2) انظر فتح الباري (2/ 374). (¬3) أخرجه البخاري (5787). (¬4) أخرجه البخاري (5788) ومسلم (2087). (¬5) أخرجه أبو داود (4084) وأحمد (5/ 63) والحاكم (4/ 186) وصححه ووافقه الذهبي. (¬6) انظر: رسالة حدّ الثوب والأزرة، تأليف: بكر أبو زيد. (¬7) فتح الباري (2/ 375).

الحكم الرابع الطيب يوم الجمعة

يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قدر عليه" (¬1). وفي حديث ابن عباس المتقدم في غسل الجمعة: "فمن جاء الجمعة ليغتسل، وإن كان طيب فيمس منه، وعليكم بالسواك". الحكم الرابع الطيب يوم الجمعة إن الطيب من حسن الهيئة وجمال المظهر، وطيب الرائحة أمر مرغوب فيه، وقد تقدم من الأحاديث ما يفيد تأكيد استعمال الطيب يوم الجمعة مهما كان قليلًا، وقد ورد -أيضًا- في بعض الأحاديث: "وأن يمس طيبًا إن وجد" (¬2). فعلى المسلم أن يستعد بالطيب ليوم الجمعة، ليرتاح الناس بجواره، ويظهر المسجد بالمظهر الطيب، ولا يتم ذلك إلا بامتثال جميع الناس، قال القرطبي: (وآداب الجمعة ثلاث: الطب، والسواك، واللباس الحسن. ولا خلاف فيه لورود الآثار بذلك) (¬3). قال القاضي عياض: (قوله: "ويمس من الطيب مما قدر عليه": يحتمل لتكثيره، ويحتمل لتأكيده مما وجده من طيب، وبدليل قوله: "ولو من طيب المرأة" يريد المكروه للرجال، وهو ما ظهر لونه، فأباحه هنا؛ لعدم غيره، وللضرورة إليه، وهذا يدل على تأكيده) (¬4). الحكم الخامس المبادرة إلى حضور المسجد: وعلى المصلي أن يبادر إلى الحضور؛ للثواب العظيم المرتب على ذلك في جميع الصلوات، وفي الجمعة فضائل خاصة حسب الأول فالأول. وقد دلّ على ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"، وفي رواية لمسلم: "فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر" (¬5). واعلم أن المراد بالساعة في هذا الحديث: الزمن، لا الساعة المعروفة، وفي هذا الحديث خمس ساعات ما بين طلوع الشمس وخروج الإمام، فيقسم الزمن صيفًا أو شتاء على خمس ساعات، ويعرف مقدار كل ساعة من هذه الساعات الخمس (¬6). والمراد بطي الصحف: طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة على الجمعة، دون غيرها من سماع ¬

_ (¬1) رواه مسلم برقم (7/ 846)، وانظر فتح الباري (2/ 364). (¬2) أخرجه البخاري (880) ومسلم (7/ 846). (¬3) بداية المجتهد (1/ 206). (¬4) إكمال المعلم (3/ 236). (¬5) أخرجه البخاري (841)، ومسلم (85). (¬6) انظر فتح الباري (2/ 368، 369)، والمجموع شرح المهذب (4/ 541).

الحكم السادس المشي إلى الجمعة

الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك فإنه يكتبه الحافظان قطعًا (¬1). إن التأخر في الحضور لصلاة الجمعة ظاهرة بينة في كثير من المساجد. ولا أدري كيف يرضى المسلم أن يفوت على نفسه هذا الفضل العظيم والثواب الجزيل بالكسل والقعود في بيته حتى يدخل الخطيب أو يفوته بعض الصلاة؟ إن من الناس من لا يستيقظ يوم الجمعة إلا متأخرًا، ومنهم من يشتغل بأمور دنياه من بيع وشراء، فيتأخر في المجيء إلى منزله. وقد كان التبكير إلى الجمعة من هدي السلف الصالح؛ بقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل) (¬2). وقد كان الواحد من السلف يغتم إذا تأخر ولم يتقدم؛ فهذا علقمة يقول: رحت مع عبد الله بن مسعود يوم الجمعة ووجد ثلاثة قد سبقوه. فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة من الله ببعيد؛ إني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إن الناس يجلسون من الله يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعات، الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع"، ثم قال: "رابع أربعة: وما رابع أربعة من الله ببعيد" (¬3). وعن سمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها" (¬4). الحكم السادس المشي إلى الجمعة يستحب أن يكون ذهابه إلى المسجد ماشيًا إن أمكن؛ لأن المشي إلى الصلاة أفضل من الركوب، كما تقدم أول الكتاب، وفي الجمعة أدلة خاصة؛ فقد بوب البخاري -رحمه الله- في صحيحه فقال: "باب المشي إلى الجمعة" ثم ساق بسنده إلى عباية بن رفاعة قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار". وأخرجه النسائي ولفظه: حدثني يزيد بن أبي مريم - قال: لحقني عباية بن رافع وأنا ماش إلى الجمعة. فقال: أبشر! فإن خطاك هذه في سبيل الله. سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار" (¬5). فالبخاري -رحمه الله- أورد هذا الحديث في باب (المشي إلى الجمعة) لعموم "في سبيل الله"، فدخلت فيه الجمعة، ولكون راوي الحديث استدل به على ذلك. هذا هو الظاهر، والله أعلم (¬6). قال الإمام أحمد -رحمه الله-: (استحب أن يذهبوا رجّاله إلى العيدين والجمعة) (¬7). وعلى الساعي إلى الجمعة السكينة والوقار راجلًا كان أو راكبًا؛ لعموم الأدلة في هذا الحكم؛ ولقوله ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 367). (¬2) أخرجه البخاري (818). (¬3) أخرجه ابن ماجه (1094)، والطبراني في الكبير (10/ 96)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 275)، وقد حسنه المنذري في الترغيب والترهيب (1/ 503)، والبوصيري في مصباح الزجاج (1/ 364)، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص 325). (¬4) أخرجه أبو داود (1108)، وأحمد (5/ 11) وانظر: الصحيحة (365). (¬5) رواه البخاري (2/ 390)، والنسائي (6/ 14). (¬6) انظر فتح الباري (2/ 391). (¬7) مسائل الإمام أحمد (رواية ابنه) (472).

الحكم السابع في السفر يوم الجمعة

-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أبي أيوب المتقدم: "ثم خرج وعليه السكينة". الحكم السابع في السفر يوم الجمعة اعلم أن السفر يوم الجمعة قبل الصلاة له حالتان: الأولى: أن يكون قبل الزوال. الثانية: أن يكون بعد الزوال وقبل الصلاة. فأما السفر قبل الزوال صباحًا أو ضحى فإنه يجوز -على الصحيح من قولي أهل العلم- وقد ورد عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أنه أبصر رجلًا عليه هيئة السفر، فسمعه يقول: لولا أن اليوم الجمعة لخرجت، فقال: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر. وفي لفظ: فاخرج ما لم يحن الرواح (¬1). وعن صالح بن كيسان قال: إن أبا عبيدة خرج يوم الجمعة في بعض أسفاره ولم ينتظر الجمع (¬2). وعن الحسن أنه قال: (لا بأس بالسفر يوم الجمعة ما لم يحضر وقت الصلاة) (¬3). فهذه الآثار وغيرها تدل بمجموعها على جواز السفر يوم الجمعة ما لم يدخل وقت الصلاة، ولأن الإنسان لم يؤمر بحضور الجمعة قبل النداء فلم يتعلق به طلب. وقد ورد عن السلف آثار تدل على منع السفر يوم الجمعة بعد الفجر حتى يصلي الجمعة، وبها أخذ جمع من أهل العلم (¬4). أما السفر بعد الزوال فيحرم على من تلزمه الجمعة قبل أن يصليها، على قول الجمهور من أهل العلم؛ لأنه بعد الزوال يكون قد دخل الوقت بالاتفاق، والغالب أن الإمام يحضر بعد الزوال، فيكون بسفره قد تعمد ترك الواجب، ويستدل على ذلك -أيضًا- بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. ووجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الجمعة وترك البيع؛ لأنه ذريعة على التشاغل عنها وعدم حضورها، فكذلك ينهى عن السفر إذا نودي للصلاة، لأنه مانع من حضورها، وتعليق الحكم بالنداء أولى من تعليقه بالزوال (¬5). واعلم أنه لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في السفر يوم الجمعة شيء (¬6)، وما ورد من ذلك فهو ضعيف، فلا يعول عليه، ومن ذلك ما ورد من دعاء الملائكة على من سافر يوم الجمعة بأن لا يصحب في سفره، ولا تقضى له حاجة، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وبمعناه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- (¬7). قال الشوكاني، بعد ذكر الأقوال في حكم السفر يوم الجمعة: (والظاهر جواز السفر قبل دخول وقت ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (1/ 154)، بدائع المنن، ومن طريقه البيهقي (3/ 187) وأخرجه عبد الرازق (3/ 250) وابن أبي شيبة (2/ 105) وإسناده جيد. وقال الألباني: سنده صحيح. (¬2) أخرجه عبد الرازق (3/ 250) وابن أبي شيبة (2/ 105) قال الألباني في "الأجوبة النافعة" ص (65): إسناده جيد. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 105) وإسناده صحيح. (¬4) انظر: المغنى (3/ 247)، فضائل الجمعة ص (319). (¬5) انظر: المغنى (3/ 247) الشرح الممتع (5/ 29). (¬6) انظر: أحاديث الجمعة ص (330). (¬7) انظر: السلسلة الضعيفة (1/ 253 - 254).

أحكام حضور مسجد الجمعة

الجمعة، وبعد دخوله، لعدم المانع من ذلك، وحديث أبي هريرة، وكذلك حديث ابن عمر لا يصلحان للاحتجاج بهما على المنع، لما عرفت من ضعفهما ومعارضة ما هو أنهض منهما، ومخالفتهما لما هو الأصل فلا ينتقل عنه إلا بناقل صحيح، ولم يوجد. وأما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن وجب عليه الحضور، إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة، كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معهم، وما شابه ذلك من الأعذار، وقد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر، فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى) (¬1). وعلى ما تقدم فينهى عن السفر وقت صلاة الجمعة، إلا إن خاف فوت رفقته، أو خاف إقلاع الطائرة، ونحو ذلك مما يصلح عذرًا مسقطًا للجمعة، وكذا لو أمكنه أن يصليها في طريقه، كما هو متحقق الآن أكثر من زمن مضى. والله أعلم. أحكام حضور مسجد الجمعة الحكم الأول الحذر من تخطي الرقاب وأذية الآخرين: عند تأمل النصوص الواردة في فضل الجمعة نرى فيها تعليق غفران ما بين الجمعتين من الذنوب على خصال متعددة. منها: عدم أذية الآخرين. ففي حديث أبي أيوب المتقدم: "ولم يؤذ أحدًا" وفي حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى" (¬2). قال الشوكاني: (وظاهر الحديث أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميع ما ذكر في الحديث من الغسل والتنظيف والتطيب أو الدهن وترك التفرقة والتخطي والأذية والتنقل والإنصات، وكذلك لبس أحسن الثياب، كما وقع في بعض الروايات، والمشي بالسكينة كما وقع في أخرى، وترك الكبائر كما في رواية أيضًا) (¬3). وعليه فيتعين في حق المصلي يوم الجمعة أن يكف أذاه عن الآخرين، والأذية تكون بأمور منها: (1) التفرقة بين اثنين: وذلك بالقعود بينهما، أو إخراج أحدهما والقعود في مكانه (¬4)، بل عليه أن يطلب التوسعة من الحاضرين. وعن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم ليخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن -يقول-: افسحوا" (¬5). قال النووي: (وهذا النهي للتحريم، فمن سبق إلى موضع مباح في المسجد وغيره، يوم الجمعة أو ¬

_ (¬1) نيل الأوطار (3/ 261). (¬2) رواه البخاري (2/ 370). (¬3) نيل الأوطار (3/ 268). (¬4) فتح الباري (2/ 392). (¬5) أخرجه مسلم برقم (2178)، وتقدم حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الحكم الثاني والعشرين.

(2) تخطي رقاب المصلين:

غيرها، لصلاة أو غيرها، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته لهذا الحديث) (¬1). (2) تخطي رقاب المصلين: فعلى الداخل للمسجد يوم الجمعة أن يحذر كل الحذر من تخطي رقاب الناس، ومضايقة الجالسين المتقدمين، فيجمع بين التأخر والتخطي والمضايقة. ويكثر ذلك في أفضل البقاع: في المسجد الحرام يوم الجمعة، وهذا من أذية المصلين وقله الفقه في الدين، وقد وقع التصريح في حبوط ثواب الجمعة للمتخطي فيما رواه عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "من لغا أو تخطى كانت له ظهرًا". قال ابن وهب -أحد رواته-: معناه: أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الجمعة (¬2). هذا وقد مضى الكلام على تخطي الرقاب بأوسع من هذا، وإنما أفردت الجمعة بالذكر؛ لكثرة التخطي فيها، ولورود نص خاص في النهي عن أذية المصلين يوم الجمعة، وبالله التوفيق. (3) الإيذاء بالقول كالشتم أو الغيبة أو الاستهزاء (¬3) ونحو ذلك. فليحفظ المصلي لسانه. ويلزم الصمت إذا سابّه أحد أو تكلم عليه، ولا سيما عند مكان الجلوس، فيحاول أن يفسح له، ولا يرد عليه، وقد رأينا من الداخلين للمساجد -ومنها: المسجد الحرام- من يطلق لسانه ويبسطه بالسوء إلى المتقدمين، وخيرهم من حفظ لسانه، واشتغل بعبادة ربه، فأقبل على صلاته وتلاوته. الحكم الثاني القرب من الإمام إذ بكر الإنسان للمسجد يوم الجمعة فينبغي له أن يدنو من الإمام، ولا يتأخر كما يفعله جمع من الناس، يحرمون أنفسهم فضيلة الدنو من الإمام والصف الأول، إما جهلًا منهم أو رغبة عن الثواب؛ فتراهم يجلسون وسط المسجد، أو في مؤخرته مع خلو الصفوف الأول. وقد تقدم الكلام على فضل الصف الأول والقرب من الإمام، وتقدم -أيضًا- حديث سمرة -رضي الله عنه- "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال الرجل يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها" (¬4). قال الطيبي: "أي: لا يزال الرجل يتباعد عن استماع الخطبة، وعن الصف الأول الذي هو مقام المقربين حتى يؤخر إلى آخر صف المتسفلين، وفيه توهين أمر المتأخرين، وتسفيه رأيهم حيث وضعوا أنفسهم من أعالي الأمور إلى سفاسفها ... " (¬5). الحكم الثالث التنفل قبل دخول الإمام إذا وصل إلى مكانه في الصف صلى ما كتب له نفلًا غير مقيد بعدد، دل على ذلك حديث سلمان المتقدم قريبًا: "ثم يصلي ما كتب له"، وفي حديث أبي أيوب الذي سبق ذكره في الكلام على اللباس: "ثم ¬

_ (¬1) شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 410). (¬2) انظر فتح الباري (2/ 414)، والحديث يأتي بتمامه إن شاء الله. (¬3) انظر القول المبين في أخطاء المصلين (ص 363). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) شرح الطيبي (3/ 219).

الحكم الرابع الاشتغال بالذكر وتلاوة القرآن

يركع ما بدا له". فدل ذلك على مسألتين: الأولى: أن المستحب لمن دخل المسجد يوم الجمعة أن يصلي قبل أن يجلس ما شاء حتى يخرج الإمام، وهنا نفل مطق، وليس بسنة للجمعة؛ لأن الجمعة ليس لها سنة قبلية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت، مقدرة بعدد؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو فعله، وهو لم يسن في ذلك شيئًا لا بقوله ولا بفعله، وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد .. ) (¬1). وما يفعله بعض الناس -ولا سيما في المسجد الحرام- من صلاته ركعتين أو أربع بعد الأذان الأول يوم الجمعة مباشرة؛ معتقدين أن ذلك سنة للجمعة قبلها كما يصلون قبل الظهر، فهذا لا أصل له، كما تقدم، ولا دليل لهم في حديث: بين كل أذانين صلاة (¬2)؛ لأن المراد بالحديث: الأذان والإقامة. وعلى فرض أن المراد بذلك الأذانان فلا يصح الإستدلال به أيضًا؛ لأنه لم يكن في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الجمعة سوى الأذان الأول والإقامة فيتعذر فعل السنة؛ لأنه كان بين الأذان والإقامة الخطبة فلا صلاة بينهما (¬3). يقول ابن الحاج رحمه الله في كتابه "المدخل": (وينهى الناس عما أحدثوه من الركوع بعد الأذان الأول للجمعة؛ لأنه مخالف لما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ لأنهم كانوا على قسمين: فمنهم من كان يركع حين دخوله المسجد، ولا يزال كذلك حتى يصعد الإمام المنبر، فإذا جلس عليه قطعوا تنفلهم، ومنهم من كان يركع ويجلس حتى يصلي الجمعة، ولم يحدثوا ركوعًا بعد الأذان الأول ولا غيره. فلا المتنفل يعيب على الجالس ولا الجالس يعيب على المتنفل. وهذا بخلاف ما هم اليوم يفعلونه، فإنهم يجلسون حتى إذا أذن المؤذن قاموا للركوع ... ) (¬4). المسألة الثانية: أنه يصلي في أي وقت كان؛ لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام". وظاهر هذا جواز الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، وهذا من خصوصيات هذا اليوم أنه مستثنى من وقت النهي الذي هو قيام الشمس حتى تزول، كما بين ذلك العلامة المحقق ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" واحتج لذلك بحديث سلمان المذكور، وقال عقبه: (فندبه إلى الصلاة ما كتب له، ولم يمنعه عنها إلا في وقت خروج الإمام. ولهذا قال غير واحد من السلف منهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وتبعه عليه الإمام أحمد بن حنبل: خروج الإمام يمنع الصلاة، وخطبته لقنع الكلام، فجعلوا المانع من الصلاة خروج الإمام لا انتصاف النهار ... ) (¬5). الحكم الرابع الاشتغال بالذكر وتلاوة القرآن فإذا صلى ما كتب له شرع في تلاوة كتاب الله تعالى إن كان يحسن ذلك، وقد ورد الترغيب في ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (24/ 189)، وراجع الأجوبة النافعة للألباني. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر الصحيحة للألباني (232). (¬4) المدخل لابن الحاج (2/ 239)، وانظر: مجموع الفتاوى (24/ 192). (¬5) زاد المعاد (1/ 378).

الحكم الخامس الإنصات والاستماع للخطبة

قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" (¬1). والمراد يوم الجمعة: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فكل ذلك ظرف لقراءة هذه السورة، وليس ذلك خاصًا بوقت صلاة الجمعة، كما قد يفهمه بعض الناس، فلو قرأها صباحًا أو بعد العصر حصل المقصود إن شاء الله، والله أعلم (¬2). وإذا كان لا يحسن القراءة فعليه أن يشتغل بذكر الله تعالى ودعائه، فإن كل ما يقال من الأذكار في غير يوم الجمعة يقال فيه ويزداد استحباب كثرة الذكر فيه على غيره؛ لشرف الوقت. ويستحب الإكثار من الدعاء في جميع يوم الجمعة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس رجاء مصادفة ساعة الأجوبة. فقد اختلف فيها على أقوال كثيرة. وفي هذه الساعة ورد حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه" وأشار بيده يقللها (¬3). كما يستحب الإكثار من الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في يوم الجمعة، وحاضر الصلاة الذي لا يشتغل بالقراءة يحرص على ذلك. وقد ورد عن أوس بن أوس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة؛ فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ -يقولون: قد بليت- قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" (¬4). ومن الناس من إذا صلى ما كتب له استدعى النعاس حتى والإمام يخطب، وهذا قد حرم نفسه خيرًا كثيرًا، وفوت فضائل عديدة، فليحرص المسلم على دفع النعاس إما براحة قبل مجيئه للجمعة، أو بالقيام من مجلسه. فقد ورد عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره" (¬5). والحكمة في الأمر بالتحول أن الحركة تذهب النعاس، ويحتمل أن الحكمة فيه انتقاله من المكان الذي أصابته فيه الغفلة بنومه، والله أعلم (¬6). الحكم الخامس الإنصات والاستماع للخطبة إذا شرع الإمام في الخطبة أقبل عليه بوجهه ولا يستدبره أو يستقبل غير جهته؛ لفعل الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لأن استقباله تهيؤ لسماع كلامه وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإذا استقبله بوجهه وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه، كان أدعى لفهم موعظته، وموافقته فيما شرع له القيام ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي (3/ 249) من طريق الحاكم من رواية نعيم بن حماد، وهو في المستدرك (2/ 368)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي: (قلت: نعيم ذو مناكير) اهـ. لكنه لم يتفرد به كما ذكر الألباني في الإرواء (3/ 93) نقلًا عن البيهقي. قال الحافظ في تخريج الأذكار: (حديث حسن وهو أقوى ما ورد في سورة الكهف). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (24/ 215). (¬3) أخرجه البخاري (893)، ومسلم (852)، وانظر الأذكار للنووي (ص 80). (¬4) رواه أبو داود (1047)، وابن ماجه (1/ 345) وغيرهما وهو حديث صحيح. انظر (فضل الصلاة على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) للجهضمي بتحقيق الألباني (ص 37). (¬5) مضى تخريجه. (¬6) انظر: نيل الأوطار (3/ 284).

لأجله (¬1). قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغيرهم؛ يستحبون استقبال الإمام إذا خطب) (¬2). قال ابن القيم: (وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خطب قائمًا في الجمعة استدار أصحابه إليه بوجوههم، وكان وجهه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلهم في وقت الخطبة) (¬3) ومن هنا يتبين أن ما يفعله بعض الناس من الاعتماد على جدار أو عمود مستدبرين القبلة ووجه الخطيب أن هذا خلاف المطلوب، وانظر كيف أذن الشرع للخطيب أن يستدبر القبلة ليواجه المصلين فكيف ينصرف بعض الناس ويستدبر القبلة والخطيب؟! فإذا أقبل على الخطيب أنصت له مستمعًا مستفيدًا. قال ابن القيم: (الإنصات للخطبة إذا سمعها واجب في أصح القولين) (¬4). وقد تقدم في حديث سلمان: "ثم ينصت إذا تكلم الإمام" وهو يفيد أن الإنصات من الصفات التي رتبت عليها مغفرة ما بينه وبين الجمعة الأخرى. والمراد: السكوت مطلقًا عن القراءة والذكر والحديث مع غيره، ولا يلزم من تجويز تحية المسجد حال الخطبة -كما تقدم- تجويز الذكر مطلقًا؛ لأن ذلك ثبت بدليل خاص (¬5). إن المقصود من خطبة الجمعة وعظ الناس وتذكيرهم، ولا يتم ذلك وغيره من المقاصد إلا بالإنصات للخطيب والإصغاء إليه، والبعد عن العبث بيد أو لحية أو ساعة أو سبحة أو سواك ونحو ذلك مما يمنع الإقبال، ويشعر بالإعراض وعدم الاهتمام. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من اغتسل ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته ثم يصلي معه، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام" (¬6). وعنه أيضًا -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصا فقد لغا" (¬7). وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته -إن كان لها- ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة؛ كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرًا" (¬8). ومعنى (لم يلغ): لم يتكلم ولم يشتغل بغير ما ندب إليه. قال النووي: (قوله: "من مس الحصا فقد لغا": فيه النهي عن مسّ الحصا وغيره من أنواع العبث في حالة الخطبة، وفيه إشارة إلى إقبال القلب والجوارح على الخطبة، والمراد باللغو هنا: الباطل المذموم والمردود) (¬9). وقال ابن الأثير: (جعل المسّ كاللغو؛ لأنه يشغله عن سماع الخطبة، كما يشغله الكلام) (¬10). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب ¬

_ (¬1) فتح الباري (2/ 402). (¬2) جامع الترمذي (3/ 28 مع التحفة). (¬3) زاد المعاد (1/ 430). (¬4) زاد المعاد (1/ 377). (¬5) انظر الأجوبة النافعة (ص 59). (¬6) رواه مسلم (857) (26). (¬7) أخرجه مسلم (857) (27). (¬8) رواه أبو داود (347)، وابن خزيمة (1810). قال الألباني: سنده حسن، صحيح أبي داود (1/ 71). (¬9) شرح النووي على مسلم (6/ 396). (¬10) انظر جامع الأصول لابن الأثير (9/ 429).

الحكم السادس لا يرفع يديه عند الدعاء في الخطبة

فقد لغوت" (¬1). فإذا كان يفوت على نفسه فضيلة الجمعة بقوله لصاحبه: أنصت. وهو أمر بالمعروف فما دون ذلك من باب أولى (¬2). ولهذا فالمختار أن المستمع للخطبة لا يرد السلام، ولا يشمت العاطس؛ لأن الاستماع واجب بسنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال النووي في "شرح المهذب" في ذكر الأوجه عند الشافعية في هذه المسألة: (الصحيح المنصوص عليه تحريم تشميت العاطس كرد السلام). ومثله في "روضة الطالبين" (¬3). وفي "بدائع الفوائد" لابن القيم: في "مسائل الكوسج لأحمد": قلت: إذا عطس الرجل يوم الجمعة؛ قال: لا تشمته. اهـ (¬4). وفي مسائل الإمام أحمد لأبي داود: قال: قلت لأحمد: يرد السلام والإمام يخطب؟ قال: إذا كان ليس يسمع الخطبة. يقول الله عز وجل: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فإذا كان يسمع فلا، قيل لأحمد وأنا أسمع: رجل يسمع نغمة الإمام بالخطبة ولا يدري ما يقول يرد السلام؟ قال: لا، إذا سمع شيئًا ... قال أبو داود: سمعت رجلًا قال لأحمد: أرى الرجل يتكلم والإمام يخطب؟ قال: أشر إليه أو أوح إليه (¬5). وإذا دخل المسجد والإمام يخطب فإنه لا يسلم على الحاضرين؛ لانشغالهم عن الرد عليه باستماع الخطبة (¬6). ويستثنى من النهي عن الكلام والإمام يخطب ما إذا كلم الإمام لمصلحة تتعلق بالخطبة، أو لحاجة تعني المسلمين، أو كلمه الإمام، كأن ينبّه الخطيب على خطأ في آية، أو يعرض عليه الاستسقاء في الخطبة، ونحو ذلك. ومن الأدلة حديث أنس -رضي الله عنه- قال: بينما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم الجمعة إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله قحط المطر، فادع الله أن يسقينا، فدعا، فمطرنا، فما كدنا أن نصل على منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة، قال: فقام ذلك الرجل -أو غيره- فقال: يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا .. الحديث (¬7). قال في فتح الباري: (فيه جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة) (¬8)، ومن الأدلة -أيضًا- حديث جابر -رضي الله عنه- قال: جاء رجل والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: "أصليت يا فلان؟ " قال: لا، قال: "قم فاركع" (¬9). الحكم السادس لا يرفع يديه عند الدعاء في الخطبة اعلم أنه لا يشرع رفع اليدين حال دعاء الإمام في خطبة الجمعة، لا للخطيب ولا للسامعين. وقد ورد عن عمارة بن رؤبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه. فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا. وأشار بإصبعه المسبحة، وفى رواية: يوم جمعة (¬10). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (892)، ومسلم (851). (¬2) شرح مسلم للنووي (6/ 387). (¬3) انظر: شرح المهذب (4/ 524)، وروضة الطالبين (2/ 29)، وانظر: الأم للشافعي (1/ 234). (¬4) بدائع الفوائد (3/ 278)، وانظر: المغني (3/ 198). (¬5) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص 58)، وراجع: بداية المجتهد (1/ 202). (¬6) شرح المهذب (4/ 523). (¬7) أخرجه البخاري (1015) ومسلم (897). (¬8) فتح الباري (2/ 506)، وانظر: المغني (3/ 197، 198). (¬9) تقدم تخريجه عند الكلام على حكم تحية المسجد. (¬10) رواه مسلم (874).

الحكم السابع في تحية المسجد والإمام يخطب

قال النووي: (هذا فيه أن السنة أن لا يرفع اليدين في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى. وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض) (¬1). وقال الشوكاني: (والحديث يدل على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء وأنه بدعة) (¬2). وقال أبو شامة في ذكر بدع الجمعة: (وأما رفع أيديهم عند الدعاء فبدعة قديمة) وتبعه على ذلك السيوطي في كتابه: (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع) (¬3). وجاء في الاختبارات لابن تيمية: (ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة، وهو أصح الوجهين لأصحابنا؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا، وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر) (¬4). الحكم السابع في تحية المسجد والإمام يخطب إذا دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي تحية المسجد ركعتين خفيفتين ولا يزيد عليهما؛ ليفرغ لسماع الخطبة. وذلك لما ورد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب فقال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام فليصل ركعتين" وفي رواية: "فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما" (¬5). فهذا دليل صريح على أن الداخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين تحية المسجد، وهو حجة على من قال بعدم مشروعيتها حال الخطبة، وما أجابوا به عن هذا الحديث وأمثاله فهو غير ناهض، وما أحسن قول الإمام النووي -رحمه الله- عن هذا الحديث. (وهذا نص صريح لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحًا فيخالفه) (¬6). كما أن حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" يتناول بعمومه وقت أداء التحية حال الخطبة. وليست الركعتان سنة قبلية للجمعة، فإنه لا سنة للجمعة قبلها -كما تقدم- بل يصلي الداخل قبل صعود الإمام نفلًا مطلقًا غير مقيد بعدد. وإنما هما تحية المسجد (¬7). لكن لو دخل المسجد والمؤذن يؤذن، فهل يصلي التحية حال الأذان؛ ليفرغ لاستماع الخطبة، أو يجيبه ثم يصلي بعد فراغه؟ الظاهر أنه يصلي تحية المسجد ولا يتابع المؤذن في هْذه الحال؛ لأن استماع الخطبة آكد. فإن إجابة المؤذن مستحبة عند الجمهور، كما ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "فتح الباري" (¬8). ¬

_ (¬1) شرح مسلم للنووي (5/ 411). (¬2) نيل الأوطار (3/ 308). (¬3) الباعث (ص 142)، والأمر بالاتباع (ص 247). (¬4) الاختيارات (ص 80)، وانظر فتح الباري (2/ 412). (¬5) أخرجه البخاري (888، 1113)، ومسلم (875). (¬6) شرح مسلم (6/ 412)، وانظر شرح المهذب (4/ 551، 552). (¬7) انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة (159، 160). (¬8) الفتح (2/ 93).

وقد حكى الطحاوي -رحمه الله- في "شرح معاني الآثار" (¬1) عن قوم من السلف القول بالوجوب، وهو ظاهر من صيغة الأمر في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" (¬2). وقد ذكر العلماء أن هذا الأمر صُرِفَ عن الوجوب ما ورد عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع مؤذنًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "على الفطرة". ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خرجت من النار" فإذا هو راعي معزى (¬3). لكن يحتمل أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاب المؤذن فقال مثل ما قال، إذ ليس في الحديث ما ينفي ذلك، ثم إن هذا فعل، والأمر السابق قول، والفعل منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعارض القول الخاص بالأمة (¬4). والأظهر أن الصارف عن الوجوب قول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمالك بن الحويرث ومن معه: "إذا حضرت الصلاة فؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" (¬5)، ووجه الدلالة: أن المقام مقام تعليم، والحاجة داعية إلى بيان كل ما يحتاجه هؤلاء الذين وفدوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد لبثوا عنده عشرين يومًا، وقد لا يكون عندهم علم ما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في متابعة الأذان، فلما ترك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيان ذلك مع دعاء الحاجة إليه علم أن المتابعة غير واجبة (¬6). وقد ورد في الموطأ عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي: أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذن "قال ثعلبة" جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحد (¬7). قال النووى في شرح المهذب على هذا الأثر: وفيه جواز الكلام حال الأذان (¬8). اهـ. وعلى ما تقدم فإن صح كون الأمر بإجابة المؤذن للاستحباب لصلاحية ما تقدم لصرف الأمر عن الوجوب. فالحكم واضح بالنسبة لمسألتنا وهي أنه يقدم تحية المسجد حال الأذان؛ ليفرغ لأمر واجب، وهو استماع الخطبة. وإن قلنا: إن الأمر للوجوب فالظاهر أن استماع الخطبة آكد، بدليل تحريم الكلام حال الخطبة ووجوب الإنصات، ولا يحرم الكلام حال الأذان، ومما يؤيد ذلك أن الداخل مأمور بأن يتفرغ لسماع الخطبة ما أمكنه ذلك ولو بتخفيف تحية المسجد؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فليركع ركعين وليتجوز فيهما". قال في نيل الأوطار: (فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة؛ ليتفرغ لسماع الخطبة). اهـ (¬9). وقد رأيت في المغني لابن قدامة: (وإن دخل المسجد فسمع المؤذن استحب له انتظاره ليفرغ، ويقول مثل ما يقول جمعًا بين الفضيلتين، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس، نص عليه أحمد) (¬10). ¬

_ (¬1) شرح معاني الآثار (1/ 146). (¬2) أخرجه البخاري (2/ 90)، ومسلم (4/ 327). (¬3) أخرجه مسلم برقم (382)، وانظر شرح معاني الآثار (1/ 146). (¬4) انظر: فتح الباري (2/ 93)، ونيل الأوطار (2/ 59). (¬5) أخرجه البخاري (631) ومسلم (674). (¬6) انظر: الشرح الممتع (2/ 75). (¬7) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 103)، وصححه النووي في شرح المهذب (4/ 550)، وانظر: تمام المنة (ص 339). (¬8) شرح المهذب (4/ 550). (¬9) نيل الأوطار (3/ 293). (¬10) المغني (2/ 89).

الحكم الثامن بم تدرك الجمعة؟

والظاهر أن هذا في غير الجمعة، وأما في الجمعة فينبغي أن يصلي التحية لأجل استماع الخطبة، والله أعلم. الحكم الثامن بم تدرك الجمعة؟ لا تدرك الجمعة إلا بإدراك ركعة تامة وإن لم يدرك من الخطبة شيئًا، فمن دخل مع الإمام قبل أن يركع الركعة الثانية أو أدرك معه الركوع فقد أدرك صلاة الجمعة، فيأتي بركعة أخرى وتتم صلاته، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، وهو الراجح في المسألة، ودليل ذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). وهذا نص عام يشمل جميع الصلوات، ومنها: صلاة الجمعة. وقد بوب الترمذي -رحمه الله- على هذا الحديث في جامعه بقوله: (باب ما جاء فيمن أدرك من الجمعة ركعة). ثم قال: (والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغيرهم، قالوا: من أدرك ركعة من الجمعة صلى إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا، وبه يقول: سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد وإسحاق) (¬2). أما من أدرك مع الإمام أقلّ من ركعة كأن يدركه بعد أن رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية أو في السجود أو في التشهد فقد فاتته الجمعة، لمفهوم الحديث المتقدم، فإن مفهومه أن من أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركًا للصلاة. وعليه أن يصليها ظهرًا أربع ركعات ولو كان قد دخل مع الإمام بنية الجمعة، فإذا سلم الإمام نوى الظهر ثم صلاها، وهذا هو القول الراجح -إن شاء الله- ولا يسع الناس العمل بغيره؛ لأن الظهر فرع عن الجمعة، فإذا انتقل من الجمعة إلى الظهر فقد انتقل من أصل إلى بدل. وكلاهما فرض الوقت (¬3). ويستثنى من ذلك ما إذا صليت الجمعة قبل الزوال وأدرك مع الإمام أقل من ركعة فإنه لا يتمها جمعة؛ لأنه لم يدرك منها ركعة، ولا يصليها ظهرًا؛ لأنه لم يدخل وقت الظهر، فيتمها نفلًا فإذا دخل وقت الظهر بالزوال صلى الظهر. والله أعلم (¬4). الحكم التاسع الصلاة بعد الجمعة إذا صلى الجمعة صلى بعدها ركعتين أو أربعًا، نقله ابن قدامة عن الإمام أحمد، وفي رواية عنه: أو ستًا (¬5). وقد دل على ذلك ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا" (¬6)، وفي رواية بيان الصارف للأمر، وأنه ليس للوجوب بل للاستحباب؛ لقوله: "من كان منكم مصليًا" (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) جامع الترمذي (2/ 402، 403). (¬3) انظر: المغني (3/ 189، 190)، الشرح الممتع (5/ 61، 62). (¬4) انظر: المغني (3/ 190)، الشرح الممتع (5/ 61). (¬5) المغني (3/ 248). (¬6) رواه مسلم (881). (¬7) شرح النووي على مسلم (8/ 416).

الحكم العاشر إذا اجتمع العيد والجمعة

وعن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته (¬1). وعنه -أيضًا- قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدّث أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل ذلك (¬2). قال أبو شامة: أراد بقوله: (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل ذلك): أنه كان يصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته، ولا يصليهما في المسجد، وذلك هو المستحب (¬3). وقال في عون المعبود: والحاصل أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر الأمة أمرًا مختصًا بهم بصلاة أربع ركعات بعد الجمعة، وأطلق ذلك ولم يقيده بكونها في البيت، واقتصاره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ركعتين كما في حديث ابن عمر لا ينافي مشروعية الأربع لعدم المعارضة بينهما (¬4). وأما الست ركعات فهي مروية عن طائفة من الصحابة منهم علي وابن عمر وأبو موسى رضي الله عنهم أجمعين؛ جمعًا بين هذا وهذا. وصلاة هذه السنة في المنزل أفضل، ولو صلاها في المسجد جاز، لا فرق في ذلك بين الركعتين أو الأربع (¬5)، ومما يدل على أفضلية الصلاة في المنزل قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (¬6). الحكم العاشر إذا اجتمع العيد والجمعة إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد سقط وجوب الجمعة وحضورها عمن صلى العيد، على الأظهر من أقوال أهل العلم، ويصلي مكانها صلاة الظهر. ودليل ذلك حديث زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أن معاوية بن أبي سفيان سأله: هل شهدت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: "من شاء أن يصلي فليصلّ" (¬7). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء، أجزأه من الجمعة، وإنا مجمّعون" (¬8). وعن عثمان -رضي الله عنه-: أنه خطب في يوم عيد وجمعة، فقال: من أحبّ من أهل العوالي أن ينتظر الجمعة فلينتظر، ومن أحبّ أن يرجع فقد أذنت له (¬9). فهذه أدلة صحيحة تفيد التخيير في حضور إحداهما، وأن صلاة العيد تجزئ عن صلاة الجمعة، فلا يجب حضورها. وتكون هذه الأدلة مخصصة لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2/ 425)، ومسلم (6/ 418). (¬2) رواه أبو داود (3/ 477)، ونقل في نيل الأوطار (3/ 318) عن العراقي أنه قال: إسناده صحيح. (¬3) الباعث على إنكار البدع الحوادث (ص 161). (¬4) عون المعبود (3/ 481). (¬5) انظر تمام المنة (ص 341 - 343). (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) أخرجه أبو داود (1070) والنسائي (3/ 194) وابن ماجه (1/ 415) وهو حديث صحيح. (¬8) أخرجه أبو داود (1073) وابن ماجه (1311) قال في الزوائد (1/ 237): "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات". (¬9) أخرجه البخاري (5572).

أحكام حضور المرأة المسجد

وينبغي للإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يحضر العيد، وإن صلى الإنسان العيد والجمعة فهو أكمل، لينال الأجر، ويحظى بالفضيلة، والله أعلم. أحكام حضور المرأة المسجد أولًا: حكم حضور المرأة المسجد: لقد أذن الإسلام للمرأة أن تخرج إلى المسجد وتصلي مع الناس. ومع هذا فقد حثها على أن تصلي في بيتها؛ لأنه أستر لها، ولئلا تفتن غيرها. فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير لهن" (¬1). وعن أم حميد الساعدية -رضي الله عنها-: أنها جاءت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت يا رسول الله: إني أحب الصلاة معك، فقال: "قد علمت، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة" (¬2). قال في فتح الباري: (ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل: تحقّق الأمن فيه من الفتنة، ويتأكد ذلك بعد وجود مما أحدث النساء من التبرج والزينة) (¬3). وإذا كان ابن حجر -رحمه الله- قد قال هذا في زمانه في القرن التاسع فكيف لو رأى هو وغيره من أهل العلم ما عليه النساء في زماننا من خروجهن متبرجات متطيبات كاسيات عاريات، حتى في أفضل بقعة على وجه الأرض: في بيت الله الحرام. لا ريب أن مثل هولاء يحرم خروجهن إلى المساجد وغير المساجد، ويجب على وليهن منعهن وعدم الإذن لهن، ولكن أين الغيرة الإسلامية من أولياء أمورهن؟ إن أكثرهم لا يرفع طرفًا ولا يحرك لسانًا، فإلى الله تعالى المشتكى!! وقال في بلوغ الأماني: (يستفاد من هذا الحديث مشروعية تستر المرأة في كل شيء حتى في صلاتها وعبادة ربها، وكلما كانت في مكان أستر كان ثوابها أعظم وأوفر؛ لهذا أرشدها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى أخفى مكان في بيتها وأبعده عن الناس، وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يرشد إلا إلى كل خير، فبادرت بالعمل بإرشاده، وأمرت ببناء مسجد لها في أبعد ناحية لها في بيتها وأظلمها، ولا زالت تعبد الله عز وجل حتى ماتت -رحمها الله-) (¬4). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أعتم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعتمة حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان، فخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "ما ينتظرها أحد غيركم من أهل الأرض" ولا يصلي يومئذ إلا في المدينة، وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول (¬5). فهذا الحديث دل على وجود النساء في المسجد وحضورهن الجماعة. وليس هذا بواجب عليهن. قال أبو محمد بن حزم: (وأما النساء فلا خلاف في أن شهودهن الجماعة ليس فرضًا، وقد صح في الآثار كون نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجرهن لا يخرجن إلى المساجد) (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2/ 274) وهو حديث صحيح بشواهده. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 198) الفتح، وابن خزيمة (3/ 95) وإسناد أحمد حسن، قاله في فتح الباري (2/ 350)، وله شواهد. (¬3) فتح الباري (2/ 350). (¬4) بلوغ الأماني (5/ 199). (¬5) أخرجه البخاري (826)، ومسلم (638). (¬6) المحلى (4/ 196).

ثانيا: شروط حضور المرأة المسجد:

وإذا استأذنت المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد ملتزمة بالشروط المعتبرة فإنه يأذن لها؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر الأزواج بذلك؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن" (¬1). وعنه -أيضًا-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (¬2). ثانيًا: شروط حضور المرأة المسجد: ليس للمرأة أن تخرج إلى المسجد ولا يحل لزوجها أن يأذن لها إلا بشروط ذكرها العلماء. بعضها دل عليه النص، وبعضها ملحق بالمنصوص؛ لمشاركته له في علته (¬3)، والشروط هي: 1 - ألا تكون متطيبة. لما ورد عن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمسّ طيبًا" (¬4)، أي: إذا أرادت حضور المسجد فلا تتطيب؛ لأن الطيب من أسباب الفتنة وتحريك شهوة الرجال. ويلحق به الزينة كالثياب الفاخرة والحلي وصوت الخلخال، ونحو هذا، فلا بد أن تكون المرأة عند خروجها إلى المسجد على درجة تامة من التستر والبعد عن كل ما يثير الرجال. 2 - أن تغض بصرها كما أمرها ربها، فلا تنظر إلى الرجل الأجنبي. قال الله تعالى: {وَقُل للمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِن أبصَارِهِنَّ} [النور: 31]. قال ابن كثير -رحمه الله-: (أي: عما حرم عليهن من النظر إلى غير أزواجهن، ولهذا ذهب كثير من العلماء على أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلًا ... ) (¬5). وقال النووي -رحمه الله-: (الصحيح الذي عليه الجمهور من العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الرجل الأجنبي، كما يحرم عليه النظر إليها) (¬6). ولا ريب أن الفتنة مشتركة، فكما أن نظر الرجل إلى المرأة سبب الافتتان بها، كذلك نظرها إليه سبب للافتتان به. 3 - ألا يكون في الطريق إلى المسجد ما يخاف منه مفسدة. فإن كان الطريق غير آمن ويخشى عليها من الفساق حرم خروجها؛ لمظنة الفتنة وتحقق الفساد. 4 - أن تكون متحجبة الحجاب الشرعي بستر جميع بدنها بما في ذلك الوجه والكفان والقدمان، ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج إلى المسجد كاشفة عن وجهها وكفيها، تذهب لأداء عبادة هي في بيتها أفضل، ولكنها تبوء بإثم عظيم ما جنت على نفسها وعلى غيرها من الفتنة وتحريك دواعي الشهوة. 5 - ألا تختلط بالرجال لا في الطريق ولا في المسجد، ولا تتقدم إلى صفوف الرجال ولا إلى أماكن الرجال، بل تصلي خلفهم بعيدة عنهم. وقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (827)، ومسلم (442). (¬2) أخرجه مسلم (442)، وأخرجه البخاري بأطول من هنا (858). (¬3) انظر أضواء البيان (6/ 236). (¬4) أخرجه مسلم (443). (¬5) تفسير ابن كثير (6/ 46). (¬6) شرح النووي على مسلم (10/ 353).

أهم الأحكام التي تنفرد بها المرأة عن الرجل في الصلاة

وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" (¬1). 6 - ألا ترفع صوتها في الصلاة لا في القراءة ولا في التأمين ولا في تنبيه الإمام إذا سها، بل تكتفي في الأخير بالتصفيق؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" (¬2). 7 - أن تنصرف قبل الرجال لئلا تحصل لهن مزاحمة من الرجال في الطرقات أو على أبواب المساجد. وقد ورد عن أم سلمة -رضي الله عنها-: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرًا. قال ابن شهاب: فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن الرجال (¬3). قال الحافظ ابن حجر: (وفي الحديث: مراعاة الإمام أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، وفيه اجتناب مواضع التهم، وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلًا عن البيوت ... وفيه أن النساء كن يحضرن في المسجد ... ) (¬4). وقصارى القول أن المرأة مأمورة بالستر والبعد عن كل ما يثير الرجال حال خروجها من منزلها عمومًا وإلى المسجد خصوصًا. وعلى المرأة المسلمة أن تكون وقّافة عند حدود الله تعالى، ولتعلم يقينًا أن الذي أمرها بالصلاة وأباح لها أن تخرج إلى المسجد هو الذي أمرها بالحجاب والحشمة والعفة والحياء، فكيف تطيعه في الأول وتعصيه في الثاني؟؟ كيف تكون مأجورة بفعل ما نهى عنه الشارع؟ كيف تؤدي مباحًا وسيلته محرمة؟ إنه لا يبعد أن تكون صلاتها ناقصة؛ لأن المعاصي إذا لم تبطل الأعمال فإنها تنقصها. وإن الأسى ليحرق القلب عندما ترى كثيرًا من النساء في أفضل البقاع -بيت الله الحرام- وما هن عليه من التبرج وكشف الوجه وإظهار المحاسن ذاهبات لأداء عبادة عظيمة في أقدس بقعة على وجه الأرض، ثم مزاحمتهن للرجال في المطاف أو عند الأبواب دخولًا وخروجًا، أضف إلى ذلك تقدم بعض النساء للصلاة في ساحة المطاف قريبًا من الكعبة. تظن أن ذلك أفضل، وأين الأفضلية والرجال يمرون حولها والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في الحديث المتقدم: "وشر صفوف النساء أولها"، أي: لقربها من الرجال. فكيف إذا ذهبت تزاحم الرجال وتصلي في أماكنهم؟! فالله المستعان!! وعلى المرأة أن تحذر من مزاحمة الرجال في الأبواب ولا سيما في الخروج، فإما أن تنتظر حتى تذهب حطمة الناس، وإما أن تبادر بالخروج بعد سلام الإمام قبل أن يدركها الرجال، وإلا فمن المعلوم أن المستحب للرجال أن يثبتوا بقدر ما يرون أن النساء قد انصرفن. ولكن أكثرهم لا يفقهون. والأولى تخصيص أبواب للنساء، بل هذا متعين؛ تأسيًا بما حصل في القرن الأول، لما فيه من المصالح العظمية. أهم الأحكام التي تنفرد بها المرأة عن الرجل في الصلاة اعلم أن الأصل في الأحكام الشرعية -ومنها الصلاة- أن المرأة تشارك الرجل فيها، فما ثبت في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (440). (¬2) أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (422). (¬3) أخرجه البخاري (802). (¬4) فتح الباري (2/ 336).

موقف المرأة خلف الإمام:

حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا ما دل الدليل على استثنائه. وقد جاء في أحكام الصلاة مسائل تنفرد بها المرأة، لوجود أدلة تفيد ذلك، وأهم هذه الأحكام ما يلي: موقف المرأة خلف الإمام: لا خلاف بين أهل العلم أن السنة أن تقف المرأة خلف الرجل، فإذا صلى رجل ومعه امرأة وقفت خلفه، وإن كان معه رجل آخر وقف الرجل عن يمينه والمرأة خلفهما. وإن حضر رجال ونساء وقف الرجال خلف الإمام صفًا واحدًا أو صفوفًا، ثم تقف النساء بعد الرجال صفًا واحدًا أو صفوفًا (¬1). وقد دل على ذلك حديث أنس -رضي الله عنه- قال: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمي -أم سليم- خلفنا (¬2). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" (¬3). فدل الحديث على أن خير الصفوف للرجال أولها، والنساء بالعكس، وهذا يفيد أن النساء تكون خلف الرجال (¬4). وعلى المرأة إذا حضرت المسجد أن تتأخر وتبتعد عن الرجال وعن صفوفهم، لئلا يحصل الاختلاط إذ كثرت الصفوف، أو تسمع النساء كلام الرجال وترى حركاتهم، فيتعلق القلب بهم، وتحصل الفتنة. وقد ذكر العلماء أن المراد بالحديث السابق -حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: النساء اللاتي يصلين مع الرجال في مكان واحد، وأما إذا صلين في مكان خاص بهن -كما يوجد في بعض المساجد- فهن كالرجال، خير صفوفهن أولها وشرها آخرها (¬5). وقد أفاد هذا الحديث أن النساء يقفن في الصلاة صفوفًا لا منفردات، وعليهن أن يسوين صفوفهن، لعموم الأدلة في الأمر بتسوية الصفوف، وسدّ الفرج، وتكميل الصف الأول فالأول. فإن وقفت المرأة منفردة خلف صف النساء بدون عذر لم تصح صلاتها على الراجح من قولي أهل العلم، فيكون حكمها حكم الرجل المنفرد خلف صف الرجال؛ لأن أحكام النساء مساوية لأحكام الرجال إلا ما استثناه الدليل، وليس هنا دليل على استثناء وقوف المرأة خلف صف النساء، وإنما الدليل على استثناء وقوف المرأة المنفردة خلف صف الرجال - كما تقدم (¬6). وإذ صف الرجل أو الرجال خلف صف النساء -كما قد يوجد في المسجد الحرام أيام الحج أو في رمضان إذ كثر الناس- صحت الصلاة لوجود الضرورة في مثل ذلك، على الراجح من قولي أهل العلم (¬7). وينبغي للرجل ألا يقف بجانب امرأة في الصلاة، بل ينتقل إلى مكان آخر؛ خشية الافتتان بها، ولا تبطل صلاة المرأة ولا صلاة الرجل إذا وقفت المرأة في صف الرجال -على الراجح من قولي أهل ¬

_ (¬1) انظر: الإحكام فيما يختلف فيه الرجال والنساء من الأحكام (1/ 407). (¬2) أخرجه البخاري (727) ومسلم (658). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) أحكام الإمامة ص (321). (¬5) انظر: شرح النووي على مسلم (4/ 403). (¬6) مجموع الفتاوى (23/ 396)، أحكام الإمامة ص (330). (¬7) أحكام الإمامة ص (326).

موقف إمامة النساء:

العلم-، وإذا أرادت امرأة أن تقف بجانبه طردها، أو أمرها أن تبتعد عنه (¬1). موقف إمامة النساء: لو دخلت نساء المسجد وقد انقضت الصلاة، أو كنّ في مجمع خاص -كبيت أو مدرسة- جاز لهن أن يصلين جماعة، وكذا لو كانت الصلاة نافلة، إذا لم يتخذ ذلك عادة (¬2). والسنة أن تقف إمامة النساء في وسط الصف ولا تبرز أمامهن؛ لأن ذلك أستر، والمرأة مطلوب منها الستر (¬3). وقد ورد عن أم ورقة بنت نوفل: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها (¬4). والمراد بـ (أهل دارها): النساء. وأما إمامة المرأة للرجل فإنها لا تجوز على الصحيح من أقوال أهل العلم، لما في ذلك من المفاسد العظيمة والله أعلم. مرور المرأة بين يدي المصلي: تقدم أنه يحرم المرور بين يدي المصلي وسترته، أو بين يديه قريبًا منه إذا لم يكن له سترة، وهو آثم بالإجماع، ولا خلاف في أن مرور الرجل لا يقطع صلاة المصلي (¬5). وأما المرأة إذا مرت بين يدي المصلي فعامة أهل العلم يقولون أنها لا تقطع الصلاة لحديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كنت أنام بين يدى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح (¬6). والقول الثاني: أنها تقطع الصلاة. وهو قول الحسن البصري، وابن حزم ورواية عن الإمام أحمد، اختارها عدد من أصحابه. لحديث أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود" قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما سألتني، فقال: "الكلب الأسود شيطان" (¬7). وهذا دليل صحيح لا مطعن فيه، ونص صريح لا لبس في دلالته على أن مرور المرأة أمام المصلي يقطع صلاته. وأما حمل هذا الحديث على أن المراد بالقطع: القطع عن الخشوع والذكر لشغل القلب بها والالتفات إليها؛ لأنها تفسد الصلاة فهو ضعيف؛ لأن شغل القلب لا يختص بالثلاثة المذكورة (¬8). ثم إنه ورد حديث أبي ذر عند ابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "تعاد الصلاة من ممر الحمار والمرأة ¬

_ (¬1) أحكام الإمامة ص (322)، فتاوى ابن عثيمين (13/ 43). (¬2) انظر: أعلام الموقعين (2/ 357)، الإحكام (2/ 115)، الممتع (4/ 198). (¬3) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 246). (¬4) أخرجه أحمد (6/ 405) وأبو داود (591). وهنا سند حسن كما قال الألباني في "الإرواء" (2/ 256). (¬5) انظر مراتب الإجماع ص (35). (¬6) أخرجه البخاري (382، 514) ومسلم (512). (¬7) أخرجه مسلم (510). (¬8) الإحكام (1/ 419).

باب: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم

والكلب الأسود" (¬1). وأما ما ورد من أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- نائمة بين يديه فلا دلالة فيه على عدم القطع؛ لأن فساد الصلاة مقرون بمرور المرأة أمام المصلي لا بالصلاة إلى النائم أو المضطجع أو الجالس (¬2). والمراد بالمرأة التي تقطع الصلاة: البالغة. أما الصغيرة التي لم تبلغ فلا تقطع الصلاة (¬3) لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "يقطع الصلاة الكلب والمرأة الحائض" (¬4). وهذه المسألة وإن كانت نادرة الوقوع في المساجد، لكنها قد توجد في المسجد الحرام. فعلى المسلم أن يمنع من مرور الإنسان بين يديه، ولا سيما المرأة فإنها تقطع الصلاة. وقد أجاز بعض العلماء المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام؛ لأن الناس يكثرون بمكة، لأجل قضاء نسكهم ويزدحمون فيها. وهذا وإن كان تعليلًا قويًا من حيث النظر، ولكنه معارض بعموم أدلة القطع، ولا مخصص لها (¬5) -كما تقدم- لكن للضرورة أحكام. والله أعلم. باب: صفة صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التكبير إلى التسليم (¬6) استقبال الكعبة كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة استقبل الكعبة في الفرض والنفل، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فقال لـ (المسيء صلاته): (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر). (البخاري ومسلم). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر يصلي النوافل على راحلته، ويوتر عليه حيث توجهت به [شرقًا وغربًا]). (مسلم). وفي ذلك نزل قوله تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة 115]. (مسلم). و (كان -أحيانًا- إذا أراد أن يتطوع على ناقته استقبل بها القبلة فكبر، ثم صلى حيث وجهه ركابه). (أبو داود وابن حبان). و (كان يركع ويسجد على راحلته إيماء برأسه، ويجعل السجود أخفض من الركوع). (أحمد والترمذي وصححه). و (كان إذا أراد أن يصلي الفريضة نزل فاستقبل القبلة). (البخاري وأحمد). وأما في صلاة الخوف الشديد؛ فقد سن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته أن يصلوا (رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا، مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها). (البخاري ومسلم). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة (831) وابن حبان (2391). (¬2) انظر: زاد المعاد (1/ 306) الإحكام (1/ 420). (¬3) انظر: الإنصاف (2/ 107) تصحيح الفروع (1/ 474). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 1347)، وأبو داود (703)، و (2/ 64)، وابن ماجه (949)، وصححه النووي في "شرح المهذب" (3/ 212). (¬5) انظر: إتحاف الإخوة ص (195). (¬6) من كتاب صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من التكبير إلى التسليم للألباني رحمه الله.

القيام

وقال، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا اختلطوا؛ فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس). (البيهقي بسند صحيح). وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما بين المشرق والمغرب قبلة). (الترمذي والحاكم). وقال جابر رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرة أو سرية، فأصابنا غيم فتحرينا واختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حدة، فجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا، فلما أصبحنا نظرناه؛ فإذا نحن صلينا على غير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فلم يأمرنا بالإعادة]، وقال: (قد أجزأت صلاتكم). (الدارقطني، والحاكم والبيهقي). وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي نحو بيت المقدس -[والكعبة بين يديه]- قبل أن تنزل هذه الآية: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]، فلما نزلت استقبل الكعبة، فبينما الناس بقباء في صلاة الصبح؛ إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة، [ألا] فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا، [واستدار إمامهم حتى استقبل بهم القبلة]). (البخاري ومسلم وأحمد). القيام وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف فيها قائما في الفرض والتطوع؛ ائتمارًا بقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238]. وأما في السفر؛ فكان يصلي على راحلته النافلة. وسن لأمته أن يصلوا في الخوف الشديد على أقدامهم، أو ركبانا كما تقدم، وذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238، 239]. و (صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرض موته جالسًا). (الترمذي وصححه وأحمد). وصلاها كذلك مرة أخرى قبل هذه حين (اشتكى وصلى الناس وراءه قيامًا؛ فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا، فلما انصرف قال: (إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا [أجمعون]). (البخاري ومسلم). صلاة المريض جالسًا وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: (كانت بي بواسير فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب). (البخاري وأبو داود وأحمد). وقال أيضًا: (سألته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة الرجل وهو قاعد؟ فقال: (من صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائمًا (وفي رواية: مضطجعًا) فله نصف أجر القاعد). (البخاري وأبو داود وأحمد). والمراد به المريض فقد قال أنس رضي الله عنه: (خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناس وهم يصلون قعودًا من مرض، فقال: (إن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم). (أحمد وابن ماجه بسند صحيح). و (عاد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مريضًا فرآه يصلي على وسادة، فأخذها فرمى بها، فأخذ عودًا ليصلي عليه، فأخذه فرمى به، وقال: (صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك).

الصلاة في السفينة

(الطبراني والبزار وابن السماك والبيهقي وسنده صحيح). الصلاة في السفينة وسئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة في السفينة فقال: (صل فيها قائمًا؛ إلا أن تخاف الغرق). (البزار والدراقطني وصححه الحاكم). ولما أسن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبر اتخذ عمودًا في مصلاه يعتمد عليه. (أبو داود والحاكم وصححه هو والذهبي). القيام والقعود في صلاة الليل و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي ليلًا طويلا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ قائمًا ركع قائمًا، وإذا قرأ قاعدًا ركع قاعدًا). (مسلم وأبو داود). و (كان أحيانًا يصلي جالسًا فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين أو أربعين آية؛ قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع وسجد، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك). (البخاري ومسلم). وإنما (صلى السبحة قاعدًا في آخر حياته لما أسن وذلك قبل وفاته بعام). (مسلم وأحمد). و (كان يجلس متربعًا). (النسائي وابن خزيمة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). الصلاة في النعال والأمر بها و (كان يقف حافيًا أحيانًا، ومنتعلًا أحيانًا). (أبو داود وابن ماجه). وأباح ذلك لأمته فقال: (إذا صلى أحدكم فليلبس نعليه أو ليخلعهما بين رجليه، ولا يؤذي بهما غيره). (أبو داود والبزار وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). وأكد عليهم الصلاة فيهما أحيانًا فقال: (خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم). (أبو داود والبزار وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). وكان ربما نزعهما من قدميه وهو في الصلاة، ثم استمر في صلاته؛ كما قال أبو سعيد الخدري: (صلى بنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم؛ فلما كان في بعض صلاته؛ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى الناس ذلك خلعوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: (ما بالكم ألقيتم نعالكم؟) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال: (إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيها قذرًا -أو قال: أذى- (وفي رواية: خبثًا)، فألقيتهما، فإذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر في نعليه فإن رأى فيهما قذرًا -أو قال:- أذى (وفي الرواية الأخرى: خبثًا)؛ فليمسحهما، وليصل فيهما). (أبو داود وابن خزيمة). و (كان إذا نزعهما وضعهما عن يساره) وكان يقول: (أبو داود والنسائي وابن خزيمة)، (إذا صلى أحدكم؛ فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره؛ إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين رجليه). (أبو داود وابن خزيمة). الصلاة على المنبر و (صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مرة- على المنبر (وفي رواية: أنه ذو ثلاث درجات) فـ[قام عليه، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر] [ثم ركع وهو عليه] ثم رفع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد، [فصنع كما صنع في الركعة الأولى] حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال: (أيها الناس! إني صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي). (البخاري ومسلم).

السترة ووجوبها

السترة ووجوبها و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقف قريبًا من السترة، فكان بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع). (البخاري وأحمد). و (بين موضع سجوده والجدار ممر شاة). (البخاري ومسلم). وكان يقول: (لا تصل إلا إلى سترة ولا تدع أحدًا يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله؛ فإن معه القرين). (ابن خزيمة). ويقول: (إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته). (أبو داود والبزار وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). و (كان -أحيانًا- يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي في مسجده). و (كان إذا صلى [في فضاء ليس فيه شيء يستتر به]؛ غرز بين يديه حربة، فصلى إليها والناس وراءه)، وأحيانًا (كان يعرض راحلته فيصلي إليها)، وهذا خلاف الصلاة في أعطان الإبل؛ فإنه (نهى عنها)، وأحيانًا (كان يأخذ الرحل فيعدله فيصلي إلى آخرته). (البخاري ومسلم). وكان يقول: (إذا وضع أحكم بين يديه مثل موخرة الرحل؛ - فليصل ولا يبالي من مر وراء ذلك). (مسلم وأبو داود). و (صلى -مرة- إلى شجرة). (النسائي وأحمد بسند صحيح). و (كان -أحيانًا- يصلي إلى السرير وعائشة رضي الله عنه مضطجعة عليه [تحت قطيفتها]). (البخاري ومسلم وأبو يعلى). وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدع شيئا يمر بينه وبين السترة، فقد (كان يصلي؛ إذ جاءت شاة تسعى بين يديه، فساعاها حتى ألزق بطنه بالحائط [ومرت من ورائه]). (ابن خزيمة في صحيحه والطبراني). و (صلى صلاة مكتوبة فضم يده فلما صلى قالوا: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: (لا؛ إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي، فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي، وأيم الله لولا ما سبقني إليه أخي سليمان؛ لارتُبط إلى سارية من سواري المسجد حتى يطيف به ولدان أهل المدينة، [فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد؛ فليفعل]). (أحمد والدارقطني والطبراني بسند صحيح). وكان يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه؛ فليدفع في نحره [وليدرأ ما استطاع] (وفي رواية: فليمنعه مرتين) فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان). (البخاري ومسلم). وكان يقول: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه). (البخاري ومسلم). ما يقطع الصلاة وكان يقول: (يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل: المرأة [الحائض]، والحمار، والكلب الأسود) قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله! ما بال الأسود من الأحمر؟ فقال: (الكلب الأسود شيطان). (مسلم وأبو داود وابن خزيمة). الصلاة تجاه القبر وكان ينهى عن الصلاة تجاه القبر فيقول: (لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها). (مسلم وأبو

النية

داود وابن خزيمة). النية وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى). (البخاري ومسلم وغيرهما). التكبير ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح الصلاة بقول: (الله أكبر) وأمر بذلك (المسيء صلاته) كما تقدم. (مسلم وابن ماجه). وقال له: (إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يقول: الله أكبر). (الطبراني بإسناد صحيح). وكان يقول: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم). (أبو داود والترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). و (كان يرفع صوته بالتكبير حتى يُسمِعَ من خلفه). (أحمد والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي). و (كان إذا مرض؛ رفع أبو بكر صوته يبلغ الناس تكبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (مسلم والنسائي). وكان يقول: (إذا قال الإمام: الله أكبر؛ فقولوا: الله أكبر). (أحمد والبيهقي بسند صحيح). رفعُ اليدين و (كان يرفع يديه تارة مع التكبير، وتارة بعد التكبير، وتارة قبله). (البخاري وأبو داود وابن خزيمة). كان يرفعهما ممدودة الأصابع، [لا يفرج بينها ولا يضمها]). (أبو داود وابن خزيمة). و (كان يجعلهما حذو منكبيه وربما كان يرفعهما حتى يحاذي بهما [فروع] أذنيه). (البخاري وأبو داود). وضع اليمنى على اليسرى والأمر به و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده اليمنى على اليسرى). (مسلم وأبو داود). (وكان يقول: (إنا معشر الأنبياء أمرنا بتعجيل فطرنا وتأخير سحورنا، وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة). (ابن حبان والضياء بسند صحيح). و (مر برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى؛ فانتزعها، ووضع اليمنى على اليسرى). (أحمد وأبو داود بسند صحيح). وضعهما على الصدر و (كان يضع اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد). (أبو داود والنسائي وابن خزيمة بسند صحيح). (وأمر بذلك أصحابه). (مالك والبخاري). و (كان -أحيانًا- يقبض باليمنى على اليسرى). (النسائي والدارقطني بسند صحيح). و (كان يضعهما على الصدر). (أبو داود وابن خزيمة في صحيحه). و (كان ينهى عن الاختصار في الصلاة) (البخاري ومسلم)، وهو الصلب الذي كان ينهى عنه. أبو داود والنسائي. النظر إلى موضع السجود والخشوع و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض). (البيهقي والحاكم).

أدعية الاستفتاح

و (لما دخل الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها). (البيهقي والحاكم وصححه). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي). (أبو داود وأحمد بسند صحيح). و (كان ينهى عن رفع البصر إلى السماء) (البخاري وأبو داود). ويؤكد في النهي حتى قال: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة؛ أو لا ترجع إليهم (وفي رواية: أو لتخطفن أبصارهم). (البخاري ومسلم). وفي حديث آخر: (فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت). (الترمذي والحاكم وصححاه). وقال أيضًا عن التلفت: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد). (البخاري وأبو داود). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يزال الله مقبلًا على العبد في صلاته؛ ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه). (رواه أبو داود وغيره وصححه ابن خزيمة وابن حبان). و (نهى عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب). (أحمد وأبو يعلى). وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك). (ابن ماجه وأحمد وصححه الهيتمي الفقيه). ويقول: (ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب؛ ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله). (مسلم). وقد (صلى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي (وفي رواية: (فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتني). (البخاري ومسلم ومالك). و (كان لعائشة ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إليه فقال: (أخريه عني؛ [فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي]) (البخاري ومسلم). وكان يقول: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان). (البخاري ومسلم). أدعية الاستفتاح ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح القراءة بأدعية كثيرة متنوعة، يحمد الله تعالى فيها، ويمجده ويثني عليه، وقد أمر بذلك (المسيء صلاته) فقال له: (لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يكبر، ويحمد الله جل وعز ويثني عليه، ويقرأ بما تيسر من القرآن ... ). (أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). وكان يقرأ تارة بهذا وتارة بهذا فكان يقول: 1 - (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) وكان يقوله في الفرض. (البخاري ومسلم). 2 - (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا [مسلمًا] وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم!

أنت الملك، لا إله إلا أنت، [سبحانك وبحمدك]، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنبي جميعًا؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها؛ لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك [والمهدي من هديت] أنا بك وإليك، [لا منجا ولا ملجأ منك إلا إليك]، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك). (مسلم وأبو عوانة وغيرهم). وكان يقوله في الفرض والنفل. 3 - مثله دون قوله: (أنت ربي وأنا عبدك) إلخ، ويزيد: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك). (النسائي بسند صحيح). 4 - مثله أيضًا إلى قوله: (وأنا أول المسلمين) ويزيد: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق وأحسن الأعمال؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأخلاق والأعمال؛ لا يقي سيئها إلا أنت). (النسائي والدارقطني بسند صحيح). 5 - (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك). (أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد: سبحانك اللهم ... ). (ابن منده بسند صحيح والنسائي موقوفًا ومرفوعًا). 6 - (مثله ويزيد في صلاة الليل: (لا إله إلا الله (ثلاثًا) الله أكبر كبيرًا (ثلاثًا). (أبو داود والطحاوي بسند حسن). 7 - (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا) استفتح به رجل من الصحابة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عجبت لها فتحت لها أبواب السماء). (مسلم وأبو عوانة). 8 - (الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه) استفتح به رجل آخر فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لقد رأيت اثني عشر ملكًا يبتدرونها أيهم يرفعها). (مسلم وأبو عوانة). 9 - (اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات الأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، [ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن]، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، [أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت]، [وما أنت أعلم به مني]، أنت المقدم وأنت المؤخر، [أنت إلهي]، لا إله إلا أنت، [ولا حول ولا قوة إلا بك]). (البخاري ومسلم). وكان يقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الليل كالأنواع الآتية: 10 - (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). (مسلم وأبو عوانة).

القراءة

11 - كان يكبر عشرًا، ويحمد عشرًا، ويسبح عشرًا، ويهلل عشرًا، ويستغفر عشرًا، ويقول: (اللهم اغفر لي واهدني وارزقني [وعافني]) عشرًا، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب عشرًا). (أحمد وابن أبي شيبة). 12 - (الله أكبر [ثلاثًا] ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة). (الطيالسي وأبو داود بسند صحيح). القراءة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ بالله تعالى فيقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه). (أبو داود وابن ماجه والدارقطني). وكان أحيانًا يزيد فيه فيقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان ... ). (أبو داود والترمذي بسند حسن). ثم يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا يجهر بها. (البخاري ومسلم). القراءةُ آيةً آيةً ثم يقرأ الفاتحة ويقطعها آية آية: بسم الله الرحمن الرحيم، [ثم يقف، ثم يقول:] الحمد لله رب العالمين، [ثم يقف، ثم يقول:] الرحمن الرحيم، [ثم يقف، ثم يقول:] مالك يوم الدين، وهكذا إلى آخر السورة، وكذلك كانت قراءته كلها، يقف على رؤوس الآي ولا يصلها بما بعدها. (أبو داود والسهمي). وكان تارة يقرؤها: ملك يوم الدين. (تمام الرازي وابن أبي داود في المصاحف). ركنية (الفاتحة) وفضائلها: وكان يعظم من شأن هذه السورة، فكان يقول: (لا صلاة لمن لا يقرأ [فيها] بفاتحة الكتاب [فصاعدًا]). (البخاري ومسلم). وفي لفظ: (لا تجزئ صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة الكتاب) (الدارقطني وصححه وابن حبان). وتارة يقول: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب؛ فهي خداج، هي خداج، هي خداج؛ غير تمام). (مسلم وأبو عوانة). ويقول: (قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة -يعني الفاتحة- بيني وبين عبدي نصفين: فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل) (مسلم وأبو عوانة ومالك). وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقرؤوا: يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله تعالى: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول العبد: مالك يوم الدين، يقول الله تعالى: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، [قال]: فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، [قال]: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل). وكان يقول: (ما أنزل الله عز وجل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني

نسخ القراءة وراء الإمام في الجهرية

[والقرآن العظيم الذي أوتيته]). (النسائي والحاكم). وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (المسيء صلاته) أن يقرأ بها في صلاته، (أبو داود وابن خزيمة والحاكم وغيرهم) وقال لمن لم يستطع حفظها: (قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله). (البخاري). وقال للمسيء صلاته: (فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله). (أبو داود والترمذي وحسنه). نسخ القراءة وراء الإمام في الجهرية وكان قد أجاز للمؤتمين أن يقرؤوا بها وراء الإمام في الصلاة الجهرية، حيث كان (في صلاة الفجر فقرأ فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: (لعلكم تقرؤون خلف إمامكم) قلنا نعم هذا يا رسول الله قال: (لا تفعلوا؛ إلا [أن يقرأ أحدكم] بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها). (البخاري). ثم نهاهم عن القراءة كلها في الجهرية وذلك حينما (انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة (وفي رواية: أنها صلاة الصبح) فقال: (هل قرأ معي منكم أحد آنفًا؟!) فقال رجل: نعم، أنا يا رسول الله فقال: إني أقول: (ما لي أنازع؟!). [قال أبو هريرة:] فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فيما جهر فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقراءة- حين سمعوا ذلك من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [وقرؤوا في أنفسهم سرًا فيما لا يجهر فيه الإمام]). (مالك والحميدي والبخاري في جزئه). وجعل الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به فقال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا). (مسلم وأبو عوانة). كما جعل الاستماع له مغنيًا عن القراءة وراءه فقال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) هذا في الجهرية. (ابن أبي شيبة والدارقطني). وجوب القراءة في السرية وأما في السرية فقد أقرهم على القراءة فيها فقال جابر: (كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الآخريين بفاتحة الكتاب). (ابن ماجة بسند صحيح). وإنما أنكر التشويش عليه بها، وذلك حين (صلى الظهر بأصحابه فقال: (أيكم قرأ سبح اسم ربك الأعلى)؟ فقال رجل: أنا [ولم أرد بها إلا الخير]. فقال: (قد عرفت أن رجلًا خالجنيها). (مسلم وأبو عوانة). وفي حديث آخر: (كانوا يقرؤون خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فيجهرون به]، فقال: (خلطتم عليّ القرآن). (البخاري). وقال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن). (البخاري في (أفعال العباد) بسند صحيح). وكان يقول: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف ولكن (ألف) حرف، و (لام) حرف، و (ميم) حرف). (الترمذي والحاكم بسند صحيح).

التأمين وجهر الإمام به

التأمين وجهر الإمام به ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انتهى من قراءة الفاتحة قال: (آمين)، يجهر ويمد بها صوته). (البخاري في جزء القراءة). وكان يأمر المقتدين بالتأمين بُعيد تأمين الإمام فيقول: (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، [فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين] (وفي لفظ: إذا أمن الإمام فأمنوا)، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة (وفي لفظ آخر: إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافق إحداهما الآخر) غفر له ما تقدم من ذنبه). (البخاري ومسلم). وفي حديث آخر: (فقولوا: آمين يجبك الله). (مسلم وأبو عوانة). (وكان يقول: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين [خلف الإمام]). (البخاري في الأدب المفرد). قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الفاتحة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بعد الفاتحة سورة غيرها، وكان يطيلها أحيانًا، ويقصرها أحيانًا لعارض سفر، أو سعال، أو مرض، أو بكاء صبي؛ كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (جوّز صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم في الفجر) (وفي حديث آخر: صلى الصبح فقرأ بأقصر سورتين في القرآن) فقيل: يا رسول الله لم جوزت؟ قال: (سمعت بكاء صبي، فظننت أن أمه معنا تصلي، فأردت أن أفرغ له أمه). (أحمد بسند صحيح). وكان يقول: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه). (البخاري ومسلم). وكان يبتدئ من أول السورة ويكملها في أغلب أحواله. ويقول: (أعطوا كل سورة حظّها من الركوع والسجود). (ابن أبي شيبة وأحمد). (وفي لفظ: (لكل سورة ركعة). (ابن نصر والطحاوي بسند صحيح). وكان تارة يقسمها في ركعتين وتارة يعيدها كلها في الركعة الثانية. (أحمد وأبو يعلى). وكان أحيانًا يجمع في الركعة الواحدة بين السورتين أو أكثر. (وقد كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد (قباء)، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ قل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه الخبر، فقال: (يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟). فقال: إني أحبها. فقال: (حبك إياها أدخلك الجنة). (البخاري تعليقًا والترمذي موصولًا وصححه). جمعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النظائر وغيرها في الركعة و (كان يقرن بين النظائر من المفصل، فكان يقرأ سورة: الرحمن (55: 78) والنجم

جواز الاقتصار على الفاتحة

(53: 62) في ركعة واقتربت (54: 55) والحاقة (69: 52) في ركعة، والطور (52: 49) والذاريات (51: 60) في ركعة، وإذا وقعت (56: 69)، ون (68: 52) في ركعة، وسأل سائل (70: 44) والنازعات (79: 46) في ركعة، وويل للمطففين (83: 36) وعبس (80: 42) في ركعة، والمدثر (74: 56) والمزمل (73: 20) في ركعة، وهل أتى (76: 31) ولا أقسم بيوم القيامة (75: 40) في ركعة، وعم يتساءلون (78: 40) والمرسلات (77: 50) في ركعة، والدخان (44: 59) وإذا الشمس كورت (81: 29) في ركعة). (البخاري ومسلم). وكان أحيانًا يجمع بين السور من السبع الطوال؛ كـ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة من صلاة الليل كما سيأتي وكان يقول: (أفضل الصلاة طول القيام). (مسلم والطحاوي). و (كان إذا قرأ: أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى قال: سبحانك فبلى، وإذا قرأ سبح اسم ربك الأعلى قال: (سبحان ربي الأعلى). (أبو داود والبيهقي بسند صحيح). جواز الاقتصار على الفاتحة و (كان معاذ يصلي مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء [الآخرة] ثم يرجع فيصلي بأصحابه فرجع ذات ليلة فصلى بهم، وصلى فتى من قومه [من بني سلمة يقال له: سليم]، فلما طال على الفتى؛ [انصرف فـ] صلى [في ناحية المسجد]، وخرج وأخذ بخطام بعيره وانطلق، فلما صلى معاذ، ذكر ذلك له، فقال إن هذا به لنفاق لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع، وقال الفتى: وأنا لأخبرن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي صنع. فغدوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره معاذ بالذي صنع الفتى، فقال الفتى: يا رسول الله يطيل المكث عندك ثم يرجع فيطيل علينا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أفتان أنت يا معاذ؟!) وقال للفتى: (كيف تصنع أنت يا ابن أخي إذا صليت؟). قال: أقرأ بفاتحة الكتاب، وأسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك ودندنة معاذ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إني ومعاذ حول هاتين، أو نحو ذا) قال: فقال الفتى: ولكن سيعلم معاذ إذا قَدِم القوم وقد خبروا أن العدو قد أتوا. قال: فقدموا فاستشهد الفتى، فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك لمعاذ: (ما فعل خصمي وخصمك؟). قال: يا رسول الله صدق الله وكذبتُ؛ استشهد). (ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي بسند جيد). الجهر والإسرار في الصلوات الخمس وغيرها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء ويسر بها في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والأخريين من العشاء. وكانوا يعرفون قراءته فيما يسر به باضطراب لحيته. (البخاري وأبو داود) وبإسماعه إياهم الآية أحيانًا. (البخاري ومسلم). وكان يجهر بها أيضًا في صلاة الجمعة والعيدين والاستسقاء. (البخاري وأبو داود)، والكسوف. (البخاري ومسلم).

الجهر والإسرار في القراءة في صلاة الليل

الجهر والإسرار في القراءة في صلاة الليل وأما في صلاة الليل فكان تارة يسر وتارة يجهر. (البخاري ومسلم). و (كان إذا قرأ وهو في البيت يسمع قراءته من في الحجرة). (أبو داود والترمذي). و (كان ربما رفع صوته أكثر من ذلك حتى يسمعه من كان على عريشه). (أي خارج الحجرة). (النسائي والترمذي). وبذلك أمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وذلك حينما (خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته ومر بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يصلي رافعًا صوته، فلما اجتمعا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك؟). قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله وقال لعمر: (مررت بك وأنت تصلي رافعًا صوتك؟). فقال: يا رسول الله أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئًا)، وقال لعمر: (اخفض من صوتك شيئًا). (أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). وكان يقول: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة). (أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات وأما ما كان يقرؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات من السور والآيات فإن ذلك يختلف باختلاف الصلوات الخمس وغيرها وهاك تفصيل ذلك مبتدئين بالصلاة الأولى من الخمس: 1 - صلاة الفجر: كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها بطوال المفصل، فـ (كان -أحيانًا- يقرأ: الواقعة (56: 96) ونحوها من السور في الركعتين). (النسائي وأحمد بسند صحيح). وقرأ من سورة الطور (52: 49) وذلك في حجة الوداع. (البخاري ومسلم). و (كان -أحيانًا- يقرأ: ق والقرآن المجيد (50: 45) ونحوها في [الركعة الأولى]). (مسلم والترمذي). و (كان -أحيانًا- يقرأ بقصار المفصل كـ إذا الشمس كورت (81: 15). (مسلم وأبو داود). و (قرأ مرة: إذا زلزلت (99: 8) في الركعتين كلتيهما؛ حتى قال الراوي: فلا أدري؛ أنسي رسول الله أم قرأ ذلك عمدًا؟). (أبو داود والبيهقي بسند صحيح). و (قرأ -مرة- في السفر قل أعوذ برب الفلق (113: 5) وقل أعوذ برب الناس (114: 6). (أبو داود وابن خزيمة). وقال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: (اقرأ في صلاتك المعوذتين، [فما تعوذ متعوذ بمثلهما]). (أبو داود وأحمد بسند صحيح). وكان أحيانًا يقرأ بأكثر من ذلك، فـ (كان يقرأ ستين آية فأكثر)، قال في بعض رواته: لا أدري في إحدى الركعتين أو في كلتيهما؟. (البخاري ومسلم). و (كان يقرأ بسورة الروم (30: 60). (النسائي وأحمد والبزار بسند جيد).

القراءة في سنة الفجر

وأحيانًا- بسورة يس (36: 83). (أحمد بسند صحيح). ومرة (صلى الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين (23: 118) حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى. -شك بعض الرواة- أخذته سعلة فركع). (البخاري ومسلم). و (كان -أحيانًا- يؤمهم فيها بـ الصافات (77: 128). (أحمد وأبو يعلى). و (كان يصليها يوم الجمعة بـ ألم تنزيل السجدة (32: 30) [في الركعة الأولى، وفي الثانية] بـ هل أتى على الإنسان (76: 31). (البخاري ومسلم). و (كان يطول في الركعة الأولى ويقصر في الثانية). (البخاري ومسلم). القراءة في سنة الفجر وأما قراءته في ركعتي سنة الفجر فكانت خفيفة جدًا. (أحمد بسند صحيح). حتى إن عائشة رضي الله عنه كانت تقول: (هل قرأ فيها بأم الكتاب؟). (البخاري ومسلم). و (كان -أحيانًا- يقرأ بعد الفاتحة في الأولى منهما آية (2: 136): قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى آخر الآية وفي الأخرى (3: 64): قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلى آخرها). (مسلم وابن خزيمة والحاكم). و (ربما قرأ بدلها (23: 52): فلما أحس عيسى منهم الكفر إلى آخر الآية). (مسلم وأبو داود). (وأحيانًا يقرأ: قل يا أيها الكافرون (109: 6) في الأولى وقل هو الله أحد (112: 4) في الأخرى. (مسلم وأبو داود). وكان يقول: (نعم السورتان هما). (ابن ماجه وابن خزيمة). و (سمع رجلًا يقرأ السورة الأولى في الركعة الأولى فقال: [(هذا عبد آمن بربه) ثم قرأ السورة الثانية الأخرى فقال: (هذا عبد عرف ربه)]). (ابن حبان في صحيحه). 2 - صلاة الظهر: و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين بـ فاتحة الكتاب وسورتين، ويطول في الأولى ما لا يطول في الثانية). (البخاري ومسلم). وكان أحيانًا يطيلها حتى أنه (كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضى حاجته، [ثم يأتي منزله]، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الركعة الأولى مما يطولها). (مسلم، والبخاري في جزء القراءة). و (كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى). (أبو داود بسند صحيح). و (كان يقرأ في كل من الركعتين قدر ثلاثين آية؛ قدر قراءة ألم تنزيل السجدة (22: 30) وفيها الفاتحة. (أحمد ومسلم). وأحيانًا (كان يقرأ بـ السماء والطارق، والسماء ذات البروج، والليل إذا يغشى، ونحوها من السور). (أبو داود والترمذي وصححه).

قراءته صلى الله عليه وسلم آيات بعد الفاتحة في الأخيرتين

وربما (قرأ: إذا السماء انشقت ونحوها). (ابن خزيمة في صحيحه). و (كانوا يعرفون قراءته في الظهر والعصر باضطراب لحيته). (البخاري وأبو داود). قراءته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات بعدَ الفاتحة في الأخيرتين و (كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين قدر النصف؛ قدر خمس عشرة آية). (أحمد ومسلم). (وربما اقتصر فيها على الفاتحة). (البخاري ومسلم). وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة الفاتحة في كل ركعة (أبو داود وأحمد بسند قوي) حيث قال له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها). (البخاري ومسلم). (وفي رواية: (في كل ركعة). (أحمد بسند جيد). و (كان يسمعهم الآية أحيانًا). (البخاري ومسلم). و (كانوا يسمعون منه النغمة بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية (26: 88). (ابن خزيمة في صحيحه). و (كان أحيانًا يقرأ بـ (والسماء ذات البروج) (85: 22) وبـ والسماء والطارق (86: 17) ونحوهما من السور). (البخاري والترمذي وصححه). و (أحيانًا يقرأ بـ والليل إذا يغشى (92: 21) ونحوها). (مسلم والطيالسي). 3 - صلاة العصر: و (كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الأوليين بـ فاتحة الكتاب وسورتين، ويطول في الأولى ما لا يطول في الثانية). (البخاري ومسلم). و (كانوا يظنون أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة). (أبو داود بسند صحيح). و (كان يقرأ في كل منهما قدر خمس عشرة آية؛ قدر نصف ما يقرأ في كل من الركعتين الأوليين في الظهر). و (كان يجعل الركعتين الأخيرتين أقصر من الأوليين؛ قدر نصفهما). (أحمد ومسلم). و (كان يقرأ فيهما بـ فاتحة الكتاب). (البخاري ومسلم). و (كان يسمعهم الآية أحيانًا). (البخاري ومسلم). ويقرأ بالسور التي ذكرناها في (صلاة الظهر). 4 - صلاة المغرب: و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ فيها -أحيانًا- بقصار المفصل). (البخاري ومسلم). حتى إنهم (كانوا إذا صلوا معه، وسلم بهم؛ انصرف أحدهم وإنه ليبصر مواقع نبله). (النسائي وأحمد بسند صحيح). و (قرأ في سفر بـ والتين والزيتون (95: 8) في الركعة الثانية). (الطيالسي وأحمد بسند

القراءة في سنة المغرب

صحيح). وكان أحيانًا يقرأ بطوال المفصل وأوساطه فـ (كان تارة يقرأ بـ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله (47: 38). (صحيح). وتارة بـ والطور (52: 49). (البخاري ومسلم). وتارة بـ والمرسلات (77: 50) قرأ بها في آخر صلاة صلاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (البخاري ومسلم). و (كان أحيانًا يقرأ بطولى الطوليين: [الأعراف (7: 206)] [في الركعتين]). (البخاري). القراءة في سنة المغرب وأما سنة المغرب البعدية فـ (كان يقرأ فيها: قل يا أيها الكافرون (6: 109) وقل هو الله أحد (112: 4). (أحمد والنسائي والمقدسي). 5 - صلاة العشاء: (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعتين الأوليين من وسط المفصل). (صحيح) فـ (كان تارة يقرأ بـ والشمس وضحاها (91: 15) وأشباهها من السور). (أحمد والترمذي وحسنه). و (تارة بـ إذا السماء انشقت (84: 25) وكان يسجد بها). (البخاري ومسلم). و (قرأ -مرة- في سفر بـ التين والزيتون (95: 8) [في الركعة الأولى]). (البخاري ومسلم). ونهى عن إطالة القراءة فيها، وذلك حين (صلى معاذ بن جبل لأصحابه العشاء فطول عليهم، فانصرف رجل من الأنصار فصلى، فأخبر معاذ عنه فقال: إنه منافق. ولما بلغ ذلك الرجل دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره ما قال معاذ، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ؟ إذا أممت الناس؛ فأقرأ بـ والشمس وضحاها (91: 15) وسبح اسم ربك الأعلى (77: 19) واقرأ باسم ربك (96: 19) ووالليل إذا يغشى (92: 21) [فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة]). (البخاري ومسلم والنسائي). 6 - صلاة الليل: (وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربما جهر بالقراءة فيها، وربما أسر؛ يقصر القراءة فيها تارة, ويطيلها أحيانًا, ويبالغ في إطالتها أحيانًا أخرى (صحيح)، حتى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة؛ فلم يزل قائمًا حتى هممت بأمر سوء ,قيل: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). (مسلم والنسائي). وقال حذيفة بن اليمان: (صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في [ركعتين] فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلًا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع ... ) الحديث. (البخاري ومسلم). و (قرأ ليلة وهو وجع السبع الطوال). (صححه الحاكم ووافقه الذهبي). و (كان -أحيانًا- يقرأ في كل ركعة بسورة منها). (صحيح). و (ما علم أنه قرأ القرآن كله في ليلة [قط]) (مسلم وأبو داود)، بل إنه لم يرض ذلك لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه حين قال له: (اقرأ القرآن في كل شهر)، قال: قلت: إني أجد قوة. قال: (فاقرأه في عشرين ليلة)، قال: قلت: إني أجد قوة. قال: (فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك). (البخاري ومسلم).

ثم (رخص له أن يقرأه في خمس). (النسائي الترمذي وصححه). ثم (رخص له أن يقرأه في ثلاث). (البخاري وأحمد). ونهاه أن يقرأه في أقل من ذلك، وعلل ذلك في قوله له: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه). (أحمد بسند صحيح). وفي لفظ: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) (الدارمي والترمذي). ثم في قوله له: (فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فإما إلى سنة؛ وإما إلى بدعة، فمن كانت إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك). (أحمد وابن حبان في صحيحه). ولذلك (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث). (ابن سعد وأبو الشيخ في أخلاق النبي). وكان يقول: (من صلى في ليلة بمائتي آية؛ فإنه يكتب من القانتين المخلصين). (الدارمي والحاكم وصححه). و (كان يقرأ في كل ليلة بـ ـ بني إسرائيل (17: 111) والزمر (39: 75). (أحمد وأبو داود بسند صحيح). وكان يقول: (من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين). (الدارمي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). و (كان -أحيانًا- يقرأ في كل ركعة قدر خمسين آية أو أكثر). (البخاري وأبو داود). وتارة (يقرأ قدر يا أيها المزمل (73: 20). (أحمد وأبو داود بسند صحيح). و (ما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الليل كله). إلا نادرًا. (مسلم وأبو داود). فقد (راقب عبد الله ابن خباب بن الأرت -وكان قد شهد بدرًا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الليلة كلها (وفي لفظ: في ليلة صلاها كلها) حتى كان مع الفجر، فلما سلم من صلاته قال له خباب: يا رسول الله بأبي أنت وأمي؛ لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ فقال: (أجل؛ إنها صلاة رغب ورهب، [وإني] سألت ربي عز وجل ثلاث خصال؛ فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا (وفي لفظ: أن لا يهلك أمتي بسنة)؛ فأعطانيها وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدوًا من غيرنا؛ فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يُلبسنا شيعًا؛ فمنعنيها). (النسائي وأحمد وصححه الترمذي). و (قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح وهي: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (5: 118) [بها يركع، وبها يسجد، وبها يدعو] [فلما أصبح قال له أبو ذر رضي الله عنه: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها]، [وتدعو بها]، [وقد علمك الله القرآن كله]، [لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه؟] [قال: (إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي؛ فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا)]. (النسائي وابن خزيمة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). و (قال له رجل: يا رسول الله إن لي جارًا يقوم الليل ولا يقرأ إلا قل هو الله أحد (112: 4) [يرددها] [لا يزيد عليها]-كأنه يقللها- فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده؛ إنها لتعدل ثلث القرآن). (أحمد والبخاري).

7 - صلاة الوتر:

7 - صلاة الوتر: (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الركعة الأولى سبح اسم ربك الأعلى (87: 19)، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون (109: 6)، وفي الثالثة قل هو الله أحد (112: 4). (النسائي والحاكم وصححه). وكان يضيف إليها أحيانًا: قل أعوذ برب الفلق (113: 5) وقل أعوذ برب الناس (114: 6). (الترمذي وأبو العباس وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). ومرة: (قرأ في ركعة الوتر بمائة آية من النساء (4: 176). (النسائي وأحمد بسند صحيح). وأما الركعتان بعد الوتر فكان يقرأ فيهما إذا زلزلت الأرض (99: 8) وقل يا أيها الكافرون. (أحمد وابن نصر وابن حبان بسند حسن صحيح). 8 - صلاة الجمعة: (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ -أحيانًا- في الركعة الأولى بسورة الجمعة (62: 11) وفي الأخرى: إذا جاءك المنافقون (63: 11) وتارة يقرأ -بدلها-: هل أتاك حديث الغاشية (88: 26). (مسلم وأبو داود). وأحيانًا (يقرأ في الأولى: سبح اسم ربك الأعلى (87: 19) وفي الثانية: هل أتاك). (مسلم وأبو داود). 9 - صلاة العيدين: (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ -أحيانًا- في الأولى سبح اسم ربك الأعلى، وفي الأخرى: هل أتاك). (مسلم وأبو داود). وأحيانًا- (يقرأ فيهما بـ ق والقرآن المجيد (50: 45) واقتربت الساعة (54: 55). (مسلم وأبو داود). 10 - صلاة الجنازة: (السنة أن يقرأ فيها بـ فاتحة الكتاب [وسورة]) (البخاري وأبو داود والنسائي). و (يخافت فيها مخافتة بعد التكبيرة الأولى). (النسائي والطحاوي بسند صحيح). ترتيل القرآءة وتحسين الصوت بها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما أمره الله تعالى- يرتل القرآن ترتيلًا، لا هذا ولا عجلة، بل قراءة (مفسرة حرفًا حرفًا). (أبو داود وأحمد بسند صحيح). حتى (كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها). (مسلم ومالك). وكان يقول: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها). (أبو داود والترمذي وصححه). و (كان يمد قراءته (عند حروف المد) فيمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم)، ونضيد (البخاري) وأمثالها. وكان يقف على رؤوس الآي كما سبق بيانه. (البخاري). وكان -أحيانًا- يرجع صوته كما فعل يوم فتح مكة وهو على ناقته يقرأ سورة الفتح

الفتح على الإمام

(48: 29) [قراءة لينة]، وقد حكى عبد الله ابن مغفل ترجيعه هكذا (آآ آ). (البخاري ومسلم). وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن فيقول: (زينوا القرآن بأصواتكم؛ [فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا]). (البخاري تعليقًا). ويقول: (إن من أحسن الناس صوتًا بالقرآن؛ الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله). (صحيح). وكان يأمر بالتغني بالقرآن فيقول: (تعلموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده؛ لهو أشد من المخاض في العقل). (الدارمي وأحمد بسند صحيح). ويقول: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن). (أبو داود وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). ويقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن (وفي لفظ: كأذنه) لنبي [حسن الصوت (وفي لفظ: حسن الترنم)] يتغنى بالقرآن [يجهر به]). (البخاري ومسلم). وقال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود) [فقال أبو موسى: لو علمت مكانك؛ لحبرت لك -يريد تحسين الصوت- تحبيرًا]. (البخاري ومسلم). الفتح على الإمام وسن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتح على الإمام إذا لُبست عليه القراءة؛ فقد (صلى صلاة، فقرأ فيها، فلُبس عليه فلما انصرف قال لأبي: (أصليت معنا؟) قال: نعم، قال: (فما منعك [أن تفتح عليّ]؟). (أبو داود وابن حبان والطبراني). الاستعاذة والتفلُ في الصلاة لدفع الوسوسة وقال له عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي؛ يلبسها عليَّ؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذاك شيطان يقال له: خنزب؛ فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا) قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. (مسلم وأحمد). الركوع ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فرغ من القراءة سكت سكتة، ثم رفع يديه على الوجوه المتقدمة في (تكبيرة الافتتاح) وكبر وركع. (صحيح). وأمر بهما (المسيء صلاته) فقال له: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... ثم يكبر الله ويحمده ويمجده، ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وأذن له فيه، ثم يكبر ويركع، [ويضع يديه على ركبتيه] حتى تطمئن مفاصله وتسترخي .. ). الحديث. (أبو داود والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). صفة الركوع و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع كفيه على ركبتيه) البخاري وأبو داود و (كان يأمرهم بذلك). وأمر به أيضًا (المسيء صلاته) كما مر آنفًا. (صحيح). و (كان يمكن يديه من ركبتيه [كأنه قابض عليهما]). (البخاري وأبو داود).

وجوب الطمأنينة في الركوع

و (كان يُفرج بين أصابعه)، وأمر به (المسيء صلاته) فقال: (إذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك، ثم فرج بين أصابعك، ثم امكث حتى يأخذ كل عضو مأخذه). (ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما). و (كان يجافي وينجي مرفقيه عن جنبيه). (الترمذي وصححه ابن خزيمة). و (كان إذا ركع بسط ظهره وسواه) (البيهقي بسند صحيح والبخاري)؛ حتى لو صب عليه الماء لاستقر) (الطبراني، وعبد بن أحمد في زوائد المسند وابن ماجة). وقال لـ (المسيء صلاته): (فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك، ومكن لركوعك). (أحمد وأبو داود بسند صحيح). و (كان لا يصب رأسه، ولا يقنع) ولكن بين ذلك. (صحيح). وجوب الطمأنينة في الركوع و (كان يطمئن في ركوعه)، وأمر به (المسيء صلاته) كما سلف أول الفصل السابق. وكان يقول: (أتموا الركوع والسجود؛ فوالذي نفسي بيده؛ إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم، وما سجدتم). و (رأى رجلًا لا يتم ركوعه وينقر في سجوده وهو يصلي، فقال: (لو مات هذا على حاله هذه، مات على غير ملة محمد؛ [ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم]، مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده؛ مثل الجائع الذي يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئًا). (أبو يعلى في مسنده والبيهقي والطبراني وصححه ابن خزيمة). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (نهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنقر في صلاتي نقر الديك، وأن ألتفت التفات الثعلب، وأن أقعي كإقعاء القرود). (حديث حسن). وكان يقول: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته). قالوا: يا رسول الله وكيف يسرق من صلاته؟ قال: (لا يتم ركوعها وسجودها). (ابن أبي شيبة والطبراني وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). و (كان يصلي؛ فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف قال: (يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود). (ابن أبي شيبة وابن ماجة وأحمد بسند صحيح). أذكار الركوع وكان يقول في هذا الركن أنواعًا من الأذكار والأدعية تارة بهذا وتارة بهذا: 1 - (سبحان ربي العظيم (ثلاث مرات). (أحمد وأبو داود وابن ماجة والدارقطني). وكان -أحيانًا- يكررها أكثر من ذلك. وبالغ مرة في تكرارها في صلاة الليل؛ حتى كان ركوعة قريبًا من قيامه وكان يقرأ فيه ثلاث سورة من الطوال: البقرة والنساء وآل عمران يتخللها دعاء واستغفار؛ كما سبق في (صلاة الليل). 2 - (سبحان ربي العظيم وبحمده (ثلاثًا). (صحيح). 3 - (سبوح قدوح رب الملائكة والروح). (مسلم وأبو عوانة). 4 - (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي. وكان يكثر -منه- في ركوعه وسجوده؛ يتأول

إطالة الركوع

القرآن). (البخاري ومسلم). 5 - اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، [أنت ربي]، خشع لك سمعي وبصري، ومخي وعظمي (وفي رواية وعظامي) وعصبي، [وما استقلت به قدمي لله رب العالمين]). (النسائي بسند صحيح). 6 - (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين). (مسلم وأبو عوانة والطحاوي والدارقطني). 7 - (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) وهذا قاله في صلاة الليل. (أبو داود والنسائي بسند صحيح). إطالة الركوع و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل ركوعه، وقيامه بعد الركوع، وسجوده، وجلسته بين السجدتين قريبًا من السواء). (البخاري ومسلم). النهي عن قراءة القرآن في الركوع و (كان ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود). (مسلم وأبو عوانة). وكان يقول: (ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم). (مسلم وأبو عوانة). الاعتدال من الركوع وما يقول فيه ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع صلبه من الركوع قائلًا: (سمع الله لمن حمده). (البخاري ومسلم). وأمر بذلك (المسيء صلاته)، فقال له: (لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يكبر ... ثم يركع ... ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا). (أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). وكان إذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه. (البخاري وأبو داود). ثم (كان يقول وهو قائم: (ربنا [و] لك الحمد). (البخاري وأبو داود). وأمر بذلك كل مصل مؤتمًا أو غيره فقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وكان يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به .. وإذا قال: سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: ([اللهم] ربنا ولك الحمد)؛ يسمع الله لكم فإن الله تبارك وتعالى قال على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمع الله لمن حمده). (مسلم وأبو عوانة وأحمد وأبو داود). وعلل الأمر بذلك في حديث آخر بقوله: (فإنه من وافق قوله قول الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه). (البخاري ومسلم وصححه الترمذي). وكان يرفع يديه عند هذا الاعتدال على الوجوه المتقدمة في تكبيرة الإحرام، ويقول -وهو قائم- كما مر آنفًا: 1 - (ربنا ولك الحمد). (البخاري ومسلم). وتارة يقول: 2 - (ربنا لك الحمد). (البخاري ومسلم). وتارة يضيف إلى هذين اللفظين قوله: 3 - و4 - (اللهم). (البخاري وأحمد). وكان يأمر بذلك فيقول: (إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده؛ فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه). (البخاري ومسلم). وكان تارة يزيد على ذلك إما:

إطالة هذا القيام، ووجوب الاطمئنان فيه

5 - (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد). (مسلم وأبو عوانة). وإما: 6 - (ملء السماوات و [ملء] الأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد). (مسلم وأبو عوانة). وتارة يضيف إلى ذلك قوله: 7 - (أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). (مسلم وأبو عوانة). وتارة تكون الإضافة: 8 - (ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، [اللهم] لا مانع لما أعطيت، [ولا معطي لما منعت]، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). (مسلم وأبو عوانة). وتارة يقول في صلاة الليل: 9 - (لربي الحمد، لربي الحمد) يكرر ذلك؛ حتى كان قيامه نحوًا من ركوعه الذي كان قريبًا من قيامه الأول وكان قرأ فيه سورة البقرة). (أبو داود والنسائي بسند صحيح). 10 - (ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، [مباركًا عليه؛ كما يحب ربنا ويرضى]). قاله رجل كان يصلي وراءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما رفع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركعة وقال: (سمع الله لمن حمده) فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من المتكلم آنفًا؟) فقال الرجل: أنا يا رسول الله فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أولًا). (مالك والبخاري وأبو داود). إطالة هذا القيام، ووجوب الاطمئنان فيه وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل قيامه هذا قريبًا من ركوعه كما تقدم، بل (كان يقوم أحيانًا حتى يقول القائل: (قد نسي [من طول ما يقوم]). (البخاري ومسلم). وكان يأمر بالاطمئنان فيه فقال لـ (المسيء صلاته): (ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائمًا؛ [فيأخذ كل عظم مأخذه] (وفي رواية: (وإذا رفعت فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها). وذكر له: (أنه لا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك). (البخاري ومسلم). وكان يقول: (لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعها وسجودها). (أحمد والطبراني في (الكبير) بسند صحيح). السجود ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكبر ويهوي ساجدًا) (صحيح). وأمر بذلك (المسيء صلاته) فقال له: (لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يقول: سمع الله لمن حمده؛ حتى يستوي قائمًا ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله). (أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). و (كان إذا أراد أن يسجد كبر، [ويجافي يديه عن جنبيه]، ثم يسجد). (رواه أبو يعلى بسند جيد وابن خزيمة بسند آخر صحيح).

الخرور إلى السجود على اليدين

الخرور إلى السجود على اليدين و (كان يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه). (ابن خزيمة والدارقطني). وكان يأمر بذلك فيقول: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه). (أبو داود). وكان يقول: (إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه؛ فليضع يديه، وإذا رفع؛ فليرفعهما). (ابن خزيمة وأحمد والسراج وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). و (كان يعتمد على كفيه [ويبسطهما]). ويضم أصابعهما. ويوجهها قبل القبلة. (البيهقي بسند صحيح). و (كان يجعلهما حذو منكبيه) أبو داود والترمذي. وأحيانًا (حذو أذنيه). (أبو داود والنسائي بسند صحيح). و (كان يمكن أنفه وجبهته من الأرض). (أبو داود والترمذي، وصححه هو وابن الملقن). وقال لـ (المسيء صلاته): (إذا سجدت فمكن لسجودك). (أبو داود وأحمد بسند صحيح). وفي رواية (إذا أنت سجدت؛ فأمكنت وجهك ويديك؛ حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه). (ابن خزيمة بسند حسن). وكان يقول: (لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين). (الدارقطني والطبراني). و (كان يمكن أيضًا ركبتيه وأطراف قدميه). و (يستقبل [بصدور قدميه و] بأطراف أصابعهما القبلة)، و (يرص عقبيه). و (ينصب رجليه)، و (أمر به)، وكان يفتح أصابعهما. (صحيح). فهذه سبعة أعضاء كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسجد عليها: الكفان والركبتان والقدمان والجبهة والأنف. وقد جعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضوين الأخيرين كعضو واحد في السجود حيث قال: (أمرت أن أسجد (وفي رواية: أمرنا أن نسجد) على سبع أعظم: على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين (وفي لفظ: الكفين) والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر). (البخاري ومسلم). وكان يقول: (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه وقدماه). (مسلم وأبو عوانة وابن حبان). وقال في رجل صلى ورأسه معقوص من ورائه: (إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف). (مسلم وأبو عوانة) وقال أيضًا: (ذلك كفل الشيطان). يعني: مقعد الشيطان. يعني مغرز ضفره. (أبو داود والترمذي وحسنه). و (كان لا يفترش ذراعيه)؛ بل (كان يرفعهما عن الأرض ويباعدهما عن جنبيه حتى يبدو بياض إبطيه من ورائه)، و (حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر تحت يديه؛ مرت). (صحيح). وكان يبالغ في ذلك حتى قال بعض أصحابه: (إنا كنا لنأوي "نرق" لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مما يجافي بيديه عن جنبيه إذا سجد). (أبو داود وابن ماجه بسند حسن). وكان يأمر بذلك فيقول: (إذا سجدت؛ فضع كفيك وارفع مرفقيك). (مسلم وأبو عوانة). ويقول: (اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط (وفي لفظ: كما يبسط) الكلب).

وجوب الطمأنينة في السجود

(البخاري ومسلم). وفي لفظ آخر وحديث آخر: (ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب). (أحمد والترمذي وصححه). وكان يقول: (لا تبسط ذراعيك [بسط السبع] وادعم على راحتيك وتجاف عن ضبعيك؛ فإنك إذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك معك). (ابن خزيمة والمقدسي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). وجوب الطمأنينة في السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بإتمام الركوع والسجود، ويضرب لمن لا يفعل ذلك مثل الجائع؛ يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئًا وكان يقول فيه: (إنه من أسوء الناس سرقة). وكان يحكم ببطلان صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود؛ كما سبق تفصيله في (الركوع) وأمر (المسيء صلاته) بالاطمئنان في السجود، كما تقدم في أول الباب. أذكار السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذا الركن أنواعًا من الأذكار والأدعية تارة هذا وتارة هذا: 1 - (سبحان ربي الأعلى (ثلاث مرات). (أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني). و (كان -أحيانًا- يكررها أكثر من ذلك). وبالغ في تكرارها مرة في صلاة الليل حتى كان سجوده قريبًا من قيامه، وكان قرأ فيه ثلاثة سور من الطوال: البقرة والنساء وآل عمران، يتخللها دعاء واستغفار كما سبق في (صلاة الليل). 2 - (سبحان ربي الأعلى وبحمده (ثلاثًا). (صحيح). 3 - (سبوح قدوس رب الملائكة والروح). (مسلم وأبو عوانة). 4 - (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) وكان - يكثر منه في ركوعه وسجوده، يتأول القرآن . (البخاري ومسلم). 5 - (اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت [وأنت ربي] سجد وجهي للذي خلقه وصوره [فأحسن صوره] وشق سمعه وبصره [ف] تبارك الله أحسن الخالقين). (مسلم وأبو عوانة). 6 - (اللهم اغفر لي ذنبي كله، ودقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره). (مسلم وأبو عوانة). 7 - (سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، أبوء بنعمتك عليّ، هذي يدي وما جنيتُ على نفسي). (ابن نصر والبزار والحاكم وصححه ورده الذهبي، لكن له شواهد مذكورة في الأصل). 8 - (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة). وهذا وما بعده كان يقوله في صلاة الليل. (أبو داود والنسائي بسند صحيح). 9 - (سبحانك [اللهم] وبحمدك، لا إله إلا أنت). (مسلم وأبو عوانة). 10 - (اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت). (ابن شيبة والنسائي، وصححه الحاكم). 11 - (اللهم اجعل في قلبي نورًا [وفي لساني نورًا] واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من تحتي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، واجعل أمامي نورًا، واجعل خلفي نورًا [واجعل في نفسي نورًا]، وأعظم لي نورًا). (مسلم وأبو عوانة).

النهي عن قراءة القرآن في السجود

12 - ([اللهم] [إني] أعوذ برضاك من سخطك، و [أعوذ] بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك). (مسلم وأبو عوانة). النهي عن قراءة القرآن في السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، ويأمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء في هذا الركن؛ كما مضى في (الركوع). وكان يقول: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء [فيه]). (مسلم وأبو عوانة والبيهقي). إطالة السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعل سجوده قريبًا من الركوع في الطول، وربما بالغ في الإطالة لأمر عارض؛ كما قال بعض الصحابة: (خرج علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي العشي -[الظهر أو العصر]- وهو حامل حسنًا أو حسينًا، فتقدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعه [عند قدمه اليمنى]، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي [من بين الناس]؛ فإذا الصبي على ظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك [هذه] سجدة أطلتها؛ حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك قال: (كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته). (النسائي وابن عساكر والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). وفي حديث آخر: (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي؛ فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما؛ أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال: (من أحبني فليحب هذين). (ابن خزيمة في صحيحه). فضل السجود وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة)، قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟ قال: (أرأيت لو دخلت صبرة فيها خيل دهم بهم، وفيها فرسٌ أغر محجل؛ أما كنت تعرفه منها؟) قال: بلى. قال: (فإن أمتي يومئذٍ غر من السجود محجلون من الوضوء). (أحمد بسند صحيح). ويقول: (إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار؛ أمر الله الملائكة أن يخرجوا من يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود). (البخاري ومسلم). السجود على الأرض والحصير وكان يسجد على الأرض كثيرًا. و (كان أصحابه يصلون معه في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدهم أن يمكن جبهته من الأرض؛ بسط ثوبه فسجد عليه). (مسلم وأبو عوانة). وكان يقول: ( ... وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا فأينما أدركت رجلًا من أمتي

الرفع من السجود

الصلاة؛ فعنده مسجده وعنده طهوره [وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم]). (أحمد والسراج والبيهقي بسند صحيح). وكان ربما سجد في طين وماء وقد وقع له ذلك في صبح ليلة إحدى وعشرين من رمضان؛ حين أمطرت السماء، وسال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، فسجد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الماء والطين، قال أبو سعيد الخدري: (فأبصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جبهته وأنفه أثر الماء الطين). (البخاري ومسلم). و (كان يصلي على الخمرة) أحيانًا و (على الحصير) أحيانًا، و (صلى عليه -مرة- وقد سود من طول ما لبس). (البخاري ومسلم). الرفع من السجود ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه من السجود مكبرًا) وأمر بذلك (المسيء صلاته) فقال: (لا يتم صلاة لأحد من الناس حتى ... يسجد، حتى تطمئن مفاصله ثم يقول: (الله أكبر) ويرفع رأسه حتى يستوي قاعدًا) و (كان يرفع يديه مع هذا التكبير) أحيانًا. (أحمد وأبو داود بسند صحيح). ثم (يفرش رجله اليسرى فيقعد عليها [مطمئنًا]). (البخاري). وأمر بذلك (المسيء صلاته) فقال له: (إذا سجدت فمكن لسجودك، فإذا رفعت فاقعد على فخذك اليسرى). (أحمد وأبو داود بسند جيد). و (كان ينصب رجله اليمنى). (البخاري والبيهقي). و (يستقبل بأصابعها القبلة). (النسائي بسند صحيح). الإقعاء بين السجدتين و (كان -أحيانًا- يقعي [ينتصب على عقبيه وصدور قدميه]). (مسلم وأبو عوانة). وجوب الاطمئنان بين السجدتين و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه). (أبو داود والبيهقي بسند صحيح). أمر بذلك (المسيء صلاته)، وقال له: (لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك). (أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). و (كان يطيلها حتى تكون قريبًا من سجدته)، وأحيانًا (يمكث حتى يقول القائل: قد نسي). (البخاري ومسلم). الأذكار بين السجدتين وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في هذه الجلسة: 1 - (اللهم (وفي لفظ: رب) اغفر لي، وارحمني، [واجبرني]، [وارفعني]، واهدني، [وعافني]، وارزقني). (أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). وتارة يقول: 2 - (رب اغفر لي اغفر لي). وكان يقولهما في (صلاة الليل). (ابن ماجه بسند جيد). ثم (كان يكبر ويسجد السجدة الثانية) (البخاري ومسلم)، وأمر بذلك (المسيء صلاته) فقال له بعد أن أمره بالاطمئنان بين السجدتين كما سبق:

جلسة الاستراحة

(ثم تقول: (الله أكبر، ثم تسجد حتى تطمئن مفاصلك، [ثم افعل ذلك في صلاتك كلها]). (أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والزيادة للبخاري ومسلم). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه مع هذا التكبير) أحيانًا. (أبو عوانة وأبو داود بسندين صحيحين). وكان يصنع في هذه السجدة مثل ما صنع في الأولى، ثم (يرفع رأسه مكبرًا). (البخاري ومسلم). وأمر بذلك (المسيء صلاته)، فقال له بعد أن أمره بالسجدة الثانية كما مر: (ثم يرفع رأسه فيكبر). (أبو داود وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي)، وقال له: ([ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة]، فإذا فعلت ذلك؛ فقد تمت صلاتك، وإن أنقصت منه شيئًا؛ أنقصت من صلاتك). (أحمد والترمذي وصححه). و (كان يرفع يديه) أحيانًا. (أبو عوانة وأبو داود بسندين صحيحين). جلسة الاستراحة ثم (يستوي قاعدًا [على رجله اليسرى معتدلًا؛ حتى يرجع كل عظم إلى موضعه]). (البخاري وأبو داود). الاعتماد على اليدين في النهوض إلى الركعة ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض معتمدًا على الأرض إلى الركعة الثانية). (الشافعي والبخاري). و (كان يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام). (أبو إسحاق). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نهض في الركعة الثانية استفتح بـ الحمد لله ولم يسكت). (مسلم وأبو عوانة). وكان يصنع في هذه الركعة مثل ما يصنع في الأولى؛ إلا أنه كان يجعلها أقصر من الأولى كما سبق. وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وقد أمر (المسيء صلاته) بقراءة الفاتحة في كل ركعة؛ حيث قال له بعد أن أمره بقراءتها في الركعة الأولى: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (أبو داود وأحمد بسند قوي) (وفي رواية: (في كل ركعة) وقال: (في كل ركعة قراءة). (ابن ماجة وابن حبان في صحيحه). التشهد الأول جلسة التشهد ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس للتشهد بعد الفراغ من الركعة الثانية، فإذا كانت الصلاة ركعتين كالصبح؛ (جلس مفترشًا). (النسائي بسند صحيح). (كما كان يجلس بين السجدتين وكذلك (يجلس في التشهد الأول) من الثلاثية أو الرباعية. (البخاري وأبو داود). وأمر بذلك (المسيء صلاته) فقال له: (فإذا جلست في وسط الصلاة؛ فاطمئن وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد). (أبو داود والبيهقي بسند جيد). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ونهاني خليلي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إقعاء كإقعاء الكلب). (الطيالسي وأحمد وابن أبي شيبة).

تحريك الإصبع في التشهد

وفي حديث آخر: (كان ينهى عن عقبة الشيطان). (مسلم وأبو عوانة). و (كان إذا قعد في التشهد؛ وضع كفه اليمنى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليمنى، ووضع كفه اليسرى على فخذه (وفي رواية: ركبته) اليسرى؛ [باسطها عليها]). (مسلم وأبو عوانة). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى). (أبو داود والنسائي بسند صحيح). و (نهى رجلًا وهو جالس معتمد على يده اليسرى في الصلاة فقال: (إنها صلاة اليهود). (البيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). وفي لفظ: (لا تجلس هكذا؛ إنما هذه جلسة الذين يعذبون). (أحمد وأبو داود بسند جيد). وفي حديث آخر: (هي قعدة المغضوب عليهم). (عبد الرزاق، وصححه عبد الحق في أحكامه). تحريك الإصبع في التشهد و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى ويقبض أصابع كفه اليمنى كلها ويشير بإصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة ويرمي ببصره إليها). (مسلم وأبو عوانة). و (كان إذا أشار بإصبعه وضع إبهامه على إصبعه الوسطى). (مسلم وأبو عوانة). وتارة (كان يحلق بهما حلقة). (أبو داود والنسائي وابن الجارود وابن حبان في صحيحه). و (كان رفع إصبعه يحركها يدعو بها) (أبو داود وابن حبان في صحيحه). ويقول: (لهي أشد على الشيطان من الحديد. يعني: السبابة). (أحمد والبزار وأبو جعفر). و (كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بعضهم على بعض. يعني: الإشارة بالإصبع في الدعاء). (ابن أبي شيبة بسند حسن). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك في التشهدين جميعًا). (النسائي والبيهقي بسند صحيح). و (رأى رجلًا يدعو بإصبعيه فقال: (أحد [أحد]) [وأشار بالسبابة]). (ابن أبي شيبة والنسائي وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي). وجوب التشهد الأول ومشروعية الدعاء فيه ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في كل ركعتين (التحية). (مسلم وأبو عوانة). و (كان أول ما يتكلم به عند القعدة: (التحيات لله). (البيهقي بإسناد جيد). و (كان إذا نسيها في الركعتين؛ الأوليين يسجد للسهو). (البخاري ومسلم). وكان يأمر بها فيقول: (إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات إلخ ... وليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه، إليه فليدع الله عز وجل [به]) (النسائي وأحمد والطبراني بسند صحيح)، وفي لفظ: (قولوا في كل جلسة: التحيات). وأمر به (المسيء صلاته) أيضًا؛ كما تقدم آنفًا. و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن). (البخاري ومسلم)، و (السنة إخفاؤه). (أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). صيغ التشهد وعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنواعًا من صيغ التشهد: 1 - (تشهد ابن مسعود: قال: (علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التشهد -[و] كفي بين كفيه - كما يعلمني السورة من القرآن:

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وموضعها، وصيغها

(التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، [فإنه إذا قال ذلك؛ أصاب كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض]، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) [وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا: السلام على النبي]. (البخاري ومسلم). 2 - تشهد ابن عباس: قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد كما يعلمنا [السورة من] القرآن فكان يقول: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، [ال] سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، [ال] سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله و [أشهد] أن محمدًا رسول الله. وفي رواية: عبده ورسوله). (مسلم وأبو عوانة والشافعي). 3 - تشهد ابن عمر: عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في التشهد: (التحيات لله، [و] الصلوات [و] الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله -قال ابن عمر: زدت فيها: وبركاته- السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله -قال ابن عمر: وزدت فيها: وحده لا شريك له- وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله). (أبو داود والدارقطني وصححه). 4 - تشهد أبي موسى الأشعري: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( ... وإذا كان عند القعدة؛ فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله [سبع كلمات عن تحية الصلاة]. (مسلم وأبو عوانة). 5 - تشهد عمر بن الخطاب؛ كان رضي الله عنه يعلم الناس التشهد وهو على المنبر يقول: قولوا: (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات [لله]، السلام عليك ... ) إلخ؛ مثل تشهد ابن مسعود. (مالك والبيهقي بسند صحيح). 6 - (ابن أبي شيبة والسراج والبيهقي) تشهد عائشة: قال القاسم بن محمد كانت عائشة تعلمنا التشهد وتشير بيدها تقول: (التحيات، الطيبات، الصلوات، الزاكيات لله، السلام على النبي ... ) إلخ تشهد ابن مسعود. الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموضعها، وصيغها وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على نفسه في التشهد الأول وغيره. (أبو عوانة في صحيحه). وسنّ ذلك لأمته؛ حيث أمرهم بالصلاة عليه بعد السلام عليه، وعلمهم أنواعا من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 1 - (اللهم صل على محمد وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل بيته، وعلى أزواجه وذريته؛ كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد). (أحمد والطحاوي بسند صحيح). وهذا كان يدعو به هو نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 2 - (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على [إبراهيم وعلى] آل إبراهيم،

فوائد مهمة في الصلاة على نبي الأمة

إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على [إبراهيم، وعلى] آل إبراهيم إنك حميد مجيد). (البخاري ومسلم). 3 - اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم [وآل إبراهيم]، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما باركت على [إبراهيم و] وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد). (أحمد والنسائي وأبو يعلى). 4 - (اللهم صل على محمد [النبي الأمي]، وعلى آل محمد؛ كما صليت على [آل] إبراهيم، وبارك على محمد [النبي الأمي] وعلى آل محمد، كما باركت على [آل] إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد). (مسلم وأبو عوانة). 5 - (اللهم صل على محمد عبدك ورسولك؛ كما صليت على [آل] إبراهيم، وبارك على محمد [عبدك ورسولك]، [وعلى آل محمد]؛ كما باركت على إبراهيم [وعلى آل إبراهيم]). (البخاري والنسائي والطحاوي وأحمد). 6 - (اللهم صل على محمد و [على] أزواجه وذريته؛ كما صليت على [آل] إبراهيم وبارك على محمد و [على] أزواجه وذريته؛ كما باركت على [آل] إبراهيم، إنك حميد مجيد). (البخاري ومسلم). 7 - (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد). (النسائي والطحاوي). فوائد مهمة في الصلاة على نبي الأمة الفائدة الأولى: من الملحوظ أن أكثر هذه الأنواع من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس فيها ذكر إبراهيم نفسه مستقلًا عن آله، وإنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم)، والسبب في ذلك أن آل الرجل في اللغة العربية يتناول الرجل كما يتناول غيره ممن يؤوله؛ كما في قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران (33)، وقوله: (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) القمر (34) ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم صل على آل أبي أوفى) وكذلك لفظ أهل البيت كقوله تعالى: (رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت) هود (73) فإن إبراهيم داخل فيهم. قال (شيخ الإسلام): (ولهذا جاء في أكثر الألفاظ: (كما صليت على آل إبراهيم)، و (كما باركت على آل إبراهيم)، وجاء في بعضها: (إبراهيم) نفسه؛ لأنه هو الأصل في الصلاة والزكاة، وسائر أهل بيته إنما يحصل ذلك تبعًا، وجاء في بعضها ذكر هذا وهذا تنبيهًا على هذين). إذا علمت ذلك؛ فقد اشتهر التساؤل بين العلماء عن وجه التشبيه في قوله: (كما صليت) إلخ؛ لأن المقرر أن المشبه دون المشبه به، والواقع هنا عكسه إذ أن محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من إبراهيم، وقضية كونه أفضل، أن تكون الصلاة المطلوبة أفضل من كل صلاة حصلت أو تحصل، وأجاب العلماء عن ذلك بأجوبة كثيرة تراها في (الفتح) و (الجلاء). وقد بلغت نحو عشرة أقوال؛ بعضها أشد ضعفًا من بعض؛ إلا قولًا واحدًا، فإنه قوي واستحسنه شيخ الإسلام وابن القيم، وهو قول من قال:

(عن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولآله مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد من ذلك ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء -وفيهم إبراهيم- لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحصل له من المزية ما لا يحصل لغيره). قال ابن القيم: (وهذا أحسن من كل ما تقدم وأحسن منه أن يقال: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم؛ كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33]، قال ابن عباس: (محمد من آل إبراهيم)، وهذا نص، إذا دخل غيره من الأنبياء الذين هم من ذرية إبراهيم في؛ آله فدخول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى، فيكون قولنا: (كما صليت على آل إبراهيم) متناولًا للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، ثم قد أمرنا الله تعالى أن نصلي عليه وعلى آله خصوصًا؛ بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عمومًا وهو فيهم، ويحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ولا ريب أن الصلاة الخاصة لآل إبراهيم ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم أكمل من الصلاة الحاصلة لهم دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعًا، ويظهر حينئذٍ فائدة التشبيه وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة بهذا اللفظ أعظم من المطلوب له بغيره فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه؛ صار له من المشبه المطلوب أكثر مما لإبراهيم وغيره وإنضاف إلى ذلك مما له من المشبه به من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كل من آله -وفيهم النبيون- ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد؛ كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد). الفائدة الثانية: ويرى القارئ الكريم أن هذه الصيغ على اختلاف أنواعها فيها كلها الصلاة على آل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأزواجه وذريته معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلذلك فليس من السنة ولا يكون منفذًا للأمر النبوي من اقتصر على قوله: (اللهم صل على محمد) فحسب؛ بل لا بد من الإتيان بإحدى هذه الصيغ كاملة كما جاءت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا فرق في ذلك بين التشهد الأول والآخر، وهو نص الإمام الشافعي في (الأم) (1/ 102) فقال: (والتشهد في الأولى والثانية لفظ واحد لا يختلف، ومعنى قولي (التشهد) التشهد والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجزيه أحدهما عن الآخر). وأما حديث: (كان لا يزيد في الركعتين على التشهد)؛ فهو حديث منكر كما حققته في (الضعيفة) (5186). وإن من عجائب هذا الزمن، ومن الفوضى العلمية؛ فيه أن يجرؤ بعض الناس -وهو الأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي في كتابه: (الإسلام الصحيح) - على إنكار الصلاة على الآل في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ على الرغم من ورود ذلك في (الصحيحين) وغيرهما عن جمع من الصحابة؛ منهم كعب بن عجرة وأبو حميد الساعدي، وأبو سعيد الخدري وأبو مسعود الأنصاري، وأبو هريرة وطلحة بن عبيد الله، وفي أحاديثهم أنهم سألوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كيف نصلي عليك؟) فعلمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الصيغ، وحجته في الإنكار أن الله تعالى لم

يذكر في قوله: {صلوا عليه وسلموا تسليمًا} مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدًا، ثم أنكر وبالغ في الإنكار أن يكون الصحابة قد سألوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك السؤال؛ لأن الصلاة معروفة المعنى عندهم وهو الدعاء، فكيف يسألونه؟! وهذه مغالطة مكشوفة؛ لأن سؤالهم لم يكن على معنى الصلاة عليه حتى يرد ما ذكره، وإنما كان عن كيفية الصلاة عليه؛ كما جاء في جميع الروايات على ما سبقت الإشارة إليه، وحينئذ فلا غرابة؛ لأنهم سألوه عن كيفية شرعية لا يمكنهم معرفتها إلا من طريق الشارع الحكيم العليم، وهذا كما لو سألوه عن كيفية الصلاة المفروضة بمثل قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة}، فإن معرفتهم لأصل معنى الصلاة في اللغة لا يغنيهم عن السؤال عن كيفيتها الشرعية وهذا بين لا يخفى. وأما حجته المشار إليها فلا شيء؛ ذلك لأنه من المعلوم عند المسلمين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المبين لكلام رب العالمين؛ كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل:44] فقد بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية الصلاة عليه وفيها ذكر الآل، فوجب قبول ذلك منه لقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} [الحشر: 7]، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المشهور: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) وهو مخرج في (تخريج المشكاة) (163 و4247). وليت شعري ماذا يقول النشاشيبي -ومن قد يغتر ببهرج كلامه- فيمن عسى أن ينكر التشهد في الصلاة، أو أنكر على الحائض ترك الصلاة والصوم في حيضها؟! أبدعوى أن الله لم يذكر التشهد في القرآن، وإنما ذكر القيام والركوع والسجود فقط وأنه تعالى لم يسقط في القرآن الصلاة والصوم عن الحائض، فالواجب عليها القيام بذلك فهل يوافقون هذا المنكر في إنكاره؛ أم ينكرون عليه ذلك؟ فإن كان الأول -وذلك مما لا نرجوه- فقد ضلوا ضلالًا بعيدًا، وخرجوا عن جماعة المسلمين، وإن كان الآخر فقد وفقوا وأصابوا، فما ردوا به على المنكر؛ فهو ردنا على النشاشيبي، وقد بينا لك وجه ذلك. فحذار أيها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلًا عن السنة، فإنك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك، وهاك المثال أمامك؛ فإن النشاشيبي هذا كان من كبار علماء اللغة في القرن الحاضر، فأنت تراه قد ضل حين اغتر بعلمه في اللغة، ولم يستعن على فهم القرآن بالسنة، بل إنه أنكرها كما عرفت، والأمثلة على ما نقول كثيرة جدًا لا يتسع المقام لذكرها، وفيما سبق كفاية. والله الموفق. الفائدة الثالثة: ويرى القارئ أيضًا أنه ليس في شيء منها لفظ: (السيادة)، ولذلك اختلف المتأخرون في مشروعية زيادتها في الصلوات الإبراهيمية، ولا يتسع المجال الآن لنفصل القول في ذلك، وذكر من ذهب إلى عدم مشروعيتها؛ اتباعًا لتعليم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكامل لأمته حين سئل عن كيفية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأجاب آمرًا بقوله: (قولوا: اللهم صل على محمد ... ) ولكني أريد أن أنقل إلى القراء الكرام هنا رأي الحافظ ابن حجر العسقلاني في ذلك؛ باعتباره أحد كبار علماء الشافعية الجامعين بين الحديث والفقه، فقد شاع لدى متأخري الشافعية خلاف هذا التعليم النبوي الكريم. فقال الحافظ محمد بن محمد بن محمد الغرابيلي (790 - 835) وكان ملازمًا لابن حجر - قال رحمه ومن خطه نقلت: وسئل (أي الحافظ ابن حجر) أمتع الله بحياته عن صفة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة أو خارج الصلاة، سواء قيل بوجوبها أو ندبيتها؛ هل يشترط فيها أن يصفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة؛ كأن يقول مثلًا: اللهم

صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق، أو على سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة لكونها صفة ثابتة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عدم الإتيان به لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب رضي الله عنه: نعم؛ اتباع الألفاظ المأثورة أرجح ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعًا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما لم يكن يقول عند ذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر؛ لأنا نقول: لو كان ذلك راجحًا؛ لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين، ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين لهم قال ذلك؛ مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك، وهذا الإمام الشافعي -أعلى الله درجته وهو من أكثر الناس تعظيمًا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: (اللهم صل على محمد) إلى آخره ما أداه إليه اجتهاده، وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون، وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه: (سبحان الله عدد خلقه)، فقد ثبت أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأم المؤمنين -ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته-: (لقد قلت بعدك كلمات؛ لو وزنت بما قلت لوزنتهن)، فذكر ذلك وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه الجوامع من الدعاء. وقد عقد القاضي عياض بابًا في صفة الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتاب (الشفاء)، ونقل فيها آثارًا مرفوعة عن جماعة من الصحابة والتابعين؛ ليس في شيء منها عن أحد من الصحابة وغيرهم لفظ: (سيدنا). منها حديث علي أنه كان يعلمهم كيفية الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول: اللهم داحي المدحوات وباري المسموكات اجعل سوابق صلواتك، ونوامي بركاتك، وزائد تحيتك على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق. وعن علي أنه كان يقول: صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وإمام المتقين .. الحديث. وعن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول: اللهم اجعل صلواتك، وبركاتك ورحمتك على محمد عبدك ورسولك، إمام الخير ورسول الرحمة ... الحديث. وعن الحسن البصري أنه كان يقول: من أراد أن يشرب بالكأس الأروى من حوض المصطفى؛ فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأولاده وذريته وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبيه. فهذا ما أوثره من (الشفاء)؛ مما يتعلق بهيئة الصلاة عليه عن الصحابة ومن بعدهم، وذكر فيه غير ذلك. نعم؛ ورد في حديث ابن مسعود أنه كان يقول في صلاته على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اجعل فضائل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين ... الحديث. أخرجه ابن ماجه؛ ولكن إسناده ضعيف، وحديث علي المشار إليه أولًا أخرجه الطبراني بإسناد ليس له بأس، وفيه ألفاظ غريبة رويتها مشروحة في كتاب (فضل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لأبي الحسن بن الفارس وقد ذكر الشافعية أن رجلًا لو حلف ليصلين على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة؛ فطريق البر أن يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون. وقال النووي: والصواب الذي ينبغي الجزم به أن يقال: اللهم صل على محمد وعلى

آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم ... الحديث. وقد تعقبه جماعة من المتأخرين؛ بأنه ليس في الكيفيتين المذكورتين ما يدل على ثبوت الأفضلية فيهما من حيث النقل، وأما من حيث المعنى؛ فالأفضلية ظاهرة في الأول. والمسألة مشهورة في كتب الفقه، والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة؛ لم يقع في كلام أحد منهم: (سيدنا)، ولو كانت هذه الزيادة مندوبة؛ ما خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها، والخير كله في الاتباع، والله أعلم). قلت: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة عليه اتباعًا للأمر الكريم، وهو الذي عليه الحنفية؛ هو الذي ينبغي التمسك به؛ لأنه الدليل الصادق على حبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قل إن كنتم تحبوني فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران: 31]. ولذلك قال الإمام النووي في (الروضة) (1/ 265): (وأكمل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم صل على محمد ... ) إلخ وفق النوع الثالث المتقدم فلم يذكر فيه (السيادة). الفائدة الرابعة: واعلم أن النوع الأول من صيغ الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وكذا النوع الرابع- هو ما علمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه لما سألوه عن كيفية الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد استدل بذلك على أنها أفضل الكيفيات في الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه لا يختار لهم -ولا لنفسه- إلا الأشرف والأفضل، ومن ثم صوب النووي في (الروضة) أنه لو حلف ليصلين عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية، ووجه السبكي بأنه من أتى بها فقد صلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيقين، وكل من جاء بلفظ غيرها؛ فهو من إتيانه بالصلاة المطلوبة في شك؛ لأنهم قالوا: كيف نصلي عليه قال: (قولوا: ... ) فجعل الصلاة عليه منهم هي قولهم كذا. انتهى. ذكره الهيثمي في (الدر المنضود) (ق 25/ 2) ثم ذكرا (ق 27/ 1) أن المقصود يحصل بكل من هذه الكيفيات التي جاءت في الأحاديث الصحيحية. الفائدة الخامسة: واعلم أنه لا يشرع تلفيق صيغة صلاة واحدة من مجموع هذه الصيغ، وكذلك يقال في صيغ التشهد المتقدمة، بل ذلك بدعة في الدين، إنما السنة أن يقول هذا تارة، وهذا تارة؛ كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث له في التكبير في العيدين (مجموع) (69/ 253/1). الفائدة السادسة: قال العلامة صديق حسن خان في كتابه (نزل الأبرار بالعلم المأثور من الأدعية والأذكار) بعد أن ساق أحاديث كثيرة في فضل الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإكثار منها - قال (ص 161). (لا شك في أن أكثر المسلمين صلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم أهل الحديث ورواة السنة المطهرة، فإن من وظائفهم في هذا العلم الشريف الصلاة عليه أمام كل حديث ولا يزال لسانهم رطبًا بذكره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس كتاب من كتب السنة، ولا ديوان من دواوين الحديث -على اختلاف أنواعها؛ من (الجوامع) و (المسانيد) و (المعاجم) و (الأجزاء) وغيرها- إلا وقد اشتمل على آلاف الأحاديث حتى إن أخصرها حجمًا كتاب (الجامع الصغير) للسيوطي فيه عشرة آلاف حديث وقس على ذلك سائر الصحف النبوية فهذه العصابة الناجية والجماعة الحديثية أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، وأسعدهم بشفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بأبي هو وأمي- ولا يساويهم في هذه الفضيلة أحد من الناس إلا من جاء بأفضل مما جاؤوا به، ودونه خرط

القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة

القتاد، فعليك يا باغي الخير! وطالب النجاة بلا ضير أن تكون محدثًا أو متطفلًا على المحدثين وإلا فلا تكن ... فليس فيما سوى ذلك من عائدة تعود إليك). قلت: وأنا أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلني من هؤلاء المحدثين الذين هم أولى الناس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولعل هذا الكتاب من الأدلة على ذلك، ورحم الله الإمام أحمد إمام السنة الذي أنشد: دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتى آثار لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى أثر الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار وكذلك سن لهم الدعاء في هذا المتشهد وغيره، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: (التحيات لله ... ) (فذكرها إلى آخرها ثم قال: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه). (النسائي والطبراني وأحمد وهو مخرج في (الصحيحة). القيام إلى الركعة الثالثة ثم الرابعة ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض إلى الركعة الثالثة مكبرًا وأمر به (المسيء صلاته) في قوله: (ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة) كما تقدم. (البخاري ومسلم). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من القعدة كبر، ثم قام). (أبو يعلى بسند جيد وهو مخرج في (الصحيحة). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه) مع هذا التكبير أحيانًا. (البخاري وأبو داود). و (كان إذا أراد القيام إلى الركعة الرابعة؛ قال: (الله أكبر)، وأمر به (المسيء صلاته) كما تقدم آنفًا. (البخاري وأبو داود). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه). مع هذا التكبير أحيانًا. (أبو عوانة والنسائي بسند صحيح). ثم (كان يستوي قاعدًا على رجله اليسرى معتدلًا حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم يقوم معتمدًا على الأرض). (البخاري وأبو داود). و (كان يعجن يعتمد على يديه إذا قام). (الحربي في (غريب الحديث) ومعناه عند البخاري). و (كان يقرأ في كل من الركعتين: الفاتحة)، وأمر بذلك (المسيء صلاته)، وكان ربما أضاف إليهما في صلاة الظهر بضع آيات؛ كما سبق بيانه في القراءة في (صلاة الظهر). القنوت في الصلوات الخمس للنازلة و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت في الركعة الأخيرة بعد الركوع؛ إذا قال: (سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد) و (كان يجهر بدعائه) (البخاري وأحمد). و (يرفع يديه). (أحمد والطبراني بسند صحيح). و (يؤمن من خلفه) (أبو داود والسراج وصححه الحاكم ووافقه الذهبي). و (كان يقنت في الصلوات الخمس كلها) (أبو داود والسراج والدارقطني)؛ لكنه (كان لا يقنت فيها إلا إذا دعا لقوم؛ أو على قوم) (ابن خزيمة في صحيحه)، فربما قال: (اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، [اللهم العن لحيان ورعلًا وذكوان وعصية عصت الله ورسوله]. (أحمد والبخاري والزيادة لمسلم).

القنوت في الوتر

ثم (كان يقول -إذا فرغ من القنوت-: (الله أكبر)، فيسجد). (النسائي وأحمد). القنوت في الوتر و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في ركعة الوتر) أحيانًا. (ابن نصر والدارقطني بسند صحيح). و (يجعله قبل الركوع). (ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي). وعلم الحسن بن علي رضي الله عنه أن يقول [إذا فرغ من قراءته في الوتر]: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت؛ وقني شر ما قضيت، [فـ] إنك تقضي ولا يقضي عليك، [و] إنه لا يذل من واليت، [ولا يعز من عاديت]-هذه الزيادة ثابتة في الحديث؛ كما قال الحافظ في (التلخيص) -، تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلا إليك]). (ابن خزيمة وكذا ابن أبي شيبة). التشهد الأخير وجوب التشهد ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن يتم الركعة الرابعة يجلس للتشهد الأخير. وكان يأمر فيه بما أمر به في الأول، ويصنع فيه ما كان يصنع في الأول؛ إلا أنه (كان يقعد فيه متوركًا)؛ (البخاري) (يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، ويخرج قدميه من ناحية واحدة). (أبو داود والبيهقي بسند صحيح). و (يجعل اليسرى تحت فخذه وساقه) (مسلم وأبو عوانة)، و (ينصب اليمنى)، وربما (فرشها) (مسلم وأبو عوانة) أحيانًا. و (كان يلقم كفه اليسرى ركبته يتحامل عليها). (مسلم وأبو عوانة). وسن فيه الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما سن ذلك في التشهد الأول، وقد مضى هناك ذكر الصيغ الواردة في صفة الصلاة عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وجوب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد (سمع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلًا يدعو في صلاته؛ لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (عجل هذا) ثم دعاه فقال له ولغيره: (إذا صلى أحدكم؛ فليبدأ بتحميد ربه جل وعز، والثناء عليه، ثم يصلي وفي رواية: ليصل) على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يدعو بما شاء). (أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). و (سمع رجلًا يصلي، فمجد الله، وحمده، وصلى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادع تجب وسل تعط). (النسائي بسند صحيح). وجوب الاستعاذة من أربع قبل الدعاء وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إذا فرغ أحدكم من التشهد [الآخر]؛ فليستعذ بالله من أربع؛ [يقول: اللهم إني أعوذ بك] من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر [فتنة] المسيح الدجال، [ثم يدعو لنفسه بما بدا له]). (مسلم وأبو عوانة والنسائي وابن الجارود). و (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به في تشهده). (أبو داود وأحمد بسند صحيح). و (كان يعلمه الصحابة رضي الله عنهم كما يعلمهم السورة من القرآن). (مسلم وأبو عوانة).

الدعاء قبل السلام وأنواعه

الدعاء قبل السلام وأنواعه وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته بأدعية متنوعة؛ تارة بهذا، وتارة بهذا، وأقر أدعية أخرى، و (أمر المصلي أن يتخير منها ما شاء) (البخاري ومسلم). وهاك هي: 1 - (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم). (البخاري ومسلم). 2 - (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل [بعد]). (النسائي بسند صحيح). 3 - (اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا). (أحمد والحاكم وصححه؛ ووافقه الذهبي). 4 - (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق (وفي رواية: الحكم) والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا يبيد، وأسألك قرة عين [لا تنفد و] لا تنقطع، وأسألك الرضى بعض القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك و [أسألك] الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين). (النسائي، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). 5 - وعلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم). (البخاري ومسلم). 6 - وأمر عائشة رضي الله عنها أن تقول: (اللهم إني أسألك من الخير كله؛ [عاجله وآجله]؛ ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله؛ [عاجله وآجله]؛ ما علمت منه وما لم أعلم، وأسألك (وفي رواية: اللهم إني أسألك) الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك (وفي رواية: اللهم إني أسألك) من [الـ] خير ما سألك عبدك ورسولك [محمد، وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]، [وأسألك] ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته [لي] رشدًا). (أحمد، والطيالسي، والبخاري في (الأدب المفرد) وقد خرجته في الصحيحة). 7 - و (قال لرجل: (ما تقول في الصلاة؟) قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حولها ندندن). (أبو داود، وابن ماجه وابن خزيمة بسند صحيح). 8 - وسمع رجلًا يقول في تشهده: (اللهم إني أسألك يا الله (وفي رواية: بالله) [الواحد] الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قد غفر له قد غفر له). (أبو داود والنسائي وأحمد وأبن خزيمة). 9 - وسمع آخر يقول في تشهده أيضًا: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك]، [المنان]، [يا] بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم [إني أسألك] [الجنة، وأعوذ بك من النار]. [فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: (تدرون بما دعا؟) قالوا الله ورسوله أعلم. قال: [والذي نفسي بيده]؛ لقد دعا

التسليم

الله باسمه العظيم (وفي رواية: الأعظم) الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى). (أبو داود والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب المفرد). 10 - وكان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهم اغفر ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). (مسلم وأبو عوانة). التسليم ثم (كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) [حتى يُرى بياض خده الأيمن] وعن يساره: (السلام عليكم ورحمة الله) [حتى يرى بياض خده الأيسر]). (مسلم بنحوه وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه). وكان أحيانًا يزيد في التسليمة الأولى: (وبركاته). (أبو داود وابن خزيمة بسند صحيح). و (كان إذا قال عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) (النسائي وأحمد والسراج بسند صحيح) اقتصر -أحيانًا - (على قوله عن يساره: (السلام عليكم). وأحيانًا (كان يسلم تسليمة واحدة: [(السلام عليكم)] [تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن شيئًا] [أو قليلًا]). (ابن خزيمة والبيهقي والضياء في (المختارة). و (كانوا يشيرون بأيديهم إذا سلموا عن اليمين وعن الشمال فرآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: (ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! إذا سلم أحدكم؛ فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده) [فلما صلوا معه أيضًا لم يفعلوا ذلك] (وفي رواية: إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله). (مسلم وأبو عوانة والسراج وابن خزيمة والطبراني). وجوب السلام وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ( ... وتحليلها (يعني: الصلاة) التسليم). (صححه الحاكم والذهبي). باب: سجود السهو (¬1) عبارة عن سجدتين يسجدهما المصلي لجبر الخلل الحاصل في صلاته من أجل السهو، وأسبابه ثلاثة: الزيادة والنقص والشك. الزيادة إذا زاد المصلي في صلاته قيامًا، أو قعودًا، أو ركوعًا، أو سجودًا متعمدًا بطلت صلاته. وإن كان ناسيًا ولم يذكر الزيادة حتى فرغ منها فليس عليه إلا سجود السهو، وصلاته صحيحة، وإن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها ووجب عليه سجود السهو، وصلاته صحيحة. وإن ذكر الزيادة في أثنائها وجب عليه الرجوع عنها ووجب عليه سجود السهو. وصلاته صحيحة. مثال ذلك: شخص صلَّى الظهر (مثلًا) خمس ركعات ولم يذكر الزيادة إلا وهو في التشهد، فيكمل التشهد، ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم، فإن لم يذكر الزيادة إلا بعد السلام سجد للسهو وسلم. وإن ذكر الزيادة وهو في أثناء الركعة الخامسة جلس في الحال فيتشهَّد ويسلِّم ثم يسجد للسهو ويسلِّم. دليل ذلك: حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلَّى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعدما سلَّم. وفي رواية: فثنى رجليه واستقبل ¬

_ (¬1) من رسالة سجود السهو للعلامة ابن عثيمين رحمه الله.

السلام قبل تمام الصلاة

القبلة فسجد سجدتين ثم سلَّم. رواه الجماعة. السلام قبل تمام الصلاة السلام قبل تمام الصلاة من الزيادة في الصلاة، فإذا سلَّم المصلي قبل تمام صلاته متعمدًا بطلت صلاته. وإن كان ناسيًا ولم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد الصلاة من جديد. وإن ذكر بعد زمن قليل كدقيقتين وثلاث فإنه يكمل صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم. دليل ذلك: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلَّى بهم الظهر أو العصر فسلَّم من ركعتين، فخرج السرعان من أبواب المسجد يقولون: قصرت الصلاة، وقام النبي صلى الله عليه وسلّم إلى خشبة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أنسيتَ أم قصرت الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: "لم أنس ولم تقصر" فقال الرجل: بلى قد نسيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم للصحابة: "أحق ما يقول؟ " قالوا: نعم، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلّم فصلَّى ما بقي من صلاته ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين ثم سلَّم. متفق عليه. وإذا سلَّم الإمام قبل تمام صلاته وفي المأمومين مَن فاتهم بعض الصلاة فقاموا لقضاء ما فاتهم، ثم ذكر الإمام أن عليه نقصًا في صلاته فقام ليتمها، فإن المأمومين الذين قاموا لقضاء ما فاتهم يخيرون بين أن يستمروا في قضاء ما فاتهم ويسجدوا للسهو، وبين أن يرجعوا مع الإمام فيتابعوه، فإذا سلَّم قضوا ما فاتهم، وسجدوا للسهو بعد السلام. وهذا أولى وأحوط. النقص 1 - نقص الأركان: إذا نقص المصلي ركنًا من صلاته فإن كان تكبيرة الإحرام فلا صلاة له سواء تركها عمدًا أم سهوًا؛ لأن صلاته لم تنعقد. وإن كان غير تكبيرة الإحرام فإن تركه متعمدًا بطلت صلاته. وإن تركه سهوًا فإن وصل إلى موضعه من الركعة الثانية لغت الركعة التي تركه منها، وقامت التي تليها مقامها، وإن لم يصل إلى موضعه من الركعة الثانية وجب عليه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به وبما بعده، وفي كلتا الحالين يجب عليه أن يسجد للسهو بعد السلام. مثال ذلك: شخص نسي السجدة الثانية من الركعة الأولى فذكر ذلك وهو جالس بين السجدتين في الركعة الثانية فتلغا الركعة الأولى وتقوم الثانية مقامها، فيعتبرها الركعة الأولى ويكمل عليها صلاته ويسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم. ومثال آخر: شخص نسي السجدة الثانية والجلوس قبلها من الركعة الأولى فذكر ذلك بعد أن قام من الركوع في الركعة الثانية فإنه يعود ويجلس ويسجد، ثم يكمل صلاته ويسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم. 2 - نقص الواجبات: إذا ترك المصلِّي واجبًا من واجبات الصلاة متعمدًا بطلت صلاته. وإن كان ناسيًا وذكره قبل أن يفارق محله من الصلاة أتى به ولا شيء عليه وإن ذكره بعد مفارقة محله قبل أن يصل إلى الركن الذي يليه رجع فأتى به ثم يكمل صلاته ويسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم. وإن ذكره بعد وصوله الركن الذي يليه سقط فلا يرجع إليه، فيستمر في صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلِّم.

الشك

مثال ذلك: شخص رفع من السجود الثاني في الركعة الثانية ليقوم إلى الثالثة ناسيًا التشهد الأول فذكر قبل أن ينهض فإنه يستقر جالسًا فيتشهد، ثم يكمل صلاته ولا شيء عليه. وإن ذكر بعد أن نهض قبل أن يستتم قائمًا رجع فجلس وتشهد، ثم يكمل صلاته ويسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم. وإن ذكر بعد أن استتم قائمًا سقط عنه التشهد فلا يرجع إليه، فيكمل صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلِّم. دليل ذلك: ما رواه البخاري وغيره عن عبد الله بن بحينة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلّم صلَّى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس "يعني للتشهد الأول" فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبَّر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلِّم ثم سلَّم. الشك الشك: هو التردد بين أمرين أيُّهما الذي وقع. والشك لا يلتفت إليه في العبادات في ثلاث حالات: الأولى: إذا كان مجرد وهم لا حقيقة له كالوساوس. الثانية: إذا كثر مع الشخص بحيث لا يفعل عبادة إلا حصل له فيها شك. الثالثة: إذا كان بعد الفراغ من العبادة، فلا يلتفت إليه ما لم يتيقن الأمر فيعمل بمقتضى يقينه. مثال ذلك: شخص صلَّى الظهر فلمَّا فرغ من صلاته شك هل صلَّى ثلاثًا أو أربعًا، فلا يلتفت لهذا الشك إلا أن يتيقن أنه لم يصلِّ إلا ثلاثًا فإنه يكمل صلاته إن قرب الزمن ثم يسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم، فإن لم يذكر إلا بعد زمن طويل أعاد الصلاة من جديد. وأما الشك في غير هذه المواضع الثلاثة فإنه معتبر. ولا يخلو الشك في الصلاة من حالين: الحال الأولى: أن يترجَّح عنده أحد الأمرين فيعمل بما ترجَّح عنده، فيتم عليه صلاته ويسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم. مثال ذلك: شخص يصلِّي الظهر فشكَّ في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة لكن ترجَّح عنده أنها الثالثة، فإنه يجعلها الثالثة فيأتي بعدها بركعة ويسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم. دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين" هذا لفظ البخاري. الحال الثانية: أن لا يترجَّح عنده أحد الأمرين فيعمل باليقين وهو الأقل، فيتم عليه صلاته، ويسجد للسهو قبل أن يسلِّم ثم يسلِّم. مثال ذلك: شخص يصلِّي العصر فشكَّ في الركعة هل هي الثانية أو الثالثة، ولم يترجَّح عنده أنها الثانية أو الثالثة، فإنه يجعلها الثانية فيتشهَّد التشهُّد الأول، ويأتي بعده بركعتين، ويسجد للسهو ويسلِّم. دليل ذلك: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: "إذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلَّى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليَبنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلَّى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطان". ومن أمثلة الشك: إذا جاء الشخص والإمام راكع فإنه يُكَبِّر تكبيرة الإحرام وهو قائم معتدل، ثم يركع وحينئذٍ لا يخلو من ثلاث حالات: الأولى: أن يتيقن أنه أدرك الإمام في ركوعه قبل أن يرفع منه فيكون مدركًا للركعة وتسقط عنه

سجود السهو على المأموم

قراءة الفاتحة. الثانية: أن يتيقن أن الإمام رفع من الركوع قبل أن يدركه فيه فتفوته الركعة. الثالثة: أن يشك هل أدرك الإمام في ركوعه فيكون مدركًا للركعة، أو أن الإمام رفع من الركوع قبل أن يدركه ففاتته الركعة، فإن ترجَّح عنده أحد الأمرين عمل بما ترجَّح فأتمَّ عليه صلاته وسلم، ثم سجد للسهو وسلَّم إلا إذا لم يفته شيء من الصلاة، فإنه لا سجود عليه حينئذٍ. وإن لم يترجَّح عنده أحد الأمرين عمل باليقين "وهو أن الركعة فاتته" فيتم عليه صلاته ويسجد للسهو قبل أن يسلِّم ثم يسلِّم. فائدة: إذا شكَّ في صلاته فعمل باليقين أو بما ترجَّح عنده حسب التفصيل المذكور، ثم تبين له أن ما فعله مطابق للواقع وأنه لا زيادة في صلاته ولا نقص، سقط عنه سجود السهو على المشهور من المذهب لزوال موجب السجود وهو الشك، وقيل: لا يسقط عنه ليراغم به الشيطان لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "وإن كان صلَّى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان". ولأنه أدَّى جزءًا من صلاته شاكًّا فيه حين أدائه وهذا هو الراجح. مثال ذلك: شخص يصلي فشكَّ في الركعة أهي الثانية أم الثالثة؟ ولم يترجح عنده أحد الأمرين فجعلها الثانية وأتمَّ عليها صلاته، ثم تبين له أنها هي الثانية في الواقع، فلا سجود عليه على المشهور من المذهب، وعليه السجود قبل السلام على القول الثاني الذي رجَّحناه. سجود السهو على المأموم إذا سها الإمام وجب على المأموم متابعته في سجود السهو؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: "إنما جُعِلَ الإمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه" إلى أن قال: "وإذا سجد فاسجدوا" متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وسواء سجد الإمام للسهو قبل السلام أو بعده فيجب على المأموم متابعته إلا أن يكون مسبوقًا أي قد فاته بعض الصلاة، فإنه لا يتابعه في السجود بعده لتعذُّر ذلك إذ المسبوق لا يمكن أن يسلم مع إمامه، وعلى هذا فيقضي ما فاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم. مثال ذلك: رجل دخل مع الإمام في الركعة الأخيرة، وكان على الإمام سجود سهو بعد السلام، فإذا سلَّم الإمام فليقم هذا المسبوق لقضاء ما فاته ولا يسجد مع الإمام، فإذا أتمَّ ما فاته وسلَّم سجد بعد السلام. وإذا سها المأموم دون الإمام ولم يفته شيء من الصلاة فلا سجود عليه؛ لأن سجوده يؤدي إلى الاختلاف على الإمام واختلاف متابعته؛ ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- تركوا التشهد الأول حين نسيه النبي صلى الله عليه وسلّم فقاموا معه ولم يجلسوا للتشهد مراعاة للمتابعة وعدم الاختلاف عليه. فإن فاته شيء من الصلاة فسها مع إمامه أو فيما قضاه بعده لم يسقط عنه السجود، فيسجد للسهو إذا قضى ما فاته قبل السلام أو بعده حسب التفصيل السابق. مثال ذلك: مأموم نسي أن يقول: «سبحان ربي العظيم» في الركوع، ولم يفته شيء في الصلاة، فلا سجود عليه. فإن فاتته ركعة أو أكثر قضاها ثم سجد للسهو قبل السلام. مثال آخر: مأموم يصلي الظهر مع إمامه فلمَّا قام الإمام إلى الرابعة جلس المأموم ظنًّا منه أن هذه الركعة الأخيرة، فلما علم أن الإمام قائم قام، فإن كان لم يفته شيء من الصلاة فلا سجود عليه، وإن كان قد

حكم تارك الصلاة

فاتته ركعة فأكثر قضاها وسلَّم ثم سجد للسهو وسلَّم. وهذا السجود من أجل الذي زاده أثناء قيام الإمام إلى الرابعة. تنبيه: تبين مما سبق أن سجود السهو تارة يكون قبل السلام، وتارة يكون بعده فيكون قبل السلام في موضعين: الأول: إذا كان عن نقص، لحديث عبد الله بن بحينة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلّم سجد للسهو قبل السلام حين ترك التشهد الأول. وسبق ذكر الحديث بلفظه. الثاني: إذا كان عن شك لم يترجَّح فيه أحد الأمرين، لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- فيمن شكَّ في صلاته فلم يدر كم صلَّى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يسجد سجدتين قبل أن يسلم، وسبق ذكر الحديث بلفظه. ويكون سجود السهو بعد السلام في موضعين: الأول: إذا كان عن زيادة لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حين صلى النبي صلى الله عليه وسلّم الظهر خمسًا فذكروه بعد السلام فسجد سجدتين ثم سلم، ولم يبين أن سجوده بعد السلام من أجل أنه لم يعلم بالزيادة إلا بعده، فدل على عموم الحكم، وأن السجود عن الزيادة يكون بعد السلام سواء علم بالزيادة قبل السلام أم بعده، ومن ذلك: إذا سلم قبل إتمام صلاته ناسيًا ثم ذكر فأتمها، فإنه زاد سلامًا في أثناء صلاته فيسجد بعد السلام؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- حين سلم النبي صلى الله عليه وسلّم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فذكروه فأتم صلاته وسلم ثم سجد للسهو وسلم، وسبق ذكر الحديث بلفظه. الثاني: إذا كان عن شك ترجَّح فيه أحد الأمرين لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلّم أَمَرَ مَن شكَّ في صلاته أن يتحرَّى الصواب فيتم عليه، ثم يسلِّم ويسجد. وسبق ذكر الحديث بلفظه. وإذا اجتمع عليه سهوان موضع أحدهما قبل السلام، وموضع الثاني بعده، فقد قال العلماء: يغلب ما قبل السلام فيسجد قبله. مثال ذلك: شخص يصلِّي الظهر فقام إلى الثالثة ولم يجلس للتشهد الأول وجلس في الثالثة يظنها الثانية ثم ذكر أنها الثالثة، فإنه يقوم ويأتي بركعة ويسجد للسهو ثم يسلِّم. فهذا الشخص ترك التشهد الأول وسجوده قبل السلام، وزاد جلوسًا في الركعة الثالثة وسجوده بعد السلام فغلب ما قبل السلام. والله أعلم. حكم تارك الصلاة وهذه مسألة اختلف فيها علماء أهل السنة وسنورد في هذا الباب قول الإمام المحدث الألباني، وكذا قول العلامة ابن العثيمين رحمهما الله تعالى فقد صنف كل منهما في ذلك رسالة مبينا حجته. فقال الشيخ الألباني (¬1): روى الإمام معمر بن راشد في "الجامع" (11/ 409 - 411، الملحق بـ "مصنف عبد الرزاق) " عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فـ[والذي نفسي بيده] ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق ¬

_ (¬1) من رسالة حكم تارك الصلاة للشيخ.

يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، [ويجاهدون معنا]، فأدخلتهم النار. قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم؛ فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، [لم تغش الوجه]، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، [فيخرجون منها بشرًا كثيرًا] فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم [يعودون فيتكلمون فـ] يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان. [فيخرجون خلقًا كثيرًا] ثم [يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فـ] من كان في قلبه وزن نصف دينار [فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا ... ]. حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة [فيخرجون خلقًا كثيرًا]. قال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} [النساء: 40] قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير! قال: ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين. قال: فيقبض قبضة من النار -أو قال: قبضتين- ناسًا لم يعملوا لله خيرًا قط قد احترقوا حتى صاروا حممًا. قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له: (الحياة) فيصب عليهم، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، [قد رأيتموها إلى جانب الصخرة، وإلى جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض]. قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ وفي أعناقهم الخاتم (وفي رواية: الخواتم) عتقاء الله. قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم ورأيتم من شيء فهو لكم [ومثله معه] [فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه]. قال: فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين! قال: فيقول: فإن لكم عندي أفضل منه! فيقولون: ربنا وما أفضل من ذلك؟ [قال:] فيقول: رضائي عنكم، فلا أسخط عليكم أبدًا). تخريجه: وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وهو من رواية عبد الرزاق عن معمر: ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أحمد (3/ 94) والنسائي (2/ 271) وابن ماجة (رقم: 60) وابن

خزيمة في (التوحيد) (ص 184 و201 و212) وابن نصر المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) (رقم: 276). وتابع عبد الرزاق: محمد بن ثور، عن معمر، به لم يسق لفظه، وإنما قال: بنحوه. يعني حديث هشام بن سعد الآتي تخريجه. وتابع معمرًا جماعة: أولًا: سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، به أتم منه، وأوله: (هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ... ) الحديث بطوله. أخرجه البخاري (7439) ومسلم (1/ 114 - 117) وابن خزيمة أيضًا (ص 201) وابن حبان (7333 - الإحسان). ثانيًا: حفص بن ميسرة عن زيد: أخرجه مسلم (1/ 114 - 117)، وكذا البخاري (4581) ولكنه لم يسقه بتمامه، وكذا أبو عوانة (1/ 168 - 169). ثالثًا: هشام بن سعد عن زيد: أخرجه أبو عوانة (1/ 181 - 183) بتمامه وابن خزيمة (ص 200) والحاكم (4/ 582 - 584) وصححه وكذا مسلم (1/ 17) إلا أنه لم يسق لفظه، وإنما أحال به على لفظ حديث حفص بن ميسرة نحوه. وتابع زيدًا: سليمان بن عمرو بن عبيد العتواري -أحد بني ليث وكان في حجر أبي سعيد- قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ... فذكره نحوه مختصرًا وفيه الزيادة الثالثة. أخرجه أحمد (3/ 11 - 12) وابن خزيمة (ص 211) وابن أبي شيبة في (المصنف) (13/ 176/16039) وعنه ابن ماجة (4280) وابن جرير في (التفسير) (16/ 85) ويحيى بن صاعد في (زوائد الزهد) (ص 448/ 1268) والحاكم (4/ 585) وقال: (صحيح الإسناد على شرط مسلم) وبيض له الذهبي!! وإنما هو حسن فقط، لأن فيه محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث. فقهه: بعد تخريج هذا الحديث هذا التخريج الذي قد لا تراه في مكان آخر، وبيان أنه متفق عليه بين الشيخين وغيرهما من أهل (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد) أقول: في هذا الحديث فوائد جمة عظيمة، منها: شفاعة المؤمنين الصالحين في إخوانهم المصلين الذين أدخلوا النار بذنوبهم، ثم بغيرهم ممن هم دونهم على اختلاف قوة إيمانهم. ثم يتفضل الله تبارك وتعالى على من بقي في النار من المؤمنين، فيخرجهم من النار بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه. ولقد توهم (بعضهم) أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار! قال الحافظ في (الفتح) (13/ 429): (ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار

بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث). قلت: منها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أنس الطويل في الشفاعة أيضًا: (فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع. فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله). متفق عليه وهو مخرج في (ظلال الجنة) (2/ 296). وفي طريق أخرى عن أنس: ( ... وفرغ الله من حساب الناس، وأدخل من بقي من أمتي النار، فيقول أهل النار: ما أغنى عنكم أنكم كنتم تعبدون الله عز وجل لا تشركون به شيئًا؟ فيقول الجبار عز وجل: فبعزتي لأعتقنهم من النار. فيرسل إليهم، فيخرجون وقد امتحشوا، فيدخلون في نهر الحياة فينبتون ... ) الحديث. أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، وهو مخرج في (الظلال) تحت الحديث (844)، وله فيه شواهد (843 - 843) وفي (الفتح) (11/ 455) شواهد أخرى. وفي الحديث رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: (لم تغش الوجه)، ونحوه الحديث الآتي بعده: (إلا دارات الوجوه): أن من كل من مسلما ولكنه كان لا يصلي لا يخرج [من النار] إذ لا علامة له)! ولذلك تعقبه الحافظ بقوله (11/ 457): (لكنه يحمل على أنه يخرج في القبضة، لعموم قوله: (لم يعملوا خيرًا قط)، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في (التوحيد). يعني هذا الحديث. وقد فات الحافظ -رحمه الله- أن في الحديث نفسه تعقبًا على ابن أبي جمرة من وجه آخر، وهو أن المؤمنين لما شفعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرة الأولى، فأخرجوهم من النار بالعلامة فلما شفعوا في المرات الأخرى وأخرجوا بشرًا كثيرًا لم يكن فيهم مصلون بداهة، وإنما فيهم من الخير كل حسب إيمانهم. وهذا ظاهر جدًا لا يخفى على أحد إن شاء الله. مباحث ومناقشات: وعلى ذلك فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلمًا يشهد أن لا إله إلا الله: أنه لا يخلد في النار مع المشركين. ففيه دليل قوي جدًا أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وقد روى الإمام أحمد في (مسنده) (6/ 240) حديثًا صريحًا في هذا من رواية عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بلفظ: (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة ... ) الحديث. وفيه: ( ... فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال عز وجل: {من يشرك بالله فقد حرم الله

عليه الجنة} [المائدة: 72]. وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء ... ) الحديث ... وقد صححه الحاكم (4/ 576). وهذا وإن كان غير مسلم عندي لما بينته في (تخريج الطحاوية) (ص 367 - الطبعة الرابعة)، فإنه يشهد له هذا الحديث الصحيح فتنبه. إذا عرفت ما سلف -يا أخي المسلم- فإن عجبي لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة ألا وهي: هل يكفر تارك الصلاة كسلًا أم لا؟ لقد غفلوا جميعًا -فيما اطلعت- عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين وغيرهما على صحته! لم يذكره من هو حجة له، ولم يجب عنه من هو حجة عليه وبخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم (الصلاة)، وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير؛ إلا مختصرًا اختصارًا مخلًا، لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضًا؛ فقد قال رحمه الله: (وفي حديث الشفاعة: يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي، لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله)؛ وفيه: فيخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط). قلت: وهذا السياق ملفق من حديثين: فالشطر الأول منه: هو في آخر حديث أنس المتفق عليه وقد سبق أن ذكرت (ص 33) الطرف الأخير منه. والشطر الآخر هو في حديث الكتاب: ( ... فيقبض قبضة من النار ناسًا لم يعملوا لله خيرًا قط ... ). وأما أن اختصاره اختصار مخل، فهو واضح جدًا إذا تذكرت أيها القارئ الكريم ما سبق أن استدركته على الحافظ (ص 34) متممًا به تعقيبه على ابن أبي جمرة؛ مما يدل على أن شفاعة المؤمنين كانت لغير المصلين في المرة الثانية وما بعدها وأنهم أخرجوهم من النار. فهذا نص قاطع في المسألة ينبغي به أن يزول به النزاع في هذه المسألة بين أهل العلم الذين تجمعهم العقيدة الواحدة التي منها عدم تكفير أهل الكبائر من الأمة المحمدية؛ وبخاصة في هذا الزمان الذي توسع فيه بعض المنتمين إلى العلم في تكفير المسلمين لإهمالهم القيام بما يجب عليهم عمله، مع سلامة عقيدتهم؛ خلافًا للكفار الذين لا يصلون تدينًا وعقيدة والله سبحانه وتعالى يقول: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون}؟! .. لما تقدم كنت أحب لابن القيم رحمه الله أن لا يغفل ذكر هذا الحديث الصحيح كدليل صريح للمانعين من التكفير، وأن يجيب عنه إن كان لديه -رحمه الله- جواب، وبذلك يكون قد أعطى البحث والإنصاف الفريقين دون تحيز لفئة.

نعم؛ إنه لمما يجب علي أن أنوه به أنه -رحمه الله- عقد فصلًا خاصًا (¬1) (في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين) يساعد الباحث على تفهم نصوص الفريقين فهمًا صحيحًا، فإنه حقق فيه تحقيقًا رائعًا ما هو مسلم به عند العلماء أنه ليس كل كفر يقع فيه المسلم يخرج به من الملة. فمن المفيد أن أقدم إلى القارئ فقرات أو خلاصات من كلامه تدل على مرامه، ثم أعقب عليه بما يلزم مما يلتقي مع هذا الحديث الصحيح ويؤيد المذهب الرجيح. لقد أفاد -رحمه الله- (أن الكفر نوعان: كفر عمل. وكفر جحود واعتقاد ... وأن كفر العمل ينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده؛ فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان. وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا). (قلت: هذا الإطلاق فيه نظر، إذ قد يكون ذلك من الكفر الاعتقادي أحيانًا، وذلك إذا اقترن معه ما يدل على فساد عقيدته، كاستهزائه بالصلاة والمصلين، وكإيثاره القتل على أن يصلي إذا دعاه الحاكم إليها، كما سيأتي فتذكر هذا فإنه مهم). ثم قال رحمه الله: (ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه، ولكن هو كفر عمل، لا كفر اعتقاد. وقد نفى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإيمان عن الزاني، والسارق، وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد). (قلت: لكني أرى أنه لا يصح أن يطلق على أمثال هؤلاء لفظة الكفر، فيقال مثلًا: من زنى فقد كفر، فضلًا عن أنه لا يجوز أن يقال: فهو كافر حتى على تارك الصلاة -أي أن يقال: كافر-، وعلى غيره ممن وصف في الحديث بالكفر وقوفًا مع النص، ومن باب أولى أن لا يقال: كافر حلال الدم!!). ثم قال -رحمه الله- بعد أن ذكر الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). (ومعلوم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام والكفر، ولوازمهما). ثم ذكر الأثر المعروف عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه). (قلت: زاد الحاكم: (إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، كفر دون كفر) وصححه هو (2/ 313) والذهبي. وهذا قاصمة ظهر جماعة التكفير، وأمثالهم من الغلاة). ثم قال ابن القيم رحمه الله: (والمقصود أن سلب الإيمان عن تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر، وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يسمى تارك الصلاة مسلمًا ولا مؤمنًا، وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام أو الإيمان). ¬

_ (¬1) (ص 53).

(قلت: نفي التسمية المذكورة عن تارك الصلاة: فيه نظر، فقد سمى الله تعالى الفئة الباغية مؤمنة في الآية المعروفة: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... } مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتقدم: ( ... وقتاله كفر)، فكما لم يلزم من وصف المسلم الباغي بالكفر نفي اسم المؤمن عنه فضلًا عن اسم المسلم فكذلك تارك الصلاة، إلا إن كان يقصد بذلك النفي أنه مسلم كامل! وذلك بعيد). قال: (نعم؛ يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطًا في صحة الباقي واعتباره وإن كان المتروك شرطًا في اعتبار الباقي لم ينفعه. فهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة). قلت: ثم أشار -رحمه الله- إلى الأدلة التي كان ذكرها للفريق الأول المكفر، ثم قال: (وهي تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة). فأقول: يبدو لي جليًا أن ابن القيم رحمه الله بعد بحثه القيم في التفريق بين الكفر العملي والكفر الاعتقادي، وأن المسلم لا يخرج من الملة بكفر عملي، لم يستطع أن يحكم للفريق المكفر بترك الصلاة، مع الأدلة الكثيرة التي ساقها لهم، لأنها كلها لا تدل على الكفر العملي! ولذلك؛ لجأ أخيرًا إلى أن يتساءل: (هل ينفعه إيمانه؟ وهل الصلاة شرط لصحة الإيمان؟). قلت: إن كل من تأمل في جوابه على هذا التساؤل يلاحظ أنه حاد عنه إلى القول بأن الأعمال الصالحة لا تقبل إلا بالصلاة فأين الجواب عن كون الصلاة شرطا لصحة الإيمان؟ أي: ليس فقط شرط كمال، فإن الأعمال الصالحة كلها شرط كمال عند أهل السنة، خلافًا للخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، مع تصريح الخوارج بتكفيرهم. فلو قال قائل بأن الصلاة شرط لصحة الإيمان، وأن تاركها مخلد في النار؛ فقد التقى مع الخوارج في بعض قولهم هذا، وأخطر من ذلك أنه خالف حديث الشفاعة هذا، كما تقدم بيانه. ولعل ابن القيم -رحمه الله- بحيدته عن ذاك الجواب، أراد أن يشعر القارئ بأهمية الصلاة في الإسلام من جهة وأنه لا دليل على أنها شرط لصحة الإيمان من جهة أخرى. وعليه؛ فإن تارك الصلاة كسلًا لا يكفر عنده إلا إذا اقترن مع تركه إياها ما يدل على أنه كفر كفرًا اعتقاديا؛ فهو في هذه الحالة -فقط- يكفر كفرًا يخرج به من الملة، كما تقدمت الإشارة بذلك مني، وهو ما يشعر به كلام ابن القيم في آخر هذا الفصل، فإنه قال: (ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها، ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟! فيقول: اقتلوني، ولا أصلي أبدًا). قلت: وعلى مثل هذا المصر على الترك والامتناع عن الصلاة، مع تهديد الحاكم له بالقتل: يجب أن تحمل كل أدلة الفريق المكفر للتارك للصلاة. وبذلك تجتمع أدلتهم مع أدلة المخالفين ويلتقون على كلمة سواء؛ أن مجرد الترك لا يكفر، لأنه كفر عملي، لا اعتقادي كما تقدم عن ابن القيم. وهذا ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، -أعني أنه حمل تلك الأدلة هذا الحمل- فقال في (مجموع الفتاوى) (22/ 48)؛ وقد سئل عن تارك الصلاة من غير عذر: هل هو مسلم في تلك الحال؟! فأجاب -رحمه الله- ببحث طويل ملئ علمًا، لكن المهم منه الآن ما يتعلق منه بحديثنا هذا، فإنه بعد أن حكى أن تارك الصلاة يقتل عند جمهور العلماء؛ مالك والشافعي وأحمد قال:

(وإذا صبر حتى يقتل، فهل يقتل كافرًا مرتدًا، أو فاسقًا كفساق المسلمين؟ على قولين مشهورين، حكيا روايتين عن أحمد، فإن كان مقرًا بالصلاة في الباطن، معتقدًا لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل ولا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا؛ لم يقع قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحدًا يعتقد وجوبها، ويقال له: إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها مع إقراره بالوجوب؛ فهذا لم يقع قط في الإسلام. ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل: لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها؛ ولا ملتزمًا بفعلها، فهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)، رواه مسلم (¬1). فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور. فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط علم أن الداعي في حقه لم يوجد والاعتقاد التام لعقاب التارك باعث على الفعل. لكن هذا قد يعارضه أحيانًا أمور توجب تأخيرها وترك بعض واجباتها وتفويتها أحيانًا. فأما من كان مصرًا على تركها، لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلمًا. لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في (السنن) [من] حديث عبادة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)). فالمحافظ عليها: الذي يصليها في مواقيتها كما أمر الله تعالى. والذي يؤخرها أحيانًا عن وقتها، أو يترك واجباتها، فهذا تحت مشيئة الله تعالى، وقد يكون لهذا نوافل يكمل بها فرائضه كما جاء في الحديث ... )) وعلى هذا المحمل يدل كلام الإمام أحمد (¬2) أيضًا الذي شهر عنه بعض أتباعه المتأخرين القول بتكفير تارك الصلاة دون تفصيل. وكلامه يدل على خلاف ذلك بحيث لا يخالف هذا الحديث الصحيح، كيف وقد أخرجه في (مسنده) كما أخرج حديث عائشة بمعناه كما تقدم؟! فقد ذكر ابنه عبد الله في (مسائله) (ص 55) قال: (سألت أبي -رحمه الله- عن ترك الصلاة متعمدًا؟ قال: ( ... والذي يتركها لا يصليها والذي يصليها، في غير وقتها؛ أدعوه ثلاثًا، فإن صلى وإلا ضربت عنقه، هو عندي بمنزلة المرتد ... ). قلت: فهذا نص من الإمام أحمد بأنه لم يكفر بمجرد تركه للصلاة، وإنما بامتناعه عن الصلاة، مع علمه بأنه يقتل إن لم يصل، فالسبب هو إيثاره القتل على الصلاة، فهو الذي دل على أن كفره كفر اعتقادي فاستحق القتل. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق (ص 8، 9). (¬2) انظر ما سبق في المقدمة (ص 16). (ع).

ونحوه ما ذكره المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام ابن تيمية- في كتابه (المحرر في الفقه الحنبلي) (ص 62): (ومن أخر صلاة تكاسلًا لا جحودًا، أمر بها، فإن أصر حتى ضاق وقت الأخرى وجب قتله). قلت: فلم يكفر بالتأخير، وإنما بالإصرار المنبئ عن الجحود. ولذلك قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في (مشكل الآثار) في باب عقده في هذه المسألة، وحكى شيئًا من أدلة الفريقين، ثم اختار أنه لا يكفر. قال (4/ 228): (والدليل على ذلك أنا نأمره أن يصلي، ولا نأمر كافرًا أن يصلي، ولو كان بما كان منه كافرًا لأمرناه بالإسلام، فإذا أسلم أمرناه بالصلاة، وفي تركنا لذلك؛ وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة، ومن ذلك أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أفطر في رمضان يومًا متعمدًا بالكفارة التي أمره بها، وفيها الصيام، ولا يكون الصيام إلا من المسلمين. ولما كان الرجل يكون مسلمًا إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس، ومن صيام رمضان: كان كذلك، ويكون كافرًا بجحوده لذلك، ولا يكون كافرًا بتركه إياه بغير جحود منه له، -ولا يكون كافرًا إلا من حيث كان مسلمًا-، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام، فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام). قلت: وهذا فقه جيد، وكلام متين، لا مرد له، وهو يلتقي تمامًا مع ما تقدم من كلام الإمام أحمد رحمه الله، الدال على أنه لا يكفر لمجرد الترك، بل بامتناعه من الصلاة بعد دعائه إليها. وإن مما يؤكد ما حملت عليه كلام الإمام أحمد، ما جاء في كتاب (الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) للشيخ علاء الدين المرداوي، قال رحمه الله (1/ 402) كالشارح لقول أحمد المتقدم آنفًا: (أدعوه ثلاثًا): (الداعي له هو الإمام أو نائبه، فلو ترك صلوات كثيرة قبل الدعاء لم يجب قتله، ولا يكفر على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم). وممن اختار هذا المذهب أبو عبد الله بن بطة، كما ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن قدامة المقدسي في كتابه (الشرح الكبير على (المقنع) للإمام موفق الدين المقدسي) (1/ 385) وزاد أنه أنكر قول من قال بكفره قال أبو الفرج: (وهو قول أكثر الفقهاء، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي). ثم استدل على ذلك بأحاديث كثيرة، أكثرها عند ابن القيم، ومنها حديث عبادة المتقدم في كلام ابن تيمية فقال عقبه: (ولو كان كافرًا لم يدخله في المشيئة). قلت: ويؤكد ذلك حديث الكتاب وحديث عائشة؛ تأكيدًا لا يدع شكًا أو شبهة فلا تنس. ثم قال أبو الفرج: (ولأن ذلك إجماع المسلمين، فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحدًا من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه، ولا منع ميراث مورثه، ولا فرق بين الصلاة من أحدهما مع كثرة تاركي الصلاة ولو كفر لثبتت هذه الأحكام. ولا نعلم خلافًا بين المسلمين أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها مع اختلافهم في المرتد. وأما الأحاديث المتقدمة (يعني التي احتج بها المكفرون كحديث: (بين الرجل وبين الكفر ترك

الصلاة) فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار، لا على الحقيقة، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) ... وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد. قال شيخنا رحمه الله (يعني الموفق المقدسي): وهذا أصوب القولين، والله أعلم). قلت: ونقله الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله في حاشيته على (المقنع) (1/ 95 - 96) لابن قدامة مقرًا له. ومع تصريح الإمام الشوكاني في (السيل الجرار) (1/ 292) بتكفير تارك الصلاة عمدًا، وأنه يستحق القتل، ويجب على إمام المسلمين قتله، فقد بين في (نيل الأوطار) أنه لا يعني كفرًا لا يغفر، فقال بعد أن حكى أقوال العلماء واختلافهم، وذكر شيئًا من أدلتهم (1/ 154 - 155): (والحق أنه كافر يقتل، أما كفره، فلأن الأحاديث صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق. ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها الأولون، لأنا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيعتها). ولقد صدق رحمه الله، لكن ذهابه إلى جواز إطلاق اسم (الكافر) على تارك الصلاة، هو توسع غير محمود عندي، لأن الأحاديث التي أشار إليها ليس فيها الإطلاق المدعى، وإنما فيها: (فقد كفر)! وما أظن أن أحدًا يستجيز له أن يشتق من هذا الفعل اسم فاعل، فيقول منه: (كافر)، إذن لزمه أن يطلقه أيضًا على كل من قيل فيه: (كفر)، كالذي يحلف بغير الله ومن قاتل مسلمًا أو تبرأ من نسب، ونحو ذلك مما جاء في الأحاديث. نعم؛ لو صح ما رواه أبو يعلى (2349) وغيره عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام؛ من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان). أقول: لو صح هذا لكان دليلًا واضحًا على جواز إطلاقه على تارك الصلاة، ولكنه لم يصح؛ كما كنت بينته في (السلسلة الضعيفة) (94). والخلاصة: أن مجرد الترك لا يمكن أن يكون حجة لتكفير المسلم، وإنما هو فاسق، أمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والحديث الذي هو عماد هذه الرسالة نص صريح في ذلك لا يسع مسلمًا أن يرفضه. وأن من دعي إلى الصلاة، وأنذر بالقتل إن لم يستجب فقتل فهو كافر -يقينًا- حلال الدم، لا يصلي عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين. فمن أطلق التكفير فهو مخطئ ومن أطلق عدم التكفير فهو مخطئ، والصواب التفصيل. وبعد: فإن أخشى ما أخشاه أن يبادر بعض المتعصبين الجهلة، إلى رد هذا الحديث الصحيح لدلالته الصريحة على أن تارك الصلاة كسلًا مع الإيمان بوجوبها داخل في عموم قوله تعالى: { ... ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، كما فعل بعضهم أخيرًا بتاريخ (1407 هـ)؛ فقد تعاون اثنان من طلاب العلم -أحدهما سعودي والآخر مصري-، فتعقباني في بعض الأحاديث من المئة الأولى من (سلسلة الأحاديث

الصحيحة) منها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (برقم: 87) ولفظه: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز؛ يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: (لا إله إلا الله) فنحن نقولها. قال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم (لا إله إلا الله) وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثًا، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار. (ثلاثًا). قلت: فسودوا في تضعيف هذا الحديث ثلاث صفحات كبار في الرد علي لتصحيحي إياه، ولم يجدا ما يتعلقان به لتضعيفه إلا أنه من رواية أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، بحجة أنه كان يرى الإرجاء! وأن الحديث موافق لبدعة الإرجاء!! وهذا من الجهل البالغ، ولا مجال الآن لبيانه إلا مختصرًا، فإن أبا معاوية مع كونه ثقة محتجًا به عند الشيخين؛ فإنه قد توبع من ثقة مثله، وأن الحديث لا صلة له بالإرجاء مطلقًا. وهما إنما ادعيا ذلك لجهلهم بالعلم، وكيف يكون ذلك وقد صححه الحاكم والذهبي، وكذا ابن تيمية والعسقلاني والبوصيري. ولئن جاز في عقلهما أن هؤلاء العلماء كانوا في تصحيحهم إياه جميعًا مخطئين! فهل وصل الأمر بهما أن يعتقدا بأنهم يصححون ما يؤيد الإرجاء؟! تالله إنها لإحدى الكبر أن يتسلط على هذا العلم من لا يحسنه، وأن يضعفوا ما أهل العلم يصححونه! وهذا الحديث الصحيح يستفاد منه أن الجهل قد يبلغ ببعض الناس أنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادة، وهذا لا يعني أنهم يعرفون وجوب الصلاة وسائر الأركان، ثم هم لا يقومون بها؛ كلا ليس في الحديث شيء من ذلك، بل هم في ذلك ككثير من أهل البوادي، والمسلمين حديثًا في بلاد الكفر، لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين. وقد يقع شيء من ذلك في بعض العواصم، فقد سألني أحدهم هاتفيًا عن امرأة تزوجها، وكانت تصلي دون أن تغتسل من الجماع! وقريبًا سألني إمام مسجد ينظر إلى نفسه أنه على شيء من العلم يسوغ له أن يخالف العلماء! سألني عن ابنه أنه كان يصلي جنبًا بعد أن بلغ مبلغ الرجال واحتلم، لأنه كان لا يعلم وجوب الغسل من الجنابة!! وقد قال ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) (22/ 41): (ومن علم أن محمدًا رسول الله، فآمن بذلك ولم يعلم كثيرًا مما جاء به لم يعذبه الله على ما لم يبلغه، فإنه إذا لم يعذبه على ترك الإيمان بعد البلوغ فإنه [أن] لا يُعذبه على بعض شرائطه إلا بعد البلوغ أولى وأحرى، وهذه سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المستفيضة عنه في أمثال ذلك ... ). ثم ذكر أمثلة طيبة، منها المستحاضة، قالت: إني أستحاض حيضة شديدة تمنعني الصلاة والصوم؟ فأمرها بالصلاة زمن دم الإستحاضة، ولم يأمرها بالقضاء. قلت: وهذه المستحاضة هي فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها، وحديثها في (الصحيحين) وغيرهما، وهو مخرج في (صحيح أبي داود) (281).

ومثلها أم حبيبة بنت جحش زوجة عبد الرحمن بن عوف، واستحيضت سبع سنين، وحديثها عند الشيخين أيضًا، وهو مخرج في (الصحيح) أيضًا (283). وثمة ثالثة، وهي حمنة بنت جحش، وهي التي أشار إليها ابن تيمية، فإن في حديثها: (إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها؟ قد منعتني الصلاة والصوم ... ) الحديث. هذا؛ وهناك نص آخر للإمام أحمد، كان ينبغي أن يضم إلى ما سبق نقله عنه لشديد ارتباطه به، ودلالته أيضًا على أن تارك الصلاة لا يكفر بمجرد الترك ولكن هكذا قدر. قال عبد الله بن الإمام أحمد في (مسائله) (ص 56/ 195): (سألت أبي عن رجل فرط في صلوات شهرين؟ فقال: (يصلي ما كان في وقت يحضره ذكر تلك الصلوات، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر وقت الصلاة التي ذكر فيها هذه الصلوات التي فرط فيها؛ فإنه يصلي هذه التي يخاف فوتها، ولا يضيع مرتين، ثم يعود فيصلي أيضًا حتى يخاف فوت الصلاة التي بعدها، إلا إن كان كثر عليه، ويكون ممن يطلب المعاش، ولا يقوى أن يأتي بها، فإنه يصلي حتى يحتاج إلى أن يطلب ما يقيمه من معاشه، ثم يعود إلى الصلاة، لا تجزئه صلاة وهو ذاكر الفرض المتقدم قبلها، فهو يعيدها أيضًا إذا ذكرها، وهو في صلاة). فانظر أيها القارئ الكريم: هل ترى في كلام الإمام أحمد هذا إلا ما يدل على ما سبق تحقيقه أن المسلم لا يخرج من الإسلام بمجرد ترك تلك الصلاة، بل صلوات شهرين متتابعين! بل وأذن له أن يؤجل قضاء بعضها لطلب المعاش! وهذا عندي يدل على شيئين: أحدهما: وهو ما سبق وهو أنه يبقى على إسلامه، ولو لم تبرأ ذمته بقضاء كل ما عليه من الفوائت. والآخر: أن حكم القضاء دون حكم الأداء؛ لأنني لا أعتقد أن الإمام أحمد، بل ولا من هو دونه في العلم يأذن بترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعذر طلب المعاش. والله سبحانه وتعالى أعلم. واعلم أخي المسلم أن هذه الرواية عن الإمام أحمد، وما في معناها هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه كل مسلم لذات نفسه أولًا، ولخصوص الإمام أحمد ثانيًا، لقوله رحمه الله: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) (¬1)، وبخاصة أن الأقوال الأخرى المروية عنه على خلاف ما تقدم مضطربة جدًا، كما تراها في (الإنصاف) (1/ 327 - 328) وغيره من الكتب المعتمدة. ومع اضطرابها؛ فليس في شيء منها التصريح بأن المسلم يكفر بمجرد ترك الصلاة. وإذ الأمر كذلك؛ فيجب حمل الروايات المطلقة عنه على الروايات المقيدة، والمبينة لمراده رحمه الله، وهي ما تقدم نقله عن ابنه عبد الله. ولو فرضنا أن هناك رواية صريحة عنه في التكفير بمجرد الترك، وجب تركها، والتمسك بالروايات الأخرى لموافقتها لهذا الحديث الصحيح الصريح في خروج تارك الصلاة من النار بإيمانه ولو مقدار ذرة. وبهذا صرح كثير من علماء الحنابلة المحققين، كابن قدامة المقدسي، كما تقدم في نقل أبي الفرج عنه ونص كلام ابن قدامة (¬2): ¬

_ (¬1) انظر مقدمة شيخنا الألباني على كتابه المعطار "صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (ص 52، 55. طبعة المعارف). (¬2) وانظر كتاب "منح الشفا الشافيات" (103) للبهوتي (ع).

(وإن ترك شيئًا من العبادات الخمسة تهاونًا لم يكفر). كذا في كتابه (المقنع) ونحوه في (المغني) (2/ 298 - 302)، في بحث طويل له، ذكر الخلاف فيه وأدلة كل ثم انتهى إلى هذا الذي في (المقنع). وهو الحق الذي لا ريب فيه وعليه مؤلفًا (الشرح الكبير) و (الإنصاف) كما تقدم. وإذا عرفت الصحيح من قول أحمد فلا يرد عليه ما ذكره السبكي في ترجمة الإمام الشافعي، حيث قال في (طبقات الشافعية الكبرى) (1/ 220): (حكي أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة، فقال له الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفر؟ قال: نعم، قال: إن كان كافرًا فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، قال: فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه، قال: يسلم بأن يصلي، قال: صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها فانقطع أحمد وسكت)!!! فأقول: لا يرد هذا على الإمام أحمد -رحمه الله- لأمرين: أحدهما: أن الحكاية لا تثبت، وقد أشار إلى ذلك السبكي -رحمه الله- بتصديره إياها بقول: (حُكيَ) فهي منقطعة. والآخر: أنه ذُكر بناء على القول بأن أحمد يكفر المسلم بمجرد ترك الصلاة، وهذا لم يثبت عنه -كما تقدم بيانه-. وإنما يرد هذا على بعض المشايخ الذين لا يزالون يقولون بالتكفير بمجرد الترك وأملي أنهم سيرجعون عنه بعد أن يقفوا على هذا الحديث الصحيح -الذي بنينا هذه الرسالة عليه-، وعلى قول أحمد -وغيره من كبار أئمة الحنابلة- الموافق له. فإن تكفير المسلم الموحد بعمل يصدر منه غير جائز، حتى يتبين منه أنه جاحد، ولو لبعض ما شرع الله، كالذي يدعى إلى الصلاة وإلا قُتل -كما تقدم-. ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في (الفتح) (12/ 300) عن الغزالي أنه قال: (والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير ما وجد إليه سبيلًا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة، أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد). هذا وقد بلغني أن (بعضهم) لما أوقف على هذا الحديث شكك في دلالته على نجاة المسلم التارك للصلاة من الخلود في النار مع الكفار، وزعم أنه ليس له ذكر في كل الدفعات التي أخرجت من النار. وهذه مكابرة عجيبة، تذكرنا بمكابرة بعض متعصبة المذاهب في رد دلالات النصوص انتصارًا للمذهب فإن الحديث صريح في أن الدفعة الأولى شملت المصلين بعلامة أن النار لم تأكل وجوههم، فما بعدها من الدفعات ليس فيها مصلون بداهة. فإن لم ينفع مثل هذا بعض المقلدين الجامدين، فليس لنا إلا أن نقول: {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}. والخلاصة: أن حديثنا هذا -حديث الشفاعة- حديث عظيم بكثير من دلالاته ومعانيه؛ من ذلك -كما قدمت- دلالته القاطعة على أن تارك الصلاة -مع إيمانه بوجوبها- لا يخرج من الملة، ولا يخلد في النار مع الكفرة والمشركين. ولذلك فإني أرجو مخلصًا كل من وقف على هذه الرسالة المتضمنة هذا الحديث -وغيره مما في معناه- أن يتراجع عن تكفير المسلمين التاركين للصلاة مع إيمانهم بها، والموحدين لله تبارك وتعالى؛ فإن

تكفير المسلم أمر خطير جدًا -كما تقدم-، وعليهم -فقط- أن يذكروا بعظمة الصلاة في الإسلام، بما جاء من ذلك في القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية الصحيحة؛ فإن الحكم قد خرج -مع الأسف- من أيدي العلماء فهم -لذلك- لا يستطيعون أن ينفذوا حكم الكفر والقتل في تارك واحد للصلاة، بل جمع من التاركين ولو في دولتهم، فضلًا عن الدول الإسلامية الأخرى! فإن قتل التارك للصلاة بعد دعوته إليها، إنما كان لحكمة ظاهرة، وهو لعله يتوب إذا كان مؤمنًا بها، فإذا آثر القتل عليها دل ذلك على أن تركه كان عن جحد، فيموت -والحالة هذه- كافرًا، كما تقدم عن ابن تيمية، فامتناعه منها في هذه الحالة هو الدليل على خروجه، من الملة وهذا مما لا سبيل إليه اليوم مع الأسف. فليقنع العلماء -إذن- من الوجهة النظرية بما عليه جمهور أئمة المسلمين بعدم تكفير تارك الصلاة، مع إيمانه بها. وقد قدمنا الدليل القاطع على ذلك من السنة الصحيحة فلا عذر لأحد بعد ذلك. {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. تنبيه: سبق النقل (ص 57 - 58) عن ابن قدامة وهو -رحمه الله- من جملة الذين فاتهم الإستدلال بهذا الحديث الصحيح للمذهب الصحيح في عدم تكفير تارك الصلاة كسلًا! لكن العجيب أنه ذكر حديثًا آخر لو صح لكان قاطعًا للخلاف؛ لأن فيه أن مولى للأنصار مات، وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغسله والصلاة عليه، ودفنه! وهو وإن كان قد سكت عنه؛ فإنه قد أحسن بذكره مع إسناده من رواية الخلال، الأمر الذي مكنني من دراسته، والحكم عليه بما يستحق من الضعف والنكارة، ولذلك أودعته في كتابي (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (6036). تنبيه ثان: بعد كتابة ما تقدم بأيام، أطلعني بعض إخواني على كتاب هام بعنوان: (فتح من العزيز الغفار بإثبات أن تارك الصلاة ليس من الكفار) تأليف عطاء بن عبد اللطيف أحمد، ففرحت به فرحًا كبيرًا، وازداد سروري حينما قرأته، وتصفحت بعض فصوله، وتبين لي أسلوبه العلمي، وطريقته في معالجة الأدلة المختلفة، التي منها -بل هي أهمها- تخريج الأحاديث، وتتبع طرقها وشواهدها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ليتسنى له بعد ذلك إسقاط ما لا يجوز الاشتغال به لضعفها، والاعتماد على ما ثبت منها، ثم الإستدلال به، أو الجواب عنه. وهذا ما صنعه الأخ المؤلف -جزاه الله خيرًا- خلافًا لبعض المؤلفين الذين يحشرون كل ما يؤيدهم دون أن يتحروا الصحيح فقط، كما فعل الذين ردوا علي في مسألة وجه المرأة من المؤلفين في ذلك؛ من السعوديين، والمصريين، وغيرهم. أما هذا الأخ (عطاء) فقد سلك المنهج العلمي في الرد على المكفرين؛ فتتبع أدلتهم، وذكر ما لها وما عليها، ثم ذكر الأدلة المخالفة لها على المنهج نفسه، ووفق بينها وبين ما يخالفها بأسلوب رصين متين، وإن كان يصحبه -أحيانًا- شيء من التساهل في التصحيح باعتبار الشواهد، ثم التكلف في التوفيق بينه وبين الأحاديث الصحيحة الدالة على كفر تارك الصلاة؛ كما فعل في حديث أبي الدرداء في الصلاة: ( ... فمن تركها فقد خرج من الملة)؛ فإنه بعد أن تكلم عليه، وبين ضعف إسناده، عاد فقواه بشواهده. وهي في الحقيقة شواهد قاصرة لا تنهض لتقوية هذا الحديث، ثم أغرب فتأول الخروج المذكور فيه بأنه خروج دون الخروج!!

وله غير ذلك من التساهل والتأويل، كالحديث المخرج في (الضعيفة) (6037). والحق: أن كتابه نافع جدًا في بابه، فقد جمع كل ما يتعلق به سلبًا أو إيجابًا، قبولًا أو رفضًا، دون تعصب ظاهر منه لأحد أو على أحد. وأحسن ما فيه الفصل الأول من الباب الثاني وهو كما قال: (في ذكر أدلة خاصة تدل على أن تارك الصلاة لا يخرج من الملة) وعدد أدلته المشار إليها اثنا عشر دليلًا. ولقد ظننت حين قرأت هذا العنوان في مقدمة كتابه، أن منها حديث الشفاعة هذا، لأنه قاطع للنزاع عند كل منصف -كما سبق بيانه-، ولكنه -مع الأسف- قد فاته، كما فات غيره من المتأخرين أو المتقدمين على ما سلف ذكره. غير أنه لا بد لي من التنويه بدليل من أدلته، لأهميته، وغفلة المكفرين عنه، ألا وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق ... ) الحديث؛ وفيه ذكر التوحيد، والصلاة، وغيرها من الأركان الخمسة المعروفة والواجبات ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( ... فمن انتقص منهن شيئًا فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن، فقد نبذ الإسلام وراءه). وقد خرجه المومي إليه تخريجًا جيدًا، وتتبع طرقه وبين أن بعضها صحيح الإسناد، ثم بين دلالته الصريحة على عدم خروج تارك الصلاة من الملة. وقد كنت خرجت هذا الحديث قديمًا في كتابي (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (رقم: 333) منذ أكثر من ثلاثين سنة واستفاد هو منه كما هو شأن المتأخر مع المتقدم، ولكنه لم يشر إلى ذلك أدنى إشارة، ولقد كان يحسن به ذلك، ولا سيما أنه خصني بالنقد في بعض الأحاديث، وذلك مما لا يضرني ألبتة، بل إنه لينفعني أصاب أم أخطأ، وليس الآن مجال تفصيل القول في ذلك. وقال الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله: حكم تارك الصلاة إن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى، وقد تنازع فيها أهل العلم سلفًا وخلفًا، فقال الإمام أحمد بن حنبل: "تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا من الملة، يقتل إذا لم يتب ويصل". وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: "فاسق ولا يكفر". ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي: "يقتل حدًا" وقال أبو حنيفة: "يعزر ولا يقتل". وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع، فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّه} [الشورى: من الآية 10]. وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: من الآية 59]. ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر؛ لأن كل واحد يرى أن الصواب معه, وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة, وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل على كفر تارك الصلاة, الكفر الأكبر المخرج عن الملة.

أولًا: من الكتاب: قال تعالى في سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّين} [التوبة: من الآية 11]. وقال في سورة مريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59، 60]. فوجه الدلالة من الآية الثانية -آية سورة مريم- أن الله قال في المضيعين للصلاة, المتبعين للشهوات: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} فدل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات غير مؤمنين. ووجه الدلالة من الآية الأولى -آية سورة التوبة- أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: * أن يتوبوا من الشرك. * أن يقيموا الصلاة. * أن يؤتوا الزكاة. فإن تابوا من الشرك, ولم يقيموا الصلاة, ولم يؤتوا الزكاة, فليسوا بإخوة لنا. وإن أقاموا الصلاة, ولم يؤتوا الزكاة, فليسوا بإخوة لنا. والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية, فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر. ألا ترى إلى قوله تعالى في آية القتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: من الآية 178]. فجعل الله القاتل عمدًا أخًا للمقتول, مع أن القتل عمدًا من أكبر الكبائر، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. ثم ألا تنظر إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] , إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} [الحجرات: 10]. فأثبت الله تعالى الأخوة بين الطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين, مع أن قتال المؤمن من الكفر، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر" (¬1). لكنه كفر لا يخرج من الملة, إذ لو كان مخرجًا من الملة ما بقيت الأخوة الإيمانية معه. والآية الكريمة قد دلت على بقاء الأخوة الإيمانية مع الاقتتال. وبهذا علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة, إذ لو كان فسقًا أو كفرًا دون كفر، ما انتفت الأخوة الدينية به, كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الأيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، (48) ومسلم، كتاب الأيمان، باب بيان قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سباب المسلم فسوق" (64).

فإن قال قائل: هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليه مفهوم آية التوبة؟ قلنا: كفر تارك إيتاء الزكاة قال به بعض أهل العلم, وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة, ذكرها الله تعالى في كتابه, وذكرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته, ومنها ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه, أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عقوبة مانع الزكاة, وفي آخره: "ثم يرى سبيله, إما إلى الجنة وإما إلى النار". وقد رواه مسلم بطوله في: باب "إثم مانع الزكاة" (¬1) , وهو دليل على أنه لا يكفر، إذ لو كان كافرًا ما كان له سبيل إلى الجنة. فيكون منطوق هذا الحديث مقدمًا على مفهوم آية التوبة؛ لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو معلوم في أصول الفقه. ثانيًا: من السنة: 1 - قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله, عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (¬2). 2 - وعن بريده بن الحصيب رضي الله عنه, قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر". رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه (¬3). والمراد بالكفر هنا: الكفر المخرج عن الملة؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الصلاة فصلًا بين المؤمنين والكافرين, ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام, فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين. 3 - وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها, أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قال: "ستكون أمراء, فتعرفون وتنكرون, فمن عرف برئ, ومن أنكر سلم, ولكن من رضي وتابع." قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" (¬4). 4 - وفي صحيح مسلم أيضًا من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه, أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم, ويصلون عليكم وتصلون عليهم, وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم, وتلعنونهم ويعلنونكم". قيل: يا رسول الله, أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" (¬5). ففي هذين الحديثين الأخيرين دليل على منابذة الولاة وقتالهم بالسيف إذا لم يقيموا الصلاة, ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم إلا إذا أتوا كفرًا صريحًا, عندنا فيه برهان من الله تعالى, لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "دعانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعناه, فكان فيما أخذ علينا, أن بايعنا على السمع والطاعة, في منشطنا ومكرهنا, وعسرنا ويسرنا, وأثرة علينا, وألا ننازع الأمر أهله". قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا ¬

_ (¬1) رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، (987). (¬2) رواه مسلم، كتاب الأيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، (82). (¬3) رواه أحمد (5/ 346) والترمذي، كتاب الأيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، (2621) وقال: حديث حسن صحيح غريب. والنسائي، كتاب الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة (463) وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079). (¬4) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، (1854). (¬5) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب خيار الأئمة وشرارهم (1855).

عندكم من الله فيه برهان" (¬1). وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, منابذتهم وقتالهم بالسيف كفرًا بواحًا عندنا فيه من الله برهان. ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر أو أنه مؤمن, وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد, شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, وثواب ذلك, وهي إما مقيدة بقيود في النص نفسه يمتنع معها أن يترك الصلاة, وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة, وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة, والخاص مقدم على العام. فإن قال قائل: ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحدًا لوجوبها؟ قلنا: لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين: الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به. فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة, دون الإقرار بوجوبها, فلم يقل الله تعالى: فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة, ولم يقل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة. أوالعهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة, فمن جحد وجوبها فقد كفر. ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن الكريم, قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: من الآية 89]. وقال تعالى مخاطبًا نبيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} [النحل: من الآية 44]. الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطًا للحكم: فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك. فلوا صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط, وأركان, وواجبات, ومستحبات, لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافرًا مع أنه لم يتركها. فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدًا لوجوبها غير صحيح, وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفرًا مخرجًا عن الملة, كما جاء ذلك صريحًا فيما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه, قال: أوصانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تتركوا الصلاة عمدًا, فمن تركها عمدًا متعمدًا فقد خرج من الملة". وأيضًا فإننا لو حملناه على ترك الجحود لم يكن لتخصيص الصلاة في النصوص فائدة، فإن هذا الحكم عام في الزكاة, والصيام, والحج, فمن ترك منها واحدًا جاحدًا لوجوبه كفر إن كان غير معذور بجهل. وكما أن كفر تارك الصلاة مقتضى الدليل السمعي الأثري, فهو مقتضى الدليل العقلي النظري. ¬

_ (¬1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سترون بعدي أمورًا تنكرونها" (7055، 7056) ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، (1709 م).

فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين, والتي جاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها. وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟ فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقي إيمانًا مع التارك. فإن قال قائل: ألا يحتمل أن يراد بالكفر في تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر الملة؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟ فيكون كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب, النياحة على الميت". وقوله: "سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر" ونحو ذلك. قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه: الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الصلاة حدًا فاصلًا بين الكفر والإيمان, وبين المؤمنين والكفار. والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره, فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر. الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام, فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام؛ لأنه هدم ركنًا من أركان الإسلام, بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلًا من أفعال الكفر. الثالث: أن هناك نصوصًا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرًا مخرجًا من الملة؛ فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق. الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف. ففي ترك الصلاة قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر" فعبر بـ "أل" الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة "كفر" منكرًا أو كلمة "كفر" بلفظ الفعل, فإنه دال على أن هذا من الكفر، أو أنه كفر في هذه الفعلة وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص70 طبعة السنة المحمدية) على قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اثنتان في الناس هما بهم كفر". قال: "فقوله: "هما بهم كفر" أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس, فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس, لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرًا الكفر المطلق, حتى تقوم به حقيقة الكفر. كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" وبين كفر منكر في الإثبات انتهى كلامه. فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفرًا مخرجًا من الملة بمقتضى هذه الأدلة, كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد ابن حنبل وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَات} [مريم: من الآية 59]. وذكر ابن القيم في "كتاب الصلاة" أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي, وأن الطحاوى نقله عن الشافعي نفسه. وعلى هذا القول جمهور الصحابة, بل حكى غير واحد إجماعهم عليه. قال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي، كتاب الأيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، (2622) والحاكم (1/ 7).

وقال إسحاق بن راهويه الإمام المعروف: "صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يومنا هذا, أن تارك الصلاة عمدًا من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر". وذكر ابن حزم أنه قد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة, قال: "ولا نعلم لهؤلاء مخالفًا من الصحابة". نقله عنه المنذري في "الترغيب والترهيب" وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عباس, وجابر بن عبد الله, وأبا الدرداء رضي الله عنهم. قال: "ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه, وعبد الله بن المبارك, والنخعي, والحكم بن عتيبة, وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي, وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم". أ. هـ. فإن قال قائل: ما هو الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة؟ قلنا: الجواب: أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن, أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة. ونحو ذلك. ومن تأملها وجدها لا تخرج عن خمسة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر. القسم الأول: أحاديث ضعيفة غير صريحة حاول موردها أن يتعلق بها ولم يأت بطائل. القسم الثاني: ما لا دليل فيه أصلًا للمسألة. مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: من الآية 48]. فإن معنى قوله تعالى: {مَا دُونَ ذَلِكَ} ما هو أقل من ذلك, وليس معناه ما سوى ذلك, بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله, فهو كافر كفرًا لا يغفر وليس ذنبه من الشرك. ولو سلمنا أن معنى {مَا دُونَ ذَلِكَ} ما سوى ذلك, لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك, والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركًا. القسم الثالث: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة. مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ بن جبل: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار" وهذا أحد ألفاظه, وورد نحوه من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وعتبان بن مالك رضي الله عنهم. القسم الرابع: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة. مثل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عتبان بن مالك: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" رواه البخاري. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار" رواه البخاري. فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنعه من ترك الصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصلاة ولا بد، فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقًا في ابتغاء وجه الله، فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من

ما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيرها

قلبه, فلا بد أن يحمله ذلك الصدق على أداء الصلاة مخلصًا بها لله تعالى متبعًا فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة. القسم الخامس: ما ورد مقيدًا بحال يعذر فيها بترك الصلاة. كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب" الحديث. وفيه: "وتبقى طوائف من الناس, الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: "ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون لا صلاة, ولا صيام, ولا نسك, ولا صدقة" فأعرض عنه حذيفة, ثم ردها عليه ثلاثًا, كل ذلك يعرض عنه حذيفة, ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: "يا صلة, تنجيهم من النار" ثلاثًا. فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام؛ لأنهم لا يدرون عنها, فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه, وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع, أو قبل أن يتمكنوا من فعلها, كمن مات عقب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع, أو أسلم في دار الكفر فمات قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع. والحاصل أن ما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم ما استدل به من يرى كفره, لأن ما استدل به أولئك: إما أن يكون ضعيفًا غير صريح, وإما ألا يكون فيه دلالة أصلًا, وإما أن يكون مقيدًا بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة, أو مقيدًا بحال يعذر فيها بترك الصلاة, أو عامًا مخصوصًا بأدلة تكفيره!. فإذا تبين كفره بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم, وجب أن تترتب أحكام الكفر والردة عليه, ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجودًا أو عدمًا. ما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيرها يترتب على الردة أحكام دنيوية وأخروية: أولًا: من الأحكام الدنيوية: 1 - سقوط ولايته: فلا يجوز أن يولى شيئًا يشترط في الولاية عليه الإسلام, وعلى هذا فلا يولى على القاصرين من أولاده وغيرهم, ولا يزوج أحدًا من مولياته من بناته وغيرهن. وقد صرح فقهاؤنا رحمهم الله تعالى في كتبهم المختصرة والمطولة: أنه يشترط في الولي الإسلام إذا زوج مسلمة, وقالوا: "لا ولاية لكافر على مسلمة". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا نكاح إلا بولي مرشد", وأعظم الرشد وأعلاه دين الإسلام, وأسفه السفه وأدناه الكفر والردة عن الإسلام. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: من الآية 130]. 2 - سقوط إرثه من أقاربه: لأن الكافر لا يرث المسلم, والمسلم لا يرث الكافر، لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما, أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. 3 - تحريم دخوله مكة وحرمها: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: من الآية 28].

4 - تحريم ما ذكاه من بهيمة الأنعام: "الإبل والبقر والغنم" وغيرها مما يشترط لحله الذكاة؛ لأن من شروط الذكاة: أن يكون المذكي مسلمًا أو كتابيًا "يهوديًا أو نصرانيًا", فأما المرتد والوثني والمجوسي ونحوهم فلا يحل ما ذكاه. قال الخازن في تفسيره: " أجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له". وقال الإمام أحمد: "لا أعلم أحدًا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة". 5 - تحريم الصلاة عليه بعد موته, وتحريم الدعاء له بالمغفرة والرحمة؛ لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]. وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113، 114]. ودعاء الإنسان بالمغفرة والرحمة لمن مات على الكفر بأي سبب كان كفره اعتداء في الدعاء, ونوع من الاستهزاء بالله, وخروج عن سبيل النبي والمؤمنين. وكيف يمكن لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعو بالمغفرة والرحمة لمن مات على الكفر وهو عدو لله تعالى؟! كما قال عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]. فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى عدو لكل الكافرين. والواجب على المؤمن أن يتبرأ من كل كافر؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26، 27]. وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: من الآية4]. وليتحقق له بذلك متابعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, حيث قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: من الآية 3]. ومن أوثق عرى الإيمان: أن تحب في الله, وتكره في الله, وتوالي في الله, وتعادي في الله, لتكون في محبتك, وكراهيتك, وولايتك, وعداوتك, تابعًا لمرضاة الله عز وجل. 6 - تحريم نكاحة المرأة المسلمة: لأنه كافر، والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} [الممتحنة: من الآية 10]. قال في المغني 6/ 592: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم". قال: "والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت, لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين

الذي انتقلت إليه في إقرارها عليه, ففي حلها أولى". وقال في باب المرتد 8/ 130: "وإن تزوج لم يصح تزوجه؛ لأنه لا يقر على النكاح, وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة". فأنت ترى أنه صرح بتحريم نكاح المرتدة, وأن نكاح المرتد غير صحيح, فماذا يكون لو حصلت الردة بعد العقد؟ قال في المغني 6/ 298:"إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال, ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما: تتعجل الفرقة. والثاني: تقف على انقضاء العدة". وفي المغني 6/ 639:" أن انفساخ النكاح بالردة قبل الدخول قول عامة أهل العلم, واستدل له. وفيه أيضًا أن انفساخه في الحال إذا كان بعد الدخول قول مالك وأبي حنيفة, وتوقفه على انقضاء العدة قول الشافعي. وهذا يقتضي أن الأئمة الأربعة متفقون على انفساخ النكاح بردة أحد الزوجين, لكن إن كانت الردة قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال, وإن كانت بعد الدخول فمذهب مالك وأبي حنيفة الانفساخ في الحال, ومذهب الشافعي الانتظار إلى انقضاء العدة, وعن أحمد روايتان كالمذهبين. وفي ص 640 منه: "وإن ارتد الزوجان معًا, فحكمهما حكم ما لو ارتد أحدهما, إن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة, وإن كان بعده فهل تتعجل أو تقف على انقضاء العدة على روايتين. وهذا مذهب الشافعي" ثم نقل عن أبي حنيفة أن النكاح لا ينفسخ استحسانًا, لأنه لم يختلف بهما الدين, فأشبه ما لو أسلما, ثم نقض صاحب المغني قياسه طردًا وعكسًا. وإذ تبين أن نكاح المرتد لا يصح من مسلم سواء كان أنثى أم رجلًا, وأن هذا مقتضى دلالة الكتاب والسنة, وتبين أن تارك الصلاة كافر بمقتضى دلالة الكتاب والسنة وقول عامة الصحابة؛ تبين أن الرجل إذا كان لا يصلي وتزوج امرأة مسلمة, فإن زواجه غير صحيح, ولا تحل له المرأة بهذا العقد, وأنه إذا تاب إلى الله تعالى ورجع إلى الإسلام وجب عليه تجديد العقد. وكذلك الحكم لو كانت المرأة هي التي لا تصلي. وهذا بخلاف أنكحة الكفار حال كفرهم, مثل أن يتزوج كافر بكافرة, ثم تسلم الزوجة فهذا إن كان إسلامها قبل الدخول انفسخ النكاح, وإن كان إسلامها بعده لم ينفسخ النكاح, ولكن ينتظر فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته, وإن انقضت العدة قبل إسلامه فلا حق له فيها, لأنه تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أن أسلمت. وقد كان الكفار في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسلمون مع زوجاتهم, ويقرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنكحتهم, إلا أن يكون سبب التحريم قائمًا, مثل أن يكون الزوجان مجوسيين وبينهما رحم محرم, فإذا أسلما حينئذ فرق بينهما لقيام سبب التحريم. وهذه المسالة ليست كمسألة المسلم الذي كفر بترك الصلاة, ثم تزوج مسلمة, فإن المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع كما سبق ولو كان الكافر أصليًا غير مرتد, ولهذا لو تزوج كافر مسلمة فالنكاح باطل, ويجب التفريق بينهما, ولو أسلم وأراد أن يرجع إليها لم يكن له ذلك إلا بعقد جديد. 7 - حكم أولاد تارك الصلاة من مسلمة تزوج بها: فأما بالنسبة للأم فهم أولاد لها بكل حال. وإما بالنسبة للزوج فعلى قول من لا يرى كفر تارك الصلاة فهم أولاده يلحقون به بكل حال؛

ثانيا: الأحكام الأخروية المترتبة على الردة

لأن نكاحه صحيح. وأما على قول من يرى كفر تارك الصلاة وهو الصواب على ما سبق تحقيقه في الفصل الأول فإننا ننظر: * فإن كان الزوج لا يعلم أن نكاحه باطل, أو لا يعتقد ذلك, فالأولاد أولاده يلحقون به, لأن وطأه في هذه الحال مباح في اعتقاده, فيكون وطء شبهة, ووطء الشبهة يلحق به النسب. * وإن كان الزوج يعلم أن نكاحه باطل ويعتقد ذلك, فإن أولاده لا يلحقون به, لأنهم خلقوا من ماء من يرى أن جماعه محرم لوقوعه في امرأة لا تحل له. ثانيًا: الأحكام الأخروية المترتبة على الردة 1 - أن الملائكة توبخه وتقرعه, بل تضرب وجوههم وأدبارهم, قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [لأنفال: 50، 51]. 2 - أنه يحشر مع أهل الكفر والشرك لأنه منهم, قال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22، 23]. والأزواج جمع "زوج" وهو"الصنف" أي احشروا الذين ظلموا ومن كان من أصنافهم من أهل الكفر والظلم. 3 - الخلود في النار أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 64 - 66]. وإلى هنا انتهى ما أردنا القول فيه في هذه المسألة العظيمة التي ابتلي بها كثير من الناس. * وباب التوبة مفتوح لمن أراد أن يتوب. فبادر أخي المسلم إلى التوبة إلى الله عز وجل مخلصًا لله تعالى, نادمًا على ما مضى, عازمًا على ألا تعود, مكثرًا من الطاعات, فـ {مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 70، 71]. أسأل الله تعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا, وأن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم, صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين, والصديقين والشهداء, والصالحين, غير المغضوب عليهم ولا الضالين. مخالفات الطهارة - الجهر بالنية عد الوضوء: وهذا مخالف لسنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ولم يكن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في أوله: نويت رفع الحدث، ولا استباحة الصلاة لا هو ولا أحد من أصحابه ألبتة ولم يرد عنه في ذلك حرف واحد لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف. - ومن المخالفات أيضًا: الدعاء عند غسل أعضاء الوضوء، كقول بعضهم عند غسل يده اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني، وعند غسل وجهه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه ... إلخ. قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ولم يحفظ عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه مكذوب مختلق لم يقل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا منه، ولا علمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله، وقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد

أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين". في آخره فهذا ثابت (¬1). وفى حديث آخر عند النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضًا: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك". - ومن المخالفات أيضًا: الإسراف في ماء الوضوء. أخرج البخاري، عن أنس -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغسل -أو كان يغتسل- بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد. وقال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في أول كتاب الوضوء من صحيحه: وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. - ومن المخالفات أيضًا: عدم إسباغ الوضوء. والإسباغ: الإكمال، قال في الفتح: اسبغوا، أي: أكملوا. روى البخاري في صحيحه عن محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة وكان يمر بنا، والناس يتوضئون من المطهرة قال: أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ويل للأعقاب من النار". وعن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلًا يصلي وفى ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعيد الوضوء، رواه أحمد، وأبو داود، وزاد: "والصلاة". قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسناد جيد؟ قال: جيد. والحديث أخرجه أبو داود، والحاكم. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى-: والحديث يدل على وجوب إعادة الوضوء من أوله على من ترك من غسل أعضائه مثل ذلك المقدار. - اسقبال القبلة عند البول أو الغائط: عن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يولها ظهره ولكن شرقوا أو غربوا" رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن. واختلف أهل العلم في هذا المبحث على عدة أقوال: وممن ذهب إلى القول بالتحريم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. قال ابن القيم: لا فرق بين الفضاء والبنيان لبضعة عشر دليلًا. قآل الشيخ ابن القاسم: وهو أصح المذاهب في هذه المسألة وليس مع من فرق ما يقاومها ألبتة. اهـ. - ومن المخالفات أيضًا: عدم التنزه من البول، وفي ذلك وعيد شديد كيف لا؟ وقد عده النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كبيرًا. أخرج البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحائط من حيطان المدينة -أو مكة- فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يعذبان وما يعذبان في كبير". ثم قال: "بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة". ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة. فقيل: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ فقال: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الطهارة رقم (234).

"لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا -أو- إلى أن ييبسا". - ومن المخالفات أيضًا: وهو متعلق بالذى قبله أن بعض الناس عند قضاء الحاجة لا يستر عورته الستر الشرعي بل يكتفي أو يهتم بستر قبله ودبره دون غيرهما، وهذا مخالف لما ورد عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أمره بتغطية الفخذ وأنها من العورة. أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، بإسناد صحيح، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مر على جرهد فقال: "يا جرهد غط فخذك فإن الفخذ عورة". وأخرج الحاكم في مستدركه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما بين السرة والركبة عورة". إسناده حسن. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض المسلمين هداهم الله يستحسن بعقله أشياء قد تكون مخالفة لشرع الله، ومن الأشياء المتعلقة بحديثنا هذا أن بعض الناس قد يدركه وقت الصلاة وهو حاقن لبوله فيتحامل على نفسه ويجهدها لأداء الصلاة، ولم يعرف أنه بفعله ذاك قد ضيق على نفسه، وخالف قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخثان". أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: عن الحاقن أيما أفضل يصلي بوضوء محتقنًا أو أن يحدث ثم يتيمم لعدم الماء؟ فأجاب -رحمه الله تعالى-: صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة منهي عنها، وفي صحتها روايتان، وأما صلاته بالتيمم فصحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق، والله أعلم. - ومن المخالفات أيضًا: جهل كثير من الناس عند استيقاظه من النوم فيبدأ بالوضوء قبل غسل يديه أو يدخل يديه في إناء الوضوء قبل غسلها، وقد ورد الأمر بغسل اليد قبل إدخالها في الإناء. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، وإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"، رواه مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس هداهم الله يتركون التسمية عند ابتداء الوضوء. فعن سعيد بن زيد، وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه"، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم. وقد تقدم أن ابن القيم أشار إلى ثبوت الحديث. وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق طرق الحديث: والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلًا، وقال ابن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله. قال شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى- في أثناء شرحه لكتاب منار السبيل: أما مسألة التسمية في مكان الخلاء فقال بعض أهل العلم: "إن ذكر اسم الله في الخلاء مكروه، والتسمية على الوضوء واجب، والواجب يقدم على المكروه". - مسح الرقبة في الوضوء: قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ولم يصح عنه في مسح العنق حديث ألبتة. اهـ (زاد المعاد 1/

195). - اعتقاد بعض الناس أنه لا بد من غسل الفرج في كل وضوء ولو لم يحدث: وهذا خطأ شائع. والصواب في هذا أن يقال: من أدركته الصلاة، وقد سبق ذلك نوم أو خرج ريح من دبره فما عليه إلا أن يتوضأ، ولا يحتاج في ذلك إلى غسل فرجه، ومن اعتقد خلاف ذلك فقد ابتدع في دين الله إضافة إلى أن ذلك ضربا من الوسوسة. وأما إذا أراد المسلم قضاء حاجته قبل الوضوء ففي هذه الحالة يجب عليه غسل فرجه وتنقية مكان البول والغائط. - يدل لذلك ما يأتي: فعن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: بت عند خالتي ميمونة ليلة فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الليل، فلما كان في بعض الليل قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتوضأ من شن معلق وضوءًا خفيفًا .. الحديث رواه البخاري، ولم يذكر ابن عباس أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غسل فرجه. وأخرج البخاري أيضًا، أن رجلًا قال لعبد الله بن زيد -رضي الله تعالى عنه- أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين ... الحديث، ولم يذكر فيه أنه غسل فرجه، ولا أشار إلى ذلك. قال شيخنا الفاضل عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-: وإنما يجب الإستنجاء أو الإستجمار من البول أو الغائط خاصة وما كان في معناهما قبل الوضوء (¬1). - ومن المخالفات المتعلقة بالوضوء: ما يقع فيه كثير من الناس من عدم إكمال غسل اليدين إلى المرافق وإيضاح ذلك كما يلي: عندما يتوضأ المسلم فإنه يبدأ فيسم الله ثم يغسل كفيه ثم يتمضمض ويستنشق ثم يغسل وجهه ثم يغسل يديه إلى المرافق، وهنا مكمن الخطأ فإن كثيرًا من الناس يبدأ بغسل يديه من أسفل الكف إلى آخر المرفق، وفعله هذا فيه نقص؛ لأن الواجب عليه غسل يديه كلها من أطراف الأصابع إلى المرافق، وقد نبه على ذلك شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-. كما نبه إلى ذلك الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى في أحد خطبه فقال: وانتبهوا لأمر يخل به كثير من الناس وذلك أن بعض الناس إذا غسل يديه بعد غسل وجهه بدأ بهما من أطراف الذراع إلى المرفق، ولا يغسل الكفين، وهذا خطأ لأن الكفين داخلان في مسمى اليد، وعلى هذا فيجب أن تغسل يديك بعد غسل وجهك من أطراف الأصابع إلى المرافق. كما أن بعض الناس في أيام الشتاء يكون عليه ثياب متعددة فيفسر كميه ولكن يفسرهما من دون المرفق، ولا يدخل المرفق في الغسل، وهذا خطأ فإن الواجب أن يفسر الإنسان كميه حتى يتجاوزا المرفقين لأجل أن يدخل المرفقين في الغسل (¬2). - ومن المخالفات المتعلقة بالطهارة أيضًا: أن بعض الناس إذا اغتسل للجنابة وخاصة البدين يكون ¬

_ (¬1) كتاب الدعوة الفتاوى: (ص: 39). (¬2) من رسالة للشيخ محمد بن عثيمين في الطهارة.

في جسمه مواضع أو مسافط بحيث يتراكم بعض اللحم على بعض كما هو الحال في جهة الصدر وعند إمرار الماء في أثناء الغسل ينحدر الماء على الطبقة العليا الساترة لما تحتها فتبقى الأجزاء المستورة جافة لم يصلها الماء، وفي هذه الحالة يكون الغسل ناقصًا. - ومن المخالفات التي يقع فيها كثير من الناس: أن بعض الناس يترك مواضع في بدنه لا يصلها الماء عند الوضوء أو الغسل، فمن تلك المواضع، وهو أكثرها: ما يكون بين الأصابع وخاصة أصابع القدمين، فيقوم بعض الناس في أثناء الوضوء بصب الماء على قدميه دون أن يقوم بإدخاله بين الأصابع فيبقى ما بين الأصابع جافًا لم يصل إليه الماء فيخل بوضوئه، ومن ثم بصلاته. وقد بين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك وخصه لأهميته فقال مخاطبًا أحد الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- اسمه لقيط بن صبرة -رضي الله تعالى عنه-: "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع"، الحديث أورده الحافظ في بلوغ المرام وقال: أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة. قال الصنعاني: ظاهر في إرادة أصابع اليدين والرجلين ... ثم قال: والحديث دليل على وجوب إسباغ الوضوء وهو إتمامه واستكمال الأعضاء، أسبغ الوضوء: أبلغه مواضعه ووفي كل عضو حقه، وفي غيره مثله. - ومن المواضع أيضًا: أن بعض الناس قد يكون على يده ساعة أو في إصبعه خاتم في أثناء الوضوء وعند الوضوء تحجب تلك الساعة أو ذلك الخاتم الموضع الذي تحته فلا يصل إليه الماء فيختل وضوؤه. والذي ينبغي عليه في مثل هذه الحالة: أن يخلع الساعة أو الخاتم أو يحركهما عن مكانهما ليعم الماء جميع العضو فيتم وضوؤه. قال البخاري: وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ. اهـ. - ومن المواضع أيضًا: أن بعض الناس قد يقع على يديه نوع من الدهان الذي تطلى به الحيطان، وهو ما يعرف بـ (البوية)، وهذا النوع إذا وقع على اليد يمنع وصول الماء إلى الجزء الذي يراد غسله فيبقى الوضوء ناقصًا. لذا فإن على من وقع على يديه شيء من هذا يبادر إلى إزالته قبل الوضوء بالمواد الخاصة لإزالته كالكيروسين، وما شابهه. - ومن المواضع أيضًا: أن بعض النساء يجعلن على أظفارهن ما يسمى بالمناكير -نسأل الله الثبات عند سؤال منكر ونكير- وهذا الطلاء فيه سماكة بحيث يمنع وصول الماء منعًا باتًا، لذلك فيجب على النساء اللاتي يضعن هذا الطلاء أن يزلنه قبل الوضوء حتى يعم الماء الجزء المغطى فيتم الوضوء. - بعض الناس إذا أحدث في مصلاه ضرب بيده ما تحته من السجاد ثم تيمم وصلى مع الجماعة: وهذا غالبًا ما يحصل إذا كان الزحمام شديدًا كما يحدث في الحرمين أو في المساجد الكبيرة، ويحدث هذا أيضًا عندما يكون الوقت باردا فيحدث الإنسان فيتكاسل عن الذهاب إلى أماكن الوضوء ليتوضأ بالماء، أو عند إقامة الصلاة، فيظن هذا أن إدراك الصلاة مع الجماعة بالتيمم أولى من الذهاب للوضوء، فجميع ما تقدم ذكره مما يقع فيه بعض الناس عن جهل أو حسن نية، ونقول على ذلك: أن من ترك الوضوء بالماء مع إمكان حصوله ثم عمد إلى التيمم ففعله غير جائز وصلاته باطلة. وذلك؛ لأن الله تعالى لم يرخص في التيمم إلا عند فقد الماء أو تعذره.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. فدلالة الآية صريحة على أن التيمم لا يجوز عند وجود الماء. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس يأخذه النوم فإذا أقيمت الصلاة وخاصة صلاة الفجر، والجمعة قام وصلى مع المسلمين ولم يلق لنومه بالًا، ولم يعره اهتمامًا. ولم يعرف ذلك المسكين أن بعض النوم قد ينقض الوضوء فيصلي صلاته بغير وضوء، وعلى ذلك لا تصح صلاته. ونسوق هنا فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تتعلق بهذه المسألة، والله نسأل أن ينفع بها من سمعها: سئل سماحة الشيخ -حفظه الله تعالى عن كل سوء- عن الذين ينامون في المسجد الحرام قبل الظهر والعصر مثلًا ثم يحضر المنبه للناس لإيقاظهم فيقومون للصلاة دون أن يتوضئوا وهكذا بعض النساء أيضًا، فما حكم ذلك أفيدونا جزاكم الله خيرًا؟ أجاب سماحة الشيخ بما نصه: النوم ينقض الوضوء إذا كان مستغرقًا قد أزال الشعور لما روى الصحابي الجليل صفوان بن عسال المرادي -رضي الله عنه- قال: أمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كنا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم، أخرجه النسائي، والترمذي، واللفظ له وصححه ابن خزيمة. ولما روى معاوية -رضي الله عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "العين وكاء السه (¬1) فإذا نامت العينان استطلق الوكاء" أخرجه أحمد، والطبراني، وفي سنده ضعف لكن له شواهد تعضده كحديث صفوان المذكور، وبذلك يكون حديثًا حسنًا. وبذلك يعلم أن من نام من الرجال أو النساء في المسجد الحرام أو غيره فإنه تنتقض طهارته وعليه الوضوء فإن صلى بغير وضوء لم تصح صلاته والوضوء الشرعي هو غسل الوجه مع المضمضة والإستنشاق وغسل اليدين مع المرفقين ومسح الرأس مع الأذنين وغسل الرجلين مع الكعبين ولا حاجة إلى الإستنجاء في النوم ونحوه كالريح ومس الفرج وأكل لحم الإبل. وإنما يجب الإستنجاء أو الإستجمار من البول والغائط خاصة وما كان في معناهما قبل الوضوء. أما النعاس فلا ينقض الوضوء؛ لأنه لا يذهب معه الشعور وبذلك تجتمع الأحاديث الواردة في هذا الباب، والله ولي التوفيق. انتهى جواب سماحته -حفظه الله تعالى-. - ومن المخالفات أيضًا: الوضوء على الوضوء دون أن يتخلل بينهما صلاة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بعد كلام له: وإنما تكلم الفقهاء فيمن صلى بالوضوء الأول هل يستحب له التجديد؟ وأما من لم يصل به فلا يستحب له إعادة الوضوء بل تجديد الوضوء في مثل هذا بدعة مخالفة لسنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولما عليه ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير النهاية: السه: حلقة الدبر. اهـ.

المسلمون في حياته وبعده إلى هذا الوقت. انتهى كلامه -رحمه الله تعالى- (21/ 376). - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الرجال إذا جامع أهله لا يغتسل، ولا يأمر أهله بالغسل إلا إذا أنزلا، وهذا أمر تعم به البلوى ويخطئ فيه الكثيرون، فنقول وبالله تعالى التوفيق: كان الأمر أولًا أن لا يغتسل الرجل إلا إذا أنزل وكذلك المرأة. ودليل ذلك: ما أخرجه مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "الماء من الماء". قال الصنعاني: أي الاغتسال من الإنزال، فالماء الأولى المعروف والثاني المني. لكن هذا الخبر نسخ بحديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل" متفق عليه. وزاد مسلم: "وإن لم ينزل"، وفي لفظ أبي داود: "وألزق الختان بالختان"، هذا الحديث استدل به الجمهور على نسخ مفهوم حديث: "الماء من الماء". واستدلوا على أن هذا آخر الأمرين ما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري، عن أبي بن كعب، أنه قال: "إن الفتيا التي كانوا يقولون إن الماء من الماء رخصة كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص بها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد". صححه ابن خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: إنه صحيح على شرط البخاري، وهو صريح في النسخ لحديث: "إنما الماء من الماء". ومن أدلة كونه ناسخًا أيضًا: أن حديث أبي هريرة منطوق وحديث أبي سعيد "الماء من الماء" مفهوم، والمنطوق مقدم على المفهوم. ويضاف إلى ذلك أيضًا: أن الآية تعضد المنطوق في إيجاب الغسل، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]. قال الشافعي: إن كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع، وإن لم يكن فيه إنزال، قال: فإن كل من خوطب بأن فلانًا أجنب عن فلانة عقل أنه أصابها، وإن لم ينزل، قال: ولم يختلف أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع، ولو لم يكن منه إنزال. اهـ. فتعاضد الكتاب والسنة على إيجاب الغسل من الإيلاج، "انتهى بتصرف من سبل السلام". وبعد هذا كله نقول: إن من جامع امرأته، ومس ختانه ختانها فقد وجب عليه الغسل ولو لم ينزل فإن صلى ولم يغتسل فقد صلى وهو جنب فصلاته باطلة. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس عند فراغه من غسل الجنابة، وقبل أن يرتدي ملابسه تقع يده على فرجه، فلا يلقي لذلك بالًا ويصلي بذلك الغسل ما لم يحدث. لكن هذا لم يعرف أنه بملامسة يديه لفرجه قد انتقض وضوؤه، ودليل ذلك ما روته بسرة بنت صفوان -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من مس ذكره فليتوضأ". أخرجه مالك، وأحمد، وأهل السنن، والحاكم. وعلى ذلك فيقال لمن اغتسل: احرص ألا تمس يدك فرجك لئلا ينتقض الوضوء فإن مسسته فعليك إعادة الوضوء.

- اعقاد بعض الناس أن الوضوء لا يتم ألا إذا كان ثلاثًا ثلاثًا، أي: غسل كل عضو ثلاث مرات: وهذا اعتقاد خاطئ، قال البخاري في صحيحه: باب الوضوء مرة مرة، باب الوضوء مرتين مرتين، باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا. وأورد تحت الباب الأول حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: توضأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرة مرة. وأورد تحت الباب الثاني حديث عبد الله بن زيد -رضي الله تعالى عنه- قال: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ مرتين مرتين. وأورد تحت الباب الثالث حديث عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ ثلاثًا ثلاثًا. فدلت الأحاديث السابقة على جواز الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا. - الزيادة في عدد غسل أعضاء الوضوء أو بعضها أكثر من ثلاث مرات: وهذه تحدث من بعض الناس فيعتقد أنه كلما أكثر من غسل أعضاء وضوئه كلما زاد أجره، وهذا تلبيس من الشيطان، لأن العمل إذا لم يكن مشروعًا فهو مردود، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". متفق عليه، ولمسلم رواية أخرى بلفظ: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". - عدم الوضوء من ماء زمزم والتحرج من ذلك، وفعل التيمم بدل الوضوء منه: وهذا يقع فيه بعض الناس فتجد أحدهم يتورع ويتقي الوضوء من ماء زمزم لما ورد فيه من الفضل، ويصلي بالتيمم مع وجود الماء بين يديه، وهذا من المخالفات الصريحة للنصوص الصريحة. قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]. فلم يرخص الله بالتيمم إلا مع فقد الماء أو تعذر حصوله ولم يستثن ماء زمزم من غيره. ومما يؤكد جواز الوضوء من ماء زمزم: ما رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند، عن علي -رضي الله تعالى عنه- في صفة بعض حجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفيها: "ثم أفاض رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه، وتوضأ" الحديث. قال الساعاتي: فيه استحباب الشرب والوضوء من ماء زمزم. انتهى من الفتح الرباني (11/ 86). - وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- عن فضل ماء زمزم؟ فأجاب سماحته على ذلك وجاء في فتوى سماحته ما نصه: ويجوز له الوضوء منها ويجوز أيضًا الإستنجاء منها والغسل من الجنابة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وقد ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه نبع الماء من بين أصابعه ثم أخذ الناس حاجتهم من هذا الماء ليشربوا وليتوضئوا وليغسلوا ثيابهم وليستنجوا، كل هذا وقع، وماء زمزم إن لم يكن مثل الماء الذي نبع من بين أصابع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن فوق ذلك، فكلاهما ماء شريف، فإذا جاز الوضوء، والاغتسال، والاستنجاء وغسل الثياب من الماء الذي نبع من بين أصابعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهكذا يجوز من ماء زمزم. وبكل حال فهو ماء طهور طيب يستحب الشرب منه، ولا حرج في الوضوء منه ولا حرج في غسل الثياب منه، ولا حرج في الإستنجاء منه إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما تقدم، والحمد لله. "انتهى من

مخالفات الصلاة

كتاب: فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة ص 122، 123". - ومن المخالفات أيضًا: ما يقع مع بعض النساء من تأخيرهن الغسل من الحيض إذا طهرت في آخر الوقت. قال الشيخ محمد بن عثيمين -حفظه الله تعالى-: ... وأن بعض النساء تطهر في أثناء وقت الصلاة وتؤخر الاغتسال إلى وقت آخر، تقول: إنه لا يمكنها كمال التطهر في هذا الوقت ولكن هذا ليس بحجة، ولا عذر لأنه يمكنها أن تقتصر على أقل الواجب في الغسل وتؤدي الصلاة في وقتها ثم إذا حصل لها وقت سعة تطهرت التطهر الكامل (¬1). - تحرج بعض الناس من الصلاة فوق أسطح البيارات: وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله تعالى- عن ذلك؟ فأجاب بما نصه: حكمها -أي الصلاة على أسطح البيارات- الصحة إذا كان المحل طاهرًا في أصح قولي العلماء لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". متفق على صحته، (الدعوة 1162 في 7/ 3/1409 هـ). مخالفات الصلاة - ومن المخالفات أيضًا: الجهر بالنية عند ابتداء الصلاة، وقد تقدم الكلام على هذا في مخالفات الوضوء. - قول بعض المصلين في دعاء الاسفتاح: "ولا معبود سواك"، وهذه زيادة على السنة الثابتة عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقد صح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يستفتح صلاته بقوله: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك"، أما لفظة: "ولا معبود سواك" فزيادة على كونها لم ترد في الحديث فمعناها خاطئ أيضًا؛ لأن هناك أشياء تعبد من دون الله كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]. وقال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]. وقال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف: 40]، والآيات في ذلك كثيرة. إذا علم ذلك فصواب اللفظة أن يقال: ولا معبود بحق سواك. - ومن المخالفات أيضًا: رفع الصوت بالقرآن والأذكار في أثناء الصلاة. قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا ترفعوا أصواتكم بالقرآن فتؤذوا المؤمنين". رواه البغوي وغيره عن أبي سعيد الخدري وغيره. وقد سئل العلامة الفاضل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى ورعاه ووفقه لما يحبه ويرضاه- عن حكم رفع الصوت "الجهر" بالقرآن أثناء الصلاة للمأموم يخلف من بجانبه من المأمومين؟ ¬

_ (¬1) رسالة في الدماء الطبيعية للنساء (ص: 41).

فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: السنة للمأموم الإخفات لقراءته وسائر أذكاره ودعواته لعدم الدليل على جواز الجهر، ولأن في جهره بذلك تشويشًا على من حوله من المصلين، انتهى جوابه -حفظه الله- كما في كتاب الدعوة. - ومن المخالفات أيضًا: الاستناد إلى جدار أو عمود ونحو ذلك. سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- عن الاستناد إلى جدار أو عمود ونحو ذلك؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بما نصه: لا يجوز الاستناد في الصلاة -صلاة الفرض- إلى جدار أو عمود؛ لأن الواجب على المستطيع الوقوف معتدلًا غير مستند، فأما في النافلة فلا حرج في ذلك؛ لأنه يجوز أداؤها قاعدًا، وأداؤها قائمًا مستندًا أفضل من الجلوس. اهـ. - وصل آية بآية أو وصل ثلاث آيات أو أكثر ببعضها: والسنة في ذلك أن يقطع القراءة آية آية. عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- أنها سئلت عن قراءة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقالت: "كان يقطع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. أخرجه أبو داود، والترمذي، والدارقطني، وقال: إسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة والنووي. وفي الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ما نصه: ووقوف القارئ على رؤوس الآيات سنة، وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك. (98). - ومن المخالفات أيضًا: قول بعض المأمومين عند قراءة الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: استعنا بالله. قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في المجموع: قد اعتاد كثير من العوام أنهم إذا سمعوا قراءة الإمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالوا: إياك نعبد وإياك نستعين، وهذا بدعة منهي عنها، اهـ مختصرًا. - قول بعض المصلين بعد قول الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ}: آمين ولوالدي وللمسلمين. وهذا خلاف سنة نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". وعنه -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". أخرجهما البخاري، ففي هذين الحديثين وغيرهما الاقتصار على التأمين دون غيره، والله أعلم. - عدم إقامة الصلب في القيام والجلوس: فيلاحظ على بعض المصلين أن قيامه في صلاته غير مكتمل فتارة يكون محدوبًا بظهره، وتارة مائلًا جهة اليمين، وتارة بهما معًا، وتارة مائلًا جهة اليسار، وهذا منهي عنه. أخرج الإمام أحمد، والطبراني في الكبير بسند صحيح، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا ينظر الله عز وجل إلا

صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعها وسجودها". وأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسيء صلاته بقوله: "ثم ارفع رأسك حتى تعدل قائمًا فيأخذ كل عظم مأخذه -وفي رواية- وإذا رفعت فأقم صبك وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها"، ثم قال: "إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس إذا لم يفعل ذلك". - عدم إقامة الصلب في الركوع والسجود: فقد ثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي فلمح بمؤخر عينه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فلما انصرف، قال: (يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود". أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن ماجه. وفي حديث آخر قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود"، رواه أبو عوانة، وأبو داود، والسهمي، وصححه الدارقطني. ويبقى هنا مسألة وهي: كيفية إقامة الصلب؟ والجواب على ذلك: من فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا ركع بسط ظهره وسواه". أخرجه البيهقي بسند صحيح. وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسوي ظهره في الركوع "حتى لو صب عليه الماء لاستقر"، رواه ابن ماجه، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والطبراني في معجميه الكبير والصغير. وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمسيء صلاته: (فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك ومكن لركوعك"، رواه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس إذا دخل المسجد، والإمام راكع تنحنح بقصد إسماع الإمام حتى ينتظره أو يقول: "إن الله مع الصابرين". وهذا ينافي أدب الداخل إلى المسجد فإن المسلم في هذه الحالة مأمور بأن يمشي إلى الصلاة بسكينة فما أدرك فليصل، وما فاته فليتم، أما إحداث أعمال ما أنزل الله بها من سلطان فلا خير فيها، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. ويضاف إلى ذلك أيضًا: أن في كلام الداخل تشويش على المصلين، وقطع لخشوع الخاشع. - زيادة لفظ: "والشكر" عند اعتداله من الركوع. والثابت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقول: "ربنا ولك الحمد"، أو "ربنا لك الحمد" أخرجهما البخاري ومسلم، وعند البخاري أيضًا لفظ: "اللهم ربنا ولك الحمد"، وكذلك: "اللهم ربنا لك الحمد". - تحريك الأصابع بين السجدتين: الذي ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يشير بأصبعه السبابة في أثناء جلوسه للتشهدين. عن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى، ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بأصبعه" رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا قعد في التشهد وضع

يده اليسرى على ركبته اليسرى ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثًا وخمسين وأشار بالسبابة. - ومن المخالفات أيضًا: انتظار الإمام إن كان ساجدًا حتى يرفع أو جالسًا حتى يقوم وعدم الدخول معه إلا إذا كان قائمًا أو راكعًا. والصواب: أن يدخل مع الإمام على أي حال كان الإمام عليه قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا أو جالسًا. عن أبي قتادة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا ومما فأتكم فأتموا". رواه البخاري، وأخرجه أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- بلفظ مقارب. قال ابن حجر: عند ذكر فوائد الحديث، واستدل به أيضًا على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها. وفيه حديث أصرح منه، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن رفيع، عن رجل من الأنصار مرفوعًا: "من وجدني راكعًا أو قائمًا أو ساجدًا فليكن معي على حالتي التي أنا عليها" اهـ، من الفتح. ومن الأدلة على ذلك أيضًا: ما أخرجه الترمذي، عن معاذ -رضي الله تعالى عنه-، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام". - ومن المخالفات أيضًا: عدم تمكين الأعضاء السبعة من السجود وهذا خلاف الثابت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فعن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: "أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا الجبهة واليدين والركبتين والرجلين". وعنه رضي الله تعالى عنهما، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ولا نكف ثوبًا، ولا شعرًا". وعنه رضي الله تعالى عنهما، قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم -وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين- ولا نكفت الثياب والشعر". أخرجهما جميعًا البخاري في صحيحه. والمخالفات التي تقع من الناس في هذا المبحث على أنواع: منها: أن بعض الناس إذا سجد رفع قدميه قليلًا عن الأرض أو جعل إحداهما على الأخرى، وهو في هذه الحالة لم يصدق عليه أنه سجد على سبعة أعظم. منها: أن بعض الناس إذا سجد قد يكون أنفه على طرف البساط ويرتفع جبينه فلا يلامس الأرض. ومنها: أن بعض الناس ممن يلبس العقال قد يسجد على طرف العقال بجبينه فيرتفع أنفه، أو على أنفه فيرتفع جبينه. وكل هذا مخالف لما سبق من الأحاديث الآمرة بالسجود على سبعة أعظم. - ومن المخالفات أيضًا: الإقعاء في الصلاة. أخرج أحمد، وأبو يعلى، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "نهاني خليلي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب". قال أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه (غريب الحديث): قال أبو عبيدة: الإقعاء جلوس الرجل على إليتيه ناصبًا فخذيه مثل إقعاء الكلب، ورجع هذا أبو عبيد فقال: تفسير أبي عبيدة في الإقعاء أشبه بالمعنى لأن الكلب إنما يقعي كما قال.

وقد روي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أكل مقعيًا، فهذا يبين لك أن الإقعاء هو هذا، وعليه تأويل كلام العرب، انتهى. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض المصلين يطيل القيام ويوجز في الركوع والسجود، وباقي الأركان إيجازًا شديدًا بحيث يظهر التفاوت الكبير بين قيامه وسائر أركان صلاته. عن البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنهما- قال: "رمقت الصلاة مع محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه، فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء" أخرجه البخاري، ومسلم. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض المصلين إذا فرغ من التشهد الأول والإمام لا يزال جالسًا أعاد المأموم تشهده ليقطع صمته وبعضهم لا يعيد التشهد بل ويتحرج من الزيادة عليه. وعلى ذلك يقال لمن أعاد التشهد: إن فعلك ذلك محدث، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ويقال لمن تحرج من الزيادة: لا حرج عليك بل إن السنة تؤيد الزيادة على التشهد بالدعاء. ودليل ذلك: ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قعدتم بين كل ركعتين فقولوا: التحيات لله والصلوات لله والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه". أخرجه النسائي، وأحمد، والطبراني في المعجم الكبير. - التورك في الركعة الثانية والافتراش في الرابعة: والسنة أن يتورك في الركعة الثالثة من المغرب، وأن يفترش في الثانية. أخرج البخاري عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه أنه قال في أثناء وصفه لصلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته". الحديث بطوله. قال الحافظ: وفي هذا الحديث حجة قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة لهيئة الجلوس في الأخير. اهـ. وفي مق العمدة للحنابلة ما نصه: ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخيرة منهما. - ومن المخالفات أيضًا: الإشارة بالسبابتين في أثناء التشهد، وقد ورد في ذلك نهي صريح صحيح. أخرج ابن أبي شيبة، والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلًا يدعو بأصبعيه فقال: "أحد أحد، وأشار بالسبابة"، وللحديث أيضًا شاهد عند ابن أبي شيبة. والسنة أن يشير بسبابة يده اليمنى فقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبسط كفه اليسرى على ركبته اليسرى ويقبض أصابع كفه اليمنى كلها ويشير بأصبعه التي تلي الإبهام إلى القبلة ويرمي ببصره إليها. أخرجه مسلم، وابن خزيمة، وأبو يعلى، وأبو عوانة. وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أشار بأصبعه وضع إبهامه على إصبعه الوسطى، وتارة، "كان يحلق بهما حلقة" رواه أبو داود، والنسائي، وابن الجارود.

- ومن المخالفات أيضًا: أن يقوم المسبوق لقضاء ما فاته قبل تسليم الإمام فيلاحظ على المسبوقين أنهم يبادرون إلى القيام لما فاتهم عند ابتداء الإمام في السلام، وهنا مخالف لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا" الحديث رواه البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين. - ومن المخالفات أيضًا: ما يفعله كثير من المسبوقين بعدما ينحني راكعًا إذا وجد الإمام في الركوع، والأصل أن التحريمة (تكبيرة الاحرام) تفعل من قيام ثم يركع بعدها، ولو استعجل فترك تكبيرة الركوع أجزأته صلاته، واكتفى بالتحريمة (تكبيرة الإحرام)، من كلام شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-. - ومن المخالفات أيضًا: ترك رفع اليدين عند التحريمة (تكبيرة الإحرام) وعند الركوع والرفع منه وبعد القيام من التشهد الأول وهو من سنن الصلاة وكذا رفع اليدين في تكبيرات الصلاة على الميت والتكبيرات الزوائد في صلاة العيدين والاستسقاء من كلام شيخنا ابن جبرين -حفظه الله تعالى-. - ومن المخالفات أيضًا: مسابقة الإمام وقد ورد النهي الشديد عن ذلك. قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب: إثم من رفع رأسه قبل الإمام، ثم ساق بإسناده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أما يخشى أحدكم -أو لا يخشى أحدكم- إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار". وقال الإمام المنذري -رحمه الله تعالى-: الترهيب من رفع المأموم رأسه قبل الإمام ... وذكر الحديث المتقدم وذكر له لفظًا آخر هذا نصه: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب". ثم قال أيضًا: قال الخطابي: اختلف الناس فيمن فعل ذلك، فروي عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة لمن فعل ذلك، وأما عامة أهل العلم فإنهم قالوا: قد أساء، وصلاته تجزئه، غير أن أكثرهم يأمرون بأن يعود إلى السجود، ويمكث في سجوده بعد أن يرفع الإمام رأسه بقدر ما كان ترك. انتهى. - أن بعض الناس: هداهم الله تعالى يسرعون في الخطا عند الذهاب إلى المسجد لا سيما إذا كان الإمام قبيل الركوع وهذا الإسراع منهي عنه. فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها، وأنتم تمشون، وعليكم السكية، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، وأهل السنن. قال ابن الأثير في النهاية: السعي العدو، وقد يكون مشيًا ويكون عملًا وتصرفًا، ويكون قصدًا. والمراد به في هذا الحديث: العدو. ويشهد لذلك: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- أنه انتهى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: "زادك الله حرصًا، ولا تعد". قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ولا تعد": أي: إلى ما صنعت من السعي الشديد ثم الركوع دون الصف ثم من المشي إلى الصف، وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحًا في طرق حديثه، وفي بعضها "من الساعي)، وعند الطبراني "أيكم صاحب هذا النفس" انتهى كلام الحافظ ابن حجر مختصرًا.

بل قد جاءت رواية في البخاري تنص على النهي عن الإسراع. فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". - ومن المخالفات أيضًا: عدم تسوية الصفوف كما ينبغي. عن النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم". وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقيموا صفوفكم وتراصوا"، وقال: "أقيموا الصف في الصلاة فإن إقامة الصف من حسن الصلاة"، وقال: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة"، أخرجها كلها الإمام البخاري في صحيحه. ثم قال -رحمه الله تعالى-: "باب: إثم من لم يتم الصفوف". وساق بسنده عن بشير بن يسار الأنصاري، عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أنه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فقال: ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف. - ومن المخالفات أيضًا: إتيان المسجد بعد أكل الثوم أو البصل. عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا". وعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أكل من هذه الشجرة -يريد الثوم- فلا يغشانا في مساجدنا"، وفي رواية: "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا أو قال: فليعتزل مسجدنا ويقعد في بيته". عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا -أو- لا يصلين معنا"، أخرجها جميعا البخاري في صحيحه. وفي صحيح مسلم، عن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: لقد رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخًا. وعن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إياكم وهاتين البقلتين المنتنتين أن تأكلوهن وتدخلوا مساجدنا، فإن كنتم لا بد آكليهما فاقتلوهما بالنار قتلًا" رواه الطبراني في الأوسط. وقد ألحق بعض أهل العلم شارب الدخان بآكل الثوم والبصل. وذلك لاشتراك كل منهما في رائحته الخبيثة بل إن بعض المسلمين يتأذى من رائحة شارب الدخان أكثر من رائحة آكل الثوم والبصل. إذا علم هذا: فإن شارب الدخان على خطر؛ لأنه قد آذى المسلمين برائحته، وقد ورد الوعيد في ذلك. فعن حذيفة بن أسيد -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" رواه الطبراني، وأبو نعيم، وابن عدي. فإذا كان المؤذي للمسلمين في طرقهم مستحقًا للعن فكيف بمن آذاهم في مساجدهم، لا شك أن الجرم أكبر. - ومن المخالفات أيضًا: التلفت في الصلاة.

عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: سألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". أخرجه البخاري. وأخرج الترمذي، والحاكم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " ..... فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت". ونهى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ثلاث: "عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب" أخرجه أحمد، وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. فالالتفات لغير حاجة منهي عنه. أما إذا كان الالتفات لحاجة فلا حرج في ذلك، فقد وردت بعض النصوص الدالة على جواز الالتفات للحاجة: منها: - ما رواه البخاري وغيره عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأشار إليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن امكث مكانك ... الحديث، وفي آخره: "ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من رابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء". قال الحافظ ابن حجر: وفيه جواز الالتفات في الحاجة، وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة. - ومن المخالفات: تخفيف كثير من الأئمة لأركان الصلاة بحيث لا يتمكن المأموم من المتابعة ولا من الإتيان بالذكر الواجب، وهو خلاف الطمأنينة الواردة في الحديث، فلا بد من المكوث في الركوع أو السجود بقدر ما يتمكن المأموم من التسبيح ثلاث مرات مع التؤدة وعدم العجلة. انتهى من كلام شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-. - ومن المخالفات: القراءة في المصحف أو متابعة الإمام في المصحف في التراويح ونحوها لغير حاجة لما فيه من العبث فإن كان فيه فائدة كالفتح على الإمام أو نحوه فلا مانع بقدر الحاجة. انتهى، من كلام شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-. - ومن المخالفات: ترك التجافي في السجود وصفة التجافي المطلوب أن يرفع بطنه عن فخذيه ويبعد عضديه عن جنبيه بقدر ما يمكنه، ولا يضايق من يليه، وأن يرفع ذارعيه عن الأرض ويضع كفيه حذاء منكبيه لا حذاء ركبتيه، ولكن لا يبالغ في التجافي كثيرًا فيمد صلبه (ظهره) كهيئة المضطجع على بطنه، بحيث يصل رأسه إلى الصف الذي أمامه، ويكلف نفسه بهذا الامتداد، انتهى من كلام شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-. - ومن المخالفات أيضًا: الإسدال في الصلاة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنه نهى عن السدل في الصلاة " أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، والحاكم. قال صاحب عون المعبود: قال الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يُصيب الأرض. وقال في النيل: قال أبو عبيد في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه

فإن ضمه فليس بسدل. وقال صاحب النهاية: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك. قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. وقال الجوهري: سدل ثوبه يسدله بالضم أي: أرخاه، ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركًا بينهما وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي. - ومن المخالفات أيضًا: إسدال اليدين في الصلاة. تقدم آنفًا حديث: "نهى عن السدل في الصلاة". وهذا عام يشمل جميع أنواع السدل. وقيل ذكر الصواب في هذه المسألة يستحسن أن نذكر أحوال الناس في موضع اليدين في الصلاة. فمن الناس من يسدل يديه بالكلية، ومنهم من يضع يمينه على شماله تحت سرته أو على سرته، ومنهم من يجعلهما على عنقه، وغير ذلك من الهيئات المختلفة. إذا علم ذلك فإن السنة الثابتة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يضع يده اليمنى على يده اليسرى ويضعهما على صدره. أخرج مسلم في صحيحه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يضع يده اليمنى على اليسرى، وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". إذن فالسنة أن يضع اليمنى على اليسرى لا العكس، فقد روى أحمد، وأبو داود وغيرهما، أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "مر برجل وهو يصلي وقد وضع يده اليسرى على اليمنى، فانتزعها ووضع اليمنى على اليسرى" ويبقى بعد هذا موضعهما من الجسد: والجواب: ما رواه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يضعهما على صدره. - ومن المخالفات أيضًا: وضع اليمنى على اليسرى على السرة أو تحت السرة، وحجتهم في ذلك: ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة، وهذا ضعيف الإسناد. - ومن المخالفات أيضًا: ما اعتاده كثير من الأئمة من تغيير الصوت عند الجلوس والقيام، فأكثر الأئمة إذا جلس للتشهد كبر باسترخاء، وإذا نهض كبر بعزيمة. وقد سئل عن ذلك فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -حفظه الله تعالى-. فإليك نص السؤال ونص الجواب: قال السائل: هل يجب على الإمام أن يمد (الله أكبر) في الجلوس للتشهد الأول والأخير؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بما نصه: لا يجب على الإمام أن يفرق بين التكبير في الصلاة بحيث يجعل للجلوس تكبيرة معينة وللركوع تكبيرة معينة، وللقيام تكبيرة معينة، هذا لا يجب بلا شك، وما علمت أحدًا من أهل العلم قال بوجوبه. ولكن قل لي: هل يشرع ذلك، بمعنى هل تقول للإمام ينبغي أن تُفرق بين التكبير؟ والجواب: لا يُشرع ذلك، فإنني لا أعلم في السنة أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفرق بين التكبيرات والعلماء -رحمهم الله- لم يقولوا إنه يفرق التكبيرات، غاية ما قيل في هذا ما قاله بعض العلماء: أنه يمد التكبير في السجود إلى القيام، ومن القيام إلى السجود قالوا: لطول الفصل بينهما. فإن أطول انتقال يكون في الصلاة من السجود إلى القيام، أو من القيام إلى السجود. قالوا: فيمد

التكبير ليكون ابتداءه مع ابتداء الانتقال وانتهاءه مع انتهاء الانتقال. هذا ما قاله بعض العلماء. أما أن يجعل للجلوس للتشهد تكبيرًا معينًا يمده، فهذا لم يقله حتى العلماء فيما اطلعت عليه من كلامهم، وبناء عليه: فالذي أرى أن يجعل الإمام التكبيرات سواء لأن أي إنسان يفرق بين التكبيرات، سوف يُطالب بالدليل، والنبي عليه الصلاة والسلام لما صنع له المنبر رقى عليه، وقال: "إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي". ولو كان يفرق بين التكبيرات لكان الائتمام يحصل بدون أن يصعد على المنبر. وقد وجدت فائدة في عدم التمييز بين التكبيرات: وهي أن المأموم يحرص على ضبط صلاته لأنه يخشى أن يقوم في موضع الجلوس أو يجلس في موضع القيام، فيخجل أمام الناس، ويكون ضابطًا للركعات بنفسه لكن لو اعتمد على تكبير الإمام سرح وبدء يهوجس ولا يهتم، يمشي على هذا التكبير إذا مده الإمام جلس وإذا لم يمده قام. وحينئذ يكون ذلك سببًا لانشغال المأموم بالوساوس لأنه يتابع الإمام على حسب نبرات صوته في التكبير. فوجدت في ذلك فائدة، وهي: أن المأمومين كل واحد منهم يحرص على ضبط عدد الركعات ولا يسرح بأي وساوس. انتهى كلامه -حفظه الله-. - ومن المخالفات أيضًا: إقامة جماعة ثانية في المسجد والإمام ما زال في صلاته بالجماعة الأولى. وإيضاح ذلك: أن بعض الناس قد يأتي إلى المسجد والإمام في التشهد الأخير فيقوم أحد أولئك الداخلين فيقيم الصلاة ويشرع في الصلاة والإمام ما زال في جلوسه. - الإخلال في صلاة التراويح: وذلك بنقرها والإسراع في القراءة بقصد الختمة ليس إلا. قال الشيخ محمد بن عثيمين -حفظه الله تعالى- في أثناء كلامه عن وصف قيام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقيام الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ما نصه: وهذا خلاف ما كان عليه كثير من الناس اليوم حيث يصلون التراويح بسرعة عظيمة لا يأتون فيها بواجب الهدوء والطمأنينة التي هي ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونها، فيخلون بهذا الركن ويتعبون من خلفهم من الضعفاء والمرضى وكبار السن يجنون على أنفسهم ويجنون على غيرهم. وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- أنه يكُره للإمام أن يُسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يُسن فكيف بسرعة لقنعهم فعل ما يجب، نسأل الله السلامة. (مجالس شهر رمضان، المجلس الرابع: ص 19). - ما يفعله بعض المأمومين عند فراغهم من الركعة الثالثة والرابعة من صلاة الظهر من كونهم يعيدون قراعة الفاتحة، واعتقاد أكثرهم أن قراءة سورة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين من الظهر أمر غير جائز. - ومن المخالفات أيضًا: الإتيان ببعض أذكار الصلاة في غير مواضعها. قال ذلك: أن بعض المصلين يتأخر في قراءة الفاتحة خلف إمامه أو يدخل مع الإمام قبيل الركوع فيركع الإمام فيتم المأموم قراءة الفاتحة في الركوع. وقال آخر: وذلك أن بعض المصلين إذا رفع رأسه من السجود شرع في قراءة الفاتحة قبل أن يستتم قائمًا أو يذكر آخر ما يُقال بعد الركوع حين يهوي إلى السجود بل وفي أثناء سجوده ثم يكبر بعد ذلك وهذا كله مُخالف لسنة نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقد سُئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- عن هذه المسألة، وهذا نص السؤال: سماحة الشيخ، أرى بعض المأمومين يجلس قليلًا بعد رفعه من السجود ويشرع في قراءة الفاتحة وهو

جالس أو في أثناء نُهوضه للركعة الثانية فما حُكم صلاة من فعل ذلك؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بما نصه: الواجب على المأموم أن يتابع إمامه في القيام والركوع وغيرهما وليس له الجلوس إذا نهض إمامه في الثانية أو الرابعة بل عليه أن يُتابعه لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه". ولكن لو جلس بنية جلسة الاستراحة جلسة خفيفة فلا بأس، بل ذلك مُستحب في أصح قولي العلماء للإمام والمأموم والمنفرد للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك وليس في هذه الجلسة قراءة ولا ذكر ولا دعاء وليس للمأموم ولا غيره القراءة في هذه الجلسة في صلاة الفريضة وليس له أن يقرأ حال النهوض وإنما القراءة حال كونه قائمًا وهذا في الفريضة؛ أما النافلة فلا بأس أن يصليها قاعدًا وهو على النصف في الأجر من صلاة القائم إذا صلى جالسًا من غير عذر كما دلت على ذلك سنة المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. اهـ. مجلة الدعوة عدد 1165، بتاريخ 28/ 3/1409 هـ. - تغميض العينين في الصلاة لغير حاجة: قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ولم يكن من هديه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تغميض عينيه في الصلاة، وقد كان في التشهد يومئ ببصره إلى أصبعه في الدعاء ولا يجاوز بصره إشارته". وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرهه الإمام أحمد وغيره، وقالوا: هو فعل اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه، وقالوا: قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها. والصواب أن يُقال: إن كان تفتيح العينين لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يكره التغميض قطعًا، والقول باستحبابه في هذا الحال أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، والله أعلم. (انتهى باختصار يسير من زاد المعاد: 1/ 293، 294). - إسبال الثياب: وهو محرم مطلقًا، وإنما أوردناه هنا لأن بعض النصوص قد خصت الصلاة. عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عمه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أسبل إزاره في صحه خُيلاء فليس من الله في حل ولا حرام". وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: بينما رجل يُصلي مُسبلًا إزاره إذ قال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اذهب فتوضأ". فذهب فتوضأ، ثم جاء، ثم قال: "اذهب فتوضأ". فذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال له رجل: يا رسول الله، ما لك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: "إنه كان يصلي وهو مُسبل إزاره، وإن الله جل ذكره لا يقبل صلاة رجل مُسبل إزاره". رواه أبو داود. وقال النووي في رياض الصالحين: إسناد صحيح على شرط مسلم، والحديث ضعفه بعض أهل العلم، لكن يغني عنه ويشهد له ما قبله. ونقول في هذا الموضع: إن كثيرًا من الناس تساهلوا في مسألة إسبال الثياب بل إن بعضهم أصبح يسخر ويعيب من يفعل ذلك، وهذا إدبار عن طاعة الله تعالى. فقد ورد الوعيد الشديد في من أسبل ثيابه، من ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثلاثة لا يُكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المُسبل إزاره، والمنان الذي لا يعطي شيئًا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف

الفاجر -وفى لفظ آخر-: بالحلف الكاذب". وعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة". رواه مسلم. - ومن المخالفات أيضًا: التنفل عند إقامة الصلاة. فعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬1). رواه الجماعة إلا البخاري. وعن عبد الله بن بُحينة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلًا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لاث به الناس، فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "آلصبح أربعًا، آلصبح أربعًا". رواه البخاري ومسلم. وأخرجه مسلم بلفظ آخر: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مر برجل يُصلي وقد أقيمت صلاة الصبح، فكلمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرفنا، أحطنا به نقول: ماذا قال لك رسول الله؟ قال: قال في: "يوشك أحدكم أن يُصلي الصبح أربعًا". قال ابن حزم: من سمع إقامة صلاة الصبح وعلم أنه إن اشتغل بركعتي الفجر فاتته صلاة الصبح ولو التكبير فلا يَحل له أن يشتغل بهما، فإن فعل فقد عصى الله تعالى. وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة هذا نصه: بعض الناس يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة، فهل يجوز ذلك؟ فأجابت اللجنة بما نصه: إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز الدخول في نافلة، لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". رواه مسلم وغيره، وإذا أقيمت الصلاة وهو في النافلة قطعها للحديث المذكور لأن الفريضة أهم منها (¬2). - إطالة الركعة الثانية أكثر من الأولى أو الركعتين الأخيرتين أكثر من الأولون: وهذا خلاف ما فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. أخرج البخاري عن أبي قتادة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يطول في الركعة الأولى من صلاة الظهر ويقصر في الثانية، ويفعل ذلك في صلاة الصبح، وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل ذلك في صلاة العصر. كما أخرجه البخاري أيضًا. وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه، أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: -في قصته مع أهل الكوفة-: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركُدُ في الأوليين وأخف في الأُخريين .... الحديث. - ترك رد السلام في الصلاة بالإشارة: يحدث كثيرًا أن بعض الداخلين إلى المسجد يسلم على المصلين، ومعلوم أن المصلي لن يرد عليه لفظًا، والعمل والحال هذه أن يرد بالإشارة، كما قال عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-: قُلتُ لبلال: كيف رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرد عليهم -أي: يرد على الأنصار إذا سلموا عليه- قال: يقول هكذا، ¬

_ (¬1) فائدة: ورد حديث بلفظ قريب من هنا، نصه: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أقيمت" أخرجه أحمد والطحاوي وابن أبي شيبة وفيه ضعف. انظر: إرواء الغليل (2/ 267)، ضعيف الجامع الصغير (1/ 154). (¬2) مجلة البحوث: (18/ 100).

وبسط كفه. أخرجه أبو داود، والترمذي، وصححه. قال الصنعاني: والحديث دليل أنه إذا سلم أحد على المصلي رد عليه السلام بإشارة دون النطق. وأما كيفية الإشارة: ففي المسند من حديث صهيب قال: مررت برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يُصلي فسلمت، فرد علي إشارة. قال الراوى: لا أعلمه إلا قال إشارة بأصبعه، وفي حديث ابن عمر في وصفه لرده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السلام على الأنصار أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "هكذا"، وبسط جعفر بن عون -الراوي عن ابن عمر- كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق. وقد روى البيهقي أن عبد الله بن مسعود سلم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأومأ برأسه (¬1). - التبليغ خلف الإمام لغير حاجة: سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى- عن التبليغ خلف الإمام هل هو مستحب أو بدعة؟ فأجاب رحمه الله تعالى: أما التبليغ خلف الإمام لغير حاجة فهو بدعة غير مُستحبه باتفاق الأئمة، وإنما يجهر بالتكبير الإمام كما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلفاؤه يفعلون، ولم يكن أحد يبلغ خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن لما مرض النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضعف صوته فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يُسْمع التكبير. وقال رحمه الله تعالى لي موضع آخر: لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي هو المبلغ لغير حاجة باتفاق الأئمة، فإن بلالًا لم يكن يبلغ خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ولا غيره، ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين. - مد لفظ التكبير (الله أكبآر): وهذا لا يجوز مطلقًا لا في الصلاة ولا في الأذان ولا غيرهما. وذلك لأن مد كلمة (أكبر) يحيل المعنى. فـ: "أكبار": جمع كبر، والكبر الطبل ذو الوجه الواحد، وفي اللغة أيضًا أن أكبار: نبات معمر من الفصيلة الكبرية، ويترتب أيضًا على مد كلمة أكبر في الصلاة مفسدة ثانية وهي: أن المأموم يسابق إمامه لأن الإمام بفعله ذاك يتسبب في ارتكاب المأموم للمسابقة وذلك لأن الإمام يمده للتكبير يوهم المأموم بأنه قد وصل إلى الركن الذي انتقل إليه. - أن يُصلي الرجل وليس على عاتقيه شيء: وهذا يلاحظ كثيرًا من المُحرمين في الحرم وغيره، فتجد أحده يُصلي مضطبعًا أو يلقي إحرامه بين يديه ويصلي بإزاره دون غيره. عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يُصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء". رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر: والمراد أنه لا يتزر في وسطه ويشد طرفي الثوب في حقويه بل يتوشح بهما على عاتقيه ليحصل الستر لجزء من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة. انتهى. - ومن المخالفات أيضًا: الصلاة في الثياب الرقيقة التي لا تستر العورة، سُئل سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز -حفظه الله تعالى- عن ثوب السلك الشبه شفاف هل يستر العورة أم لا؟ وهل تصح الصلاة ¬

_ (¬1) ساق البيهقي ثلاثة ألفاظ عن محمد بن سيرين أن عبد الله بن مسعود ... ثم ساق إسنادًا آخر وفيه: عن محمد قال: أُنبئت أن ابن مسعود، وقال بعده: المحفوظ مرسل، ثم ساق إسنادًا ثالثًا عن أبي هريرة عن ابن مسعود. السنن الكبرى للبيهقي (2/ 260).

والمسلم لابسه؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: إذا كان الثوب المذكور لا يستر البشرة لكونه شفافًا أو رقيقًا فإنه لا تصح الصلاة فيه من الرجل إلا أن يكون تحته سراويل أو إزار يستر ما بين السرة والركبة، وأما المرأة فلا تصح صلاتها في مثل هذا الثوب إلا أن يكون تحته ما يستر بدنها كله. أما السراويل القصيرة تحت الثوب المذكور فلا تكفي، وينبغي للرجل إذا صلى في مثل هذا الثوب أن تكون عليه (فنيلة) أو شيء آخر يستر المنكبين أو إحداهما لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يُصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء". متفق عليه صحته. اهـ من كتاب الدعوة. وقال فضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين: كثير من الناس الذين لا يلبسون الثياب السابغة وإنما يلبس أحدهم السراويل، وفوقه جبة (قميص) على الصدر فإذا ركع تقلصت الجبة وانحسرت السراويل فخرج بعض الظهر وبعض العجز مما هو عورة بحيث يراه من خلفه وخروج بعض العورة يُبطل الصلاة. اهـ. - ومن المخالفات أيضًا: البصاق في الصلاة تجاه قبلة المُصلي أو عن يمينه. قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليُسرى، ثم ساق بإسناده إلى أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي: "إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه، فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه". وروى البخاري أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مُصلاه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره أو تَحت قدمه فيدفنها". - ومن المخالفات أيضًا: كف الشعر والثوب في الصلاة، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "أمرت أن أسجد على سبعة، لا أكف شعرًا ولا ثوبًا". قال ابن الأثير في النهاية عند مادة (كفت): ومنه الحديث "نهينا أن نكفت الثياب في الصلاة". أي نضمها ونجمعها من الانتشار يريد جمع الثوب باليدين عند الركوع والسجود. - ومن المخالفات أيضًا: الاختصار في الصلاة. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نُهي أن يصلي الرجل مُختصرًا"، هذا لفظ البخاري، ولفظ مُسلم، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنه نهى أن يصلي الرجل مختصرًا". قال ابن حجر -رحمه الله لعالى-: وقد فسره -أي الاختصار- ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن سيرين وهو أن يضع يده على خاصرته وهو يصلي، وبذلك جزم أبو داود، ونقله الترمذي في بعض أهل العلم، وهذا هو المشهور من تفسيره. - ومن المخالفات أيضًا عدم اتخاذ السترة (¬1): وقد وردت فيها الأحاديث الكثيرة نسوق شيئًا منها: ¬

_ (¬1) مبحث السترة أغلبه منتقى من كتاب: إتحاف الإخوة بتأكيد الصلاة إلى السترة وكتاب: أحكام السترة في مكة وغيرها، وحكم المرور بين يدي المصلي.

فأما من الأحاديث القولية: فعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تُصلوا إلا إلى سُترة، ولا تدع أحدًا يمر بين يديك، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين؟ ". رواه ابن خُزيمة، والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (¬1). وعن سهل بن أبي حثمة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته". رواه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه البغوي في شرح السنة بلفظ مُقارب (¬2). هذه بعض النصوص القولية، أما الفعلية: فعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- "أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيُصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود وغيرهم. وعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما -أيضًا عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنه كان يعرض راحلته فيصلي إليها" رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود. وبعد سياق النصوص في مسألة السترة ترد مسائل لا بد من طرحها: المسألة الأولى: ما مقدار ارتفاع السترة؟ والجواب عن ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئل في غزوة تبوك عن سُترة المصلي؟ فقال: "كمؤخرة الرحل". وعن طلحة بن عبيد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من مر وراء ذلك". أخرجه مسلم. قال النووي -رحمه الله تعالى-: مؤخرة الرحل: هي العود الذي في آخر الرحل وهي قدر عظم الذراع، وهو نحو ثلثي ذراع. المسألة الثانية: مقدار المسافة بين المصلي وسُترته. روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبًا من ثلاثة أذرع صلى يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى فيه. والشاهد أن بينه وبين السترة قريبًا من ثلاثة أذرع، وقد ورد أيضًا مقدار المسافة بين سُترة وبين موضع سجوده، فعن سهل بن سعد قال: كان بين مُصلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين الجدار ممر شاة. وفي رواية: كان بين مقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين القبلة ممر عنز. المسألة الثالثة: هل يقوم الخط مقام السُترة؟ والجواب: أن الخط لا يقوم مقام السُترة، بل لا بد من الصلاة إلى سُتره مرتفعة. ¬

_ (¬1) قال شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-: لكن قد رواه مسلم وأحمد وابن ماجه بإسناده دون أوله. (¬2) قال شيخنا ابن جبرين -حفظه الله تعالى-: لكن هو في السنن والمسانيد بلفظ: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها".

المسألة الرابعة: هل يستثنى الحرمان من اتخاذ السترة أو لا؟ والجواب عن هذه المسألة: أن النصوص الواردة بالأمر في اتخاذ السترة لم تفرق بين مسجد وآخر، وعلى ذلك فالحرمان داخلان ولا يخرجان إلا بدليل، هذا من ناحية الإجمال، أما من ناحية التفصيل فيُقال: أولًا: عموم النصوص يشمل جميع المساجد دون استثناء. ثانيًا: الأحاديث الآمرة باتخاذ السترة أو بعضها قالها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو في المدينة. ثالثًا: عمل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يؤيد اتخاذ السُترة حتى في الحرمين أما في الحرم المدني، فقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. أما في الحرم المكي، فعن أبي جحيفة -رضي الله تعالى عنه- قال: خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالهاجرة فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين ونصب بين يديه عنزة ... الحديث أخرجه البخاري وبوب عليه: باب السُترة بمكة. وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله تعالى عنه- قال: "اعتمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس". رواه البخاري. - ومن المخالفات أيضًا: المرور بين يدي المصلي. قال الإمام المنذري -رحمه الله تعالى- في كتابه "الترغيب والترهيب" ما نصه: الترهيب من المرور بين يدي المصلي. ثم ساق بعض الأحاديث التي فيها الوعيد لمن مر بين يدي المصلي وهي: عن أبي الجهيم -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه". قال أبو النضر -أحد رواة الحديث- لا أدري أقال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة. وروى البخاري في صحيحه عن أبي صالح السمان قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم الجمعة يُصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي مُعيط أن يجتاز بين يديه، فدفعه أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب، فلم يجد مساغًا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال: ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان". وعن الحديث الأول: قال النووي: فيه دليل على تحريم المرور، فإن معنى الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد على ذلك. قال ابن حجر: ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وقال أيضًا: ظاهر الحديث يدل على منع المرور مطلقًا ولو لم يجد مسلكًا، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته، ويؤيده قصة أبي سعيد. وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: ظاهر الأحاديث يقتضي تحريم المرور بين يديه -أي المصلي- وأنه يشرع له رد المار، اللهم إلا أن يضطر المار إلى ذلك لعدم وجود متسع إلا ما بين يديه، ومتى بَعُدَ المار عما بين يدي المصلي إذا لم يلق بين يديه سترة سلم من الإثم لأنه إذا بعد عنه عُرفًا لا يسمى مارًا بين يديه كالذي يمر من وراء السترة. انتهى.

فإذا صلى المصلي لغير سترة فلا حرج على من قدر ثلاثة أذرع ثم مر من ورائها كما نص على ذلك كثير من أهل العلم، ويبقى الحرج على من مر بين يدي المصلي في مساقة ثلاثة أذرع، أما المرور بين يدي المأموم فلا حرج فيه لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب سترة الإمام سترة من خلفه. ثم ساق بسنده إلى عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: أقبلتُ راكبًا على حمار أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلتُ في الصف فلم ينكر ذلك على أحد. - ومن المخالفات أيضًا: الحركة في الصلاة. ولو أراد الإنسان أن يتتبع حركات الناس في صلاتهم لطال عليه الأمد في ذلك، لكن لا يمنع ذلك من ذكر بعض الحركات من باب التنبيه عليها وعلى غيرها، فمن ذلك: 1 - العبث في الأنف، وهذه صفة مستقبحة خارج الصلاة فكيف بداخلها. 2 - حك الرأس. 3 - تعديل العمامة، أي الغترة أو الشماغ تارة يمنة وتارة يسرة وتارة إلى أعلى وتارة إلى أسفل وغير ذلك. وقد وجه سؤال إلى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، هذا نصه: مشكلتي أنني كثير الحركة في الصلاة، وقد سمعت أن هناك حديثًا معناه أن أكثر من ثلاث حركات في الصلاة تبطلها، فما صحة هذا الحديث؟ وما هو السبيل إلى التخلص من كثرة العبث في الصلاة؟ فأجاب سماحته ما نصه: السنة للمؤمن أن يقبل على صلاته ويخشع فيها بقلبه وبدنه سواء كانت فريضة أو نافلة قول الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]. وعليه أن يطمئن فيها وذلك من أهم أركانها وفرائضها. وأما تحديد الحركات المنافية للطمأنينة وللخشوع بثلاث حركات: فليس ذلك بحديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنما ذلك من كلام بعض أهل العلم وليس عليه دليل يعتمد، ولكن يكره العبث في الصلاة كتحريك الأنف واللحية والملابس والاشتغال بذلك، وإذا كثر العبث وتوالى أبطل الصلاة، أما إن كان قليلًا عرفًا أو كان كثيرًا ولكن لم يتوال فإن الصلاة لا تبطل به ولكن يشرع للمؤمن أن يحافظ على الخشوع ويترك العبث قليله وكثيره حرصًا على تمام الصلاة وكمالها. اهـ مختصرًا. - ومن المخالفات التي يقع فيها كثير من المرضى: صلاة بعضهم جالسًا مع قدرته على القيام والمرضى في ذلك على أقسام فمنهم من إذا أصابه وجع في رأسه صلى جالسًا من أول صلاته إلى آخرها مع أن القيام لا يكلفه شيئًا. ومنهم من إذا كان به وجع في عينه أو أنفه فمنعه الطبيب من السجود لأنه يزيد مرضه، فترى هذا المريض بعد كلام الطبيب له يُصلي كل صلاته جالسًا. وعلى هذا وما شابه يُقال: من قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام عند الأئمة الثلاثة، يصلي قائمًا فيومئ للركوع ثم يجلس ويسجد إيماء وذلك لأن القيام ركن وهو قادر

على الإتيان به فلزمه، والعجز عن الإتيان ببعض أركان الصلاة لا يقتضي سقوط سائرها، وذلك لأن القيام ركن من أركان الصلاة قال الله تعالى: {وَقُومُوا لله قانتينَ} [البقرة: 238] وعن عمران بن حصين -رضي الله تعالى عنه- قال: كانت بي بواسير فسألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الصلاة؟ فقال: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب". رواه البخاري. - ومن المخالفات أيضًا: عدم تقديم الأقرأ إذا كان صغير فتجد أن بعض المصلين إذا حضرتهم الصلاة ولم يحضر إمامهم الراتب أو كانوا مثلًا خارج المدينة فحضرت الصلاة لا ينظرون إلى أقرأهم، بل لا يترددون في تقديم الأكبر سنًا ولو كان هناك أقرأ منه، بل قد يكون ذلك الكبير لا يُحسن قراءة الفاتحة. المهم أن الصغير عندهم لا يتقدم مع وجود الكبير لأن بعض الناس يعتبر ذلك نقصًا في حقه وحق غيره من المأمومين. وفعلهم ذلك مُخالف لصريح قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-. وعن أبي مسعود عقبة بن عامر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ... الحديث". رواه أحمد ومسلم. فهذان الحديثان صريحان على أن الأقرأ هو الأحق بالإمامة ومما يزيد ذلك تأكيدًا أنه قدم الأقرأ على كبير السن، فقد ورد في لفظ الحديث: "فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا" فجعل مرتبة السن في المرتبة الرابعة بعد القراءة والعلم بالسنة وقدم الهجرة. جاء في إجابات اللجنة الدائمة: "تصح إمامة الصبي الذي يعقل لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ... " الحديث. ولما ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة الجرمي قال: قدم أبي من عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إذا حضرت الصلاة فليؤمكم أكثركم قرآنًا". قال: فنظروا، فلم يجدوا واحدًا أكثر مني قرآنًا، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين (¬1). - ومن المخالفات أيضًا: عدم التزين بالملابس في الصلاة وقد جهل أو تجاهل هذا الأمر كثير من المسلمين، فتجد أن بعضهم يحضرون إلى الصلاة خاصة صلاة الفجر بملابس النوم أو ملابس رديئة لو أُعطي أحدهم وزنه ذهبًا وطلب منه أن يذهب بتلك الملابس إلى مكان عمله أو إلى وليمة من الولائم لامتنع أشد الامتناع، وهذا لا ينكر عليه، فإن الله جميل يحب الجمال. إلا أن التزين عند الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة مطلوب من المسلم، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وأخرج الطحاوي، والبيهقي، والطبراني عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صلى أحدكم فيلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له". ¬

_ (¬1) مجلة البحوث: (21/ 74).

- ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس يتحرج من الصلاة إذا كان بينه وبين الحمام جدار. ونسوق هنا فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- تتعلق بهذا الموضوع، قال السائل: هل تجوز الصلاة في مكان تقع أمامه دورة مياه، ولا يفصل بينهما سوى حائط فقط؟ وهل الأفضل الصلاة في مكان آخر؟ فأجاب سماحته بما نصه: "لا مانع من الصلاة في الموضع المذكور إذا كان طاهرًا ولو كانت دورة المياه أمامه، كما تجوز الصلاة في أسطح دورات المياه إذا كانت طاهرة في أصح قولي العلماء، والله ولي التوفيق". مجلة الدعوة عدد 1191 في 13/ 10/1409هـ. - ومن المخالفات أيضًا: قول بعض الناس عند إقامة الصلاة: "أقامها الله وأدامها" وحجتهم في ذلك ما رواه أبو داود في سُننه عن أبي أمامة، أو عن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن بلالًا أخذ في الإقامة فلما أن قال: قد قامت الصلاة، قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقامها الله وأدامها". وهذا حديث ضعيف لا يُعتمد عليه. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس لا يقوم عند الإقامة إلا عند قول المُقيم: قد قامت الصلاة. ويعتقد أن هذا هو السنة، والحق أن فعله على غير صواب، قال الإمام مالك رحمه الله: وأما قيام الناس حين تقام الصلاة فإني لم أسمع في ذلك بحد يقام له إلا أني أرى ذلك على قدر طاقة الناس، فإن منهم الثقيل والخفيف ولا يستطعون أن يكونوا كرجل واحد. اهـ الموطأ (ص 67). - ومن المخالفات أيضًا: عدم فهم المراد بتخفيف الصلاة الوارد في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صلى أحدكم للناس فليُخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير ... " الحديث أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-. وكذلك عتابه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- عندما أطال الصلاة فقال له: "فتان، فتان، فتان -ثلاث مرات- أو قال: فاتنًا فاتنًا فاتنًا". وأمره بسورتين من أوسط المفصل. فبهذين الحديثين يحتج كثير من الناس على إطالة الإمام الصلاة، وقبل النظر في احتجاجهم ينبغي أن يعرف ما ضابط التخفيف: قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في أثناء كلامه عن صلاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ما نصه: ففي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوجز الصلاة ويكملها" وفى الصحيحين عنه أيضًا قال: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". زاد البخاري: "وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تُفتن أمه"، فوصف صلاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإيجاز والتمام، والإيجاز هو الذي كان يفعله لا الإيجاز الذي كان يظنه من لم يقف على مقدار صلاته فإن الإيجاز أمر نسبي إضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه. ثم ساق حديث أنس أيضًا فيه: ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تمام، وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول: قد أوهم، ثم يكبر، ثم يسجد، وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "هذا سياق حديثه، فجمع أنس -رضي الله عنه- في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجازه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصلاة وإتمامها، وبين فيه أن من إتمامها الذي أخبر به إطالة الاعتدالين حتى يظن الظان أنه قد أوهم أو نسي من شدة الطول فجمع بين الأمرين في الحديث وهو القائل ما رأى أوجز من صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أتم، فيشبه أن يكون الإيجاز عائد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود والاعتدالين بينهما لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تامًا فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين، وسر ذلك أنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود والاعتدالين تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله: "ما رأيت أوجز ولا أتم من صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". وهذا هو الذي كان يعتمده صلوات الله عليه وسلامه في صلاته، فإنه كان يعدلها حيث يعتدل قيامها وركوعها وسجودها واعتدالها .. إلخ كلامه رحمه الله تعالى. فكلام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في غاية التحقيق، فغالب صلاة الناس اليوم خلاف ما ذكره ابن القيم عن صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فترى أكثر الناس إن قام قيامه نقر ركوعه وسجوده، وبعضهم شر من ذلك فينقر قيامه وركوعه وسجوده. ومما يؤكد أن التخفيف ليس ما يفعله بعض الناس اليوم. قول أنس -رضي الله عنه-: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات، ولا شك ولا ريب أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرحم الخلق بأمته {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. ومع ذلك فانظر إلى فعله وقوله تجد أن ذلك يؤكد أن أمر التخفيف ليس كما يفهمه أكثر الناس اليوم. - ومن المخالفات المتعلقة بأمر النساء أيضًا: ما يقوم به بعضهن من تأخيرهن الصلاة المفروضة حتى يُصلي الرجال وأن من صلى من النساء قبل صلاة الرجال فقد أخطأت. - تحريك الكفين عند السلام من الصلاة من جهة اليمين عند السلام جهة اليمين، ومن جهة الشمال عند السلام جهة الشمال، وقد جاء النص الصريح في النهي عن ذلك. فقد كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يُشيرون بأيديهم إذا سلموا، فرآهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس، إذا سلم أحدكم فليلفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده". الحديث أخرجه مسلم. ومعنى شُمْس: جمع شموس وهو النفور من الدواب الذي لا يستقر لشغبه وحدته. كذا قال ابن الأثير في النهاية. - هز الرأس في أثناء السلام من الصلاة: فيلاحظ على بعض المصلين أنه عند سلامه من صلاته يرفع رأسه ثم يخفضه ويستمر حتى يفرغ من سلامه. وهذا الفعل خلاف ما ورد عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أئناء سلامه من الصلاة فقد روى أبو داود، والنسائي، والترمذي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمه الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمه الله، حتى يرى بياض خده الأيسر. فلم يذكر فيه هز للرأس، فعلم أن ذلك خلاف السنة.

- ومن المخالفات أيضًا: رفع اليدين بعد صلاة الفريضة (¬1). سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن رفع الأيدي بعد صلاة الفريضة؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: لم يصح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يرفع يديه بعد صلاة الفريضة ولم يصح ذلك أيضًا عن الصحابة -رضي الله عنهم- فيما نعلم، وما يفعله بعض الناس من رفع أيديهم بعد صلاة الفريضة بدعة لا أصل لها، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". أخرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". متفق عليه. - ومن المخالفات أيضًا: مُصافحة المصلي لمن يليه عقب الصلاة، وقول: تقبل الله، أو حرمًا. سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: عن المصافحة عقيب الصلاة، هل هي سنة أم لا؟ فأجاب -رحمه الله تعالى- بقوله: الحمد لله، المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة، بل هي بدعة، والله أعلم. (الفتاوى 23/ 239). وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة هذا نصه: ما الحكم في مواظبة السلام ومصافحة الإمام والجالس على اليمين والشمال دبر كل صلاة مفروضة؟ فأجابت اللجنة ما نصه: المواظبة على السلام على الإمام ومصافحته والتزام المصلي السلام على من عن يمينه ومن عن يساره عقب الصلوات الخمس بدعة لأنه لم يثبت ذلك عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا عن خلفائه الراشدين وسائر الصحابة -رضي الله عنهم -، ولو كان لنقل إلينا لتكرر الصلاة كل يوم خمس مرات، وذلك لا يخفى على المسلمين لكونه في مشاهد عامة، وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (كتاب الدعوة ص: 74). وقال شيخنا الفاضل عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين -حفظه الله تعالى-: كثير من المصلين يمدون أيديهم لمصافحة من يليهم وذلك بعد السلام من الفريضة مباشرة، ويدعون بقولهم: "تقبل الله"، أو "حرمًا" وهذه بدعة لم تنقل عن السلف. اهـ. - استعمال المسبحة وترك التسبيح بالأصابع: قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- مُجيبًا عن سؤال حول المسبحة: تركها أولى، وقد كرهها بعضُ أهل العلم، والأفضل التسبيح بالأصابع كما كان يفعل ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وروي عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر بعقد التسبيح والتهليل بالأنامل وقال: "إنهن مسئولات مستنطقات". أخرجه أبو داود، والاقتصار في التسبيح على أصابع اليد اليمنى أفضل وذلك لحديثين: الأول: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يعقد التسبيح بيمينه. أخرجه أبو داود. الثاني: كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله. أخرجه الشيخان. وقد سئل سماحة الشيخ ابن باز عن: إمام مسجد سبح بيمينه فاستغرب ذلك بعضُ المصلين؟ فأجاب سماحة الشيخ بقوله: ما فعله الإمام هو الصواب، فقد ثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يعقد التسبيح بيمينه، ومن سبح باليدين فلا حرج لإطلاق غالب الأحاديث، لكن التسبيح باليمين أفضل عملًا بالسنة ¬

_ (¬1) كتاب الدعوة: (ص: 74).

الثابتة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والله ولي التوفيق. - ومن المخالفات أيضًا: إشغال النظر. قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم". رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، عن جابر بن سمرة، وأنس -رضي الله تعالى عنهما-. وبوب عليه ابن خزيمة: باب التغليظ في النظر إلى السماء في الصلاة، إذا علم هذا فإن السنة أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده. أخرج الحاكم في مستدركه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكعبة، وما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقد روى أحمد، وابن خزيمة، والبيهقي بإسناد حسن عن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا تشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع يديه اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه السبابة لا يجاوز بصره إشارته. فدل الحديثان أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده وإن شاء نظر إلى سبابته في أثناء التشهد. - من المخالفات أيضًا: عدم كظم التثاؤب من المصلي في أثناء صلاته. روى مسلم، وأبو داود، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع، فإن الشيطان يدخل". والكظم هو أن يرد التثاؤب ما استطاع، وذلك يكون بوضع اليد على الفم، كما ورد في بعض الروايات: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه". رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-. - ومن المخالفات أيضًا: تغطية الفم في الصلاة إما بالتلثم أو غيره، فقد روى أبو داود، وابن ماجه، والبغوي، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن يغطي الرجل فاه. ويستثنى من ذلك تغطية الفم في أثناء التثاؤب لما تقدم آنفًا. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-: يُكره التلثم في الصلاة إلا من علة (¬1). - ومن المخالفات أيضًا: الخروج من المسجد بعد الأذان. قال الإمام المنذري -رحمه الله تعالى-: الترهيب من الخروج من المسجد بعد الأذان لغير عذر. ثم ساق بعض الأحاديث في ذلك منها: عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا خرج بعد ما أذن المؤذن، فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. رواه مسلم، وأحمد. وزاد: "إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي". قال الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى-: وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه. انتهى. ¬

_ (¬1) كتاب الدعوة "الفتاوى": (ص: 83).

- ومن المخالفات أيضًا: تشبيك الأصابع في أثناء خروجه إلى المسجد إلى فراغه من الصلاة فإنه في ذلك الوقت منهي عن تشبيك أصابعه. فعن كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يَقُلْ هكذا: وشبك بين أصابعه". رواه الحاكم. وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه -أيضًا، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا توضأ أحدكم للصلاة فلا يشبك بين أصابعه". رواه الطبراني في معجمه الأوسط. فهذه الأحاديث الدالة على النهي عن تشبيك الأصابع عند الخروج إلى الصلاة إلى الفراغ منها. - ومن المخالفات أيضًا: السكتة بعد الفاتحة سكتة طويلة: هذه السكتة لم تثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث صحيح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم، ولكن بعض أصحابه استحب ذلك، ومعلوم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد عُلم أنه لم يكن، وأيضًا فلو كان الصحابة كلهم يقرءون الفاتحة خلفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إما في السكتة الأولى وإما في الثانية لكان هذا مما تتوفر الهمم والداوعي على نقله فكيف ولم ينقل أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية يقرءون الفاتحة مع أن ذلك لو كان شرعًا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه، فعلم أنه بدعة". اهـ. وقد وجه إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- سؤالان حول هذه المسألة. وهذا نص السؤال الأول: ما حكم وقوف الإمام بعد الفاتحة لحين يقرأ المأموم الفاتحة، وإذا لم يقف الإمام تلك الوقفة فمتى يقرأ المأموم الفاتحة؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: ليس هناك دليل صحيح صريح يدل على شرعية سكوت الإمام حتى يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية. أما المأموم فالمشروع له أن يقرأها في حالة سكتات إمامه إن سكت، فإن لم يتيسر ذلك قرأها المأموم سرًا ولو كان إمامه يقرأ ثم ينصت بعد ذلك لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". متفق عليه. وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ " قالوا: نعم. قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأها". رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان بإسناد حسن. وهذان الحديثان يخصصان قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]. وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا". الحديث رواه مسلم في صحيحه. وإجابة السؤال الثاني نحوه. اهـ. - ومن المخالفات أيضًا: الصلاة بين السواري. عن قرة -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنا نُنهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،

ونطرد عنها طردًا". أخرجه ابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والطيالسي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وعن عبد الحميد بن محمود قال: صليت مع أنس بن مالك يوم الجمعة فدفعنا إلى السواري فتقدمنا وتأخرنا فقال أنس: "كنا نتقي هذا على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم. قال البيهقي: هذا -والله أعلم- لأن الأسطوانة تحول بينهم وبين وصل الصف، فإن كان منفردًا ولم يجاوزا ما بين الساريتين لم يكره إن شاء الله تعالى. لما روى البخاري أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل الكعبة وصلى في بين العمودين المقدمين (¬1). ورخص مالك في الصلاة بينها عند الزحام، فقال: لا بأس في الصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد. اهـ. - ومن المخالفات أيضًا: ما اعتاده بعض الناس من تقبيل المصحف وغالبًا ما يكون هذا بعد الفراغ من القراءة أو عندما يجد المصحف في مكان ممتهن، ولا ريب أن فاعل ذلك الشيء قصده احترام المصحف وصونه عن الإهانة إلا أن صلاح النية ليس دليلًا على صلاح العمل. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن القيام للمصحف وتقبيله؟ وهل يُكره أيضًا أن يفتح فيه الفأل؟ فأجاب -رحمه الله تعالى- بما نصه: الحمد لله، والقيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئًا مأثورًا عن السلف. وقد سُئل الإمام أحمد عن تقبيل المصحف؟ فقال: ما سمعت فيه، ولكن روي عن عكرمة بن أبي جهل أنه كان يفتح المصحف ويضع وجهه عليه ويقول: كلام ربي، كلام ربي، ولكن السلف وإن لم يكن من عادتهم القيام له، فلم يكن من عادتهم قيام بعضهم لبعض. اللهم إلا لمثل القادم من مغيبة ونحو ذلك. ثم قال بعد كلام له: وأما استفتاح الفأل في المصحف، فلم ينقل عن السلف فيه شيء، وقد تنازع فيه المتأخرون، وذكر القاضي أبو يعلى فيه نزاعًا، ذكر عن ابن بطة أنه فعله، وذكر عن غيره أنه كرهه، فإن هذا ليس الفأل الذي يحبه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه كان يحب الفأل ويكره الطيرة. والفأل الذي يُحبه هو أن يفعل أمرًا أو يعزم عليه متوكلًا على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره، مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مُفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك ... إلخ كلامه -رحمه الله تعالى-. (مجموع الفتاوى 23، ص 65، 66). - ومن المخالفات أيضًا: التنطع في قراءة القرآن الكريم. فإن بعض القراء ينفرون من سماع كلام الله تعالى، وذلك عائدًا إلى تنطعهم في القراءة والتكلف في إخراج الحروف بطريقة متعنتة. والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يعني هونا قراءته. وقال السدي: يسرنا تلاوته على الألسن. ¬

_ (¬1) مختصرًا من السنن الكبرى: (3/ 104).

بعض المخالفات المتعلقة بالمساجد

وقال الضحاك عن ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل. انتهى من تفسير ابن كثير 4 ص 282. - ومن المخالفات أيضًا: بعض العامة يقول في دعائه -بين السجدتين-: اللهم خل عنى. وهذه اللفظة خلاف المأثور، بل يقول ما ورد: رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني. - ومن المخالفات أيضًا: بعض المصلين يتمايل في صلاته من جانب إلى جانب -وتارة يتقدم بجسمه ويتأخر- من دون حاجة، وجمع هذه الأعمال ضد الخشوع في الصلاة (¬1). - ومن المخالفات أيضًا: بعض المصلين إذا سجد للسهو قال في سجوده: سبحان من لا يسهو ولا ينام. وبعضهم يقرأ قوله تعالى: {وَما كَانَ رَبُّكَ نَسِيًا} [مريم: 64] أو {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. جاء في كتاب السنن والمبتدعات: ولم يحفظ عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر خاص لسجود السهو، بل أذكاره كسائر أذكار سجود الصلوات. وأما ما يُقال أنه يقول فيه: "سبحان من لا يسهو ولا ينام". فلم يفعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا أصحابه، ولم يدل عليه دليل من السنة ألبتة (¬2). أما الذي يقرأ الآيتين السابقتين فإضافة إلى أن عمله ليس عليه دليل فقد وقع في النهي الصريح عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- مرفوعًا: " ... ألا وإني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا ... " (¬3). بعض المخالفات المتعلقة بالمساجد 1 - ومن المخالفات أيضًا: زخرفة المساجد ونقشها وإنفاق الأموال الطائلة في تزويقها والتفنن في أشكالها حتى تكاد تفقد جوها الروحاني. أخرج الحكيم الترمذي بسند حسنه الشيخ الألباني، عن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم، فالدمارُ عليكم". قال الزركشي في كتابه "إعلام الساجد بأحكام المساجد": المسألة التاسعة والعشرون ما نصه: ¬

_ (¬1) مسائل مهمة تتعلق بالصلاة للشيخ عبد الله بن منصور الزامل رحمه الله تعالى. فائدة: حديث أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" حديث موضوع، وقد رُوي موقوفًا على سعيد بن المسيب ولا يصح عنه كذلك، ذكر ذلك الشيخ الألباني. انظر: السلسلة الضعيفة حديث (110). (¬2) السنن والمبتدعات: (ص: 76). (¬3) مسلم بشرح النووي: (4/ 196). فائدة: قال الشيخ الألباني معلقًا على هذا الحديث: والنهي مطلق يشمل المكتوبة والنافلة، وأما زيادة ابن عساكر (17/ 299/1) "فأما صلاة التطوع فلا جناح" فهي شاذة أو منكرة وقد أعلها ابن عساكر فلا يجوز العمل بها، انتهى من صفة صلاة النبي حتى (ص: 115).

"يُكره زخرفتها، ففي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما أمرت بتشييد المساجد"، قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى". وعن أنس، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" وروى البخاري في صحيحه أن عمر -رضي الله عنه - أمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تُحمر أو تصفر فتفتن الناس. وقال أبو الدرداء: إذا حليتم مصاحفكم، وزخرفتم مساجدكم فالدمار عليكم. وقال علي -رضي الله عنه -: "إن القوم إذا رفعوا مساجدهم فسدت أعمالهم ... " (ص 337). 2 - ومن المخالفات أيضًا: كثرة المساجد في الحي الواحد. قال السيوطي في كتاب (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع): ومن تلك المحدثات كثرة المساجد في المحلة الواحدة، وذلك لما فيه من تفريق الجمع، وتشتيت شمل المصلين، وحل عروة الانضمام في العبادة، وذهاب رونق وفرة المتعبدين، وتعديد الكلمة، واختلاف المشارب، ومضادة حكمة مشروعية الجماعات، أعني اتحاد الأصوات على أداء العبادات وعودهم على بعضهم بالمنافع والمضارة بالمسجد أو شبه المضارة أو محبة الشهرة والسمعة وصرف الأموال فيما لا ضرورة فيه. اهـ. 3 - الصلاة على الفرش المزخرفة: فإن الصلاة على تلك الفرش مذهبة للخشوع، مُجلبة للسهو والسرحان. وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية، وهذا نصه: ما حُكم الصلاة على السجادة التي فيها صور المساجد والقباب التي على القبور والمنارات وأمثالها؟ وأجابت اللجنة بما يلي: إن تصوير ما ليس فيه روح جائز، والصلاة على السجادة التي فيها صور ما لا روح فيها لا تجوز لما في ذلك من شغل المصلي في صلاته لكنها صحيحة لما رواه أحمد، وأبو داود من طريق عثمان بن طلحة، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعاه بعد دخوله الكعبة، فقال: "إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلتُ البيت فنسيتُ أن آمرك أن تخمرها فخمرها، فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يُلهي المصلي". وروى أحمد، والبخاري من طريق أنس قال: كان قرام لعائشة قد سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أميطي عني قرامك هذا، فإنه لا تزال تعرض لي في صلاتي". 4 - وضع الإعلانات التجارية داخل المساجد، وذلك كالإعلان عن طلب مبنى صفته كذا وكذا ليكون مدرسة أو مستوصفًا أو غير ذلك كالإعلانات عن مؤسسات خاصة بنقل الحجاج مع تجهيز المسكن والمأكل والمشرب. فإن ذلك يتنافى مع مكانة المساجد. 5 - ومن المخالفات أيضًا: اتخاذ المسجد طريقًا: وقد جاء النهي عن ذلك، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا تتخذوا المساجد طرقًا إلا لذكر أو صلاة". 6 - ومن المخالفات أيضًا: اتخاذ ساعات ذات أجراس ناقوسية لها دقات منتظمة كدقات نواقيس

النصارى (¬1). 7 - ومن المخالفات أيضًا: الجهر بالقراءة في المسجد مما يُسبب إخلالًا لصلاة المصلي وقراءة القارئ. سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: عن مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب -رحمه الله تعالى- بقوله: ليس لأحد أن يؤذي أهل المسجد أو أهل الصلاة أو القراءة أو الذكر أو الدعاء ونحو ذلك مما بُنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد ولا على بابه أو قريبًا منه ما يشوش على هولاء، بل قد خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: "أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة". فإذا كان قد نهى المصلي أن يجهر على المصلي، فكيف بغيره؟ ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد أو فعل ما يفضي إلى ذلك منع من ذلك، والله أعلم. 8 - ومن المخالفات: البزاق في المسجد، وقد تقدم آنفًا بعض الأدلة على المنع من ذلك، ويُضاف هنا ما رواه البخاري عن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "البزاق في المسجد، وكفارتها دفنها"، ولفظ مسلم: "التفل" وهو أخف من البزاق. قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا. قال شيخنا عبد الله بن جبرين -حفظه الله تعالى-: لعل هذه الملاحظة مفقودة أو قليلة في هذه الأزمنة، فإن المساجد مفروشة مبلطة وبها مناديل وقد فقه الناس حرمتها ومن فيها إلا ما شاء الله. قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في رياض الصالحين: والمراد بدفنها إذا كان المسجد ترابًا أو رملًا فيواريها تحت ترابه، قال أبو المحاسن الروياني في كتابه "البحر": وقيل المراد بدفنها إخراجها من المسجد، أما إذا كان المسجد مبلطًا أو مُجصصًا فدلكها عليه بمداسه أو بغيره كما يفعله كثير من الجاهلين فليس ذلك بدفن بل زيادة في الخطيئة وتكثير للقذر في المسجد، وعلى من فعل ذلك أن يمسحه بعد ذلك بثوبه أو بيده أو غيره أو يغسله. انتهى من رياض الصالحين. 9 - ومن المخالفات أيضًا: الجلوس في المسجد بدون أداء تحيته. وعن ابن قتادة -رضوان الله تعالى عنه- أنه دخل المسجد فوجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالسًا بين أصحابه فجلس معهم، فقال: "ما منعك أن تركع؟ " قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس، قال: "فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين". أخرجه البخاري بدون القصة وهو رواية مسلم. ويرد هنا مسائل: المسألة الأولى: لو جلس قبل أن يصلي لنسيان، فعليه في هذه الحالة أن يقوم ويأتي بالتحية. ويدل لذلك حديثان: الأول: عن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنهما- قال جاء سُليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قائم على المنبر فقعد سُليك قبل أن يُصلي فقال: "أصليت ركعتين؟، فقال: لا، فقال: ¬

_ (¬1) حجاب المرأة المسلمة للألباني: (ص: 83، 84).

"قم فاركعهما". أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ لمسلم. والدليل الثاني: عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- أنه جاء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو جالس في المسجد فجلس، فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أركعت ركعتين؟ " قال: لا، قال: "قم فاركعهما". أخرجه ابن حبان وترجم عليه: أن تحية المسجد لا تفوت بالجلوس. المسألة الثانية: إذا أراد الجلوس في المسجد وكان الوقت وقت نهي عن الصلاة فهل يصلي التحية أو يجلس بدون الصلاة؟ فالصحيح في هذه المسألة: أنه يصلي تحية المسجد، وقد وجه إلى الشيخ العلامة ابن باز سؤال بهذا المعنى. فأجاب -حفظه الله تعالى- بما نصه: في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم والصحيح أن تحية المسجد مشروعة في جميع الأوقات حتى بعد الفجر وبعد العصر لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" متفق على صحته. ولأنها من ذوات الأسباب كصلاة الطواف وصلاة الخسوف، والصواب فيها كلها أنها تُفعل في أوقات النهي كلها كقضاء الفوائت من الفرائض لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلاة الطواف: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار". أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن بإسناد صحيح. ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صلاة الكسوف: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم". متفق على صحته. وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك". وهذه الأحاديث تعم أوقات النهي وغيرها، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم -رحمة الله عليهما-، والله ولي التوفيق. انتهى جواب سماحته بحروفه. 10 - ومن المخالفات أيضًا: إنشاد الضالة في المسجد. أخرج مسلم في صحيحه عن بريدة -رضي الله تعالى عنه- أن رجلًا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بُنيت له". ومعنى قوله: "من دعا إلى الجمل الأحمر"، أي: من وجد ضالتي، وهو الجمل الأحمر، فدعاني له. وأخرج مسلم أيضًا عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تُبن لهذا". 11 - ومن المخالفات أيضًا: البيع والشراء في المسجد. عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك". أخرجه الترمذي، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان وابن الجارود، وابن السني، والحاكم، والبيهقي. 12 - ومن المخالفات أيضًا: أن يتخذ الرجل مكانًا معينًا في المسجد لا يصلي إلا فيه ويضيق ذرعًا إذا سبق إليه.

مخالفات تتعلق بالجمعة

روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، عن عبد الرحمن بن شبل -رضي الله تعالى عنه-، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن أن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في بدائع ما نصه: قال المروزي: كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام فجاء يومًا وقد تجافى الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع فاعتزل وقام في طرف الصف، وقال: نهي أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير. (انتهى من البدائع 3 ص 82). فانظر رحمك الله، يتجافى عن مكان قد أخلي له، واليوم يضيق بعضهم ذرعًا إذا سبقه أحد إلى مكانه. 13 - ومن المخالفات أيضًا: حجز مكان في المسجد بسجادة أو نحوها. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين بل محرم؛ لأنه غصب بقعة في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان. ثم قال -رحمه الله تعالى-: والمأمور به أن يسبق الرجُل بنفسه إلى المسجد فإذا قدم المفروش وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من جهة تأخره وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين إلى المسجد أن يصلوا فيه وأن يتموا الصف الأول فالأول ثم أنه يتخطى الناس إذا حضروا. وهنا فتوى عن حجز الأماكن للشيخ ابن سعدي -رحمه الله تعالى-: سئل -رحمه الله تعالى- عن حكم التحجير في المسجد؟ فأجاب -رحمه الله تعالى- بقوله: اعلموا رحمكم الله أن التحجر في المساجد ووضع العصا والإنسان متأخر في بيته أو سوقه عن الحضور، لا يحل ولا يجوز لأن ذلك مُخالف للشرع ومُخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حث الناس على التقدم للمساجد والقرب من الإمام بأنفسهم وحث على الصف الأول وقال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول -يعني من الأجر العظيم- ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليهم لاستهموا". ولا يحصل هذا الامتثال وهذا الأجر العظيم إلا لمن تقدم وسبق بنفسه، وأما من وضع عصاه ونحوه، وتأخر عن الحضور فإنه مُخالف لما حث عليه الشارع غير مُمتثل لأمره فمن زعم أنه يُدرك فضيلة التقدم وفضيلة المكان الفاضل بتحجره مكانًا فيه وهو متأخر فهو كاذب بل من فعل هذا فاته الأجر وحصل له الإثم والوزر. اهـ مختصرًا. الفتاوى السعدية (ص 182). مخالفات تتعلق بالجمعة 1 - ومن المخالفات في يوم الجمعة: ترك الاغتسال. وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". أخرجه السبعة عن أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه-. وعن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل". رواه الجماعة.

ولمسلم: "إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل". وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا يغسل فيه رأسه وجسده". متفق عليه. 2 - ومن المخالفات أيضًا في يوم الجمعة: تخطي رقاب الناس ويكون هذا غالبًا في أثناء الخطبة. عن عبد الله بن بُسر -رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اجلس، فقد آذيت وآنيت". وقد اختلف أهل العلم في حكم التخطي يوم الجمعة: فقال الترمذي حاكيًا عن أهل العلم: أنهم كرهوا تخطي الرقاب يوم الجمعة وشددوا في ذلك، وحكى أبو حامد في تعليقه عن الشافعي التصريح بالتحريم. واختار النووي، وأبو المعالي والشيخ -يعني شيخ الإسلام- وغيرهم تحريمه، وقال: ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فُرجة لا يوم الجمعة ولا غيره لأنه من الظلم والتعدي لحدود الله. اهـ (من حاشية الروض المربع 2/ 480). 3 - ومن المخالفات أيضًا: الاحتباء يوم الجمعة والخطيب يخطب. عن معاذ بن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب. (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي 1/ 289). قال ابن الأثير في النهاية: الاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب، ثم قال: ومنه الحديث: "أنه نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب". نهى عنها لأن الاحتباء يجلب النوم فلا يسمع الخطبة ويعرض طهارته للانتقاض. اهـ (من النهاية لابن الأثير). ويُضاف إلى ما سبق أن الاحتباء يُسبب كشف العورة أحيانًا خاصة إذا كان ما تحت ثوبه من الملابس القصيرة. 4 - ومن المخالفات أيضًا المتعلقة بيوم الجمعة: اعتقاد بعض الناس وجوب قراءة (آلم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان) فجر يوم الجمعة. وهذا اعتقاد خاطئ فالذي ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يقرأ في الجمعة (آلم تنزيل السجدة)، و (هل أتى على الإنسان). أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- وكونه يقرأ في الجمعة لا يلزم منه المداومة. قال ابن دقيق العيد: وليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائمًا اقتضاءً قويًا على كل حال فهو مُستحب. انتهى (عمدة الأحكام 2/ 120). وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن الصلاة يوم الجمعة بالسجدة هل تَجب المداومة عليها أم لا؟ فأجاب -رحمه الله تعالى- بقوله: الحمد لله. ليست قراءة (ألم تنزيل) التي في السجدة ولا غيرها من ذوات السجود واجبة في فجر

الجمعة باتفاق الأئمة، ومن اعتقد ذللك واجبًا أو ذم من ترك ذلك فهو ضال مُخطئ يجب عليه أن يتوب من ذلك باتفاق الأئمة. ثم قال: لا ينبغي المداومة عليها بحيث يتوهم الجهال أنها واجبة وأن تاركها مسيء بل ينبغي تركها أحيانًا لعدم وجوبها. والله أعلم (24/ 204، 205). وقال شيخ الإسلام: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ السورتين كلتاهما، فالسنة قراءتهما بكمالهما. 5 - ومن المخالفات أيضًا: الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والترضي عن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- والإمام يخطب في يوم الجمعة سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل شيخ -رحمة الله تعالى- عمن يصلي على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويترضى عن الصحابة -رضي الله عنهم- جهرًا والإمام يخطب يوم الجمعة؟ الجواب: الجهر بالصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والترضي حال الخطبة من غير الخطيب بدعة مُخالفة للشريعة منع منها طوائف من العلماء سلفًا وخلفًا، ولهم فيها مأخذان: الأول: أنه من مُحدثات الأمور التي لم تفعل في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا عهد أصحابه، ولا في عهد التابعين، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. الثاني: أن الأحاديث ثبتت بالأمر بالإنصات للخطبة، فقد صح من حديث أبي هريرة، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة: أنصت، فقد لغوت". قال في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث: إن الصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما هي دعاء، وجميع الأدعية السنة فيها الإسرار دون الجهر غالبًا. قلت: وهذا مأخذ ثالث للمنع. 6 - أن بعض الناس: إذا دخل المسجد الجامع لأداء صلاة الجمعة ووجد المؤذن يؤذن الأذان الثاني أخذ في متابعة الأذان، ثم إذا فرغ من المتابعة شرع في أداء تحية المسجد وقد شرع الخطيب في ابتداء الخطبة. وهذا بفعله ذاك قد حصر على تحصيل السُّنة لكنه فرط في استكمال الواجب على وجهه مع قدرته عليه، وذلك أن متابعة الأذان سُنَّة، واستماع الخطبة واجب. ومما يؤكد ذلك -أي أن الداخل إلى الجامع مأمور بأن يتفرغ لسماع الخطبة ما أمكنه- قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود. قال الشوكاني -رحمه الله تعالى- "وليتجوز فيهما": فيه مشروعية التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة. انتهى (النيل 3/ 293). 7 - ومن المخالفات أيضًا المتعلقة يوم الجمعة: وصل صلاة الجمعة بصلاة بعدها دون أن يفصل بينهما بكلام أو نحوه. ويدل لذلك ما ورد عن السائب ابن أخت نمر أنه قال: صليتُ مع معاوية الجمعة في المقصورة فلما سلّم الإمام قمتُ في مقامي فصليتُ فلما دخل -رضي الله تعالى عنه- أرسل إلي فقال: لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج. فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرنا بذلك أن لا نُوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة

مخالفات الطهارة

وغيرها كما ثبت عنه في الصحيح: "أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام". فلا يفعل ما يفعله كثير من الناس. يصل السلام بركعتي السنة فإن هذا ركوب لنهي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض كما يميز بين العبادة وغير العبادة. (مجموع الفتاوى 24/ 202، 203). 8 - ومما يتعلق بالجمعة أيضًا: صلاة ركعتين بعد الأذان الأول وغالبًا ما يكون ذلك في الحرمين فلا يكاد المؤذن ينتهي من أذانه الأول حتى يهب الجميع قيامًا إلا من شاء الله تعالى ليصلوا ركعتين وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل بلغ ذلك إلى ينكر المصلي على الجالس. ونسوق كلامًا نفيسًا لابن الحاج يتعلق بموضوعنا هذا: قال رحمه الله: "وينهى الناس عما أحدثوه من الركوع بعد الأذان الأول للجمعة لأنه مُخالف لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم لأنهم كانوا على قسمين: فمنهم: من كان يركع حين دخوله المسجد ولا يزال كذلك حتى يصعد الإمام المنبر فإذا جلس عليه قطعوا تنفلهم. ومنهم: من كان يركع ويجلس حتى يصلي الجمعة ولم يحدثوا ركوعًا بعد الأذان الأول ولا غيره فلا المتنفل يعيب على الجالس ولا الجالس يعيب على المتنفل وهذا بخلاف ما هم اليوم يفعلونه فإنهم يجلسون حتى إذا أذن المؤذن قاموا للركوع -يعني الصلاة-". 9 - ومن المخالفات أيضًا: ما يفعله بعض الناس من التسوك في أثناء الخطبة. 10 - ومن المخالفات أيضًا: ما يفعله كثير من الخطباء من الإكثار في السجع في أثناء الخطبة وبالأخص في جُمل الدعاء. أوصى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- مولاه عكرمة وصية قال في آخرها: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب". أخرجه البخاري، وبوب عليه: باب ما يكره من السجع في الدعاء. قال الحافظ ابن حجر: قال الغزالي: المكروه من السجع هو المتكلف لأنه لا يلائم الضراعة والذلة. وإلا ففي الأدعية المأثورة كلمات متوازية لكنها غير متكلفة. (اهـ من الفتح 11/ 139). مخالفات الطهارة - بعض الناس إذا أراد الاغتسال يجعل على رأسه غطاء يمنع وصول الماء إلى الشعر. وكل ذلك خشية أن يفسد الماء عليه صفوف الشعر أو أن يزيل الماء ما يكون في الشعر من الدهن الذي يدهن به الشعر أو يخشى إذا أصاب الماء شعره أن تبقى الرطوبة فترة طويلة لكثافة الشعر وطوله وعلى هذا فتكون طهارته ناقصة بسبب هذا الغطاء الذي وضع على شعره لأنه حجب شيئًا يجب غسله. - ومما يتعلق بالنساء أيضًا: إن بعضهن بعد طهرهن لا يؤدين الصلاة التي طهرن في وقتها بل يبدأن بالصلاة القادمة، وهذا جهل منهن، والصواب أن تلك الصلاة التي طهرن في وقتها واجبة عليهن. قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى-: "أما إذا طهرت وكان باقيًا من الوقت مقدار ركعة فأكثر فإنها تصلي ذلك الوقت الذي طهرت فيه لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". أخرجه البخاري ومسلم.

فإذا طهرت وقت العصر أو قبل طلوع الشمس، وكان باقيًا على غروب الشمس أو طلوعها مقدار ركعة فإنها تصلي العصر في المسألة الأولى والفجر في المسألة الثانية". فتاوى المرأة (ص 25). - ومن الأخطاء التي تقع فيها بعض النساء: أن الحيض قد يأتيها بعد دخول وقت الصلاة بمدة فإذا طهرت لم تقض تلك الصلاة التي وجبت عليها قبل العادة وتظن أنها تلحق بالصلوات التي جاءت وقت العادة وهذا فهم خاطئ فقد ثبتت الصلاة في ذمتها ولزامًا عليها أن تقضيها. قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى-: "إذا حدث الحيض بعد دخول وقت الصلاة كأن حاضت بعد الزوال بنصف ساعة مثلًا فإنها بعد أن تتطهر من الحيض تقضي هذه الصلاة التي دخل وقتها وهي طاهرة لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فتاوى المرأة ص:25). - ومما يتعلق بالنساء أيضًا: ما ذكره ابن النحاس -رحمه الله تعالى- بقوله: "ما يفعله كثير من النسوة من تأخير الغسل من الجماع ومن الحيض إذا طهرت بالليل حتى تطلع الشمس ثم تغتسل فتقضي، وهذا حرام بالإجماع، والواجب عليها أن تبادر بالغسل وتُصلي قبل طلوع الشمس إذ أن الصلاة لا يجوز إخراجها عن وقتها عمدًا بالإجماع، وقد تقدم أن ذلك من الكبائر، وإذا علم الزوج وسكت عن إنكاره فهو شريكها في الإثم إن كانت عالمة بالتحريم، وإن كانت جاهلة فعليها إثم جهلها وإثم معصيتها، والله أعلم" (¬1). - يعتقد بعض الناس أن المسح على الخفين لا يكون إلا في فصل الشتاء، وهذا اعتقاد خاطئ، بل الصواب أن له المسح في كل وقت دون تحديد زمن دون زمن، فقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة". رواه مسلم وغيره. عام في كل زمن. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- في جواب له عن هذه المسألة: "عموم الأحاديث الصحيحة الدالة على جواز المسح على الخفين والجوربين يدل على جواز المسح في الشتاء والصيف، ولا أعلم دليلًا شرعيًا يدل على تخصيص وقت الشتاء، ولكن ليس له أن يمسح على الشراب ولا غيره إلا بالشروط المعتبرة شرعًا ومنها كون الشراب ساترًا لمحل الفرض ملبوسًا على طهارة مع مراعاة المدة وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر بدءًا من المسح بعد الحدث في أصح قولي العلماء ... والله ولي التوفيق". (الدعوة: 951). - اعتاد بعض الناس أن يقول لمن فرغ من وضوئه: "من زمزم"، ولعله يُراد الدعاء بأن يتمتع بشرب ماء زمزم، وهذا لا أصل له، وترتيب دعاء لا يثبت عن المعصوم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المحدثات، فتنبه. والله أعلم. والسنة أن يقول المتوضئ بعد فراغه من وضوئه ما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مثل: "ما منكم أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء". أخرجه مسلم، وأبو داود وغيرهما. زاد الترمذي: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين". وكذلك حديث: "من توضأ ثم قال عند فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا ¬

_ (¬1) تنبيه الغافلين: (ص: 310).

إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك. كتب في رق ثم جعل في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة". أخرجه النسائي، وابن السني، والحاكم. - في أثناء الوضوء يكتفي بعض الناس بمسح مقدمة رأسه أو يمسح إلى منتصف الرأس ويظن أنه قد استكمل المسح بذلك الفعل. والصواب: أن وضوءه ناقص وعليه أن يمسح جميع الرأس لأن الله تعالى يقول: {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6]. والمراد جميع الرأس لا بعضه. قال الشيخ محمد بن ابراهيم -رحمه الله تعالى-: "والصواب أنه لا بد من مسحه كله. وزعم من زعم أن الباء للتبعيض وليس في لغة العرب أنها للتبعيض بل هي للإلصاق، ثم سنة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واضحة في تعميمه مسح رأسه" (¬1). - بعض الناس يفتح للشيطان طريقًا عليه في أمر الطهارة ويستمر في ذلك مطاوعًا للشيطان حتى يصبح من جملة الموسوسين، وهذا باب واسع لكن من ذلك ما يحصل من بعض الناس من كونه يُبالغ في التنزه من البول حتى يخرج عن الحد المشروع فيقوم بإجهاد نفسه وإحراجها في سبيل إخراج ما يمكن إخراجه ولو بصعوبة ومشقة، هذا تنطع وتكلف مزموم. - بعض الناس في أثناء وضوءه وعند غسل وجهه لا يغسل صفحة وجهه كاملة بل تبقى أجزاء الوجه جهة الأذنين لم يمسها الماء. وهنا وضوء ناقص وعلى صاحبه أن يتعاهد ذلك وأن يحرص على إسباغ وضوءه. والوجه هو: من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن وإلى أصول الأذنين، ويتعاهد المفصل وهو: ما بين اللحية والأذن. وقد جاء في صفة وضوء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه غسل وجهه ولم يقل غسل بعض وجهه. فدل على أنه لا بد من غسل جميع الوجه. - يظن بعض الناس أنه إذا توضأ ثم حلق شعره أو قص ظفره أن طهارته فيها شك فيبقى في حرج من أمره. والصواب: أنه لا حرج عليه في ذلك وطهارته باقية على حالها. قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى- في جواب له حول سؤال عن هذا البحث: "لو أخذ الإنسان من شعره أو ظفره أو جلده لا ينقض الوضوء" (¬2). - بعض الناس إذا توضأ ثم أصاب بدنه وملابسه نجاسة لا يكتفي بإزالته فحسب، بل يعتقد أنه لا بد من إعادة الوضوء مرة ثانية، وهذا خطأ والصواب أن إعادة الوضوء لا حاجة له في هذا المقام، ولا علاقة لها برفع النجاسة، فالطهارة تحصل بإزالة النجاسة. قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى-: "إذا أصاب الإنسان نجاسة في بدنه أو ثوبه وهو على وضوء فإن وضوءه لا يتأثر بذلك، لأنه لم يحصل شيء من نواقض الوضوء، ولكن غاية ما عليه أن يغسل ¬

_ (¬1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 62). (¬2) دروس وفتاوى في الحرم المكي: (ص: 81).

مخالفات تتعلق بالصلاة

هذه النجاسة عن بدنه أو ثوبه ويصلي بوضوئه ولا حرج عليه في ذلك" (¬1). اهـ. - بعض النساء إذا كانت في وقت النفاس تمتنع عن الصيام والصلاة مدة أربعين يومًا وقد تطهر قبل ذلك، ولكن مع ذلك تمتنع عن أداء الصلاة والصيام حتى نهاية الأربعين. وهذا فهم خاطئ بل عليها أن تصوم وتصلي متى ما طهرت ولو كان ذلك قبل تمام الأربعين. سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى- عن هذا المبحث، وهذا نص السؤال: هل يجوز للمرأة النفساء أن تصوم وتُصلي وتَحج قبل أربعين يومًا إذا طهرت؟. فأجاب -حفظه الله- بقوله: نعم، يجوز لها أن تصوم وتُصلي وتَحج وتعتمر ويَحل لزوجها وطؤها في الأربعين إذا طهرت فلو طهرت لعشرين يومًا اغتسلت وصلت وصامت وحلت لزوجها. والصواب: أنه لا حرج في ذلك إذا طهرت قبل الأربعين يومًا فإن طهرها صحيح فإن عاد عليها الدم في الأربعين فالصحيح أنها تعتبره نفاسًا في مدة الأربعين ولكن صومها في حال الطهارة وصلاتها وحجها كله صحيح لا يعاد شيء من ذلك ما دام وقع في الطهارة. انتهى (¬2) والله أعلم. - ومن المخالفات أيضًا: أن بعض الناس إذا خشي أن تفوته الجماعة ولم يكن متوضئًا أو كان جنبًا عمد إلى التيمم وترك الوضوء أو الاغتسال خشية أن تفوته الجماعة، وفعله هذا مخالف لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء: 43]. جاء في فتاوى اللجنة الدائمة حول هذا المبحث ما نصه: "يجب عليه أن يغتسل ويتوضأ وضوء الصلاة ويُصلي ولو فاتته الجماعة ولا يجزئه التيمم وكون الجماعة تفوته إذا اغتسل لا يجيز له التيمم". - بعض الناس تُدركه الصلاة وهو في إحدى الحدائق العامة وغالبًا ما تُسقى هذه الحدائق بمياه لها رائحة كريهة. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-: "ما دامت تنبعث منها الرائحة الكريهة فالصلاة فيها غير صحيحة لأن من شروط صحة الصلاة طهارة البقعة التي يصلي عليها المسلم فإن وضع عليها حائلًا صفيقًا طاهرًا صحت الصلاة عليه ... " (¬3). مخالفات تتعلق بالصلاة - في بعض المساجد الكبيرة يدخل بعض المسبوقين فيحدث صفًا جديدًا، وقد يكون الصف الذي أمامه لم يكتمل في الجهة الأخرى، ولكن بعد المسافة أو طمعًا في إدراك الركعة جعله يتكاسل عن إتمام الصف من الجهة الأخرى. وفعله ذاك يحدث خللًا في إتمام الصفوف لأنه أنشأ صفًا والصف الذي أمامه لم يكمل. وأيضًا فربما يأتي بعده مسبوقون فيفعلون كما فعل فتبقى الصفوف مقطوعة من الجانبين وهذا لا يجوز لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ومن قطع صفًا قطعه الله -عز وجل-". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. ¬

_ (¬1) فتاوى نور على الدرب. الفوزان "الحلقة الأولى": (ص: 107). (¬2) كتاب الدعوة (ص: 43، 44) (¬3) مجلة الدعوة. عدد 1270 في 26/ 5/1411 هـ. (ص: 13).

وكذلك حديث: "أقيموا صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم". رواه أبو داود، وابن حبان. - بعض الأئمة في أثناء تسوية الصفوف يقول للمصلين إذا رأى في الصف عوجًا: "إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج". وأحيانًا يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيذكره. وهذا الحديث معروف عند كثير من الناس، ولكن بعد طول بحث وسؤال كثير من أهل العلم لم يعرف في أي كتاب ورد، ولا أحد تكلم عنه -وهذا كله حسب البحث-. ويقال لمن استشهد: عليك التثبيت وعدم التكلم به إلا بعد التأكد من صحته. ثم هناك من الأحاديث الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يُغني عنه، ومن ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سووا صفوفكم". رواه البخاري، ومسلم. وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أحسنوا إقامة الصفوف في الصلاة". رواه أحمد في المسند. وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رصوا صفوفكم وقاربوا بينها" (¬1). - يلحظ على بعض المصلين أنه إذا رفع من الركوع رفع يديه على هيئة الدعاء. وهذا الفعل خلاف السنة الثابتة عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنه كان يرفع يديه إلى حذو منكبيه، وتاره إلى أطراف أُذنيه وليس على هيئة الدعاء. - بعض المرضى الذين يفوتهم عدد من الصلوات، لا يصلونها إلا في أوقاتها من الغد، وهذا خطأ واضح. والواجب على أولئك أن يصلوا ما فاتهم من الصلوات فور تذكرهم لها لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (¬2). - في أثناء صلاة الكسوف أو الخسوف يدخل بعض الناس بعد رفع الإمام من الركوع الأول فإذا سلم الإمام من الصلاة سلم معه لأنه يعتقد أنه بإدراكه الثاني قد أدرك الركعة كما في الصلوات الأخرى. وهذا خطأ فإن صلاة الكسوف والخسوف في كل ركعة ركوعان أو أكثر، ولا تدرك الركعة إلا بإدراك الركوع الأول فيها، أما الصلوات الأخرى ففي كل ركعة ركوع واحد. وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة نصه: هل صحيح أن الركوع الثاني من صلاة الكسوف سُنة لا يعتد به المسبوق بحيث يأتي المسبوق بالركوع الأول بركعة كاملة بركوعين بعد تسليم الإمام أم أن الركوع الثاني يقوم مقام الأول؟ فأجابت اللجنة بما نصه: "الصحيح أن من فاته الركوع الأول من الكسوف لا يعتد بهذه الركعة، وعليه أن يقضي مكانها ركعة أخرى بركوعين لأن صلاة الكسوف عبادة والعبادات توقيفية، فيقتصر فيها على ما ثبت من كيفيتها في ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود، وانظر للفائدة رسالة: "تسوية الصفوف وأثرها في حياة الأمة" حسين العوايشة. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي بألفاظ متقاربة. تنبيه: ورد عند مسلم: "فمن فعل ذلك -أي نام عن الصلاة- فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها". قال النووي -رحمه الله تعالى-: معناه أنه إذا فاته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ويتحول، وليس معناه أن يقضي الفائتة مرتين مرة في الحال ومرة في الغد، وإنما معناه ما قدمناه، فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث. انتهى مختصرًا. شرح النووي (5/ 187).

النصوص الصحيحة" (¬1). انتهى. - بعض المأمومين إذا قام الإمام إلى الركعة الأخرى مكث جالسًا فترة من الزمن بحيث يأخذ الإمام وقتًا من الركعة التي هو فيها وذاك لا يزال جالسًا. وهذا خلاف السنة؛ لأن الواجب عليه متابعة الإمام؛ لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". الحديث رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى-: "الغالب على أكثرهم بطلان صلاته إلا أن الذي يفعل هذا جاهل في الغالب فأنه ترك ركن إنما يتركونه تكاسلًا عن الصلاة فيما يتبقى فينبغي تنبيه من يفعله" (¬2). - بعض المصلين ينظر إلى موضع سجوده -وقد أصاب السنة- لكن إذا قرأ الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} رفع ذلك المأموم رأسه قليلًا وقال: آمين، واعتياد هذا الرفع عند كل تأمين لا يجوز لأنه محدث. - اعتياد بعض الناس أن يرفع صوته بتكبيرة الإحرام رفعًا واضحًا يختلف عن باقي التكبيرات وسواء كان في ذلك مأمومًا أو منفردًا. وإفراد هذه التكبيرة -تكبيرة الإحرام- برفع الصوت دون غيرها يحتاج إلى دليل. قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، والذين نقلوا عنه صلاته لم يذكروا أنه خص تكبيرة الإحرام برفع الصوت، وهذا حسب البحث، والله تعالى أعلم. - في بعض البلاد عندما تُقضى الصلاة يقوم شخص بقراءة الفاتحة ثم يقول بعد ذلك: إلى حضرة النبي. وهذا جواب فضيلة الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى-: حكم هذا أنه بدعة من البدع التي لم تكن معهودة في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلفائه وكل ما ابتدع في الدين، فإنه لا ينفع صاحبه بل يضره ... كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محذرًا من ذلك: "إياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". وهذا العمل الذي يكون بعد الصلاة وهو قراءة الفاتحة أو آية الكرسي بصوت مرتفع يستمع إليه الحاضرون لا شك أنه من البدع التي ينهى عنها، ويؤمر الناس بدلًا عنها بأن يقوموا بما وردت به السنة من الأذكار التي تكون أدبار الصلوات انتهى مختصرًا (¬3). - بعض الناس إذا كان يصلي منفردًا ودخل معه أحد في صلاته رد ذاك الداخل بيده يأمره بالانصراف عنه وخاصة إذا كان يُصلي نفلًا يظن أنه لا يجوز أن يصلي إمامًا وهو مُتنفل بآخر مفترض، وهذا فهم خاطئ، والصواب جواز ذلك. ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة هذا نصه: إذا كان أحد المصلين يصلي منفردًا ودخل معه آخر مقتديًا به فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل في ذلك فرق بين الفرض والنفل؟ ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإسلامية: (13/ 98، 23/ 93). (¬2) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم: (2/ 292). (¬3) فتاوى نور على الدرب (ص: 40).

فأجابت اللجنة الدائمة: "يجوز ذلك سواء كان فرضًا أم نفلًا" (¬1). وفي جواب آخر للجنة: "يجوز ذلك سواء مُفترض بمتنفل لقصة معاذ كان يصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة" متفق عليه. - في أثناء الصلاة على الجنازة يقوم بعض الناس بإنشاء صف عن يمين الإمام وقد يكون عدد المصلين في ذلك الصف قليلًا بحيث لا يبلغ نهاية الصف، والذي يعتاد أيضًا أن غالب من يصف عن يمين الإمام هم قرابة الميت، وهذا يحتاج أيضًا إلى دليل. فيقال: الصواب أن يقف الجميع في صفوف تامة خلف الإمام لعموم الأحاديث الواردة في تسوية وإكمال الصفوف في الصلاة، فهي لم تفرق بين صلاة وصلاة. ومن تلك الأحاديث قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لتسون صفوفكم أو ليُخالفن الله بين وجوهكم". أخرجه البخاري، ومسلم. وقوله: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة". رواه البخاري، ومسلم. - ينكر بعض المأمومين على إمامهم إذا قدم سورة على سورة خلاف ترتيب المصحف، وبعضهم يبالغ في الإنكار كأن الإمام فعل محرمًا. وهذا جهل منهم، فإن ترتيب السور في القرآن الكريم فيه خلاف بين العلماء، وهل هو توقيفي أم اجتهادي من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير وغيرهما إلى أن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم. ورد إلى اللجنة الدائمة سؤال عن: رجل صلى إمامًا بجماعة فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة "تبت" ثم قرأ في الركعة الثانية سورة "الفيل" وذلك في صلاة العشاء. فهل يجوز قراءة سورة بعد سورة أقدم منها في الكتاب أم لا؟ وكان الجواب ما نصه: "إذا كان الأمر كما ذكر فليس في ذلك شيء ولكن الأولى أن تكون السورة التي في الركعة الثانية بعد السورة التي في الركعة الأولى حسب ترتيب المصحف وبالله التوفيق" (¬2). - يُلاحظ على بعض الناس إذا صلى إمامًا ومعه مأموم واحد كما يحصل لبعض من فاتتهم الصلاة -يلاحظ- أن الإمام يتقدم يسيرًا عن المأموم، والأصل في هذا أن يكون المأموم مُحاذيًا لإمامه دون تقدم أو تأخر. قال البخاري -رحمه الله تعالى-: "باب: يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين". ثم ذكر حديث ابن عباس عندما بات عند خالته ميمونة، وفي الحديث: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نام ثم قام، قال ابن عباس: فقمتُ عن يساره فجعلني عن يمينه .... ". الحديث (فتح الباري 2/ 190). قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: قوله: "سواء" أي لا يتقدم ولا يتأخر، وذكر عن ابن جريج قال: قلتُ لعطاء: الرجُل يصلي مع الرجُل أين يكون منه؟ قال: على شقه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم، قلت: أتُحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فُرجة؟ قال: ¬

_ (¬1) مجلة البحوث: (23/ 94). (¬2) مجلة البحوث الإسلامية: (19/ 148).

نعم. (الفتح 2/ 191، 190). - كثير من الناس يدخل والإمام راكع ومع تكبيرته للدخول في الصلاة قال الإمام: سمع الله لمن حمده، ومع ذلك فيعتدون بتلك الركعة. وهذا جهل منهم، وإلا ففي مثل هذه الحالة لا يُعتبر مُدركًا للركعة لأنه لم يشترك مع الإمام في شيء من الركوع. ورد في فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: "من كبر تكبيرة الإحرام حال رفع الإمام من الركوع لا يعتد بهذه الركعة وكذا من كبر تكبيرة الإحرام ثم كبر تكبيرة الركوع وركع حال رفع الإمام من الركوع لا يُعتد بهذه الركعة لأنه فاته الاشتراك مع الإمام في الركوع بقدر يكفي للاعتداد بهذه الركعة وعليه أن يأتي بعدها ركعة بدلها بعد سلام الإمام، ومن كبر تكبيرة الإحرام ثم أدرك الإمام وهو راكع فركع معه قدر يُحقق الطمأنينة اعتد بهذه الركعة عند جمهور العلماء لحديث: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة". رواه أبو داود، وابن خزيمة، والحاكم في المستدرك. والحديث: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". رواه الشيخان (¬1). - بعض الناس إذا أحدث في صلاته أو تذكر أنه دخل فيها بدون وضوء سلم عن يمينه وشماله -سواء كان قائمًا فيها أو قاعدًا- ثم خرج منها. والخطأ هنا: سلامه، فليس هذا موضع السلام، فالسلام ختام الصلاة، وهو عندما تذكر أنه على غير وضوء أو في أئناء إحداثه انفصل عن الصلاة ولم يعد باقيًا، فعليه أن يخرج من الصلاة دون تسليم؛ لأن التسليم خاص بختام الصلاة كما ورد في الحديث: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم". رواه أحمد، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه. - يلاحظ على بعض المصلين أنه يُطيل السجدة الثانية من الركعة الأخيرة إطالة واضحة بل أن بعضهم يُطيلها حتى تكون قدر ركعة أو ما يُقاربها وهذا خلاف السنة. والذى ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان يجعل سجوده قريب من الركوع في الطول .. وربما بالغ في الإطالة لكن لأمر عارض، كما ورد عن بعض الصحابة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى صلاة فسجد فيها فأطال السجدة فقال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك. قال: "كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني -أي اتخذني راحلة بالركوب على ظهري- فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" (¬2). فهذه حالة عارضة، أما أن يجعل المصلي دائمًا السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة أطول سجدة في الصلاة فهذا أمر لا يجوز لأنه خلاف السنة. - بعض الناس إذا قام يقضي ما فاته مع الإمام ثم جاء آخر ليدخل معه دفع المسبوق ورده عن الدخول معه، بل إن بعض من يراه من المصلين ينكر دخوله مع المسبوق. وهذا الإنكار في غير محله. ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة ما نصه: شخص لحق الجماعة في بعض الصلاة ثم أتى شخص آخر ليصلي ووجد الشخص قد قام لإتمام ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإسلامية. المجلد الثاني، العدد الأول: (ص: 288). (¬2) انظر/صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ص: 157).

صلاته فهل يجوز للشخص الأخير الإتمام والاقتداء بالشخص الأول؟ الجواب: نعم، يجوز للشخص الذي جاء متأخرًا أن يقتدي بالشخص الذي لحق الجماعة في بعض الصلاة ثم قام ليتم ما بقي من صلاته بعد سلام الإمام. والأصل في ذلك: ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه ابن خزيمة وصححه، وابن حبان، والحاكم، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلًا يصلي وحده فقال: "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه". وبما رواه الجماعة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الليل فقمت أصلي معه فقمت عن يساره فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه. هذه الأدلة وردت في جواز انتقال المنفرد إلى الإمامة في أثناء الصلاة، والأصل عدم الفرق بين الفرض إلا بدليل يقتضي التخصيص وكونه مسبوقًا لا يمنع اقتداء غيره به فيما بقي عليه ليحصل على فضل الجماعة في أصح قول العلماء. انتهى. - في حالة قيام الإمام سهوًا إلى الإتيان بركعة زائدة كخامسة في الرباعية أو ثالثة في الفجر أو رابعة في المغرب، يقوم بعض المصلين لمتابعته، مع علمهم بأنه يُصلي ركعة زائدة وهذا جهل منهم، فلا ينبغي لهم متابعته في مثل هذا. والمصلون في هذه الحالة مع إمامهم على أقسام: فقسم منهم: يتابع الإمام ظنًا منهم أن الإمام مُصيب في فعله، وهؤلاء لا شيء عليهم. وقسم ثان: يعلم أن الإمام قد زاد ركعة ويُسبح له فإذا استمر الإمام في فعله لم يتابعه بل بقي جالسًا حتى يسلم الإمام فيسلم معه، وهذا صلاته صحيحة. وقسم ثالث: مثل الذي قبله، لكنه يسلم من صلاته ولا ينتظر الإمام، وصلاته صحيحة، لكن الذي سلم مع الإمام أحسن منه. وقسم رابع: يتابع الإمام عالمًا بأنه يُصلي ركعة زائدة، وهذا هو الخطأ. ورد في فتاوى اللجنة الدائمة: إذا قام الإمام في الصلاة الرباعية إلى الخامسة ونُبه واستمر وجب على كل من علم خطأه مفارقته ويسلم لنفسه أو ينتظر ويسلم معه. وقد سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى- عن هذه المسألة؟ فقال: لا ينبغي لهم أن يتابعوه بل ينتظرونه حتى يسلم بهم أو يسلموا قبله والانتظار أحسن. مجموع الفتاوى. اهـ. لكن من تابعه جاهلًا بالحكم الشرعي فصلاته صحيحة كمن تابعه جاهلًا بأنها زائدة. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. (مجلة البحوث 15/ 87). - أحيانًا تدرك الصلاة بعض الناس وهم في إحدى الحدائق العامة فيصلي فيها ويترك الصلاة في المسجد. وعن هذه المسألة أجاب سماحة الشيخ ابن باز -حفظه الله تعالى- بقوله: "ولا يجوز للمسلم أن يُصلي في الحدائق ولو على حائل صفيق طاهر (¬1)، بل الواجب عليه أن يُصلي مع إخوانه المسلمين في بيوت الله المساجد التي قال فيها سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ ¬

_ (¬1) لأن بعض الحدائق تُسقى بمياه فيها رائحة كريهة.

فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38]. ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من سمع النداء فلم يأت، فلا صلاة له إلا من عُذر". رواه ابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم وإسناده على شرط مسلم (¬1). وسأله رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يُلازمني إلى المسجد، فهل لي من رُخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ " قال: نعم. قال: "فأجب". أخرجه مسلم في صحيحه. - بعض الأئمة يمد السلام بل قد يُبالغ في مده من جهة اليمين واليسار. ويتسبب بفعله ذلك في وقوع بعض المأمومين في موافقته أو مسابقته بالسلام. ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة هذا نصه: ما حُكم متابعة المأموم الإمام في التسليمتين، هل هذا جائز أم يحين الانتظار حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية؟ الجواب: روى الشيخان في صحيحيهما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا". والمذهب: أن التسليمتين أحد أركان الصلاة، وفي تسليم المأموم التسليمة الأولى قبل تسليم الإمام التسليمة الثانية مُخالفة للإتمام وهذا غير جائز (¬2). - ومن ذلك الدعاء بعد الصلاة جماعة: سئل الشيخ محمد بن عثيمين عن هذا الموضوع، وهذا نص السؤال: إمام يدعو بعد الصلاة دعاء جماعي، فهل هذا جائز؟ الجواب: إن هذا من البدع التي لم ترد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا عن أصحابه، والمشروع للمصلين بعد الصلاة أن يذكروا الله تعالى كل يذكر الله تعالى وحده بما جاء به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويكون ذلك جهرًا كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (¬3). - اعتاد بعض المصلين أن يُشير بسبابته كلما قرأ الإمام آيات تتحدث عن أسماء الله وصفاته مثل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]. وهذه الإشارة بأصبعه فعل زائد في الصلاة يحتاج إلى دليل، فالذين نقلوا صلاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم ينقلوا أنه كان يحرك سبابته، ولم يذكر ذلك أحد من أهل العلم حسب البحث والسؤال. - ومن المخالفات أيضًا: ما يحدث من بعض المأمومين وذلك أن الإمام إذا كبر للإحرام فقال: "الله ¬

_ (¬1) ابن ماجه: (1/ 260)، والدارقطني: (1/ 420)، والحاكم: (1/ 245). (¬2) مجلة البحوث الإسلامية 12: (ص: 91). (¬3) فتاوى نور على الدرب للشيخ ابن عثيمين، الحلقة الأولى: (ص: 120).

أكبر" قالوا: عز وجل، ثم كبروا للإحرام، وهذا من الأمور المُحدثة المُخالفة لهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلم يأمر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من وراءه أن يقولوا ذلك بل أمرهم بقوله: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا ... ". الحديث. رواه البخاري، ومسلم. - ومما يلاحظ أيضًا في بعض المساجد: أنهم يجعلون لصغار السن صفًا مستقلًا في آخر المسجد ليس في الصف الأخير من الصفوف بل في آخر المسجد. هذا من الجهل لأمرين: الأول: أنهم جعلوا الصغار جميعًا في صف واحد، وهذا يحتاج إلى دليل شرعي، فإن كان القصد يشغلون المصلين إذا كانوا بينهم، فمن باب أولى جمعهم في صف واحد فإن في ذلك أكثر إشغالًا من كونهم متفرقين. الأمر الثاني: أن تأخيرهم في آخر المسجد فيه مُخالفة للأمر بتراص الصفوف وإكمالها. - ومما يشاهد من بعض الناس: أنه في أثناء سجوده يسجد وأصابع كفه مجموعة (على هيئة القبضة) وهذا خلاف الحديث الصحيح: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم". البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعتمد على كفيه -يعني في السجود- ويبسطهما. (رواه أبو داود، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي). ويضم أصابعهما. (ابن خزيمة، والبيهقي، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي). ويوجههما قبل القبلة (البيهقي، وابن أبي شيبة) (¬1). - يقع بعض الناس في خطأ كبير في صلاتهم: ومنشأ الخطأ العجلة في الغالب أو الجهل أو عدم الانتباه لإمامه. وهذا الخطأ هو: أن بعض الناس يكبر للإحرام قبل تكبيرة إمامه، وهنا بحد ذاته مُبطل للصلاة فضلًا عن ترتيب الإثم على فعله لأنه سابق إمامه ومسابقة الإمام حرام لما ورد في ذلك النصوص المحذرة من هنا العمل. قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى-: إذا سبق المأموم إمامه في الصلاة فإن كان سبقه إياه بتكبيرة الإحرام فصلاة المأموم غير منعقدة وعليه أن يُعيد الصلاة، ودليل ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا". فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا كبر فكبروا ... " فأمر بالتكبير بعد تكبيرة الإمام، فإذا كبر المأموم تكبيرة الإحرام قبل إمامه فقد فعل فعلًا ليس عليه أمر الله ورسوله. وقد ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". وإن سبق المأموم إمامه بغير تكبيرة الإحرام كان يكون سبقه في الركوع فإن سبقه إلى الركوع بأن ركع قبل إمامه قلنا له: يلزمك أن ترجع فتركع بعد إمامك أي بعد أن يركع فإن لم يفعل ولم يرجع فإن كان لا يعلم أن السبق إلى الركن حرام فقد اختلف العلماء في صحة صلاته. فمنهم من قال: إنها لا تصح وهو القول الصحيح؛ لأنه ارتكب أمرًا محرمًا في صلاته فبطلت كسائر المحرمات في العبادة إذا ارتكبها الإنسان. ¬

_ (¬1) انظر/صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ص: 123).

وأما من قال: إن صلاته تصح فيقول: إنه آثم ولا تلزمه الإعادة. (فتاوى نور على الدرب ص 16). - ومن الأخطاء: ما يسمع من بعض الناس من الخطأ المتكرر في بعض الآيات وخاصة في الفاتحة مثل قراءة بعضهم: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (أنعمتُ عليهم). أو (إيَّاك نعبدْ)، والصواب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بالضم. - بعض المصلين لا يُحرك لسانه في جميع الصلاة: فيبقى مطبق الشفتين من أول صلاته إلى آخرها وهؤلاء ليسوا كثيرًا. لكن الكثير منهم يبقى صامتًا في أثناء قيامه فيقرأ الفاتحة في نفسه ولا يُحرك لسانه أبدًا حتى يركع وهذا خطأ واضح. ومما يدل على خلافه ما أخرجه البخاري، عن أبي معمر قال: سألنا خبابًا: أكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون؟ قال: باضطراب لحيته. (فتح الباري 2/ 244، 245). قال شيخ الإسلام -رحمه الله كعالى-: يجب أن يحرك لسانه بالذكر الواجب في الصلاة من القراءة ونحوها مع القدرة. - ومن ذلك: أن بعض المصلين إذا وضع يمينه على شماله وضعهما جميعًا على جهة الصدر اليُسرى وبالتحديد فوق القلب. وبعضهم يقول: إن هذا من أسباب الخشوع لأن القلب هو مركز الحركة في البدن، وهو المحور للبدن، فإذا وضعت اليدان فوق سكن عن السرحان والتفكير وأيضًا هذه الهيئة فيها نوع من الانكسار بين يدي الله عز وجل. هذا ملخص كلامهم. والصواب: أن يُقال خير الهدي هدي مُحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وتحصيل الخشوع لا يتم إلا بتطبيق صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التي كان يصليها ويأمر أصحابه أن يتعلموها ويصلوا مثلها كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صلوا كما رأيتموني أصلي" رواه البخاري. وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا صلى يضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد وكان أحيانًا يقبض اليمنى على اليسرى وكان يضعهما على الصدر (¬1). - يدخل بعض الناس إلى المسجد فيجد الصف قد اكتمل ويلتفت يمنة ويسرة يبحث عن أحد ليصف معه حتى لا يقع في النهي "لا صلاة لفرد خلف الصف" (¬2). فإذا لم يأت أحد توسط في الصف ثم سحب من أمامه وأرجعه معه حتى يصف معه، وهذا هرب من شيء لكنه وقع في أشياء، هرب من صلاته مُنفردًا خلف الصف لكنه أحدث بفعله أمورًا: الأول: تسبب في قطع الصف، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "من وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله". رواه أحمد، وأبو داود. الثاني: أنه أشغل جميع المصلين وذلك لأنهم سيتقاربون إلى بعض لسد تلك الفرجة. الثالث: أنه أخل بخشوع ذلك المصلي الذي جذبه إليه وحرمه مكانًا فاضلًا إلى آخر مفضولًا. ويختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنه إذا تعذر للمصلي أن يجد مكانًا في الصف أنه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وغيره. وانظر/صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ص: 79). (¬2) ابن خزيمة ولفظه: "استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف".

يقوم وحده ويصلي مع الجماعة ولا حرج عليه. وهذا القول وسط بين الأقوال، كما قال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -حفظه الله تعالى- (¬1). - ومن المخالفات أيضًا: ما يعتقده بعض الناس -في الصلاة الجهرية- من أن المأموم لا يجوز له أن يشرع في قراءة الفاتحة حتى ينتهي الإمام منها. وهذا يحتاج إلى دليل صحيح صريح. بل ألفاظ الأحاديث الواردة في الباب -حسب البحث- مطلقة لم تجعل لقراءة المأموم وقتًا مُحددًا مع إمامه بل غاية ما فيها أن المأموم يقرأ الفاتحة. فمن ذلك قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". رواه البخاري، ومسلم. وقوله: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام". رواه مسلم. وقوله: "لا تنازعوني إلا بأم القرآن ... " إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار. وقد سئل عن ذلك -قراءة المأموم الفاتحة قبل إمامه- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-؟ فأجاب: بأنه لا مانع من ذلك. - ومن المخالفات: أن بعض الناس يدخل المسجد والإمام مثلًا في حالة قيام إلى الركعة الثانية أو الثالثة مثلًا فيكبر المسبوق تكبيرة الإحرام ويستفتح الصلاة والإمام لم يستكمل قيامه بعد. وهذا بفعله يُعتبر مسابقًا لإمامه لأنه شرع في الركعة قبل دخول إمامه فيها، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف". رواه أحمد، ومسلم، فمثل هذا يتريث حتى يستتم الإمام قائمًا ثم يدخل بعده حتى لا تحصل المسابقة. - بعض المرضى إذا عجز عن الصلاة مضطجعًا أشار بأصبعه. قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى-: "وأما الإشارة بالأصبع كما يفعله بعض المرضى فليس صحيح ولا أعلم له أصلًا في الكتاب والسنة ولا من أقوال أهل العلم" (¬2). - يدخل بعض الناس إلى المسجد وهم لم يصلوا العشاء، والجماعة قد شرعوا في صلاة التراويح، فيعتزل أولئك المسبوقون في جهة من جهات المسجد فيصلون العشاء ثم يدخلون مع الإمام، ويعتقدون أن صلاتهم خلف الإمام في صلاة التراويح لا تجوز. وهذا اعتقاد خاطئ، والصواب جواز ذلك. سئلت اللجنة الدائمة للبحوث عن هذه المسألة، وإليك السؤال والجواب: سؤال: هل يجوز أن يُصلي الفريضة شخص خلف من يُصلي التراويح أم لا؟ الجواب: نعم، يجوز أن يُصلي الفريضة خلف من يصلي التراويح لورود الأدلة الدالة على جواز اقتداء المفترض للمتُنفل، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن جابر -رضي الله عنه-، أن معاذًا كان يصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العشاء ¬

_ (¬1) دروس فتاوى في الحرم المكي لابن عثيمين: (ص: 90). (¬2) من رسالة طهارة المريض وصلاته.

الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيُصلي بهم تلك الصلاة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (¬1). - بعض الناس إذا مات لهم ميت يقوم بعضهم ببعض الأعمال الصالحة التي تنفع الميت كالحج والعمرة والدعاء له. وهذا مشروع كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة. لكن الخطأ الذي يقع فيه بعضهم: أنهم يقومون بالصلاة على بعض الأموات في كل يوم أو في كل أسبوع بركعات معدودة. في جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية عن امرأة توفي ابن لها فأخذت تصلي له في كل جمعة ركعتين؟ قالت اللجنة: "وأما ما تقوم به أمه من صلاة ركعتين لابنها بعد كل صلاة جمعة فلا يجوز؛ لأن الله لم يشرع ذلك بل هو بدعة وإنما شرع لها الدعاء له والصدقة عنه" (¬2). - كثير من النساء يقرأن سرًا في الصلاة الجهرية، وتتحاشى أن تسمع نفسها، وهذا خلاف السنة، فإن الجهر في الصلوات الجهرية هو السنة الثابتة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- بعد كلام له: "وأما القراءة السرية والجهرية فهي كذلك لا فرق بين الرجل والمرأة، صلاة الليل جهرية وصلاة النهار سرية، إلا أن المرأة إذا كان عندها من يسمع صوتها من الرجال فإنها تسر به ولا ترفعه خشية الافتتان بها، أما إذا كانت ليست بحضرة رجال فلا بأس أن تجهر في صلاة الليل" (¬3). - بعضهم إذا أقيمت الصلاة ثم أشغلهم أمر عن الشروع في الصلاة وطال الوقت قليلًا أعاد للإقامة مرة ثانية. وهذا خطأ منهم، والصواب عدم الإقامة مرة ثانية والاكتفاء بالإقامة الأولى. ودليل ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه وبوب عليه: "الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة" ثم ساق حديث أنس قال: "أقيمت الصلاة والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يناجي رجلًا في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم". (فتح الباري 2/ 124). - بعض المصلين في أثناء صلاة الجنازة يصمت بعد التكبيرة الرابعة ثم يُسلم ويظن أن الصواب هو الصمت. والصواب: أن المصلي يدعو بعد التكبيرة الرابعة، لحديث عبد الله بن أبي أوفى أنه صلى على ابنه له فكبر عليها أربعًا ثم قام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو، ثم قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصنع في الجنازة هكذا (¬4). وفي لفظ: ثم قام بعد الرابعة قليلًا. - يعتقد بعض المصلين أن المساواة في الصفوف تكون بأطراف الأصابع، وهذا خلاف السنة فإن ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإسلامية: (15/ 79). (¬2) مجلة البحوث الإسلامية: (14/ 120). (¬3) فتاوى نور على الدرب للفوزان. الحلقة الأولى: (ص: 20). (¬4) أخرجه أحمد والبيهقي. انظر: أحكام الجنائز للشيخ الألباني (ص: 126)، ومسند عبد الله بن أبي أوفى (ص: 129) تحقيق الشيخ سعيد الحميد.

الوارد في السنة المصافة بالأكعب والمناكب. عن النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنه- قال: أقبل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الناس بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم -ثلاثًا- والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن بين قلوبكم". أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن حبان. قال النعمان: فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه. وسئل الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى-: عن الأصح في تسوية الصفوف، هل هو مساواة الأقدام برءوس الأصابع فقط، أم بمحاذاة الكعبين؟ فأجاب -حفظه الله تعالى- بقوله: "الصحيح أن المعتمد في تسوية الصف مُحاذاة الكعبين بعضهما بعضًا لا رءوس الأصابع وذلك لأن البدن مركب على الكعب، والأصابع تختلف الأقدام فيها، فقدم طويل وآخر صغير، فلا يُمكن ضبط التساوي إلا بالكعبين، وأما إلصاق الكعبين بعضهما ببعض فلا شك أنه وارد عن الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم كانوا يسوون الصفوف بإلصاق الكعبين بعضهما ببعض أن كل واحد منهم يُلصق كعبه بكعب جاره لتحقيق المساواة، ولهذا إذا تمت الصفوف وقام الناس ينبغي لكل واحد أن يُلصق كعبه بكعب صاحبه لتحقيق المساواة فقط، وليس معنى ذلك أنه يلازم هنا الإلصاق وييقى ملاصقًا له في جميع الصلاة" (¬1). - يجهر بعض الناس بقراءته في السنن القبلية أو البعدية "باستثناء قيام الليل" فمثلًا يجهر بقراءته في نافلة الظهر والمغرب وهذا الجهر بالقراءة يحتاج إلى دليل ثابت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. - يقول بعض المصلين في التحيات: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على ... إلخ. يزيد لفظ "سيدنا". وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيدنا، ولنا الشرف والفخر بذلك، بل سيد الناس جميعًا. قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أنا سيد الناس يوم القيامة ... " رواه البخاري، ومسلم. وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ... " رواه مسلم، وأبو داود. ولكنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرنا أن نُصلي كما كان يصلي، فقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري. وقد ذكر بعض العلماء المحققين أن لفظة السيادة في التحيات لم تثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على رغم ورود عدة ألفاظ وصيغ للتشهد. وللشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- جواب سؤال حول هذا المبحث، قال فيه: "لا يُنكر عاقل أن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيد ولد آدم، فإن كل عاقل مؤمن يؤمن بذلك، وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيد البشر، والسيد له الشرف والطاعة والإمرة، وطاعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من طاعة الله -سبحانه وتعالى-: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ونحن وغيرنا من المؤمنين لا نشك أن نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سيدنا وخيرنا وأفضلنا عند الله -سبحانه وتعالى- وأنه المطاع فيما يأمر به صلوات الله وسلامه عليه، ومن مُقتضى اعتقادنا أنه السيد المطاع عليه الصلاة والسلام أن لا نتجاوز ما شرع لنا من قول أو فعل أو عقيدة، ومما شرعه لنا في كيفية الصلاة عليه في التشهد أن نقول: ¬

_ (¬1) دروس فتاوى في الحرم المكي لابن عثيمين: (ص: 75).

"اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". أو نحوها من الصفات الواردة في كيفية الصلاة عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا أعلم أن صفة وردت بالصورة التي ذكرها السائل وهو: "اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد". وإذا لم ترد هذه الصيغة عن النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الأفضل أن لا نُصلي على النبي بها وإنما نصلي عليه بالصيغة التي علمنا إياها. (اهـ مُختصرًا. فتاوى نور على الدرب للشيخ الفوزان ص 13، 14). - ومن المخالفات العظيمة كون بعض الناس يحرص على الصيام وهو تارك للصلاة. قال الشيخ ابن عثيمين -حفظه الله تعالى- في أثناء كلام له: "وإنه ليحدث للإنسان العجب الذي لا ينقضي أن تجد بعض الناس يحرصون غاية الحرص على الصيام، ولكنهم لا يحرصون على الصلاة، حتى إنه قيل لي: إن بعض الناس يصوم ولا يُصلي. وإنني أشهد أن هذا الذي يصوم ولا يُصلي أن صومه باطل غير مقبول منه بما أعلمه من دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والنظر الصحيح من أن تارك الصلاة كافرًا كفرًا مُخرجًا عن الملة، وإذا كان كافرًا كفرًا مخرجًا عن الملة لم ينفعه صومه ولا صدقته ولا حجه ولا أي عمل صالح، يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. ويقول تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54]. والنفقات التي نفعها متعدي لا تقبل إذا صدرت من كافر مع أن نفعها متعدي فكيف بالعبادات القاصرة كالصوم؟ نعم فإنه لا يقبل من باب أولى" (¬1). - يسافر بعض الناس في الطائرة، ويدخل وقت الصلاة أو الصلاتين اللتين تجمع ويخرج وقت الصلاة خاصة إذا كانت الرحلة طويلة أو كانت وقت الصلاة قصيرًا كالفجر مثلًا. ويظن أنه والحالة هذه أن الحرج مرفوع عنه. وهذا خطأ، فعليه في مثل هذه الحالة أن يؤدي الصلاة حسب قدرته. ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة هذا نصه: سؤال: إذا كنت مسافرًا في طائرة وحان وقت الصلاة هل يجوز أن نُصلي في الطائرة أم لا؟ فأجابت اللجنة بما نصه: "الحمد لله، إذا حان وقت الصلاة والطائرة مستمرة في طيرانها ويخشى فوات وقت الصلاة قبل هبوطها في أحد المطارات فقد أجمع أهل العلم على وجوب أدائها بقدر الاستطاعة ركوعًا وسجودًا واستقبالًا للقبلة، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وإذا أمرتُكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". أما إذا علم أنها ستهبط قبل خروج وقت الصلاة بقدر يكفي لأدائها أو أن الصلاة مما يجمع مع غيره كصلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء أو علم أنها ستهبط قبل خروج وقت الثانية بقدر يكفي لأدائهما فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز أدائها في الطائرة لوجود بأدائها بدخول وقتها .. انتهى مُختصرًا. - عندما تفوت صلاة جهرية ثم لا يذكرها صاحبها إلا بعد طلوع الشمس فإنه يسر بالقراءة ولا ¬

_ (¬1) دروس وفتاوى في الحرم المكي (ص: 35).

يجهر، ويظن أن الجهر فات محله. بل إن بعضهم ينكر على من جهر. ْوالصواب في ذلك: أن يجهر في صلاته إذا كانت جهرية ولو قضاها نهارًا لنوم أو نسيان، وكذلك عليه أن يُسر في السرية ولو قضاها ليلًا. لعموم الحديث: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك". - يتهاون بعض الناس ويتعمد تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر، ويظن أن قضاءها بعد الوقت يخرجه عن دائرة الإثم، وهذا جهل عظيم ومنكر كبير. قال الشيخ محمد بن عثيمين -حفظه الله تعالى-: "ولو أن أحد أخر الصلاة عن وقتها بلا عذر شرعي فلا تصح صلاته". كما لو تعمد رجل أن لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وصلى الفجر فإن الصلاة لا تقبل منه، ولا يُشرع له قضاؤها لأنه لا فائدة له من القضاء، وعليه التوبة إلى الله -عز وجل-، فإن التوبة تجب ما قبلها. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- "بأن الإنسان إذا تعمد تأخير الصلاة عن وقتها لم تُقبل منه، وإن صلاها ألف مرة". اهـ مختصرًا (¬1). - ومما يُلاحظ على بعض الناس أيضًا: كونُهم يصلون في مكاتبهم مع قرب المسجد. وأسوق هنا فتوى اللجنة الدائمة حول هذا الموضوع، وخلاصة السؤال قبل ذلك: ما حُكم الصلاة داخل المكتب بحيث إذا وجب وقت الظهر أقام رجل ثقة قارئ عليه سيما الخير ثم اجتمعنا وصلينا خلفه بمكان مستقل ومفروش وتهيأنا للصلاة وصلى معنا من يحضر من المراجعين مع العلم أنه يوجد مساجد قريبة إلا أن الصلاة جماعة بها قد تفوتنا وكذلك كثير من المراجعين والموظفين لما تكون الصلاة بالمسجد قد يتخلفون بحجة أنهم يصلون في أمكنة أخرى، أما صلاتنا بالمكتب فيحصل بها اجتماعنا واجتماع المراجعين معنا. فأجابت اللجنة بما نصه: "إذا كان الواقع كما ذكر أنه يوجد مساجد قريبة من المكتب وجب عليكم أن تخرجوا إلى أحدها وتصلوا مع الناس لعموم أدلة وجوب صلاة الجمعة، وأدائها في المساجد ولما ورد في حق المتخلف عن الصلاة في المساجد من وعيد. وكون صلاتكم في المكتب تُحقق مصلحة للعمل وتُحافظ على وجود الموظفين بالمكتب وقت صلاة الظهر ليس عُذرًا لكم في ذلك". اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (¬2). - ومن المخالفات: ما يعتقده بعض الناس من أن وجوب الصلاة مع الجماعة خاص في الحضر دون السفر. قال الشيخ محمد بن إبراهم -رحمه الله تعالى-: "وجوبها لا يختص بالحضر، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حافظ عليها حضرًا وسفرًا، ولا أخل بها في السفر أبدًا ثم الأدلة بعمومها تتناول السفر كما تتناول الحضر ولا فرق، فإذا كانوا مسافرين اثنين فأكثر فيصلون جماعة ولا يجوز صلاة الواحد منهم منفردًا عن رفيقه في السفر أو جماعة". ¬

_ (¬1) دروس فتاوى في الحرم المكي لابن عثيمين: (ص: 37، 38). (¬2) فتوى رقم (3383) بتاريخ 11/ 1/1401 هـ.

ثم قال أيضًا: وهنا مسألة وهي أن المسافر يأتي المسجد وهو من أهل الركعتين بعض الأحيان تجب عليه الأربع وذلك إذا دخل المسجد ولا رفقة له فيتعين عليه فعلها مع الجماعة. فإن الواجب مقدم على السنة، فلا ينفرد ويصلي ركعتين، فإن الله فرض الجماعة حضرًا وسفرًا، وعلى القول الآخر إنها شرط فيكون آكد وأبلغ" (¬1). - ومن أعظم الأخطار وأهمها وقد تساهل فيها بعض من الناس، وهو كون أحد الزوجين لا يصلي أبدًا وقد أقيمت عليه الحجة وتعمد الإصرار على عدم الصلاة بالكلية دون عذر. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -حفظه الله تعالى- في جواب سؤال عن تارك الصلاة: الذي يترك الصلاة متعمدًا كافر كفرًا أكبر في أصح قولي العلماء إذا كان مقرًا بوجوبها، فإن كان جاحدًا لوجوبها فهو كافر عند جميع أهل العلم، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" أخرجه الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن بإسناد صحيح. ولأن الجاحد لوجوبها مكذب لله ورسوله ولإجماع أهل العلم والإيمان، فكان كفره أكبر وأعظم من كفر تاركها تهاونًا. وعلى كلا الحالين: فالواجب على ولاة الأمور من المسلمين أن يستتيبوا تارك الصلاة، فإن تاب وإلا قتل للأدلة الواردة في ذلك. والواجب: هجر تارك الصلاة، ومقاطعته وعدم إجابة دعوته حتى يتوب إلى الله من ذلك، مع وجوب مناصحته، ودعوته إلى الحق، وتحذيره من العقوبات المترتبة على ترك الصلاة في الدنيا والآخرة؛ لعله يتوب فيتوب الله عليه. (كتاب الدعوة ص 93). - عندما يقول المؤذن في أذانه: "الصلاة خير من النوم" يقول بعض من يتابعه: صدقت وبررت. والسنة أن يقول كما يقول المؤذن، لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ... " إلخ. إلا في قوله: "حي على الصلاة - حي على الفلاح " قيقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، كما ورد في نص الحديث الصحيح. وعلى هذا فيقول المتابع للمؤذن: الصلاة خير من النوم، كما يقول المؤذن. - ومما يتعلق بالإقامة أيضًا: أن بعض الناس إذا قام للصلاة قال: "قائمين لله طائعين" وهذا خلاف السنة. والسنة المتابعة للمقيم في إقامته كما يتابع الأذان ثم يقول بعدها كما يقول بعد الأذان؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سمى الإقامة أذانًا بقوله: "بين كل أذانين صلاة". - ومن المخالفات المتعلقة بالأذان أيضًا: أن بعضهم عندما يسمع أول الأذان يقول: "حي الله ذكر الله". والسنة في ذلك أن يتابع المؤذن في أذانه ويقول عند الحيعلتين "لا حول ولا قوة إلا بالله". ثم يقول بعد فراغ المؤذن: "اللهم رب هذه الدعوة التامة ... إلخ". - ومن المخالفات في الأذان: أن بعض المؤذنين يقول بعد الحيعلتين: حي على خير العمل، حي ¬

_ (¬1) فتاوى محمد بن إبراهيم: (2/ 265، 266).

على خير العمل. وهذه الزيادة من البدع المُحدثة التي لا تثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تعليمه للمؤذنين. قال البيهقي -رحمه الله تعالى-: "وهذه اللفظة -حي على خير العمل- لم تثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما علم بلالًا وأبا محذورة، ونحن نكره الزيادة فيه، وبالله التوفيق". سنن البيهقي الكبرى (1/ 425). - يُسمع من بعض الناس إذا أقيمت الصلاة قوله: "اللهم أحسن وقوفنا بين يديك". بل إن بعضهم إذا لم يقلها في أثناء الإقامة قالها قبل التكبير. وهذا خلاف السنة. بل السنة أن يتابع المقيم في إقامته، فإذا فرغ قال: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته". - السنة لمن سمع النداء: أن يتابع المؤذن في آذانه ويقول: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته". لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة ... إلخ، حلت له شفاعتي يوم القيامة". أخرجه البخاري. هذه هي السنة في الدعاء، لكن يزيد بعض الناس على هذا الحديث زيادات لا تصح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فمن تلك الزيادات: أولًا: يقول بعضهم: "اللهم أني أسالك بحق هذه الدعوة" (¬1). والسنة "اللهم رب هذه الدعوة التامة". ثانيًا: يقول بعضهم: "آت سيدنا محمدًا" (¬2). والسنة: "آت محمدًا ... ". ثالثًا: يقول بعضهم: "آت محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة" (¬3). والسنة: دون ذكر الدرجة العالية الرفيعة. رابعًا: يزيد بعضهم في آخر الدعاء: إنك لا تخلف الميعاد (¬4). والسنة: تركها؛ لأنها لم تثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. خامسًا: يزيد بعضهم في آخر الدعاء: "يا أرحم الراحمين" وهذه الزيادة ليست في شيء من طرق الحديث (¬5) فالسنة تركها. - بعض المؤذنين حينما ينتهي من أذان الفجر، وبعد ما يدعو الدعاء المأثور يقول في الميكرفون: "صلوا هداكم الله" فما حكم ذلك؟ وقد أجابت اللجنة الدائمة على هذا السؤال فيما نصه: ¬

_ (¬1) أخرجها البيهقي، وهي شاذة، انظر/إرواء الغليل: (1/ 261). (¬2) شاذة ومدرجة. انظر/إرواء الغليل (1/ 261). (¬3) جاء في السنن والمبتدعات أن هذه الزيادة بدعة (ص: 50) انظر/إرواء الغليل: (1/ 261). (¬4) انظر/إرواء الغليل: (1/ 260). (¬5) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وزاد الرافعي في المحرر في آخره: يا أرحم الراحمين، وليست أيضًا في شيء من طرقه. التخليص الحبير: (1/ 210).

ينبغي الاقتصار في الأذان على ما ثبت شرعًا في صفة الأذان، وأن الزيادة على ذلك من قبيل الابتداع. اهـ مختصرًا. والله أعلم (¬1). - كثير من الناس إذا قال المؤذن في آخر الإقامة: "لا إله إلا الله" قالوا: حقًا لا إله إلا الله. والسنة: أن يُقال مثل ما يقول المؤذن في أذانه وإقامته ثم يقول بعد ذلك: "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته" (¬2). جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه: "السنة أن المستمع للإقامة يقول كما يقول المقيم لأنها أذان ثان فتجاب كما يُجاب الأذان، ويقول المستمع عند قول المقيم "حي على الصلاة حي على الفلاح": لا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول عند قوله: قد قامت الصلاة مثل قوله. ولا يقول: أقامها الله وأدامها؛ لأن الحديث في ذلك ضعيف، وقد صح عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول". وهذا نحو الأذان والإقامة لأن كلًا منهما يسمى أذانًا، ثم يصلي على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد قول المقيم: لا اله إلا الله. ويقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة ... إلخ. كما يقول بعد الأذان. ولا نعلم دليلًا يصح يدل على ذكر شيء من الأدعية بين انتهاء الإقامة وقبل تكبيرة الإحرام سوى ما ذكر. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. - رفع الصوت بالدعاء في أثناء القنوت وغيره. ومثال ذلك: أن يدعو الإنسان في قنوته ثم يرفع صوته في بعض الجمل الدعائية، والسنة عدم الرفع. قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: " ... قال ابن جريج: يُكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ويأمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] في الدعاء ولا في غيره تفسير ابن كثير. (2/ 239) اهـ. وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكنا إذا أشرقنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمًا ولا غائبًا، إنه معكم، إنه سميع قريب". أخرجه البخاري. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: قال الطبري فيه: كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين. فتح الباري (6/ 135). - ومن المخالفات أيضًا: ما يحدث من بعض الأئمة في أثناء دعاء القنوت من تخصيص نفسه لنفسه أو التكلم بضمير المتكلم مثل: "حسبي به كفيلًا" أو"حسبي به وكيلًا" أو يخص نفسه بالدعاء دون الآخرين. قال الإمام البغوي -رحمه الله تعالى-: " ... وإن كان إمامًا فيذكر بلفظ الجمع: اللهم اهدنا وعافنا وتولنا، وبارك لنا، وقنا، ولا يخص نفسه بالدعاء". اهـ (شرح السنة 3/ 129). وقال الشيخ ابن باز -حفظه الله تعالى- في جواب له: "يدعو بصيغة الجمع، فيقول: اللهم اهدنا ¬

_ (¬1) انظر/السؤال والجواب في مجلة البحوث: (17/ 57، 58). (¬2) مجلة البحوث الإسلامية: (6/ 248، 249).

فيمن هديت ... إلخ. لأنه يدعو لنفسه وللمأمومين. (ص 41 من رسالة صلاة التراويح). - ومن المخالفات أيضًا: ما يحصل من بعض الأئمة من إطالتهم الدعاء في القنوت إطالة واضحة، وهنا تكون المشقة فيحصل الضرر والحرج. وقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مراعاة حال المصلين، فقال: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء". رواه البخاري ومسلم. وورد في الحديث: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه عليه". رواه البخاري ومسلم. وضابط التخفيف: هو مراعاة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنه أكمل الناس صلاة. قال النووي -رحمه الله تعالى-: "يكره إطاله القنوت ... " (المجموع 3/ 441). - ما يفعله بعض الناس بعد فراغهم من الدعاء من مسح الوجه في القنوت وغيره، فهذا المسح يحتاج إلى دليل صحيح صريح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب في: "وأما رفع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديه في الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسح وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة، والله أعلم". - بعض الناس إذا ركع صوب نظره إلى موضع قدميه وبعضهم إذا جلس في صلاته صوب نظره إلى حجره. وهذا خلاف السنة، وقد ثبت عن النبي أنه ينظر في صلاته إلى موضع سجوده، إلا إن كان في التشهد فله الخيار إن شاء نظر إلى موضع سجوده وإن شاء نظر إلى سبابته. - إن بعض المصلين إذا سلم في صلاته وشرع في الأذكار التي تقال عقب الصلاة يزيد كلمة "وتعاليت" فيقول تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام، والثابت عن المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (¬1). - ومن الأمور التي يعتقدها بعض الناس سنة: ما يحصل من بعضهم عندما يشرع في الأذكار التي تقال دبر الصلاة، فإنه إذا قرأ آية الكرسى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم ... } قرأ الآيتين التي بعدها، ويظن أنهما تابعتان لآية الكرسى، وبعضهم يعرف أن الكرسي آية مستقلة، لكن اعتاد على زيادة الآيتين التي بعدها. والسنة في ذلك: الاقتصار على آية الكرسي وحدها لحديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يحل بينه وبين دخول الجنة إلا الموت" (¬2). - ومن الزيادات التي يقع فيها بعض الناس: قولهم دبر الصلاة: أستغفر الله، أستغفر الله -خمس مرات- وقد تزيد، ثم يقول بعد ذلك مرة سادسة: أستغفر الله العظيم الجليل التواب الرحيم، ويستمر ¬

_ (¬1) قال العجلوني في (كشف الخفا) عند كلامه عن الحديث: قال الإمام النجم: والناس يزيدون فيه، "وتعاليت" اهـ. كشف الخفا: (1/ 186). (¬2) رواه الطبراني وابن حبان وغيرهما، وانظر الفائدة: السلسلة الصحيحة حديث رقم (972).

أولئك على هذه الألفاظ طيلة أعمارهم. وهنا يُقال: إن ذكر الله محمود دائمًا، وصاحبه مأجور، وقد جعل الله الذكر سببًا لطمأنينة القلوب: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. وقد حث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمته على كثرة الذكر فقال لأحدهم: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله" (¬1). لكن مع هذا كله، فأفضل الذكر ما كان موافقًا لهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكانًا وزمانًا، لأنه قدوتنا وأسوتنا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. وبناء على ما سبق فيقال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، ثم قال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" وفي لفظ: "ذا الجلال والإكرام". أما الاستغفار فقد وصفه راويه الإمام الأوزاعي بقوله: أستغفر الله، أستغفر الله. (مسلم 1/ص 414). - بعض الناس إذا انصرف من صلاته وقال الدعاء المأثور عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللهم أنت السلام منك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" يزيد في آخره: "وإليك يعود السلام أو وإليك السلام". وقد أجابت اللجنة الدائمة عن ذلك، وجاء في جوابها: أن الأصل في الأذكار وسائر العبادات الوقوف عند ما ورد من عبارتها وكيفياتها فلا ينقص منها ولا يزاد عليها ولا يغير في كيفياتها، والذي ثبت في كتب السنة من الذكر بهذه الصيغة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" (¬2). وفي راوية: "تباركت ذا الجلال والإكرام". سنن البيهقي الكبرى. - بعض الناس يرفع صوته بالصلاة على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إذا فرغ من الصلاة فريضة كانت أو نافلة، وبعضهم يخص ذلك بصلاة الفجر. وفي جواب للجنة الإفتاء: الأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بما لم يشرعه الله لقوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ مسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". والصلاة والسلام على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أفضل العبادات ولكنها بالهيئة وبالطريقة التي ذكرت في السؤال لم يعملها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا خلفاؤه الراشدون ولا بقية أصحابه -رضي الله عنهم- بعد صلاتهم لا الفجر ولا غيرها، والخير كله في اتباعهم. وبذلك يعلم أن هذا العمل بدعة، فلا يجوز فعله ولا المشاركة فيه (¬3). اهـ مختصرًا. - ومما يتعلق بالمرضى: أن بعضهم إذا عجز عن الوضوء والتيمم ترك الصلاة، ويقول: أصلي بعد ما يعافيني الله؛ لأنه يظن أن الصلاة والحالة هذه لا تجوز في حقه. ¬

_ (¬1) أحمد: (4/ 188 - 190)، والترمذي في الدعوات عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه. (¬2) صحيح مسلم: (1/ 414)، ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. (¬3) مجلة البحوث الإسلامية 17: (ص: 70).

قال الشيخ ابن عثيمين: كثير من المرضى لا يستطيعون الوضوء، وليس عندهم تراب، ولا يستطعون التيمم، وربما على ثيابهم نجاسة، فتجد الواحد منهم يقول: أصبر حتى يعافيني الله عز وجل، وأتوضأ وأغسل ثيابي وما أشبه ذلك. نقول لهذا: إن تأخير الصلاة حرام عليك، وما يدريك فلعلك تموت من هذا المرض قبل أن تصلي؟ فالواجب أن تُصلي على حسب حالك ولو كان عليك نجاسة لا تستطيع إزالتها، ولو لم يكن عندك ماء تتوضأ به ولا يمكن أن تتيمم (¬1). - ومن الأمور التي يقع فيها بعض الناس: أمر الوسوسة -عافانا الله وإياكم- ونظرًا لخطورة هذا الأمر على صلاة المسلم وعظم أثره على نفسية المسلم أحببتُ أن أنقل كلامًا لأهل العلم حول هذا المبحث. وقد ساق ذلك كله الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى- في جواب سؤال عن هذا الأمر. قال -رحمه الله تعالى-: وأما السؤال عن الوسوسة في الصلاة هل كانت موجودة في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم لا؟ وهل تبطل الصلاة؟ وهل يعتبر ما يوحيه الشيطان إلى المبتلى بها من أن الذهاب إلى المساجد رياء؟ هل يعتبر مبررًا للتخلف عن الجماعة؟ وكيف التوصل إلى الخلاص من الوسوسة في الصلاة؟ فالجواب عنه: من ناحية وجود الوسوسة في الصلاة وعدم وجودها في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها بالوصف الذي ذكرته في خطابك لم توجد في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا في عهد أصحابه -رضي الله عنهم-، كما صرح به الإمامان موفق الدين بن قدامة في كتابه "ذم الموسوسين" وشيخ الإسلام ابن تيمية في ما روى عنه تلميذه ابن القيم. وأما السؤال عن الوسوسة هل تبطل الصلاة؟ فالجواب عنه: أن منها ما يُفسد الصلاة، قال ابن قدامة في "ذم الموسوسين": من أصناف الوسواس ما يُفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمات، كقوله في التحيات: أت أت التحي التحي، وفي السلام: أس أس السلام. وفي التكبير: أكككبر. وفي إياك: إياككك. فهذا تكرير الكلمات غير معاني القراءة. وأخرج اللفظ عن وضعه من غير ضرورة، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إمامًا فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادًا له عن الله من الكبائر، وما كان من ذلك لا يبطل الصلاة فهو مكروه، وإخراج القراءة عن كونها على الوجه المشروع عدول عن السنة، ورغبة عن طريق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصحابته. وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، وجمع على نفسه طاعة إبليس، ومُخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور ومُحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، وآذى نفسه، وآذى المصلين، وهتك عرضه. انتهى المراد منه. وأما السؤال عن اعتبار ما يوحيه الشيطان إلى بعض المبتلين بالوسوسة من أن الصلاة في الجماعة رياء؟ فالجواب عنه: أن ذلك لا يجوز اعتباره، ولا يُبيح التخلف عن الجماعة، بل إنما هو من دعوة ¬

_ (¬1) دروس وفتاوى في الحرم المكي لابن عثيمين: (ص: 41).

مخالفات تتعلق بالمساجد

الشيطان إلى الإعراض عن هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وأما كيفية الخلاص من الوسوسة في الصلاة: فقد جاء عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها ما رواه مسلم في "كتاب الطب" من صحيحه عن عُثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه-: أنه أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ذاك شيطان يُقال له: خِنزَب، فإذا أحسست به فتعوذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثًا". قال: ففعلت ذلك، قال: فأذهبه الله عني. اهـ. مختصرًا. (فتاوي الشيخ محمد بن إبراهيم 2/ 191 - 195). مخالفات تتعلق بالمساجد - اعتاد بعض الناس أن يشغل الوقت الذي بين الأذان والإقامة بالكلام مع الذي يجلس بجانبه فيضيع هذا الوقت الفاضل بالقيل والقال وكثرة السؤال في أمور الدنيا فيزعجون من يصلي ومن يقرأ ومن يسبح وهؤلاء آثمون بكلامهم لأنهم تسببوا في إشغال غيرهم وإذا كان الذي يجهر بقراءته للقرآن يأثم إذا تسبب في أذية غيره كإشغال المصلي عن صلاته، والقارئ عن قراءته، فكيف بمن أشغلهم بغير القرآن، لا شك أن الإثم في حقه أكبر. وقد ورد في الحديث: "سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقًا حلقًا، إمامهم الدنيا، ففلا تُجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة" (¬1). قال ابن النحاس في أثناء ذكره لمخالفات المساجد. ومها: جلوس الناس في المسجد لحديث الدنيا، وهو بدعة، إذ المساجد إنما بُنيت لذكر الله تعالى وللصلاة ولنشر العلم ونحو ذلك، وعلى هذين يتجمع السلف الصالح في المسجد لا في التحدث بما يتعلق بأحوال الدنيا (¬2). - ومما يتعلق بالمساجد أيضًا: ما يحدث من بعض الناس وهو أنهم يأخذون بعض ما في المسجد من المراوح المتنقلة، وكذا المكانس، وأحيانًا مكبرات الصوت لاستخدامها في أماكن أخرى كالمناسبات العامة. قال الإمام ابن النحاس رحمه الله تعالى: "ومنها: عارية حصر المسجد وقناديله في الولائم والأفراح، وذلك لا يجوز" (¬3). - ومما يتعلق بالمساجد أيضًا: ما يلاحظ في بعضها من زراعة الأشجار. قال الزركشي: "يكره غرس الشجر والنخل وحفر الآبار في المسجد لما فيه من التضييق على المصلين، ولأنه ليس من فعل السلف". اهـ مختصرًا (إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 342). - في بعض البلاد تجري عادة في بعض المساجد في أيام الفطر وفي غيرها من أيام المناسبات الدينية وهي تزيين المساجد بأنواع مُختلفة من الكهرباء والزهور. ¬

_ (¬1) السلسلة الصحيحة، حديث: (1163). (¬2) تنبيه الغافلين لابن النحاس (ص: 267). (¬3) تنبيه الغافلين (ص: 267).

مخالفات تتعلق بالجمعة

ورد سؤال عن هذا إلى اللجنة الدائمة، فأجابت بما يلي: المساجد بيوت الله وهي خير بقاع الأرض أذن الله تعالى أن ترفع وتعظم بتوحيد الله وذكره وإقامة الصلاة فيها. ولم يثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه عظم المساجد بإنارتها، ووضع الزهور عليها في الأعياد والمناسبات، ولم يعرف ذلك أيضًا من الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهديين من القرون الأولى التي شهد لها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنها خير القرون، ومع تقدم الناس وكثرة أموالهم وأخذهم من الحضارة بنصيب وافر وتوفر أنواع الزينة وألوانها في القرون الثلاثة الأولى، والخير كل الخير في اتباع هديه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهدي الخلفاء الراشدين ومن سلك سبيلهم من أئمة الذين بعدهم. ثم أن في إيقاد السرج عليها أو تعليق لمبات الكهرباء فوقها أو حولها أو فوق مناراتها وتعليق الرايات والأعلام ووضع الزهور عليه في الأعياد والمناسبات تزيينًا وإعظامًا لها تشبهًا بالكفار فيما يصنعون ببيعهم وكنائسهم، وقد نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن التشبه بهم في أعيادهم وعباداتهم. (اهـ مختصرًا) (¬1). مخالفات تتعلق بالجمعة - اعتاد بعض الناس أن يقول أذكار عقب صلاة الجمعة تُخالف الأذكار التي تُقال أدبار الصلوات المفروضة. ويقال لهذا: إن الأذكار التي كان يقولها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أدبار الصلوات المكتوبة لم يرد فيها تخصيص لصلاة دون أخرى، ومن فرق فعليه الدليل. قال الشيخ صالح بن فوزان -حفظه الله تعالى- في جواب سؤال له: "صلاة الجمعة ليس لها أذكار مخصوصة تُقال بعدها وإنما يُقال بعدها ما يُقال بعد سائر الصلوات من أذكار" (¬2). - ومما يتعلق بالجمعة: ما يُلاحظ على بعض المصلين في أثناء الخطبة من كونهم يسلمون على من كان على يمينهم أو شمالهم وربما يزيد في السلام والسؤال عن الأهل والأولاد. ويلاحظ هذه خاصة في الذين يصلون خارج المسجد -بسبب ضيق المكان-. وهم بفعلهم هذا قد وقعوا في خلاف السُّنة الآمرة بالإنصات يوم الجمعة إذا كان الخطيب يَخطب. قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قُلْتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصت -والإمام يخطب- فقد لغوت". (رواه البخاري 2/ 414 من الفتح). ولهذا فعليهم أن يتركوا الكلام مع بعضهم إلى فراغ الخطيب من خطبته. فتاوى الصلاة وحكم تاركها حكم ترك الصلاة عمدًا السؤال: أخي الأكبر لا يؤدي الصلاة هل أصله أو لا علمًا بأنه أخي من أبي فقط؟. الجواب: الذي يترك الصلاة متعمدًا كافر كفرًا أكبر في أصح قولي العلماء إذا كان مقرًا بوجوبها، فإن كان جاحدًا لوجوبها فهو كافر عند جميع أهل العلم لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة ¬

_ (¬1) مجلة البحوث الإسلامية 25: (ص: 68، 69). (¬2) مجلة الدعوة عدد (1274)، تاريخ 24/ 6/1411 هـ.

حكم تارك الصلاة

وذروة سنامه الجهاد" (¬1) ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (¬2) ولقوله عليه الصلاة والسلام: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، (¬3) ولأن الجاحد لوجوبها مكذب لله ولرسوله ولإجماع أهل العلم والإيمان، فكان كفره أكبر وأعظم من كفر تاركها تهاونًا. وعلى كلا الحالين فالواجب على ولاة الأمور من المسلمين أن يستتيبوا تارك الصلاة، فإن تاب وإلا قتل: للأدلة الواردة في ذلك. والواجب هجر تارك الصلاة، ومقاطعته، وعدم إجابة دعوته حتى يتوب إلى الله من ذلك، مع وجوب مناصحته، ودعوته إلى الحق، وتحذيره من العقوبات المترتبة على ترك الصلاة في الدنيا والآخرة؛ لعله يتوب، فيتوب الله عليه. كتاب الدعوة، ص 93، ابن باز حكم تارك الصلاة السؤال: ماذا يفعل الرجل إذا أمر أهله بالصلاة ولكنهم لم يستمعوا إليه، أيسكن معهم ويخالطهم أم يخرج من البيت؟. الجواب: إذا كان الأهل لا يصلون أبدًا فإنهم كفار، مرتدون، خارجون عن الإسلام، ولا يجوز أن يسكن معهم، ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح ويكرر لعل الله يهديهم؛ لأن تارك الصلاة كافر -والعياذ بالله- بدليل الكتاب والسنة، وقول الصحابة، والنظر الصحيح. - أما من القرآن: فقوله تعالى عن المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] مفهوم الآية أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فليسوا إخوانًا لنا ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي عند الخروج عن الإسلام. -أما من السنة: فقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (¬4). وقوله في حديث بريدة رضي الله عنه في السنن: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". (¬5) -ثابت في صحيح مسلم-. - أما أقوال الصحابة: قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) (¬6). والحظ: النصيب، وهو هنا نكرة في سياق النفي فيكون عامًا لا نصيب لا قليل ولا كثير - وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. * أما من جهة النظر الصحيح فيقال: هل يعقل أن رجلًا في قلبه حبة خردل من إيمان يعرف عظمة الصلاة وعناية الله بها ثم يحافظ على تركها؟ هذا شيء لا يمكن، وقد تأملت الأدلة التي استدل بها من يقول أنه لا يكفر، فوجدتها لا تخرج عن أحوال خمسة: 1 - إما أنها دليل فيها أصلًا. 2 - أو أنها قيدت بحال أو وصف يمتنع معه ترك الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 231) والترمذي (2616)، وابن ماجه في الفتن (2973). بإسناد صحيح. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في الإيمان (82). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي (2621)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1079). (¬4) أخرجه مسلم في الإيمان (82). (¬5) أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي (2641)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجة (1079). (¬6) أخرجه مالك (84).

3 - أو أنها قيدت بحال يعذر فيها من ترك الصلاة. 4 - أو أنها عامة فتخصص بأحاديث كفر تارك الصلاة. 5 - أو أنها ضعيفة لا تقوم بها حجة. وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر؛ فإنه يترتب عليه أحكام المرتدين -وليس في النصوص أن تارك الصلاة مؤمن، أو أنه يدخل الجنة، أو ينجو من النار ونحو ذلك مما يحوجنا إلى تأويل الكفر الذي حكم به على تارك الصلاة بأنه كفر نعمة أو كفر دون كفر- ومنها: أولًا: أنه لا يصح أن يزوج، فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة به، لقوله تعالى عن المهاجرات: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]. ثانيًا: أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ، ولا تحل له الزوجة .. للآية التي ذكرناها سابقًا، على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم بين أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده. ثالثًا: أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لماذا؟ لأنها حرام، ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها، فيكون -والعياذ بالله- ذبحه أخبث من ذبح اليهود والنصارى. رابعًا: أنه لا يحل أن يدخل مكة أو حدود حرمها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]. خامسًا: أنه لو مات من أقاربه فلا حق له في الميراث، فلو مات رجل عن ابن له لا يصلي الرجل مسلم يصلي والابن لا يصلي وعن ابن عم له بعيد (عاصب)، من الذي يرثه؟ ابن عمه البعيد دون ابنه لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أسامة: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (¬1) - متفق عليه. ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" (¬2) وهذا مثال ينطبق على جميع الورثة. سادسًا: أنه إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلي عليه ولا يدفن مع المسلمين، إذًا ماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه لأنه لا حرم له. وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه. سابعًا: أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف، أئمة الكفر -والعياذ بالله- ولا يدخل الجنة، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، لأنه كافر لا يستحقها لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. فالمسألة يا إخواني خطيرة جدًا .. ومع الأسف فإن بعض الناس يتهاونون في الأمر، ويقرون في البيت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الفرائض (6464)، ومسلم في الفرائض (1614). (¬2) أخرجه البخاري في الفرائض (6732)، ومسلم في الفرائض (1615).

هل وجوب الصلاة مع جماعة في المسجد مرتبط بسماع الأذان

من لا يصلي، وهذه لا يجوز. -والله أعلم- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. رسالة صفة صلاة النبي، ص 29 - 30، ابن عثيمين هل وجوب الصلاة مع جماعة في المسجد مرتبط بسماع الأذان السؤال: هل وجوب الصلاة مع جماعة في المسجد مرتبط بسماع الأذان؟ الجواب: من كان قريبًا من المسجد بحيث يسمع النداء بالمؤذن العادي دون وجود مكبرات الصوت وهذا ما يقرب من كيلوين إلى كيلوين ونصف تقريبًا في الزمان الذي ليس فيه رياح متحركة والزمان الساكن، فصوت المؤذن يبلغ ما يقرب من كيلوين ونصف بهذا القدر، من كان على هذه المسافة يلزمه أن يجيب النداء. وأما بالنسبة لما في زماننا فلو سمع بالجهاز المصوت وهو على عشرة كيلو مترات أو ثمانية كيلو مترات في بعض الأحيان تسمع الأذان على ثمانية كيلو وأذكر أننا كنا في المزرعة في خط المطار في المدينة كنا نسمع أذان الحرم ونحن على قرابة من أحد عشر كيلو مترات وهذا في أذان الفجر، كنا نسمعه فمثل هذه المسافة لا يجب فيها إجابة النداء؛ وإنما تجب إجابة النداء فيما يبلغ بالصوت المعتاد وهذا هو الذي قرره العلماء في الزمان الذي لا ضجة فيه ولا لجة مثل شدة النهار كما يقع في الظهر وكما يقع في أوقات النهار التي يكون الناس فيها في أعمالهم ويشغل عن سماع الصوت، إنما يكون في الزمان الهادئ ما بين كيلوين إلى كيلوين ونصف من الأمتار كما يذكر بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- هذا القدر إلى ثلاثة كيلو مترات يحتاط الإنسان ويجيب المسجد، وأما ما زاد على ذلك فلا يجب وقد كان أهل قباء على هذه المسافة وكانت هناك مساجد في المدينة وكانوا يؤذنون ومع ذلك لا يلزموا بالمسجد الأصلي وهو مسجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. أما لو كان في بناء محكم مصمت يؤذن المؤذن ولا يسمعه فإنه لا يعتد بقضية سماع الصوت ويجب عليه أن يجيب؛ لأنه لو قلنا إن العبرة بسماع الصوت لربما نام واستيقظ فيما بين الأذان والإقامة لم يسمع الأذان، فالعبرة بالمسافة وقد قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في الحديث الصحيح أن أعمى جاء إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: يا رسول الله إنه تكون الظلمة والسيل والمطر وليس لي قائد يلاومني، فرخص له أن يدع الصلاة وأن يصلي في بيته، ثم دعاه وقال: "أتسمع النداء"؟ قال: نعم، قال: "أجب فإني لا أجد لك رخصة" (¬1) هذا نص صريح صحيح يدل على أنه تجب إجابة النداء ما لم يكن الإنسان معذورًا بمرض أو يكون معذورًا بالسلس أو بشيء يحتاج فيه إلى انتظار في الوقت أو يكون مسافرًا .. فإن المسافر ثبت في الصحيح عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما صلى بالناس الفجر رأى رجلين لم يصليا في مسجد الخيف فقال: "عَليَّ بهما"، فأُتي بهما ترعد فرائصهما -رضي الله عنهما- من الخوف فقال: "ما منعكما أن تصليا في القوم" قالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة" (¬2) فلم ينكر عليهما أنهما صليا في رحالهما مع كونهما في الركب ومع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة الوداع وفي منى ومع ذلك لم يلزمهم بالجماعة الأصلية، وهذا أصل عند طائفة من العلماء أنه مستثنى من الواجب من سماع النداء وإجابته، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي السؤال: يشتكي بعض الآباء من صعوبة إيقاظ أبنائهم في صلاة الفجر -خاصةً أيام ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 433)، والطبراني في الصغير (2/ 34). (¬2) أخرجه الترمذي (219).

الإجازات- فهل يلحق الأب إثم إن هو حاول واجتهد مع أبنائه، ولكن دون جدوى؟ الجواب: يجتهد الوالد ولا يعذر في هذا. المسألةُ كلها مسألة إهمال، وتقصير، وتكاسل، ابنك تحت سلطانك وتحت قوتك وقهرك، تعوِّده من الصغر على أن تقيمه للصلاة، ولذلك الأب الذي تجده أن يقيم أبناءه للصلوات، ينشأ أبناؤه من الصغر منذ نعومة أظفارهم على السمع والطاعة، لا تجامل ولا تخف واعلم علم اليقين أن هذا هو نجاتك ونجاة أهلك وأولادك. وكان بعض العلماء يقول لو أن كل والد أعياه ولده وهو يقيمه إلى الصلاة، أو يأمره بحد من حدود الله، تصور أن حية بجوار ابنه أو نارًا تريد أن تأكله، يتصور هذا ويتخيله ويعرف كيف يوقظ ابنه للصلاة ويجعل عنده شعور كأن ابنه يريد أن يحترق، وينظر هل يوقظه أو لا. فتجده يبذل كل ما يستطع لإيقاظه؛ لكن إذا جاء عند الأوامر الشرعية يبحث عن كل عذر، وعن كل فتوى ترخص له في ترك أمر الله، لا والله لا تعذر {قوا أنفسكم وأهليكم نارًا ... } [التحريم: 6] تقي ابنك من نار الله، أمرك الله أن تأمره وتقول له: قم للصلاة وتقيمه، ولو كان نائمًا ترفعه حتى يقوم للصلاة، المرة الأولى يرى منك القوة والغلظ المرة الثانية يكون أضعف. هكذا يكون صراع الحق والباطل؛ لكن اليوم الأول تأتي وتقول: -يابني- قم للصلاة، بقوة فلا يستجيب لك، فيقوى سلطان الشيطان ويقوى سلطان شيطانه عليه، فإذا جئت في اليوم الثاني تقول: -يا بني- قم إلى الصلاة، إذا بها أضعف من التي قبلها ثم تأتي في اليوم الثالث تمسح برأسه تقول: -أصلحك الله- قم للصلاة، فلا يزال يتخاذل ويتخاذل، حتى يركبه الشيطان -والعياذ بالله-، فيهلك ويهلك أولاده يهلك هو بتضييع أمر الله -عز وجل- ويهلك أولاده بالتكاسل والتخاذل. مرهم بما أمر الله، وخذ بحجزهم عن نار الله -جل وعلا-، وتصور أن ابنك بين الجنة والنار لا نجاة له إلا أن تقيم عليه ما أمرك الله بإقامته، إذا كان عندك هذا الشعور بالمسئولية تعرف كيف تقيم ابنك، ولو كان وراء ابنك اختبار أو وراءه شيء من أمور الدنيا لعرفت كيف تقيمه، وعندها لا تبالي بكل شيء يحصل؛ ولكن ما أهون الدين على الناس! ما أهون الخالق على المخلوق!: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] سبحان من يطعمهم ويرزقهم ويكسوهم! وتجد الواحد منهم يقيم ولده للاختبار من الساعات الباكرة، ولا تجد أحدًا يشتكي من إقامة الولد للاختبارات عمركم سألتم وجدتم شخصًا يسأل أنه يجد صعوبة في إقامة أولاده للاختبار، هل وجدتم أحدًا يجد صعوبة في إقامة أولاده وقرابته للدوام وغيره من حظوظ الدنيا؟! أبدًا والله، ولو كان ابنه معه في تجارته أو سوقه لوجدت البيت كله يستنفر فعجبًا والله أن تجد الأم -نسأل الله السلامة والعافية- إذا أمره أن يقوم للصلاة قالت له: إنه متعبٌ لا تعقد الولد، والله إن التعقيد والضياع للذريات والضياع للدين والدنيا والآخرة هو التفريط بحدود الله -جل وعلا-. كان الناس يظنون أن الأمر بالصلوات والطاعات منذ عشرين سنة حينما دخلت عليهم المدنية الزائفة، كانوا يظنون أن هذا تعقيد، ولما تكاسلوا وتخاذلوا في تربية الأبناء وأصبح الابن يسفه أباه، ويتكلم على أمه في وجهها -نسأل الله السلامة والعافية- لا يرعى لله حرمة ولا يرعى إلًا ولا قرابة عندها عضوا أصابع الندم وتمنوا أن ذلك التعقيد أخذوا منه لصلاح أولادهم وذرياتهم. التعقيد أن يترك الحبل على الغارب، وأن يؤذن بفريضة الله ويدخل الأب ويخرج ولا يبالي، صلى أبناوه أم لم يصلوا. فاتَّقِ الله -عز وجل- وأمر بما أمر الله، وخذ بحجزهم عن نار الله، والله يعينك، والله يسددك، والله لا يخيبك، وكم من أب سعى في فكاك أهله وذريته من النار وفقه ربه، ولا يزال لك من الله

صلاة الحارس

معين ومن الله ظهير، ومن هذه الساعة توطن نفسك على أنك تأمره، ولو أن ابنك امتنع من القيام وكان كبيرًا تخاصمه، وتقف في وجهه، وتنكر عليه، حتى يشعر أنه لا مكان له في هذا البيت إلا إذا أقام حد الله وحرمات الله -سبحانه وتعالى-، فإذا استقامت بيوت المسلمين على هذا استقام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إنّا أمة أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز ما سواه أذلنا الله" (¬1)، ولذلك تجد من أذل الآباء والأمهات في البيوت الذي لا يأمر بطاعة الله، ولا ينهى عن محارم الله، وتجد أعز الآباء وأعز الأمهات في البيوت الذي إذا دخل الأب كأنه دخل مهيمنًا على هذا البيت؛ لكنه مهيمن بأمر الله وتمكين الله -جل وعلا-؛ لأن الله وعد أن يمكن في الأرض كل من أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولا تزال تقيم حد الله في بيتك حتى يوفقك الله فتنتقل إلى مرتبة أعلى، فتصبح آمرًا بالمعروف في قرابتك، ثم يرفع الله ذكرك حتى تصبح آمرًا بالمعروف في حيّك، وهكذا وهكذا حتى يجعلك الله هاديًا مهديًا موفقًا مسددًا، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي صلاة الحارس السؤال: جنديٌّ مكلف بحراسة أحد الأماكن وحان وقت صلاة العصر، ولم يصلها إلا بعد صلاة المغرب لأنه لم يجد من ينيبه للقيام بخفارته، هل عليه إثم في تأخيرها؟ وماذا يفعل من هو على تلك الحال؟. الجواب: لا يجوز للحارس وغيره أن يؤخر الصلاة عن وقتها لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي مفروضة في الأوقات. ولأدلة أخرى من الكتاب والسنة. وعليه أن يصلي الصلاة في وقتها مع قيامه بالحراسة كما صلى المسلمون مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة الخوف وهم مصافون للعدو، والله ولي التوفيق. مجلة الدعوة/عدد (1015)، الشيخ ابن باز الحركة في الصلاة السؤال: مشكلتي أنني كثير الحركة في الصلاة .. وقد سمعت أن هناك حديثًا معناه أن أكثر من ثلاث حركات في الصلاة تبطلها. فما صحة هذا الحديث؛ وما السبيل إلى التخلص من كثرة العبث في الصلاة؟. الجواب: السنة للمؤمن أن يقبل على صلاته ويخشع فيها بقلبه وبدنه سواء كانت فريضة أو نافلة لقول الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]، وعليه أن يطمئن فيها، وذلك من أهم أركانها وفرائضها لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، للذي أساء في صلاته ولم يطمئن فيها: "ارجع فصل فإنك لم تصل" فهل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" (¬2) وفي رواية لأبي داود قال فيها: "ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله" (¬3) وهذا الحديث الصحيح يدل على أن ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك (207) عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- موقوفًا. (¬2) أخرجه البخاري في الأذان (757)، ومسلم في الصلاة (397). (¬3) أخرجه أبو داود في الصلاة (859).

حكم العبث والحركة في الصلاة

الطمأنينة ركن في الصلاة، وفرض عظيم فيها لا تصح بدونه، فمن نقر صلاته فلا صلاة له والخشوع هو لب الصلاة وروحها، فالمشروع للمؤمن أن يهتم بذلك، ويحرص عليه. أما تحديد الحركات المنافية للطمأنينة وللخشوع بثلاث حركات فليس ذلك بحديث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنما ذلك كلام بعض أهل العلم، وليس عليه دليل يعتمد. ولكن يكره العبث في الصلاة، كتحريك الأنف واللحية والملابس والاشتغال بذلك، وإذا كثر العبث وتوالى أبطل الصلاة .. أما إن كان قليلًا عرفًا أو كان كثيرًا ولكن لم يتوال فإن الصلاة لا تبطل به، ولكن يشرع للمؤمن أن يحافظ على الخشوع، ويترك العبث قليله وكثيره، حرصًا على تمام الصلاة وكمالها. ومن الأدلة على أن العمل القليل والحركات القليلة في الصلاة لا تبطلها وهكذا العمل والحركات المتفرقة غير المتوالية، ما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنه فتح الباب يومًا لعاثشة وهو يصلي .. (¬1). وثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه صلى ذات يوم بالناس وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. (¬2) والله ولي التوفيق. كتاب الدعوة ص 86، 87 - الشيخ ابن باز حكم العبث والحركة في الصلاة السؤال: كثير من الناس يكثر من العبث والحركة في الصلاة. فهل هناك حد معين من الحركة يبطل الصلاة؟ وهل لتحديده بثلاث حركات متواليات أصل؟ وبماذا تنصحون من يكثر من العبث في الصلاة؟. الجواب: الواجب على المؤمن والمؤمنة الطمأنينة في الصلاة وترك العبث لأن الطمأنينة من أركان الصلاة لما ثبت في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر الذي لم يطمئن في صلاته أن يعيد الصلاة (¬3). والمشروع لكل مسلم ومسلمة الخشوع في الصلاة، والإقبال عليها، وإحضار القلب فيها بين يدي الله سبحانه لقول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [سورة المؤمنون: 1، 2]. ويكره له العبث بثيابه أو لحيته أو غير ذلك. وإذا كثر وتوالى حرم فيما نعلمه من الشرع المطهر وأبطل الصلاة. وليس لذلك حد محدود، والقول بتحديده بثلاث حركات قول ضعيف لا دليل عليه، وإنما المعتمد كونه عبثًا كثيرًا في اعتقاد المصلي، فإذا اعتقد المصلي أن عبثه كثير وقد توالى، فعليه أن يعيد الصلاة إن كانت فريضة، وعليه التوبة من ذلك. ونصيحتي لكل مسلم ومسلمة العناية بالصلاة والخشوع فيها وترك العبث فيها وإن قل؛ لعظم شأن الصلاة، وكونها عمود الإسلام، وأعظم أركانه بعد الشهادتين، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة. وفق الله المسلمين لأدائها على الوجه الذي يرضيه سبحانه. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص 41 - 42، الشيخ ابن باز شرود الذهن في الصلاة السؤال: عندما أريد أن أؤدي الصلاة أكون شاردة الذهن، وكثيرة التفكير، ولا أشعر بنفسي إلا إذا سلمت، ثم أعيدها مرة ثانية، وأجد نفسي مثل الحالة الأولى، لدرجة أنني أنسى التشهد الأول، ولا أدري كم صليت، مما يزيد اضطرابي وخوفي من الله، ثم أسجد سجود السهو. الرجاء ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (922)، والترمذي (601)، والنسائي في السهو (3/ 11). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب (5996)، ومسلم في المساجد (543). (¬3) أخرجه البخاري في الأذان (575)، ومسلم في الصلاة (397).

ذكر سجود السهو

الإفادة ولكم جزيل الشكر. الجواب: الوساوس من الشيطان، والواجب عليك العناية بصلاتك، والإقبال عليها والطمأنينة فيها حتى تؤديها على بصيرة، وقد قال الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] ولما رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رجلًا لا يتم صلاته ولا يطمئن فيها أمره بالإعادة وقال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" (¬1) وإذا علمت أنك في الصلاة، قائمة بين يدي الله تناجينه -سبحانه- فإن ذلك يدعو إلى خشوعك في الصلاة، وإقبالك عليها، وبعد الشيطان عنك، وسلامتك من وساوسه، وإذا كثر عليك الوسواس في الصلاة فانفثي عن يسارك ثلاث مرات وتعوذي بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات، فإنه يزول عنك إن شاء الله. وقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بعض أصحابه بذلك لما قال له: (يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي). (¬2) وليس عليك أن تعيدي الصلاة بسبب الوسواس، بل عليك أن تسجدي للسهو إذا فعلت ما يوجب ذلك، مثل ترك التشهد الأول سهوًا، ومثل ترك التسبيح في الركوع والسجود سهوًا، وإذا شككت هل صليت ثلاثًا أم أربعًا في الظهر مثلًا فاجعليها ثلاثًا، وأكملي الصلاة واسجدي للسهو سجدتين قبل السلام وإذا شككت في المغرب هل صليت اثنتين أم ثلاثًا فاجعليها اثنتين وأكملي الصلاة ثم اسجدي للسهو سجدتين قبل السلام؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بذلك. أعاذك الله من الشيطان، ووفقك لما يرضي الله سبحانه. كتاب الدعوة ص 76، الشيخ ابن باز ذكر سجود السهو السؤال: هل هناك من ذكر لسجود السهو؟ الجواب: سجود السهو يأخذ حكم السجود المعتاد، تسبح فيه كما ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما نزل قوله -تعالى-: {سبح اسم ربك الأعلى}. قال: "اجعلوها في سجودكم" (¬3) فدل هذا الحديث على أن سجود السهو يسبح فيه؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "اجعلوها في سجودكم" وهذا عام لم يفرق بين سجود السهو ولا غيره، وقد سمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سجود السهو سجودا فقال -عليه الصلاة والسلام-: "ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم" فوصفه هو سبب بكونه سجودًا وقال: "اجعلوها في سجودكم" فدل على أنه يفعل فيه ما يفعل في السجود المعتاد من التسبيح والتقديس لله -تعالى-، والله تعالى أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي حكم نسيان سجود السهو السؤال: ما حكم نسيان سجود السهو؟ الجواب: هذا طبعًا عند العلماء النسيان المستنكح، طبعًا إذا حصل عند الإنسان سهو زيادة وصلى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الآذان (757)، ومسلم في الصلاة (397). (¬2) مسلم في كتاب السلام (2203) من حديث عثمان بن أبي العاص. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 155)، وأبو داود (869) من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه-.

منع السائقين من أداء صلاة الجماعة

الظهر خمس ركعات -مثلًا- فلا يخلو -إذا كان في المسجد- من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يتذكر سجود السهو قبل أن يخرج من المسجد، ولو انتقل من موضعه الذي صلى فيها ولو كان في حلقة ولو كان في مجلس، فإذا تذكر وهو في المسجد -لم يخرج- يسجد سجدتين في مكانه، وهذا دليله ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه - في قصة ذي اليدين أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشي وقام إلى جذع النخلة واستند إليه كالغضبان وشبك بين أصابعه -صلوات الله وسلامه عليه- فهاب القوم أن يكلموه فيهم ذو اليدين قال: "يا رسول أقصرت الصلاة أم نسيت .. " (¬1) الحديث فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما علم أن الصلاة باقي منها رجع إلى موضعه قالوا فانتقل من موضع صلاته إلى موضع آخر فدل على أن من نسي لازمًا في الصلاة ما دام داخل المسجد أنه يشرع له قضاؤه وفعله فإذا خرج من المسجد فقد انقطع. ومن هنا اختلف فيه العلماء على وجهين: قال بعض العلماء: من نسي سجود السهو وتذكره ولو خارج المسجد سجد في موضعه. وقال بعض العلماء: من نسي سجود السهو فإن صلاته صحيحة إذا خرج من المسجد ولا يسجد؛ لأن المكان قد فات، ولا يمكن التدارك وهذا الثاني هو مذهب الجمهور وهو الصحيح والأقوى إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي منع السائقين من أداء صلاة الجماعة السؤال: ما حكم الشرع في نظركم فيمن يمنعون السائقين الذين يشتغلون عندهم في البيوت عن الصلاة في المساجد، ويأمرونهم بالصلاة في البيوت ولا يسمح لهم بالخروج إلا إذا كانوا يريدون أن يخرجوا هم أي أهل البيت؟ الجواب: الذي ينبغي لهولاء القوم الذين عندهم عمال يعملون عندهم أن يمكنوهم من صلاة الجماعة، لما في ذلك من الأجر والخير الكثير؛ لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى. وقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] ولا يحل لهم أن يمنعوهم من صلاة الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة واجب شرعي، والواجب الشرعي مستثنى من زمن العمل عند المسلمين؛ لأن طاعة الله ورسوله مقدمة على طاعة البشر، ولكن إذا منع هذا العامل من الصلاة جماعة ولم يكن له مندوحة عن هذا العمل فإنه يعذر في هذه الحال؛ لأنه ممنوع منها بغير اختياره، ولو ترك العمل لتضرر بذلك. نور على الدرب - الحلقة الثانية - الشيخ ابن عثيمين وقت صلاة العشاء السؤال: هل هناك وقت محدد لخروج صلاة العشاء فإذا أخرت إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل فهل هذا جائز؟ الجواب: بسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فصلاة العشاء فيها خلاف بين العلماء -رحمهم الله-، متى ينتهي وقتها؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (714)، مسلم (713) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

حكم تأخير الصلاة إلى الليل

الذي عليه العمل من ظاهر النصوص أن للعشاء وقتين: الوقت الأول: وهو (الوقت الأصلي) ينتهي بمنتصف الليل. والدليل على ذلك قوله -تعالى-: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وغسق الليل هو منتصف الليل، وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "وقت العشاء إلى شطر الليل" (¬1) أي إلى نصف الليل. وأما الوقت الثاني: وهو وقت الضرورة، فينتهي بطلوع الفجر الصادق؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيّن في حديث أبي قتادة في الصحيح أن الصلاة تنتهي بدخول وقت التي بعدها فهذا أصل عند طائفة العلماء -رحمهم الله- أن وقت العشاء ينتهي بمنتصف الليل. إذا ثبت هذا فتنظر وقت غروب الشمس ووقت طلوع الفجر وتقسمه على اثنين في قول طائفة على أن الليل ينتهي بطلوع الفجر. وقال بعض العلماء: إنه ينظر إلى وقت غروب الشمس ووقت طلوع الشمس؛ لأن هذا هو الأصل في الليل: تمام الليل وكماله، بخلاف الليل الذي هو الخاص الذي وردت بعض النصوص بتقييده بطلوع الفجر الصادق. ثم يقسم على اثنين لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "شطر الليل" وشطر الليل المراد به حقيقة الشطر (وهو النصف)، كما يراد شطر النهار (وهو منتصف النهار) فيقسم على اثنين، ثم بعد ذلك يضاف، إذا كان مثلًا ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر -فرضنا- مثلًا سبع ساعات، تقسمها على اثنين ثلاث ساعات ونصف، تضيفها إلى الوقت الذي تغرب فيه الشمس -ولو فرضنا- أنك قسمت هذا القدر وبلغ مثلًا أربعٍ أو خمس ساعات فتضيف هذا الحاصل إلى وقت غروب الشمس، لو كان وقت غروب الشمس الساعة السادسة والحاصل خمس ساعات، تعلم أنه ينتهي وقت العشاء عند الساعة الحادية عشرة من الليل، إذا علمت أنه ينتهي منتصف الليل عند الحادية عشرة تبني عليه الأحكام في صلاة العشاء، وتبني عليه الأحكام في مسألة المبيت بمنى، على القول: إنه يبيت أكثر الليل. فتقول: يبيت خمس ساعات ونصف، وعلى القول أنه يبيت آخر الليل تعتد من بعد الحادي عشر؛ وهكذا الأحكام الشرعية المترتبة على مسألة معرفة منتصف الليل، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي حكم تأخير الصلاة إلى الليل السؤال: كثير من العمال يؤخرون صلاة الظهر والعصر إلى الليل معللين ذلك بأنهم منشغلون بأعمالهم أو أن ثيابهم نجسة أو غير نطيفة فبماذا توجهونهم؟ الجواب: لا يجوز للمسلم أو المسلمة تأخير الصلاة المفروضة عن وقتها بل يجب على كل مسلم ومسلمة من المكلفين أن يؤدوا الصلاة في وقتها حسب الطاقة. وليس العمل عذرًا في تأخيرها، وهكذا نجاسة الثياب ووساختها كل ذلك ليس بعذر. وأوقات الصلاة يجب أن تستثنى من العمل، وعلى العامل وقت الصلاة أن يغسل ثيابه من النجاسة أو يبدلها بثياب طاهرة. أما الوسخ فليس مانعًا من الصلاة فيها إذا لم يكن ذلك الوسخ من النجاسات، أو فيه رائحة كريهة تؤذي المصلين. فإن كان الوسخ يؤذي المصلين بنفسه أو رائحته وجب على المسلم غسله قبل الصلاة، أو إبداله بغيره من الثياب النظيفة حتى يؤدي الصلاة مع الجماعة. ويجوز للمعذور شرعًا كالمريض والمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما. وبين ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (612) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

حكم تأخير صلاة الفجر عن وقتها

المغرب والعشاء في وقت إحداهما. كما صحت بذلك السنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهكذا يجوز الجمع في المطر والوحل الذي يشق على الناس. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة ص 19، 20 للشيخ ابن باز حكم تأخير صلاة الفجر عن وقتها السؤال: أنا شاب حريص على الصلاة، غير أني أنام متأخرًا، فأركب الساعة (المنبهة) على الساعة السابعة صباحًا أي بعد شروق الشمس ثم أصلي وأذهب للمحاضرات، وأحيانًا في يوم الخميس أو الجمعة استيقظ متأخرًا أي قبل صلاة الظهر بقليل بساعة أو ساعتين، فأصلي الفجر عندما أستيقظ علمًا بأني أصلي أغلب الأوقات بغرفتي بالسكن ومسجد السكن الجامعي ليس بعيدًا عني، وقد نبهني أحد الإخوة إلى أن ذلك لا يجوز، المرجو من سماحتكم إيضاح الحكم فيما سبق وجزاكم الله خيرًا. الجواب: من يتعمد تركيب الساعة إلى ما بعد طلوع الشمس حتى لا يصلي فريضة الفجر في وقتها يعتبر قد تعمد تركها وهو كافر بهذا عند جمع من أهل العلم، نسأل الله العافية لتعمده ترك الصلاة. وهكذا إذا تعمد تأخير الصلاة إلى قرب الظهر ثم صلاها عند الظهر أي صلاة الفجر. أما من غلبه النوم حتى فاته الوقت فهذا لا يضره ذلك، وعليه أن يصلي إذا استيقظ ولا حرج عليه إذا كان غلبه النوم أو تركها نسيانًا، أما الإنسان الذي يتعمد تأخيرها إلى ما بعد الوقت أو يركب الساعة إلى ما بعد الوقت؛ حتى لا يقوم في الوقت فهذا يعتبر متعمدًا للترك، فقد أتى منكرًا عظيمًا عند جميع العلماء. ولكن هل يكفر أو لا يكفر؟ هذا فيه خلاف بين العلماء إذا كان لم يجحد وجوبها؛ فالجمهور يرون أنه لا يكفر بذلك كفرًا أكبر. وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يكفر بذلك كفرًا أكبر، وهو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (¬1). ويقول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". (¬2) وهكذا ترك الصلاة في الجماعة منكر لا يجوز؛ الواجب على المكلف أن يصلي في المسجد لما ورد في حديث ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى أنه قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له. فلما ولى دعاه فقال له: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم. قال فأجب" (¬3). فهذا أعمي ليس له قائد يلائمه، ومع هذا يأمره النبي بالصلاة في المسجد فالصحيح البصير أولى. والمقصود أنه يجب على المؤمن أن يصلي في المسجد، ولا يجوز له التساهل والصلاة في البيت مع قرب المسجد. ومما ورد في ذلك أيضًا قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر". (¬4) وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن العذر فقال: خوف أو مرض. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في الإيمان (82). (¬2) أخرجه الإمام أحمد (5/ 346) والترمذي (2621)، والنسائي (1/ 232). (¬3) أخرجه مسلم في المساجد (653). (¬4) أخرجه ابن ماجه في المساجد (793) والدارقطني (1/ 420، 421) وابن حبان (2064) والحاكم (1/ 246) عن ابن عباس بإسناد على شرط مسلم.

حكم التهاون بالصلاة

السؤال: شاب ملتزم والحمد لله، ولكنه يتعب كثيرًا في عمله، حتى إنه لا يستطيع أن يصلي الفجر في وقتها من شدة التعب والإرهاق. فما حكم الشرع في نظركم فيمن هو على هذه الحال، وما نصيحتكم له؟ جزاكم الله خيرًا. الجواب: الواجب عليه أن يدع العمل الذي يكون سببًا في تأخير صلاة الفجر؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد إذا كان يعرف أنه لو ترك الإجهاد تمكن من صلاة الفجر فالواجب عليه ألا يجهد نفسه لكي يصلي الفجر في وقتها مع المسلمين. من فتاوى للشيخ ابن عثيمين عليها توقيعه حكم التهاون بالصلاة السؤال: كثير من الناس اليوم يتهاونون بالصلاة، وبعضهم يتركها بالكلية فما حكم هؤلاء؟ وما الواجب على المسلم تجاههم. وبالأخص أقاربه من والد وولد وزوجة ونحو ذلك؟. الجواب: التهاون بالصلاة من المنكرات العظيمة ومن صفات المنافقين قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. وقال تعالى في صفتهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]. وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا" (¬1). فالواجب على كل مسلم وعلى كل مسلمة المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداؤها بطمأنينة، والإقبال عليها، والخشوع فيها، وإحضار القلب لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]. ولما ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر الذي أساء صلاته فلم يطمئن فيها بالإعادة. وعلى الرجال خاصة أن يحافظوا عليها في الجماعة، مع إخوانهم في بيوت الله وهي المساجد لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر". (¬2) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (¬3). وهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن الصلاة في الجماعة في حق الرجال من أهم الواجبات، وأن المتخلف عنها يستحق العقوبة الرادعة. نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعًا، ويمنحهم التوفيق لما يرضيه أما تركها بالكلية -ولو في بعض الأوقات- فكفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء؛ سواء كان التارك رجلًا أو امرأة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان (657)، ومسلم في المساجد (252 - 651). (¬2) أخرجه ابن ماجه في المساجد (793) والداارقطني (1/ 420، 421) وابن حبان (2064) والحاكم (1/ 246). بإسناد صحيح. (¬3) أخرجه البخاري في الخصومات (2420)، ومسلم في المساجد (651).

المصافحة بعد الصلاة

لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". (¬1) (ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". (¬2) مع أحاديث أخرى كثيرة في ذلك. أما من جحد وجوجها -من الرجال أو النساء- فإنه يكفر كفرًا أكبر بإجماع أهل العلم ولو صلى. فنسأل الله لنا ولجميع المسلمين العافية من ذلك إنه خير مسؤول. والواجب على جميع المسلمين التناصح والتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، ومن ذلك نصيحة من يتخلف عن الصلاة في الجماعة أو يتهاون بها فيتركها بعض الأحيان وتحذيره من غضب الله وعقابه وعلى أبيه وأمه وإخوانه وأهل بيته أن ينصحوه، وأن يستمروا في ذلك حتى يهديه الله ويستقيم. وهكذا من يتهاون بها أو يتركها من النساء فالواجب نصيحتهن وتحذيرهن من غضب الله وعقابه، والاستمرار في ذلك، وهجر من لم يمتثل وعقابه بالأدب المناسب مع القدرة على ذلك لأن هذا كله من التعاون على البر والتقوى، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه الله على عباده من الرجال والنساء لقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬3). وإذا كان البنون والبنات يؤمرون بالصلاة لسبع ويضربون عليها لعشر فالبالغ من باب أولى في وجوب أمره بالصلاة وضربه عليها إذا تخلف عنها، مع النصيحة المتواصلة، والتواصي بالحق والصبر عليه لقول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. ومن ترك الصلاة بعد البلوغ، ولم يقبل النصيحة يرفع أمره إلى المحاكم الشرعية حتى تستتيبه؛ فإن تاب وإلا قتل: نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين، ويوفقهم للتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والصبر عليه، إنه جواد كريم. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص 21 - 27، ابن باز المصافحة بعد الصلاة السؤال: ما حكم المصافحة بعد الصلاة، وهل هناك فرق بين صلاة الفريضة أو النافلة؟ الجواب: الأصل في المصافحة عند اللقاء بين المسلمين شرعيتها، وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصافح أصحابه رضي الله عنهم إذا لقيهم، وكانوا إذا تلاقوا تصافحوا، قال أنس -رضي الله عنه- والشعبي رحمه الله: كان أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا. وثبت في الصحيحين (¬4) أن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم قام من حلقة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مسجده -عليه الصلاة والسلام- إلى كعب بن مالك -رضي الله عنه- لما تاب الله عليه فصافحه وهنأه بالتوبة. وهذا أمر مشهور ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه في الإيمان (82). (¬2) أخرجه الإمام أحمد (5/ 346) والترمذي (2621)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1079). (¬3) أبو داود في الصلاة (495، 496). (¬4) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).

قراءة الفاتحة

بين المسلمين في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعده وثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات عن الشجرة ورقها". (¬1) ويستحب التصافح عند اللقاء في المسجد أو في الصف، وإذا لم يتصافحا قبل الصلاة تصافحا بعدها تحقيقًا لهذه السنة العظيمة ولما في ذلك من تثبيت المودة وإزالة الشحناء. لكن إذا لم يصافحه قبل الفريضة شرع له أن يصافحه بعدها بعد الذكر المشروع. أما ما يفعله بعض الناس من المبادرة بالمصافحة بعد الفريضة من حين يسلم التسليمة الثانية فلا أعلم له أصلًا، بل الأظهر كراهة ذلك لعدم الدليل عليه؛ ولأن المصلي مشروع له في هذه الحال أن يبادر بالأذكار الشرعية التي كان يفعلها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد السلام من صلاة الفريضة. وأما صلاة النافلة فتشرع المصافحة بعد السلام منها إذا لم يتصافحا قبل الدخول فيها، فإن تصافحا قبل ذلك كفى. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة ص 50 - 52 الشيخ ابن باز قراءة الفاتحة السؤال: هل تدخل الفاتحة في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثم اقرأ ما تيسر من القرآن" أي أن تقرأ الفاتحة مرتين؟ الجواب: قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" فيه وجهان: الوجه الأول: أن هذه الرواية فسرتها رواية أبي داود (¬2) وغيره: "ثم اقرأ بفاتحة الكتاب" فبينت نوع الذي يقرأ، وعلى هذا الوجه لا إشكال يكون المراد: بـ "ثم اقرأ بفاتحة الكتاب" أي: استفتح قراءتك في الصلاة بفاتحة الكتاب، وليس المراد التكرار، وتكرار قراءة الفاتحة نص العلماء على منعه، حتى قال بعض العلماء: من كرر الفاتحة مرتين متعمدًا عالمًا يكون كمن كرر الركن مرتين، وهذا يوجب بطلان صلاته، هذا مذهب بعض أصحاب الشافعي -رحمهم الله- يقولون: إنه إذا كرر الفاتحة مرتين دلت النصوص على أنها ركن من أركان الصلاة، وقواعد الشريعة على أن الأركان إذا كررت أبطلت الصلاة، فمن ركع مرتين، أو سجد ثلاث مرات، أو فعل أركانًا أُخر مكررة أكثر مما أمر به الشرع فإن هذا يوجب بطلان صلاته قولًا واحدًا عند العلماء -رحمهم الله- إذا وقع على سبيل العلم والعمد، فلذلك نصوا على أنه لا تكرر قراءة الفاتحة ويقرأ الفاتحة مرة إلا من ابتلي بوسواس فهذا له حكم خاص، والله تعالى أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي السؤال: إذا ركع الإمام ولم يتم المأموم قراءة الفاتحة فماذا عليه أن يفعل؟ الجواب: هذا فيه تفصيل: إذا كان المأموم قد أدرك وقتًا يمكنه أن يقرأ فيه الفاتحة وبقي اليسير منها وغلب على ظنه أنه يمكنه أن يدرك الإمام يتم اليسير ويدرك مع الإمام؛ لأنه متأخر لعذر. وَترَكب المسألة كالآتي: أول شيء: تُلزم المأموم بالتأخر عن الإمام إذا أدرك وقتًا تتعين فيه قراءة الفاتحة عليه. أما لو أنه جاء متأخرًا والوقت الذي أدركه لم يقرأ فيه دعاء الاستفتاح وإنما قرأ الفاتحة مباشرة ولم يسعْهُ، فركع الإمام فحينئذٍ سقط عنه ما بقي من الفاتحة، لكن جاء وقرأ دعاء الاستفتاح ثم قرأ الفاتحة بعد ثلاث آيات أو أربع آيات فركع الإمام فحينئذٍ نقول له: أتم الثلاث آيات وأدرك الإمام. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (5211، 5212)، والترمذي (2728)، وأحمد (4/ 289). (¬2) أخرجه في سننه (793).

صلاة المفترض خلف المتنفل

الشرط الأول: أن يكون قد أدرك وقتًا تلزمه فيه قراءة الفاتحة. والشرط الثاني: أن يغلب على ظنه إدراك الإمام في الركعة قبل أن يرفع الإمام، فإن غلب على ظنه أنه لا يدرك فحينئذٍ إن كان تحقق الشرط الأول وهو أنه أدرك وقتًا يمكنه أن يقرأ فيه الفاتحة فقصر أو قرأ دعاء الاستفتاح أو تأخر أو جلس مثلًا يبلع ريقه أو نحو ذلك ينشغل بشيء حتى فاته إتمام الآية والآيتين نقول: أتم بغلبة الظن، فإنك تدرك الإمام في الركوع، فإن قال لا يغلب على ظني أني أدرك الإمام نقول له: اركع واقضِ الركعة: اركع إلزامًا بالمتابعة واقض الركعة، فإن تأخر وأتمها ورفع الإمام رأسه من الركوع ركع ثم أدرك الإمام في الرفع، ولو أنه ركع ثم أراد أن يرفع فسجد الإمام يبادر بسرعة إلى الرفع من الركوع ثم يدرك الإمام فلا تنقطع المتابعة ما دام أنه قد أدركه قبل دخوله في الركعة الثانية وهذا ما يسمى بـ (مسألة التدارك) وقد نبهنا عليها غير مرة. وأما إذا كان الوقت الذي أدركه لا يسع لقراءة الفاتحة، فإنه لا يتأخر عن الإمام ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهذا الذي أعطاه الله ويسره له أنه أدرك قدر ثلاث آيات فيقرأ الثلاث آيات، أو قدر أربع آيات فيقرأ الأربع الآيات ثم يركع؛ لأنه لو أدرك الإمام راكعًا لسقطت عنه الفاتحة فمن باب أولى إذا أدرك بعض الفاتحة فإنه يلحق بالإمام ويتم ولا يلزمه الإتمام، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي صلاة المفترض خلف المتنفل السؤال: ما حكم صلاة من يصلي الفرض خلف من يصلي نافلة؟ الجواب: الحكم في ذلك الصحة؛ لأنه ثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض أسفاره أنه صلى بطائفة من أصحابه صلاة الخوف ركعتين، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين؛ فالصلاة الثانية له نافلة. وهكذا ثبت في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه أنه كان يصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة العشاء فرضه، ثم يذهب فيصلي بجماعته فرضهم؛ فهي لهم فريضة، وهي له نافلة. (¬1) والله ولي التوفيق. مجلة الدعوة، عدد: 1033، الشيخ ابن باز السؤال: ماذا يفعل رجل دخل على إنسان يصلي صلاة سرية، وهو لا يعلم هل يصلي السنة أو الفرض؟ وماذا يفعل الإمام أيضًا في حكم هذا الرجل الذي دخل عليه المسجد وهو يصلي؛ هل يشير إليه ليدخل معه في الصلاة إذا كان في صلاة فرض أو يبعده إذا كان في السنة؟. الجواب: الصحيح أنه لا يضر اختلاف نية الإمام والمأموم، وأنه يجوز للإنسان المفترض أن يصلي خلف الإنسان المتنفل؛ كما كان معاذ بن جبل يفعل ذلك في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإنه كان يصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلاة العشاء، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة، وهي له نافلة، ولهم فريضة. فإذا دخل إنسان المسجد وأنت تصلي فريضة أو نافلة، وقام معك لتكونا جماعة؛ فلا حرج، ولا يلزمك أن تشير عليه بألا يدخل، فيدخل معك ويصلي ما يدركه معك، وبعد انتهاء صلاتك يقوم فيقضي ما بقي عليه، سواء كنت تصلي نافلة أو فريضة. مختار من فتاوى الصلاة، ص: 66 - 67، الشيخ ابن عثيمين السؤال: ما حكم صلاة المتنفل بالمفترض؟ الجواب: يجوز ذلك إذا كان هو أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بأحكام الصلاة، وكذا إذا كان هو الإمام الراتب في المسجد، وقدر أنه أدى الصلاة في جماعة، ثم جاء إلى مسجده ولم يصلوا، فله أن يصلي بهم. ¬

_ (¬1) أخرجه البحاري (700، 701) ومسلم في الصلاة (465).

إدراك المسبوق للتشهد الأخير

ودليل ذلك قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث كان إمام قومه من الأنصار وأقرأهم، وأعلمهم بالأحكام، وكان يأتي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقت العشاء، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة (¬1) وهو متنفل وهم مفترضون، وقد كره ذلك بعض العلماء لاختلاف النية، ولكن الصحيح جواز ذلك لوجود الدليل الصريح، والله أعلم. اللؤلؤ المكين، ابن جبرين، ص 112 - 113 إدراك المسبوق للتشهد الأخير السؤال: شخص أتى إلى المسجد متأخرًا، وأدرك الجماعة وهم في التشهد الأخير؛ هل يلحق بهم أم ينتظر الجماعة القادمة؟ وإذا التحق بالجماعة في التشهد الأخير، ثم سمع جماعة جديدة؛ هل يقطع صلاته أم يتمها؟. الجواب: إذا كان الذي جاء والإمام في التشهد الأخير يعلم أنه سيجد جماعة؛ فإنه ينتظر ويصلي مع الجماعة؛ لأن القول الراجح أن الجماعة لا تدرك إلا بركعة كاملة، أما إذا كان لا يرجو وجود أحد يصلي معه؛ فإن الأفضل أن يدخل معهم، ولو في التشهد الأخير؛ لأن إدراك بعض الصلاة خير من عدم الإدراك بالكلية. وإذا قدر أنه دخل مع الإمام لعلمه أنه لا يجد جماعة، ثم حضرت جماعة، وسمعهم يصلون؛ فلا حرج عليه أن يقطع صلاته ويذهب، معهم ويصلي، أو ينويها نفلًا، ويتمها ركعتين، ثم يذهب مع هؤلاء القوم ويصلي معهم، وإن استمر على ما هو عليه فلا حرج فله أن يفعل واحدًا من هذه الأمور الثلاثة. مختار من فتاوى الصلاة، ص 66، الشيخ ابن عثيمين حكم أخذ المصحف من المسجد ومد الظهر جدا في أثناء السجود، والعبث في الصلاة السؤال: ما حكم من أخذ مصحفًا من المسجد إلى البيت خاصة إذا حصل تردد من ذلك؟ وكذلك ما حكم مد الظهر جدًا في أثناء السجود؟ وما حكم رفع الصوت بالقراءة قبل الصلاة؟ وما حكم العبث باللحى والثياب في أثناء الصلاة بدون حاجة؟ الجواب: أما أخذ المصحف من المسجد؛ فلا يجوز؛ لأن مصاحف المسجد تبقى في المسجد ولا تؤخذ. وأما مد الظهر جدًا أثناء السجود؛ فلا ينبغي، ولكن في السجود ينبغي أن يكون الظهر معتدلًا، لا يمدده مرة ويقعره مرة، بل يكون معتدلًا رافعًا يديه عن الأرض، ويفرج عضديه عن جنبه، ويرفع بطنه عن فخذيه؛ أي: يعتدل في السجود بحيث لا يمده مدًا طويلًا، ولا يقعره، بل يتوسط. وأما رفع الصوت بالقراءة قبل الصلاة؛ فإنه لا يرفع صوته إذا كان عنده أحد، بل يقرأ بينه وبين نفسه؛ كي لا يؤذي الناس، ولا يشغل المصلين، ولا يشغل القراء، ولكن يرفع بحيث يكون خفيفًا. وأما العبث باللحى والثياب أثناء الصلاة؛ فإنه مكروه، بل السنة السكون: قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] فعليه أن يخشع في صلاته، ولا يعبث لا باللحية ولا بالثوب، إنما يعفى عن الشيء اليسير للحاجة، وأما الكثير؛ فلا يجوز إلا للضرورة. مختار من فتاوى الصلاة، ص: 14 - 15، الشيخ ابن عثيمين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان (700، 701) ومسلم في الصلاة (465).

كيفية أداء الصلاة في الطائرة

كيفية أداء الصلاة في الطائرة السؤال: كيف يؤدي المسلم الصلاة في الطائرة. وهل الأفضل له الصلاة في الطائرة أول الوقت؟ أو الانتظار حتى يصل المطار إذا كان سيصل في آخر الوقت؟ الجواب: الواجب على المسلم في الطائرة إذا حضرت الصلاة أن يصليها حسب الطاقة، فإن استطاع أن يصليها قائمًا ويركع ويسجد فعل ذلك، وإن لم يستطع صلى جالسًا وأومأ بالركوع والسجود. فإن وجد مكانًا في الطائرة يستطيع فيه القيام والسجود في الأرض بدلًا من الإيماء وجب عليه ذلك لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمران بن حصين رضي الله عنهما وكان مريضا: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1) ورواه النسائي بإسناد صحيح وزاد: "فإن لم تستطع فمستلقيًا". والأفضل له أن يصلي في أول الوقت، فإن أخرها إلى آخر الوقت ليصليها في الأرض فلا بأس لعموم الأدلة. وحكم السيارة والقطار والسفينة حكم الطائرة والله ولي التوفيق. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص: 40 - 41، الشيخ ابن باز الصلاة في الطائرة السؤال إذا كنت مسافرًا في طائرة وحان وقت الصلاة أيجوز أن نصلي في الطائرة أم لا؟. الجواب: الحمد لله: إذا حان وقت الصلاة والطائرة مستمرة في طيرانها ويخشى فوات وقت الصلاة قبل هبوطها في أحد المطارات، فقد أجمع أهل العلم على وجوب أدائها بقدر الاستطاعة ركوعًا وسجودًا واستقبالًا للقبلة لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬2). أما إذا علم أنها ستهبط قبل خروج وقت الصلاة بقدر يكفي لأدائها، أو أن الصلاة مما يجمع مع غيره كصلاة الظهر مع العصر، وصلاة المغرب مع العشاء، أو علم أنها ستهبط قبل خروج وقت الثانية بقدر يكفي لأدائهما، فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى جواز أدائها في الطائرة، لوجوب الأمر بأدائها بدخول وقتها، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى عدم صحتها في الطائرة لأن من شرط صحتها أن تكون الصلاة على الأرض، أو على ما هو متصل بها، كالراحلة أو السفينة مثلًا لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" .. (¬3) والله ولي التوفيق. فتاوى إسلامية - اللجنة الدائمة 1/ 227 تقسيم الوتر السؤال: إني أوتر بإحدى عشرة ركعة؛ لكن أصلي ركعتين بعد راتبة العشاء، وأربعًا قبل النوم، وخمسًا قبيل صلاة الفجر. فهل طريقي هذه صحيحة على هذه التجزئة؟ الجواب: نعم. لا بأس بهذا؛ لأن العلماء -رحمهم الله- قالوا: إن صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إحدى عشرة ركعة بالليل. هذا الأصل. وحديث ابن عباس: أنه صلى بثلاث عشرة ركعة (¬4)، ورواية: خمس عشرة ركعة. محمولة على إضافة ركعتي السنة الراتبة للعشاء، قالوا ثلاث عشرة، وعلى كل حال، هذا خير وبركة؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصحيح (1117). (¬2) أخرجه مسلم (1337). (¬3) أخرجه البخاري (335)، ومسلم في المساجد (521). (¬4) أخرجه البخاري (698)، ومسلم (764) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

الحكمة من إدخال قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد

ولكن الأفضل والأكمل والسنة أنك لا تصلي الأربع قبل نومك، وإنما تؤخر الأربع وتصلي الإحدى عشرة ركعة بعد استيقاظك في جوف الليل الأظلم؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فضل الصلاة وذكر الله ساعتئذٍ. وقال بعض العلماء: إن أصل القيام تسع، والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يستفتح قيامه بركعتين خفيفتين، فصار المجموع إحدى عشرة ركعة، فأصل القيام عندهم تسع ركعات. وصح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أحاديث صحيحة "أنه كان يستفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين" (¬1)، فإذا فعلت فهذا هو السنة، وهذا هو الأكمل والأفضل في هديه -صلوات الله وسلامه عليه-، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي الحكمة من إدخال قبر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد السؤال: من المعلوم أنه لا يجوز دفن الأموات في المساجد، وأيما مسجد فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه، فما الحكمة من إدخال قبر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعض صحابته في المسجد النبوي؟. الجواب: قد ثبت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬2). وثبت عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" (¬3). وروى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إن الله تعالى قد اتخذنني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" (¬4). وروى مسلم أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه" (¬5). فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم اتخاذ المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، كما تدل على تحريم البناء على القبور واتخاذ القباب عليها وتجصيصها؛ لأن ذلك من أسباب الشرك بها، وعبادة سكانها من دون الله، كما قد وقع ذلك قديمًا وحديثًا، فالواجب على المسلمين أينما كانوا أن يحذروا مما نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه، وألا يغتروا ما فعله كثير من الناس، فإن الحق هو ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة لا بآراء الناس وأعمالهم، والرسول محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحباه رضي الله عنهما لم يدفنوا في المسجد وإنما دفنوا في بيت عائشة، ولكن لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك أدخل الحجرة في المسجد في آخر القرن الأول، ولا يعتبر عمله هنا في حكم الدفن في المسجد؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبيه لم ينقلوا إلى أرض المسجد، وإنما أدخلت الحجرة التي هم بها في المسجد من أجل التوسعة، فلا يكون في ذلك حجة لأحد على جواز البناء على القبور، أو ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 218)، وابن ماجه (228) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه البخاري (1330)، ومسلم في المساجد (529). (¬3) أخرجه البخاري (434)، ومسلم في المساجد (528). (¬4) أخرجه مسلم في المساجد (532). (¬5) أخرجه مسلم في الجنائز (970).

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر

اتخاذ المساجد عليها، أو الدفن فيها لما ذكرته آنفًا من الأحاديث الصحيحة المانعة من ذلك، وعمل الوليد ليس فيه حجة على ما يخالف السنة الثابتة عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والله ولي التوفيق. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة ج4، ص: 337 - 338، الشيخ ابن باز حكم الصلاة في مسجد فيه قبر السؤال: الأخ م. أ. ن من ميت طريف -دقهلية- بمصر يقول في سؤاله: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟ الجواب: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى فيها قبور، لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك. فقد ثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬1) قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة فيها تصاوير فقال: "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله" (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" (¬4). فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق. فالواجب الحذر من ذلك. ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجدًا، ومن بنى عليه مسجدًا فقد اتخذه مسجدًا، فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد، وألا يجعل فيها قبور؛ امتثالًا لأمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحذرًا من اللعنة التي صدرت من ربنا عز وجل لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور قد يزين له الشيطان دعوة الميت، أو الاستغاثة به، أو الصلاة له، أو السجود له فيقع الشرك الأكبر، ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم، وأن نبتعد عن طريقهم وعن عملهم السيئ. لكن لو كانت القبور هي القديمة ثم بني عليها المسجد، فالواجب هدمه وإزالته؛ لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم؛ حسمًا لأسباب الشرك وسدًا لذرائعه. والله ولي التوفيق. مجموع فتاوى ومقالات ج5: 388 - 389، الشيخ ابن باز السؤال: ما حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟ الجواب: إذا كان هذا المسجد مبنيًا على القبر فإن الصلاة فيه محرمة ويجب هدمه؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد تحذيرًا مما صنعوا، وأما إذا كان المسجد سابقًا على القبر فإنه يجب إخراج القبر من المسجد ويدفن فيما يدفن فيه المسلمون، ولا حرج علينا في هذه الحال إذا نبشنا هذا القبر؛ لأنه دفن في مكان لا يحل أن يدفن فيه، فإن المساجد لا يحل دفن الموتى فيها. الصلاة في المسجد إذا كان سابقًا على القبر صحيحة بشرط ألا يكون القبر في ناحية القبلة فيصلي الناس إليه؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المواقيت (1330)، ومسلم في المساجد (529). (¬2) أخرجه البخاري في الصلاة (435، 436)، ومسلم في المساجد (528). (¬3) أخرجه البخاري في الصلاة (434)، ومسلم في المساجد (528). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه (532).

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

الصلاة إلى القبور. (¬1) وبالإمكان إذا لم يتمكنوا من نبش القبر أن يهدموا سور المسجد. مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين ج2 ص: 234 - 235. حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر السؤال: ما حكم الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر، أو بساحته، أو في قبلته؟. الجواب: إذا كان في المسجد قبر فالصلاة فيه غير صحيحة سواء كان خلف المصلين أو أمامهم أو عن أيمانهم أو عن شمائلهم لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" (¬2). ولأن الصلاة عند القبر من وسائل الشرك، والغلو في أهل القبور، فوجب منع ذلك عملًا بالحديثين المذكورين، وما جاء في معناهما، وسدًا لذريعة الشرك. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص: 17 - 18، الشيخ ابن باز وجوب أداء الصلاة في الجماعة من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لما فيه رضاه، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه -آمين-. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. أما بعد: فقد بلغني أن كثيرًا من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك، فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظم شأنه رسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين. فقال تعالى في كتابه المبين: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]. وكيف تعرف محافظة العبد عليها وتعظيمه لها؟ وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون في شأنها؟ وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. هذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة قى الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية. وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في المساجد (973) بلفظ: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها". (¬2) متفق على صحته البخاري في المواقيت (1330). ومسلم في المساجد (529).

[النساء: 102]. فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب، فكيف بحال السلم! ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (¬1). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض. إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا سنن الهدي وإن من سنن الهدي الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه" (¬2). وفيه أيضًا عنه قال: "من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنن الهدى وإنهن من سنن الهدي ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" (¬3). وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم. قال فأجب" (¬4). والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كثيرة جدًا. فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين امتثالًا لأمر الله ورسوله، وحذرًا مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعادًا عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة، من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة. فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143]. ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية، ومعلوم أن ترك الصلاة كفر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الخصومات (2420)، ومسلم في المساجد (651). (¬2) أخرجه مسلم في المساجد (654). (¬3) أخرجه مسلم في المساجد (257 - 654). (¬4) أخرجه مسلم في المساجد (653).

ترديد الأذان

وضلال وخروج من دائرة الإسلام، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". (¬1) رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه ولقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (¬2). والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كثيرة جدًا. ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته لم يجز لأحد أن يحيد عنه، لقول فلان أو فلان لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة. وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه، وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعًا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن مشابهة الكفار والمنافقين، إنه جواد كريم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. الشيخ ابن باز تبصرة وذكرى، ص: 53 - 57 ترديد الأذان السؤال: هل ينبغي الترديد للأذان إذا كان معادًا في جهاز التسجيل أو من سمع في الإذاعة أذانًا غير أذان بلده؟ الجواب: يشرع الترديد وراء المؤذن سواء كان المؤذن موذنًا في مسجدك، أو في غير مسجد الحي الذي أنت فيه، أو كان في بلد غير البلد الذي أنت فيه، لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" (¬3). فهذا لفضل الأذان وشرفه دون التفات إلى حقه ومكانه. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي من سمع النداء ولم يذهب للمسجد السؤال: ما حكم الذي يسمع النداء ولا يذهب إلى المسجد برغم أنه يصلي في البيت جميع الأوقات أو في القسم الذي يعمل فيه؟. الجواب: لا يجوز ذلك، الواجب عليه أن يجيب النداء لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر". (¬4) قيل لابن عباس: ما العذر؟ قال: خوف أو مرض. وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في البيت؟ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الإيمان (82). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي (2621)، والنسائي (1/ 232)، وابن ماجه (1079). (¬3) أخرجه البخاري (611)، ومسلم (383). (¬4) أخرجه ابن ماجه (793)، والدارقطني (1/ 421، 422)، وابن حبان (2064).

فضل الجماعة

قال: "هل تسمع النداء بالصلاة؛ قال نعم. قال فأجب". (¬1) فإذا كان الأعمى الذي لا قائد له ليس له رخصة فغيره من باب أولى -فالواجب على المسلم البدار للصلاة في وقتها في جماعة- أما إذا كان بعيدًا لا يسمع النداء فلا حرج عليه أن يصلي في بيته وإن تجشم المشقة وصبر عليها وصلى في الجماعة فذلك خير له وأفضل. الشيخ ابن باز فتاوى عاجلة لمنسوبي الصحة ص: 41 - 42 فضل الجماعة السؤال: هل تحصل المرأة على فضل الجماعة في الفجر والعشاء علما بأنها غالبًا ما تصلي منفردة؟ الجواب: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن المرأة إذا شهدت صلاة العشاء والفجر في جماعة وكانت تخرج من بيتها لشهود هذه الجماعة فإنها تنال هذا الفضل، ولذلك كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي الفجر فتشهد معه الصحابيات المؤمنات ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الصبح فيشهد معه نساء مؤمنات ثم ينقلبن إلى بيوتهن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من شدة الغلس (¬2). فدل هذا على أنه لا بأس بشهود المرأة لصلاة العتمة وصلاة العشاء، وأنها تنال هذا الفضل لعموم قوله -عليه الصلاة والسلام-: "بشر المشائين إلى المساجد في الظلم" (¬3)، وأما بالنسبة لصلاتها في بيتها فلا تنال ولا ينال للرجل هذه الفضيلة إذا صلى في بيته، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي حكم التهاون بصلاة الجماعة السؤال: يتهاون كثير من المسلمين اليوم بالصلاة في الجماعة وحتى بعض طلبة العلم ويتعللون بأن بعض العلماء قال بعدم وجوبها، فما حكم صلاة الجماعة وبماذا تنصحون هؤلاء؟ الجواب: الصلاة في الجماعة مع المسلمين في المساجد واجبة بلا شك في أصح أقوال أهل العلم على كل رجل قادر يسمع النداء لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر". (¬4) وقد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن العذر فقال: خوف أو مرض وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-": أنه أتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله ليس في قائد يقودني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم. قال فأجب". (¬5) وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". (¬6) ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصحيح في المساجد (653). (¬2) أخرجه البخاري (372)، ومسلم (645). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 331)، وابن خزيمة في صحيحه (2/ 377). (¬4) أخرجه ابن ماجه (793) والدارقطني (1/ 421، 422)، وابن حبان (2064) والحاكم (1/ 246). (¬5) أخرجه مسلم في المساجد (653). (¬6) أخرجه البخاري في الخصومات (2420)، ومسلم في المساجد (651).

الصلاة بالثياب الخفيفة الواصفة

فهذه الأحاديث كلها وما جاء في معناها تدل على وجوب الصلاة في الجماعة في المساجد بحق الرجال، وأن من تخلف عنها مستحق العقوبة الرادعة. ولو كانت الصلاة في الجماعة في المساجد غير واجبة لم يستحق تاركها العقوبة. ولأن الصلاة في المساجد من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة، ومن أسباب التعارف بين المسلمين وحصول المودة والمحبة وزوال الشحناء، ولأن تركها فيه مشابهة لأهل النفاق. فالواجب الحذر من ذلك، ولا عبرة بالخلاف في ذلك؛ لأن كل قول يخالف الأدلة الشرعية يجب أن يطرح ولا يعول عليه لقول الله -عز وجل-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}، وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي الصلاة في جماعة- إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف". (¬1) ولا شك أن هذا يدل على عناية الصحابة بصلاة الجماعة في المسجد وحرصهم عليها، حتى إنهم يأتون بعض الأحيان بالرجل المريض يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وذلك من شدة حرصهم على صلاة الجماعة رضي الله عنهم جميعًا. والله ولي التوفيق. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص: 56 - 58، الشيخ ابن باز الصلاة بالثياب الخفيفة الواصفة السؤال: كثير من الناس يصلون بثياب خفيفة تصف البشرة ويلبسون تحت هذه الثياب سراويل قصيرة لا تتجاوز منتصف الفخذ فيشاهد منتصف الفخذ من وراء الثوب، فما حكم صلاة هؤلاء؟. الجواب: حكم صلاة هؤلاء حكم من صلى بغير ثوب سوى السراويل القصيرة لأن الثياب الشفافة التي تصف البشرة غير ساترة ووجودها كعدمها، وبناء على ذلك فإن صلاتهم غير صحيحة على أصح قولي العلماء. وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وذلك لأنه يجب على المصلي من الرجال أن يستر ما بين السرة والركبة، وهذا أدنى ما يحصل به امتثال قول الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. فالواجب عليهم أحد أمرين: إما أن يلبسوا سراويل تستر ما بين السرة والركبة، وإما أن يلبسوا فوق هذه السراويل القصيرة ثوبًا صفيقًا لا يصف البشرة. وهذا الفعل الذي ذكر في السؤال خطأ وخطير؛ فعليهم أن يتوبوا إلى الله تعالى منه، وأن يحرصوا على إكمال ستر ما يجب ستره في صلاتهم نسأل الله تعالى لنا ولإخواننا المسلمين الخير والهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه إنه جواد كريم. فتاوى معاصرة، ص: 16 - 17، الشيخ ابن عثيمين أكل البصل والثوم عند الصلاة السؤال: هناك حديث عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنه قال: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في المساجد (654).

حكم أكل الكراث والبصل والثوم وإتيان المسجد

مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬1) أو كما قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"، هل معنى ذلك أن الآكل لأي من هذه الأشياء لا تجوز له الصلاة في المسجد حتى تمضي عليه تلك المدة أو يعد أكلها غير جائز لمن تلزمه صلاة الجماعة؟. الجواب: هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة تؤذي من حوله، سواء كان ذلك من أكل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان حتى تذهب الرائحة -مع العلم بأن الدخان مع قبح رائحته هو محرم، لأضراره الكثيرة وخبثه المعروف وهو داخل في قوله سبحانه عن نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في سورة الأعراف: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ويدل على ذلك أيضًا قوله سبحانه في سورة المائدة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ومعلوم أن الدخان ليس من الطيبات فعلم بذلك أنه من المحرمات على الأمة. أما التحديد بثلاثة أيام فلا أعلم له أصلًا. والله ولي التوفيق. كتاب الدعوة - ص 81، 82 الشيخ ابن باز حكم أكل الكراث والبصل والثوم وإتيان المسجد السؤال: ورد في الحديث الصحيح النهي عن قرب المسجد لمن أكل بصلًا أو ثومًا أو كراثًا. فهل يلحق ذلك ما له رائحة كريهة وهو محرم كالدخان؟. وهل معني ذلك أن من تناول هذه الأشياء معذور بالتخلف عن الجماعة ولا يأثم بتخلفه؟. الجواب: ثبت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا" (¬2) وثبت عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬3) وكل ما له رائحة كريهة حكمه، حكم: الثوم والبصل، كشارب الدخان ومن له رائحة في إبطه أو غيرهما مما يؤذي جليسه. فإنه يكره له أن يصلي مع الجماعة وينهى عن ذلك حتى يستعمل ما يزيل هذه الرائحة. ويجب عليه أن يفعل ذلك مع الاستطاعة حتى يؤدي ما أوجب الله عليه من الصلاة في الجماعة. أما التدخين فهو محرم مطلقًا، ويجب عليه تركه في جميع الأوقات، لما فيه من المضار الكثيرة في الدين والبدن والمال. أصلح الله حال المسلمين ووفقهم لكل خير. فتاوى مهمة تتعلق بالصلاة، ص: 61 - 62، الشيخ ابن باز ساعة الإجابة يوم الجمعة السؤال: آخر ساعة من عصر الجمعة هل هي ساعة الإجابة، وهل يلزم المسلم أن يكون في المسجد في هذه الساعة، وكذلك النساء في المنازل؟. الجواب: أرجح الأقوال في ساعة الإجابة يوم الجمعة قولان: أحدهما: إنها بعد العصر إلى غروب الشمس في حق من جلس ينتظر صلاة المغرب، سواء كان في المسجد أو في بيته يدعو ربه، وسواء كان رجلًا أو امرأة. فهو حري بالإجابة، لكن ليس للرجل أن يصلي في البيت صلاة المغرب، ولا غيرها إلا بعذر شرعي كما هو معلوم من الأدلة الشرعية. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان (854)، ومسلم في المساجد (564). (¬2) أخرجه البخاري في الأذان (855)، ومسلم في المساجد (73 - 564). (¬3) أخرجه البخاري في الأذان (854)، ومسلم في المساجد (564).

حكم الذهاب إلى المساجد البعيدة للصلاة خلف القارئ الجيد

والثاني: أنها من حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة يوم الجمعة إلى أن تقضى الصلاة فالدعاء في هذين الوقتين حري بالإجابة. وهذان الوقتان هما أحرى ساعات الإجابة يوم الجمعة، لما ورد فيهما من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك. وترجى هذه الساعة في بقية ساعات اليوم، وفضل الله واسع سبحانه وتعالى. ومن أوقات الإجابة في جميع الصلوات فرضها ونفلها: حال السجود لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء" (¬1) وروى مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" (¬2). ومعني قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقمن أن يستجاب لكم: أي حري. مجلة البحوث. عدد رقم 34 ص: 142 - 143 الشيخ ابن باز حكم الذهاب إلى المساجد البعيدة للصلاة خلف القارئ الجيد السؤال: يوجد في مدينتنا قارئ جيد يخشع في صلاته ويأتي إليه الناس من مدن بعيدة كالرياض والمنطقة الشرقية والباحة وغيرها، فما الحكم في مجيء هؤلاء، وهل صحيح أنهم وقعوا في النهي الوارد في الحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي"؟ (¬3) نرجو الإفادة والتوجيه. جزاكم الله خيرًا. الجواب: لا نعلم حرجًا في ذلك، بل ذلك داخل في الرحلة لطلب العلم والتفقه في القرآن الكريم واستماعه من حسن الصوت به، وليس السفر لذلك من شد الرحال المنهي عنه. وقد ارتحل موسى عليه الصلاة والسلام رحلة عظيمة إلى الخضر عليه السلام في مجمع البحرين لطلب العلم، ولم يزل أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم يرتحلون من إقليم إلى إقليم ومن بلاد إلى بلاد لطب العلم، وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة" (¬4). مجلة البحوث. عدد رقم 42 ص: 137 - 138 الشيخ ابن باز صلاة التراويح السؤال: ما حكم صلاة التراويح وكيفيتها فعندنا اختلاف شديد فمن الناس من يبدؤها فيقول: صلاة القيام أثابكم الله، ثم يصلي ركعتين ويقوم قائلًا: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد بصوت مرتفع، يقولها الإمام ويقولها وراءه المصلون جميعًا، وعندما يصلي الركعتين التاليتين يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين بصوت مرتفع وكذلك يقول وراءه المصلون، وعندما ينتهي من صلاة التراويح يقرأ مثل ذلك ثلاث مرات، وعندما نقول له هذا شيء ليس بوارد يقول لك: هذا عمل خير وبدعة حسنة، وهل في الإسلام بدعة حسنة، ما رأيكم في ذلك وكيف تصلى هذه السنة جزاكم الله خيرًا؟. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد: الجواب: قول الناس صلاة القيام أثابكم الله. وقول الإمام: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد بصوت مرتفع، وقول المأمومين ذلك بعده، وقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين بصوت مرتفع بعد صلاة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أخرجه مسلم في الصلاة (479). (¬3) أخرجه البخاري في فضل الصلاة (1197). (¬4) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2699).

القرآن يوم الجمعة والابتهالات قبل الفجر

الركعتين؛ كل هذا من البدع المحدثة، وقد ثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (¬1) وكان يقول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبة الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (¬2) وبذلك يعلم أن البدع كلها ضلالة كما قال المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس في الإسلام بدعة حسنة. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/ 352، 352) القرآن يوم الجمعة والابتهالات قبل الفجر السؤال: ما حكم قراءة القرآن يوم الجمعة قبل الظهر بمكبرات الصوت، إذا قلت له: هذا أمر غير وارد، يقول لك: تريد أن تمنع قراءة القرآن، وما رأيكم في الابتهالات الدينية تسبق أذان الفجر بقليل بمكبرات الصوت، وإذا قلت له: هذا أمر ليس له دليل، يقول لك: هذا عمل خير يوقظ الناس لصلاة الفجر. الجواب: لا نعلم دليلًا يدل على وقوع ذلك في عهد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا نعلم أحدًا من الصحابة عمل به، وكذلك الابتهالات التي تسبق الأذان للفجر بمكبرات الصوت فكانت بدعة وكل بدعة ضلالة، وقد ثبت أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (¬3) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/ 353) السؤال: أيحل أن يقوم قارئ في المسجد يوم الجمعة قبل أن يخرج الإمام فإذا خرج جلس هو فيخطب الخطب فيما بعد. أهو من أدب الجمعة وسننها أم هو من البدع المنكرة؟. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وبعد: الجواب: لا نعلم دليلًا يدل على قيام قارئ يقرأ يوم الجمعة قبيل دخول الإمام والناس يستمعون له فإذا دخل الإمام سكت القارئ والأصل في العبادات التوقيف وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". (¬4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/ 357). القراءة قبل صلاة الفجر بمكبرات الصوت السؤال: عندنا في صلاة الفجر قبل الصلاة يقرأ القرآن الكريم، ثم يذكر بعض الأدعية، ثم يؤذن للصلاة أهذا من السنة أم لا، وما الحكم في ذلك؟. الجواب: الاستمرار على ما ذكر من قراءة القرآن الكريم ثم بعض الأدعية قبل أذان صلاة الفجر ليس من السنة بل هو بدعة. وبالله التوفيق. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (2/ 386). تنبيه الإمام حتى ينتظر السؤال: نرى بعض الناس إذا دخل المسجد والإمام راكع تنحنح بقصد إسماع الإمام حتى ينتظر أو يقول: إن الله مع الصابرين، والسعي بسرعة حتى يدرك الركعة مع الإمام، فما حكم ذلك؟. الجواب: هذا العمل ينافي آداب الداخل إلى المسجد، فإن المسلم في هذه الحالة مأمور بأن يمشي إلى الصلاة بسكينة فما أدرك فليصل وما فاته فليتم كما في الحديث عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا أتيتم الصلاة فعليكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه (867)، وأحمد (3/ 310)، وابن ماجه برقم 36. (¬3) أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه في الأقضية (18 - 1718).

انتظار الإمام المأمومين في أثناء الركوع

بالسكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬1). وعنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬2). أما إحداث أعمال ما أنزل الله بها من سلطان فلا خير فيها، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. كما أن ذلك أيضًا يسبب تشويشًا على المصلين وقطعًا لخشوع الخاشع. فتاوى معاصرة، ابن جبرين ص 21. السؤال: أسمع من بعض الناس إذا دخل المسجد والإمام راكع يقولون: إن الله مع الصابرين، حتى يطيل الإمام في الركعة ليدركوها، هل هذا جائز؟ الجواب: هذا لا أصل له، ولم يكن في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولا من هديهم، وفيه أيضًا تشويش على المصلين الذين مع الإمام، والتشويش على المصلين منهيٌّ عنه: لأنه يلهيهم. خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات ليلة على أصحابه وهم يصلون ويرفعون أصواتهم بالقراءة، فنهاهم عن ذلك، وقال: "لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" (¬3) وفي حديث آخر: "لا يؤذين بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة" (¬4) وهذا يدل على أن كل ما يشوش على المأمومين في صلاتهم؛ فإنه منهي عنه؛ لما في ذلك من الإيذاء والحيلولة بين المصلي وبين صلاته. أما بالنسبة للإمام؛ فإن الفقهاء رحمهم الله يقولون: إذا أحس الإمام بداخل في الصلاة؛ فإنه ينبغي انتظاره، ولا سيما إذا كان في الركعة الأخيرة؛ لأن الركعة الأخيرة بها تدرك الجماعة؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬5) لكن إن شق على المأمومين فلا ينتظر؛ لأنهم أحق بالمراعاة من الداخل لسبقهم عليه. انتظار الإمام المأمومين في أثناء الركوع السؤال: هل يلزم الإمام الانتظار إذا سمعهم يجرون في أثناء الركوع، أو في نهاية التشهد الأخير؟. الجواب: الأفضل عدم العجلة، والأفضل أن يتأنى الإمام على وجه لا يشق على المأمومين، لأن مراعاة المأمومين الأولين أهم، فينبغي له أن يراعيهم لكن إذا تأنى قليلًا حتى يدرك القادم الركوع أو السجود أو التشهد مع الإمام، فهذا أفضل وأولى بالإمام. فتاوى إسلامية، ابن باز (1/ 218) المدخنة أمام المصلين السؤال: ما حكم وضع مدخنة البخور أمام المصلين في المسجد؟ الجواب: لا حرج في ذلك، ولا يدخل هذا فيما ذكره بعض الفقهاء من كراهة استقبال النار، فإن الذين قالوا بكراهة استقبال النار عللوا هذا بأنه يشبه المحوس في عبادتهم للنيران، فالمجوس لا يعبدون النار على هذا الوجه. وعلى هذا فلا حرج من وضع حامل البخور أمام المصلي، ولا من وضع الدفايات الكهربائية أمام المصلي أيضًا ولا سيما إذا كانت أمام المأمومين وحدهم دون الإمام. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 89، 90) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان (635)، ومسلم في المساجد (603). (¬2) أخرجه البخاري في الأذان (336)، ومسلم في المساجد (602). (¬3) مالك في الموطأ في الصلاة (29). (¬4) أبو داود في الصلاة (1332). (¬5) أخرجه البخاري في المواقيت (580)، ومسلم في المساجد (607).

الصلاة أمام المدفأة

الصلاة أمام المدفأة السؤال: ما حكم الصلاة أمام المدفأة؟. الجواب: هذه الآلة تستعمل لتدفئة الجو البارد، وتجعل في المنازل والمساجد، وأرى صحة الصلاة أمامها، فليست بالنار المشتعلة التي يعبدها المجوس، وإنما هي آلة تتوقد بالكهرباء أو الغاز ونحوه، وليس فيها الاشتعال المعروف. اللؤلؤ المكين: ابن جبرين، ص 103. معيار الإطالة والتخفيف في الصلاة .. السنة وليس الأهواء السؤال: شكا لي بعض المأمومين من أنني أطيل الوقوف بعد الرفع من الركوع؛ لأنني أقرأ الذكر الوارد كله بعد الرفع من الركوع .. ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه .. إلخ فهل هناك دعاء مختصر يقرأ بعد الرفع من الركوع حتى لا نشق على الناس .. ؟ الجواب: الواجب على الإمام وكل من أقيم على عمل من الأعمال أن يراعي جانب السنة فيه، وألا يخضع لأحد لمخالفة السنة، ولا بأس إذا دعت الضرورة والحاجة أحيانًا أن يخفف كما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل ذلك، أما في الأحوال الدائمة المستمرة فلزوم السنة هو مقتضى الإمامة. فكن ملازمًا لفعل السنة، وأخبر الناس أنهم إذا صبروا على هذا نالوا ثواب الصابرين على طاعة الله، ولو ترك التخفيف وعدمه إلى أهواء الناس لتفرقت الأمة شيعًا، ولكان الوسط عند قوم تطويلًا عند آخرين، فعليك بما جاء في السنة وهي معروفة ولله الحمد. ولهذا أنصح كل إمام يتولى إمامة المسلمين في المساجد أن يحرص على قراءة ما كتبه العلماء في صفة صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل كتاب الصلاة لابن القيم وهو كتاب معروف، وكذلك ما ذكره رحمه الله في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 90، 91) السؤال: نحن جماعة المسجد الكبير بجامعة الملك سعود، وجميعنا تقريبًا من الطلاب ونمر بظروف متقاربة من الدراسة والاختبارات، كثيرًا ما نختلف مع إمام الجامع في قضية إطالته القراءة في الصلاة وتخفيفها، فهل أمر التخفيف الذي دعت إليه السنة أمر نسبي، وما المقدار المناسب قراءته في كل صلاة، وبالأخص الصلوات الجهرية؟ الجواب: نعم التخفيف أمر نسبي، بالنظر إلى صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقراءة غيره، وما أرشد إليه في القراءة، وسبب النهي عن الإطالة قصة معاذ الذي كان يصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العشاء، وقد يؤخرون العشاء إلى نحو ثلاث ساعات أو ساعتين بعد الغروب، ثم يذهب إلى قومه في العوالى، ولا يصلي بهم إلا بعد ساعة. ثم أولئك الذين يجتمعون ويصلون معه غالبهم أهل عمل، في حروثهم وأشجارهم، ومن المعلوم أنهم يكونون قد تعبوا وسئموا طوال نهارهم، وكلت أبدانهم، فمن المشقة الإطالة عليهم، فمعاذ كان يطيل عليهم حتى إنه قرأ مرة سورة البقرة، فهم الذين رفعوا الأمر إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونهاه، وأمره أن يرفق بهم، وأن يقرأ بهم من أواسط المفصل إذا السماء انشقت وإذا السماء انفطرت وإذا الشمس كورت والسماء ذات البروج وسبح اسم ربك الأعلى (¬1) وما أشبهها، فكل ذلك مما لا حرج فيه لهذه المناسبة. أما التخفيف الزائد فإن ذلك من الخطأ، ولا دلالة في الحديث عليه، والدليل أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطيل كما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان (700، 701)، وانظر رقم (705، 711، 6106). ومسلم في الصلاة (465).

السنة تسوية الصفوف

قال أنس رضي الله عنه: "يأمر بالتخفيف ويؤمنا بالصافات". رواه النسائي عن أنس وهو صحيح. (¬1) ولا شك أن هذا يبين فعله، وفعله يبين قوله، أن قراءة سورة الصافات يعتبر تخفيفًا، فكأنه يأمر بالتخفيف حتى لا يقرأ مثلًا السور الطويلة كالنحل، ويوسف، والتوبة، وتكون سورة الصافات قراءة تخفيف. وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي بهم فيقرأ ما بين الستين إلى المائة آية في صلاة الفجر (¬2) أي من الآيات الوسطى، ليس من الآيات القصيرة. وذلك نحو سورة الأحزاب ثلاث وسبعون آية، وكذلك الفرقان، والنمل، والعنكبوت، وما أشبهها، فهذه السور هي التي ما بين المائة والستين، فإذا قرأها فإن هذه هي القراءة المعتادة، وإذا كان الناس لا يتحملون، رجع إلى طوال المفصل، ولا ينكر عليه إذا قرأ في صلاة الصبح من سورة ق إلى سورة المرسلات هذه هي القراءة الوسط، فلا ينكر على من اقتدى بهذه الأعمال. اللؤلؤ المكين، لابن جبرين، ص 119 - 120 السؤال: هل ثبتت عن النبي سنة في قيام المنتظر للصلاة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة؟ الجواب: في هذا حديث ضعيف هو أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا قال بلال: قد قامت الصلاة نهض وكبر. تكلم العلماء -رحمهم الله- على سنده والصحيح في القيام أنه عند رؤية الإمام داخلًا؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانت حجرته مُطِلةً على المسجد وكان بلال -رضي الله عنه- إذا رأى السترة أو الستار قد تحرك -سترة البيت- شرع في الإقامة. فذات يوم سمع بلال -رضي الله عنه- صوتًا من وراء الستر فظن أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أقبل فأقام الصلاة، فوقف الصحابة ينتظرون خروج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطال خروجه وطال عليهم حتى خرج وقال: "لا تقوموا حتى تروني" (¬3) فأخذ العلماء من هذا أصلًا: أنه يقام عند رؤية الإمام داخلًا إلى المسجد إذا كان دخوله للصلاة، ومن هنا إذا كان بيت الإمام ملتصقًا بالمسجد ودخول المسجد من الباب العام فالأفضل أن يكون دخوله على الصلاة، وإذا دخل وصلى ركعتين فإنه لا يقام لمجرد دخوله؛ إنما يراد الدخول الذي يقصد منه الشروع في الصلاة، فإن دخل وصلى ركعتي تحية فإنه لا يقام له؛ وإنما يقام إذا قصد إلى مكان الصلاة وأراد إقامة الصلاة فالأفضل والأكمل أن يقوم عند رؤية الإمام. أما ما عدا ذلك من حيث الإلزام فليس هناك أمر واجب، فلو أنك جلست وانتظرت حتى انتهى المؤذن من الإقامة ثم قمت فلا بأس لأن الأمر في هذا واسع، وقد قال الإمام مالك -رحمه الله- وغيره من أئمة السلف: إن الناس يختلفون؛ فيهم الكبير وفيهم المريض وفيهم السقيم وفيهم المشغول، فإذا تأخروا فإن الأمر يترك لهم على السعة، من قام عند رؤية الإمام فهو على سنة وخير، ومن تأخر لحاجة فإنه لا بأس، بذلك ما لم يفوت على نفسه فضيلة التكبير مع الإمام، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي السنة تسوية الصفوف السؤال: أرى بعض المصلين ممن يتأخر عن الصف قليلًا ومنهم من يضع يديه على صدره من الجانب الأيسر، فما حكم ذلك، وهل في أحد المذاهب ما ينص على ذلك؟. الجواب: السنة تسوية الصفوف، بل قال بعض العلماء إن تسوية الصف واجبة لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى رجلًا باديًا صدره قال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (¬4) وهذا وعيد، ولا وعيد إلا ¬

_ (¬1) النسائي في الإمامة (826)، وأحمد (4781، 4969، 6435). (¬2) أخرجه مسلم في الصلاة (461). (¬3) أخرجه البخاري (637)، ومسلم (603). (¬4) أخرجه البخاري في الأذان (717)، ومسلم في الصلاة (436).

استعمال السواك

على فعل محرم أو ترك واجب، والقول بوجوب تسوية الصفوف قول قويٌّ، وقد ترجم البخاري رحمه الله على ذلك بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف (¬1). وأما وضع اليد على الجانب الأيسر، فهذا لا أصل له، ولا أعلم له أساسًا لا في السنة ولا في كلام أهل العلم. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 91، 91) استعمال السواك السؤال: هل من السُّنة استعمال السواك قبل تكبيرة الإحرام؟ الجواب: هذه مسألة خلافية بين العلماء -رحمهم الله-: بعض أهل العلم يقول: السُّنة استخدام السواك بين الإقامة وتكبيرة الإحرام؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (¬2) فقالوا: هذا أصل يدل على مشروعية السواك عند الصلاة. ومن أهل العلم من قال: إنه لا يَستاك عند قرب تكبيرة الإحرام لخوف أن يدمي اللثة يعني يجرح لثته فيخرج منه الدم، والدم نجس في قول جماهير السلف والأئمة -رحمة الله عليهم- لقوله -تعالى-: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وقال -عليه الصلاة والسلام-: "اغسلي عنك الدم" (¬3) فقالوا: إن هذا ينجس نفسه. ومن أهل العلم من توسط وقال: إذا كان يغلب على ظنه أنه يحافظ وأنه لا يتضرر ولا يجرح ولا يدمي اللثة أو السواك من هذا النوع فلا بأس، وأما إذا غلب على ظنه أنه يدمي فإنه لا يفعله وهذا القول له وجه، وعلى كل حال إذا غلب على الظن أنه يدمي فالأشبه المنع منه، وأما إذا كان السواك رطبًا وطيبًا ويمكن أن يستاك به دون أن يتضرر فلا بأس بأن يستاك به ففي الصحيحين من حديث عائشة وحذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- يقول حذيفة بن اليمان كما في الصحيحين: كان رسول الله إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك (¬4). قيل إذا قام إلى الصلاة فهو أحد الأوجه في تفسير هذا الحديث وقالت أم المؤمنين عائشة كما في الصحيح: "كنا نُعد لرسول الله سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما شاء" (¬5) وكان -عليه الصلاة والسلام- يحب السواك، فعلى كل حال إذا غلب على ظنه أن لا يدمي أنه يستاك به، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي المسبوق منفرد فلا يسمح للمار بين يديه السؤال: معلوم أن سترة المأموم هي سترة إمامه، ولكن إذا سلم الإمام فهل تبقى السترة للمسبوقين أو لا بد من وجود سترة جديدة، فقد لاحظت أن بعض الناس يمر أمام المسبوق ولا يفعل له شيئًا .. فما الحكم في ذلك؟. الجواب: إذا سلم الإمام وقام المسبوق لقضاء ما فاته فإنه يكون في هذا القضاء منفردًا حقيقة، وعليه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان، باب (75) (2/ 245 فتح). (¬2) أخرجه البخاري (887)، ومسلم (252). (¬3) أخرجه الحميدي في مسنده (193)، والبيهقي في السنن (1/ 327). (¬4) أخرجه البخاري (246)، ومسلم (254). (¬5) أخرجه مسلم (746).

الإمام حسن الصوت ينشط المصلين

أن يمنع من يمر بين يديه، لأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك، وترك بعض الناس منع المار قد يكون عن جهل منهم بهذا، أو قد يكون عن تأويل حيث إنهم ظنوا أنهم لما أدركوا الجماعة صاروا بعد انفرادهم عن الإمام بحكم الذين خلف الإمام، لكن لا بد من منع المسبوق من يمرون بين يديه إذا قام لقضاء ما فاته. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 92) الإمام حسن الصوت ينشط المصلين السؤال: نشرف على عدد كبير من الطلبة في مقر سكنهم، وقد عملنا لهم برنامجًا خاصًا بالتوعية يتضمن دعوة أحد أئمة المساجد في البلد ممن عرفوا بحسن الصوت ليصلي بهم الفجر، حرصًا على التأثير فيهم بالقرآن، علمًا بأن إمام المسجد الراتب موافق على هذا العمل، فما الحكم الشرعي في ذلك؟ الجواب: الذي أرى أنه لا بأس في ذلك ولا حرج فيه، لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأعجبته وقال له: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود، قال: أو سمعت ذلك يا رسول الله؛ قال: "نعم"، قال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا" (¬1). فإذا كان هذا الإمام حسن الصوت مجيدًا للقراءة، ويحصل به تنشيط لهولاء الطلبة فإنه لا بأس بذلك، لا سيما وأن الإمام الراتب قد أذن بذلك، والإمام الراتب يشكر على إذنه بهذا مراعاة للمصلحة. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 107، 108) إمام لا يجيد قراءة القرآن السؤال: هل صحيح أنه إذا صلى بالناس من لا يجيد قراءة القرآن مع وجود من هو أحفظ منه فصلاتهم باطلة؟ الجواب: لا بد أن نعرف ما معنى قوله: لا يجيد قراءة القرآن، إن كان المعني أنه لا يجيدها على وجه جيد فالصلاة صحيحة. أما إذا كان لا يجيد القراءة ويلحن لحنًا يغير المعنى، ولا يقيم الكلمات، فنعم لا تصح الصلاة خلفه مع وجود قارئ مجيد للقرآن. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 108) حكم إمامة المرأة للنساء السؤال: ما حكم إمامة المرأة للنساء وأين يكون موقفها؟ الجواب: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: اختلف العلماء -رحمهم الله- في إمامة المرأة بالنساء: فذهب طائفة من العلماء إلى عدم جواز إمامة المرأة للنساء كما هو مذهب الحنفية، والمالكية -رحمهم الله-. وذهبت طائفة إلى جوازها وصحتها كما هو مذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وطائفة من أهل الحديث -رحمة الله عليهم-، والصحيح مذهب من قال بجوازها. والدليل على ذلك: أن أم ورقة الأنصارية -رضي الله عنها-امرأة كانت من فاضلات الصحابة وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكرمها ويحبها ويجلها- جاءت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسألته أن تخرج إلى الغزو فقال لها: "اجلسي في بيتك" فقالت: إني أريد الشهادة فقال لها: "أنت شهيدة" فسألته أن تؤم أهل دارها فأذن لها النبي أن تؤم أهل دارها، والحديث في سنن أبي داود (¬2) ومسند الإمام أحمد (¬3) وسنده صحيح، وصدقت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم مختصر في صلاة المسافرين (793). (¬2) أخرجه برقم (591). (¬3) أخرجه أحمد في المسند (6/ 405).

الصلاة خلف الحليق والمسبل

فيها معجزة النبي وأكرمها رسول الله بالإمامة فكانت تؤم أهل دارها -رضي الله عنها وأرضاها- حتى كانت خلافة عثمان -رضي الله عنه- فغضب عليها غلامان من مواليها وتحينوا فرصة نومها فقاموا عليها وغمّوها بالقطيفة حتى ماتت -رضي الله عنها وأرضاها- وصدقت فيها معجزة النبي؛ لأن هذا نوع من الشهادة لأنها قتلت ظلمًا -رضي الله عنها وأرضاها- فكانت تؤم أهل دارها وتصلي بهم فدل هذا على أن المرأة يصح أن تصير إمامًا بالنسبة للنساء مثلها، وأما الرجال فقد تقدم بيان حكم هذه المسألة وأنه لا تصلي المرأة بالرجال، وإذا صلت تقوم في وسط النساء وهذا محفوظ من فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- أنها تصلي وسطهم، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي الصلاة خلف الحليق والمسبل حكم إمامة المسبل السؤال: ما حكم الصلاة خلف الإمام حالق اللحية ومسبل الثوب؟ الجواب: إن حصل إمام أتقى لله منه فالصلاة خلفه أولى بلا شك، وإن لم يحصل أو دخلت مسجد جماعة وكان الذي يصلي بهم هو هذا الرجل الحليق أو المسبل فلا حرج أن تصلي خلفه لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الفاسق تصح إمامته وإن كان الأتقى أولى منه. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 108) الإطالة في الدعاء السؤال: بعض أئمة المساجد في رمضان يطيلون في الدعاء وبعضهم يقصر فما هو الصحيح؟. الجواب: الصحيح ألا يكون غلو ولا تقصير؛ فالإطالة التي تشق على الناس منهيٌّ عنها، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما بلغه أن معاذ بن جبل أطال الصلاة في قومه غضب عليه غضبًا لم يغضب في موعظة مثله قط، وقال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ أفتان أنت" (¬1) فالذي ينبغي أن يقتصر على الكلمات الواردة، أو يزيد. ولا شك في أن الإطالة شاقة على الناس وترهقهم، ولا سيما الضعفاء منهم، ومن الناس من يكون وراءه أعمال، ولا يحب أن ينصرف قبل الإمام ويشق عليه أن يبقى مع الإمام، فنصيحتي لإخواني الأئمة أن يكونوا بين بين، كذلك ينبغي أن يترك الدعاء أحيانًا حتى لا يظن العامة أن الدعاء واجب. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 198، 199) تتبع الأئمة السؤال: ما حكم تتبع الأئمة الذين في أصواتهم جمال؟. الجواب: أرى أنه لا بأس في ذلك، لكن الأفضل أن يصلي الإنسان في مسجده لأجل أن يجتمع الناس حول إمامهم وفي مساجدهم، ولأجل ألا تخلو المساجد من الناس، ولأجل ألا يكثر الزحام عند المسجد الذي تكون قراءة إمامه جيدة فيحدث من هذا ارتباك، وربما يحدث أمر مكروه .. ربما يأتي إنسان يتلقف امرأة خرجت من هذا المسجد الذي فيه النساء كثيرة، ومع كثرة الناس والزحام ربما يخطفها وهي لا تشعر إلا بعد مسافة، ولهذا نحن نرى أن الإنسان يبقى في مسجده لما في ذلك من حماية المسجد وإقامة الجماعة فيه، واجتماع الجماعة على إمامهم والسلامة من الزحام والمشقة. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 200) تقليد القراءة في صلاة التراويح السؤال: بعض أئمة المساجد في صلاة التراويح يقلدون قراءة غيرهم وذلك لتحسين أصواتهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب (6106)، ومسلم في الصلاة (465).

تغيير الصوت في دعاء القنوت

بالقرآن .. فهل هذا عمل مشروع وجائز. الجواب: تحسين الصوت بالقرآن أمر مشروع، أمر به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، واستمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذات ليلة إلى قراءة أبي موسى الأشعري وأعجبته قراءته حتى قال له: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود". (¬1) وعلى هذا فإذا قلد إمام المسجد شخصًا حسن الصوت والقراءة من أجل أن يحسن صوته وقراءته لكتاب الله عز وجل فإن هذا أمر مشروع لذاته، ومشروع لغيره أيضًا؛ لأن فيه تنشيطًا للمصلين خلفه، وسببًا لحضور قلوبهم واستماعهم وإنصاتهم للقراءة. وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 201) تغيير الصوت في دعاء القنوت السؤال بعض أئمة المساجد يحاول ترقيق قلوب الناس والتأثير فيهم بتغيير نبرة صوته أحيانًا، في أثناء صلاة التراويح وفي دعاء القنوت، وقد سمعت بعض الناس ينكر ذلك، فما قولكم حفظكم الله في هذا؟. الجواب: الذي أرى أنه إذا كان هذا العمل في الحدود الشرعية بدون غلو فإنه لا بأس به ولا حرج فيه. ولهذا قال أبو موسى الأشعري للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لو كنت أعلم أنك تستمع إلى قراءتي لحبرته لك تحبيرًا" (¬2) أي حسنتها وزينتها. فإذا حسن بعض الناس صوته، أو أتى به على صفة ترقق القلوب، فلا أرى في ذلك بأسًا، لكن الغلو في هذا لكونه لا يتعدى كلمة في القرآن إلا فعل مثل هذا الفعل الذي ذكر في السؤال: أرى أن هذا من باب الغلو ولا ينبغي فعله. والعلم عند الله. كتاب الدعوة (5)، ابن عثيمين (2/ 199) دعاء الاستخارة .. متى يكون؟ السؤال: الدعاء في صلاة الاستخارة والحاجة والاستسقاء أهو بعد التسليم أم في التشهد أم في السجود أم كل ذلك جائز؟. الجواب: بعد أن تصلي ركعتين وتسلم منهما تشرع في دعاء الاستخارة وترفع يديك وتدعو بما ورد، أما صلاة الحاجة فالحديث فيها مشهور ولكن لا بأس بها، والدعاء فيها أيضًا بعد السلام لقصة أبي موسى، ودعاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأخيه بعد أن صلى ركعتين، أما الاستسقاء فإنه يصلي ركعتين ثم يخطب قائمًا خطبة واحدة يدعو في آخرها بما تيسر. فتاوى المرأة، ابن جبرين، ص 34 دق جرس الباب وأنا في الصلاة السؤال: إذا كنت أصلي ودق الجرس ولا يوجد في البيت غيري فماذا أفعل؟ الجواب: إذا كانت الصلاة نافلة فالأمر فيها واسع لا مانع من قطعها ومعرفة من يطرق الباب، أما في الفريضة فلا ينبغي التعجل إلا إذا كان هناك شيء مهم يخشى فواته، وإذا أمكن التنبيه بالتسبيح من الرجل أو بالتصفيق من المرأة حتى يعلم الذي عند الباب أن الذي بداخل البيت مشغول بالصلاة كفى ذلك، كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (793). (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (6318)، وفي إسناده خالد بن نافع الأشعري وهو ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري في العمل في الصلاة (1218)، ومسلم في الصلاة (421).

أتمم ما نسيت ما دام الوقت قصيرا

فإذا أمكن إشعار الطارق بأن الرجل في الصلاة بالتسبيح أو المرأة بالتصفيق فعل ذلك، فإن كان هذا لا ينفع للبعد وعدم سماعه فلا بأس أن يقطعها للحاجة خاصة النافلة، أما الفرض فإذا كان يخشى أن الطارق لشيء مهم فلا بأس أيضًا بالقطع ثم يعيدها من أولها. والحمد لله. فتاوى المرأة، ابن باز، ص 59، 60 أتمم ما نسيت ما دام الوقت قصيرًا السؤال: صليت الظهر، وبعد ذلك تذكرت أني صليت ثلاث ركعات فقط، هل أصلي الرابعة وأسجد للسهو، أو أعيد الصلاة كاملة؟. الجواب: متى ترك المصلي ركعة من صلاته أو أكثر، ثم تذكر وهو في مصلاه أو في المسجد بعد وقت قصير كخمس دقائق ونحوها فإنه يكمل الصلاة فيأتي بما ترك، ثم يسلم ثم يسجد للسهو ثم يسلم أيضًا، فإن لم يتذكر إلا بعد طول الفصل كنصف ساعة أو بعد الخروج من المسجد وطول المدة فإنه يعيد الصلاة كلها ويلغي الأولى لعدم الموالاة بين الركعات. فتاوى المرأة، ابن جبرين، ص 71 متابعة الإمام السؤال: ما معنى متابعة الإمام ومسابقته؟. الجواب: المتابعة أن تنتظر الإمام حتى يتم انتقاله وينقطع صوته بالتكبير ثم تتبعه، فإذا كبر للركوع تبقى قائمًا حتى يفرغ من التكبير ويتم ركوعه ثم تنحني راكعًا فإذا رفع بقيت حتى يستتم قائمًا ويفرغ من التسميع، ثم ترفع بعده، وهكذا بقية الأركان، أما المسابقة فهي أن تركع قبل الإمام أو تسجد قبله، أو تبدأ بالحركة قبل حركته، وهي تبطل الصلاة أو تنقصها. اللؤلؤ المكين، ابن جبرين ص 103 السترة أمام المصلي السؤال: ما حكم اتخاذ السترة في الصلاة، وهل يلزم من كان في الصف الثاني اتخاذ سترة؟. الجواب: السترة في الإصطلاح هي ستر العورة التي من السرة إلى الركبة في حق الرجال، وجميع بدن المرأة، وهي شرط من شروط الصلاة، ولا تصح صلاة من قدر على السترة فصلى عريانًا، أو بدا شيء من عورته، فإن فإن عاجزًا عن تحصيلها جاز، واختير أن يصلي جالسًا، فإن وجد السترة في الصلاة ستر بها وبنى. وأما السترة التي هي الشاخص أمام المصلي فهي سنة، وليست بواجبة، وذلك أن يصلي إلى سارية أو جدار، أو شيء مرتفع عن الأرض كسرير أو كرسي، فإن لم يجد فليخط خطًا كالهلال، وذلك في حق الإمام والمنفرد، وتتأكد في الصحراء كمصلى العيد، وفي السفر. فأما في المساجد فالأصل عدم الحاجة، والاكتفاء، بحيطان المسجد المحيطة به من كل جانب، وقد يكفي السجاد الذي فيه خطوط ممتدة في الصفوف، أو يكتفى بطرف السجادة التي يصلي عليها، وليس هناك ما يدل على الوجوب. وقد ورد في الحديث الذي في السنن بلفظ "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن" (¬1) وفي حديث آخر "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان" (¬2) والله أعلم. اللؤلؤ المكين، ابن جبرين ص 90 ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الصلاة، (695)، والنسائي (2/ 62، 63). (¬2) أخرجه البخاري في الصلاة (509)، ومسلم في الصلاة (505).

الصلاة في الثوب الذي فيه صور

الصلاة في الثوب الذي فيه صور السؤال: ما حكم الصلاة في الثوب الذي فيه صور؟. الجواب: لا تجوز إذا كانت ظاهرة واضحة، وعلى من وجدها في الثوب أن يغسلها، أو يمحوها، أو يطمس الوجه بالمزيل أو البوية ونحوها، وهكذا الصليب أو الكتابة باللغة الأجنبية، ونحو ذلك مما يشغل البال، أو يدخل في المنع. اللؤلؤ المكين، ابن جبرين، ص 114 صلاة الجماعة وتأخير الصلاة السؤال: رجل لا يحضر من أعماله إلا قبيل صلاة العصر، وعندما يحضر ويطلب الغداء يكون جائعًا، ويؤدي صلاة العصر، وقد تفوته الصلاة مع الجماعة فما الحكم؟ وما حكم من أخر الصلاة حتى خروج وقتها؟. الجواب: في هذه الأزمنة، وفي المملكة السعودية أرى أن الجوع الشديد لا يوجد، كما كان من قبل، فلا يكون الأكل عذرًا في تأخير الصلاة مع الجماعة، بخلاف ما كانت عليه الحال قبل ستين عامًا، وما عليه الحال في كثير من البلاد التي تلاقي الفقر والفاقة، وقد مستهم البأساء والضراء فقد كانوا يعملون طوال النهار في الحفر ونقل التراب، وصعود المرتفعات كالنخيل والجبال، والمشى على الأقدام خمس أو ست ساعات متوالية، وبدون استراحة، ففي تلك الأزمنة يشتاقون إلى الطعام، وينشغلون عن الصلاة بالحديث عنه، لذلك ورد الحديث بقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان". (¬1) فأما الآن فالغالب أن العامل يتناول الأكل أول النهار ما يسمى فطورًا، وفي العمل يجلس على كرسي ولا يزاوله إلا نادرًا، وفي الذهاب والإياب يمتطي سيارة مريحة، لا يحس مع الركوب بتعب ولا جوع، فأرى أن عليه أن يبدأ بالصلاة مع الجماعة إن خشي أن تفوته الصلاة فإن قدر أن اشتد به الجوع وخاف إن ذهب للصلاة أن ينشغل قلبه في صلاته، أو كان الطعام قليلًا وخشي أن يأكله أهله ويبيت هو طاويًا، فله أن يؤخر الصلاة ولو فاتته الجماعة، ولا يجوز تعمد تأخير الصلاة عن وقتها أو عن جماعتها بلا عذر مسوغ، والله أعلم. اللؤلؤ المكين، ابن جبرين، ص 114، 115 الصلاة الجهرية والأذان للمنفرد السؤال: الصلوات الجهرية: المغرب، العشاء، الفجر، مثلًا المصلي منفردًا في بيته أو في مكان آخر، هل الأفضل له أن يجهر بالفاتحة والسور الأخرى في الركعتين الأوليين، أو يقرأ ذلك سرًا. كذلك هل للمصلي منفردًا أو معه واحد أو اثنان مثلًا أن يؤذن ويقيم عند حضور الصلاة في السفر أو الحضر، عند فوات الصلاة مع الجماعة أو إذا كانت المساجد بعيدة عنهم. أفيدونا جزاكم الله خيرًا. الجواب: لا حاجة للمنفرد أن يجهر بالقراءة، لأن القصد أن يسمع نفسه ويتلفظ بالقراءة، وسواء في صلاة الليل أو النهار، وإنما يشرع الجهر للإمام ليسمع المأمومين، ويستفيدوا من سماع القرآن، فكثيرًا ما يكون فيهم الجهلة والأميون، فمع تكرار سماع القرآن يفهمون كلام الله، ويحفظون منه ما تيسر، وخص الليل بالجهر لأنه وقت الفراغ، وانقطاع الأشغال، وراحة القلب وتقبله. فأما الأذان فلا يشرع إلا في المساجد العامة التي يعين فيها إمام ومؤذن، ويشرع لمن يصلي في خارج البلد، كالمسافر، والراعي الذي لا يسمع الأذان، فأما من يصلي في داخل البلد كالمعذور في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الصلاة.

لا صلاة لمنفرد خلف الصف

المنزل، ومن فاتته الصلاة فلا داعي لأذانه. اللؤلؤ المكين من فتاوى الشيخ ابن جبرين، ص 124 لا صلاة لمنفرد خلف الصف السؤال: إذا دخلت المسجد للصلاة، ولا يوجد مكان في الصف الأول، هل أصلي وحدي منفردًا خلف المصلين؟ أو أقوم بسحب أحد المصلين في الصف الأول، لأننا سمعنا أنه لا تجوز صلاة المنفرد خلف المصلين. الجواب: عليك الحرص على التقدم لتحصل على فضيلة الصف الأول، فإذا دخلت بعد الإقامة والصف قد كمل، فحاول أن تجد فرجة بين اثنين ولو بتقريب أحدهما من الآخر حتى يتسع المكان، فإن كان الصف متراصًا لا توجد هناك فرجة، فحاول أن يتأخر معك أحدهم، لكن لا تسحبه بقوة، بل عليك أن تكلمه بخفة، أو نحنحة، أو وضع يدك على منكبه، فإذا تأخر معك فله أجر، فقد ورد في الحديث: "لينوا بأيدي إخوانكم" (¬1) فإن امتنع ولم تجد غيره، فحاول أن تخرق الصف، وتقف بجانب الإمام عن يمينه، فإن كثرت الصفوف وصعب تخللها كلها وصليت وحدك فجاءك أحد قبل السجود، صحت صلاتك، وقد تجزئ مطلقًا إذا لم تستطع شيئًا مما ذكرنا، وتصح للضرورة إن شاء الله تعالى لقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. فتاوى إسلامية، ابن جبرين، (1/ 175) الائتمام بالمنفرد السؤال: هل يجوز الدخول في الصلاة مع مصل واحد قد أقام الصلاة وحده. الجواب: نعم يجوز ذلك لما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنه -، قال: بت عند خالتي فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي من الليل فقمت أصلي معه فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه. (¬2) والأصل في مثل هذا أنه لا فرق بين النافلة والفريضة. فتاوى إسلامية، اللجنة الدائمة، (1/ 178) الائتمام بالمنفرد أيضًا السؤال: وقفت أصلي منفردًا في الفريضة، وجاء آخر، فأتم بي. فما حكم تحول النية من المنفرد إلى الإمام في الصلاة؟. الجواب: تغير النية من منفرد إلى إمام في الصلاة، وعلى النحو الذي ذكرت، يجوز، لما ثبت في الصحيحين، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: "بت عند خالتي فقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي من الليل فقمت أصلي معه فقمت عن يساره فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه" (¬3) كما يجوز تحول المأموم إلى منفرد، والإمام إذا دعت الحاجة. فتاوى إسلامية، ابن باز (1/ 178) جلسة الاستراحة ليست واجبة السؤال: هل جلسة الاستراحة عند القيام من الركعة الأولى للثانية، والقيام من الثالثة للرابعة في الصلاة واجبة؟ أو سنة مؤكدة؟. الجواب: اتفق العلماء على أن جلوس المصلي بعد رفعه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والثالثة وقبل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الصلاة (666)، وأحمد (2/ 98). (¬2) أخرجه البخاري في الأذان (699)، ومسلم في صلاة المسافرين (763). (¬3) أخرجه البخاري في الأذان (699)، ومسلم في صلاة المسافرين (763).

الإسراع والركض لإدراك الصلاة

نهوضه لما بعدها ليس من واجبات الصلاة، ولا من سننها المؤكدة، ثم اختلفوا بعد ذلك هل هو سنة فقط أو ليس من واجبات الصلاة أصلًا؟ أو يفعلها من احتاج إليها لضعف من كبر سن أو مرض أو ثقل بدن. فقال الشافعي وجماعة من أهل الحديث: إنها سنة وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، لما رواه البخاري، وغيره من أصحاب السنن عن مالك بن الحويرث: "أنه رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا". (¬1) ولم يرها أكثر العلماء، منهم أبو حنيفة ومالك وهي الرواية الأخرى عن أحمد رحمهم الله لخلو الأحاديث الأخرى عن ذكر هذه الجلسة، واحتمال أن يكون ما ذكر في حديث مالك بن الحويرث من الجلوس كان في آخر حياته عندما ثقل بدنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو لسبب آخر. وجمعت طائفة ثالثة بين الأحاديث بحمل جلوسه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حالة الحاجة إليه فقالت: إنها مشروعة عند الحاجة دون غيرها، والذي يظهر هو أنها مستحبة مطلقًا، وعدم ذكرها في الأحاديث الأخرى لا يدل على عدم استحبابها، بل يدل ذلك على عدم وجوبها. ويؤيد القول باستحبابها أمران: أحدهما: أن الأصل في فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أنه كان يفعلها تشريعًا ليقتدي به. والأمر الثاني: في ثبوت هذه الجلسة في حديث أبي حميد الساعدي الذي رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، وفيه أنه وصف صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عشرة من الصحابة رضي الله عنهم فصدقوه في ذلك. (¬2) فتاوى إسلامية، اللجنة الدائمة، (1/ 268، 269) الإسراع والركض لإدراك الصلاة السؤال: كثير من المسلمين يحرصون على ألا يفوتهم من الصلاة شيء، فإذا أقبلوا على المسجد، وسمعوا الإمام يصلي، أخذوا يجرون ويسرعون إلى المسجد، لإدراك الصلاة، فما حكم هذا العمل. أو هذه الظاهرة؟. الجواب: الإسراع والركض أمر مكروه، لا ينبغي، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة فما أدركتم فصلوا ما فاتكم فأتموا" (¬3). واللفظ الآخر: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا ومما فاتكم فأتموا" (¬4) والسنة أنه يأتيها ماشيًا خاشعًا غير عاجل. متأنيًا يمشي مشي العادة بخشوع وطمأنينة حتى يصل إلى الصف، هذا هو السنة. فتاوى إسلامية، ابن باز (1/ 218، 219) من أين يبدأ الصف السؤال: الصف في الصلاة من أين يبدأ؟ هل يبدأ من خلف الإمام من أقصى اليمين .. ؟ الجواب: يبدأ الصف الأول في الصلاة من خلف الإمام ممتدًا إلى اليمين وإلى الشمال لا من أقصى اليمين كما في السؤال، وهكذا الصف الثاني فما بعده. فتاوى إسلامية، اللجنة الدائمة، (2/ 223) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأذان (818). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 424)، ومن طريقه أبو داود في الصلاة (730). (¬3) أخرجه البخاري في الأذان (635)، ومسلم في المساجد (603). (¬4) أخرجه البخاري في الأذان (363)، ومسلم في المساجد (602).

المسافر لمدة سنتين هل يقصر الصلاة؟

المسافر لمدة سنتين هل يقصر الصلاة؟ السؤال: حدث نقاش بيني وبين أحد زملائي العرب في قصر الصلاة ونحن في أمريكا، وربما نمكث فيها سنتين، فأنا أكمل الصلاة كأني في بلدي، وزميلي يقصر الصلاة لاعتباره نفسه مسافرًا، ولو طالت المدة إلى السنتين. فنأمل بيان حكم قصر الصلاة بالنسبة لنا مع الدليل؟. الجواب: الأصل أن المسافر بالفعل هو الذي رخص له في قصر الرباعية لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ولقول يعلي بن أمية قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. "ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، فقال: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". (¬1) ويعتبر في حكم المسافر بالفعل من أقام أربعة أيام بلياليها فأقل، لما ثبت من حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهم، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدم مكة لصبح رابعة من ذي الحجة في حجة الوداع (¬2) فأقام -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح اليوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع النية على إقامتها كما هو معلوم، فكل من كان مسافرًا ونوى أن يقيم مدة مثل المدة التي أقامها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أقل منها، قصر الصلاة، ومن نوى الإقامة أكثر من ذلك أتم الصلاة، لأنه ليس في حكم المسافر. أما من أقام في سفره أكثر من أربعة أيام ولم يجمع النية على الإقامة، بل عزم على أنه متى قضيت حاجته، رجع كمن يقيم بكان الجهاد لعدو، أو حبسه سلطان ومرض، أو قوة عدو، أو سلطان أو وجود آبق، أو بيع بضاعة أو نحو ذلك، فإنه بمكة عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، (¬3) وأقام بتبوك عشرين يومًا لجهاد النصارى، وهو يصلي بأصحابه صلاة قصر، (¬4) لكونه لم يجمع نية الإقامة، بل كان على نية السفر إذا قضيت حاجته. فتاوى إسلامية، اللجنة الدائمة (1/ 274) حكم من مات وهو تارك للصلاة والصوم السؤال: تقول السائلة: لي ابن يبلغ السابعة عشرة من عمره توفي قبل شهرين في حادث سيارة لم يكن له أي ذنب فيه، وكان ابني لا يصلي ولا يصوم شهر رمضان فهل يجوز لي أنا والدته وإخوته قضاء شهر رمضان عنه؟ وهل يثاب إذا صمت عنه يوم عاشوراء أو يوم عرفة أو يوم الاثنين والخميس؟ وأنا أيضًا أصلي له أربع ركعات قبل صلاة الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر؟. الجواب: إن الشخص إذا مات وهو لا يصلي ولا يصوم لا يعتبر مسلمًا لأن من ترك الصلاة متعمدًا كافر، لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (¬5)، فإذا مات على هذه الحالة ولم يتب إلى الله عز وجل فإنه لا يجوز الاستغفار له والدعاء له، وأما ما تفعلينه عنه من الصلوات فإنه لا ينفعه ولو كان مسلمًا لأن الصلاة لا تدخلها النيابة. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم: 20155 في 20/ 10/1419 هـ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في المسافرين (686). (¬2) أخرجه البخاري (1085). (¬3) أخرجه البخاري (1080). (¬4) أخرجه أحمد (3/ 295)، وأبو داود (1234)، وعبد بن حميد (1139). (¬5) أخرجه مسلم (82).

مراعاة ترتيب السور عند القراءة

مراعاة ترتيب السور عند القراءة السؤال: ما حكم من يقرأ السور في الصلاة منكسة ولا يراعي ترتيب السور الموجود في المصاحف فيقرأ في الركعة بعد الفاتحة سورة الناس وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة سورة الفلق؟ الجواب: ذهب أكثر العلماء إلى أن ترتيب سور القرآن كان بالاجتهاد واستدلوا بأن مصاحف الصحابة اختلف ترتيبها وبما في الصحيح أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرأ في التهجد سورة البقرة ثم النساء ثم آل عمران فعلى هذا القول لا ينكر على من قدم سورة على سورة سواء في ركعة أو ركعتين أو في التلاوة المطلقة ومع ذلك فقد أجمع المسلمون بعد عهد الصحابة على التمشي على الترتيب الموجود في المصاحف وكراهة التنكيس لها. الفتوى للشيخ عبد الله بن جبرين عليها توقيعه السؤال: هل يأثم من فعل هذا المكروه وهو قراءة السور منكسة بدون ترتيب أثناء صلاته؟ الجواب: نعم حيث إنه خالف ترتيب مصاحف المسلمين وخالف القراءة والمصلين في جميع البلاد الإسلامية لكن إن كان ذلك نادرًا أو فعله لبيان الجواز أو نسيانًا أو جهلًا بالحكم أو كانت السورة المتقدمة أطول من التي بعدها كقراءة سورة القدر بعد سورة البينة ونحو ذلك فيعذر بهذا الاجتهاد. الفتوى للشيخ عبد الله بن جبرين عليها توقيعه فعل المكروه وحكم فاعله السؤال: هل فعل المكروه لا يأثم به فاعله ويعاقب عليه على الإطلاق في كل من ارتكب مكروهًا أم ماذا؟ الجواب: ذكر العلماء أن المكروه هو ما يثاب تاركه احتسابًا ولا يعاقب فاعله فالمكروهات هي التي نهى الله عنها ورسوله ولكن النهي لا يصل إلى حد التحريم الذي يمنع منه منعًا باتًا فجعل النهي للكراهة فمن فعل المكروه فإنه لا يعاقب عقوبة فاعل الحرام لكن الإصرار على المكروهات وكثرة انتهاك المنهيات والتهاون بها يؤدي إلى رفض الأوامر والنواهي الشرعية وذلك مما يدل على عدم الاحترام للأدلة والتقيد بما ورد عليه نص فمع الكثرة والاستمرار قد يستحق العقاب إلا أن يعفو الله تعالى. الفتوى للشيخ عبد الله بن جبرين عليها توقيعه الصلاة جماعة في مبنى منفصل عن الإمام السؤال: نفيدكم بأننا نصلي في جامع يزدحم فيه المصلون ولا يكفيهم مما اضطرنا إلى إقامة مبنى منفصل (-بمحاذاته- على بعد متر تقريبًا) حتى يستوعب جميع المصلين. هل تجوز صلاة المصلين علمًا بأنهم يصلون خلف الإمام ويسمعون صوته بالمكرفون ولكنهم لا يرونه؟ أفيدونا حفظكم الله.؟ الجواب: إذا ضاق المسجد بالمصلين جاز للباقين أن يخرجوا ويصلوا خارج المسجد بشرط أن لا يكونوا أمام الإمام بل عند جانبيه أو خلفه ولو لم يروا الإمام ولو لم يروا من خلفه للحاجز وهو حيطان المسجد وإذا حصل بينهم وبين المصلين رصيف أو حائط أو بناية لم يضر ذلك إذا سمعوا صوت الإمام ولو بواسطة المكبر. الفتوى للشيخ عبد الله بن جبرين عليها توقيعه ترك النساء الصلاة بحجة العذر كذبًا السؤال: في المدارس يلزمون الفتيات بالصلاة جماعة ويسمحون للفتيات اللاتي عليهن الدورة الشهرية بالجلوس في مكان خاص ولا يشهدن الصلاة فبعض الفتيات هداهن الله يكذبن على المشرفات

رد السلام أثناء الخطبة

فيدعين أن عليهن الدورة لتسمح لهن المشرفات بعدم الصلاة جماعة والجلوس مع زميلاتهن، وبذلك يتركن الصلاة فترة تساوي الفترة التي تحضرهن فيها الدورة، فإذا جاءتهن الدورة حقيقة أخفين الأمر خشية أن يفتضح أمرهن فيقمن بالصلاة مع الجماعة وهن حيض، علمًا أنهن يفعلن ذلك خوفًا من العقوبة أو الفضيحة بين مدرساتهن وأهليهن، فما الحكم في حقهن آمل بيان ذلك يحفظكم الله. الجواب: هذا الفعل منهن لا يجوز؛ لما فيه أولًا: من الكذب الصريح بادعائهن العذر. وثانيًا: بتركهن الصلاة إما تركًا كليًا وإما تأخيرًا لها عن وقتها أو عن جماعة النساء، وثالثًا: صلاتهن بعد ذلك وقت الدورة الحقيقية، فعليكن النصح لهن وتذكيرهن ووعظهن وبيان إثم الكذب وعقوبة تأخير الصلاة عن وقتها لقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5]، ومن عثر عليها تؤخر الصلاة أو تصلي وهي حائض فلا بد من عقوبتها بما يحصل به الانزجار وترك هذه الأفعال التي ينكرها الإسلام، والله أعلم. قاله وأملاه عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين في 25/ 6/1421 هـ. رد السلام أثناء الخطبة السؤال: هل يجوز أن يرد السلام أثناء الخطبة يوم الجمعة وتشميت العاطس وذلك بين المأمومين؟ الجواب: أثناء الخطبة طبعًا لا يشتغل، لا برد السلام ولا بتشميت العاطس على أصح قولي العلماء. والدليل على ذلك: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الحديث الصحيح: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت" (¬1) فبين -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنك لو تكلمت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب عليك وهو أيضًا لمصلحتك؛ لأنه إذا سكت أعانك على سماع الخطبة ومع هذا قال: "فقد لغوت ومن لغا فلا جمعة له" يعني لا جمعة كاملة، وهذا يدل على أنه لا يشتغل بأي شيء غير سماع الخطبة ولا يجوز تشميت العاطس ولا رد السلام بالقول، ولكن بالإشارة أجاز بعض العلماء قالوا: إنك إذا رأيت شخصًا يتكلم تقول له بالإشارة هكذا تشير بأصبعك، ولكن هذا استشكله بعض مشايخنا؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا قلت لصاحبك أنصت" والعرب تعبر بالقول والفعل، ولذلك جعل قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إذا قلت لصاحبك" شامل إذا قلت قولًا أو قلت بالفعل، ولذلك قال الصحابي: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "بيده .. " يقال: قال بيده إذا حركها، ومنه قولهم: امتلأ الحوض فقال: قطني مهلًا رويدًا قد ملأت بطني، الحوض لا يتكلم فقال: قطني أي أنه بالفعل حينما تنظر إليه تعلم أنه قد وصل إلى حد التمام والكمال فيقال: قال، إذا علم، وقال بيده يعني أشار بها وقال: براحلته وقال: بسلاحه. وكل هذا بمعنى أنه حرك، ويطلقون القول على الفعل، وبناءً على ذلك فالاحتياط فيه أفضل وهو أن الإنسان لا ينشغل بشيء ألبتة، والله -تعالى- أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي إذا صلى الإمام وهو جنب السؤال: ما حكم صلاة المأمومين إذا أخبرهم الإمام أنه صلى بهم وهو جنب؟ الجواب: إذا صلى المأموم وراء إمام لم يعلم بحدثه، أو لم يعلم بوجود النجاسة في ثوبه، أو بدنه، أو مكانه فإن كان علمه بعد انتهاء الصلاة صحت صلاة المأمومين ولزم الإمام أن يعيد. أما الدليل على ذلك: فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال -كما في الصحيح- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-: "يصلون لكم -أي الأئمة- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851).

وعليهم" (¬1) أي: لكم صلاتكم تامة ما دام أنها تمت بأركانها وشرائطها وواجباتها، وعليهم خطؤهم فيعيدون الصلاة إذا قصروا، وبناءً على ذلك قال جمهور العلماء خلافًا للحنفية -رحمهم الله-: إنه لو صلى إمام بقوم وهو ناس لحدثه ولم يعلم المأمومون أنه محدث ولم يعلموا إلا بعد انتهاء الصلاة فإنه لا تلزمهم الإعادة. واستحب بعض السلف أن يعيدوا داخل الوقت، ولكن ليس على سبيل الإلزام، وإنما على سبيل الاستحباب إذا بلغهم الخبر قبل خروج الوقت، وقد حفظ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى الإمام مالك في موطئه (¬2) "أنه صلى بالناس الفجر ثم خرج إلى مزرعة له بـ (الجرف) فلما جلس على الساقية وهي القنطرة وهذا بعد طلوع الشمس وبعد انتهاء الصلاة وصلاة الناس نظر إلى فخذه فرأى أثر الاحتلام حتى لم يشعر أنه كان محتلمًا، فلما نظر إلى الاحتلام قال: ما أرني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت إنَّا إذا أصبنا الودك لانت العروق" ثم قام فاغتسل فأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة. ولكن الحنفية استدلوا بحديث ضعيف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أمرهم بالإعادة. وهذا حديث ضعيف. وقالوا: إنهم يؤمرون بالإعادة؛ لأن صلاة المأموم مبنية على صلاة الإمام، وكل ما ذكروه من الحجج العقلية النظرية فإنها لا تقوى على معارضة المنقول المأثور عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالعمل على أن صلاة المأموم صحيحة، لكن لو أحدث الإمام أثناء الصلاة؟ أو رأيت إمامًا أحدث، ثم بعد الحدث مباشرة نسي وجاء وكبر وأنت تعلم أنه لم يتطهر لم يجز لك أن تصلي وراءه، فإن صليت وراءه عالمًا أنه محدث بطلت صلاتك ولزمتك الإعادة وهذا وجه واحد عند أهل العلم -رحمهم الله- أنه لا يجوز الائتمام بالإمام المحدث حدثًا أصغر أو أكبر، وكذلك لو رأيت النجاسة على ثوبه، أو بدنه، أو مكانه، فإن أمكنك أن تريه النجاسة حتى يتنبه لها، فإنه يلزمك ذلك فإن أمكنه أن يغسلها دون حدوث انحراف عن القبلة ولا عمل كثير فحينئذ يبني وتبقى إمام وتبني صلاته على صلاتك وينفصل للعذر. وأما إذا لم يمكن ذلك فإنك إذا رأيت النجاسة على بدنه، أو ثوبه، أو أحدث أثناء الصلاة ولم يمكنك تنبيهه تنوي مفارقته يعني تنوي أنك منفرد، فلو رأيتها بعد ركعتين تتم الركعتين الباقيتين ناويًا أنك منفرد، وإذا خشيت الانزعاج مع الجماعة، أو أنهم يلتفتون إليك بشذوذك عنهم فإنك تنوي أنك منفرد، فإذا كبر للركوع كبرت للركوع لنفسك فتصحبه في الأفعال وفاقًا ظاهرًا لا وفاقًا باطنًا، والله تعالى أعلم. موسوعة الفتاوى الإسلامية، الشيخ محمد مختار الشنقيطي * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه (694). (¬2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1/ 49).

§1/1