الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور

ابن الأثير، ضياء الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبدي النعم، أولاً وآخراً، مسدي الولاء باطنا وظاهراً، الذي فطر الإنسان بحكمته ولطفه، وركب فيه آلة النطق فبلغ به كمال وصفه، فكان ذلك عليه من أتم الإحسان، الذي تميز به عن جميع أصناف الحيوان، ولولا فضله لما ورد في القرآن المجيد، مقرونا بالإخراج من العدم إلى الوجود، فقال تعالى: (الرحمن علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان) نحمده على ترادف آلائه وتهاديها، والتحاق رائحها بغاديها، حمداً يكون بالزيارة ضميناً، وبإيلاء الخيرات قميناً، ونصلي على رسوله محمد الصادع بأمره، القائم بدينه في سره وجهره، وعلى آله مصابيح الإيمان وزهره، وأصحابه ملاذ الإسلام وذخره. أما بعد فلما كان تأليف الكلام، مما لا يوقف على غوره، ولا يعرف كنه أمره، إلا بالاطلاع على علم البيان، الذي هو لهذه الصناعة بمنزلة الميزان، احتجت حين شدنت نبذة. من الكلام المنثور، إلى معرفة هذا المذكور، فشرعت عند ذلك في تطلبه، والبحث عن تصانيفه وكتبه، فلم أترك في تحصيله سبيلاً إلا نهجته، ولا غادرت في إدراكه باباً إلا ولجته،

حتى اتضح عندي بأدبه وخافيه، وانكشفت لي أقوال الأئمة المشهورين فيه، كأبي الحسن علي بن عيسى الرماني، وأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وأبي عثمان الجاحظ، وقدامة بن جعفر الكاتب، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي، وأبي

محمد عبد الله بن سنان الخفاجي، وغيرهم ممن له كتاب يشار إليه، وقول تعقد الخناصر عليه، ثم لما مضى على ذلك ملاوة من الدهر، وانقضى دونه برهة من العمر، لمحت في أثناء القرآن الكريم، من هذا النحو أشياء طريقة، ووجدت في مطاويه من هذا النوع نكتاً دقيقة لطيفة، فعرضتها عند ذلك، على الأقسام التي ذكرها هؤلاء العلماء وشرحوها، والأصناف التي بينوها في تصانيفهم وأوضحوها، فألفيتهم قد غفلوا عنها، ولم ينبهوا على شيء منها، وكان ذلك باعثاً لي على تصفح آيات القرآن العزيز، والكشف عن سره المكنون، فاستخرجت منه حينئذ ثلاثين ضرباً من علم البيان، لم يأت بها أحد من أولئك العلماء الأعيان، وكان ما ظفرت به أصل هذا الفن وعمدته، وخلاصة هذا العلم وزبدته، فحيث أحرزت هذه الفضيلة، وحصلت عندي هذه العقيلة، أحببت أن أفرد لها كتاباً، وأفصلها فيه أقساماً وأبواباً، ليكون مقصوراً على شوارد هذا العلم وغرائبه، ورموزه الخفية وعجائبه، وليجعله مؤلف الكلام رأس بضاعته، ويعلم به مواقع الصواب في صناعته، فلما شرعت في تلفيقه، وبدأت بإيضاح القول فيه وتحقيقه، عاودت النظر في تصانيف العلماء المذكورين، والتبصر في أقوال أئمة هذه الصناعة المشهورين، فسنح لي عند ذلك لطائف رائعة، ونوادر حسنة فائقة، هي كالشاهدة لما بينوه، والمشيدة لما نصوا عليه وعينوه، وقلما تركت قولاً من أقوالهم بحاله، من غير زيارة أودعها في خلاله. فصار هذا الكتاب لغوامض علم البيان مبيناً، ولما ذكره أرباب هذه الصناعة، وما لم

يذكروه متضمناً، فأوردت في صدره ما يجب على مؤلف الكلام علمه، وينبغي له معرفته وفهمه. ثم شفعت ذلك بذكر الفصاحة والبلاغة، وصغت الكلام فيهما أحسن الصياغة، فأوضحت ما أشكل من طريقتهما، وبينت أقوال العلماء في حقيقتهما، مع ما أضفته إلى ذلك من زيادات مناسبة، واحترازات واجبة. ثم شرحت بعد ذلك جميع أنواع علم البيان، وشفيت القول فيهما بحسب الإمكان، وسميته بكتاب: (الجامع الكبير، في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور). وجعلت مدار الكتاب على قطبين: (القطب الأول) في الأشياء العامة. (القطب الثاني) في الأشياء الخاصة. وينقسم القطب الأول إلى فنين: الفن الأول فيما يجب على مؤلف الكلام الابتداء به، وهو أربعة أبواب: (الباب الأول) في آلات التأليف (الباب الثاني) في أدواته (الباب الثالث) في الطريق إلى صناعة النثر والنظم (الباب الرابع) في الحقيقة والمجاز. الفن الثاني في الكلام على الألفاظ والمعاني، وتفضيل الكلام المنثور على المنظوم، وهو ثلاثة أبواب: (الباب الأول) في الألفاظ المفردة والمركبة وهو قسمان (الباب الثاني) في الكلام على المعاني. (الباب الثالث) في تفضيل الكلام المنثور على المنظوم. (القطب الثاني) وفيه فنان: (الفن الأول) في الفصاحة والبلاغة. (الفن الثاني) في ذكر أصناف البيان وانقساماتها، وهو بابان: (الباب الأول) في الصناعة المعنوية. (الباب الثاني) في الصناعة اللفظية. وينقسم الباب الأول إلى تسعة وعشرين نوعاً: (الأول) في الاستعارة. (الثاني) في التشبيه. (الثالث) في شجاعة العربية، وهو أربعة أقسام. (الرابع) في الإيجاز وهو قسمان. (الخامس) في الإطناب. (السادس) في توكيد الضمير المتصل بالمنفصل. (السابع) في الكناية والتعريض (الثامن) في استعمال العام في النفي، والخاص في الإثبات. (التاسع) في التفسير بعد الإبهام. (العاشر) في التعقيب المصدري. (الحادي عشر) في التقديم والتأخير. (الثاني عشر) في عطف المظهر على ضميره. (الثالث عشر) في التخلص

والاقتضاب. (الرابع عشر) في المبادئ والافتتاحات. (الخامس عشر) في قوة اللفظ لقوة المعنى. (السادس عشر) في خذلان المخاطب. (السابع عشر) (في الاشتقاق. النوع (الثامن عشر) في الحروف العاطفة والجارة. النوع (التاسع عشر) في التكرير. (العشرون) في تناسب المعاني من المقابلة والتقسيم والتفسير. (الحادي والعشرون) في الخطاب بالجملة الفعلية والخطاب بالجملة الاسمية. (الثاني والعشرون) في لام التأكيد. (الثالث والعشرون) في الاقتصاد والإفراط والتفريط. (الرابع والعشرون) في المعاظلة. (الخامس والعشرون) في التضمين. (السادس والعشرون) في الاستدراج. (السابع والعشرون) في الأرصاد. (الثامن والعشرون) في التوشيح. (التاسع والعشرون) في الأخذ والسرقة. وينقسم الباب الثاني إلى سبعة أنواع: (الأول) في السجع والازدواج. (الثاني) في التجنيس (الثالث) في الترصيع. (الرابع) في لزوم ما لا يلزم. (الخامس) في الموازنة. (السادس) في اختلاف صيغ الألفاظ. (السابع) في تكرير الحروف. وستذكر ترجمة الأبواب والأنواع عند ذكرها إن شاء الله تعالى.

القطب الأول في الأشياء العامة

القطب الأول في الأشياء العامة الفن الأول في ما يجب على مؤلف الكلام الابتداء به الباب الأول من الفن الأول من القطب الأول آلات التأليف اعلم أن صناعة تأليف الكلام، من المنثور والمنظوم، تحتاج إلى أسباب كثيرة، وآلات جمة، وذلك بعد أن يركب الله تعالى في الإنسان الطبع القابل لذلك، المجيب إليه، فإنه متى لم يكن ثم طبع لم تفد تلك الآلات شيئاً البتة. فمثل الطبع كمثل النار الكامنة في الزناد، ومثل الآلات كمثل الحراق والحديدة التي يقدح بها، ألا ترى إنه إذا لم يكن في الزناد نار لا يفيد ذلك الحراق ولا تلك الحديدة شيئاً، إلا أن الطباع القابلة للعلوم مختلفة الأنحاء؛ فمنها ما يكون قابلاً لعلم الأدب كالنحو والتصريف وغيرهما، ومنها ما يكون قابلا للعلوم الدينية كأصول الفقه وأصول الدين وما جرى هذا المجرى، ومنها ما يكون قابلا لغير ذلك كالعلم الرياضي؛ كالحساب والهندسة، ومنها ما يكون قابلا لغير ذلك، كالصنائع والحرف. وقد يوجد في الطباع ما يكون قابلا لجميع العلوم. ومن أدل دليل على اختلاف الطباع وتباينها أنا نرى مؤلف الكلام يكون تارة مؤلفاً مطلقاً، ونعني بالمطلق أن يكون عارفا بصناعة المنظوم من الكلام والمنثور؛ ويكون مؤلفاً غبر مطلق، ونعني بغير المطلق إنه يكون عارفاً بأحد هذين القسمين دون الآخر، وهو مع ذلك عالم بجميع آلات التأليف نظماً ونثراً، كما هو المؤلف المطلق ولا فرق. فإذا ركب الله في الإنسان الطبع القابل لمعرفة تأليف الكلام على الإطلاق فيحتاج حينئذ إلى تحصيل الآلات التي يخرج بها ما في القوة إلى الفعل. وتنحصر آلات التأليف في قسمين:

(الأول) يشترك فيه النظم والنثر

(الأول) يشترك فيه النظم والنثر. وهو سبعة أنواع: (الأول) معرفة علم العربية من النحو والتصريف والإدغام. (الثاني) معرفة ما يحتاج إليه من اللغة. (الثالث) معرفة أمثال العرب وأيامهم. (الرابع) الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة، المنظوم منها والمنثور، والتحفظ للكثير من ذلك. (الخامس) معرفة الأحكام السلطانية في الإمامة والإمارة والفضاء وغير ذلك. (السادس) حفظ القرآن الكريم والممارسة لغرائبه، والخوض في بحور عجائبه. (السابع) حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم. وأما القسم الثاني فإنه يخص النظم دون النثر، وذلك علم العروض والقوافي، الذي يقام به ميزان الشعر. ولنذكر بعد ذلك فائدة كل نوع من هذه الأنواع فتقول: أما (علم النحو) فهو الذي يستقيم به معاني الكلام، وتصان عرى تأليفه عن الانحلال والانفصام، ولولا ذلك لفسدت معانيه واختلت مبانيه. ولنضرب لهذا مثالاً يوضحه فتقول: لو قال لنا قائل: (ما أحسن زيد). ولم يبين الإعراب لما فهمنا غرضه من هذا القول، إذ يحتمل أن يريد به التعجب من حسنه، ويحتمل أن يريد به الاستفهام عن أي شيء فيه أحسن، ويحتمل أن يريد الأخبار بنفي الإحسان عنه. ولو بين الإعراب في ذلك فقال: ما أحسن زيداً! وما أحسن زيد؟ وما أحسن زيد، علمنا غرضه وفهمنا مغزى كلامه، لانفراد كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة بما يعرف به من الإعراب، فوجب حينئذ على المؤلف، بهذا الدليل، معرفة النحو إذ كان ضابطاً لمعاني كلامه، حافظاً لها من الاختلالات. فإن قبل: أما علم النحو فمسلم إليك إنه يجب على مؤلف الكلام معرفته، لكن التصريف والإدغام

لا حاجة به إليهما، لأن التصريف إنما هو معرفة أصل الكلمة وزيادتها. وهذا لا يضر مؤلف الكلام جهلة، ولا ينفعه معرفته. ولنضرب لذلك مثالاً كيف اتفق، فتقول: إذا قال القائل: رأيت سرداحاً، لا يلزمه أن يعرف أن الألف في هذه اللفظة زائدة هي أم أصل، لأن العرب لم تنطق بها إلا كذلك، ولو قالت (سردح) بغير ألف، لما جاز لأحد أن يزيد الألف من عنده، فيقول (سرداح) فعلم بهذا أن مؤلف الكلام إنما ينطق بالألفاظ كما سمعها عن العرب، من غير زيادة فيها، ولا نقصان، وليس عليه بعد ذلك أن يعرف أصلها، ولا زيادتها، لأن ذلك أمر خارج عما تقتضيه صناعته. وكذلك الإدغام، فإنه إذا قال القائل (مررت برجل ضف الحال) لا يلزمه أن يعلم أن الأصل في (ضف) ضفف وأن لا يجب عليه علمه، ولا يضطر إلى معرفته البتة، وذلك إنه إنما ينقل هذا وأمثاله عن العرب. فالذي يسمع أنهم قد تكلموا به يحذو حذوهم فيه، غير أن يتصرف بشيء من عنده، فإن (كان) مؤلف الكلام لم يسمع أن العرب قالوا (رجل ضف الحال) فقال هو (ضفف الحال) ولا سمع أنهم قالوا: (ضفف الحال) فقال هو (ضفف الحال فإنما تكلم بما سمعه عن العرب من غير زيادة فيه ولا نقصان منه. الجواب عن ذلك إنا نقول: أعلم أنا لم نجعل معرفة التصريف والإدغام، ضرورة على مؤلف الكلام، كمعرفة النحو. لأن المؤلف إذا كان عارفاً بالمعاني، مختاراً لها، قادراً على الألفاظ، مجيداً فيها، ولم يكن عارفاً بعلم النحو فإنه يفسد ما يصوغه من الكلام، ويختل عليه ما يقصده من المعاني، كما أريناك في ذلك المثال المتقدم. وأما التصريف والإدغام فإن المؤلف إذا لم يكن عارفاً بهما لم يفسد عليه معاني كلامه، وإنما تفسد على الأوضاع، كانت المعاني صحيحة مفهومة. وسيأتي بيان ذلك في تحرير الجواب. فنقول:

أما قولك أيها المترخص أن التصريف والإدغام لا حاجة لمؤلف الكلام اليهما، واستدلالك على هذا بما ذكرته من هذين المثالين اللذين ضربتهما، فإن ذلك لا يستمر لك الكلام فيه البتة أما التصريف وتمثيلك إياه بلفظة (سرداح) وقولك إن المؤلف لا يحتاج إلى معرفة أن الألف التي فيها زائدة هي أم أصل؛ لأنه ينقلها عن العرب على ما هي عليه من غير زيادة ولا نقصان، فإن ذلك لا يطرد إلا فيما هذا سبيله من نقل الألفاظ على هيئتها، من غير تصرف فيها، يحال من الأحوال، فأما إذا أراد المؤلف تصغيرها، أو جمعها، أو النسبة إليها، فإنه إذا لم يعرف الأصل في حروف الكلمة وزيادتها وحذفها وإبدالها، يضل عن السبيل ويصير عليه مجال للطاعن والغائب ألا ترى إنه إذا قيل للنحوي، وكان جاهلاً بعلم التصريف: كيف تصغر (اضطراب)؟ فإنه يقول (ضطيريب) لا يلام على جهله بذلك لأن الذي تقتضيه صناعة النحو قد أتى به، وذلك أن النحاة يقولون في كتبهم (إذا كانت الكلمة على خمسة أحرف، وفيها حرف زائد، ولم تكن حذفته (حذفتة) نحو قولهم في منطلق (مطيلق) وفي جحْمرش (جحيمر) فلفظه منطلق على خمسة أحرف، وفيها حرفان زائدان، هما الميم والنون، إلا أن الميم زيدت فيها لمعنى، فلذلك لم تحذف، وحذفت النون. وأما لفظة (جحمرش) فخماسية لا زيادة فيها، وحذف منها حرف أيضاً، ولم يعلم النحوي أن علماء النحو إنما قالوا ذلك مهملاً، اتكالاً منهم على تحقيقه من علم التصريف، لأنه لا يلزمهم أن يقولوا، في كتب النحو، أكثر مما قالوا، وليس عليهم أن يذكروا في باب من أبواب النحو شيئاً من التصريف، لأن كلاً من النحو والتصريف علم منفرد برأسه، غير أن أحدهما مرتبط بالآخر، ويحتاج إليه. وإنما قلت: إن النحوي، إذا سئل عن تصغير (اضطراب) يقول (ضطيريب) لأنه لا يخلو: إما أن يحذف من لفظة (اضطراب) الألف، أو الضاد، أو

الطاء، أو الراء، أو الباء، هذه الحروف المذكورة غير الألف ليست من حروف الزيادة، فلا تحذف، بل الأولى أن يحذف الحرف الزائد، ويترك الحرف الذي ليس بزائد، فلا جل ذلك قلنا: إن النحوي يصغر لفظة (اضطراب) على (ضطيريب) فيحذف الألف، التي هي حرف زائد دون غيرها، مما ليس من حرف الزيادة. وأما أن يعلم النحوي أن الطاء في (اضطراب) مبدلة من تاء، وأنه إذا أريد تصغيرها يعاد إلى الأصل الذي كانت عليه، وهو التاء، فيقول (ضتيريب) فإن هذا لا يعلمه إلا التصريفي. وتكليف النحوي الجاهل بعلم التصريف معرفة ذلك كتكليفه معرفة علم الغيب، فثبت بهذا الدليل، الذي ذكرناه، أن مؤلف الكلام يحتاج إلى علم التصريف، لئلا يغلط في مثل هذه الأماكن، فيستوجب عند ذلك المذمة والعيب. ومن العجب أن يقال إن مؤلف الكلام لا يحتاج إلى التصريف. ألم تعلم أن نافع بن أبي نعيم، وهو أكبر القراء السبعة قدراً، وأفخمهم شأناً، قال في (معايش) (معائش) بالهمز، ولم يعلم بالأصل في ذلك، فأخذ عليه وعيب من أجله. ومن جملة من عابه على ذلك أبو عثمان المازني، فقال في كتابه في التصريف (أن نافعاً لم يدر ما العربية). وكثيراً ما يقع أولو العلم في مثل هذه المواضع، فكيف الجهال الأغمار، الذين لا خبرة لهم بها، ولا اطلاع لهم عليها؟ وإذا كان المؤلف عارفاً بحقيقة الأمر في ذلك لا يقع في ورطة تؤخذ عليه، وهذه لفظة معايش لا يجوز همزها البتة بإجماع من علماء العربية، لأن الياء فيها ليست مبدلة من

همزة، وإنما الياء التي تبدل من الهمزة، في هذه المواضع، تكون بعد ألف الجمع المانع من الصرف، ويكون بعدها حرف واحد، لا يكون عيناً نحو سفائن. ولم ينظر إلى أن الأصل في معيشة (معيشة) على وزن مفعلة. وذلك لأن أصل هذه الكلمة من عاش التي أصلها عيش. على وزن (فعل) ويلزم مضارع فعل المعتل العين بالياء (يفعل) لتصح الياء نحو (يعيش) ثم تنقل حركة العين إلى الفاء، فيصير (يعيش) ثم يبنى من (يعيش) مفعول فيقال (معيوش به) كما يقال (مسيور به) ثم يخفف ذلك يحذف الواو فيقال (معيش) (به) كما يقال (مسير به) ثم تؤنث هذه اللفظة فتصير (معيشة) فأعرف ذلك وقس عليه. وهاهنا نكتة أخرى، وهي من أعظم الأسباب الموجبة لمعرفة علم التصريف، وذلك أن المعتل من الكلام إذا بني من ماضيه مستقبل، يجهل مواقع الصواب فيه إذا لم

يكن المؤلف عارفاً بعلم التصريف. مثال ذلك إذا أراد المؤلف أن يبني من وزن (فعل) المعتل فاؤه بالواو مستقبلا. فإن كان جاهلاً بذلك قال في وعد (يوعد) قياساً على الصحيح في ضرب (يضرب) وإن كان عالماً به حذف الواو، لوقوعها بين ياء وكسره، فقال وعد (يعد). وكذلك إذا أراد أن يبني من وزن (فعل) أو وزن (فعل) المعتلي الفاء بالواو مستقبلا. فإنه إن كان جاهلاً ذلك، وكان قد سمع بعض العلماء، يقول في وعد (يعد) حمل (فعل وفعل) على ذلك الأسلوب فقال (وجل يجل) وفي (وضوء يضوء). وإذا كان عارفاً بمعني الأمر في ذلك لم يحذف الفاء في مستقبل (فعل وفعل) بل يقول (وجل يوجل) و (وضوء يوضؤ). وكثيراً ما يقع الخطأ في تصريف الكلام المعتل، من الماضي إلى المستقبل، وهو موضوع من العربية وعر المسلك، فينبغي لمؤلف الكلام مراعاته والاعتناء به، وأمثال هذا كثير فاعرفها. وأما الإدغام وقولك: إن المؤلف لا يحتاج إلى معرفته، واستدلالك عليه بما ذكرته من المثال، وهو قولك: (مررت برجل ضف الحال). فإن ذلك لا يسلم إلا في هذه الصورة، وما يجري مجراها، في نقل الألفاظ على هيأتها، ومن شرط الأمثلة أن تكون شائعة في جنسها. ولنضرب لذلك مثالاً، كيف اتفق، فنقول: إذا قال النحوي في تعريف الحال (إنها هيأة الفاعل أو المفعول وهي نكرة منصوبة مشتقة، أو في تقدير المشتقة، تأتي بعد معرفة، ويحسن تقدير (في) معها وسؤال (كيف) ثم مثل ذلك بقولة: (جاء زيد راكباً). فلا يجوز أن يكون هذا المثال غير مطرد في جنسه، لأنه لو لم يكن مطرداً في جنسه لما جاز أن يجعل مثالاً لما تقدمه من هذه المصادر، وكذلك هذا المثال الذي مثلت به ما ادعيته في الإدغام فإنه ليس بشائع في جنسه. وبيان ذلك أنا نقول: قد ورد عن بعضهم هذان البيتان وهما: اذهبي في كلاءة الرحمن ... أنت مني في ذمةٍ وأمان ترْهبيني والجيدُ منك لليلى ... والحشا والبُغامُ والعينان

فماذا يقول هذا الشاعر إذا سئل عن قوله (ترهبيني) وقيل: إن الأصل في ذلك (ترهبينني) يحذف إحدى النونين؟ فلا أجده يستطيع الجواب عن ذلك، إلا أن يكون عارفاً بالإدغام، وهو: إذا كان المثلان في كلمتين وقبلهما ساكن، وهو حرف مداولين، يجوز إدغام أحدهما في الآخر، ولما وجد هذا السبب في (ترهبينني) أدغمت إحدى النونين في الأخرى، ثم خفف الإدغام فصارت (ترهبيني) فيجب حينئذ على مؤلف الكلام، بهذا الدليل، معرفة الإدغام، ليسلم من اعتراض متعرض أو تعنت متعنت. وأما النوع الثاني: وهو قولنا إن المؤلف يحتاج إلى معرفة اللغة فلسنا نعني بذلك إلا ما كان مألوفاً، متداولاً بين أرباب هذه الصناعة. وسيأتي ذكر ذلك في كتابنا هذا. ويفتقر المؤلف أيضاً إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر، ليجد إذا ضاق به موضع في كلامه، بإيراد بعض الألفاظ فيه، العدول عنه إلى غيره، مما هو في معناه. وكذلك يحتاج إلى معرفة الأسماء المشتركة، ليستعين بها على استعمال التجنيس في كلامه، علم أن هذا الموضع ينبغي أن يذكر فيه الأسماء البتة، وانقسام دلالتها على المعاني، فإن المؤلف إذا كان عالماً بذلك، فهو مما لا يستغني عنه فتقول: الألفاظ تنقسم دلالتها على المعاني ستة أقسام: مترادفة، ومشتركة، ومتباينة، ومتواطئة، ومشككة، ومتشابهة، فأما الثلاثة الأولى التي هي: المترادفة والمشتركة والمتباينة فيحتاج مؤلف الكلام إلى معرفتها. وإنما أوجبنا عليه معرفة الأسماء المتباينة، لأن منها ما يوهم إنه من المترادفة، وليس كذلك، وأما الثلاثة الأخر التي هي: المتواطئة والمشككة

والمتشابهة فإنه لا يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفتها، لأن ورودها في التأليف لا ينتج فائدة تذكر، كالمترادفة والمشتركة، وما شابه المترادفة من المتباينة، وإنما ذكرنا هذه الثلاثة الأخر ههنا، لنكون قد استوفينا جميع أقسام الأسماء في كتابنا هذا، فاعرفه. فأما الأسماء المترادفة: فهي المختلفة الدالة على معنى يتدرج تحت حقيقة واحدة، كالخمر والراح، والعقار، فإن المسمى بهذه الأسماء شيء واحد، وهو الشراب المسكر المعتصر من العنب. وأما الأسماء المشتركة: فهي اللفظ الواحد المطلق على موجودات مختلفة بالحد والحقيقة، إطلاقاً متساوياً، كالعين، فإنها تطلق على العين الباصرة، وعلى ينبوع الماء، وعلى المطر. وكل من هذه الثلاثة مختلف بالحد والحقيقة وأما المتباينة: فهي الأسماء المختلفة الدالة على معان مختلفة، كالفرس، والحمار، والجدار. وغير ذلك. وقد يوجد من المتباينة ما يوهم إنه من المترادفة، وليس كذلك، وهو أن يتحد الموضوع، ويتعد الاسم، بحسب تباين اعتبارات، فمن ذلك أن يكود أحد الاسمين له من حيث هو موضوعه، والآخر من حيث هو صفة له، كقولنا السيف، والصارم. فإن الصارم دل على موضوع بصفة الحدة، وذلك بخلاف ما دل عليه السيف، لأنه موضوع بازاء هذه الآلة، كيف كانت. ومن ذلك أن يكون أحد الاسمين له بسبب وصف، والآخر بسبب وصف للوصف، كقولنا الناطق، والفصيح. فإن الفصيح وصف للناطق، الذي هو وصف الإنسان. وأما الأسماء المتواطئة: فهي الدالة على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها كدلالة اسم الحيوان على الإنسان، والفرس، والحمار، لأنها مشتركة في الحيوانية، والاسم موضوع بازاء ذلك المعنى المشترك المتعاطي.

وأما المشككة فهي كل اسم دل على شيئين فصاعداً، بمعنى هو واحد في نفسه، لكن يختلف ذلك المعنى فيها من جهة أخرى، كالتقدم، والتأخر، والأشد والأضعف. أما التقدم والتأخر فكالوجود للجوهر قبل العرض وأما الأشد والأضعف فكالبياض الواقع على الثلج والعاج، فإن الثلج أشد بياضاً من العاج. وأما المتشابهة فهي الأسماء التي لا يجمعها معنى واحد، لكن بينها تشابه ما، من حيث ذاتها، كالطين المصور على صورة الانسان، اذ يطلق لفظ الإنسان عليه، وعلى الإنسان الحقيقي، بطريق المشابهة لا بطريق التواطؤ، لأنهما مختلفان في الحد والحقيقة. هذا ما ينبغي ذكره في الأسماء وانقسامها في الدلالة على المعاني، فاعرفه. وأما النوع الثالث: فهو معرفة أمثال العرب وأيامهم فإن مؤلف الكلام شديد الحاجة إلى ذلك، وذلك أن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها، فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة، التي يعرف بها الشيء. وليس في كلامهم أوجز منها، ولا أشد اختصاراً. وسبب ذلك ما أذكره لك، لتكون من معرفته على يقين. فأقول: قد جاء عن العرب من جملة أمثالهم (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر). وهو مثل يضرب للأمر الظاهر المشهور، والأصل فيه: قال المفضل بن محمد: إنه بلغنا أن بني ثعلبة بن سعد بن ضبة في الجاهلية تراهنوا على

الشمس والقمر ليلة أربع عشرة من الشهر، فقالت طائفة: تطلع الشمس والقمر يرى. وقالت طائفة: يغيب القمر قبل أن تطلع الشمس. فتراضوا برجل جعلوه بينهم حكماً، فقال واحد منهم: أن قومي يبغون علي، فقال له الحكم: (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر) فذهبت مثلا. ومن المعلوم أن قول القائل (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر) إذا أخذ على حقيقته من غير نظر إلى القرائن المنوطة به، والأسباب التي قيل لأجلها، لا يعطي من المعنى ما قد إعطاء المثل؛ وذلك لأن المثل له مقدمات وأسباب، قد عرفت، وصارت مشهورة بين الناس معلمة عندهم، وحيث كان الأمر كذلك جاز إيراد هذه اللفظات في التعبير عن المعنى المراد. ولولا تلك المقدمات المعلومة، والأسباب المعروفة لما فهم من قول القائل (أن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر) ما ذكرناه في المعنى المقصود، بل ما كان يفهم من هذا القول معنى مفيد البتة، لأن البغي هو الظلم، والقمر ليس من شأنه أن يظلم أحداً، فكان يصير معنى المثل (أن كان يظلمك قومك لا يظلمك القمر) وهذا كلام مختل ليس بمستقيم. فلما كانت الأمثال كالرموز والإشارات، التي يلوح بها على المعاني تلويحا، صار من أوجز الكلام وأكثره اختصاراً وحيث هي بهذه المثابة فلا ينبغي لمؤلف الكلام أن يخل بها. وأما أيام العرب فإنها تتنوع وتتشعب، فمنها أيام فخار، ومنها أيام محاربة، ومنها أيام مذمة وعار، ومنها غير ذلك. ولا يخلو المؤلف من الانتصاب لوصف يوم يمر به، في بعض الأوقات، مشبهاً بذلك مماثلا له، فإذا جاء بذكر بعض تلك الأيام المناسبة لمراده، الموافقة له، وقاس عليه يومه، فقال: (أشهر من يوم كذا) أو (أسير)؛ أو ما جرى هذا المجرى،

فإنه يكون في غاية الحسن والرونق، وهذا لا خفاء به. وأما النوع الرابع وهو الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور، فإن فيه للمؤلف فوائد جمة؛ وذلك أن يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم، ويعرف مقاصد كل فريق منهم، والى أين ترامت به صنعته في ذلك، فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة، وتذكي الفطنة. وإذا كان المؤلف عارفاً بها تصير المعاني، التي ذكرها أرباب هذه الصناعة، وتعبوا في استخراجها كالشيء الملقى بين يديه، يأخذ منه ما أراد، ويترك ما أراد. وأيضاً فإنه إذا كان مطلعاً على المعاني المسبوق إليها، فقد ينقدح له من بينها معنى غريب، لم يسبق (إليه). ومن المعلوم أن خواطر المؤلفين وإن كانت متفاوتة في الجودة والرداءة، فإن بعضها قد يكون عالياً على بعض، أو منحطاً عنه بشيء يسير. وكثيراً ما تتساوى القرائح والأفكار، في الإتيان بالمعاني، حتى إن بعض المؤلفين قد يأتي بمعنى من المعاني مصوغاً بلفظه، ثم يأتي الآخر بعده، بذلك المعنى واللفظ، بعينهما، من غير علم منه بما جاء به المؤلف الأول، وهذا هو الذي تسميه أرباب هذه الصناعة (وقع الحافر على الحافر) كقول امرئ القيس: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيُّهم ... يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتَجمَّلِ وقول طرفة بن العبد البكري بعده: وقوفاً بها صحبي علي مطيُّهم ... يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتَجلَّدِ وسيأتي لذلك باب مفرد في كتابنا هذا. وأما النوع الخامس، وهو معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة، وغير ذلك،

فإنما أوجبنا على مؤلف الكلام معرفتها، والإحاطة بها؛ لأنه قد يحدث في الإمامة حادث، في بعض الأوقات، أو يجري فيها أمر من الأمور؛ بأن يكون الإمام القائم من المسلمين، ثم يتولى من بعده من لم تتكامل فيه شرائط الامامة؛ أو يكون كامل الشرائط، غير أن الإمام الذي كان قبله عهد بها إلى آخر غيره، وهو ناقص الشرائط، أو يكون قد تنازع الإمامة شخصان، أو يكون أرباب الحل والعقد قد اختاروا إماماً، وهم غير كاملي الشرائط التي يجب أن توجد فيهم، أو يكون أمر غير ما ذكرنا، فتختلف الأطراف في ذلك، وينتصب ملك من ملوك الأرض له عناية بالإمام الذي قام للمسلمين، فيتقدم إلى كاتبه بكتبه كتاباً في معناه إلى الأطراف المخالفة له. وإذا لم يكن الكاتب عند ذلك عارفاً بالحكم، في هذه الحوادث، واختلاف أقوال العلماء فيها، وما هو رخصة في ذلك، وما ليس برخصة، فإنه لا يكتب كتاباً ينتفع به البتة. ولسنا نعني بهذا القول أن يكون الكتاب مقصوراً على فقه محض فقط؛ لأنا لو أردنا ذلك لما كنا نحتاج فيه إلى كتبه كتاباً، بل كنا نقتصر على إنفاذ مصنف من مصنفات الفقه، عوضاً عن الكتاب، الذي نريد أن نكتبه، وإنما قصدنا بذلك أن يكون الكتاب الذي يكتب في هذا المعنى مشتملاً على التغيب والترهيب، والتسامح في موضع، والمحاقة في موضع، مشحوناً كذلك بالنكت الشرعية، التي تليق به وتناسبه، كما فعل الصابي في الكتاب الذي كتبه عن عز الدولة بن بويه إلى الطائع، لما مات المطيع،

فإنه من محاسن الكتب، التي يكتب بها في هذا الفن. وأما النوع السادس وهو حفظ القرآن الكريم، والاطلاع على غرابته وعجائبه، فإن مؤلف الكلام ينبغي له أن يكون عارفاً بذلك، لأن فيه فوائد كثيرة، ومنافع زائدة، منها أن يضمن كلامه الآيات في أما كنها اللائقة بها، ومواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك، من الفخامة والجزالة والرونق، كما فعل الشيخ عبد الرحيم بن نباتة في خطبة فإنه أبدع في تضمين الآيات فيها، وسيأتي بيان ذلك في باب التضمين. ومنها أن المؤلف إذا عرف واقع البلاغة وأسرار صناعة الكلام، في تأليف القرآن الكريم، اتخذه بحراً، يستخرج منه الدرر والجواهر، ويودعها في مطاوي كلامه. وكفى بالقرآن الكريم وحده آلة لمؤلف الكلام. فعليك أيها المترشح لهذه الصناعة بحفظه، والفحص عن سره الخفي، وغامض علمه المستور، فإنها تجارة للمؤلف لا تبور، ومنبع لا يغور، وكنز يرجع إليه، وذخر يعول في جميع كلامه عليه. وأما النوع السابع، وهو تحفظ أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يحتاج مؤلف الكلام إلى استعماله، فإن الأمر يجري في ذلك مجرى القرآن الكريم، وقد تقدم القول فيه، فاعرفه.

القسم الثاني وهو ما يخص الناظم دون الناثر

القسم الثاني وهو ما يخص الناظم دون الناثر وذلك معرفة العروض، وما يجوز فيه من الزحاف، وما لا يجوز، فإن الشاعر محتاج إليه. ولسنا نوجب عليه المعرفة بذلك لينظم بعلمه، فإن النظم مبني على الذوق، ولو نظم بتقطيع التفاعيل لجاء شعره متكلفاً غير مرضي، وإنما أريد للشاعر معرفة العروض لأن الذوق قد ينبو عن بعض الزحافات، ويكون ذلك جائزاً في العروض. وقد ورد للعرب مثله. فإذا كان الشاعر غير عالم به لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وبين ما لا يجوز. وكذلك أيضاً يحتاج الشاعر إلى العلم بالقوافي والحركات، ليعلم الروي والردف وما لا يصح من ذلك، فإذا أكمل مؤلف الكلام معرفة هذه الآلات، وكان ذا طبع مجيب وقريحة مؤاتية، فعليه بالنظر في كتابنا هذا، والتدبر لمشكلاته، والتصفح لما أود عناه من حقائق علم البيان، ونبهنا عليه من أصول ذلك وفروعه.

الباب الثاني من الفن الأول من القطب الأول في أدوات التأليف

الباب الثاني من الفن الأول من القطب الأول في أدوات التأليف اعلم أيها المنتصب لهذه الصناعة، إنه يجب عليك إذا أردت تؤلف شيئاً من الكلام، منثوراً كان أو منظوماً، أن تأخذ من نفسك، ساعة نشاطك وفراغ بالك، وإجابتها لك، فإن قليل تلك الساعة أجدى عليك بما يعطيك يومك بالكد والمطاولة. وإياك والتوعر فإنه يسلمك إلى التعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، وسنبين لك فيما يأتي من هذا الكتاب ما تتوقي به ذلك؛ فإذا حاولت أمراً بديعاً فالتمس له لفظا يناسبه، فإنه جدير بالمعنى الشريف أن يكون لفظه شريفاً. وإذا وجدت ذلك فهو الدرجة التي لا أمد وراءها، والمنزلة التي لا مطلع فوقها. وعليك بتنقيح الألفاظ وتحسينها، فإن الخطب الرائقة والأشعار البارعة، لم تعمل لا فهام المعاني فقط، لأنه لو قصد بها الإفهام فقط لكان الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد في الأفهام، وإنما عملت الخطب والأشعار لأجل الإتيان ببداعة اللفظ، وأحكام صنعته. ولسنا نعني بذلك أن يجعل المؤلف همته مقصورة على تجويد الألفاظ، ويهمل المعاني المنوطة تحتها، وإنما المعني به أن تكون المعاني المقصودة ذات ألفاظ حسنة رائقة، وسنذكر معرفة اللفظ الجيد من الرديء، والفرق بينهما، فيما، يأتي من كتابنا هذا. واعلم أن المعنى هو عماد اللفظ، واللفظ هو زينة المعنى. والمعاني بمنزلة الأرواح، والألفاظ بمنزلة الأجساد، فأول ما يجب على المتكلم أن لا يؤلف كلامه من ألفاظ رديئة. ثم إن ألفه من

ألفاظ جيدة حسنة، فإنه لا يكون لها مزية ورونق إلا بإيداعها معنى شريفاً واضحاً؛ لأن الألفاظ لا تراد لنفسها، وإنما تجعل أدلة على المعاني، فإذا عد مت الذي يراد منها لم يعتد لها بالأوصاف التي تكون لها. ألا ترى أن قولك (فعولن مفاعلين. . .) ليس له من الحلاوة والرونق ما لقولك: تَضَوَّعَ مِسكاَ بَطْنُ نَعْمانَ إذ مشتْ ... به زَيْنَبٌ في نِسْوةٍ خَفِراتِ وذلك لخلوه من المعنى المفهوم؟ وهذا مما لا يحتاج فيه إلى زيادة في القول، لبيانه ووضوحه. ومن المعلوم أن جماعة العقلاء من الخاصة والعامة يعرفون المعاني، ويصيبون فيها، إلا أنهم لا يقدرون على إبرازها في لباس أنيق مناسب لها، لعدم الطبع المجيب إلى ذلك. ألا ترى إنه حكي عن المبرد، وهو من أكبر علماء العربية وأفخمهم شأناً، وصاحب قول ومذهب، إنه قال: لا أحتاج إلى وصف نفسي لعلم الناس بي، إنه ليس أحد يختلج في قلبه مسألة مشكلة إلا لقيني بها، وأعدني لها؛ فأنا عالم ومتعلم، وحافظ ودارس، لا يخفي علي مشتبه من الشعر والنحو، والكلام المنثور، من الخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار من قلة إلى بعض الأصدقاء، أو التماس لحاجة، فاجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلاً إلى التعبير عنه بما أرتضيه. ولقد بلغني أن عبيد الله بن سليمان ذكرني بجميل، فحاولت أن

أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أموري، فأتعبت نفسي يوماً في ذلك، فلم أقدر على ما أرتضيه، فكنت أحاول الإفصاح عما في ضميري فينحرف لساني إلى غيره. فإذا كان هذا قول المبرد - مع علو منزلته، وارتفاع قدره -، فما ظنك بمن لم يستنشق رائحة هذه الصناعة؟ ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خير وزيادة الأدب على المنطق هجنة. فاعرف ذلك وقس عليه. ولأجل تجويد الألفاظ وتهذيبها كان الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخطية، والشاعر في القصيدة، بعد الفراغ من معانيها يشتغل بتنقيح ألفاظها، والتأنق في تجويدها، ليدل بذلك على براعته والتقدم في صناعته. ولو كان قصد هؤلاء القوم إفهام المعاني فقط اطرحوها، وربحوا كداً كبيراً، وأسقطوا عن أنفسهم تعباً زائداً. فينبغي لمؤلف الكلام حينئذ أن تكون ألفاظه رشيقة لائقة، متصفة بالصفات التي يرد ذكرها في هذا الكتاب. ويكون معناه صواباً فيما قصد له. وإذا كان حسن التأليف لا يواتيك، ولا تصل قدرتك إليه وتجد اللفظة لا تقع موقعها، ولا تصير إلى مركزها، ولا تتصل بسلكها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة عن موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير مواطنها، فإنك إن لم تتعاط صناعة التأليف من المنظوم والمنثور لم يعبك على ذلك أحد. ولو تكلفت ذلك ولم تكن حاذفاً به، ولا محكماً له استحققت عند ذلك العيب، واستوجبت الذم وجعلت نفسك غرضاً لسهام الملام. وإن كانت قريحتك لا تسمح لك، وتعصي عليك، بعد إجالة الفكر، وإطالة النظر فلا تعجل واترك نفسك في تلك الحالة، ثم عاود أمرك عند نشاطك وفراغ بالك؛ فانك لا تعدم حالة الإجابة من خاطرك، والمواتاة، إن كان لك قلب مجيب. وأعلم إنه ينبغي أن تستعمل في كتابك، إن كنت كاتباً، مخاطبة كل فريق من الناس، على قدر طبقاتهم في الفهم. والدليل على ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

لما أراد أن يكب إلى أهل فارس، كتب إليهم ما يمكنهم ترجمته، وهو (من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وإن محمداً عبده ورسوله، وأني رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فأسلم تسلم. وإن أبيت فإثم المجوس عليك). ألا ترى كيف سهل الألفاظ غاية التسهيل، بحيث إنها لا تخفى على من له أدنى تشبث باللغة العربية؟ ولما أراد أن يكتب إلى قوم من العرب خاطبهم على قدر قوتهم وعادتهم لسماع مثله، فكتب لوائل بن حجر (من محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة أهل حضر موت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ على التبعة شاة

والتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ولا شغار ومن أجبى فقد أربى وكل مسكر حرام). فانظر أيها المتأمل لهذا الكلام، كيف خاطب هؤلاء القوم بالضد مما خاطب أهل فارس. وليس سبب ذلك إلا ما ذكرناه من مخاطبة كل فريق من الناس على قدر معرفتهم. فاعرف ذلك وقس عليه.

الباب الثالث من الفن الأول من القطب الأول في الطريق إلى صناعة النظم والنثر

الباب الثالث من الفن الأول من القطب الأول في الطريق إلى صناعة النظم والنثر اعلم أيها المتأمل لكتابنا هذا، أنا مارسنا هذه الصناعة، وبيناها من طرف كثيرة، وأبواب متعددة، وخبرنا ما ينفع المتدرب من ذلك، وما يكون أعون له، وأجدى عليه وأقرب إلى تعليمه وإفادته، فلم نجد ما هو أسهل مأخذاً، وأقرب متناولاً، سوى طريق واحد نحن ذاكروه في هذا الكتاب، فنقول: يجب على المبتدئ في هذا الفن والمترشح له إذا آتاه الله عز وجل طبعاً مجيباً، وقريحة مواتية، وكان مستكملاً لمعرفة ما يجب على المؤلف معرفته، مما أشرنا إليه في صدر هذا الكتاب، أن يأخذ رسالة من الرسائل، أو قصيدة من الشعر، يقف على معانيها، ويتدبر أوائلها وأواخرها، ويقرر ذلك في قلبه. ثم يكلف نفسه عمل مثلها، مما هو في معناها، ويأخذ تلك الألفاظ التي فيها، ويقيم عوض كل لفظه لفظة من عنده، تسد مسدها، وتؤدي المعنى المندرج تحتها، ولا يزال كذلك، حتى يأتي على آخرها. ثم بعد فراغه منها يشتغل بتنقيح ألفاظها وتجويدها. وارتباط بعضها ببعض، فإذا استتم عمله انتقل منه إلى غيره، وفعل فيه فعله أولاً، ولا يزال

على هذه القدم، يد من في معارضة الرسائل، أن كان كاتباً، أو في معارضة القصائد، ان كان شاعراً، حتى يحصل له بذلك الدربة الوافرة، وتتمرن قريحته عليه أو يعتاد خاطره هذا الأمر اعتياداً زائداً، ولا ينبغي له أن يكون قانعاً من ذلك بالقليل، ولا راضياً بمعرفة الطريق، دون سلوكه إياه، مراراً كثيرة، وخبر ته بسهله وحزنه، وقريبه وبعيده، فإذا تدرب واعتاد، وصار ذلك له خليقه وطبعاً، تفرعت عنده المعاني وانقدحت في خاطره، فتسهل عليه حينئذ صياغتها، وإبرازها فيما يليق بها من اللباس. وهذا انفع الطرق وأكثرها فائدة، لمن يروم الدخول في زمرة الكتاب والشعراء، لا تجد أيها المنتصب لهذه الصناعة طريقاً يجدي عليك من النفع ما يجديه هذا الطريق، فاعرفه.

الباب الرابع من الفن الأول من القطب الأول في الحقيقة والمجاز

الباب الرابع من الفن الأول من القطب الأول في الحقيقة والمجاز اعلم أن الحقيقة: هي (اللفظ) الدال على موضوعة الأصلي. وقيل: هي اسم مشترك، يراد به ذات الشيء وحده، ويراد به ما استعمل بازاء موضوعة اللغوي. وأما المجاز: فهو ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، اتساعاً، وقيل: هو ما نقل عن موضوعه الأصلي إلى غيره، بسبب مشابهة بين محل الحقيقة ومحله، في أمر مشهور. واعلم أن المجاز ينقسم إلى أقسام، وقد أودعنا كتابنا هذا منها ما سنح لنا، وهو أربعة عشر قسماً: (الأول) ما جعل للشيء بسبب المشاركة في خاصة، كما يقال للبليد حمار، وللشجاع أسد (الثاني) الزيادة في الكلام لغير فائدة كقوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم) فما هاهنا زائدة لا معنى لها أي (فبرحمة من الله لنت لهم) (الثالث) النقصان الذي لا يبطل به معنى الكلام، لحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، كقوله تعالى (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً) يريد شخصاً بريئاً. وكحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله تعالى (واسئل القرية) أي أهل القرية. وللنحاة في ذلك اختلاف. قال سيبويه: إن القياس ممتنع في حذف

الموصوف وإقامة الصفة مقامه، فلا يجوز في جاءني رجل طويل (جاءني طويل) وقال الفارسي وغيره من علماء العربية: القياس جائز في حذف المضاف إليه مقامه. وسيبويه لم ينص في ذلك بشيء. وقال أبو الحسن الأخفش تارة إنه ممتنع، وتارة إنه جائز. والقوي عنده أن لا يقاس، وغيره لا يمنع القياس، (الرابع) تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه كقوله تعالى (إني أراني أعصر خمراً). وإنما كان يعصر عنباً. (الخامس) تسمية الشيء باسم مجاوره كقوله للمزادة (راوية) وإنما الراوية الجمل الذي يحملها. (السادس) تسمية الشيء بكله كقولك في جواب (ما فعل زيد): القيام. والقيام إنما هو جنس يتناول جميع أنواعه. (السابع) تسمية الشيء بجزئه كقولك لمن تبغضه: (أنعد الله وجهة عني) تريد بذلك عامة جسده. (الثامن) تسمية الشيء بدواعيه كتسميتهم الاعتقاد قولاً نحو قولك (هذا يقول بقول الشافعي) أي يعتقد اعتقاده. (التاسع) تسمية الشيء باسم أصله كقولك للآدمي (مضغة). (العاشر) تسمية الشيء باسم فرعه كقول الشاعر: وما العَيْشُ إلا نَومةٌ وتَشرُّق ... وتمر على رأس النخيل وماءُ فسمى الرطب (تمراً). (الحادي عشر): تسمية الشيء باسم ضده كقولهم للأسود والأبيض (جون). (الثاني عشر) تسمية الشيء بمكانه كقولهم للمطر (سماء) لأنه ينزل منها. (الثالث عشر) تسمية الشيء بفعله كتسمية الخمر مسكراً. (الرابع عشر). تسمية الشيء بحكمه كقوله تعالى (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي. . .) الآية.

فسمي النكاح هبة. فهذه ضروب المجاز التي وقعت. فاعرفها. وأما الفرق بينه وبين الحقيقة، فهو أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره، ألا ترى أنا إذا قلنا (فلان عالم) علماً صدق على كل ذي علم واحد صدق على كل ذي علم، بخلاف (واسئل القرية) لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض، لأن المراد أهل القرية، لأنهم ممن يصح السؤال لهم، ولا يجوز أن يقال (واسأل الحجر أو التراب). وقد يحسن أن يقال (واسأل الربع أو الطلل). واعلم أن كل مجاز فله حقيقة، وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز؛ وذلك أن من الأسماء قسمين لا مجاز فيهما: (الأول) أسماء الأعلام، كأنها وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق بين الصفات. (الثاني) الأسماء التي لا أعم منها، كالعلوم والمجهول والمدلول، وغير ذلك، مما أشبهه. واعلم إنه قد صار المجاز في تعارف الناس بمنزلة الحقيقة، بل هو أقرب إلى التعريف من الحقيقة، وأولى بالاستعمال منها، وأحق بالافهام؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكانت الحقيقة، التي هي الأصل، أولى منه حيث هو فرع عليها. ألا ترى أن قوله تعالى (والصبح إذا تنفس) أبلغ من أن يقال (إذا انتشر) لأن التنفس يعطي من الدلالة ما لا يعطيه الانتشار؛ وذلك لما فيه من بيان الروح على النفس، عند إضاءة الصبح، فجعل ظهور الصبح وانتشاره من خلال الليل، شيئاً فشيئاً، كالتنفس؛ لأن أول ما يبدو الصباح ثم ينمي في انتشاره بالتدرج، كإخراج الإنسان نفسه. واعلم إنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز لمعان ثلاث وهي: الانساع والتشبيه والتوكيد، فإن عدمت هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة؛ فمن ذلك قوله تعالى (وأدخلناه في رحمتنا) الآية. فهذا مجاز، وفيه الأوصاف الثلاثة المذكورة. وأما الانساع فهو إنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً هو الرحمة، وأما التشبيه فإنه شبه الرحمة، وأن لم يصح دخولها، بما يجوز

دخوله. وأما التأكيد فإنه أخبر عما لا يدرك بالحاسة، وذلك تغال بالمخبر عنه، وتفخيم له، إذ صير إلى منزلة ما يشاهد ويعاين. ألا ترى إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل: (لو رأيتم المعروف لرأيتموه حسناً جميلاً). وإنما يرغب بأن ينبه عليه، ويعظم من قدره، فيصور في النفوس، على أشرف أحواله وأعلى صفاته، وذلك بأن يخيل متجسماً، لا عرضاً متوهماً. واعلم أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة، وذلك أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة فيه، فمن ذلك عامة الأفعال نحو (قام زيد، وقعد عمرو) و (جاء الصيف وانصرف الشتاء). ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية، فقولك (قام زيد) معناه كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل. ومعلوم إنه لم يكن منه جميع القيام، وكيف يكون ذلك وهو جنس مطبق جميع أنواعه من الماضي والحاضر والمستقبل، الكائنات من كل (من) وجد منه القيام؟. فإذا كان الحال كذلك علمت أن قيام زيد مجاز لا حقيقة، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض، للاتساع والتوكيد، وتشبيه القليل بالكثير. ويدل على انتظام ذلك في جميع جنسه أنك تعمل في جميع أجزاء ذلك الفعل، فتقول: قمت قومة، وقومتين، ومائة قومة، وقياما حسناً، وقياماً قبيحاً، فإعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على إنه موضوع عندهم على صلاحيته، لتناول جميعها، ألا ترى إلى قول بعضهم: وقد يجمَعُ الشَتِيْتَيْنِ بعدما ... يظُنّان كلَّ الظَنِّ أنْ لا تَلاقيا فقوله (كل الظن) يدل على صحة ما أشرنا إليه. وكذلك قولك (ضربت زيداً) مجاز أيضاً، لأنك إنما لأعلك بعض الضرب لا كله، وإنما ضربت بعضه لا جميعه؛ لأنك قد تضرب يده، أو رجله، أو ناحية من نواحي جسده. ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء يبدل البعض، فقال (ضربت زيداً رأسه) ثم هو مع ذلك متجوز، لأنه إنما يضرب ناحية من رأسه، لا رأسه كله. ولهذا يحتاط بعضهم في نحو

هذا فيقول (ضربت زيداً جانب وجهه الأيمن). فإذا عرف التوكيد ثم وقع (في) الكلام نحو (نفسه وعينه وكله وأجمع) وما جرى هذا المجرى تحقق منه حال سعة المجاز في هذا الباب. ألا تراك تقول: قطع الأمير اللص. ارتفع المجاز من جهة الفعل وصرت فيه إلى الحقيقة، لكن يبقى عليك التجوز من جهة أخرى وهو قولك (اللص) وإنما لعله قطع يده أو رجله، فإذا احتطت في ذلك قلت (قطع الأمير نفسه يد اللص أو رجله). وكذلك جاء جميع الجنس، فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شيوع المجاز فيها واشتماله عليها، حتى إن علماء العربية جعلوا له باباً مفرداً، لعنايتهم به، وكونه مما تمس الحاجة إليه، وأنه لا ينبغي إن يضاع مثله ولا يهمل، كما أنهم جعلوا لكل معنى أهمهم باباً مفرداً، كالصفة: والعطف، والإضافة، وغير ذلك فاعرفه.

الفن الثاني في القطب الأول في الألفاظ والمعاني وتفضيل الكلام المنثور على المنظوم

الفن الثاني في القطب الأول في الألفاظ والمعاني وتفضيل الكلام المنثور على المنظوم وهو ثلاثة أبواب: الأول: في الألفاظ المفردة وهو قسمان: الأول: في الكلام على الألفاظ المفردة، والفرق بين الجبر منها والرديء واعلم أن صاحب كتاب (سر الفصاحة) وغيره من أرباب هذه الصناعة قد أوردوا في كتبهم من ذلك أشياء حسنة، ونبهوا على نكت مستملحة، غير أنا لما أمعنا النظر فيما قالوه، وتصفحنا مطاوي ما ذكروه، وقع لنا فيه زيادة مبتكرة، وقول مستغرب، ولنورد هاهنا، ما وصل إلينا عن علماء هذه الصناعة، وما ابتكرناه نحن فنقول: الأوصاف التي توجد في اللفظة الواحدة، وتستحق بها مزية الحسن والجودة، سبعة أنواع، فأما الذي وصل إلينا منها فستة أنواع: (الأول) تباعد مخارج الحروف. (الثاني) أن لا تكون الكلمة وحشية ولا متوعرة. (الثالث) أن لا تكون الكلمة مبتذلة بين العامة. (الرابع) أن لا تكون عبر بها عن معنى يكره ذكره، فإذا أوردت، وهي غير مقصود

أما النوع الأول من الأنواع الستة فهو تباعد مخارج الحروف

بها ذلك المعنى قبحت. (الخامس) أن تكون مصغرة في موضع يعبر بها عن شيء لطيف، أو خفي، أو نحو ذلك. (السادس) أن تكون مؤلفة من أقل الأوزان تركيباً. وقد ذكر أبو محمد بن سنان الخفاجي قسماً آخر فقال: (ينبغي أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح، غير شاذة). وليس هذا معتبراً في جودة اللفظة ولا في رداءتها، لأن شذوذ لا يوجب لها حسناً ولا قبحاً، وإنما المعنى بقولهم: إن هذه الكلمة شاذة أي أنها لم تنقل إلا عن واحد فقط، فلا يوثق بها ولا يركن إليها، سواء كانت حسنة أو قبيحة. فاعرف ذلك. وأما الذي ابتكرناه نحن فتوع واحد وهو أن تكون الكلمة مبنية من حركات خفيفة. ولنرجع إلى ذكر الستة الأنواع، التي وصلت إلينا من علماء هذه الصناعة، وتحقيق القول فيها، فتقول: اعلم إنه ليس لهم فيها إلا السبق بذكرها فقط، وإما علة كل نوع منها، والسبب الذي ذكره لأجله فأنا لم نأخذه (عنهم)، وإنما استنبطناه نحن دونهم. وذلك أنا لم نقف لهم في ذلك على قول شاف، ولا كلام محرر. بل جل أمرهم أن ذكروا هذه الأنواع الستة ثم مثلوا كل نوع منها بمثال، كما فعل أبو محمد بن سنان الخفاجي، وهو من الأئمة المشاهير في هذا العلم، وكذلك فعل غيره ممن تقدمه كقدامة بن جعفر الكاتب، والآمدي، والجاحظ وغيرهم. وكتبهم التي صنفوها في هذا الفن شاهدة بما ذكرناه عنهم من إجمال القول، والاقتناع بالأمثلة. أما النوع الأول من الأنواع الستة فهو تباعد مخارج الحروف ولسنا نعني بذلك أن

المتقارب المخارج لا يكون حسناً ولا جيداً، بل نعني بذلك أن الغلب على المتباعد المخارج من الألفاظ الجودة والحسن، والغالب على المتقارب المخارج الرداءة والقبح. ألا ترى أن (الجيم والشين والياء) لها مخارج متقاربة، وهي من وسط اللسان، بيته وبين الحنك، وتسمى ثلاثتها الشجرية، فإذا ركبنا منها شيئاً من الألفاظ يجيء حسناً رائقاً فإن قلنا: (جيش)، كانت لفظة محمودة، وأن قدمنا الشين على الجيم فقلنا: (شجي) كانت أيضاً لفظة محمودة. فهذه مخارج متقاربة، وقد ركبنا منها هاتين اللفظتين، وجاءتا في غاية الحسن والرونق. وهذا يكون نادراً في المتقارب المخارج وإنما الأكثر والغالب يجيء في المتباعد المخارج. فاعرف ذلك. وحيث انتهى بنا القول إلى هاهنا فلنبدأ بوصفه، في هذا الموضع، بذكر الأصوات والحروف، وذكر الخارج وانقساماتها، قبل ذكر السبب في حسن المتباعد، وقبح المتقاربة، فتقول: اعلم أن الصوت عرض يخرج مستطيلاً متصلاً، حتى يعرض له، في الحلق والفم والشفتين، مقاطع، تثنيه عن امتداده واستطالته، فيسمى المقطع إن عرض له حرفاً. وتختلف أجراس الحروف يحسب اختلاف مقاطعها. ألا ترى أنك تبتديْ من أقصى الحلق ثم تبلغ به أي المقاطع شئت، وتجد له جرساً ما، فإن انتقلت منه راجعاً عنه، أو مجاوزاً له، ثم قطعت أحسست عند ذلك جرساً غير الجرس الأول، نحو (الكاف) فانك إذا نطقت بها سمعت هناك صدى، فإذا رجعت إلى (القاف) سمعت غير ذلك الصدى فإن جزت (إلى) الجيم سمعت غير ذينك الأولين. وشبه بعضهم الحلق والفم بالمزمار وما أقريه شبها به. والسبيل إلى

معرفة ذلك أنك إذا أردت اعتبار هذا: تأتي بالحرف ساكناً لا متحركاً، لأن الحركة تقلقه عن موضعه ومستقره، ثم تدخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به، فتقول: (إكْ) (إقْ) وكذلك سائرها. واعلم أن (الحروف) تطلق باعتبارات، فالأول: اسم لهذه الحروف المعدودة؛ وذلك مأخوذ من تسمية الحد والناحية حرفاً، لأن الحروف هي جهات للكلمة ونواحيها. الثاني: تطلق على أدوات الكلام نحو (من وعن، وغيرهما). الثالث: كقول النبي (ص) (أنزل القرآن على سبعة أحرف) أي سبع لغات لا تختلف ولا تضاد، كما يقال: (هذا في حرف أبي) و (وهذا في حرف ابن مسعود). الرابع: يقال ناقة حرف: أي ضامرة. وقال أبو العباس المبرد: إن الهمزة لا صورة لها في الخط. وهذا فاسد؛ إذ الاعتبار باللفظة لا بالخط، فإن الخط لو لم يكن لما كان ذلك مانعاً من كون الهمزة من جملة الحروف. فأما ترتيب الحروف على نسق المخارج فهي (همزة، ألف، ع، (هـ) ح، غ، خ، ق، ك، ج،

ش، ي، ض، ل، ن، ر، ط، د، ت، ز، س، ظ، ذ، ث، ف، م، و، ب). وستة أحرف فروع مستحسنة، وهي همزة بين بين، والنون والخفيفة، والألف الممالة، وألف التفخيم، والشين كالجيم، والصاد كالزاي. وثمانية أحرف غير مستحسنة وهي: الكاف بين الجيم والكاف، والجيم كالكاف، والجيم كالشين، والفاء كالباء، والضاد الضعيفة، والصاد كالسين، والطاء كالتاء، والظاء كالثاء. وذكر قوم أربعة أحرف هي: السين كالزاي، والجيم كالزاي، واللام المفخمة، والقاف كالكاف: فصار الجميع سبعة وأربعين حرفاً. فأما انقسام المخارج فإنها ستة عشر مخرجاً: ثلاثة حلقية وهي الهمزة والألف والهاء. هذا على ترتيب سيبويه، وأما على ترتيب أبي الحسن الأخفش فإن الهاء مع الألف لا قبلها ولا بعدها، ومخرجان يليان هذه الثلاثة المذكورة وهما العين والحاء، ومخرجان آخران فوق ذينك من أول الفم وهما الغين والخاء، وحرف من أقصى اللسان، وهو القاف. وأسفل من موضع القاف قليلاً مخرج الكاف، وهذان الحرفان - أعني القاف والكاف - يدعيان لهويين: من اللهاة. وثلاثة أحرف من وسط اللسان: وهي الجيم والشين والياء، وتسمى الشجرية. ومن أول حافة اللسان وما يبنهما من الأضراس مخرج الضاد، ويسمى المتفرد المستطيل. ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه مما بينها وبين ما يليها من الحنك، فويق الضاحك والناب والثنية والرباعية مخرج اللام، ويسمى المتحرف. ومن طرف اللسان، بينه وبين ما فويق الثنايا السفلى، مخرج النون. ومن مخرج النون، غير إنه أدخل في ظهر اللسان قليلاً، لا انحرافه إلى اللام مخرج الراء. وهذه الأحرف الثلاثة: اللام والراء والنون تسمى الذليقة. وقال سيبويه

إن الأصول الخماسية لا تخلو من أحدها البتة. ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا ثلاثة أحرف وهي الطاء والدال والتاء، وتسمى النطعية. وثلاثة أحرف مما بين طرفي اللسان وفويق الثنايا وهي: الصاد والسين والزاي وتسمى الأسلية. وثلاثة أحرف مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا وهي: الظاء والذال والتاء، وتسمى اللثوية. وحرف واحد مما بين باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى وهو الفاء. وثلاثة أحرف مما بين الشفتين وهي الباء والميم والواو، وتسمى الشفهية. وحرف واحد من الخيشوم وهو النون، ويسمى الخيشومي. فهذه جميع مخارج الحروف. وحيث انتهى القول بنا إلى هذا المقام وأتينا على ذكر الأصول والحروف وانقسام المخارج فينبغي حينئذ أن تذكر السبب في حسن ما تباعد من المخارج، وقبح ما تقارب منها، فتقول: قال أبو محمد بن سنان الخفاجي في كتابه: (إن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجري الألوان من البصر، ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا اجتمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة؛ ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة، لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبعد ما بينه وبين الأسود). هذا حكاية كلامه بعينه. ولنا عليه اعتراض، وهو أنا نقول: إذا ثبت لك أن الألوان المتباينة في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة فكيف يلزم على هذا أن نقيس عليه السمع ونجريه مجراه؟ فإن قال في الجواب عن ذلك (إني إنما قست السمع في أصوات الحروف المتباعدة على البصر في الألوان المتباعدة، لأن السمع حاسة والبصر أيضاً حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب). قلنا له: إنما يستقيم لك ما ذكرته من هذا القياس أن لو توقف في عرفان جودة اللفظة على سماع أصوات مخارجها، كما يتوقف في عرفان حسن الألوان على إبصارها ورؤيتها، وإنما قد يعلم جودة اللفظة، ويعرف حسن تركيبها، من غير أن يسمع لها صوت؛ وذلك أن المتأمل للكلام

مكتوباً من غير تصوت به، ولا نطق، إذا عرضه على طبعة السليم، وفكره المستقيم، عرف جودة ألفاظه، وعلم حسن تركيبها من قبحه. ولا خلطة للسمع في ذلك ولا مشاركة. فقد ثبت بهذا الدليل فساد ما ذكرته من قياس السمع على البصر، واختلال ما أشرت إليه من ذلك. وإنما القول السديد في حسن اللفظ المتباعد المخارج، وقبح اللفظ المتقارب المخارج، ما سنورد هاهنا: وهو أن الفائدة في الأشياء المركبة، إنما هي اختلاف أجزائها وتباين مفرداتها، ليؤثر التركيب عند ذلك شيئاً لم يكن؛ إما حسناً وإما قبحاً. فأما إذا كانت أجزاؤها مشابهاً بعضها البعض، فإنه لا يكون لتركيبها حينئذ كبير فائدة، وهذا مما لا نزاع فيه؛ لوضوحه وبيانه. وحيث كانت الحال في الأشياء المركبة كذلك، قسنا عليه تركيب مخارج الحروف. وذلك أن من المخارج ما هو مختلف ونعني بالمختلف هاهنا: المتقارب؛ كالراء، واللام، والطاء، والسين وغير ذلك، مما يجري هذا المجري. فمتى كانت الكلمة مركبة من حروف متباعدة المخارج، أثر التركيب فيها أثراً؛ وهو الحسن والجودة في الغالب. ومتى كانت الكلمة مركبة من حروف متقاربة المخارج، جاءت بخلاف ذلك في الغالب أيضاً. فإن قيل: أما قولك: إن الكلمة، إذا ركبت من حروف متباعدة المخارج، أثر التركيب فيها أثراً مسلم إليك ذلك. وأما تخصيصك ذلك التأثير بالحسن والجودة، فهذا تحكم محض أنت مطالب بإثباته.

وكذلك قولك في الكلمة: (إذا تركيب من عدة حروف متقاربة المخارج)، ألا ترى أن مخارج الحروف جميعها، إذا اعتبر كل واحد منها على الانفراد، لا يوجد له حسن ولا قبح؟ وهذا لا نزاع فيه. فمن توهم شكاً في ذلك أو لحقه أدني ارتياب، فليعرضه ويعتبره، منصفاً من نفسه، فإنه يعلم صحة ما ذكرناه، ويعرف حقيقة ما أشرنا إليه. وإذا كانت الحال كذلك، فمن أي وجه تكسب اللفظة الجودة والحسن إذا تركبت من حروف متباعدة المخارج؟ ومنأى وجه تكسب الرداءة والقبح، إذا تركبت من حروف متقاربة المخارج؟ الجواب عن ذلك، أنا نقول: إنها اكتسبت حسناً عند تركيبها من حروف متباعدة المخارج، واكتسبت قبحاً عند تركيبها من حروف متقاربة المخارج؛ لأن النطق إذا أتى على مخارج حروف اللفظة، وهي متباعدة، ليجمعها ويؤلفها، كان له في ذلك مهلة وأناة؛ لأن بين المخرج إلى المخرج فسحة وبعداً، فتجيء الحروف عند ذلك متمكنة في مواضعها؛ غير قلقة ولا مكدودة. وإذا أتى النطق على مخارج حروف اللفظة وهي متقاربة، ليجمعها ويركبها، لم يخلص من مخرج إلا وقد وقع في المخرج الذي يليه؛ لقرب ما بينها فيكاد عند ذلك يعتبر أحدهما بالآخر، فتجيء مخارج حروف اللفظة قلقة مكدودة، غير مستقرة في أما كنها ولهذا لم ترد العين مع الحاء، ولا الغين مع الخاء، ولا الطاء مع التاء، ولا القاف مع الكاف، ولا الذال مع الثاء، ولا مع الظاء؛ وذلك لقرب مخارج هذه الحروف بعضها من بعض. ومن أدل الدليل على أن المخارج المتباعدة أحسن تأليفاً من المخارج المتقاربة، أن العرب من

النوع الثاني من القسم الأول من الباب الأول وهو أن لا تكون الكلمة وحشية ولا متوعرة

شأنهم وعادتهم، أن يعدلوا في كلامهم عن الأثقل إلى الأخف؛ طلباً للاستحسان، وهذا شائع عنهم، وكثير في لغتهم، لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه. وتراهم قد خالفوا عادتهم وعدلوا عن الأخف إلى الأثقل، طلباً لبعد المخارج؛ حيث هو أسهل على اللسان، وهرباً من تقاربها؛ حيث هو أشق وأصعب على اللسان. وذلك نحو (الحيوان) ألا ترى أن أصل هذه الكلمة، بإجماع من علماء العربية: (حييان) لأنها من مضاعف الياء، إلا إنه لما ثقل عليهم عدلوا به عم الياء إلى الواو، مع علمهم بأن الواو أثقل من الياء، لكنه لما تباعد الحرفان ساغ ذلك؛ لأجل الاستخفاف. فلما رأينا أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد نقضوا عادتهم، ورفضوا سنتهم، في العدول عن الأثقل إلى الأخف؛ طلباً لتباعد مخارج الحروف، علمنا أن ذلك أهم عندهم، وأكثر تقدماً في نفوسهم. وكفى بهذا دليلاً على أن تباعد المخارج أحسن تأليفاً من تقاربها، فاعرف ذلك. واعلم أن تباعد المخارج ليس بكاف في حسن اللفظة، ولا مقنع في جودتها؛ فإنه قد تأتي لفظة مؤلفة من حروف متباعدة المخارج، ولكنها تكون مبنية من حركات ثقيلة، أو تكون وحشية، أو غير ذلك من الصفات الذميمة، فيعارض ذلك الوصف المحمود هذا الوصف المذموم فيذيله ويذهب به. النوع الثاني من القسم الأول من الباب الأول وهو أن لا تكون الكلمة وحشية ولا متوعرة ونعني بالوحشي: قلة الاستعمال؛ وذلك عيب في الكلام فاحش؛ فيجب على المؤلف اجتنابه والبعد عنه، لأن أحسن الألفاظ ما كان مألوفاً بين أرباب هذه الصناعة، دائراً في تأليفاتهم، قد

صقلته الألسن، وأنسته الأسماع والقلوب. ولذلك كان جميع ألفاظ القران الكريم منخرطة في هذا السلك، وجارية في هذا المنهاج. واعلم أن العرب، لأنه لغة استعملوا الوحشي من الكلام، فإنهم غير ملومين على ذلك، ولا يكون هيباً في كلامهم؛ لأنه لغة القوم، وبه كانت مفاوضاتهم في أحاديثهم وأشعارهم، وكان كالذي كان لهم طبعاً وخليفة. والدليل على أن العرب لا يلامون في استعمال الوحشي من الكلام، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نطق به كثيراً في كلامه، وأنت به الأخبار المنقولة عنه، كحديث طهفة بن أبي زهير النهدي وغيره. فأما حديث طهفة فهو إنه لما قدمت وفود العرب على النبي - صلى الله عليه وسلم - قام طهفة بن أبي زهير فقال: (أتيناك يا رسول الله من غوري تهامة، على أكوار الميس، ترتمي بنا العيس نستحلب الصبير ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير ونستخيل الرهام

ونستحيل الجهام من أرض غائلة النطاء، غليظة المطا، قد نشف المدهن، ويبس الجعثن وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي. برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن، وما يحدث الزمن، لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام، ما طما البحر وقام تعار، ولنا نعم همل أغفال

ما تبض ببلال، ووقير كثير الرسل قليل الرسل، أصابتها سنة حمراء مؤزلة، فليس لها نهل ولا علل) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم بارك لهم في محضها ومخضها، ومذقها وفرقها، وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر، وأفجر له الثمد، وبارك له في المال والولد. من أقام الصلوة كان مسلماً، ومن آتى الزكاة كان محسناً، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً. لكم يا بني نهد ودائع الشرك، ووضائع المال. لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة، ولا نتثاقل

عن الصلاة). وكتب معه كتاباً إلى بني نهد: (من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله ورسوله. لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم العارض والفريش وذو العنان الركوب، والفاو الضبيس لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس در كم ما لم تضمروا الاماق وتأكلوا الرباق. من أقر بما في هذا الكتاب فله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة) فقال له علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (يا رسول الله نحو بنو أب واحد وربينا في بلد واحد، وتراك تكلم وفود العرب بما لم نفهم أكثره)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي، وربيت في بني سعد). ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لا يكاد يعرف ولا يفهم، وهو الذي نعده نحن في زماننا وحشياً متوعراً لعدم الاستعمال له؟ ومع ذلك، فقد نطق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيثبت من هذا أن كان الوحشي من الكلام ليس معيباً من حيث ذاته، وإنما يعاب من حيث النسبة إلى الزمان وأهله، كما أنا نعيبه نحن في هذا الزمان، ونطرحه ونكرهه، ولا نستعمله،

وقد كان من قبلنا مألوفاً مستعملاً بين البلغاء والفصحاء. وهذا مما لا نزاع فيه يحال من الاحوال، فاعرفه. وعلى ذلك فإنما يلام على استعمال الوحشي من الكلام الحضري؛ لأنه يتكلفه من الكتب، ويلتقطه من بطون الدفاتر، مع العناء والمشقة في تحصيله. وقد رأينا جماعة، ممن يدعي هذه الصناعة، يعتقدون أن الكلام الفصيح هو الذي يعسر فهمه، ويبعد متناوله، كالذي نحن بصدد ذكره هاهنا. وإذا رأوا كلاماً غامضاً وحشياً يعجبون منه، ويصفونه بالفصاحة وهو بالعكس من ذلك. وقد استعمل هذا القسم من الكلام كثيراً ابن هانئ المغربي، فمن ذلك ما جاء في قصيدة من شعره على قافية الثاء، وهو قوله: وما راعهم إلا سُرادق جَعْفَر ... يَحُف بها أُسْدُ اللقاء الدلاهث وما تستوي الشغواء غيرَ حثيثةٍ ... قوادُمها والكاسرات الحثائث

تورَّعت عن دنياك وهي غريرة ... لها مَبْسِم برْد وفرعُ جثاجثُ ألا ترى إلى هذه الكلمات، كيف يكرهها السمع، وينبو عنها الطبع، وتستكرهها القلوب، وتعافها النفوس، وكان الإنسان عند الوقوف عليها خابط (خبط) عشواء، لا يدري أين يضع رجله؟ ومن هذا النوع أيضاً قول بعضهم وقد اعتلت أمه فكتب رقاعاً وألقاها في الجامع بمدينة السلام وهي (صين امرؤٌ ورعى، دعا لامرأة مقسئنه، قد منيت بأكل الطرموق، فأصابها من أجله الاستمصال، أن يمن عليها بالاطرغشاش، والابرغشاش) وكل من قراً رقاعه لعنه، ولعن أمه. ومما يجري هذا المجرى قول ابن الرومي: اسقني الأسْكركةَ الصِنْ ... نّبْرَ في جعضلفونه واترك الفيجن في ... هـ يا خليلي بغصونه فإنه لا يوجد من الألفاظ الوحشية شيء أقبح من قوله (الأسكركة، وجعضلفون

والصنبر). وكذلك قوله في صفة المطر: مُتغطمطٌ، غصب الوحوش مكانها، ... تياره فالضب جارُ الضِّفْدعِ فهل تجد أيها المتأمل لكتابنا هذا أشد كراهة عليك من النطق بلفظة متغطمط؟ وأشباه ذلك كثيرة. وفيما ذكرنا من هذه الأمثلة كفاية. واعلم أن الإنكار على الناثر في استعمال الوحشي من الكلام أكثر من الإنكار على الناظم؛ وذلك لأن الناثر واسع المجال، مطلق العنان، متصرف كيف شاء، قادر على أن يقيم مكان اللفظة، التي ذكرها لفظة أخرى مما هو في معناها. والناظم قد لا يمكنه ذلك، لأن مجال التأليف عليه حرج، ونطاقه ضيق. وإذا أراد أن يقيم لفظة مكان لفظة لا يتأتى له ذلك، في جميع الحالات، لانفساد الوزن عليه. ولنضرب لهذا مثالاً فتقول: ألا ترى أن معنى (متغطمط) في قول هذا الشاعر أي (متدفق) ولو أراد أن يجعل هذه اللفظة الحسنة مكان تلك اللفظة القبيحة، لفسد عليه وزن البيت. ولست أرى للشاعر في هذا دواء، إلا إنه إذا أتاه شيء من هذه الألفاظ الحسنة، ويتزن له الشعر مع ذلك فهو المراد، وأن كان لا يقع له من الألفاظ ما هو في معناه، ولا يتيسر له ذلك، فيقيم عوضه من الألفاظ الحسنة ما يصح به المعنى الذي قصده مع الاتزان. ألا ترى أن هذا الشاعر لو قال في هذا البيت (متدفق)

النوع الثالث من القسم الأول من الباب الأول وهو ألا تكون الكلمة مبتذلة بين العامة

(أو متراكم) أو ما جرى هذا المجرى لصح له الوزن والمعنى المقصود، وكان قد سلم من استعمال الوحشي من الكلام؟ وإنما يتهيأ للشاعر هذا، إذا كانت الكلمة في أول البيت أو في أثنائه، فأما إذا كانت آخراً منه فإنه قلما يقدر على تغييرها، وإقامة غيرها مقامها، وذلك للزوم (القافية) التي بيني قصيدته عليها، فاعرف ذلك وقس عليه. النوع الثالث من القسم الأول من الباب الأول وهو ألا تكون الكلمة مبتذلة بين العامة وذلك ينقسم قسمين: الأول: ما كان من الألفاظ دالا على معنى وضع له في أصل اللغة، فغيرته العامة وجعلته دالاً على معنى آخر، وهو ضربان: الأول: يكره ذكره، كقول أبي الطيب المتنبي: أذاق الغواني حسنه ما أذقنني ... وعف فجازاهن عنّي بالصرم فإن لفظة (صرم) في أصل وضع اللغة (القطع) يقال: صرمه أي قطعه، فغيرتها العامة، وجعلتها دالة على المحل المخصوص دون غيره. ثم لم يكفهم، حتى جعلوا ما هو بالسين صادا؛ ولأجل هذا استكره استعمال هذه اللفظة. وكذلك ما جرى هذا المجرى كقول أبي الطيب:

سلي البيدَ أين الجنُ منّا بِجَوْزِها ... وعن ذي المهاري أين منها النقانق؟ فإن النقانق في أصل اللغة: هي جماعة النعام، فغيرتها العامة، وجعلتها دالة على ضرب من طعام السوقة، فصارت من أكثر الألفاظ ابتذالا. واعلم أن العامة اعتمدوا هذا في كثير من كلامهم، حتى أن الشيخ أبا منصور الجواليقي، صنف في ذلك كتاباً ووسمه (بإصلاح ما يغلط فيه العامة) فمنه ما هذا سبيله، وهو الذي أنكرنا استعماله على أرباب هذه الصناعة؛ لكراهته ولأنه مما لم يأت في كلام العرب، ولا جاء عنهم، فهذان عيبان من الضرب الذي ذكرناه. وأما الضرب الثاني من القسم الأول؛ ففيه عيب واحد؛ وهو إنه وضع في كلام العرب لمعنى فجعلته العامة ذالاً على غيره، إلا إنه ليس بمستقبح ولا مستكره، وذلك كتسميتهم الإنسان ظريفاً إذا كان دمث الأخلاق، حسن الصورة واللباس، طيب الريح، وما هذا سبيله. والظريف في أصل اللغة بخلاف ذلك؛ لأن الإنسان إنما يسمى ظريفاً إذا كان حسن النطق فقط. إذ الظرف يتعلق باللسان لا غير. وقد قالت العرب في صفات خلق الإنسان: الصباحة في الوجه. الوضاءة في البشر. الجمال في الأنف. الحلاوة في العينين. الملاحة في الفم. الظرف في اللسان.

الرشاقة في القد. اللباقة في الشمائل. كمال الحسن في الشعر. وهذا الضرب قد ذكره الشيخ أبو منصور الجواليقي في كتابه، فاعرفه. القسم الثاني مما ابتذلته العامة، وهو الذي لم تغيره عن بابه. وإنما أنكرنا استعمال هذا القسم من الكلام، لأنه مبتذل بينهم فقط، لا لأنه مستقبح، ولا مخالف لما وضع له في أصل اللغة. وذلك كقول أبي الطيب المتنبي: فقلقلت بالهمَّ الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلهن قلاقل ألا ترى إلى سخافة هذه اللفظة، وما عليها من الركاكة التي لا أمد وراءها!؟. ومما جاء على نحو ذلك قوله أيضاً: وملمومة سيفية ربعية ... يصيح الحصا فيها صباح اللقالق

النوع الرابع من القسم الأول من الباب الأول وهو أن لا تكون الكلمة قد عبر بها عن معنى يكره ذكره

ومن هذا القسم قول ابن هانئ المغربي: من ليس يرفل إلا في سَواِبغِهِ ... من تُبّعيً مفاض أو سلوقي أم من يُذلً عماليقاً تذلُّهم ... أي الأجادل يسمو للكراكيَ فإن كلاً من هاتين اللفظتين مبتذل بين العامة جداً. وأمثال هذا كثير، فاعرفه. وعليك أيها المؤلف اجتنابه، والبعد عنه. النوع الرابع من القسم الأول من الباب الأول وهو أن لا تكون الكلمة قد عبر بها عن معنى يكره ذكره فإذا وردت وهي غير مقصودة بها ذلك المعنى قبحت؛ وذلك إذا كانت مهملة بغير قرينة تميز معناها عن القبح، فأما إذا جاءت ومعها قرينة، مخصصة لما تحتها من المعنى المخصص، فإن ذلك لا يكون معيباً في الكلام. فمثال ما ورد من هذا النوع ومعه قرينة، قوله تعالى في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - (فأما الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة، وهي تطلق على

التعظيم والإكرام؛ وعلى الضرب الذي هو دون الحد، وذلك نوع من الإهانة. وهما معنيان ضدان، فحيث وردت هذه الآية جاء معها قرائن قبلها وبعدها، تخصص معناها بالحسن، وتميزه عن القبح. ولو جاءت مهملة بغير قرينة، ويراد بها المعنى الحسن، لسبق إلى الوهم ما اشتملت عليه من المعنى القبيح. مثال ذلك لو (قال) قائل: (لقيت اليوم فلاناً، فأكرمته وعزرته) لزال ذلك اللبس وارتفع الإشكال. ومن هذا النوع أيضاً قول بعضهم، يصف رقعة، جاءته من صديق له (فأنارت إنارة الزواهر، والأذهان منها كالعانة في فلكها الدائر). فإن لفظ (العانة) مشترك يدل على معان مختلفة، فهي اسم للقطيع من حمر الوحش، وتقع اسماً على كواكب تحت القوس، ويراد بها الركب من الإنسان، فلما وردت في هذا الكلام ورد معها قرينة، وهي ذكر الفلك، فخصصها بأنها الكواكب تحت القوس، لأن الفلك لا يكون إلا للكواكب، ولو وردت مرسلة بغير قرينة لظن السامع أمراً آخر يكره ذكره. وأمثال هذا كثير. فيجب على المؤلف أن يراعي فيه ما أشرنا إليه من ذكر القرينة. واعلم إنه قد جاء الكلام (ما معه قرينة) فأوجبت قبحة، ولو تجيء القرينة معه لكان الأمر في استقباحه سهلاً، وذلك قول الشريف الرضي: أعزز عليَّ بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العواد فإن أبا محمد سنان الخفاجي قد ذكر هذا البيت في كتابه فقال: إن إيراد هذه اللفظة أعني (مقاعد) في هذا الموضع صحيح إلا إنه موافق لما يكره في مثل هذا الشعر، لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته إليه، وهو (المواد) ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلاً،

النوع الخامس من القسم الأول من الباب الأول وهو أن تكون الكلمة مصغرة

فأما الإضافة إلى من ذكره ففيها قبح لا خفاء به) هذه حكاية كلام أبي محمد بن سنان الخفاجي، وهو كلام مرضي واقع موقعه في هذا الباب. ولنذكر نحن ما عندنا من ذلك فنقول: قد جاءت لفظة (مقاعد) في القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال). إلا أنها في الآية غير مضافة إلى من يقبح إضافتها إليه، كما جاءت في شعر الشريف الرضي، وهو قوله (مقاعد العواد). فلو لم يذكر القرينة التي هي لفظة (العواد)، لكان الأمر يسهل في ذلك، ولو قال عوضاً عن (مقاعد العواد) مقاعد الزيارة، وما جرى هذا المجرى لذهب ذلك القبح وزالت تلك الهجنة والكراهة. ولهذا جاءت هذه اللفظة اعني (مقاعد) في الآية على ما ترى من الحسن والجودة، وجاءت في شعر الشريف الرضي على ما ترى من القبح والرداءة، فاعرف ذلك وقس عليه. وأما الذي ورد من هذا النوع مهملا بغير قرينة، فكقول تأبط شراً: أقول للحيانٍ وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الجحر مُعور ولو ورد مع ذلك قرينة لم يفده شيئاً البتة، ألا ترى أن لفظة (الجحر) تطلق على كل ثقب، كثقب الحية، وثقب اليربوع وغير ذلك، وتطلق أيضاً على المحل المخصوص من الحيوان، وإنما استقبحت هاهنا، لأن الوهم يسبق إلى ما تدل عليه من المحل المخصوص، دون غيره. ومع هذا فأي قرينة وردت مع هذه اللفظة لا تذهب ما عليها من الكراهة، ولا تزيل ما فيها من القبح. وأمثال ذلك كثيرة، فاعرفها. النوع الخامس من القسم الأول من الباب الأول وهو أن تكون الكلمة مصغرة في موضع يعبر بها عن شيء خفي أو لطيف أو ضعيف أو ما جانس ذلك ومعاني التصغير خمسة:

الأول يرد لتحقير المعاني لا الصور نحو (رجيل) أي إنه حقير من حيث معناه، لا من حيث صورته. (الثاني) يرد لتحقير الصور لا المعاني، وهو ضد الأول نحو (جبيل). (الثالث) للتقريب وذلك في الظروف الزمانية والمكانية نحو: (وقيت) و (فويق). (الرابع) يرد للتقليل وذلك في العدد نحو (مويل) و (أحيمال). (الخامس) يرد للتعظيم كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق عبد الله بن مسعود (كنيف مليء علماً). فإن قيل: التصغير إذا جعل أمارة للتحقير والتعظيم معاً زالت الفائدة المقصودة به، لأنه لا يصير دليلاً على أحدهما. الجواب عن ذلك أنا نقول: ليس الأمر كما وقع لك: أن التصغير أمارة للتحقير والتعظيم على الإطلاق، من غير تقييد، بل هاهنا فرق بينهما، متى عرف لم ينكر جعلهم التصغير دليلاً على التحقير والتعظيم معاً، وهو أن التصغير الدال على التعظيم لا يكون إلا ومعه صفة مدح مقترنة (به). ألا ترى قول النبي، صلى الله عليه وسلم: (كنيف مليء علماً) فقوله (كنيف) تصغير محض وقوله: (مليء علماً) صفة مدح، أوجبت له التعظيم، وذلك أن المشار إليه لما كان قصير الشكل، صغير الجثة، أطلق عليه لفظة التصغير بأن قال (كنيف) ولما كان غزير العلم، راجح اللب، أطلق عليه صفة المدح بأن قال (مليء علماً) فصغره أولاً ثم عظمه ثانياً، فقيل: (تصغير تعظيم) لما هذا سبيله، فاعرفه. وأما التصغير الدال على التحقير فليس كذلك، لأنه لا يجيء معه صفه مدح البتة. وأما أبنية التصغير فثلاثة: ثلاثي لا زيادة فيه، ويجيء على (فعيل) نحو (ثويب)

ورباعي لا زيادة فيه ويجيء على (فعيعل) نحو (دريهم) فإن كان فيه زيادة من حروف المد واللين بين ثالثه ورابعه جاء على (فعيعيل) نحو (قنيديل). وأما الخماسي فيحذف منه الحرف الأخير، وهو أولى بالحذف نحو (سفيرج)، وربما حذفوا ما قبل الآخر، فقالوا في فرزدق: (فريزق). وقد جاءت اوزان غير هذه وهي (أفيعال) نحو (أطيفال) و (فعيلان) نحو (سكيران) و (فعيلى) نحو (حبيلى) و (فعيلاء) نحو (حميراء) والأصل ما أوردناه أولا، وذلك شيء مستقصى في كتب النحو، وليس هذا موضعه. واعلم إنه قد وردت ألفاظ لم يستعمل لها مكبر نحو: الثريا، والجبن والكميت، وسهيل وغير ذلك. وليس هذا من غرضنا في هذا الكتاب الذي نحن بصدد ذكره، لخلود من معنى التصغير، فما جاء من التصغير قول الرضي: وهل لُخشيف بالعَقيق عَلاقة ... بقلبي أم دانيت غير مُدان فأنه لما كان هذا الغزال صغيراً، قريب العهد بالولادة، كان وروده مصغراً أليق وأحسن وأدخل في الصفة. وكذلك قوله أيضاً: هل ناشد لي بعَقيق اللّوى ... غزَّيلاً مرَّ على الركب؟ وأمثال هذا كثير فاعرفه. فلا ينبغي لك أيها المؤلف أن تكثر من استعمال هذا النوع من الكلام في تأليفك، وان كان حسناً رائقاً. بل الأليق بك أن تقتصر منه على الشيء اليسير، يكون كلامك به ملمعاً، فإن مثل التصغير وما جرى مجراه في التأليف، كمثل الوشي في الثوب الديباج، فإنه إذا كان ملوناً أحسن منه إذا كان من لون واحد. وكذلك الكلام، فإنه إذا كان مشتملاً على هذه الأنواع المذكورة من التصغير وغيره، مما سبق ذكره، ويأتي شرحه في هذا الكتاب، كان أولى من اشتماله على نوع واحد فاعرف ذلك.

النوع السادس من القسم الأول من الباب الأول وهو أن تكون الكلمة مؤلفة من أقل الأوزان تركيبا

النوع السادس من القسم الأول من الباب الأول وهو أن تكون الكلمة مؤلفة من أقل الأوزان تركيباً وسبب ذلك أنها إذا ركبت من حروف قليلة خفت على النطق لقصرها، وسهل التعبير بها على اللسان لسرعة فراغه منها، وإذا تركيب من حروف كثيرة كان في النطق بها كلفة على الناطق، وذلك لتطاولها وامتداد الصوت بها. ولنضرب لهذا مثالا كيف اتفق، ليكون أسرع فهماً للمتأمل، فتقول: إذا تلفظ الناطق بالثلاثي، فقال للماء الطيب (عذب) أو تلفظ بالرباعي، فقال للذهب (عسجد) كان ذلك أسهل عليه من التلفظ بالخماسي إذا قال للمرأة الشديدة الصوت (صهصاق) وللعجوز (جحمرش) وذلك مما لا يمكن النزاع فيه، لأن شاهده من نفسه ودليله من ذاته. ولهذا كانت أكثر ألفاظ القرآن الكريم ثلاثية، وكان القليل رباعياً. وأما الخماسي فليس في القرآن منه شيء البتة، إلا ما كان اسم نبي فقط نحو إبراهيم، وإسماعيل. وغيرهما. واعلم أن الأسماء الثلاثية في الأصل، إذا كان فيها زيادة فأكثر ما تبلغ سبعة أحرف، وكذلك الرباعية أيضاً. وأما الخماسية، فإن زيادتها لا تكون إلا حرفاً واحداً، وذلك لأن الخماسي عندهم غاية الأصول، فلا يحتمل غاية الزيادات. وأما الأفعال فلا تكون خماسية في الأصل بل غايتها أن تكون رباعية فقط. وذلك أن الأسماء أقوى من الأفعال، وحيث كانت أقوى منها جعلوا لها ميزة عليها، وفضيلة فوقها. وسبب قوة الأسماء على الأفعال استغناء الأسماء عنها، وحاجة الأفعال إليها. إلا ترى الاسم نحو (زيد منطلق) كلام مفيد؟ والفعل مع الفعل نحو (ضرب قام) ليس بكلام مفيد؟ ولكن إذا اقترن الاسم بالفعل نحو (قام زيد) صار ذلك كلاماً مفيداً. فالأسماء إذن مستغنية عن الأفعال، والأفعال ليست مستغنية عن الأسماء، بل هي مفتقرة إليها. وحيث تكلمنا على الأصول الثلاثة؛ ثلاثيها ورباعيها وخماسيها

وبلغ منا القول إلى هذا المقام فلنردف ذلك يذكر الأصول مع زوائدها، والغرض بها اجتناب الألفاظ التي كثرت حروفها واستعمال ما كان قليل الحروف، فإنه إذا كان التلفظ بالخماسي فيه كلفة على الناطق وكراهة، كما أريناك، فالأولى أن تزداد كلفته إذا تلفظ بكلمة فيها أكثر من خمسة أحرف، فمثال ذلك قول بعضهم، في جملة رقعة كتبها إلى صديق له، قاصداً بها التشدق في الكلام، فقال (وإذا اسلعلعت تلك تجنبلت هذه وتكهمشت) أي إذا طالت تلك قصرت هذه. فإن قوله (اسعلعت) من أقبح الألفاظ طولا، مع أنها من وحشي الكلام فقد جمعت إذن العيبين معاً. ومن هذا النوع أيضاً ما ذكره أبو محمد بن سنان الخفاجي وهو قول أبي الطيب المتنبي: إن الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سُوَيْداواتِها ألا ترى إلى تطاول هذه اللفظة وخروجها عن الاعتدال؟ ويحسب ذلك يتضاعف استقباحها واستكراهها. وأمثال هذا كثيرة فاعرفها. فإن قبل: إن هذا الذي أنكرته من طول الألفاظ وذكرته هاهنا قد ورد في القرآن الكريم ما يماثله ويشابهه، فمن ذلك قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) الآية. وقوله تعالى: (فسيكفيكهم الله). فلفظة (ليستخلفهم) عشرة أحرف. ولفظة (فسيكفيكهم) تسعة أحرف. وأمثال ذلك في القرآن كثير. فلو كان هذا منكراً في التأليف، مكروهاً في الكلام لما ورد في القرآن المجيد. الجواب عن ذلك، أنا نقول: ليس هذا الذي قد جاء في القرآن الكريم مثل هذا الذي أوردناه نحن في كتابنا وأنكرناه على قائله؛ لان قوله تعالى (ليستخلفنهم) ثلاث كلمات جمعت فصارت

كلمة واحدة صورة لا معنى. ألا ترى أن الأصل فيها (ليستخلفن الله المؤمنين) إلا إنه لما جاء بذكر المؤمنين مظهراً في الأول لم يحتج في ذكرهم ثانياً إلى الإظهار، بل اقتصر على ضميرهم كما تقول: (قاتلت بني فلان وحاربتهم) ينوب مناب قولك (وحاربت بني فلان أيضاً). وهذا مما لا نزاع فيه لوضوحه. وكذلك القول في اللفظة الأخرى وهي قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله) ولا تجد في القرآن الكريم لفظة واحدة، مثل لفظة (سويداواتها) في الطول، لأنها ليست ثلاث كلمات وقد جمعت كلمة واحدة كما أريناك وإنما هي كلمة تدل على معنى الجمعية لا غير، وفي آخرها الهاء والألف لإضافتها إلى المؤنث، فاعرف ذلك. وأما النوع السابع الذي ابتكرناه نحن فهو أن تكون الكلمة مبنية من حركات خفيفة، وسبب ذلك سرعة النطق بهاء ومضاؤه فيها من غير عناء يلحقه ولا كلفة؛ ولهذا إذا توالى حركتان خفيفتان في كلمة واحدة، لم يستكره ذلك ولم يستثقل، بخلاف هذا في الحركات الثقيلة؛ فإنه إذا توالى منها اثنتان في كلمة واحدة استكرهت واستثقلت؛ وذلك لما يجده الناطق فيها من تكلف العناء وتجشم المشقة. ومن أجل هذا استثقلت الضمة على الواو، والكسرة على الياء؛ لأن الضمة من جنس الواو والكسرة من جنس الياء، فتكون عند ذلك كأنها حركتان ثقيلتان. ولنضرب لهذا مثالاً كيف اتفق فتقول: إنا إذا أتينا بلفظة مؤلفة من ثلاثة أحرف وهي (ج ز ع) فلا خلاف أنا إذا جعلنا (الجيم) مفتوحة كانت أحسن من جعلها مضمومة، فإن من له أدني ذوق وأقل معرفة يعلم أن (الجزع) أحسن موقعاً من الجزع، و (الجزع) أحسن موقعاً من (الجزع). ومن المعلوم أن هذه اللفظة لم يكن اختلاف حركاتها مغيراً لمخارج حروفها، حتى ينسب حسنها وقبحها إلى المخارج، بل قد تحققنا إنه يكسوها تارة حسناً وتارة يسلب ذلك الحسن عنها، ورأينا الحسن إنما يحدث لها إذا افتحنا (الجيم) منها، فعلمنا أن حسنها حادث من ذلك السبب؛ فإن الشيء إذا رأيناه يتغير وتختلف أحواله، ورأينا أن

اختلاف كل حالة من أحواله لها سبب نسبنا ذلك إليه. ولما رأينا أن هذه اللفظة، إذا ضممنا الجيم منها يذهب ذلك الحسن، علمنا أن سبب ذهابه كون الجيم مضمونة. وحيث كانت الحال بهذه المثابة، ثبت أن أخف الحركات الفتح ثم الكسر ثم الضم؛ والدليل على ذلك ما أذكره لك؛ وهو أن الحركات مضارعة المحروف. ألا ترى أن جماعة من علماء العربية كانوا يسمون (الضمة) الواو الصغيرة و (الكسرة) الياء الصغيرة، و (الفتحة) الألف الصغيرة؟ ومما يؤكد ذلك أنك متى أشبعت الحركة أنشأت بعدها حرفاً من جنسها، نحو قولك في إشباع ضرب (ضوري با) ولهذا إذا احتاج الشاعر إلى إقامة الوزن اشبع الحركة فاشأ عنها حرفاً من جنسها كقول بعضهم: فأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح يريد (بمنتزح) وهو مفتعل من النزح. فإذا ثبت هذا، فاعلم إنه إنما كانت الفتحة أخف من الكسرة، والكسرة أخف من الضمة؛ لأن الألف أخف من الياء، والياء أخف من الواو. والدليل على ذلك ما أذكره لك. فأما قولنا: إن الألف أخف من الياء فلأنا رأينا العرب قداً بدلوا الألف من الياء في العين من الفعل الماضي، وذلك مطرد عندهم مستمر؛ وإنما فعلوا هذا استثقالاً للياء وطلباً للاستخفاف، وبيانه أنهم قالوا: (باع، سار، وأختار) وأصله (بيع، وسير، واختير). فلما ثقل هذا عليهم أبدلوا الياء ألفا للخفة، فقالوا (باع، وسار، وأختار) وكذلك ما جرى هذا المجرى. فعلم بهذا أن الألف أخف من الياء. فإن قيل: إن هذا الدليل الذي أوردته على أن الألف أخف من الياء قد جاء عن العرب نقيضه، ألا ترى أنك إنما استدللت على إن الألف أخف من الياء، لكون العرب قد أبدلت الألف من الياء؟ وقد رأيناهم أبدلوا الياء

من الألف، نحو (حماليق، وقيتال) فإن الياء هاهنا بدل من ألف حملاق وألف (قاتلت). الجواب عن ذلك أنا نقول: ليست هذه الصورة في الدليل الذي أوردناه نحن، لأن لفظ (باع، وسار، واختار) على وزنه لم يغير عنه، وذلك إنه فعل ماض، فلما رأينا العرب قد أبدلت الياء في هذا الموضع ألفاً، مع إنه لم يتغير وزنه يجمع ولا غيره، علمنا أنهم إنما فعلوا ذلك استثقالاً ألا ترى أن (حماليق) جمع (حملاق) (وقيتالا) مصدر (قاتلت) فلم تبدل الألف هاهنا ياء طلباً للخفة وإنما أبدلت اضطراراً، لئلا يلتبس الأمر عليهم. فانهم لو قالوا: جمع (حملاق) (حمالاق) لما عرف أن ذلك جمع؛ لأنه ليس في الجمع (فعالال). ألا ترى إن أصل (حملاق) من (حملق) على وزن فعلل. وهو رباعي، وقد جمع الرباعي على (فعاليل) نحو (برائين) و (دماميل) فحملت لفظة (حماليق) على ذلك، فالياء إذا ليست مبدلة من الألف هاهنا استثقالاً للألف بل اضطراراً، لئلا يلتبس الأمر في ذلك. وكذلك (قيتال) فإن أصله من (قاتلت) ومصدر فاعلت، جاء على (مفاعلة وفيعال) نحو (مقاتلة وقيتال) فلو قيل عوضاً عن قيتال (قاتال) على وزن (فاعال) لالتبس الأمر في ذلك أيضاً. وذاك إنه ليس في أوزان المصادر (فاعال) فالياء إنما أبدلت في هذا الموضع من الألف اضطراراً لا استثقالاً. ألا ترى إنها قد حذفت منه وأسقطت بالكلية، فقيل (قاتلت قتالاً)، ولم يفعل ذلك إلا طلباً للخفة، لأنهم لما أبدلوا الياء، وهي ثقيلة، من الألف، وهي خفيفة، كان ذلك بخلاف عادتهم ونشأتهم؛ لأن من عادتهم أن يعدلوا عن الأثقل إلى الأخف لا إلى الأثقل. لكنهم لما اضطروا إلى إبدال الياء من الألف لم يتركوا الياء على حالها، بل حذفوها وأسقطوها كما أريناك. وكذلك فعلوا في لفظة (حماليق) أيضاً، فإنها لما أبدلت الياء فيها من الألف، حذفوا الياء أصلاً وأسقطوها فقالوا: (حمالق) على وزن (فعالل) كما قالوا (دراهم وبرائن) وكما طردوا كذلك جميع أوزان الرباعي، فاعرف ذلك وقس عليه.

وأما قولنا (أن الياء أخف من الواو) فدليله من وجهين: الاول إنه إذا بني من الفعل المعتل فاؤه بالياء مستقيل لم تحذف الياء نحو (يسر وييسر، و (يعر) الجدي ييعر) ولا كذلك الفعل المعتل فاؤه بالواو، فإنه إذا بني منه مستقبل حذفت الواو، نحو (وعد يعد ووزن يزن)، ولم يقولوا: (وعد يوعد، ولا وزن يوزن) كما قالوا: (يسر ييسر، ويعر الجدي ييعر) فحيث أبقوا الياء في المستقبل ولم يبقوا الواو في المستقبل، علمنا أن حذفهم للواو إنما هو استثقال لها دون الياء. وأما الوجه الثاني، فهو انك إذا بنيت (مفعولا) من المعتل العين بالواو حذفت منه حرفاً للاستثقال؛ فقلت في قال (مقول) وفي صاغ (مصوغ). وإذا بنيت مفعولا من المعتل العين بالياء إن شئت حذفت فقلت في باع (مبيع) وفي عاب (معيب) وإن شئت تمعت ولم تحذف فقلت: (مبيوع ومعيوب) وإنما لم يتموا في الواو فلم يقولوا: في مقول (مقوول) ولا في مصوغ (مصووغ) وأتموا في الياء فقالوا (مبيوع ومعيوب) لأن الياء فيها الضمة أخف من الواو فيها الضمة؛ ألا ترى أن الواو إذا انضمت فروا منها إلى الهمزة فقالوا (أدؤر وأثؤب) قال الراجز: لكل دهر قد لبست أثؤباً

فالهمزة في الواو إذا انضمت مطردة. فأما إذا كان بعدها واو، كان ذلك أثقل لها. فلهذا ألزموها الحذف في (مفعول). والياء إذا انضمت لم تهمز ولم تغير عن حالها، فهذا يدلك، ويبصرك أن الياء أخف من الواو، فاعرف ذلك. هذا ما انتهت إليه المقدرة، وأحاطت به المعرفة، من الأوصاف التي توجد في اللفظة الواحدة، فليتأمله الواقف على كتابنا هذا وليتدبره؛ فإنه يفرق بين الجيد والرديء من الألفاظ، ويعرف ما يستعمله من ذلك، وما يطرحه. وحيث فرغنا من الكلام فيما يتعلق باللفظة المفردة، فلنتبعه بالكلام على الألفاظ المركبة، والله أعلم بالصواب.

القسم الثاني من الباب الأول في صناعة تركيب الألفاظ

القسم الثاني من الباب الأول في صناعة تركيب الألفاظ اعلم أن اللفظة قبل دخولها في سبل التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي تسمى كلاماً، دالاً على معنى من المعاني، لا يكون لها مزية على أختها، التي في معناها، إلا بأن تكون هذه أشرف من هذه بعلامات توجد فيها. إما أن تكون إحداهما مستعملة مألوفة، والأخرى وحشية متوعرة، وإما أن تكون حروف هذه أخف حركة أو أحسن امتزاجاً مع صواحيها أو غير ذلك مما قدمنا ذكره. ولا يتصور بين اللفظتين تفاضل في الدلالة على المعنى الذي اشتراكا فيه، حتى تكون إحداهما أحسن في الدلالة على ذلك المعنى من الأخرى؛ ولنضرب لهذا مثالا فنقول: لا يخفى على من له ذوق صحيح، وفطرة سليمة، أن لفظة الليث أو الأسد أحسن دلالة (على) مسماها من لفظة (الفدوكس) أو (العميثل) فثبت بهذا الدليل أن الكلمة لا يكون لها مزية على أختها إلا بعلامات توجد فيها دون تلك، وهذا لا يثبته على اعتماد وقصده في الكلام إلا الفطن اللبيب، الذي له عناية بصناعته. وكثيراً ما رأينا من يحكم على الألفاظ بالجودة والرداءة، وإذا طولب بدليل يثبت له ما ادعاه لا يحير جواباً، الا تحكما محضاً، لا حاصل وراءه. ولا يعلم إنه لا يجوز القائل أن يقول: هذا الكلام جيد أو رديء، إلا بعد أن يعتبر كل لفظة منه على انفرادها، ويعرض عليها تلك الصفات التي ذكرناها أولاً في كتابنا

هذا، فإذا رآها موجودة فيها أو بعضها، علم أنها حقيقة بأن تدخل في سبك التأليف. ثم يعود بعد ذلك ويعتبر مكانها من النظم، وكيف ممازجتها لجاراتها والتئامها مع أخواتها، فإذا وجدها شديدة المناسبة لها، حسنة الامتزاج معها، حكم على ذلك اللفظ بالجودة، وشهد له بالرونق والطلاوة، وإن كان الأمر بخلاف ذلك (حكم) عليه بالرداءة والقبح، على حسب ما استحق. والأصل في هذا كله حسن التأليف، وجودة التركيب، فإن حسن التأليف يزيد المعنى نباهة ويميل النفوس إلى استماعه، والإصغاء إليه، فإنه إذا كان المعنى سيئاً، وكان اللفظ جيداً مختاراً، ويكون التركيب مع ذلك رديئاً لم يوجد له يظهر عليه رونق. وإذا كان المعنى واللفظ وسطين، وكان تركيبها جيداً حسناً كان ذلك معلياً من قدرهما، ورافعاً من شأنهما. فمثال ذلك كالعقد المتوسط. ألا ترى إنه إذا أحسن تنضيده فجعلت كل قطعة مع يشاكلها، ويليق بها، كان رائقاً في المنظر وإن لم يكن مرتفعاً ثميناً. ومثال المعنى واللفظ الرائقين مع التركيب الرديء مثال عقد ثمين، أفسد نظمه، فجعلت كل قطعة منه مع ما ينافيها ولا يناسبها، فإنه يصير بذلك مختلاً في المنظر، وإن كان فائقاً ثميناً. وحسن التأليف: هو أن توضع الألفاظ في مواضعها وتجعل في أما كنها. وسوء التأليف بخلاف ذلك. ألا ترى إنه إذا قدم في التأليف ما يجب تأخيره، وأخر ما يجب تقديمه تصير المعاني نافرة عن مواضعها، محولة عن وجوهها؟ ومثال ذلك كالصورة التي تحول بعض أعضائها إلى موضع بعض، فتحول الرأس إلى موضع اليد أو الرجل أو غير ذلك، فإنه إذا فعل هذا قبحت الصورة، وفسدت هيئتها الجميلة الحسنة. فاعرف ذلك، فإنه لم يقل: (لفظة متمكنة مرضية) وفي خلافها (قلقلة مستكرهة) إلا والغرض بالتمكن حسن الاتفاق بين الألفاظ بعضها مع بعض، وبالقلق سوء الملاءمة وأنها لم توافق صواحبها. وهل تشك أيها

المتأمل لكتابنا هذا، إذا فكرت في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين) أنك لم تجد ما وجدت لهذه الألفاظ من المزية الظاهرة، والفضيلة الزائدة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط بعضها ببعض، وأنه لم يعرض لها هذا الحسن الوافر، والشرف الكامل إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وكذلك إلى آخرها. وأن الفضل حصل من امتزاجها وتلاؤمها. فإن لحقك في ذلك أدنى شك فتأمل هل ترى لفظة منها، لو أخذت من مكانها، وأفردت من بين أخواتها، كانت مؤدية من الحسن ما تؤديه وهي في موضعها من الآية؟ فصح لنا من هذا القول أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي مفردة فقط. ومن أدل الدليل على ذلك، أن ألفاظ القرآن الكريم قد نطق بها العرب قبل نزوله على النبي، صلى الله عليه وسلم، وليس فيه لفظة من الألفاظ (إلا) وقد تكلموا بها، وجاءت عنهم. ولولا ذلك لما كان عربياً، لأنه لما نزل على لغة القوم وكلامهم، ونحن قد رأينا القرآن الكريم يفوق جميع كلامهم، ويعلو عليه مع كونه وارداً على لغتهم قد تكلموا بألفاظه ونطقوا بها، ثبت لنا من ذلك أن ألفاظ القرآن الكريم إنما تفضل سائر الكلام من حيث تركيبها ونظمها. وهي من حيث الانفراد مساوية لكلام العرب، حيث هي عين ألفاظهم ونفس كلامهم. وهذا مما لا شك فيه ولا ارتياب، فاعرفه. ومما يشهد بذلك ويؤيده، أنك ترى اللفظة تروقك في كلام، وتزداد بها إعجاباً واستحساناً، ثم تراها في كلام آخر، فتثقل عليك وتستكرهها. مثال ذلك أن لفظة الأخدع، قد جاءت في بيتين من الشعر، وهي في أحدهما لائقة حسنة، وفي الآخر ثقيلة مستكرهة، كقول الصمة بن عبد الله بن طفيل في الحماسة:

تلفَّت نحو الحي حتى وجدتني ... وَجِعْتُ من الإصغاء ليتاً وأخدعا وكقول أبي تمام: يا دهر قوم من أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خُرُقك ألا ترى إنه قد وجد لهذه اللفظة ببيت أبي تمام من الثقل على النفس والكراهة أضعاف ما وجد لها في بيت الحماسة من الروح والخفة والإيناس والبهجة؟ وهذا مما لا يمكن النزاع فيه لظهوره، وسيأتي له باب مفرد في الكلام على الصناعة اللفظة. فعليك أيها المترشح لهذه الصناعة أن تراعي في كلامك هذه الدقائق الشريفة، والنكت اللطيفة، فإن لصناعة التأليف غوراً لا يدرك منهاه، ومذهباً لا يوصل إلى مداه.

الباب الثاني من الفن الثاني من القطب الأول في الكلام على المعاني

الباب الثاني من الفن الثاني من القطب الأول في الكلام على المعاني اعلم أن المعاني على ضربين: أحدهما يبتدعه صاحب الصناعة، من غير أن يكون له فيه إمام يقتدى به، أو رسوم قائمة، في أمثلة يعمل عليها. وهذا الضرب مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، ويتنبه له عند الأمور الظارئة؛ والآخر ما يحتذيه على مثال تقدم، ورسم سبق. وينبغي للمؤلف أن يطلب الإصابة في كلا الأمرين، ويتوخى فيها الصورة المقبولة، والعبارة المستحسنة. ولا يتكل فيما يبتكره من المعاني على فضيلة السبق، ولا يغتر بمزية الإبداع، فيتسامح في تهجين صورته. فإنه إذا فعل ذلك ذهب حسنه، وانطمس نوره. ويكون فيه إلى الذم أقرب منه إلى الحمد. وينبغي أن يستيقن المؤلف ويتحقق، أن المعاني أشرف من الألفاظ؛ والدليل على ذلك ما أذكره: وهو أنا لو خلعنا من هذه الألفاظ دلالتها على المعاني، لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء، بل كانت بمنزلة أصداء الأجسام والأصوات الناشئة عنها؛ ويزيد ما ذكرناه وضوحاً، أن هذه الصناعة من النظم والنثر، التي يتواصفها البلغاء بينهم، وتتفاضل بها مراتب البلاغة، إنما هي شيء يستعان عليه بتدقيق الفكرة، وكثرة الروية والتدبر. ومن المعلوم أن الذي يستخرج بالفكرة، وينعم فيه النظر، إنما هو المعنى دون اللفظ؛ لأن اللفظ يكون معروفاً عند أرباب صناعة التأليف دائراً فيما بينهم، والمعنى قد يبتدع؛ فيذكر

المؤلف معنى لم يسبق إليه، وذلك إنما يكون تحادثاً عن الفكرة الصحيحة، والطبع السليم، فإن الذي تخرج فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك هو المعنى. ولهذا كان جماعة المؤلفين يشتركون في معرفة الجيد من الألفاظ، وإنما التفاوت يقع بينهم في المعاني. لأن الألفاظ الجيدة يستعملها جميعهم، ولا يكاد أحدهم يفوت الآخر فيها. وأما المعاني فإنه قد يبتكر المؤلف المعنى من نفسه، وينتحله من ذاته؛ وذلك كثير لا يحصى. فصح من هذا الوجه، أن المعاني أشرف من الألفاظ وأنبل. واعلم أن شرف المعنى وعلوه، وسقوطه واستفاله، من نتائج علو الهمة وسقوطها. وقد حكي أن أشرف كلام قالته العرب: (القتل أنفى للقتل). ومن المعلوم أن هذا الكلام ليس فيه من الألفاظ البديعة الرائعة ما يرفعه إلى منزلة يكون بها أشرف كلام قالته العرب؛ حتى إنهم جعلوه في مقابلة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة). لا بل في لفظه من الثقل، بسبب تكراره مالا خفاء به. ومع هذا فأنا نجد من كلامهم ما ألفاظه تطرب الأسماع، وتأخذ بمجامع القلوب، وذلك أكثر من أن يحصى، وهو لا يكون بمنزلة قولهم: (القتل أنفى للقتل) فصح حينئذ أن فخامة هذا الكلام، وعلو منزلته، إنما هي لأمر يرجع إلى جلالة المعنى المندرج تحته، وشرف قدره. وقد رأيت جماعة من متخلفي هذه الصناعة، يجعلون همهم مقصورة على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها. وإذا قال أحدهم سجعتين أو ثلاثاً، يعتقد إنه قد أنى بأمر عظيم، فإذا أنكرت هذه الحال عليهم، يقولون: لنا أسوة بالعرب، الذين هم أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة، فإنهم اعتنوا بالألفاظ، ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءهم بها. ألا ترى إلى جهل هؤلاء القوم، فانهم لم يكفهم جهلهم فيما ارتكبوه من ذلك، حتى إنهم ادعوا أن العرب مثلهم، فصارت جهالتهم جهالتين.

ولنذكر هاهنا ما إذا تأمله الناظر في كتابنا هذا عرف ما يوثقه، ويذهب به (في) الاستحسان كل مذهب فنقول: إن العرب لما كانت تعتني بألفاظها، فتصلحها، وتهذبها، وتراعيها، وتلاحظ أحكامها بالنظم تارة بالنثر أخرى، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها. فأول ذلك عنايتها بألفاظها لأنها (لما) كانت عنوان حاجتها، وطريقاً إلى إظهار أغراضها أصلحوها ورتبوها، وبالغوا في تحبيرها وتحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد. ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعاً (لذ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعاً) لم يأنس به أنسه (في) حالة السجع. فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها، ورققوا حواشيها، ونمقوا أطرافها، وصقلوا غروبها، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وإحكامه، وإنما المبغي بذلك الاحتياط للموعى، لئلا يتغير جوهره، فأنا قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما نجد من طلاوته. وبلادة لفظه تضع من رونقه لسوء العبارة عنه، فإن قيل: إنا نرى من ألفاظهم ما قد نمقوه. وزخرفوه وربجوه، ولسنا نرى مع ذلك تحته معنى شريفاً، فمما جاء منه قول بعضهم: ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيّ الأباطح ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ، ومائه وصقاله، وتدبيج أجزائه!؟ ومعناه مع ذلك ليس مدانياً له مقارباً، فإنه إنما هو (لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإبل. . .) ولهذا نظائر كثيرة، شريفة الألفاظ مشروفة المعاني. وفيما أشرنا إليه كفاية

للمتأمل. الجواب عن ذلك أنا نقول: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر، ولا رأى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وعدم معرفته. وهو أن في قول هذا الشاعر (كل حاجة) مما يستفيد منه أهل السبب والأهواء والرقة والمقة ما لا يستفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم. ألا ترى أن حوائج منى أشياء كثيرة، فمنها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي للاجتماع، إلى غير ذلك مما هو تال له، ومعقود الكون به. فكأن الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه، يقوله في آخر البيت (ومسح بالأركان من هو ماسح) أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان، وما هو لاحق به، وجار في القرية من الله تعالى مجراه، أي لم نتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت، من التعريض الجاري مجرى التصريح. وأما البيت الثاني فإن فيه (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا) وفي هذا ما نذكره لتراه فتحجب ممن عجب منه، ووضع من معناه، وذلك إنه لو قال: (أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك) لكان فيه معنى بكيره أهل النسب، وذلك أنهم قد شاع عنهم وانسح في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الألفين، والجذل بجمع شمل المتواصلين. ألا ترى قول بعضهم: وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنوباً فزدني من حديثك يا سعد وقول الآخر: وحديثها السحر الحلال لو إنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرِّزِ فإذا كان قدر الحديث عندهم على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله: (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا) وذلك أن في قوله: (بأطراف الأحاديث بيننا) وحياً خفيا ورمزاً حلواً؟. ألا ترى إنه قد يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من

التعريض والتلويح والايماه، دون التصريح. وذلك أحلى وأدمث وأغزل، وأنسب من أن يكون كشفاً ومصارحة وجهراً. وإذا كان الأمر كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما، وإن عذب موقعه ولذ سمعه. نعم، في قول هذا الشاعر (وسالت بأعناق المطي الأباطح) من الرشاقة واللطافة مالا خفاء به فالعرب إنما تحلي ألفاظها وتدبجها، وتوشيها وتزخرفها، عناية منها بالمعاني التي تحتها، أو توصلا بها إلى إدراك مطالبها. فالألفاظ إذا خدم المعاني، والمخدوم لا شك أشرف من الخادم، فاعرف ذلك.

الباب الثالث من الفن الثاني من القطب الأول في تفضيل الكلام المنثور على المنظوم

الباب الثالث من الفن الثاني من القطب الأول في تفضيل الكلام المنثور على المنظوم واعلم أن الأقوال متعارضة في تفضيل كل واحد من هذين القسمين على الآخر، إلا أن المذهب الفحل والقول القوي هو أن الكلام المنثور أفضل من الكلام المنظوم، والدليل على ذلك من أربعة أوجه: (الأول) أن القرآن الكريم ورد نثراً، ولولا فضله وعلو درجته، لما نزل كتاب الله - عز وجل - على أسلوبه ونهجه، وأيضاً، فإن القرآن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن المعلوم أن المعجزات لا تجيء إلا من طريق الأصعب، بحيث إنه لا يمكن أحداً من خلق الله الوصول إليها، والإتيان بمثلها. ولما كان النثر من الأقوال الشاقة، والأشياء المتصعبة، أنزل الله تعالى القرآن، الذي هو معجزة، على قانونه. ومما يدلك على أن النثر أشق من النظم، وأصعب مأخذاً، هو أن العرب كانوا أفصح الناس، وأبلغهم وأكثرهم قدرة على التفنن في الكلام، زعم هذا فلم نسمع لأحد منهم نثراً، إلا قس بن ساعدة، الذي يضرب بكلامه المثل في الفصاحة والبلاغة، ولأقوام آخرين وهم قليل. وأما النظم، فإن جميع العرب كانوا يقولونه وكان عليهم من أسهل الأشياء حتى على نسائهم.

وأيضاً، فإن أرباب النظم لو أريد حصرهم، بل حصر أهل عصر واحد لتعذر حصول ذلك، فكيف حصر جميعهم؟ وليس سبب هذا إلا وعورة مسلك النثر وشرف منزلته، وأنه لا يناله إلا الأفراد من الفضلاء، فإن قيل: إذا كانت العرب لا تكثر من النثر، وأكثرت من النظم، فليس ذلك دليلاً على أن النثر أصعب من النظم بل الأمر بالعكس من ذلك، وهو: أن النثر لما كان سهلاً عند العرب هيناً، والنظم شاقاً عليهم مستصعباً، عمدوا إلى الأصعب وتركوا الأسهل؛ لأنهم إنما كان غرضهم إظهار قوتهم في البلاغة والفصاحة، وإذا كان ذلك فيما هو أشق مسلكاً وأوعر مذهباً، كان أدل على نمكنهم من الكلام. وأما النثر، فما كان عندهم بمنزلة ما يرغبون فيه، ويتنافسون عليه؛ لسهولته عندهم! ولهذا لم يعتنوا به ويكثروا منه، كما فعلوا في النظم! وأما قولك: إن القرآن الكريم ورد نثراً، وتفضيلك النثر على النظم، لأن الله تعالى إنما أنزل القرآن ليكون آية لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة على يده، ليفحم به أولئك الفصحاء والبلغاء من العرب، لأنهم كانوا أرباب الفصاحة والبلاغة، وحيث كان النثر سهلاً عندهم يسيراً عليهم أنزل الله تعالى القرآن على أسلوبه ليعجزهم، بما هو أسهل عليهم من غيره، ليكون ذلك أعظم في الإعجاز. وأبلغ الجواب عن ذلك أنا نقول أن هذا الذي ذكرته من أن النثر، كان أسهل على العرب من النظم، واستدلالك عليه بقلة رغبتهم فيه، واعتنائهم به، فليس ذلك دليلاً لك، بل هو دليل لنا دونك. وذاك إنه قد ثبت بإجماع منا أن العرب لم تكثر من النثر، وأكثرت من النظم، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان مكثراً من شيء أستدل بذلك على قدرته عليه، و (عدم) قصوره عن الوصول إليه. ولا يقال بأن إكثاره من هذا الشيء دليل على تعذره عليه، لأنه لو كان متعذراً عليه لما قدر على الإكثار منه، ولذلك لا يقال أيضاً: أن تقليله من هذا الشيء دليل على سهولته عنده لما أقل منه، وهذا مما لا يمكن النزاع فيه بحال من الأحوال. وأما قولك: إن النثر لما كان عند العرب أسهل من النظم، أنزل الله تعالى القرآن الكريم

على أسلوبه، ليعجزهم بما هو أسهل عليهم من غيره، فيكون ذلك أدل على الإعجاز من كونه يجيء على أسلوب الأشق الأصعب. فالجواب عن ذلك أنا نقول: قد ثبت أن المعجزات التي على أيدي الأنبياء - صلوات الله عليهم - لم تأت مما كان سهلاً على أممهم، لأنهم إنما جاءوا بإحياء الأموات، وانشقاق البحر وانفجار الماء من الحجر، وما جرى هذا المجرى، وهذا الحكم أيضاً موجود في النثر، فإنه لما كان شاقاً على العرب، وليس فيهم من يقدر على الإتيان به إلا القليل، أنزل الله تعالى القرآن الكريم على نهجه وطريقة، لتكون المعجزة مناسبة لما جاءت (فيه). وذلك أن النثر من حيث ذاته أمر شاق مستصعب، وانضاق إلى ذلك كونه من عند الله تعالى فصار معجزاً بالضرورة، فاعرف ذلك. وأما الوجه الشافي فهو: أن النثر ينوب مناب النظم، ولا ينوب النظم مناب النثر وذلك إنه إذا أخذ معنى من المعاني، وعبر عنه بلفظ مطابق له، وكان ذلك الكلام منثوراً، فإنه لا يمكن التعبير بمقدار ذلك اللفظ، ويكون الكلام شعراً، وذلك إنه يحتاج في الشعر إلى إقامة الوزن، وهذا لا يتم إلا بزيارة لفظ، أو نقصان لفظ، وإذا زيد على ذلك شيء صار في الكلام مالا حاجة فيه، إذ المعنى كان يصح بدونه، وإن نقص منه شيء صار المعنى ناقصاً عما كان عليه في الأول. وأما الوجه الثالث: فهو أن النثر لا ينال الا بعد تحصيل آلاته المذكورة في صدر كتابنا هذا أو بعضها. وذلك بخلاف النظم، فإنه قد يقوله من لم يحصل من آلاته شيئاً البتة. وكثيراً ما رأينا ممن يقول الشعر الحسن، ويصيب في معانيه، ويجيد ألفاظه، وهو لا يعرف من آلات التأليف شيئاً، كالسوقة والعامة من أرباب الحرف والصنائع. وأما الوجه الرابع: فهو أن النائر تعلو درجته حتى ينال الوزارة للخلفاء والملوك. وأما الشاعر فلا تعلو درجته عن رتبة المستعطين، ومنزلة الطالبين لما في أيدي الناس. ولولا فضل النائر وما عرف من شرف صنعته والحاجة إليها، لما رقي إلى درجة الوزارة. وكذلك الشاعر؛ فلولا كساد صنعته والاستغناء عنها، لعلت درجته وارتفعت منزلته، ولما كان في طول عمره كلاً على الناس، وهذا شيء مطرد لم يزل. وقد شوهد رأي العين، فلا يمكن النزاع فيه يحال من الأحوال.

القطب الثاني في الأشياء الخاصة وهو فنان

القطب الثاني في الأشياء الخاصة وهو فنان: الفن الأول في الفصاحة والبلاغة اعلم أن هذا باب غامض، متعذر على الوالج، ومسلك وعر، مستصعب على الناهج. ولم يزل الناس من قديم الوقت، وهلم جراً، يتهافتون على الخوض فيه، والغوص عليه، وهم مع كثرة طلبهم لمعرفته، وتوفر حرصهم على الإحاطة به، لا يظفرون منه إلا كنغبة طائر أو قطرة من بحر زاخر. وقد قال بعض المصنفين من العلماء: (لم أزل منذ خدمت أهل العلم، انظر فيما قالوه في معنى الفصاحة والبلاغة، وأستكشف عن المعنى في ذلك، فلا أجد إلا كالرمز والاشارة، ولا أقف فيه على قول شاف، ولا كلام كاف. فلما رأيت الأمر كذلك، علمت إنه لا يكفي في معرفة هذا العلم العظيم، الذي كان به إعجاز القرآن الكريم، قول مهمل، ولا كلام مجمل. بل لا تتم معرفته حتى يفصل فيه القول، ويدل على الخصائص التي تأتي في تأليف الكلام، ويوضح إيضاحاً جلياً من غير مغادرة لشيء من ذلك، حتى تكون المعرفة بهذا العلم كمعرفة الصانع الحاذق، الذي يعلم كل هدبة منسوجة من الابريسم في الثوب الديباج، وكل حجر من الأحجار الداخلة في البناء، فأنك إذا نظرت إلى هذا العلم الشريف احتجت عند ذلك إلى طول مكث وتدبر، وكثرة تأمل وتفكر، والى همة تأبى أن تقنع إلا بأعلى المنازل، وأسمى المراتب. ومتى جشمت

نفسك حول هذا المرام البعيد، وكلفتها صعود هذا المرمى النازح، فقد أممت أمراً عظيماً، وتعرضت لخطب جسيم) وفقنا الله وإياكم لمواقع الصواب. ولنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمنا من ذكر الفصاحة والبلاغة، والكشف عن حقيقتها واختصاصهما، فنقول: اعلم أن أصل الفصاحة في وضع اللغة: الظهور والبيان؛ يقال: أفصح الصبح إذا بدا ضوؤه وأسفر، وأفصح فلان عما في نفسه: إذا أظهره، وإنما سمي اللفظ فصيحاً لأنه يبين المقصود، ويوضح المعنى المندرج تحته. والفصاحة: اسم عام يشمل المفرد من اللفظ والمركب، وإنما كان الأمر كذلك لأن واضع اللغة إنما وضع الألفاظ مفردة لا مركبة، فالفصاحة شملت أولا المفردة، وإذا شملت المفردة فمن الضرورة شمولها للمركبة؛ لأن المركبة مجتمعة من المفردة. وكل مركب كانت أجزاؤه ذات صفة هي فيها متساوية فتلك الصفة تعمه لا محالة. واعلم أيضاً أن الفصاحة أمر إضافي كالحسن والقبح. والكلام الفصيح ليس كلاماً مخصوصاً بعينه، بل كل من فهم كلاماً وعرفه فهو فصيح بالنسبة إليه، ظاهر عنده، وواضح لديه. ومما يقوي هذا القول، أن اللفظ الذي لا نعده نحن في زماننا هذا فصيحاً، ونكرهه مشتهراً. ولولا ذلك لما أوردوه في كلامهم، فإن معظم أشعار العرب ومن يليهم من المحدثين مشحونة ومملوءة منه. ولو استعمل في زماننا هذا لاستنكر واستبشع، وحكم على قائله بالجهل والتعسف. ورأينا أبا محمد بن سنان الخفاجي قد قال في كتابه: إن الفصاحة نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ. ثم إنه قسم الشروط إلى قسمين، أحدهما يوجد في اللفظة المفردة، والآخر يوجد في الألفاظ المركبة، وجعل ما يختص باللفظة المفردة منقسماً إلى ثمانية أقسام، كتباعد مخارج

الحروف، وأن لا تكون الكلمة وحشية ولا متوعرة، وغير ذلك مما أورده وذكره في كتابه. وفي هذا نظر وقفنا عليه الفكر والروية، وذلك إنه قد جعل صفات اللفظة التي تكون بها ذات مزية وحسن هي الفصاحة، وخالف بذلك نص العرب، لأنهم قالوا: إن اللفظ الفصيح هو الظاهر الواضح، ولم يقولوا: إنه المتباعد مخارج الحروف، ولا الذي ليس وحشياً ولا متوعراً، ولا غبر ذلك مما ذكره أبو محمد بن سنان. ولهذا تطرق إلى كلامه الخلل، وذاك إنه نقل الفصاحة عن حقيقتها التي وضعت لها في أصل اللغة، بأن علقها على هذه الشروط التي ذكرها، وجعل وجودها موقوفاً على وجود تلك الشروط، و (إذا نقص) بعضها لا تكون فصيحة وحقيقتها أن تكون فصيحة، وهذا من أعجب الأشياء فليتأمل. وأيضاً فإن أبا محمد بن سنان قد ذكر في كتابه، من جملة الأقسام الثمانية، قسماً وهو أن لا تكون الكلمة قد عبر بها عن معنى بكره ذكره، فإذا وردت وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، كقول عروة بن الورد: (و) قلت لقوم في الكنيفِ تروَّحوا ... عشية بتنا عند ما وانِ رُزّحِ قال (الكنيف) أصله الساتر، ومنه قيل للترس (كنيف) غير إنه قد استعمل في الآبار التي تستر الحدث وشهر بها فأنا اكرهه لذلك. هذا حكاية كلام أبي محمد بن سنان الخفاجي. ولنا عليه اعتراض، وهو أنا نقول: إذا كان قد جعل الفصاحة مقصورة على الألفاظ فكيف عاد نقص ما ادعاه بهذا القول، فإنه إنما أنكر من هذه اللفظة التي هي الكنيف ما تضمنته من المعنى فقط. وإلا فإذا اعتبر لفظها ومخارج حروفها، من غير نظر إلى المعنى المندرج تحتها، لم يوجد لها قبح ولا كراهة، لأن مخارج الحروف التي تألف منها متباعدة، فمخرج الكاف

دون مخرج القاف الذي هو من أقصى اللسان، ومخرج النون من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا السفلى، ومخرج الياء من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك، ومخرج الفاء من باطن الشفة السفلى، وأطراف الثنايا العليا. ومع هذا فإذا نقلت هذه اللفظة التي قد استقبحت هاهنا، إلى موضع آخر صار ذلك القبح حسناً كقولك: (أنا في كنف فلان) أي في ذراه، وتحت ظله. فصح حينئذ من فحوى كلام أبي محمد بن سنان إنه نقض ما ادعاه أولاً، من أن الفصاحة نعت للألفاظ، بما ذكرناه من شروطها الثمانية، التي من جملتها هذا القسم المأخوذ عليه، وهو مما يختص بالمعنى دون اللفظ، وتناقض كلام مثل ذلك الإمام المشهور في هذه الصناعة عجيب. عصمنا الله وإياكم من الزلل وهدانا إلى طريق الصواب. وأما البلاغة، فإن أصلها (في) وضع اللغة: الوصول والإنهاء، يقال: بلغت المكان إذا انتهيت إليه، ومبلغ الشيء: منتهاه. وسمي الكلام بليغاً من ذلك، أي إنه قد بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية. وذلك أن له أوصافاً ثلاثة يعرف بها، فمتى عري من واحد منها نقص عن درجة البلاغة، فلا يسمى بليغاً، وهي أن يكون معناه مقيداً، ويكون لفظة فصيحاً، ويكون غير زائد على المعنى المندرج تحته، فيلزم على هذا أن يكون كل كلام بليغ فصيحاً وليس كل كلام فصيح بليغاً. واعلم أن البلاغة نعم الكلام مركباً لا مفرداً، وإنما كانت كذلك لأن المفرد لا يكون مفيداً، وما ليس بمفيد فلا يسمى بليغاً. وأيضاً فإن اللفظة المفردة برأسها، إذا وردت في الكلام لا يراد بها إلا معنى واحد من غير زيادة. (و) في الكلام ما يزيد معناه على لفظه، وذلك إنما يكون مركباً لا مفرداً. وأما اختصاص الفصاحة والبلاغة، فإن أبا محمد بن سنان الخفاجي ذكر ذلك في كتابه فقال: إن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع

المعاني. ثم إنه لم يورد على ذلك دليلاً بل أجمل القول فيه كما قد ذكرناه. فإن هذا حكاية لكلامه بعينه. فلما وقفنا نحن على ما أومأ إليه، سنح لنا في أثنائه دليل، وهو أنا نقول: قد ثبت لنا أن أصل الفصاحة في وضع اللغة: الظهور والبيان، والفصيح: هو الظاهر، وهو اسم فاعل من فصح مطرد في بابه، يقال: (كرم فهو كريم) و (ظرف فهو ظريف) و (وشرف فهو شريف) و (فصح الكلام فهو فصيح) وكذلك ما جرى هذا المجرى. فوزن فعيل: هو اسم فاعل من (فعل)، وهذه قاعدة مستمرة في ذلك. وقد ثبت لنا أيضاً، أن المعنى لا يكون مظهراً لنفسه، ولا موضحاً عن ذاته، إذ المعاني جميعها قائمة بالنفس، وإنما اللفظ يظهرها ويبينها فهو إذا فاعل البيان والإيضاح، وهذه أيضاً قاعدة مسلمة، لا خلاف فيها بحال من الأحوال. فلما كان اللفظ هو الفاعل للبيان والإيضاح، وكان الفصيح اسم فاعل من فصح، أي بان واتضح، وجب حينئذ أن يكون اسماً للفظ، مختصاً به. فاعرف ذلك. فإن قيل: القياس يقتضي أن الدليل الذي أوردته في الفصاحة يلزمك في البلاغة مثله، وهو أن وزن (بليغ) مثل وزن (فصيح) فكما أن فصيحاً اسم فاعل، كذلك يكون (بليغاً) أيضاً اسم فاعل، وإذا كان اللفظ فاعلاً للفصاحة فاختصت به، كذلك يكون اللفظ فاعلاً للبلاغة فيجب اختصاصها به. الجواب عن ذلك أنا نقول: أما قولك: القياس يقتضي أن تكون البلاغة مختصة باللفظ، كما أن الفصاحة مختصة به، لتساوي البلاغة والفصاحة في الدليل الذي أوردناه من حيث إن بليغاً وفصيحاً على وزن واحد فإن هذا الذي ذكرته قياس وارد، ولكن من وجه، وذلك أنا نحن لم نستدل على أن الفصاحة تخص اللفظ بوزن (فعيل) الذي هو اسم الفاعل فقط، وإنما استدللنا على أن الفصاحة تخص اللفظ من حيث كان أصلها في وضع اللغة الظهور والبيان. وانضاف إلى ذلك أنها على وزن (فعيل) الذي هو اسم فاعل من (فعل) نحو (فصح)

فهو (فصيح). فلما صح لنا هذان الأمران، ثبت لنا من مجموعها ما ادعيناه: من أن الفصاحة تخص اللفظ كما أريناك. وأما البلاغة فلو كان أصلها في وضع اللغة (الظهور والبيان) كما هو أصل الفصاحة، لصح لك ما ذكرته من الاعتراض. وإنما أصلها في وضع اللغة (من الوصول والانتهاء) لا غير، وعلى أصلك أيها المعترض فينبغي أن يكون كل ما هو على وزن (فعيل) مختصاً باللفظ نحو (شرف فهو شريف) و (ظرف فهو ظريف) و (كرم فهو كريم) وأمثال ذلك مما جرى هذا المجرى فالشرف إذا مختص باللفظ، وكذا الظرف والكرم، وهذا من أعجب الأشياء، فليتأمل. وأيضاً، فقد بينا أن للبلاغة أو صافاً ثلاثة، لا يسمى الكلام بليغاً إلا بمجموعها. ومتى عري من واحد منها فليس ببليغ. فالأول منها يتعلق بالمعنى، وهو الإفادة. والثاني يتعلق باللفظ والمعنى كليهما، وهو أن يكون اللفظ غير زائد على المعنى. والثالث يتعلق باللفظ وهو الفصاحة، لأن الكلام لا يطلق عليه اسم البلاغة حتى يكون فصيحاً. فالفصاحة إذا شرط في البلاغة لا تتم إلا به. فلما كانت الحال كذلك وجب أن تعم البلاغة اللفظ والمعنى معاً. وأما الفصاحة فليست كذلك؛ لأنها محض إبانة ووضوح فقط، وذلك يتعلق باللفظ بموجب الدليل الذي قدمنا ذكره. فتدير ما أشرنا إليه، وتصفح مطاويه، وفي ذلك كفاية.

الفن الثاني من القطب الثاني في ذكر أصناف علم البيان وانقساماتها

الفن الثاني من القطب الثاني في ذكر أصناف علم البيان وانقساماتها وهو بابان: الباب الأول في الصناعة المعنوية وينقسم إلى تسعة وعشرين نوعاً، وإنما قدمنا ذكر المعاني على الألفاظ؛ لأن المعاني هي التي تقرر أولاً في النفس وترتب في القلوب، ثم يطلب لها بعد ذلك ألفاظ تعرب عنها، وتدل عليها ولأن المعاني أشرف من الألفاظ وأعلى محلاً. فاعرف ذلك. النوع الأول في الاستعارة وهو أن تريد تشبيه الشيء، فتدع الإفصاح بالتشبيه وإظهاره، وتجيء على اسم المشبه به وتجريه عليه كقولك: (رأيت رجلاً هو كالأسد في شجاعته وقوة بطشه سواء)، فتدع ذلك ونقول: (رأيت أسداً) وهذا يكون على ضربين: أحدهما: أن تجعل المشبه هو المشبه به، بأن تنزله وتسقط ذكر المشبه من البين كقولك: (رأيت أسداً) والثاني بأن تجعل المشبه به، خبراً عن المشبه في باب الاستعارة، وأورده جماعة العلماء مثل: قدامة، والجاحظ، وأبي هلال العسكري، والغانمي، وأبي محمد بن سنان الخفاجي في تصانيفهم في باب

الاستعارة. ولم يذكروا أن الأصل فيه تشبيه بليغ؛ فما أعلم هل ذلك لخفائه عليهم، أو أنهم عرفوه ولم يذكروه، وهو الأصل المقيس عليه في التشبيه، الذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان. وقد أوردناه نحن في كتابنا هذا في باب الاستعارة تشبهاً بالقوم، واستناناً بسنتهم؛ لأنهم السابقون في هذا الفن بالتصنيف، إلا أن موضعه باب التشبيه. فاعرف ذلك. واعلم إنه قد أجمع الجمهور من العلماء على أن للاستعارة مزية وفضلاً على حقيقتها؛ والسبب في ذلك أنك إذا قلت: (رأيت أسداً) كان لكلامك مزية، لا تكون إذا قلت: (رأيت رجلاً هو كالأسد سواء، في الشجاعة، وقوة القلب، وشدة البطش). وليست المزية التي تثبتها لهذا الجنس على الكلام المتروك على ظاهره، ولكنها في طريق إثباتك، لها وتقريرك إياها، معلومة من قرائن الأحوال، فليست المزية في قولك: (رأيت أسداً) إنه دل على شجاعة زائدة، وشدة وافرة، بل أنك أثبت للمستعار له الشجاعة الزائدة والشدة الوافرة، من وجه هي أبلغ وآكد، وأوجبتها له إيجاباً هو أشد وأقوى، لأنك أثبتها بالدلائل والشواهد. فإذا سمعتهم يقولون: إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني نيلاً، فإنهم لا يريدون الشجاعة والشدة وغير ذلك، وإنما يريدون إثبات معاني هذه الكلم لمن تثبت له، ويخبر بها عنه من طريق هو أشد وآكد. وسيأتي بيان ذلك في باب التشبيه مستوفى، إن شاء الله. واعلم أن الاستعارة جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب (بيان) أحدهما بالآخر، ولا بد للاستعارة من ثلاثة أشياء: مستعار، ومستعار منه، ومستعار له، فاللفظ المستعار، قد نقل من أصل إلى فرع للإبانة. والمستعار منه والمستعار له، لفظان حمل أحدهما على الآخر في معنى من المعاني؛ هو حقيقي للمحمول عليه، مجازي للمحمول. مثال ذلك قوله تعالى: (واشتعل الرأس شيبا) فهذا مستعار، ومستعار منه، ومستعار له؛ فالمستعار هو الاشتعال،

وقد نقل الأصل الذي هو النار إلى الفرع الذي هو الشيب، قصداً للإبانة، وأما المستعار منه فهو النار والاشتعال لها حقيقة. وأما المستعار له فهو الشيب، والاشتعال له مجاز. واعلم أن أبلغ الاستعارات ما ناب التشبيه منابها، وكلما زدت التشبيه فيها إخفاء ازدادت الاستعارة حسناً ورونقاً؛ حتى إنك تراها أعجب ما يكون، إذا كان الكلام ألف تأليفاً إن أردت أن تفصح فيه بالتشبيه خرجت إلى شيء يحط من درجته، ويضع من قدره؛ ويدلنا على ذلك قول بعضهم. أثمرتْ أغصان راحته ... لجُناةِ الحسن عنُابا ألا ترى أنك لو كلفت نفسك أن تظهر التشبيه، وتفصح به احتجت إلى أن تقول: أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان، لطالب الحسن، شيه العناب من أطرافها المخضولة!؟ ومن له أدنى تشبث بهذه الصناعة، يعلم الفضيلة بين ما تضمنه هذا البيت من الاستعارة، وبين إظهاره إلى التشبيه. فاعرف ذلك وقس عليه. وحيث انتهى بنا القول إلى هذا المقام، ونبهنا على هذه الأصول، فلنتبعها بما ينخرط في سلكها من الكلام على الجيد من الاستعارة؛ الذي يجب على المؤلف اُستعماله، والرديء الذي ينبغي له اُجتنابه والبعد عنه، فنقول: الاستعارة تنقسم قسمين: الأول، يجب اُستعماله: وهو ما كان بينه وبين ما اُستعير له تشابه وتناسب، ولنضرب له أمثلة يستدل بها عليه: فمن ذلك قوله تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار). وهذا الوصف إنما هو على ما يظهر للعين لا على حقيقة المعنى؛ لأن الليل والنهار اُسمان يقعان على هذا الجو عند إظلامه وإضاءته بغروب الشمس وطلوعها، وليسا على الحقيقة شيئين يسلخ أحدهما من الآخر، إلا أنهما في رأي العين كأنهما كذلك. والسلخ يكون في الشيء الملتحم بعضه ببعض، فلما كانت هوادي الصبح عند طلوعه، كالملتحمة بأعجاز الليل، أجري عليهما اسم السلخ، وكان

ذلك لائقاً في بابه، وهو أولى من قوله (يخرج) لأن السلخ أدل على الالتحام المتوهم من الإخراج، وذلك أن انسلاخ الشيء، هو أن يميز أحدهما من الآخر، ويزول عنه بالتدريج، حالاً فحالاً، كما ينسلخ جلد الشاة عنها. وكذلك انفصال الليل عن النهار. فانظر أيها المتأمل لهذه الاستعارة، شدة التناسب الذي بينها وبين ما اُستعيرت له، ومشابهتها إياه؛ فإنها من الاستعارات التي لا أمد فوقها في الحسن. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى، عز وجل: (واشتعل الرأس شيباً) وقد ذكر علماء البيان في هذا، ما نورده هاهنا. وهو: أن الشيب لما كان يأخذ في الرأس، ويسعى فيه شيئاً فشيئاً، حتى يحيله إلى غير لونه الأول، كان بمنزله النار التي تشعل في الجسم وتسري فيه، حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة. وهذا كلام مرضي في بابه، إلا أن هاهنا نكتة أخرى، وذلك إنه شبه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة التهابه، وتعذر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، ولأنه لم يبق إلا الخمود بعده. فهذه الاستعارة البديعة هي التي تعجز القدرة عن الإتيان بمثلها، ومما دون ذلك في الطبقة، قول أبي تمام: ومعرَّس للغيث يخفق بينه ... راياتُ كل دُجُنّةٍ وطفاء فإن استعارة هذا البيت صالحة مرضية، لملاءمتها ما استعيرت له، فحيث جعل للسحابة رايات كان ذلك مناسباً، لأن الهيدب الذي يستبين للناظر في الجو عند انسكاب السحابة، يكون مشابهاً لذوائب الرايات. وأما قوله (يخفق) فهو أيضاً حسن مرضي؛ لان الريح إذا هبت على الرايات خفقت بنودها، وجاء لها صوت كصوت السحابة في انسكابها وهمولها وانصبابها، ولا سيما الوطفاء.

ومن هذا النوع أيضاً قوله في الخمر: صعُبت فراضَ الماءُ سيسيء خلقها ... فتعّلمتْ من حُسنِ خلق الماء ألا ترى إلى حسن هذه الاستعارة، فإنه ليس بشيء أحسن من قوله في الخمر بأنها سيئة الخلق، وذلك حيث تكون صرفاً لا يستطاع شربها، ولا يمكن اساغتها، كالخلق السيئ الذي تعافه الأنفس، وتستكرهه الأرواح. وقوله (حسن خلق الماء) أيضاً غاية في الجودة؛ لأن الماء الصافي في سلاسته، ولطافة جوهره، شبيه بالخلق السهل الطيب. وأبداً توصف الأخلاق الحسنة بالماء؛ فيقال، (فلان ألطف أخلاقاً من الماء) لأنه ليس في الأجسام المدركة بالبصر ألطف ولا أرق من الماء؛ لأن النفس تجد لمشاهدته من اللذة، والسرور، والانبساط، مالا خفاء به. ولهذا قال يعض الحكماء: (الماء من طبع الروح). ومما يؤيد قوله هذا، ما ورد في القرآن الكريم؛ فإنه قد ذكر الماء في مواضع كثيرة منه، ثم يذكر إحياء الأرض الميتة به، كقوله تعالى: (والله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور). فجعل الماء للأرض بمنزلة الروح للجسد. ومن بديع الاستعارة قول بعضهم: يا طودَ حلم ظَلْتُ معتصماً به ... يا بحر علم عمتُ في تيّاره فإن المناسبة بينها وبين ما استعيرت له شديدة جداً، وذاك أن الحلم أصله في وضع اللغة: التأني والثبات، وترك الاعجال بالعقوبة، فلما كان الطود ثابت الأصل راسخ القواعد، لا يتحرك عن مكانه، ولا يزول من مستقره حسنت استعارته للحلم، للمشابهة التي بينهما. وهاهنا نكتة أخرى، وهو أن قوله: (طود حلم) أبلغ في الاستعارة من أن لو قال (جبل حلم) لأن الطود هو الجبل العظيم، وذلك أرسخ وأرسى أصلاً من غيره. وأما استعارته للعلم بحراً فحسن لا خفاء به على من له معرفة بهذا الفن.

ومن هذا النحو قول امرئ القيس: فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناَء بكلكل وقد قال أبو القاسم بن بشر الآمدي، أن امرأ القيس وصف أحوال الليل الطويل، فذكر امتداد وسطه، وتثاقل صدره، وترادف أعجازه وآخره. فلما جعل له وسطاً ممتداً، وصدراً ثقيلاً، وأعجازاً رادفة لوسطه، استعار له اسم الصلب، وجعله متمطياً من أجل امتداده. واسم الكلكل، وجعله نائياً لتثاقله. واسم العجز، من أجل نهوضه، فقال أبو محمد بن سنان: (إن هذا الذي ذكره أبو القاسم الآمدي، ليس بمرضي غاية الرضى، وإن بيت امرئ القيس ليس من الاستعارة المبيرة ولا الردية، بل هو وسط. فإن أبا القاسم قد أفصح أن امرأ القيس لما جعل لليل وسطاً ممتداً، استعار له اسم الصلب، وجعله متمطياً من أجل امتداده، وحيث جعل له أخيراً وأولاً، استعار له عجزاً وكلكلاً. وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض، فذكر الصلب إنما يحسن لأجل العجز. والوسط والتمطي لأجل الصلب. والكلكل لمجموع ذلك. وهذه استعارة مبنية على استعارة أخرى)، هذا حكاية كلام أبي محمد بن سنان، وهو مما أخطأ فيه من وجهين: الأول إنه قال: هذا البيت من الاستعارة الوسط، التي ليست بردية ولا جيدة) ثم جعلها استعارة مبنية على استعارة أخرى. وعنده أن الاستعارة المبنية على الاستعارة من أقبح الاستعارات وأبعدها، فإنه قسم الاستعارة إلى قسمين: قريب مختار، وبعيد مطرح. فالقريب المختار: ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوي وشبه ظاهر واضح.

والبعيد الطرح إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل، أو لأجل إنه استعارة مبنية على استعارة أخرى فيضعفه لذلك. هذا ما ذكره ابن سنان في تقسيم الاستعارة. وإذا كانت الاستعارة المبنية على استعارة أخرى عنده بعيدة ضعيفة، فكيف جعلها وسطاً!؟ هذا تناقض في القول، فاعرفه. الوجه الثاني: أنه لم يأخذ على أبي القاسم الآمدي في موضع الأخذ، لأنه لم يختر إلا ما حسن اختباره، وكان بديعاً في بابه. فإن الاستعارة قد يثبت أنها جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما، يكسب بيان أحدهما بالآخر. وهذا الحكم موجود في بيت امرئ القيس، فإنه لو لم يكن لليل صدر، أعني أولا، ولم يكن له وسط وآخر لما حسنت هذه الاستعارة. ولما كان كذلك استعار لوسطه صلباً، وجعله متمطياً. وجعل لصدره المتثاقل، أعني أوله، كلكلاً وجعله نائياً، واستعار لآخره عجزاً، وجعله رادفاً لوسطه. وذلك من الاستعارات المناسبة، التي لا أمد فوقها فاعرفها. وحيث ذكرنا للاستعارة المناسبة أمثلة يحتذيها المترشح لهذه الصناعة، ويستعملها في كلامه، فيجب حينئذ أن تذكر القسم الآخر، وهو غير المناسب، ونضرب له أمثلة يعرف بها أيضاً، فمن ذلك قول أبي تمام: يومُ فتح سقى أسودَ الضواحي ... كُشَبَ الموت رائباً وحليبا فإنه لا شيء أقبح من هذه الاستعارة، ولا أشد تباعدا بينها وبين ما استعيرت له، فما كفاه أن جعل للموت كثباً، أي ألباناً، واحدها (كثبة) حتى جعل بعضها رائباً، وبعضها حليباً ثم إن الموت من شأنه أن يستعار له ما يكره لا ما يستطاب.

ومن قبح الاستعارة أيضاً قوله: وتقاسم الناس السخاء مجزاً ... وذهبت أنت برأسه وسنامه وتركت للناسِ الإِرهابَ وما بقى ... من فرثِهِ وعُروقهِ وعظامهِ فاستعار للسخاء، رأساً وسناماً وإهاباً وعظاماً وعروقاً. وما قنع بذلك، حتى استعار له فرثاً، فصار السخاء جملاً على الحقيقة. وأمثال ذلك كثيرة. ولا يخلو الناظم أو النائر من سقطات تؤخذ عليه، إلا إنه ينبغي أن تكون مغفورة في جنب ماله من الجيد الحسن، لأن ذلك لا يحط من قدره في صناعته إذ العالم من تعد سقطاته، لا من يعد جيده. ومن الاستعارة البعيدة قول بعضهم: إلى ملك في أيكة المجد لم يزل ... على كبد المعروف من نَيْله بَرْدُ فإن استعارته للمجد أيكة، أقرب مأخذاً من استعارته للمعروف كبداً، وإن كانت الاستعارتان من البعد على ما أذكره لك، وهو أني أقول: قد ثبت أن الاستعارة هي الجمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما بالآخر، وهذه قاعدة مسلمة، لا نزاع فيها بحال من الأحوال. وإذا كان الأمر كذلك، فالجامع بين المجد والأيكة وجه بعيد. وذلك أن المجد في وضع اللغة: هو المحتد الكريم، أي الأصل الكريم. والأيكة في وضع اللغة: واحدة الأيك، وهو شجر ماتف، فلما كان المجد هو المحتد الكريم، أي الأصل، كان للأيكة أصل أجيز استعارته للمجد أيكة من هذا الوجه، وفيه بعد، وسبب بعده؛ إنه يسوغ لقائل أن يقول: إن كل ما كان له أصل على هذا القياس يجوز أن يستعار للمجد؛ كقولنا: (جبل المجد) و (حائط المجد) وغير ذلك مما له أصل، وهذا بعيد جداً.

النوع الثاني من الفن الثاني التشبيه

وأما الاستعارة الثانية، وهو قول الشاعر: (كبد المعروف) فإن بعدها بما استعيرت له، وقبحها مما لا يحتاج فيه إلى الشرح لوضوحه وبيانه. وأمثال ذلك كثيرة لا تحصى. فعلى المؤلف اجتنابها، والعدول عنها. النوع الثاني من الفن الثاني التشبيه وحده أن يثبت للمشبه حكم من أحكام المشبه به. ويقال: هو الدلالة على اشتراك شيئين في معنى من المعاني، وأن أحدهما يسد مسد الآخر وينوب منابه، سواء كان ذلك حقيقة أو مجازاً. فأما الحقيقة، فهو أن يقال في شيئين أحدهما شبيه بالآخر في جميع أوصافه، كالسوادين والبياضين أو ما جرى مجراهما، وليس هذا من غرضنا. وأما المجاز، فهو أن يقال في شيئين أحدهما شبيه بالآخر في يعض أوصافه كقولنا: (زيد أسد) فهذا القول صواب من حيث (كلام) العرب، وداخل في باب المبالغة، إلا إنه لم يكن زيد أسداً على الحقيقة. واعلم أن فائدة التشبيه هي الكشف عن المعنى المقصود، مع ما يكتسبه من فضيلة الإيجاز والاختصار. والدليل على ذلك ما ذكرناه من قولنا: (زيد أسداً). فإن الغرض من هذا القول أن نبين حال زيد، وأنه متصف بشامة النفس، وقوه البطش، والشجاعة، وغير ذلك مما جرى هذا المجرى. إلا أننا لم نجد شيئاً ندل به عليه، سوى أن جعلناه مشبهاً بالأسد، حيث كانت هذه الصفات مختصة به، ومقصورة عليه. فصار ما قصدناه من هذا القول، اكشف وأبين من أن لو قلنا: (زيد شهم، شجاع قوي البطش، جريء الجنان) وأشباه ذلك، لما قد عرف وعهد من اجتماع هذه الصفات في المشبه به، أعني الاسد، فإنه معروف بها، مشهور بكونها فيه، واشتمالها عليه. وأما المشبه، أعني (زيداً) فليس معروفاً بها، ولا منسوباً إليها، وإن كانت موجودة فيه.

وأما الإيجاز فهو أن قولنا، (زيد أسد) يسد مسد قولنا (زيد من حالة كيت وكيت، وهو من الشدة والشجاعة على كذا وكذا) مما يطول ذكره، ويتسع القول فيه. فاعرف ذلك. واعلم أن تشبيه الشيء (بالشيء) لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يكون الشيئان، المشبه أحدهما بالآخر، متفقين من جميع الجهات، وإما أن يكونا متفقين من وجه دون. فإن كانا متفقين من جميع الجهات كالسوادين والبياضين فليس هذا من غرضنا إذ لا كبير قائدة فيه. وأن كان اتفاقهما من وجه دون وجه، فهما إذا مختلفان. فيقي كلامنا الآن على تشبيه شيئين مختلفين أحدهما بالآخر، كقولنا: (زيد أسد) فإن غرضنا من هذا، أن تشبه شهامة زيد وشجاعته وجرأته، لا أن زيداً أسد من جميع الجهات. فأنا لو أردنا ذلك لكان هو هو، وهذا محال، لأن زيداً ليس أسداً، وإنما هو إنسان. فاعرف ذلك. واعلم أن التشبيه يكون بأداته، كالكاف وكان وما جرى هذا المجرى. ويكون بغير أداته، وهو أن يجعل الكلام خلواً منها صالحاً لتقريرها فيه. وإذا جاء التشبيه بغير أداته كان أبلغ وأوجز. والدليل على ذلك، قولنا: (زيد أسد) يعطي ظاهره من المعنى أنا أخبرنا عن زيد إنه أسد، وذكرنا إنه هو. إلا أن حرف التشبيه في ذلك مقدر. وإذا قلنا (زيد كأنه الأسد) فتكون قد أظهرنا فيه حرف التشبيه، الذي كان مخفياً في الأول، فيصير حينئذ تشبيهاً لزيد بالأسد. وفي الأول إنه كان قد جعل هو الأسد، وحرف التشبيه مقدر فيه تقديراً. فمن هذا الوجه كان الأول أبلغ، وأشد موقعاً في النفس. وأما كونه أوجز، فلأن قولنا: (زيد أسد) أخص من قولنا: (زيد كأنه الأسد) وإن كان المعنيان سواء. فاعرف ذلك. واعلم إنه لا يخلو الشيئان في تشبيه أحدهما بالآخرين من ثلاثة أقسام: إما تشبيه معنى بمعنى، كالذي ذكرناه من قولنا: (زيد أسد). وإما تشبيه معنى بصورة، كقوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة. . .). الآية. فشبه ما لا يدرك بالحاسة (بما يدرك بها)

فالقسم الأول: تشبيه المفرد بالمفرد

وأما تشبيه صورة بصورة، كقوله تعالى: (وله الجوار المنشات في البحر كالأعلام). فشبه صورة أجسام الفلك في كبرها وعظمها بالجبال، وذلك تشبه صورة مرئية. وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة، لا يخلو من ثلاثة أقسام أيضاً وهي: تشبيه مفرد بمفرد، وتشبيه مركب بمركب، وتشبيه مفرد بمركب: فالقسم الأول: تشبيه المفرد بالمفرد، وذلك كقول البحتري: تبسمٌ وقطوبٌ في ندىً ووغىً ... كالغيث والبرق تحت العارض البرد فهذا من أحسن التشبيه وأقربه. وهو تشبيه صورة بصورة، إلا أن في هذا البيت إخلالاً في الصيغة من حيث الترتيب والتفسير، فإن الأولى أن يقدم تفسير التبسم على تفسير القطوب، وسيأتي بيان ذلك في بابه. ومن هذا القسم أيضاً، قول بعضهم في صفة السيوف والدروع: وكأنما فوق الأكف بوارق ... وكأنما فوق المتون إضاءُ وهذا من بديع التشبيه ونادره، فاعرفه. وكذلك قول بكر بن النطاح: بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو جًثْل أسحمُ فكأنها فيه نهار ساطعٌ ... وكأنه ليل عليها مظلم وأمثال هذا كثيرة. القسم الثاني في تشبيه المركب بالمركب وذلك كقوله تعالى:

(إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كان لم تغن بالأمس) الآية، فشبهت حال الدنيا بسرعة زوالها، وانقراض نعيمها، بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً، بعد ما التف وتكاثف، وزين الأرض. وذلك تشبيه معنى بصورة. وهو من أبدع ما يجيء في هذا القسم، فاعرفه. ومما جاء على نحو منه، قوله عز وجل في حق المنافقين: (مثلهم كمثل الذي أستو قد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون). تقديره: أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد ناراً، في ليلة مظلمة، بمفازة، فاستضاء بها ما حوله، فاتقى ما يخاف وأمن، فبينا هو كذلك، إذ طفئت ناره فبقي مظلماً خائفاً متحيراً. وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها، واعتز بعزها، وأمن على نفسه وماله وولده. فإذا مات عاد إلى الخوف، وبقي في العذاب والنقمة. واعلم أنهم لما وصفوا بأنهم اُشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل، ليمثل هداهم الذي باعوه، بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع بها على قلوبهم، بذهاب الله بنورهم، وتركهم في الظلمات، ثم قال الله تعالى (صم بكم عمي). كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا مسامعهم عن الاصاخة، وأبو أن ينطقوا به السنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم، جعلوا كأنما أصابت هذه الحواس منهم الآفات، وهذا من عجائب التشبيه، وطريقته عند علماء البيان، طريقة قولهم (ليوث) للشجعان، و (بحور) للكرام وبعض علماء هذه الصناعة يجعلون ما كان على مثال قوله تعالى: (صم بكم عمي) استعارة، وليس كذلك كأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون. والاستعارة إنما تطلق بحيث يطوى

ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلواً منه، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال من فحوى الكلام عليه، وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق من باب الاستعارة، فاعرفه. وهذا هو الفرق بين الاستعارة والتشبيه عند المحققين من علماء البيان. ومن هذا القسم قوله: بكيت عليه حين لم يبلغ المنى ... ولم يَرو من ماء الحياة المكدّر كأن دم اُلنجلاء تحت بُروده ... لَطِيمة مسك في إهاب غضنفر وكذلك قول أبي الطيب المتنبي: كأن الجفون على مقلتي ... ثياب شققن على ثاكل ولقد أحسن بعض البغداديين في قوله: يا طالباً عجائب الأمور ... فعقرة في الدرع ذي القتير وقل رأيت البحر في غدير ومن هذا النحو قول ابن المعتز: والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عُريْان يمشي في الدجى بسراج وقال مؤلف الكتاب في صفة سقاة الخمر (فأخذنا في معاطاة الرحيق، ما بين الأكواب والأباريق. يطوف بها علينا ولدان، يعجز عن وصفهم قس وسبحان، فكأنهم في أيديهم الكؤوس، أقمار تسعى بشموس) وكذلك قوله أيضاً في بركة النيلوفر، من جملة رسالة عملها في الربيع (فأنينا إلى روضة ذات تأرج وتبرج، وبركة نياوفر كأنها مداهن من العسجد،

على قضب من الزبرجد، أو كأنه وهو في الماء يعوم، سماء أشرقت بمطالع النجوم)، وله من مرثية قالها في بعض الأصدقاء: لم يتكسب غير الثنا ... والحمد في حياته أبقى لنا مناقباً ... تنشر في مماته كالرند يبقى عرفه ... بعد ذهاب ذاته وأعجب ما سمعت في هذا الباب، قول الحسين بن مطير الأسدي يرثي معن بن زائدة: فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرَتعا فاعرف ذلك وقس عليه.

القسم الثالث في تشبيه المفرد بالمركب

القسم الثالث في تشبيه المفرد بالمركب فمن ذلك قول بعضهم: كأن السُهى إنسان عينٍ غريقة ... من الدمع يبدو كلما ذَرَفت ذَرْفا ومن هذا القسم قول الآخر في الورد الجنبذ: أتتك أبا حسن وردة ... تلذّ النفوس بأنفاسها كعذراء أبصرها مبصر ... فردت يدها على رأسها وقد ورد (كثيراً) أمثال ذلك، وفيما ذكرناه كفاية. وحيث تكلمنا في التشبيه الجيد وبيناه، فينبغي أن نوضح التشبيه الرديء ليجتنبه مؤلف الكتاب، فنقول: اعلم أن التشبيه الرديء هو أن يكون، بين المشبه والمشبه به، بعد وتباين، وذلك كقول بعضهم في السهام: كساها رطيب الريش فاعتدلت لها ... قداح كأعناق الظباء الفوارق فإنه قد شبه السهام بأعناق الظباء، وذلك من أبعد التشبيهات وأكثرها تبايناً. ومما جرى هذا المجرى، قول أحد الأعراب:

مَلا حاجبيك الشَعر حتى كأنه ... ظباء جرت منها سنيح وبارح فشبه شعرات بيضاً في حاجبيه بظباء سوانح وبوارح، وهو تشبيه بعيد جداً. وأمثال ذلك كثيرة فأعرفها. واعلم أن الأصل في حسن التشبيه هو أن يمثل الأسْتر بالأظهر وغير المعتاد بالمعتاد المعروف، وذلك لأجل إيضاح المقصود، وبيان المعنى المراد. ويظهر أيضاً حسن التشبيه في تمثيل الشيء بما هو أعظم منه، وذلك لأجل المبالغة والغلو. واعلم أن من التشبيه ضرباً يسمى: (غلبة الفروع على الأصول) وهو ضرب من الكلام ظريف، لا تكاد تجد شيئاً منه إلا والغرض به المبالغة؛ فما جاء من ذلك قول ذي الرمة: ورمل كأوراك العذارى قطعته ... إذا ألبسته المظلمات الحنادسُ ألا ترى إلى ذي الرمة، كيف جعل الأصل فرعاً والفرع أصلاً؟ وذلك أن العادة والعرف أن تشبه أعجاز النساء بكثبان الأنقاء، وهو مطرد في بابه، كقول البحتري: أين الغزال المستعير من النقا ... كفلا ومن نَورْ الأقاحي مبسما؟ فقلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا، فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء، وذلك كأنه يخرج مخرج المبالغة، أي قد ثبت هذا الموضع وهذا المعنى لأعجاز النساء، وصار كأنه الأصل فيه، حتى شبهت به كثبان الأنقاء. ومثل ذلك قول بعضهم:

النوع الثالث من الباب الأول في شجاعة العربية

في طلعة البدر شيء من ملاحتها ... وللقضيب نصيب من تثنيها ونظائر هذا أكثر من أن تحضى، فاعرفه. ولما شاع ذلك في كلام العرب واتسع صار كأنه أصل من بابه. النوع الثالث من الباب الأول في شجاعة العربية وهو نوع من علم البيان تتكاثر لطائفه، وتتوفر محاسنه، لأن معظم البلاغة مندرجة في أثنائه، ومنطوية تحت ضروبه، إلا أني لم أجد شيئاً منه عند أرباب هذه الصناعة، ولا وجدته في كتاب مصنف في هذا الفن، سوى أني رأيت أبا الفتح عثمان بن جنى قد ذكر، في كتابه الموسوم بالخصائص، شيئاً من التقديم والتأخير، والحمل على المعنى لا غير، وقد ذكرنا نحن في هذا النوع أشياء عجيبة، ونكتاً طريفة، عثرنا عليها في أثناء القرآن الكريم، واعلم أن هذا النوع ينقسم ستة أقسام: القسم الأول في الالتفات (الالتفات) الرجوع من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، يفعل ذلك على عادة العرب في افتنانهم في الكلام، وفيه فوائد كثيرة، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه، من أجراته على أسلوب واحد، وليس يفعل ذلك اتساعاً فقط بل لأمر أعلى، ومهم من الغرض أعنى، فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى في سورة الفاتحة: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم

ولا الضالين). هذا رجوع (من) الغيبة إلى الخطاب. ومما يختص به هذا الكلام من الفوائد، إنه ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من الربوبية العامة، والملك الخاص، فعلم العالم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالخضوع له، والاستعانة في المهمات به فخوطب ذلك المعلوم الموصف بتلك الصفات فقيل: إياك نعبد يا من هذه صفاته، أي تخص بالعبادة والاستعانة، ليكون أدل على العبادة، لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به، فإن قوله (إياك نعبد وإياك نستعين) بعد قوله (الحمد لله رب العالمين) ليس العدول فيه من الغيبة إلى الخطاب اتساعاً إنما عدل إليه لفائدة حسنة، وذلك أن الحمد لله دون العبادة، ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده. فلما كان الحال كذلك استعمل لفظ (الحمد) لتوسطه مع الغيبة في الخير، فقال: (الحمد لله) ولم يقل (لك)، ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال (إياك نعبد) فخاطب العباد إصراحا بها، وتقربا منه - عز اسمه - بالانتهاء إلى محدود منها وعلى نحو من ذاك جاء آخر السورة فقال (صراط الذين أنعمت عليهم) فأصرح بالخطاب لما ذكر النعمة، ثم قال (غير المغضوب عليهم) ولم يقل (غير الذين غضب عليهم) لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب قال (غير المغضوب عليهم) فجاء باللفظ منحرفاً به عن ذكر الغضب، فأسند النعمة إليه لفظاً، وزوى عنه ذكر الغضب تحسناً ولطفاً، فانظر إلى هذه اللغة الشريفة وتناسب هذه المعاني اللطيفة التي الأقدام (لا) تكاد تطؤها، والأفهام مع قربها صافحة عنها. ومن هذا الجنس قوله تعالى (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إذا) فقوله (لقد جئتم) وما فيه من المخاطبة بعد الغيبة زيادة تنكيل عليهم، بالجرأة على الله - عز وجل -

والتعرض لسخطه، وتنبيه لهم، على عظم ما قالوه. وأمثال هذا كثيرة فاعرفه. وأما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة فقوله - عز اسمه - (هو الذي يسير كم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) ألا ترى كيف صرف الكلام هاهنا من الخطاب إلى الغيبة؟ وإنما فعل ذلك لفائدة، وهو إنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، كالمخبر لهم، ويستدعي منهم الإنكار عليهم والتقبيح، ولو قال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها. وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة. وليس ذلك بخاف عن (عارف) هذا الكلام فاعرفه. ومن هذا الجنس قوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون). الأصل في تقطعوا (تقطعتم) عطفاً على الأول إلا إنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين، ويقبح عندهم ما فعلوه، ويقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، فجعلوا أمر دينهم إلى ما بينهم قطعاً، وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتياينهم، ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون، فهو مجازيهم على ما فعلوا. ومما ينخرط في هذا السلك أيضاً قوله تعالى (يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) الآية فإنه إنما قال (فآمنوا بالله ورسوله) ولم يقل: فآمنوا بالله ربي، حيث قال أولاً: إني رسول الله إليكم، لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليه وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع (له) هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته، كائناً من كان أنا أو غيري،

إظهاراً للنصف، وبعد عن التعصب لنفسه، فقرر أولاً في صدر الآية، بأنه رسول إلى الناس، وأثبت ذلك في أنفسهم، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين كبيرين قد ذكرتهما. الضرب الثاني: الرجوع من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، يفعل ذلك تعظيماً لحال من أجري عليه فعل الأمر. فمما جاء منه قوله تعالى (يا هود ما جئتنا ببينه وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون) ولم يقل (وأشهدكم) ليكون موازناً له وبمعناه، لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت في معنى يثبت التوحيد، ويشد معاقده. وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول، لاختلاف ما بينهما وجيء به على لفظ الأمر؛ كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد علي إني أحبك. تهكماً به واستهانة بحاله. وأمثال هذا كثيرة فاعرفها. الضرب الثالث: الرجوع من خطاب التثنية إلى خطاب الجمع، ومن خطاب الجمع إلى خطاب الواحد. فمن ذلك قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً. واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين). ألا ترى إلى هذا المعنى والتوسع في الكلام فإنه نوع الخطاب، فثنى ثم جمع ثم وحد، فخاطب موسى وهارون - عليهما السلام - بالنبوة والاختيار، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم ساق الخطاب لهما ولقومهما باتخاذ المساجد،

القسم الثاني من النوع الثالث في الإخبار عن الفعل الماضي بالمضارع وعن الفعل المضارع بالماضي

وإقامة الصلاة، كأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى - صلوات الله عليه - بالبشارة التي هي الغرض، تعظيماً له وتفخيماً لا مره، ولأنه الرسول على الحقيقة. ومن هذا النحو قوله تعالى: حكاية عن حبيب النجار (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) هذا عدول عن خطاب الواحد، إلى خطاب الجماعة. وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم، لأن أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة لنفسه، وهو يريد مناصحتهم، ليلطف بهم، ويداريهم، ولأن ذلك دخل في إمحاض النصح؛ حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: (ما لي لا أعبد الذي فطرني) مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى إلى قوله (وإليه ترجعون) ولولا إنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال (تعالوا إني آمنت بربكم فاسمعون) يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني، فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه، لأن العبادة لا تصح إلا لمن مبتدؤكم، وإليه مرجعكم. فانظر أيها المتأمل لكتابنا هذا، إلى هذه الدقائق التي أشرنا إليها في غضون هذا الكلام، فإن فيها ما شئت من اللطائف اللطيفة، والفوائد العجيبة. القسم الثاني من النوع الثالث في الإخبار عن الفعل الماضي بالمضارع وعن الفعل المضارع بالماضي وهو قسم من التأليف، لطيف المأخذ، دقيق المغزى، فالأول: الإخبار بالفعل المضارع عن الماضي، اعلم أن الفعل المضارع إذا أني به في حال الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأن الفعل المضارع يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، فمما جاء قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك

النشور) فإنه إنما قيل فتثير سحاباً، مضارعاً، وما قبله وبعده ماض، لذلك المعنى الذي أشرنا إليه، وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على القدرة الباهرة، وهكذا يفعلون بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية، بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك كما قال تأبط شراً: -. فإني قد لقيت الغُوْلَ تهوي ... بسهب كالصِّحيفة صحصحان فأضرُ بها بلا دَهَش فخرّت ... صريعاً لليدين وللجران لأنه قصد أن يصور لقومه، الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة، للتعجب من جرأنه على ذلك الهول، وثباته عند تلك الشدة. ولو قال فضربتها لزالت هذه الفائدة التي ذكرناها ونبهنا عليها. ومن هذا الباب قوله تعالى (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير) ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي هاهنا إلى المضارع فقال (فتصبح) وذلك لإفادة بقاء المطر زماناً بعد زمان كما يقال (أنعم علي فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكراً له) ولو قال (فرحت وغدوت شاكراً له) لم يقع ذلك الموقع فإنهم ما أشرنا إليه وتدبر دقائقه. وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المضارع، فهو عكس ما تقدم ذكره، وفائدته: أن الفعل الماضي إذا أحبر به عن الفعل المضارع إذا لم يوجد بعد، كان أبلغ وأكد، وأعظم موقفاً

وأفخر شأناً. لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى إنه قد كان وجد وصار من الأمور المقطوع بها، المحكوم بكونها وحدوثها. والفرق بينه وبين الأخبار بالفعل المضارع عن الماضي، هو أن الفعل الماضي يخبر به عن المضارع، إذا كان المضارع من الأشياء الهائلة، التي لم توجد، والأمور المتعاظمة التي لم تحدث، فيجعل عند ذلك مما قد كان ووجد، ووقع الفراغ من كونه وحدوثه. وأما الفعل المضارع إذا أخبر به عن الماضي، فإن الغرض بذلك تبين هيئة الفعل، واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يعاينها ويشاهدها. فهذا هو الفرق بين الأخبار بالفعل المضارع عن الماضي (وبالمضارع عن الماضي) فاعرفه. ولنرجع إلى ما نحن بصدد: كره من الأمثلة للأخبار بالفعل الماضي عن المضارع، فمن ذلك قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله وكل أنوه داخرين) فإنه إنما قال: (ففزع) بلفظ الماضي بعد قوله (ينفخ) وهو للمستقبل، للأشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، واقع على أهل السموات والأرض، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل، وكونه مقطوعاً به. ومن هذا الجنس قوله تعالى (وبرزوا الله جميعاً) (فبرزوا) بمعنى يبرزون يوم القيامة، وإنما جيء بلفظ الماضي، لأن ما أخبر الله به لصدقه وصحته كأنه قد كان ووجد. ومثل ذلك قوله - عز اسمه - (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) فإن (أتى) هاهنا بمعنى (يأتي) وإنما حسن فيه لفظ الماضي، لصدق إتيان الأمر ودخوله في جملة ما لا بد من حدوثه ووقوعه، فصار (يأتي) بمنزلة قد أتى ومضى، وكذلك قوله - تعالى - (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة، وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) فإنه إنما قال (وحشرناهم) ماضياً بعد (نسير) (وترى) وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز، ليعانوا

القسم الثالث من النوع الثالث في عكس الظاهر

تلك الأحوال، كافة، قال: (وحشرناهم) قبل ذلك. ومما ينخرط في هذا السلك الإخبار باسم المفعول عن الفعل المضارع، وإنما فعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضي، وقد سبق الكلام عليه، فمن ذلك قوله تعالى (إن في ذلك الآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) فإنه إنما آثر اسم المفعول هاهنا على الفعل المضارع لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، فإنه لا بد من أن يكون ميعاداً مضروباً يجمع الناس وأنه موصوف بهذه الصفة، وأن شئت فوازن بينه وبين قوله تعالى: (يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن) فإنك تعثر على صحة ما قلت. القسم الثالث من النوع الثالث في عكس الظاهر اعلم أن هذا القسم من مشكلات علم البيان، وأسراره الغربية، وخفاياه المستطرفة العجيبة، وهو مما لم يذكره أحد من مؤلفي هذا الفن في كتابه، ولا أشار إليه، وسبب التفرد بذكره في هذا الكتاب، أنا عثرنا على ذلك في كلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في وصفه مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فعند ذلك طلبنا له مثلاً أو نظيراً، في كلام العرب وأشعارهم فظفرنا بذلك، وأوردنا الكلام الوارد عن علي - رضي الله عنه - ثم أتبعناه بما جاء عن العرب في ذلك، وإنه مما يستغرب ويستطرف، لأن العرب قد توسعوا في كلامهم، وتجوزوا إلى غاية، يذكرون كلاماً يدل ظاهره على معنى، وهم يريدون به معنى آخر عكسه وخلافه. والأصل في ذلك، أنك تذكر كلاماً يعطي معناه إنه نفي لصفة شيء قد كان، وهو نفي للموصوف إنه كان أصلاً. فأما قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذا الباب، فإنه وصف مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقال (لا تنثني فلتاته) أي لا تذاع فلتاته، ألا ترى إلى ظاهر

القسم الرابع من النوع الثالث في الحمل على المعنى

ذلك: أن ثم فلتات غير أنها لا تذاع، وليس المراد ذلك، بل المراد إنه لم يكن ثم فلتات أصلاً، فتذاع، وهذا من أعجب ما وقفت عليه في علم البيان وأطرافه. وأما ما ورد عن العرب في هذا الباب، فنحو قول الشاعر: (ولا ترى الضبَّ بها ينجحر). فإن ظاهر المعنى من ذلك يعطي إنه قد كان هناك ضب إلا إنه غير منجحر، وليس كذلك بل المعنى المقصود، هو إنه لم يكن هناك ضب أصلاً فينجحر. فاعرف هذا، وقس عليه. وله أشباه كثيرة في كلامهم وأشعارهم، وفيما أشرنا إليه كفاية، لمن له لب ومعرفة. القسم الرابع من النوع الثالث في الحمل على المعنى وذلك كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث وتصوب معنى الواحد للجماعة، والجماعة للواحد، وحمل الثاني على لفظ الأول، أصلاً كان ذلك اللفظ أو فرعاً، وغير ذلك. اعلم أن هذا القسم من التأليف دقيق المسلك، بعيد المذهب، يحتاج إلى فضل معاودة وزيادة تأمل، وقد ورد في القرآن الكريم، وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً. فأما تأنيث المذكر فكقول الشاعر: أتهجر بيتاً بالحجاز تلفتْ ... به الخوف والأعداء من كل جانب ذهب بالخوف إلى المخافة، وقال الآخر: يا أيها الراكب المُزجِيْ مطيَّتَهُ ... سائل بني أسد ما هذه الصوت

فإنه ذهب بالصوت إلى الاستغاثة، واعلم إنه قد كثير عن العرب تأثيث فعل المضاف المذكر إذا كانت إضافته إلى مؤنث، وكان المضاف بعض المضاف إليه أو منه أو به، ولذلك قرئ قوله تعالى (لا تَنْفَعُ نَفْساً إيمانها) بالتأنيث فأنث فعل الإيمان إذ كان من النفس وبها. وأمثال ذلك كثيرة فاعرفه. وأما تذكير المؤنث فشائع في كلام العرب كقوله تعالى (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي) أي هذا الشخص أو هذا المرئيّ. وكذلك قوله - عز اسمه - (فمن جاءه موعظةٌ من ربه فانتهى) لأن الوعظ والموعظة واحدة، وقالوا في قوله تعالى (إنّ رحمة الله قريب من المحسنين) إنه أريد بالرحمة هاهنا المطر، بدليل قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته). وأما حمل الواحد على الجماعة، فكقولهم: (هو أحسن الفتيان وأجمله) لأن هذا الموضع يكثر فيه الواحد كقولهم (هو أحسن فتى في الناس) قال الله تعالى (ومن الشياطين من يغوصون له) فحمل على المعنى وقال ذو الرمّة: ومية أجمل الثقلين وجهاً ... وسالفة وأحسنه قذالا فأفرد الضمير، مع قدرته على جمعه، وهذا يدلك على قوة اعتقادهم في أحوال المواضع، وكيف ما يقع فيها. ألا ترى أن هذا الموضع موضع جمع، وقد سبق في الأول لفظ الجمع فترك اللفظ، وموجب الموضع وعدل إلى الإفراد من غير ضرورة، فإنه قد كان يمكنه أن يقول: وميّة أجمل الثقلين وجهاً ... وسالفة وأحسنهم قذالا ومن هذا النحو قول بعظهم: فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الأحن الصدورُ فيجوز أن يكون ذلك جمع أخ قد حذفت نونه للإضافة، ويجوز أن يكون واحداً ووقع

القسم الخامس من النوع الثالث في التقديم والتأخير

موقع الجماعة، كقول الشاعر: (ترى جوانبها بالشحم مفتونا) والحمل على المعنى واسع في هذه اللغة. وأعلم أن العرب إذا حملت على المعنى، لم تكد تراجع اللفظ، كقولك: (شكرت من أحسنوا إلي على فعله) ويقال: (شابت مفارقه) وإنما هو مفرق واحد. ومما يؤكد عندك أن العرب إذا حملت على المعنى لم تراجع اللفظ، قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلكَ إذ قال إبراهيم: ربّي الذي يُحْيي ويميت. قال: أنا أُحيي وأُميت، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) ثم قال: (أو كالذي مَرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها) الآية فإن ذلك محمول على المعنى، كأنه قال: أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية فجاء بالثاني على أن الأول قد سبق كذلك، وأمثال هذا كثيرة. وأما حمل الجماعة على الواحدة، فكقوله تعالى (بلى من أسلم وجهه لله، وهو مُحسن، فله أجره عند ربِّه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فحمل أول الكلام على لفظ الواحد، وآخره على لفظ الجمع. واعلم أن العرب تعتبر تارة اللفظ، وتارة المعنى، يقولون: (ثلاثة أشخص) فيثبتون التاء وإن عنواً مؤنثاً، ويقولون: (ثلاث أنفس) وإن عنوا رجالاً، لأجل اللفظ. ويقولون: (ثلاث شخوص) إذا عنو مؤنثاً، (وثلاثة أنفس) إذا عنوا مذكراً للمعنى فاعرف ذلك وقس عليه. القسم الخامس من النوع الثالث في التقديم والتأخير وذلك مما يتعلق بعلم النحو، فإن لنا تقديماً وتأخيراً في الكلام، ولا يتعلق بالنحو، وليس

هذا بابه، وسيأتي ذكره. اعلم إن التقديم والتأخير مما نحن يصدد ذكره هاهنا على ضربين؛ أحدهما يكون التقديم هو الأولى والأبلغ لموضع الاختصاص، والآخر يكون التأخير هو الأولى والأبلغ؛ إما الفائدة تقتضي ذلك، وإما خوفاً من فساد المعنى واختلاله. وسيرد كل ضرب من هذه الضروب، مشروحاً مبينا. وإما الضرب الأول وهو ما كان التقديم فيه هو الأولى والأبلغ فذلك كتقديم المفعول على الفعل، وتقديم المبتدأ عل الخير، وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل. فمن ذلك تقديم المفعول على الفعل، وإنما تعمد إلى ذلك قصداً للاختصاص، ألا ترى قولك (زيداً ضربت) تخصيصاً له بالضرب، إذ يحتمل أن يكون الضرب لغيره؛ لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أي مفعول شئت كأن تقول (ضربت خالدا أو بكرا أو غيرهما) وإذا أخرته، لزم الاختصاص للمفعول. وقد ورد في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. فإنه إنما قدم المفعول، الذي هو الرزق، على الفعل الذي هو ينفقون؛ لأن الإنسان قد ينفق ما ليس له. فلو قدم الفعل هاهنا على المفعول، لسبق إلى الوهم قبل ذكر المنفق جواز كونه مما ليس له، ومع تأخيره يزول هذا الوهم، ويرتفع ذلك اللبس. ومن هذا النحو، قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن قوله: (إياك نعبد) تخصيص له بالعبادة، دون غيره، وكذا قوله: (إياك نستعين) وهذا بخلاف ما لو قال (نعبدك ونستعينك) فإنه يحتمل أن تكون العبادة والاستعانة لغيره كما أشرنا إليه، في (زيداً ضربت) و (ضربت زيداً) فأعرف ذلك. وأما تقدير خبر المبتدأ عليه، فإنه لا يعمد إليه أيضاً إلا لضرب من الاختصاص، كقولك: (زيد قائم) و (قائم زيد) فقولك (قائم زيد) قد أثبت له القيام لا محالة، وقولك: (زيد

قائم) أنت بالخيار في إثبات القيام له أو نفيه عنه، بأن تقول: ضارب أو قاعد أو جالس أو غير ذلك. ومن هذا النحو قوله تعالى (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله) الآية. فإنه إنما قال ذلك، ولم يقل: (وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم) لأن في تقديم الخبر الذي هو مانعتهم، على المبتدأ؛ الذي هو حصونهم، دليلاً على فرط اعتقادهم في حصانتها، وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن، وإسناد الجملة إليهن دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع، لا يبالي معها أحد يتعرض طامع أو قصد قاصد. وليس شيء من ذلك في قولك: (وظنوا أن حصونهم ما نعتهم أو تمنعهم). ومن تقديم خير المبتدأ عليه قوله تعالى: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) فإنه إنما قدم خبر المبتدأ عليه في قوله: (أراغب أنت عن آلهتي) لأنه كان أهم عنده، وهو به شديد العناية، وفي ذلك ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم - عليه السلام - عن آلهته، وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب عنها. وهذا بخلاف ما لو قال: (أأنت راغب عن آلهتي). وقد سبق الكلام على ذلك فاعرفه. فأما الظرف فاعلم إنه كان الكلام مقصوداً به الإثبات، فإن تقديم الظرف فيه أبلغ من تأخيره. وفائدته إسناد الكلام الواقع بعده، إلى صاحب الظرف دون غيره وإذا أريد بالكلام النفي فيحسن فيه تقديم الظرف وتأخيره؛ وكلام الأمرين له موضع يختص به؛ فأما تقديمه في النقي؛ فإنه يقصد به تفضيل المنفي عنه على غيره. وأما تأخيره؛ فإنه يقصد به النفي أصلا من غير تفضيل. وسيأتي بيان ذلك عند ذكر الأمثلة الدالة عليه. فأما الأول؛ وهو تقديم الظرف في الإثبات فنحو قوله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن إلينا إيابهم وإن علينا حسابهم) فتقديم الظرف على المصدر، وهاهنا تشديد في الوعيد، لا يكون عند

تأخيره؛ لأنه يعطي من المعنى أن إيابهم ليس إلا إلى الله، المقتدر على الانتقام. وأن حسابهم ليس إلا عليه، وذلك بخلاف ما لو قال: (إن إيابهم إلينا ثم إن حسابهم علينا) لأن قوله (إن إلينا إيابهم) لا يحتمل أن يكون الإياب فيه إلى غير الله؛ لأنه صدر الكلام بالظرف، وإذا قال (إن إيابهم إلينا) يحتمل أن يظن المخاطب عند سماعه (إن إيابهم) قبل قوله (إلينا) أن يكون الإياب إلى غيره. ومن هذا الجنس قوله تعالى (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) فإن الله قدم الظرفين في قوله (له الملك وله الحمد) ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله لا يغيره، وكذا جاء قوله تعالى (من كفر فعليه كفره). . فإن تقديم الظرف هاهنا، أشد موقعاً من تأخيره، وأفخم شأناً؛ وذلك للدلالة على أن ضرر الكفر، لا يعود إلا على الكافر، وأنه لا يتعداه. وهذا لا يخفى على من له معرفة بعلم البيان. وأما الثاني؛ وهو تأخير الظرف وتقديمه في النحو، فنحو قوله تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) فإنه إنما أخر الظرف هاهنا لأن القصد في إبلاء حرف النفي الريب (الدلالة) على نفي الريب عنه، وإثبات إنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعونه. ولو أولاه الظرف، لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله تعالى: (لا فيها غول) وذلك تفضيل لخمر الجنة على خمور الدنيا؛ بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها الدنيوية؛ كأنه قال (ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة). فتأخير الظرف في قوله تعالى (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه) يقتضي النفي أصلا من غير تفضيل، وتقديم الظرف في قوله تعالى (لا فيها غول) يقتضي تفضيل المنفي عنه، وهو خمر الجنة، على غيرها من خمور الدنيا. وهذا مثل قولنا (لا عيب في الدار) وقولنا (لا فيها

عيب) والأول؛ قصدنا به أن ننفي عن الدار أن فيها عيباً أصلا، ونثبت أنها خالية من العيوب. والثاني، قصدنا به أن ليس فيها ما في غيرها من العيب فاعرف ذلك، وقس عليه، فإنه من دقائق علم البيان. وأما تقديم الحال فنحو (جاء راكباً زيد) وإنما يفعل ذلك لضرب من الاختصاص أيضاً. وهذا بخلاف قولك (جاء زيد راكباً) إذ يحتمل أن نقول: ضاحكا أو ماشياً وغير ذلك. وأما الاستثناء فجار هذا المجرى، نحو قولك: (ما قام إلا زيداً أحد) وكما قام أحد إلا زيداً، والكلام على ذلك كالكلام على ما سبق. فاعرفه. وأما الضرب الثاني فهو أن يقدم ما الأولى به التأخير، لأن المعنى يختل بذلك ويضطرب، كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوف، وتقديم الصلة على الموصول، وتقديم العطف على المعطوف عليه، سواءً كان بياناً أو نسقاً، إلا عطف النسق في الواو وحده، فإنه جائز، نحو قولك (قام عمرو وزيد) وغير ذلك مما برد مشروحاً. فمن هذا الضرب قول بعضهم: فقد والشكُّ بَيّنَ لي عناءً ... بوشك فراقهم صُرد يصيح فإنه قدم (بوشك فراقهم) وهو معمول (يصيح) ويصيح صفة لصرد جارية على صرد، وذلك قبيح، ألا ترى إنه لا يجوز أن يقال (هذا اليوم رجل ورد من موضع كذا) وإنما يجوز وقوع المعمول، بحيث يجوز وقوع العامل، فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها، كذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها. ومن هذا النوع، قول الآخر: فأصبحت بعد خطّ بَهجتِها، ... كأنَّ قفراً رسومها قَلَما

فإنه قدم خبر كان عليها وهو قوله (خط) وهذا وأمثاله مما لا يجوز قياس عليه، والأصل في هذا البيت (فأصبحت بعد مهمتها قفراً كأن قلما خط رسومها) إلا إنه على تلك الحالة الأولى مختل مضطرب. ويشبه بذلك قول الفرزدق: إلى ملك ما أمُّهُ من محارب ... أبوه ولا كانت كليب تصاهره وهو يريد (إلى ملك أبوه ما أمه من محارب) أي ما أم أبيه من محارب، وهذا أقبح من الأول واكثر اختلالاً. وأما قوله: وليست خراسان التي كان خالد ... بها أسد إذ كان سيفاً أميرها فحديثه طريف، وذلك إنه فيما ذكر يمدح خالد بن عبد الله القسري. ويهجو أسداً؛ وكان أسد وليها بعد خالد، وكأنه قال: (وليست خراسان البلدة التي كان خالدٌ بها سيفاً إذ كان أسد أميرها) وعلى هذا التقدير ففي (كان) الثانية ضمير الشأن، والحديث والجملة بعدها خبر عنها، وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه، وهو أسد، عليها، وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح ما لا خفاء به، وأيضاً فإن في أصله أسداً أحد جزئي الجملة المفسرة للضمير: والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده، ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير، ولما سماه الكوفيون المظهر المجهول. ومن هذا الجنس قوله: ملوك يبتنون توارثوها ... سرادقها المقاود والقبابا أراد (ملوك يبتنون المقاود والقباب توارثوها سرادقها) فقوله (يبتنون المقاود

والقباب) صفة للملوك أيضاً وموضعها التأخير، فقدمها، وهو يريد بها موضعها، كقولك (مررت برجل، يكلمها، مار بهند) أي (مار بهند يكلمها) فقدم الصفة الثانية، وهو معتقد تأخيرها. وقد استعمل الفرزدق هذا الضرب كثيراً، كأنه كان يقصد ذلك في شعره ويتعمده، لأن مثل هذا لا يجيء إلا متكلفاً مقصوداً، وإلا فإذا ترك المؤلف نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال، من غير أن يكلفا التعقيد في الكلام، فإنها لا تأتي بمثل هذه الأسباب القبيحة، التي هي عيب في التأليف فاحش، ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المذكور، لأن المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح، والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف من الكلام ذهب المراد به والمقصود منه، وصار غير مفهوم ولا فرق بينه - عند ذلك - وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما. فاعرف ذلك. واعلم أن من التقديم والتأخير باباً عجيباً المأخذ، كثير الفائدة، وافر اللطائف، وهو باب الاستفهام، فإن حاجة المؤلف الكلام إليه ماسة. ولنورد في كتابنا هذا منه ما يروقك، أيها المتأمل، ويذهب بك في الاستحسان كل مذهب، فنقول: اعلم أنك إذا بدأت في الاستفهام بالفعل فقلت (أفعلت كذا وكذا) كان الشك في الفعل، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده لا غير. وإذا قلت: (أأنت فعلت) فبدأت بالاسم كان الشك في الفاعل وحده. وهذا المعنى قائم في الهمزة، إذ هي كانت للتقرير، فإذا قلت (أأنت فعلت ذاك) كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل، قال الله تعالى (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) حكاية عن قوم نمرود، لأنهم لم يقولوا ذلك لإبراهيم - عليه السلام - وغرضهم أن يقر لهم أن كسر الأصنام كان ووجد، لأن ذلك معلوم عندهم، وقد شاهدوه رأي العين، والاستفهام إنما يكون عن شيء لا يعلم وإنما غرضهم الإقرار بأن ذلك حدث منه، لأنه قال - صلوات الله عليه - في الجواب لهم (بل فعله كبيرهم هذا) ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب (فعلت أو لم أفعل) فالهمزة مما ذكرناه تقرير لفعل قد كان وإنكار له، لم كان، وتوبيخ لفاعله عليه، ولهذا مذهب آخر

وهو أن تكون الهمزة لإنكار أن يكون الفعل من أصله، ومثاله قوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً). وقوله تعالى (أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون). فهذا رد على المشركين، وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدي إلى هذا الجهل العظيم، وإذا قدم الاسم في هذا صار من الإنكار في الفاعل، كما تقول للرجل إذا انتحل شعراً (أأنت قلت هذا الشعر، كذبت، لست ممن يقول مثله) فأنكرت أن يكون هولا القائل ولم تنكر الشعر. وقد يكون المراد إنكار الفعل من أصله ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل مثال ذلك قوله تعالى (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً). ومعلوم أن المعنى على إنكار إنه قد كان من الله إذن فيما قالوا من غير أن يكون هذا الأذن قد كان من غير الله، فأضافوه إلى الله، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه ليكون أشد لنفي ذلك ولفظا له. ونظيره قوله تعالى (آالذكرين حرم أم الأنثيين) فأخرج اللفظ مخرجه إذ كان قد ثبت تحريم في أحد أشياء ثم أريد معرفة عين المحرم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله، ونفي أن يكون قد حرم شيئاً مما ذكروا أنه محرم. هذا هو الفرق بين تقديم الاسم، وتقديم الفعل الماضي، فإذا كان الفعل مضارعاً فالقول في ذلك أنك إذا قلت (أنفعل كذا) لم يخل من أن تزيد الحال أو الاستقبال، فإن أردت الحال كان المعنى شبيهاً بالماضي، كما ذكرنا، وان أردت الاستقبال كان المعنى إذا بدأت بالفعل أنك تعمد إلى إنكار الفعل نفسه، وتزعم إنه لا يكون، أو إنه لا ينبغي أن يكون. فمثال الأول قول امرئ القيس:

أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ فهذا تكذيب منه لإنسان يهدده بالقتل. وعلى هذا جاء قوله تعالى (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون). ومثال الثاني قولك للرجل يركب الخطر (أنخرج في هذا الوقت؟ أتغرر بنفسك)؟ ومنه قول الشاعر: أأترك أن قلت دراهم خالد ... زيارته إني إذا للئيمُ؟ فإن بدأت بالاسم فقلت (أأنت تفعل) أو قلت (أهو يفعل) كنت موجها للإنكار إلى نفس المذكور وأبيت أن يكون بمثابة من يجيء منه الفعل، إما لقصور همته وعجزه، مع أن يكون ذلك في وسعه، وإما لارتفاع قدره، وعلو همته. فمثال الأول قولك: أهو يرتاح للجميل، هو أصغر همة من ذلك وقولك (أأنت تمنعني، أأنت تأخذ على يدي) تعني أنك أعجز من ذلك، ومثال الثاني قولك (أهو يسأل فلاناً هو أرفع قدراً من ذلك). وأعلم أن محض المعنى من الاستفهام، الذي تفسره بالإنكار هو تنبيه للسامع، حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع، قال الله تعالى (أفأنت تسمع مع الصم أو تهدي العمي) على سبيل التمثيل والتشبيه، كقولهم (أأنت تصعد إلى السماء) لأن أسماع الصم مما لا يدعيه أحد، وكذلك الصعود إلى السماء. ومثله قول بعضهم: فدع الوعيد فما وعيدك ضائري ... أطنين أجنحة الذباب يضير؟

وأعلم أن حال المفعول فيما ذكرناه حال الفعال في أن تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في طريق الإحالة والمنع من أن يكون بمثابة من يوقع به ذلك الفعل، فإذا قلت (أزيداً تضرب) أنكرت أن يكون بمنزلة من يجترأ عليه، ولذلك قدمت (غير) في قوله تعالى (أغير الله أتخذ ولياً) وقوله تعالى (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون). وكان لذلك من المزية والحسن والفخامة ما يعلم إنه لو أخرت (غير) فقيل (أأتخذ غير الله ولياً، أو تدعون غير الله) لما كان مؤدياً من المعنى ما كان يؤديه مع تقدمها، وذلك إنه حصل بالتقدير معنى قولك (أيكون غير الله بمنزلة من يتخذ ولياً أو يرضى عاقل لنفسه أن يفعل ذلك) و (أيكون جهل أجهل وعمى أعمى من ذلك) ولا يكون شيء من هذا الذي ذكرناه إذا قيل (أأتخذ غير الله وليا) وذلك لأنه يتناول الفعل أن يكون فقط، ولا يزيد على ذلك شيئاً، فهذا هو القول في الضرب الأول. وأما الضرب الثاني: وهو أن يكون يفعل لفعل موجود، فإن تقديم الاسم يقتضي تشبيهاً بما اقتضاه في الفعل الماضي، من الإقرار بأنه الفاعل، أو الإنكار أن يكون هو الفاعل. فمثال الأول قوله تعالى (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وقوله تعالى (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فحكم المضارع في الآية الأولى حكم الماضي في الآية الثانية، ومثال الثاني قوله تعالى (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم) فافهم ذلك. وأعلم أني قد أطلقت عنان الكلام في مسائل الاستفهام ليتبين أن للعربية أسراراً لا يطلع على خباياها، ولا

القسم السادس من النوع الثالث في الاعتراض وهو شعبة من (علم البيان) تتكاثر محاسنها

يقدر قدر مزاياها إلا من تغذي بليان البلاغة طفلا ونشاً عليها كبيراً وصغيراً، وسلك مناهج هذا العلم، وفاز منه بأوفر الحظ والقسم. ولا يتسع لهذا الضرب من التأليف نطاق هذه الأوراق ولا يمكن أن يودع ما فيه من اللطائف، صفحات ما حررناه من هذه الصحائف، والذي عليه مدار المعول، فيما نورده من المجمل والمفصل، هو البحث عن أسرار البلاغة، والإبانة عن الشيء الذي به يشرف الكلام، وتحصل له المزية على سواه، فتدير ذلك وقس عليه. القسم السادس من النوع الثالث في الاعتراض وهو شعبة من (علم البيان) تتكاثر محاسنها اعلم أن الجائز من هذا القسم. وغير الجائز إنما يؤخذ من كتب النحو، فإنه يكون مستقصى فيها، كالاعتراض بين القسم وجوابه، وبين الصفة والموصوف، وبين المعطوف والمعطوف عليه، وأشباه ذلك مما يجوز استعماله، وكالاعتراض بين المضاف والمضاف إليه، وبين إن واسمها، وبين حرف الجر ومجروره، وأمثال ذلك مما يقبح استعماله، وليس هذا مكانه لأن كتابنا هذا موضوع لمن استكمل معرفة ذلك وغيره، مما أشرنا إليه في صدر الكتاب، وإن ما أشرنا إليه هاهنا من الاعتراض ما يفرق المؤلف به بين الجيد منه والرديء لا ما يعلم به الجائز، وغير الجائز، فاعرف ذلك. واعلم أن الاعتراض ينقسم إلى قسمين: أحدهما لا يأتي في الكلام إلا لفائدة، وهو جار مجرى التوكيد في كلام العرب، والآخر يأتي في الكلام لفائدة. فما جاء منه قوله تعالى (فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) هذا كلام فيه اعتراضان أحدهما (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) لأنه اعتراض بين القسم، الذي هو (فلا أقسم بمواقع النجوم) وبين جوابه الذي هو (إنه لقرآن كريم) وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر، بين الموصوف الذي هو (قسم) وبين صفته التي هي (عظيم) وهو قوله تعالى (لو تعلمون) فذانك اعتراضان كما ترى، فلو جاء الكلام، غير معترض فيه،

لوجب أن يكون (فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم) وفائدة هذا الاعتراض بين القسم وجوابه إنما هو تعظيم لشأن المقسم به، في نفس السابع، ألا ترى قوله تعالى (لو تعلمون) اعتراضاً بين الموصوف والصفة، وذلك أوقع في الأنفس، لتعظيم المقسم به، أي إنه من عظيم الشأن وفخامة الأمر بحيث لو علم ذلك لو في حقه من التعظيم. وهذا مثل قولنا (إن هذا الأمر لعظيم، بحيث لو تعلم يا فلان عظمه، لقدرته حق قدره). فإن ذلك يكبر في نفس المخاطب، ويعظم موقعه عنده، ويبقى متطلعاً إلى معرفة عظمه، ويترامى به وهمه إلى أعلى المنازل وأسبق الرتب. ومن هذا النحو قوله تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن. وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير) ألا ترى إلى هذا الاعتراض الذي طبق مفصل البلاغة، فإنه لم يؤت به إلا لفائدة كبيرة، وذلك إنه لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم من المشاق والمتاعب، في حمل الولد وفضاله، إيجاباً للتوصية بالوالدة وتذكيراً بحقها، وإنما خصها بالذكر دون الوالد، لأنها تتكلف من أمر الولد ما لا يتكلفه الوالد، ومن ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له (من أبر): أمك ثم أمك. ثم قال بعد ذلك (أباك). ومما جاء على هذا الأسلوب قوله تعالى (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) فقوله تعالى (والله مخرج ما كنتم تكتمون) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وفائدته إنه يقرر في أنفس المخاطبين وقلوب السامعين أن تدارؤ بني إسرائيل في قتل تلك النفس لم يكن نافعاً لهم في إخفائه وكتمانه، لأن الله مظهر لذلك ومخرج له، ولو جاء الكلام خالياً من هذا الاعتراض لكان (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اضربوه ببعضها) ولا يخفى على العارف بهذه الصناعة الفرق بين ذلك وبين كونه معترضاً فيه،

ومن هذا الجنس قول النابغة: لعمري وما عمري عليَّ بهيّن ... لقد نطقت بطلاً عليّ الأفارعُ فقوله (وما عمري علي بهين) من محمود الاعتراض ونادره، لما فيه من تفخيم المقسم به. وعلى نحو هذا جاء قول كثير: لو أنّ الباخلين وأنت منهم ... رأوك تعلموا منك المطالا فقوله (وأنت منهم) من الاعتراض الذي يؤكد به المعنى المقصود فيزداد به مزية ونبلاً وفائدته هاهنا التصريح بما هو المراد تبينه في الأنفس وتقرره في الأذهان، وقال بعضهم لعبد الله ابن طاهر أحسن ما قيل في هذا الباب: إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان وأمثال هذا كثيرة. فاعرفه. وأما الثاني وهو الذي في يأتي في الكلام لغير فائدة فهو ضربان: الأول أن يكون دخوله في التأليف كخروجه منه، لا يؤثر حسناً ولا قبيحاً، فمن ذلك قول النابغة: يقول رجال يجهلون خليقتي ... لعل زياداً لا أبا لك غافل فقوله (لا أبا لك) اعتراض لا فائدة فيه، وليس (يؤثر) في هذا البيت حسناً ولا قبحاً، ومثله قول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم وكذلك قول بعض المحدثين: صدودكم والديار دانية ... أهدى لرأسي ومفرقي شيباً فذكر المفرق بعد الرأس بما لا فائدة فيه البتة. ومن هذا القول أو الضرب قول ابن هانئ: فلا مهجة في الأرض منك منيعة ... ولو قطرت في ريق أرقط أرقم

فإن قوله (أرقط) لا حاجة إليه ولا فائدة في ذكره، إذ لا فضل للأرقط من الحيات على غيره من الألوان ولا مزية، وأمثال هذا كثيرة. وأما الضرب الثاني الذي يكون مؤثراً في الكلام تقصاً، وفي المعنى فساداً، فما جاء منه قول بعضهم: فقد والشك بيّن لي عناءٌ ... بوشك فراقهم صُرَدٌ يصيح فان (في) هذا البيت من رديء الاعتراض ما أذكره، وهو الفصل بين قد والفعل، الذي هو (بين) وذلك قبيح لوجوب اتصال (قد) بما تدخل عليه من الأفعال، ألا تراها تعتد مع الفعل كالجزء منه، ولذلك دخلت اللام المراد بها توكيد الفعل على (قد) في قوله تعالى (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك) وفي قوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه). وقول الشاعر: ولقد أجمع رجليَّ بها ... حذر الموت وإني لغرور؟ إلا إنه إذا فصل بين قد ولفعل بالقسم فإن ذلك لا بأس به، نحو قولك (قد والله كان ذلك). وقد فصل بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي (هو) عناء بقوله (بين) وفصل بين الفعل الذي هو (بين) وبين فاعله الذي هو (صرد) بخبر المبتدأ الذي هو (عناء) فجاء هذا البيت كما ترى، فإن قبحه لا خفاء به ومن هذا الجنس قول الآخر: نظرت وشخصي مطلع الشمس ظلّه ... إلى الغرب حتى ظلَّه الشمس قد غفل أراد (نظرت مطلع الشمس) أي حاذاها، وعلى هذا التقرير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو (شخصي) وبين خبره الجملة وهو قوله (ظله إلى الغرب). وأغلط من ذلك الفصل بين الفعل وفاعله بالأجنبي. وقد تقدم ذكره، وهذا وأمثاله مما يفسد المعاني ويؤثر بها الاختلال.

النوع الرابع في الإيجاز وهو حذف زيادات الكلام

واعلم أن الناثر في ذلك أكثر ملامة من الناظم، وأعظم عيبا، وذلك أن الناظم يحتاج إلى إقامة ميزان الشعر، ويكون مجال الكلام عليه ضيقاً في بعض الاوقات، فليجثه طلب الوزن إلى إلقاء نفسه في مثل هذه المقابح، وأما الناثر فإنه لا يحتاج إلى إقامة الميزان الشعري لكلامه، فلأجل ذلك يتسع عليه مجال التأليف، وينطلق عنانه فيه كيف يشاء؛ ولهذا إذا اعتراض في كلامه اعتراض يفسده توجه عليه الانكار، وحق عليه العتب والملام أكثر مما يتوجه على الناظم. النوع الرابع في الإيجاز وهو حذف زيادات الكلام هذا نوع من التأليف شريف لا يكاد يلجه إلا فرسان البلاغة ومن ضرب فيها بالقدح المعلى، وذلك لعلو منزلته، وبعد مناله، والدليل على ذلك إنه أقل أنواع التأليف استعمالاً بين أرباب هذه الصناعة. واعلم أن العرب اعتنوا بهذا الضرب من الكلام اعتناءً زائداً ومما يدلنا على إيثار القوم قوة إيجازهم وحذف فواصل كلامهم ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها، فانهم استغنوا بالحرف الواحد عن الكلام الكثير، المتناهي في الطول، فمن ذلك قولهم (كم مالك) ألا ترى إنه قد أغناك هذا عن قولك (أعسرة مالك أم عشرون أم ثلاثون أم مائة أم ألف؟) فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ إلى ذلك أبدا، لأنه غير متناه، فلما قلت (كم) أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الألفاظ التي لا يحاط بها، وكذلك قولك (أين منزلك) فإن لفظة (أين) تغنيك عن ذكر الأماكن كلها وكذلك (من عندك) فقد أغنتك هذه اللفظة عن ذكر الناس كلهم. وأما الشرط ففي قولهم (من يقم أقم معه) كناية عن

ذكر جميع الناس أيضاً، ولولا ذلك لاحتجت أن تقول (إن يقم زيد أو عمر أو جعفر أو نحو ذلك) ثم تقف حسيرا مبهورا، ولم تجد إلى غرضك سبيلا، وكذلك بقية أسماء العموم في غير الإيجاب نحو (أحد وديار وغيرهما) فإذا قلت (هل عندك أحد) أغناك ذلك عن أن تقول (هل عندك زيد أو عمر أو جعفر) فتطيل ثم تقصر إقصار الكليل المنقطع. وهذا وغيره أظهر أمرا، وأبدى صفحة وعنوانا، فجميع ما ذكرناه هاهنا شاهد بانصباب همم القوم إلى اختصار كلامهم وإيجاز لغتهم. واعلم أن جماعة من أرباب هذه الصناعة أجمعوا على أن الكلام ينقسم قسمين: فمنه ما يحسن فيه التطويل كالخطب والتقليدات، السلطانية، وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأ من عوام الناس؛ فإن الكلام إذا طال في مثل ذلك أثر عندهم وأفهمهم، ولو اقتصر فيه على الإيجاز والإشارة لم يقع لأكثرهم حتى يقال في ذكر الحرب (تطاعن الفريقان وتقاتلا، واشتد المصاع وحمي القراع). وما جرى هذا المجرى، والمذهب الفصل في هذا الباب ما أذكره لك وهو أن فهم العامة من الناس ليس شرطاً معتبراً في اختياره، لأن ذلك لو كان شرطاً لوجب قياسه أن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم، التي قد تداولوها بينهم حتى يكون ذلك أقرب إلى فهمهم وأسهل مأخذاً ومتناولها، لأن العلة بعينها في اختيار المبتذل في الكلام، لأنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم له، وتداولهم إياه. وهذا شيء مدفوع لا يجوز استعماله البتة. وإنما الذي يجب على مؤلف الكلام اعتماده هو أن يسلك المذهب القويم، ويجهد أن لا تزيد ألفاظه على معانيه مع الإيضاح لها والإبانة عنها، فإنه إذا فعل ذلك خرج من عهدة الملامة، وليس عليه أن يفهم العامة كلامه فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى (لا) يكون ذلك نقصاً في استنارته، وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لا يستطيع النظر إليه قال الشاعر:

أحدهما الإيجاز بالحذف

عليَّ نحتُ المعاني من معادنها ... وما عليَّ بأن لا تفهم البقر وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الوضع، فلنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمتنا، من الكلام على الإيجاز وحده وأقسامه. ولنوضح ذلك إيضاحاً جلياً، فنقول: اعلم أن حد الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من أقرب طرقه، وهو ينقسم قسمين: أحدهما الإيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد والجملة، لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه. وأما القسم الآخر فهو ما لا يحذف منه شيء، بل يترك على حاله، وهو ضربان: أحدهما ما ساوى لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر ما زاد معناه على لفظه، ويسمى القصر، فأما القسم الأول، وهو الإيجاز بالحذف، وذلك باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبيناً إذا لم تبن، وهذه جملة تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر، وهذا القسم يشتمل على أربعة عشر باباً: الأول: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، عن السبب، وهو ضرب من الكلام، تتكاثر محاسنه، وتتزايد لطائفه. أما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى (وما كنت يجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) كأنه قال (وما كنت شاهداً لموسى وما جرى له وعليه، ولكنا أوحيناه إليك) فذكر سبب الوحي على عادة اختصارات القرآن الكريم، لأن تقدير الكلام (ولكنا أنشأنا

الضرب الثاني من القسم الأول من النوع الرابع وهو الإضمار على شريطة التفسير

بعد الوحي فاندرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرفناك العلم بقصص الأنبياء، وقصة موسى - عليهم السلام -). وأما الاكتفاء بالمسبب عن المسبب فكقوله تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) تأويله، والله أعلم إذا أردت قراءة القرآن فاكتف بالمسبب الذي هو (القراءة) عن السبب الذي هو (الإرادة) وهذا أولى من تأول من ذهب إلى إنه أراد (فإذا تعوذت فاقرأ) لأن في ذلك قلباً لا ضرورة بك إليه. وأيضاً فإنه ليس كل مستعيذ بالله واجبة عليه القراءة؛ ومن ذلك قوله تعالى (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه. . .) فاكتفي بالمسبب الذي هو (الانفجار) عن السبب الذي هو (الضرب) وكذلك قوله تعالى (إذ قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) أي إذا أردتم القيام إليها. واعلم إنه قد ورد في القرآن الكريم ما هو سبب وهو بعينه مسبب، كقوله تعالى (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) ألا ترى أن العبارة لنهي من لا يؤمن عن صد موسى، والمقصود نهي موسى عن متابعة الصاد له عن التصديق بالبعث، فقد صلحت العبارة إذا لأداء هذين المعنيين، وذلك أن صد الكفار عن التصديق بالبعث سبب التكذيب، فذكر السبب ليدل به المسبب، وكأنه قال (لا تكذب بالبعث) وأيضاً فإن صد الكفار مسبب عن رخاوة الرجل في الدين، ولين شكيمته، فذكر المسبب ليدل به على السبب كأنه قال (كن شديد الشكيمة ولا تكن رخواً حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أن يطمع في صدك عما أنت عليه). وهذا كقولهم (لا أرينك هاهنا) المراد نهية عن مشاهدته والكون بحضرته، وذلك سبب رؤيته إياه، فكان ذكر المسبب دليلاً على السبب، وهذا من أظرف ما يرد في بابه فاعرفه. الضرب الثاني من القسم الأول من النوع الرابع وهو الإضمار على شريطة التفسير وذلك حذف الجملة من الكلام إذا كان ما بعدها يدل

عليها، وفيها من دقيق الصفة، وجليل الفائدة، ما لا خفاء به، فمما جاء منه قوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره الإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين). تقدير الآية (أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه) ويدل على المحذوف قوله (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله). ومن ذلك قوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا). تقديره (لا يستوي من أنفق من قبل الفتح ومن أنفق من بعده). ويدل على المحذوف (أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا). ومن هذا الضرب حذف العلل كقوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضيا). (ولنجعله) تعليل معلله محذوف أي وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس، ونبين به أثر قدرتنا الباهرة. ومن الإضمار على شريطة التفسير حذف المفعول الوارد بعد المشيئة والإرادة كقوله تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم). فمفعول شاء هاهنا محذوف وتقريره: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها، وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى). الآية. ومن هذا الضرب قول البحتري: لو شئت لم تفسد سماحةَ حاتم ... كرماً ولم تهدم مآثر خالد فالأصل في ذلك (لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها) فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني، فإن الواجب في حكم البلاغة أن لا تنطق بالمحذوف، ولا تظهره إلى اللفظ، ولو أظهرته لصرت إلى كلام غث ومجيء المشيئة بعد لو وبعد حروف الجزاء هكذا

الضرب الثالث من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف الفعل وجوابه

موقوفة غير معداة إلى شيء، كثير شائع بين البلغاء، ولقد تكاثر هذا الحذف في (شاء وأراد) حتى إنهم لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب نحو قوله تعالى: (لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء) الآية. وعلى هذا الأسلوب جاء قول الشاعر: ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع فلو كان على حد قوله تعالى (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) لوجب أن يقول: لو شئت لبكيت دماً، ولكن ساحة الصبر أوسع، ولكنه ترك تلك الطريقة، وعدل عنها إلى هذه، لأنه أليق في هذا الكلام خصوصاً وسبب حسنه إنه كان بدعاً عجيباً، أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً، فلما كان مفعول المشيئة أمراً عظيماً، وبدعاً غربياً كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر. فاعرف ذلك. الضرب الثالث من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف الفعل وجوابه فأما حذف الفعل؛ فكقوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه) حتى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تطعهما. . .) ومن هذا الباب قوله تعالى: (وقضى ربك

ومن حذف الفعل باب يسمى: (إقامة المصدر مقام الفعل)

ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً). وكذلك قوله، عز اسمه: (ولقد قال لهم هارون من قيل: يا قوم إنما فتنتم به) إلى قوله (. . . ولم ترقب قولي) ألا ترى كيف حذف الفعل في هذا الموضع مكرراً فإن تقديره: فلما رجع موسى إليهم، ورآهم على تلك الحالة من عبادة العجل، قال لأخيه: (يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا. . .) الآية، وأخذ بلحيته ورأسه، إنكاراً عليه وغضباً. قال له هارون: (يا اُبن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) الآية. ومن هذا الضرب إيقاع الفعل على شيئين، وهو لأحدهما، كقوله تعالى: (فاجمعوا أمركم وشركاء كم) فأوقع الفعل من (اجمعوا) على أمركم وشركاءكم، وهو (لأمركم) وحده. وإنما المراد: أجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم؛ لأن معنى (أجمعوا): من أجمع الأمر، إذا نواه وعزم عليه. وقد قرأ أبي (فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم) وهذا دليل على أشرنا إليه، وكذلك هو مثبت في مصحف عبد الله بن مسعود فاعرف ذلك. ومن حذف الفعل باب يسمى: (إقامة المصدر مقام الفعل). وهو باب لطيف المأخذ، وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة والتوكيد؛ كقوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب). قوله: (فضرب الرقاب) وأصله: فاضربوا الأعناق ضرباً؛ فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وفي ذلك اختصار مع إعطاءه (معنى) التوكيد المصدري، فاعرفه.

وأما حذف جواب الفعل، فإنه يكون في الأمر كقوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً. . .) إلى قوله: (. . . تدميراً) ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية؛ فإن تقديره: فقلنا: اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا، فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميراً. فذكر حاشيتي القصة؛ أولها وآخرها، لأنهما المقصود من القصة بطولها، يعني إلزام الحجة ببعثة الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف. . .) إلى قوله (. . . وهم لا يشعرون). اعلم أن في جواب الأمر من هذا الكلام محذوفاً تقديره (فأرسله معهم)، وبدلنا على ذلك ما جاء به بعده من قوله تعالى: (فلما ذهبوا به. كما حذف أيضاً في قوله عز وجل): (وقال الذي نجا منهما واد كر بعد أمة. . .) إلى قوله (. . . بقرات سمان). الآية. فجواب الأمر في هذا الموضع محذوف وتقديره. فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال له: (يوسف أيها الصديق). وكذلك قوله تعالى: (وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول. . .) إلى قوله: (. . . كيد الخائنين). ففي هذا الكلام حذف واختصار استغني عنه بدلالة الحال عليه، وتقديره (فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك بالنسوة وقال لهن ما خطبكن).

الضرب الخامس من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف المضاف والمضاف إليه وإقامة كل منهما مقام الآخر

فانظر أيها المتأمل إلى هذه المحذوفات، التي كأنها لم تحذف من الكلام لظهور معناها وبيانه، ودلالة الحال عليه. وعلى نحو من ذلك ينبغي أن تكون الحذوف فاعرفها. الضرب الخامس من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف المضاف والمضاف إليه وإقامة كل منهما مقام الآخر وذلك باب طويل عريض سائغ. في كلام العرب. وإن كان أبو الحسن الأخفش لا يرى القياس عليه، فأما حذف المضاف فكقوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب. . .) (فحذف المضاف إلى يأجوج ومأجوج) وهو سدهما، كما حذف المضاف إلى القرية في قوله تعالى: (واسأل القرية) أي أهل القرية. ومن هذا الضرب قوله تعالى: (ولكن البر من اتقى) أي بر من اتقى، وإن شئت كان تقديره (ولكن ذا البر من اتقى) والأول أجود، لأن حذف المضاف ضرب من الانساع، والخبر أولى بذلك من المبتدأ، لأن الانساع بحذف الإعجاز أولى منه بحذف الصدور. وقد حذف المضاف مكرراً نحو قوله تعالى: (فقبضت قبضة من أثر الرسول) أي من أثر حافر فرس الرسول. وهذا الضرب أكثر اتساعاً من غيره. وأما حذف المضاف إليه (فإنه قليل الاستعمال؛ فما جاء منه قوله تعالى): (لله الأمر من قبل ومن بعد) أي من قبل ذلك ومن بعده.

الضرب السادس من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف الموصوف والصفة وإقامة كل منهما مقام الآخر

الضرب السادس من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف الموصوف والصفة وإقامة كل منهما مقام الآخر وأكثر ذلك يجيء في الشعر، وإنما كانت كثرته في الشعر دون الكلام المنثور؛ لأن القياس يكاد يحطره؛ وذلك لأن الصفة تأتي في الكلام على ضربين: إما للتأكيد والتخصيص وإما للمدح والذم، وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل، لا من مقامات الإيجاز والاختصار. وإذ كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به. هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من الالتباس وضد البيان، ألا ترى أنك إذا قلت: (مررت بطويل) لم بين من ظاهر هذا اللفظ الممرور به؛ إنسان هو أم رمح أم ثوب أم غير ذلك. وإذا كان الأمر كذلك فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به الحال. وكلما استبهم الموصوف كان حذفه غير لائق. ومما يؤكد عندك ضعف حذف الموصوف أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه؛ وذلك أن تكون الصفة جملة نحو: (مررت برجل قام أبوه، ولقيت (غلاماً) وجهه حسن) ألا تراك لو قلت: مررت بقام أبوه ولقيت وجهه حسن لم يجز. واعلم إنه قد أقيمت الصفة الشبيهة بالجملة مقام الموصوف المبتدأ في قوله تعالى: (وإنا مِنا الصالحونَ ومنا دون ذلك). (أي قوم دون ذلك) فأما حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها فإنه لا يكون إلا فيما دلت الحال عليه، فمن ذلك ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: (سير عليه ليلٌ) وهم يريدون: (ليلٌ طويلٌ). وإنما حذفت الصفة في هذا

الموضوع لما دلَّ من الحال على موضعها، وذلك إنه يحسن في كلام القائل لذلك من التصريح والتلويح والتفخيم والتعظيم بما يقوم مقام قوله: (طويلٌ) أو نحو ذلك. وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته؛ وهو أن يكون في مدح إنسان والثناء عليه (فتقول: (كان) والله رجلاً) فتزيد في قوة اللفظ بالله في هذه الجملة وتمكن في مط اللام وإطالة الصوت بها؛ أي رجلاً فاضلاً، أو شجاعاً، أو كريماً، أو جرى هذا المجرى من الصفات، وكذلك تقول: (سألناه فوجدناه (إنساناً أي) إنساناً سمحاً أو جواداً أو ما أشبه). وتمكن الصوت (بإنسان) وتفخمه، وتستغني عن وصفه بقولك: (إنساناً سمحاً أو جواداً أو ما أشبه) فعلى هذا أو نحوه تحذف الصفة، فأما إن عريت من الدلالة عليها من اللفظ والحال فإن حذفها لا يجوز. ألا تراك لو قلت: (وردنا البصرة فاجتزنا بالأبلة على رجل، أو (رأينا إنساناً) ثم سكت لم يفد ذلك شيئاً؛ لأن هذا ونحوه مما لا يخلو ذلك المكان منه، وإنما المقصود أن تصف من ذكرت وما ذكرت، فإن لم تفعل فقد كلفت علم ما لم تدلل عليه، وهذا لغو من الحديث وجور في التكليف. ومن حذف الصفة ما روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) أي لا صلاة كاملة أو فاضلة أو نحو ذلك. فأعرف ما أشرنا إليه وتدبره فإنه ضرب من الكلام رقيق وغور من العربية سحيق.

الضرب السابع من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف الشرط وجوابه

الضرب السابع من القسم الأول من النوع الرابع وهو حذف الشرط وجوابه فأما حذف الشرط فنحو قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة، فإياي فاعبدون). ألا ترى أن الفاء في قوله: (فاعبدون)، جواب شرط محذوف؛ لأن المعنى: أن أرضي واسعة، فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرضي فأخلصوها في غيرهما، ثم حذف الشرط، وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص. ومن هذا الضرب قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً، أو به أذى من رأسه ففدية) أي فحلق فعليه فدية، وكذلك قولهم: (الناس مجزبون بأعمالهم إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشرا) أي (إن) فعل المرء خيراً جزي خيرا، وإن فعل شرا جزي شرا. ومن حذف الشرط قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون). اعلم أن هذه الفاء في قوله تعالى (فهذا يوم البعث) هي الفاء التي في قول الشاعر: . . . فقد جئا خراسانا

الضرب الثامن من القسم الأول من النوع الرابع في حذف القسم وجوابه

وحقيقتها أنها جواب شرط محذوف يدل عليه الكلام، كأنه قال: (إن صح ما قلم أن خراسان أقصى ما يراد بنا، فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص). وكذلك هذه الآية يقول تعالى: (إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث) أي قد تبين بطلان قولكم. وأمثال ذلك كثيرة، فاعرفه. وأما حذف جواب الشرط، فكقوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله. . .) إلى قوله: (. . . الظالمين). فإن جواب الشرط هاهنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به، ألستم ظالمين. ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) وأمثال هذا كثيرة، وهو ضرب من علم البيان، تتوفر لطائفه، فاعرفه. الضرب الثامن من القسم الأول من النوع الرابع في حذف القسم وجوابه وأما حذف القسم، فنحو قولك: (لأفعلن)، أو غير ذلك من الأقسام المحلوف بها. وأما حذف جوابه، فكقوله تعالى: (والفجر وليال عشر) إلى قوله (. . . مثلها في البلاد). فإن جواب القسم هاهنا محذوف، تقديره: لنعذ بن، أو نحوه. ويدل على ذلك ما بعده من قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد. . .) إلى قوله: (سوط

الضرب التاسع من القسم الأول من النوع الرابع في حذف (لو) وجوابها

عذاب). ومن هذا النحو قوله تعالى: (ق، والقرآن المجيد)، إلى قوله: (عجيب). فإن معناه: والقرآن المجيد لتبعثن، والشاهد على ذلك ما جاء بعده، من ذكر البعث في قوله: (أئذا متنا وكنا ترابا، ذلك رجع بعيد). وقد ورد هذا الجنس في القرآن كثيراً. الضرب التاسع من القسم الأول من النوع الرابع في حذف (لو) وجوابها وهو من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها، فأما حذف (لو) فكقوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض). وأما حذف جوابها (فكقوله تعالى): (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت واخذوا من مكان قريب). فإن جواب (لو) هاهنا محذوف وتقديره (لرأيت أمراً عظيماً، وحالاً هائلة) أو غير ذلك مما جرى هذا المجرى. ومن هذا الجنس قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين أو يعلم. . .) إلى قوله (ولا هم ينصرون). تقديره: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه؛ وهو وقت صعب، شديد، محيط بهم، فيه النار من وراء وقدام، فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم، ولا يجدون ناصراً ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة، من الكفر والاستهزاء والاستعجال،

الضرب العاشر من القسم الأول من النوع الرابع في حذف جواب (لما) وجواب (أما) وجواب (إذا)

ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (لو إن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) فجواب (لو) في هذا الموضع محذوف، كما حذف في قوله تعالى: (ولو أن قرأناً سيرت به الجبال) أي لو أن لي بكم قوة لدفعتكم أو منعتكم، أو ما أشبهه. وكذلك (قوله تعالى): (ولو أن قرأناً سيرت به الجبال) أي: لكان هذا القرآن. الضرب العاشر من القسم الأول من النوع الرابع في حذف جواب (لما) وجواب (أما) وجواب (إذا) فأما جواب (لما) فكقوله تعالى (فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين) فإن جواب (لما) هاهنا محذوف وتقديره (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) كان ما كان مما تنطق به الحال، ولا يحيط به الوصف، من استبشارهما واغتباطهما، وشكرهما على ما أنعم به عليهما، مندفع البلاء العظيم، بعد حلوله، وما أشبه ذلك مما اكتسباه بهذه المحنة، من عظائم الوصف، دنيا وآخرة. وقوله (إنا كذلك نجزي المحسنين). تعليل ما خولهما من الفرح والسرور بعد تلك الشدة العظيمة. وأما حذف جواب (أما) فنحو قوله تعالى: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم). وأما حذف جواب (إذا) فمثاله قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم

الضرب الحادي عشر من القسم من النوع الرابع في حذف (لا) من الكلام وهي مرادة

وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين). ألا ترى كيف حذف الجواب عن (إذا) من الكلام، وهو مدلول عليه يقوله تعالى (إلا كانوا عنها معرضين). كأنه قال (إذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون). ثم قال: (ودأبهم الإعراض عن كل آية وموعظة). الضرب الحادي عشر من القسم من النوع الرابع في حذف (لا) من الكلام وهي مرادة وذلك كقوله تعالى: (قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين) فقوله: (تفتأ) يريد: لا تفتأ فحذف (لا) من الكلام، وهي مرادة. والمعنى: تالله لا تزال تذكر يوسف. ومن هذا الضرب قول امرئ القيس: فقلت: يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي تقديره: لا أبرح قاعداً، فحذفت: (لا) من هذا الموضع، وهي مرادة، وقس عليه. الضرب الثاني عشر من القسم الأول من النوع الرابع في الاستئناف وهو حذف السؤال المقدور؛ وذلك ضرب من التأليف لطيف الأمر، عجيب المغزى، ولا تجد باباً من أبواب الحذوف أحسن مأخذاً منه، ولا أطرف خبراً، وهو ينقسم قسمين: الأول: إعادة الأسماء والصفات.

اعلم أن هذا القسم يجيء تارة بإعادة اسم من تقدم الحديث عنه، كقولك: (أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان) وتارة يجيء بعادة صفة، كقولك (أحسنت إلى زيد) صديقك القديم أهل لذلك منك) وهو أحسن من الأول وأبلغ، لانطوائه على بيان الموجب للإحسان وتخصيصه، فمما جاء من هذا الباب قوله تعالى: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. . .) إلى قوله (. . . المفلحون). اعلم إنه لما قيل (هدى للمتقين) بأن الكتاب لهم هدى فاتجه للسائل أن يقول: (ما بالهم خصوا بذلك)؟ فوقع قوله: (الذين يؤمنون بالغيب) إلى سياقه كالجواب، وجيء بصفة (المتقين) المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله - عز وجل - الطف والاختصاص على غيرهم، أي الذين هذه عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله وأن يعطيهم الفلاح. وإن جعلت قوله تعالى: (. . . الذين يؤمنون بالغيب. . .) إلى آخر قوله: (. . . وبالآخرة هم يوقنون) تابعاً (للمتقين)، وقع الاستئناف على (أولئك) كأنه قيل: (وما للمتقين). بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجبت: أن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس، بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلا، فافهم ذلك وتدير رموزه ودقائقه. الثاني: الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات. وذلك كقوله تعالى: (وما لي أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) إلى قوله (. . . المكرمين).

الضرب الثالث عشر من القسم الأول من النوع الرابع في حذف الواو وإثباتها

اعلم أن مخرج هذا القول مخرج الاستئناف، لأن ذلك من مظان المسألة عن حالة عند لقاء ربه، كأن قائلاً قال له: (كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي لوجهه بروحه)؟ فقيل: قيل ادخل الجنة، ولم يقل: (قيل له) لانصباب الغرض إلى القول وعظمه لا إلى المقول له مع كونه معلوماً. وكذلك قوله تعالى (يا ليت قومي) مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد. ومن هذا القسم أيضاً قوله تعالى: (يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعملون) إلى قوله (معكم رقيب). اعلم أن مخرج الفرق بين إثبات الفاء في سوف كقوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب (يخزيه) ويحل عليه عذاب مقيم). وبين حذف الفاء هاهنا في هذه الآية (أن) إثباتها وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، وبحذفها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: ماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: (سوف تعلمون) فوصل تارةً بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنين في البلاغة على عادة بلغاء العرب. وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف. وهو قسم من أقسام علم البيان تتكاثر محاسنه. الضرب الثالث عشر من القسم الأول من النوع الرابع في حذف الواو وإثباتها اعلم إنه حذفت الواو وأثبتت في مواضع، فأما إثباتها فكقوله تعالى: (وما أهلكنا من

قرية إلا لها منذرون). وعلى هذا فلا يجوز حذف الواو وإثباتها في كل المواضع، وإنما يجوز ذلك فيما هذا سبيله من هاتين الآيتين لا غير. ولنبين في ذلك رسماً تتبعه فنقول: اعلم أن كل اسم نكرة جاء خيره بعد (إلا) يجوز إثبات الواو في خبرة وحذفها كقولك (ما رأيت رجلاً إلا وعليه ثياب) وإن شئت (قلت) (إلا عليه ثياب)، فإن كان الذي يقع على النكرة (ناقصاً) فلا يكون إلا بحذف الواو، نحو قولك (ما أظن درهماً إلا هو (كافيك) ولا يجوز (إلا وهو كافيك) لأن الظن يحتاج إلى شيئين فلا يعرض فيه بالواو لأنه يصير كالمكتفى من الأفعال باسم واحد، وكذلك أخوات (ظننت) وكان وأن وما أشبههما) فخطأ أن تقول: (إن رجلاً وهو قائم) و (أظن رجلاً وهو قائم). أو (ما كان رجل إلا وهو قائم)، ونحو ذلك، ويجوز هذا في (ليس) خاصة، تقول: (ليس أحد إلا وهو قائم)، لأن الكلام يتوهم تمامه بليس وبحرف ونكرة، إلا ترى أنك تقول (ليس أحد وما من أحد)، فجاز فيها ولم يجز في (أظن) لأنك لا تقول: (ما أظن أحداً). فأما (أصبح وأمسى ورأيت) فإن الواو فيهن أسهل لأنها توام في حال، و (كان وأظن) ونحزهما بنين على النقص إلا إذا كانت تامة، وكذلك (لا) التبرئة وغيرها نحو (لا رجل، وما من رجل) فيجوز إثبات الواو فيها وحذفها. فاعرف ذلك وقس عليه.

الضرب الرابع عشر من القسم الأول من النوع الرابع في الحذف الذي يوجب الإخلال في الكلام

الضرب الرابع عشر من القسم الأول من النوع الرابع في الحذف الذي يوجب الإخلال في الكلام وذلك ما يحذف من أصل اللفظ وهو إسقاط بعض حروفه. ولا يحسن استعماله في التأليف لكنه يجوز؛ لأن العرب قد أوردته في أشعارها واستعملته في كلامها، فحذفت بعض الألفاظ استخفافاً حذفا يخل بالباقي ويعرض له بالشبهة. ألا ترى إلى قول علقمة: كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم فقوله (. . . بسبا الكنانة) يريد (بسبائب الكتان) وكذلك قول لبيد: درس المنا بمتالع فأبان. أراد (المنازل) وعلى نحو من هذا جاء قول أبي دؤاد: يُذْرْينَ جَندَلَ حائرٍ لجنوبها ... فكأنما تذكي سنابكها الحُبا أراد (الحباحب).

وهذا وأمثاله قليل جداً فاعرفه. وإياك، أيها المؤلف، أن تستعمله في كلامك وإن كان كان جائزاً. وقد ورد في أشعار العرب مثله. وأما القسم الثاني من النوع الرابع فهو الإيجاز من حذف؛ وذلك ضربان: الأول ما يساوي لفظه معناه ويسمى التقدير؛ فمما جاء منه قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه. . .) إلى (يقض ما أمره). فقوله: (قتل الإنسان) دعاء عليه. وقوله: (ما أكفره) تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله - عز وجل -. ولا ترى أسلوباً أغلظ من هذا الدعاء والتعجب، ولا أحسن متناولا، ولا أدل على سخط مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر متنه. ثم إنه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى زمانه، فقال تعالى: (من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره). إي هيأه لما يصلح له (ثم السبيل يسره) أي سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، والسبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر. والأول أولى، لأنه تال لخلقته وتقديره. ثم بعد تيسيره سبيله لما يختار من طريقي الخير والشر. (ثم أماته فأقبره) أي جعله ذا قبر يواري فيه. (ثم إذا شاء أنشره) أي أحياه. (كلا): ردع للإنسان عما هو عليه (لما يقض ما أمره) أي لم يقض، مع تطاول زمانه، ما أمره الله - عز وجل - يعني أن إنسانا لم يخل من تقصير قط. ألا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف جزءاً من أجزائه لما قدرت على ذلك؟ لأنك كنت تذهب بجزء من معناه، ويختل عليك نظمه؛ فإن أسقطت الجملة الأولى التي هي صدر الكلام زال معنى الدعاء عليه، وإن أسقطت الجملة الثانية، زال معنى التعجب من كفران نعمة ربه. وإن أسقطت الحملة الاستفهامية، أو غيرها زال ما تضمنته من المعاني التي لولاها لما كان، فاعرف ذلك. ومن هذا الضرب قول علي بن جبلة:

الضرب الثاني من القسم الثاني من النوع الرابع فيما زاد معناه على لفظه

وما لامرئ حاولته عنك مهربٌ ... ولو حملته في السماء المطالع بلى هارب لا يهتدي لمكانه ... ظلام ولا ضوء من الصبح ساطع فهذا هو الكلام، الذي ألفاظه وفاق معانيه. فإنه قد اشتمل على مدح رجل، (في) شمول ملكه، وعموم سلطانه، وأن لا مهرب عنه لمن يحاوله وان صعد السماء، ثم ذكر جميع المهارب، في المشارق والمغارب، فأشار إلى إنه يبلغ حيث يبلغ الضياء والظلام، وذلك مما لم ترد عبارته على المعنى المندرج تحته ولا قصرت عنه. ومن هذا النحو ما جاء في كتاب النوادر. قول بعضهم: ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعَدَها إذا لم تقدر! فسل اللبيب تكن لبيباً مثله ... من يسع في علم باب يمهر وتّدير الأمر الذي تعنى به ... لا خير في عمل بغير تدير فلقد يَجدُّ المرءُ وهو مقصر ... يخيب سعيُ المرء غيرَ مقصر ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكلَّ أمر منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضاً ليدفع مُعْوِر عن معور فهذا النمط الرضي، والكلام العلي، والمنهج القويم، والصراط المستقيم تروقك بهجته، إذا قرع سمعك، ويؤنسك إذا سكن قلبك، قد رقي درجات الإيجاز، إلى أن يكاد ينزل بساحة الإعجاز، وأمثال ذلك كثير في كلام البلغاء، وفيما ذكرته كفاية ومقنع. الضرب الثاني من القسم الثاني من النوع الرابع فيما زاد معناه على لفظه ويسمى هذا الضرب (الإيجاز بالقصر)، والقرآن الكريم ملآن من ذلك، كقوله

تعالى (من كفر فعليه كفره) كلمة جامعة لما لا غاية وراءه ولا أمد فوقه من المضار، لأن من ضاره كفره فقد أحاطت به كل مضرة، وكذلك قوله تعالى (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي. . .) إلى قول (. . . وما هدى) فقوله تعالى (فغشيهم من اليم ما غشيهم) من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة. أي غشيهم من الأمور الهائلة، والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، ولا يحيط به غيره، وعلى نحو من ذلك قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) الآية فإن هذه الآية من أجمع آية في القرآن الكريم، وقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له: (يا ابن أخي أعد) فأعاد النبي - عليه السلام - قراءتها عليه. فقال له (إن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر). ومن هذا الضرب أيضاً قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر) فإنها ثلاث كلمات تشتمل على أمر الرسالة وشرائعها وأحكامها على الاستقصاء. وأما قوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) فإنه قد جمع في جميع مكارم الأخلاق، لأن في الأمر بالمعروف صلة الرحم، ومنع اللسان عن الريبة، وعن الكذب، وغض الطرف عن المحرمات) وغير ذلك من أشياء لا تحصى. وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وغيرهما. وقد قال بعض الأعراب في الدعاء: (اللهم هب لي حقك وأرض عني خلقك). ألا ترى إلى هذه الكلمات (و) ما حوت من المعاني

الكثيرة من العفو عن الزلل، والتجاوز عن الذنب، وغير ذلك مما جرى هذا المجرى. وأما إرضاء الخلق فينطوي على أشياء طائلة لا يستغرقها الذكر. ومن ذلك قوله تعالى: (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) فإنه أدخل تحت الأمن جميع المخوفات، لأنه نفى به أن يخافوا شيئاً من الفقر والموت وزوال النعمة ونزول النقمة، وأضاف ذلك من أضاف المكاره. وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول لآخر: كفاك الله ما أهمك. فقال: هذه البلاغة. فاعرف ذلك. واعلم أن الأصل المعتبر في الإيجاز بالقصر أنك تذكر شيئاً يقع على محتملات متعددة، ألا ترى إلى قوله (تعالى): (فغشيهم من اليم ما غشيهم). وقوله تعالى: (إن الله بأمر بالعدل والإحسان. . .). الآية، وقوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر). وقوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، وقوله تعالى: (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). فإن هذه الآيات جميعها جارية في المنهاج الذي أشرنا إليه، من أنك تذكر شيئاً يقع على محتملات متعددة، وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة. ومن الإيجاز بالقصر باب يسمى (باب أفعل)، وهو التفضيل بين شيئين لا يشتركان في الصفة التي يفضل بها أحدهما على الآخر. فمن ذلك قوله تعالى: (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا). إلى قوله: (وخير مرداً) فقوله، (خير عند ربك ثواباً) من مفاخرات الكفار، وإنما قال (خير ثواباً) وقد علم أن مفاخرات الكفار ليس لها

النوع الخامس من الباب الأول من الفن الثاني في الإطناب

ثواب حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه، لأن ذلك على طريقة قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع. فكأنه قال: ثوابهم النار ثم بني عليه (خير ثواباً). وفي ذلك ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له (عقابك النار). فإن قيل: فما وجه التفضيل في الخير بين مفاخرات الكفار وثواب الصالحات؟ قلت: هذا من أوجز كلام العرب. ومثله قولهم (الصيف أحر من الشتاء). أي أبلغ في حره من الشتاء في برده. وهذا جائز، لأن الحر لا شك تتفاوت درجاته، فيكون بعضها أشد من بعض، وكذلك البرد أيضاً، فتقول العرب (الصيف أحر من الشتاء) أي إن حر الصيف في بابه أبلغ من برد الشتاء في بابه، مثال ذلك: أن حر الصيف قد بلغ أنهى درجاته، بل يكون قد بقى بينه وبين نهاية البرد درجة أو درجتان، فيكون حر الصيف بالنسبة إلى أصل الحر أبلغ من برد الشتاء بالنسبة إلى أصل البرد. وهذا مثل قولهم (العسل أحلى من الخل) وليس في الخل حلاوة حتى تفضل حلاوة العسل عليها، وإنما المعنى في ذلك كالمعنى في الآية الأولى. . . وأمثال هذا كثيرة، وقد ورد في القرآن الكريم في مواضع منه، كقوله تعالى في سورة الفرقان: (وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين، دعوا هنالك ثبورا. . .) إلى قوله (. . . جزاء ومصيراً) وقد علم أن جهنم ليس فيها خير حتى يجعل الجنة خيراً منها، بل هي شر محض، وعذاب لا خير فيه. والأصل في هذه الآية ما أشرنا إليه أولاً. . . فاعرفه إن شاء الله - تعالى -. النوع الخامس من الباب الأول من الفن الثاني في الإطناب اعلم أن هذا النوع من أنواع علم البيان، شديد الالتباس. كثير الاعتياص وذلك أن

جماعة من الأئمة المشهورين في هذه الصناعة قد جعلوه بمنزلة التطويل الذي هو ضد الإيجاز. وهذا غلط فاحش. فمن جملة الأئمة الذين ذكروا ذلك، أبو هلال العسكري صاحب كتاب الصناعتين. فإنه قال في كتابه: (الإطناب في الكلام إنما هو بيان، والبيان لا يكون إلا للإشباع، وأفضل الكلام أبينه، والإيجاز للخواص، والإطناب يشترك فيه الخواص والعوام، والأمر ما أطنب في الكتب السلطانية في إفهام الرعايا. وكما أن الإيجاز له موضع، فكذلك الإطناب له موضع، والحاجة إلى الإيجاز في موضعه، كالحاجة إلى الإطناب في موضعه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خاطبوا الناس على قدر عقولهم). ومن استعمل الإيجاز في موضع الإطناب أو الإطناب في موضع الإيجاز فقد أخطأ. ولا شك أن الكتب الصادرة عن السلطان في الأمور العظيمة في الفتوح والتفخيم (في) مواقع النعم المتجددة، أو في الترغيب في الطاعة، والتحذير من العصيان، وغير ذلك ينبغي أن تكون مشبعة مستقصاة)، ألا ترى أن كتاب المهلب إلى الحجاج في فتح الأزارقة: (الحمد لله الذي كفى الإسلام فقد ما سواه، وجعل الحمد متصلاً بنعمته، وقضى أن لا ينقطع المزيد من فضله، حتى ينقطع الشكر من خلقه. ثم إنا وعدونا على حالين مختلفتين، نرى فيهم ما يسرنا أكثر مما يسوؤنا ويرون فينا ما يسوؤهم اكثر مما يسرهم. فلم يزل ذلك دأبنا ودأبهم: ينصرنا الله ويخذلهم، ويمحصنا ويمحقهم حتى بلغ الكتاب بنا وبهم أجله فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين).

وإنما يحسن هذا الكتاب لكونه في موضعه، فأما لو كتب إلى العامة، وقد تطلعت نفوسهم إلى معرفة ذلك الفتح العظيم، وتصرفت بهم ظنونهم في أمره، لجاء في أقبح صورة عندهم وأهجنها). (واعلم، أن الإطناب بلاغة، والتطويل عي؛ فإن الإطناب بمنزلة سلوك طريق بعيدة نزهة، تحتوي على زيادة فائدة، بما تأخذ النفس فيه من اللذة، والتطويل بمنزلة سلوك ما يبعد جهلاً بما يقرب). فهذا حكاية كلام أبي هلال العسكري. ولنذكر نحن ما عندنا في ذلك، فنقول: أما قول أبي هلال: (الإطناب في الكلام، إنما هو بيان) فإن البيان في أصل اللغة: هو الظهور والوضوح؛ فيكون الإطناب، على قوله، ظهوراً في الكلام ووضوحاً لاغير، ويلزم على ذلك؛ أن يكون كل كلام ظاهر واضح إطناباً، سواء كان ذلك الكلام، إيجازاً أو غيره من أصناف علم البيان. وهذا مما لم يذهب إليه أحد، لأن أبا هلال قد جعل الإطناب وصفاً من الأوصاف التي يشترك فيها جميع ضروب الكلام. وذلك أن البيان وصف يعم كل كلام ظاهر واضح، عن إيجاز أو تطويل أو تكرير أو غير ذلك. وليس الأمر كما وقع له، بل الإطناب نوع واحد من أنواع الكلام، فإن أصله (في) وضع اللغة من (أطنب في الكلام) إذا بالغ فيه. والمبالغة لها وجوه وطرق، كالإخبار بالفعل الماضي عن المضارع، وبالمضارع عن الماضي، وتوكيد الضمير المتصل بالمنفصل، وغير ذلك مما أشرنا إليه في كتابنا. ومن جملة الوجود والطرق التي للمبالغة الإطناب، وسيأتي ذكره وتحقيق القول فيه، عند الفراغ من الاعتراض على كلام أبي هلال. وأما قوله: (إن البيان لا يكون إلا بالإشباع) لأنه جعل الإطناب بياناً في القول الأول، وهذا لا يخلو من حالين: إما إنه يعني بالإشباع أن يوصل المعنى إلى حقه، مأخوذاً ذلك من (الشبع) يقال (شبع فلان)، إذا وصل في أكله إلى حقه، وقدر كفايته، فإن كان يعني بالإشباع ما ذكرناه فإن ذلك أمر عام لجميع ضروب الكلام

من الإيجاز، والتكرير، والمقابلة، والتفسير، وغيرهما، مما أشرنا إليه، فإن كل ضرب من هذه الضروب المذكورة، إذا وصل الكلام فيه إلى حقه، يكون إطناباً، فذلك من أعجب الأشياء وأطرافها. وأن كان يعني بالإشباع الزيادة على قدر ما يستحقه الكلام ويحتاج إليه، وذلك هو التطويل بعينه، فإنه يلزم من هذا القول، أن التطويل في الكلام، إذا كان واضحاً بيناً، يكون من أفضل الكلام، وذلك ما لا يوافق عليه، بحال من الأحوال، بل كان يحتاج في قوله: (إن أفضل الكلام أبينه) إلى قرينة أخرى، وهو أن كان قال (أفضل الكلام أوجزه وأبينه)، فإنه لو قال ذلك، لكان قوله صواباً لا يخالف فيه، وأما قوله (وكما أن الإيجاز له موضع، فكذلك الإطناب له موضع، والحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في موضعه، ومن استعمل الإيجاز في موضع الإطناب والإطناب في موضع الإيجاز فقد أخطأ) فكأنه توهم من هذا القول، أن الإطناب ضد الإيجاز، وإذا كان الأمر كذلك فهو التطويل بعينه. ومما يقوى هذا الوهم قوله أيضاً (إن الإيجاز للخواص، والإطناب يشترك فيه الخواص والعوام). وأما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خاطبوا الناس على قدر عقولهم) فإن كان غرضه من قول النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة كل فريق من الناس بما يفهمونه فهذا لا يتعلق بصنف واحد من صنوف الكلام، إطناباً كان ذلك أو إيجازاً أو غيرهما، إذ الإفهام يشتمل على أنواع الكلام جميعها، ومتى لم يكن الكلام مفهوماً واضح المعاني فليس عندنا محسوباً في جملة علم البيان، ولا نعده من صناعة التأليف بشيء. وقد يخاطب مؤلف الكلام العامة بأوحش الخطاب وأحقره، ويفهمون من ذلك قوله، ويعرفون خطابه. فإن الأصل في الكلام: إنما هو كشف معانيه للمخاطب وإيضاحها له، وسواء عند ذلك خوطب به الخاصة أو العامة، فاعرف هذا وقس عليه. ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خاطبوا الناس على قدر عقولهم) أي كملوهم بما يعرفونه من الألفاظ ويعتادونه بينهم من الكلام، كما كتب عليه السلام إلى كسرى

أبرويز فقال: (من محمد رسول الله إلى كسرى أبرويز عظيم فارس، سلام الله على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله)، وبعد، فأني رسول الله إلى الناس كافة. لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافروين، فأسلم تسلم وإن أبيت فإثم المجوس عليك) وكتب - عليه السلام - أيضاً إلى قوم من العرب فقال لوائل بن حجر: (من محمد رسول الله إلى الأقبال العباهلة أهل حضرموت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على التيعة شاة والتيمة لصاحبها وفي السيوب الخمس لا خلاط ولا وراط ولا شناق ولا شغار ومن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام). فسهل الألفاظ إلى كسرى أبرويز غاية التسهيل بحيث إنها لا تخفى على من له تشبث باللغة العربية، ولما كتب إلى أولئك القوم من العرب خاطبهم بما تقوى عليه قدرتهم، وهم معتادون لسماع مثله فهذا هو المقصود بقوله - صلى الله عليه وسلم - (خاطبوا الناس على قدر عقولهم)، وليس المقصود من ذلك ما ذهب إليه أبو هلال العسكري (من مخاطبة قوم بالإيجاز، وقوم بالإطناب) الذي هو على قياسه محض التطويل. وإذا كان الأصل في الكلام إنما هو بيانه ووضوحه فما الفائدة من تطويله، مع القدرة على اختصاره وإيجازه؟! وأما قوله: (إن الإطناب البلاغة، والتطويل عي) فهو لعمري كذلك، إلا إنه على أصله يكون قد جعل البيان بلاغة؛ لأن الإطناب عنده إنما هو بيان، ويلزم على ذلك أن التطويل في الكلام إذا كان ذا بيان، يكون بليغاً. وهذا ما لم يذهب إليه أحد البتة، لأنه بضد الصواب وأما قوله (إن الإطناب بمنزلة سلوك طريق بعيدة، نزهة، تحتوي على زيادة الفائدة، بما تأخذ النفس فيه من اللذة. والتطويل بمنزلة سلوك ما يبعد، جهلاً بما يقرب) فإن هذا تمثيل صحيح

مناسب لما مثل به إلا إنه كان يحتاج إلى زيادة إيضاح. وهو أن يجعل المعنى المراد في كلام ما بمنزلة المقصد الذي يتوجه إليه السائر، ويجعل إلى ذلك المقصد ثلاثة طرق: أحدها قريب إليه، والآخران بعيدان عنه، متساويان في البعد. ويجعل الدلالة على ذلك المعنى المراد بالإيجاز بمنزلة الطريق القريب، ويجعل الدلالة عليه بالإطناب بمنزلة أحد الطريقين البعيدين، ويجعل الدلالة عليه بالإطناب بمنزلة الطريق الآخر المساوي له في البعد، إلا إنه نزه يحتوي على زيادة فائدة، بما تأخذ النفس منه من اللذة. فهذه ثلاث تمثيلات مناسبة لما مثلت به فاعرفها. وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع وفرغنا من الكلام على ما ذكره أبو هلال في باب الإطناب، فلنورد نحن ما عندنا من ذلك فنقول: اعلم أن الإطناب في أصل اللغة مأخوذ من (أطنب في الكلام: إذا بالغ فيه). وقد ذكرنا ذلك أولاً في الاعتراض على كلام أبي هلال. واعلم أن المبالغة تنقسم إلى أقسام كثيرة، وقد سبق ذكر شيء منها، كالإخبار بالفعل الماضي عن المضارع، وبالمضارع عن الماضي. وسيأتي ذكر الباقي في كتابنا هذا. ومن جملة أقسام المبالغة الإطناب، وفائدته زيادة التصور للمعنى المقصود وإما حقيقة وإما مجازاً. وهو على الحقيقة ضرب من ضروب التأكيد، فأما ما جاء من ذلك على سبيل الحقيقة فقوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) فإن الفائدة في قوله تعالى (في جوفه) كالفائدة في قوله (القلوب التي في الصدور) وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصور للمدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور نفسه جوفاً (يحتوي) على قلبين. فكأن ذلك أسرع للإنكار. وأما الذي جاء منه على سبيل المجاز فقوله تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ففائدة ذكر الصدور هاهنا إنه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر، وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، واستعماله في القلب استعارة ومثل.

النوع السادس من الباب الأول من الفن الثاني في توكيد الضمير المتصل بالمنفصل

فلما أريد إثبات ما هو بخلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار. احتاج هذا الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف، ليتقرر أن مكان العمى إنما هو القلوب لا الأبصار. وهذا نوع من أنواع علم البيان، وافر اللطائف، كثير المحاسن. فينبغي لمؤلف الكلام العناية به والمراعاة له، فاعرفه. النوع السادس من الباب الأول من الفن الثاني في توكيد الضمير المتصل بالمنفصل وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة فمما جاء منه قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن تكون نحن الملقين). فقولهم (يا موسى إما أن تلقي) تخيير منهم له، وحسن أدب راعوه معه، كما يفعل أرباب الصناعات إذا تلاقوا في تقديم بعضهم على بعض كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال. وإنما قالوا (وأما أن نكون نحن الملقين) ولم يقولوا (وأما أن نلقي) كما قالوا (يا موسى، إما أن تلقي) لرغبتهم في أن يلقوا قبله وتشوقهم إلى التقدم عليه وذلك لما فيه من تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل. ومما يجري على هذا المنهاج قوله عز وجل: (فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تحف إنك أنت الأعلى). فتوكيد الضمير هاهنا في قوله: (إنك أنت الأعلى) أنفى للخوف من قلب موسى، وأثبت في نفسه للغلبة والقهر، ولو قال: (لا تخف إنك الأعلى) أو (لا تخف فأنت الأعلى) لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف من قلب موسى، ما لقوله: (إنك أنت الأعلى). والدليل على ذلك، أن في هذه الثلاث كلمات وهو قوله تعالى: (إنك أنت الأعلى). ست فوائد: الأولى: (أن) المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها، كقولك: (زيد

قائم)، ثم تقول (إن زيداً قائم). ففي قولك: (إن زيداً قائم). من الإثبات لقيام زيد والتقرير له، ما ليس في قولك: (زيد قائم). الثانية: تكرير الضمير في قوله تعالى: (إنك أنت الأعلى). ولو اقتصر على أحد الضميرين، فقال: إنك الأعلى، أو على: (فأنت الأعلى)، لما كان بهذه الثانية من التقرير لغلبة موسى، والإثبات لقهره. الثالثة: التعريف في قوله (الأعلى)، ولم يقل: إنك أنت أعلى أو عال؛ لو قال ذلك لكان قد نكره، وكان صالحاً لكل واحد من جنسه، كقولك: (رجل) فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال. وإذا قلت: (الرجل) فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف، وجعلته علماً فيهم. وكذلك قولك: (إنك أنت الأعلى): أي أنت الأعلى دون غيرك. الرابعة: لفظة (أفعل) الذي من شأنه التفصيل، ولم يقل العالي. الخامسة: إثبات الغلبة له من العلو، لأن الغرض من قوله (الأعلى)، أي الأغلب، إلا أن في الأعلى زيادة وهي الغلبة من (عال). السادسة: الاستئناف، وهي قوله: (إنك أنت الأعلى). ولم يقل: (لأنك أنت الأعلى) لأنه لم تجعل علة انتفاء الخوف عنه كونه غالباً، وإنما نفى الخوف عنه أولاً يقوله: (لا تخف)، ثم استأنف الكلام، فقال: (إنك أنت الأعلى) فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى - عليه السلام - بالغلبة والاستعلاء، وأثبت لذلك في نفسه. فهذه ست فوائد في هذه الكلمات الثلاث. فانظر أيها المتأمل إلى هذه البلاغة العجيبة، التي تحير العقول، وتذهب بالألباب. ولأمر ما أعجز هذا الكلام العزيز البلغاء، وأفحم الفصحاء، ورجل فرسان الكلام. فإن قيل: لو كان توكيد الضمير المتصل بالمنفصل أبلغ من الاقتصار على أحدهما، لورد ذلك

عند ذكر الله نفسه في كتابه، (لأنه) هو أحق بما هو أبلغ من الكلام. وقد رأينا في القرآن الكريم مواضع تختص بذكر الله تعالى، وقد ورد فيها أحد الضميرين دون الآخر، كقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير). فما الموجب لذلك إن كان توكيد الضمير المتصل بالمنفصل أبلغ في بابه من الاقتصار على أحدهما دون الآخر؟ فقد كان بخلاف ذلك، فكيف قلت: إن توكيد الضمير المتصل بالمنفصل أبلغ؟. الجواب عن ذلك أنا نقول: توكيد الضمير المتصل بالمنفصل إنما يرد في الكلام لتقرير المعنى المقصود، وإثباته في النفس، وما يختص بالله تعالى لا يفتقر إلى تقرير ولا إثبات، لأنه إذا قيل عنه: (إنك على كل شيء قدير)، لم يحتج في ذلك إلى توكيد حتى يتحقق ويتبين إنه على كل شيء قدير، بل قد علم وعرف أن قدرته تتعلق بكل شيء، وأنها جارية على كل مخلوق، فصار هذا الأمر المعروف المشهور، الذي لاشك يعتريه، ولا مرية تعترضه. وما هذا سبيله في الوضوح والبيان، فما الحاجة فيه إلى التوكيد؟ إذ التوكيد من شأنه تقرير المعنى المراد، وإثباته في النفس، وقوله تعالى: (إنك على كل شيء قدير) لا يحتاج فيه إلى تقرير ولا إثبات. فإن قيل: فقد ورد في القرآن الكريم أيضاً، عند ذكر الله تعالى نفسه، كلا الضميرين: المنفصل والمتصل، كقوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس، اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟) إلى (. . . علام الغيوب) كما قال: (إنك على كل شيء قدير) فما السبب في هذا؟ وهلاً كان الجميع نوعاً واحداً؟! الجواب عن ذلك أنا نقول: توكيد الضميرين أحدهما بالآخر في هذه الآية لا ينقض علينا

ما أشرنا إليه أولاً؛ لأنه إن وقع الاقتصار على أحدهما دون الآخر، كان القول في ذلك ما تقدم في الآية، وإنما جيء بهما معاً فلان ذلك أبلغ في بابه وآكد، والله تعالى أحق بما هو أبلغ من الكلام وآكد. ولنمثل لك في استعمال الضميرين معاً والاقتصار على أحدهما دون الآخر، مثالاً تتبعه، فنقول: إذا كان المعنى المقصود ظاهراً معلوماً قد ثبت في النفوس، ورسخ في الألباب فأنت بالخيار: بين أن تؤكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة عليه وبين أن تقتصر على أحدهما دون الآخر. لأنك أن وكدت الكلام فيه فقد أعطيت المعنى حقه. وإن لم تؤكد الكلام فيه فلأنه لا يحتاج إلى توكيد لبيانه وظهوره، وإذا كان المعنى المقصود خافياً ليس بظاهر ولا معلوم. فالأولى توكيد أحد الضميرين فيه بالآخر ليقرره ويكسبه وضوحاً وبياناً. ألا ترى إلى قوله تعالى في حق موسى عليه السلام: (قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى). فإنه لما كان ظهور موسى على السحرة وقهره لهم أمراً مستتراً في ضمن الغيب، لا يعلم ولا يعرف وأراد الله - عز وجل - أن يخبره بذلك؛ ليذهب عنه الخوف والحذر، أني بالأبلغ من الكلام، ليكون ذلك أثبت في نفس موسى، وأقوى دليلاً عليه في انتفاء الخوف عنه فوكد الضمير المتصل بالمنفصل. فجاء المعنى كما ترى. ولو قال (إنك الأعلى) أو (فأنت الأعلى)، لكان ذلك أيضاً إخباراً لموسى بنفي الخوف عنه، واستظهاره على السحرة، ولكن ليس له من التقرير في نفس موسى ما لقوله: (إنك أنت الأعلى). فاعرف ذلك وقس عليه. وعلى نحو من هذا قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين). فإن إرادة السحرة الإلقاء قبل موسى - عليه السلام - لم تكن معلومة عنده. لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك، لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم لموسى بمثله إلى ما هو توكيد مما هو لهم، بالضمير المتصل بالمنفصل، علم أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله، لأن

النوع السابع من الباب الأول من الفن الثاني في الكناية والتعريض

من شأن مقابلة خطابهم لموسى بمثله أن كان، قالوا: إما أن تلقي وإما أن تلقى. لتكون الجملتان متقابلتين. فحيث قالوا عن أنفسهم (وإما أن نكون نحن الملقين) استدل بذلك على رغبتهم في الإلقاء قبله. وهذه معان لطيفة ورموز غامضة لا ينتبه لها إلا الفطن اللبيب، فاعرفها. النوع السابع من الباب الأول من الفن الثاني في الكناية والتعريض اعلم أن لهذا النوع من الكلام موقعاً شريفاً، ومحلاً كريماً. وهو مقصور على المليل مع المعنى، وترك اللفظ جانباً. وذلك نوع من علم البيان لطيف. وقد تكلم جماعة المؤلفين في هذا الفن فوجدتهم قد خلطوا الكناية بالتعريض، ولم يفرقوا بينهما، بل أوردوا لهما (أمثلة) من النظم والنثر، وأدخلوا أحد القسمين في الآخر، فذكروا للكناية أمثلة من التعريض، وللتعريض أمثلة من الكناية، فمنهم أبو محمد بن سنان الخفاجي، وأبو هلال العسكري، والغانمي. فأما ابن سنان، فإنه ذكر في كتابه قول امرئ القيس: فصرنا إلى الحسنى ورق كلامها ... ورضتُ فذلّت صعبة أي إذلال وهذا مثال ضربه للكناية عن المباضعة، وهو مثال للتعريض. وسنورد لك أيها الناظر في كتابنا فرق ما بين الكناية والتعريض، وتمييز أحدهما عن الآخر، ونعرف كلا منهما على انفراده فنقول: أما الكناية فهي: أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له كما كنى الله تعالى عن الجماع:

الأول: التمثيل

(باللمس) فإن حقيقة (اللمس) هي (الملامسة) يقال: لمست الشيء إذا لامسته، ولما كان الجماع (ملامسة بالأبدان وزيادة أمر آخر) أطلق عليه اسم: (اللمس) مجازاً. وضد الكناية التصريح. وأما التعريض: فهو أن تذكر شيئاً يدل على شيء لم تذكره وأصله: التلويح من عرض الشيء؛ أي من جانبه، وأعلم أن (بيت) امرئ القيس الذي ذكره ابن سنان الخفاجي مثالا للكناية، هو عين التعريض، فإن غرضه من ذلك أن يذكر الجماع، غير إنه لما استقبح ذكره لم يذكره بل ذكر كلاماً آخر، ودل به عليه؛ لأن المصير إلى الحسنى ورقة الكلام، لا يفهم منهما ما أراده امرؤ القيس من المعنى، وذلك مما لا خفاء به، فاعرفه. وحيث فرقنا بين الكناية والتعريض، وميزنا كلاً منهما عن الآخر، فلنفصلهما ونذكر أقسامهما، ولنبدأ أولاً بالكناية فنقول: اعلم أن الكناية على ضربين: أحدهما ما يحسن استعماله (والآخر ما يقبح استعماله)، وهو عيب في صناعة التأليف. فأما الضرب الأول الذي يحسن استعماله فإنه ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: التمثيل: وهو التشبيه على سبيل الكناية، وذلك أن تراد الإشارة إلى معنى، فتوضح ألفاظ (تدل) على معنى آخر، وتكون تلك الألفاظ وذلك المعنى مثالاً للمعنى الذي قصدت الإشارة إليه والعبارة عنه كقولنا (فلان نقي الثوب). أي منزه عن العيوب. وللكلام بها، فائدة لا تكون لو قصدت المعنى بلفظه الخاص، وذلك لما يحصل للسامع من زيادة التصور للمدلول عليه؛ لأنه إذا صور نفسه مثال ما خوطب به كان أسرع إلى الرغبة فيه أو الرغبة عنه. فمن بديع التمثيل قوله تعالى: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا). فأما تمثيله الاغتياب بأكل لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله لحم الأخ ولم يقتصر على لحم الأخ حتى جعله ميتاً ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة،

وهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الذي وردت لأجله فشديد المناسبة جداً، وذلك لأن الاغتياب، إنما هو ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم (وتمزيق العرض) مماثل لأكل (الإنسان) لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم فيه تمزيق لا محالة. وأما قوله (لحم أخيه) فلما في الاغتياب من الكراهة، لأن العقل والشرع معاً قد أجمعا على استكراهه وأمرا بتركه، والبعد عنه. ولما كان كذلك جعل بمنزلة لحم الأخ في كراهته. ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر مثله، إلا إنه لا يكون مثل كراهته (لحم) أخيه، فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة، لا أمد فوقها. وأما قوله (ميتاً) فلأجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته، ولا يحس. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها. مع العلم بأنها من أذم الخلال، ومكروه الأفعال، عند الله تعالى والناس. فانظر أيها المتأمل لهذا التمثيل كيف مطابقته لما مثل به تجده من أبلغ التمثيلات وأندرها مثالا، لأنك متى نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع، التي أوردناها رأيتها مناسبة لما قصدت له؛ فتمزيق العرض مثل أكل الإنسان لحم من يغتابه؛ لأن ذلك تمزيق على الحقيقة، و (جعل بمنزلة) لحم الأخ لأجل المبالغة في الكراهة. و (الميت) لامتناع الإحساس به. واتصال ما هو مستكره بالمحبة لما في طبع الأنفس من الشهوة للغبية والميل اليها، فاعرف ذلك. ومن هذا القسم قوله - تعالى - (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) فمثل البخل بأحسن تمثيل لأن البخيل، لا يمد يده بالعطية، كالمغلول الذي لا يستطيع أن يمد يده. وإنما قال: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) ولم يقل (ولا تجعل يدك مغلولة) من

غير العنق، لأنه قال (ولا تبسطها كل البسط) فكأنه أراد، ولا تجعل يدك مغلولة كل الغل ولا تبسطها كل البسط، فناب ذكر العنق عن قوله (كل الغل)، لأن غل اليد إلى العنق، هو أقصى الغايات التي جرت العادة بغل اليد إليها. ومن أمثال العرب (إياك وعقيلة الملح) وذلك تمثيل للمرأة الحسناء، في منبت السوء، لأن عقيلة الملح هي الدرة. ومن التمثيل قول ابن الدمينة: أَبيني أفي يُمنى يَدَيْك جَعلتِني ... فَاْفْرَحَ أَمْ صَيَّرتني في شِمالِكِ؟ فذكر اليمين، وجعلها مثالاً لإكرام المنزلة، وذكر الشمال وجعلها مثالاً لهوان المنزلة؛ لأن اليمين أشرف منزلة من الشمال أو أكرم محلاً. وفي القرآن العزيز ما يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود. . .) الآية فلما جاء إلى ذكر الشمال قال تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال) الآية، فاعرف ذلك وقس عليه.

القسم الثاني من الكناية في الأرداف

القسم الثاني من الكناية في الأرداف وهو اُسم سماه به قدامة بن جعفر الكاتب. اعلم أن أكثر علماء هذه الصناعة قد أدخلوا (الأرداف) في التمثيل، وفي الفرق بينهما إشكال ودقة. فأما التمثيل فقد سبق الإعلام به وهو شأن ترد الإشارة إلى معنى فتوضع الألفاظ على معنى آخر، وتكون تلك الألفاظ وذلك المعنى مثالاً للمعنى الذي قصدت الإشارة إليه والعبارة عنه كقولنا (فلان نقي الثوب) أي منزه عن العيوب. وأما الأرداف فهو أن تراد الإشارة إلى معنى فيترك اللفظ الدال عليه ويؤتي بما هو دليل عليه ومرادف له كقولنا (فلان طويل النجاد) والمراد به طويل القامة، إلا إنه لم يتلفظ بطول القامة الذي هو الغرض، ولكن ذكر ما هو دليل على طول القامة، وليس نقاء الثوب دليلاً على النزاهة عن العيوب، وإنما هو تمثيل لها، فاعرف ذلك. واعلم أن الأرداف يتفرع إلى خمسة فروع: الأول: فعل المبادهة كقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه) فإن المراد بقوله تعالى: (لما جاءه) أي إنه سفيه الرأي، يعني: إنه لم يتوقف في تكذيب وقت ما سمعه، ولم يفعل كما يفعل المراجيح العقول، المتثبتون في الأشياء؛ فإن من شأنهم إذا ورد عليهم أمر أو سمعوا خبراً أن يستعملوا فيه الروية والفكر، ويتأنوا في تدبره إلى

الفرع الثاني من الأرداف

أن يصح لهم صدقه أو كذبه، ألا ترى إلى قوله تعالى (لما جاءه) أي إنه ضعيف العقل عازب الرأي فعدل عن ذلك إلى ما هو دليل عليه وأردف له و (هو) قوله تعالى (لما جاءه) وذلك آكد وأبلغ ومن هذا الباب أيضاً. (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم، إن هذا إلا سحر مبين) والكلام على ذلك كالكلام على الذي قبله فاعرفه. الفرع الثاني من الأرداف وهو باب (مثل) وذلك دقيق الصفة لطيف المغزى اعلم أن العرب تأتي (بمثل) في هذا الموضع توكيداً للكلام وتثبيتاً لأمره. يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: (مثلى لا يفعل هذا) أي أنا لا أفعله فنفى ذلك عن مثله وهو يريد نفيه عن نفسه، قصداً للمبالغة، فسلك به طريق الكناية، لأنه إذا نفاه عمن يماثله أو يشابهه فقد نفاه عنه لا محالة. وكذلك أيضاً قولهم (مثلك إذا سئل أعطى) أي أنت كذلك، وهو كثير في الشعر القديم والمولد والكلام المنثور. وسبب توكيد هذه المواضع ب (مثل) أنه يراد أن يجعل من جماعة هذه أوصافهم، تثبيتاً للأمر، وتمكيناً له ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم ترس فيه قد مُه. ومثل ذلك قولهم في مدح الإنسان: (أنت من القوم الكرام) أي لك في هذا الفعل سابقة، وأنت حقيق به، ولست دخيلاً فيه. وقد ورد هذا الباب في القرآن الكريم، كقوله تعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). وهذا كقولهم (مثلك لا يبخل) فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصداً للمبالغة: لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده، وهو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظير ذلك قولك للعربي (العرب لا تخفر الذمم).

الفرع الثالث من الأرداف

وهذه أبلغ من قولك (أنت لا تخفر الذمم). وليس فرق بين قوله تعالى (ليس كمثله شيء) وبين قوله (ليس كالله شيء) إلا من الجهة التي نبهنا عليها فاعرفها. الفرع الثالث من الأرداف وهو ما يأتي في جواب الشرط، وذلك من ألطف الكنايات وأحسنها، فمن هذا قوله - تعالى -: (وقال الذين أوتوا العلم لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث) كأنه قال (إن كنتم منكرين يوم البعث فهذا يوم البعث) فكنى بقوله (فهذا يوم البعث) عن بطلان قولهم وكذبهم فيما ادَّعوا، وذلك رادف له ونظيره قولك (تنكر حضور زيد فهاهو) أي فأنت كاذب. وهذا من دقائق الكناية، فاعرفه. الفرع الرابع من الأرداف وهو الاستثناء من غير موجب: وذلك من غرائب الكناية كقوله - تعالى -: (ليس لهم طعام إلا من ضريع) الآية، والضريع نبت ذو شك تسمية قريش (الِشبرق) في حالة خضرته وطراوته فإذا يبس سمته العرب (الضريع) والإبل ترعاه طرياً ولا تقربه يابساً. والمعنى ليس لهم طعام أصلاً، لأن الضريع ليس بطعام البهائم فضلاً عن الإنس. وهذا مثل قولك: (ليس لفلان ظل إلا الشمس) تريد ذلك نفي الظل عنه كما هو. وذكر الضريع، رادف لانتفاء الطعام. وعلى نحو من هذا جاء قول بعضهم: وتفردُوا بالمكرمات فلم يكن ... لسواهم منها سوى الحرمان والمراد نفي المكرمات عن سواهم، لأنه إذا كان لهم الحرمان من المكرمات فما لهم منها شيء البتة، وأمثال ذلك كثير فاعرفها.

الفرع الخامس من الأرداف

الفرع الخامس من الأرداف ليس مما تقدم بشيء وذلك نحو قوله - تعالى: (عفا الله عنك لِمَ أذِنت لهم) والمعنى المراد من هذا الكلام: أنك أخطأت وبئسما فعلت وقوله: (لم أذنت لهم) بيان لما كنى عنه بالعفو، أي مالك أذنت لهم، وهلا استأنيت؟ فذكر العفو دليلٌ على الذنب ورادف له وإن لم يذكره. وكذلك جاء قوله - تعالى -: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس، والحجارة أعدت للكافرين) قيل لهم: إن استنبتم العجز عن المعارضة فاتركوا العناد. فوضع قوله (فاتقوا النار) موضعه، لأن اتقاء النار لصيقه وصميمه من حيث إنه من نتائجه وروادفه لأنَّ من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: (إن أردتم الكرامة عندي فاحذروا سخطي) يريد فأطيعوني واتبعوا أمري، وافعلوا ما ينتجه حذر السخط و (ذلك) رادف له. ومن هذا الباب قوله - تعالى -: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا). ألا ترى إلى لطافة هذه الكناية؛ فإنها أفادت تكذيب دعواهم، ودفع ما انتحلوه. وفائدتها هاهنا: أنه روعي في تكذيبهم أدب حسن، حيث لم يصرح بلفظه، فلم يقل (كذبتم) لأن فيه نوع استقباح في الخطاب، ووضع قوله - تعالى - (لم تؤمنوا) الذي هو نفي ما ادعوا بيانه موضعه، لأن ذلك رادف له. ومما يجري هذا المجرى قوله - تعالى -: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم. . .) إلى قوله (. . . مؤمنون) فإن الغرض بقولهم (إنا بما أرسل به مؤمنون) جواباً عن سؤالهم: (أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟) إثبات العلم بإرساله، وأنه من الأمور الظاهرة المسلمة، التي لا يدخلها ريب، ولا يعترضها شك، لكن عدل عن ذلك إلى ما هو دليل عليه، ورادف له، وهو الإيمان به: أعني بصالح، وإنما صح منهم بعد ثبوت نبوته عندهم،

والقسم الثالث من الكناية وهو المجاورة

والعلم بإرساله إليهم، فالإيمان به إذن دليل على العلم بأنه نبي مرسل. وهذا من دقائق الأرداف ولطائفه. وأمثال ذلك كثيرة كقول الأعرابية في حديث أم زرع: (له إبل قليلات المسارح، كثيرات المبارك. إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك) فإن الظاهر من هذا القول أن إبله تنزل بفنائه، ولا تبرح ليقرب عليه نحرها للأضياف. فإذا ضرب المزهر للقيا (ن) نحرها لضيوفه. لقد اعتادت هذه الحالة وألفتها. وغرض الأعرابية من هذا الكلام أن تصف زوجها بالجود والكرم، ولكنها لم تذكر ذلك بلفظه الدال عليه وإنما أتت بمعان، هي أدلة على ذلك من غير تصريح بمرادها. وكذلك قال بعضهم: وددت - وما تغني الودادة - أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم فإن كان خيراً سرَّني وعلمته ... وإن كان شراً لم تلُمني اللوائم فإن المراد من قوله (لم تلمني اللوائم) أني أهجرها، فأضرب عن ذلك جانباً، ولم يذكر اللفظ المختص به، ولكنه ذكر ما هو دليل عليه ورادف له. وفيما أشرنا إليه من ذلك كفاية للمتأمل. والقسم الثالث من الكناية وهو المجاورة. وذلك أن يريد المؤلف ذكر شيء فيترك ذكره جانباً إلى ما جاوره، فيقتصر عليه، اكتفاء بدلالته على المعنى المقصود، كقول عنترة: وشككت بالرمع الأصمّ ثيابه ... ليس الكريم على للقنا بمحرّم أراد بالثياب هاهنا نفسه؛ لأنه وصف المشكوك بالكرم ولا توصف الثياب به، فثبت حينئذ أنه أراد ما تشتمل عليه الثياب، في ذلك من الحسن ما لا ينكره العارف بهذه الصناعة وقال أيضاً:

القسم الرابع في الكناية: ما ليس بتمثيل ولا إرداف ولا مجاورة

بزجاجة صفراء ذات أسرّة ... قرنت بأزهر في الشمال مقدّم الصفراء هاهنا الخمر والذكر للزجاجة حيث هي مجاورة لها، أنه ومشتملة عليها. وذهب بعض المفسرين في قوله تعالى: (وثيابك فطهر) أنه أراد بالثياب القلب والجسد أي قلبك فطهر أو جسدك. وأمثال هذا كثيرة فاعرفه. القسم الرابع في الكناية: ما ليس بتمثيل ولا إرداف ولا مجاورة كقوله - تعالى -: (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) فكنى عن النساء أنهم يتزينون في الحلية أي الزينة والنعمة وهو إذا احتاج إلى مجاورة الخصوم كان غير مبين، أي ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان يحاج به من يخاصمه. وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال. ومن هذا الباب قول أبي نواس: تقول التي من بيتها خفّ محملي ... عزيز علينا أن نراك تسيرُ ألا ترى إلى حسن هذه الكناية عن ذكر امرأته بقوله (التي من بيتها خف محملي) فانه من ألطفها مذهبا، وكذلك قول نصيب: فعاجُوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتُوا أثنت عليك الحقائب

قال الجاحظ: (نحن قوم نسحر بالبيان، ونموه بالقول، والناس ينظرون إلى الحال ويقضون بالعيان فأثر ذلك في أمرنا أثراً ينطق إذا سكتنا، فإن المدعي بغير بينة متعرض للتكذيب). فهذا معنى قول نصيب فعل به ما ترى. وأمثال الكناية كثيرة، فاعرفها. وأما الضرب الثاني من الكناية فهو الذي يقبح ذكره ولا يحسن استعماله كقول أبي الطيب: إني على شغفي بما في خمُرِها ... لأعفّ عمّا في سراويلاتها فإن هذه كناية عن النزاهة والعفة. وعلم الله - عز وجل - أن الفجور لأحسن منها ولقد ذكر الشريف الرضي هذا المعنى فأبرزه في أجمل صورة فقال: أحنُّ إلى ما تضمن الخُمر والحِلي ... وأصدف عما في ضمان المآزر ألا ترى إلى هذه الكناية ما ألطفها، والمعنيان سواء. وبهذا تعلم فضل الشاعرين أحدهما على الآخر؛ وذلك إذا أخذا معنىّ واحداّ فصاغه أحدهما في صياغة مفردة عن صياغة الآخر، فاعرف ذلك. وأما التعريض فقد جوّزه - الله تعالى - في خطبة النساء كقوله - تعالى -: (ولا جناح

عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء)، فقال المفسرون: التعريض بالخطبة لها أن يقول لها، وهي في عدة الوفاة (إنك لجميلة وإنك لحسنة) وما أشبه ذلك. ومما جاء من التعريض قوله - تعالى - (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) يعني أن كبير الأصنام غضب أن هذه الأصنام الصغار، فكسرها، وغرض إبراهيم - صلوات الله عليه - من هذا الكلام إقامة الحجة عليهم لأنه قال: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) وذلك على سبيل الاستهزاء بهم وهذا من رموز الكلام، والقول فيه أن قصد إبراهيم لم يكن الفعل الصادر عنه، إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجة عليهم، وتبكيتهم والاستهزاء بهم. ومن بديع التعريض قوله - تعالى -: (قال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) فقوله - تعالى - (ما نراك إلا بشراً مثلنا) تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم. فقالوا: هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة فما جعلك أحق منهم بها؟ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وما نرى لكم علينا من فضل). ومن مشكلات التعريض حديث عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: حكت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون أن النبي - ص - خرج ذات يوم وهو محتضن أحد ابني بنته وهو يقول: (والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله وان آخر وطأة وطئها الله بوجّ) واعلم أن (وج) واد بالطائف والمراد غزاة حنين. وحنين واد

قبل وج لأن غزاة حسنين آخر غزاة أوقع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المشركين. وأما غزونا الطائف وتبوك، اللتان كانتا بعد حنين فلم يكن فيها وطأة أي قتال، وإنما كانتا مجرد خروج إلى الغزاة حسب ومن غير ملاقاة العدو، أعني المشركين، ولا قتال لهم. ووجه عطف هذا الكلام، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن آخر وطأة وطئها الله بوج) على ما قبله من الحديث، هو التأسف على مفارقة أولاده؛ لقرب وفاته؛ لأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان، ووفاته - صلى الله عليه وسلم - كانت في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فكأنه قال: (وأنكم لمن ريحان الله): أي من رزقه، وأنا مفارقكم عن قريب إلا أنه صانع عن قوله: (وأنا مفارقكم عن قريب) بقوله: (وإن آخر وطأة وطئها الله بوج) فكان ذلك تعريضاً بما أراده، وقصده من قرب وفاته - صلى الله عليه وسلم - ومفارقته إياهم، أعني أولاده. وهذا من أغرب التعريضات وأعجبها، فاعرفه. ومن هذا الباب قول الشميذر الحارثي: بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدها ... دفنتم بصحراء الغُمير القوافيا

النوع الثامن من الباب الأول من الفن الثاني في استعمال العام والخاص في الإثبات

فإنه ليس قصده الشعر بل قصده ما جرى بينهم بهذا الموضع من الغلبة لهم، والقوة عليهم إلا أنه لم يذكر ذلك، بل ذكر الشعر وجعله تعريضاً عنه. أي: لا تفخروا بعد تلك الوقعة، التي جرت لنا ولكم بذلك المكان. ومن أحسن التعريضات ما كتبه عمرو بن مسعدة إلى المأمون، في حق بعض أصحابه (أما بعد فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين، ليتطول في إلحاقه بنظرائه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته). (فوقع المأمون في ظهر كتابه: قد عرفت تصريحك له، وتعريضك لنفسك) فأجبناك إليهما وأمثال هذا كثيرة، وفيما أشرنا إليه الكفاية. النوع الثامن من الباب الأول من الفن الثاني في استعمال العام والخاص في الإثبات وهو باب من علم البيان تتكاثر فوائده. اعلم أنه إذا كان الشيئان أحدهما خاص والآخر عام فإن استعمال العام في حالة النفي، أبلغ من استعماله في حالة الإثبات، وكذلك استعمال الخاص في حالة الإثبات أبلغ من استعماله في حالة النفي. مثال ذلك الإنسانية والحيوانية. فإن إثبات الإنسانية يوجب إثبات الحيوانية، ولا يوجب نفيها نفي الحيوانية. وكذلك نفي الحيوانية يوجب منه نفي الإنسانية ولا يوجب من إثباتها إثبات الإنسانية.

ومما يدخل في هذا الباب الأسماء المفردة الواقعة على الجنس، التي يكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث، فانه أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ، ومتى أريد الإثبات، كان استعمالها أبلغ. فالأول وهو الخاص والعام نحو قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم. . .) ولم يقل: (بضوئهم)، لأن ذكر النور في حالة النفي أبلغ، من حيث إن الضوء فيه الدلالة على النور وزيادة، فلو قال: ذهب الله بضوئهم، لكان المعنى يعطي ذهاب تلك الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً، لأن الإضاءة، هي فرط الإنارة دليل (ذلك) قوله تعالى: (وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل. . .) فكل ضوء نور، وليس كل نور ضوءاً. فالغرض من قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) إنما هو إزالة النور عنهم رأساً، فهو إذا أزاله فقد أزال الضوء. وكذلك أيضاً قوله: (ذهب الله بنورهم) (ولم يقل: أذهب نورهم) لأن كل من ذهب بشيء فقد أذهبه، وليس كل من أذهب شيئاً فقد ذهب به، لأن الذهاب بالشيء هو استصحاب له، ومضي به، وفي ذلك نوع احتجار بالمذهوب به، وإمساك له عن الرجوع إلى حالته، والعود إلى مكانه وليس كذلك الإذهاب للشيء، لزوال معنى الاحتجار منه.

وهذا كلام دقيق يحتاج إلى زيادة تأمل ومراجعة. ومما يجعل على ذلك الأوصاف الخاصة إذا وقعت على شيئين، وكان يلزم وصف أحدهما وصف الآخر، ولا يلزم عكس ذلك؛ نحو الطول والعرض؛ فإنه إذا قيل: مربع عرضه مائه ذراع، لزم أن يكون طوله إما مثلها أو أكثر منها. قال الله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض) فإنه إنما خص العرض بالذكر دون الطول؛ لأن الطول أكثر من العرض. والمعنى: أنه إذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها؟ هذا في حالة الإثبات، ولو أريد النفي لكان له أسلوب غير ما ذكرنا؛ وهو أن كان يخص به الطول دون العرض؛ وذلك موضع كثير الاشكال؛ فينبغي أن يكون المؤلف بصيراً باستعماله؛ على اختلاف حالاته وتشعب مذاهبه. وأما الأسماء المفردة الواقعة على الجنس، فنحو قوله تعالى في قصة نوح - عليه السلام -: (قال الملأ من قومه إنا لتراك في ضلال مبين قال: يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) فإنه إنما قال: (ليس بي ضلالة) ولم يقل: ضلال لأن (نفي) الضلالة أبلغ في نفي الضلال عنه؛ كما لو قيل لك: (ألك تمر؟) فقلت في الجواب: ما لي تمرة) كأن ذلك أنفى للتمر. ولو قلت: (ما لي تمر) لما كان مؤدباً من المعنى ما كان يؤديه القول

النوع التاسع من الباب الأول من الفن الثاني في التفسير بعد الإبهام

(الأول)، فاعرف ذلك. النوع التاسع من الباب الأول من الفن الثاني في التفسير بعد الإبهام يفعل ذلك لتفخيم المبهم وإعظامه؛ لأنه هو الذي يطرق السمع أولا، فيذهب السامع كل مذهب كقوله تعالى: (وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين) ففسر (ذلك الأمر) بقوله: (دابر هؤلاء مقطوع). وفي إبهامه أولاً، وتفسيره بعد ذلك تفخيم للأمر، وتعظيم لشأنه، فإنه لو قال تعالى: (وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع. . .) لما كان بهذه المثابة من الفخامة، فإن الإبهام أولاً يوقع السامع في حيرة وتفكّر، واستعظام لما قرع سمعه، وتشوق إلى معرفة كنهه، والاطلاع على حقيقته. ومن هذا الباب قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم. . .) (فإنه إنما قال ذلك، ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم) لما في الأول من التنبيه، والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المؤمن، فدل عليه بأبلغ وجه، كما تقول: (هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم!؟) ثم تقول: (فلان) فيكون ذلك أبلغ في وصفقه بالكرم والفضل من قولك: (هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل) لأنك تثبت ذكره مجملاً ومفصلاً، فجعلته علماً في الكرم والفضل، كأنك قلت: من أراد رجلاً جامعاً للخصلتين فعليه بفلان. وعلى نحو من هذا جاء قوله تعالى: (وقال الذين آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد

يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) ألا ترى كيف قال: (أهدكم سبيل الرشاد) فأبهم: (سبيل الرشاد) ولم يبين أي سبيل هو، ثم فسر ذلك فافتتح كلامه بذم الدنيا، وتصغير شأنها، لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ثم ثنى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها، وأنها هي الموطن والمستقر، ثم ثلث بذكر الأعمال، سيئها وحسنها، وعاقبة كل منهما، ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، فكأنه قال: سبيل الرشاد هو الإعراض عن الدنيا، والرغبة في الآخرة، والامتناع من الأعمال السيئة، خوف المقابلة عليها، والمسارعة إلى الأعمال الصالحة، رجاء المجازاة عليها. وكذلك (جاء) قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. . .) ولم يقل قواعد البيت، لما في إبهام القواعد، وتبيينها بعد ذلك من الايضاح، وتفخيم حال المبين مما ليس في الإضافة. ومن هذا الباب قوله تعالى: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي ابلغ الأسباب أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى. . .) الآية (فإنه) لما أراد تفخيم ما أمَّل فرعون من بلوغه أسباب السموات، أبهمها أولاً ثم فسرها ثانياً، ولأنها لما كان بلوغها أمراً عجيباً، أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب فأبهمه ليشوق إليه نفس هامان، ثم أوضحه بعد ذلك. ومما يدخل في هذا الباب الابتداء بذكر الضمير ثم الإفصاح بذكر صاحبه بعده، كقوله

تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن) فإنه لما أتى بالضمير، الذي هو (منه) قبل صاحبه الذي هو القرآن، كان ذلك تفخيماً له، وتعظيماً من أمره. ولو قال: وما تكون في شأن وما تتلو من القرآن، ولم يذكر الضمير لما كان للكلام تلك الفخامة التي كانت له مع ذكر الضمير، وهذا مثل قولهم (الكريم العالم الفاضل) ثم يقال: فلان وقد سبق الكلام عليه، فاعرف ذلك وقس عليه. وأما الإبهام من غير تفسير، فكثير شائع في القرآن العزيز، كقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) فقوله: للتي هي أقوم أي الطريقة أو الحالة أو الملة هي أقومها وأسدها، وأي ذلك قدرت لم تجد له مع الإفصاح ذوق البلاغة الذي تجده مع الإبهام، وذلك لذهاب الوهم فيه كل مذهب، وإيقاعه على محتملات كثيرة، وهذا لا يخفى على العارف برموز صناعة التأليف فاعرفه. ومما يدخل في هذا الباب الاستثناء العددي وهو ضرب من التأليف لطيف المأخذ عجيب المغزى. وإنما يفعل ذلك طلباً للمبالغة؛ لأن له تأثيراً شديداً في القلب، وموقفاً عظيماً في النفس وفائدته (أن) أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد في العدد فيكبر موقع ذلك عنده، وهو شبيه بما ذكرناه من الإبهام أولاً ثم التفسير بعده ثانياً، فمن ذلك قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم سنة إلا خمسين عاماً) فإنه إنما قيل (ألف سنة إلا خمسين عاماً) ولم يقل تسعمائة وخمسين عاماً لفائدة حسنة، وهي ذكر ما ابتلى به نوح من أمته، وما كابده من طول المصابرة، ليكون ذلك تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتثبيتاً له، فإن ذلك رأس العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع

النوع العاشر من الباب الأول من الفن الثاني في التعقيب المصدري

مدة صبره وما لاقاه من قومه، فاعرف ذلك وقس عليه. النوع العاشر من الباب الأول من الفن الثاني في التعقيب المصدري وإنما يعمد إلى ذلك لضرب من التأكيد لما تقدمه، والإشعار بتعظيم شأنه أو بالضد من ذلك، فمثال الأول قوله تعالى (ويوم ينفخ في الصور، ففزع من في السموات ومن في الأرض) إلى قوله (. . . وهم من فزع يومئذ آمنون) و (من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون). (فصنع الله) من المصادر المؤكدة لما قبلها، كقوله (وعْد الله، وصبغة الله)، ألا ترى أنه لما جاء ذكر هذا الأمر العظيم، الدال على القدرة الباهرة، من النفخ في الصور، وإحياء الأموات، والفزع. وإحضار الناس للحساب ومسير الجبال كالسحاب في سرعتها، وهي عند الرؤية لها والمشاهدة كأنها جامدة، عقب ذلك أن قال (صنع الله) والمعنى أن هذا الأمر العجيب البديع صنع الله، والمعنى (ويوم ينفخ في الصور، وكان كيت وكيت من الأشياء الباهرة، وأثاب الله المحسنين، وعاقب المجرمين) فجعل هذا الصنع من جملة الأمور التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والثواب، حيث قال: (صنع الله الذين أتقن كل شيء) يعني أن مقابلة الحسنة بالثواب، والسيئة بالعقاب من إحكامه للأشياء وإتقانه لها، وإجرائه إياها على قضايا الحكمة، أي إنه عالم بما تفعل العباد وبما يستوجبون عليه، فيكافئهم على حسب أفعالهم، ثم لخص ذلك بقوله تعالى: (من جاء بالحسنة. . .) إلى آخر الآيتين. فانظر أيها المتأمل إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه، ومكانه إضماره، ورصانة تفسيره، وأخذ بعضه برقاب بعض، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً. ولأمر ما أعجز القوي وأخرس

النوع الحادي عشر من الباب الأول من الفن الثاني في التقديم والتأخير مما لا يتعلق بعلم النحو

الشقاشق. ونحو هذا (المصدر) إذا جاء عقيب الكلام كان الشاهد بصحته، والمنادي على سداده وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان. ألا ترى إلى قوله: صنع الله وصبغة الله، ووعد الله، وفطرة الله. . . بعدما وسمها بإضافتها إليه، بسمة التعظيم، كيف تلاها بقوله: (الذي أتقن كل شيء). وأما الثاني، وهو ضد الأول، وذلك ما يراد به تصغير الشأن، فكقولك إذا أخرت ذكر إنسان يريد ذمه: (قد ركب هواه، واستمر على غيه، وتمادى في جهله، وسحب ذيل عجبه. . .) وما أشبه ذلك. ثم تقول: (صنع الشيطان: الذي يخلب النفوس، ويسلب الألباب. . .) وأمثال هذا كثيرة فاعرفها. النوع الحادي عشر من الباب الأول من الفن الثاني في التقديم والتأخير مما لا يتعلق بعلم النحو كتقديم المفعول على الفاعل، وتقديم الحال والظرف، أو غير ذلك، فإن هذا قد أفردنا له باباً، وجعلناه مقصوراً عليه، ومر ذكره في باب (شجاعة العربية). وأما هذا الباب فانه يتعلق بتقديم الأشياء بعضها على بعض في الذكر؛ لاختصاص أحدها بما يوجب له التقدم على الآخر، وذلك مما لا يحصره حد، ولا يأتي عليه شرح. وقد أشرنا نحن إلى نبذة منه، إذا تأملها الناظر في كتابنا هذا، يستدل بها على غيرها. فمن ذلك تقديم السبب على المسبب؛ كقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين. . .) فإنه

إنما قدم العبادة على الاستعانة؛ لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول المطلوب، وأسرع لوقوع الإجابة. ولو قال: إياك نستعين، وإياك نعبد، لكان جائزاً، إلا أنه لا يسد ذلك المسد ولا يقع ذلك الموقع، وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء ظهوراً لنحيي به بلدة ميتا، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً، وأناسي كثيرا). ألا ترى كيف قدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس؟ وإن كان الناس أشرف محلاً وأعلى مكاناً. وسبب ذلك ما أذكره لك وهو أن حياة الأرض سبب لحياة الأنعام والناس. ولما كانت الأنعام أيضاً من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها على الناس في الذكر، ولأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم وتعيشهم على سقيهم. فهذه نكت القرآن العجيبة ورموز أسراره اللطيفة التي إذا مر الإنسان عليها من غير أن يتدبرها، ويعطيها أفضل تأمل وتفكر لا يقع على خباياها، ولا يظفر بغرائبها. ومن هذا النوع تقديم الأكثر على الأقل، كقوله تعالى (تم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فإنه إنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته وأن معظم الخلق عليه ثم أتي بعده بالمتصدقين؛ لأنهم قليل بالإضافة إليه، وأخر السابقين بالخيرات، إذ كانوا أقل من القليل أعني من المقتصدين، فقدم الأكثر ثم جاء بعده؛ بالأوسط ثم ذكر الأقل أخيراً، وذلك لائق في بابه. ولو عكست القضية لكان المعنى أيضاً واقعاً في موقعه لأنه يكون قدم الأفضل فالأفضل؛ وذاك أن السابقين بالخيرات أفضل من المقتصدين، والمقتصدين أفضل من الظالمين؛ ولنوضح في ذلك طريقاً يعرفه مؤلف

الكلام، فنقول: اعلم أنه متى كان الشيئان أحدهما كثير والآخر أقل منه، وكان الأقل أفضل من الأكثر فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت، لأن في كل واحد منهما ما يوجب له التقدم، فاعرف ذلك وقس عليه نظائره وأمثاله. ومن هذا النحو قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء، فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع، يخلق الله يشاء إن الله على كل شيء قدير). فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين؛ إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشي، ثم ذكر الماشي على رجلين بعده، وقدمه على الماشي على أربع؛ لأنه أدل على القدرة أيضاً حيث كثرت آلات المشي في الأربع، وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب فاعرف، ذلك. ومن هذا النوع في التقديم والتأخير أنه إذا كان مطلع الكلام في معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل من الآخر، وكان معنى المفضول مناسباً لمطلع الكلام فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت؛ لأنك إذا قدمت الأفضل فهو في موضع التقديم، وإن قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبه، وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضاً وارد في موضعه فمن هذا الأسلوب قوله تعال: (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) إلى قوله: (عليم قدير) فأنه إنما قدم الإناث أولاً على الذكور، مع تقدمهم عليهن، ثم رجع فقدم الذكور وأخر الإناث بعد ما نكرهن وعرف الذكور؛ لأنه ذكر البلاء في آخر الآية، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنده، ثم عقب ذلك بذكر ملكه ومشيئه، وذكر قسمة الأولاد، فقدم الإناث؛

النوع الثاني عشر من الباب الأول من الفن الثاني في عطف المظهر على ضميره والإفصاح به بعده

لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء، لا ما يشاؤه الإنسان، وكان ذكر الاناث، اللتي هن من جملة ما لا يشاؤه الإنسان ولا يختار أهم، فالأهم واجب التقديم، ولبلاء الجنس الثاني (الذي) كانت العرب تعده بلاءً، ذكر البلاء، ولما أخر الذكور وهم أحق بالتقديم ثم تدارك ذلك بتعريفه إياهم؛ لأن التعريف تنويه بالذكر، (كان) كأنه قال (ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم) ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير، وعرف أن تقديم الإناث لم يكن لتقدمهن، ولكن لمقتضى آخر) فقال: (أو يزوجهم) ذكرانا وإناثا، وهذه دقائق لطيفة، فلما يتنبه لها أو يعثر على رموزها. ومن هذا الباب قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو من قرآن ولا. . .) إلى قوله (. . . وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) فإنه إنما قدم الأرض في الذكر على السماء، ومن حقها التأخير؛ لأنه إنما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم، ووصل ذلك بقوله: (لا يعزب عنه) لاءم بين. . . وأمثال هذا كثيرة فاعرفه. النوع الثاني عشر من الباب الأول من الفن الثاني في عطف المظهر على ضميره والإفصاح به بعده وهذا إنما يعمد إليه لفائدة؛ وهي إما تعظيم حال المعطوف عليه، والتفخيم من شأنه، وإما ضد ذلك ونقيضه، مثال التعظيم قولك. . . (ولما تلاقينا وبنو تميم، أقبلوا إلينا يوفضون وابتدروا نحونا يركضون. وجاءوا كأنهم في تكاثفهم ليل، وفي سرعتهم سيل. فرأينا منهم

أسوداً في المقاتلة، وثعالب في المخادعة والمخاتلة، وتناجد بنو تميم علينا بحملة، فلذنا بالفرار، واستبقنا إلى تولية الأدبار) فانك إنما قلت: (وتناجد بنو تميم) مصرحاً بذكرهم، ولم تقل: وتناجدوا، كما قلت: (أقبلوا) و (ابتدروا) و (جاءوا) للدلالة على التعجب من شجاعتهم والتعظيم لشدتهم وإقدامهم. ولا سيما وقد أضفت إلى ذلك قولك: (لذنا بالفرار) و (استبقنا إلى تولية الأدبار) فكأنك قلت: وتناجد ألئك الفرسان المشاهير، والكماة المذكورون، وحكلوا علينا حملة واحدة، فولينا مديرين منهزمين. ومن هذا الباب قوله تعالى: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة. . .). ألا ترى كيف صرح باسمه تعالى في قوله: (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة). مع إبهامه مبتدئاً في قوله (كيف بدأ الخلق ثم ينشئ النشأة الآخرة)؟ والفائدة في ذلك ما ذكرناه ونبهنا عليه؛ وهو أنه لما كانت الإعادة عندهم من الأمور العظيمة والأشياء المستصبعة، وكان صدر الكلام واقعاً معهم في البداء، وقر رأيهم أن ذلك من الله - عز وجل - احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، وإذا كان الله لا يعجزه شيء هو الذي لا يعجزه الإبداء فوجب أن لا تعجزه الإعادة؛ فللدلالة والتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الإعادة أبرز اسمه - تعالى - إلى (العبارة) وأوقعه مبتدأ ثانياً، فاعرف ذلك وقس عليه. وأما الثاني وهو ضد الأول فانه يقصد به الذم كقوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) فإنه إنما قال: (وقال الذين كفروا)

النوع الثالث عشر من الباب الأول من الفن الثاني في التخلص والاقتضاب

ولم يقل: (وقالوا) كالذي قبله، للدلالة على صدور الكلام عن إنكار عظيم، وغضب شديد، وتعجب من كفرهم بليغ. ولاسيما وقد انضاف إلى ذلك قوله تعالى: (وقالوا للحق لما جاءهم. . .) وما فيه من الإشارة إلى القائلين، والمقول فيهم، وما في ذلك من المبادهة؛ كأنه قال تعالى (وقال أولئك الكفرة، المتمردون بجرأتهم على الله، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المنير، قبل أن يذوقوه: إن هذا إلا سحر مبين). وأمثال هذا كثيرة، فاعرفها. النوع الثالث عشر من الباب الأول من الفن الثاني في التخلص والاقتضاب ولهذا النوع من الكلام، محل كريم، وموقع لطيف. فأما التخلص، فهو أن يأخذ المؤلف في معنى من المعاني، فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر، وجعل الأول سبياً إليه، فيكون بعضه آخذاً برقاب بعض، من غير أن يقطع المؤلف كلامه، ويستأنف كلاماً آخر، بل يكون جميع كلامه، كأنما أفرغ إفراغاً، وذلك مما يدل على حذق الشاعر، وقوه تصرفه، وطول باعه، واتساع قدرته، من أجل أن الشاعر يضيق عليه نطاق الكلام، ويكون متبعاً للوزن والقافية، فلا توافيه الألفاظ على حسب إرادته، ولا تتزن له. وأما الناثر فانه مطلق العنان، يمضي حيث شاء فلذلك يشق التخلص على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر. وأما الاقتضاب فهو ضد التخلص، وذلك أن يقطع الشاعر كلامه الذي هو فيه ويستأنف كلاماً آخر غيره من مدح أو هجاء أو غير ذلك. ولا يكون للثاني علاقة بالأول، ولا تلفيق بينه وبينه، وهو مذهب القدماء من صنعة الشعر، وسيأتي بيانه. وأما المحدثون فإنهم تصرفوا

في التخلص وأبدعوا فيه فاظهروا من ذلك العجائب والغرائب كقول علي بن الجهم: وليلة كحلت بالنفس مقلتُها ... ألقت قناع الدجى في كل أخدود قد كاد يُغرقني أمواج ظلمتها ... لولا اقتباس سناً من وجه داود ألا ترى ما ألطف هذا التخلص وأحسنه؛ فانه ذكر أولاً الليلة وسوادها، وابتداء دجاها، وأنه في غمرات من ظلمتها كالغريق. ثم أدرج في ضمن كلامه، بعد ذلك، ذكر الممدوح بما يناسب ما هو من الظلمة، فذكر الإنارة والإضاءة بقوله: (سنا من وجه داود) فصار الكلام كأنما أفرغ إفراغاً واحداً، ومن هذا النحو قول ابن نباتة: كمن الشموع وقد أطلعت ... من النار في كل رأس لسانا أنامل أعدائك الخائفين ... تَضَرَّعُ تطلبُ منك الأمانا فهذا هو التخلص البديع في الصنعة الذي استحوذ على مجامع الحسن والرونق، فاعرفه. وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي: (إن كتاب الله العزيز خال من الاقتضاب والتخلص). وهذا القول فاسد، لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره بلطيفة تناسب بين الكلام الذي حرج منه والكلام الذي خرج إليه، وفي القرآن العظيم مواضع كثيرة من ذلك، كالخروج من الوعظ والتذكير بالإنذار والبشارة بالجنة

إلى أمر ونهي ووعد ووعيد ومن محكم إلى متشابه، ومن صفة لنبي مرسل وملك منزل إلى ذم لشيطان مربد، وجبار عنيد بلطائف دقيقة، ومعان آخذة بالقلب؛ فما جاء من التخلص في القرآن الكريم قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون). إلى قوله تعالى: (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) هذا كلام يذهل العقول ويحير الألباب، وفيه كفاية لطالب البلاغة والمنتصب لهذه الصناعة، فانه متى أنعم فيه النظر وتدير أثناءه، ومطاوي حكمته علم أن في ذلك غني عن تصفح الكتب المؤلفة في هذا الفن ألا ترى أيها المتأمل ما أحسن ما رتب إبراهيم - عليه السلام - كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون سؤال مقرر لا سؤال مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع. وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة. ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكر الإله، الذي لا تجب العبارة الإله، ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم بقوله (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) على معنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة العدو وهو الشيطان، فاجتنبتها، وآثرت عبادة من الخير كله منه. وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا فيقولوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى لهم

إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: (فإنهم عدو لكم) لم يكن بتلك المثابة، فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله عز وجل، وأجرى عليه تلك الصفات العظام من تفخيم شأنه، وتعديد نعمه (عليه) من لدن خلقته وإنشائه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته ليعلم بذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة وواجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته، ثم خرج من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه فدعى بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين، لأن الطالب (إلى) مولاه، والراغب إليه إذا قدم قبل سؤاله وضراعته الاعتراف بالنعمة والإقرار بالإحسان كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث، ويوم القيامة ومجازاة الله لمن آمن به واتقاه بالجنة، ولمن ضل عن عبادته بالنار، فجمع الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته، ثم سأل المشركين عما كانوا يعبون من الأصنام سؤال مونج لهم، مستهزئ بهم، وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمنى العود ليؤمنوا. فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض مع احتوائه على ضروب من المعاني فيتخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة دقيقة حتى كأنه معنى واحد، فخرج من ذكر الأصنام وتعريقه لأبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي عليه من التعري عن صفات الإلهية حيث لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع، إلى ذكر الله تعالى، فوصفه بصفات الإلهية، فعظم شأنه وعدد نعمه، ليعلم بذلك أن العبادة لا تصح إلا له. ثم خرج من هذا إلى دعائه إياه وخضوعه له ثم خرج منه إلى ذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، فتدير هذه التخلصات اللطيفة، هذا إلى غيره من تضمن هذا الكلام لأنواع من صناعة التأليف، وهي الإيجاز والكناية والتقديم والتأخير وإنابة الفعل الماضي عن الفعل المضارع. فأما الإيجاز فلا خفاء به على العارف بما أشرنا إليه في بابه الذي سبق ذكره إلا أن من جملته قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين) فإنه جمع الترغيب في طاعته

والترهيب من معصيته مع عظمهما، وفخامة شأنهما في هذه الكلمات اليسيرة. وأما الكناية فقوله تعالى (وبرزت الجحيم للغاوين) فالغاوون هاهنا كناية عن أبيه وقومه، ويدل على ذلك قوله (وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله) لأن كلامه في الأول كان معهم في عبادتهم الأصنام. وأما التقديم والتأخير فإن ذكر إبراهيم النعمة وتعديد الإحسان قبل الدعاء وطلب الحاجة. وأما إنابة الفعل الماضي عن المضارع فقوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون) بعد قوله (ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، وفي ذلك من الفائدة ما أشرنا إليه في بابه، وقد سبق ذكره، فاعرفه. ومما استطرف من هذا النوع قول ابن الزمكدم: وليل كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبرد أغانيه وطول قرونه سريتُ ونومي فيه نوم مشرَّدٌ ... كعقل سليمان بن فهد ودينه على أَوْلقٍ فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجهة قرواش وضوء جبينه وهذه الأبيات لها حكاية وذلك أن هذا الممدوح كان جالساً مع ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء، وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر، وكان البرقعيدي مغنياً وسليمان بن فهد وزيراً، وأبو جابر صاحباً، فالتمس الممدوح من الشاعر أن يهجو المذكورين ويمدحه فأنشد هذه الأبيات. وقد قال بعض أرباب هذه الصناعات إن هذا الشاعر لو تحدى بهذه الأبيات لأعجز

الشعراء أن يأتوا بمثلها، لأنه مع إتيانه بهذا النوع من علم البيان لم يقنع بذلك حق رقي في معانيه المقصودة إلى أسمق المنازل؛ فابتدأ في البيت الأول بهجو البرقعيدي، فجاء في ضمن مراده ذكر أوصاف ليل الشتاء جميعها، ولم يخل منها بشيء وهي الظلمة والبرد والطول، ثم إن هذه الأوصاف لليلة جاءت ملائمة لما وقعت عليه، مطابقة له: وكذلك البيت الثاني والثالث. ثم خرج إلى المدح بألطف وجه وأرق صنعة، فاعرف ذلك فانه لم يقل في هذا الباب أيدع من هذه الأبيات. ومما جاء على نحو ذلك قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وصافية تغشى العيون بنورها ... رهينة عامر في الدَّنان وعام أَدَرنا بها الكأس الروية بيننا ... من الليل حتى انجاب كل ظلام فما ذرَّ قَرْنُ الشمس حتى رأيتنا ... من العي نحكي أحمد بن هشام ألا ترى ما أحسن ما خرج هذا الشاعر في الهجاء، فإنه أوهم في الأول الخوض في صفة الخمر ثم استدرج المعنى الذي قصده في صفة الخمر، من حيث لا يعلم السامع لمطلع كلامه أنه يريد ذلك؛ وأمثال هذا كثيرة فاعرفها. وأما الاقتضاب فهو الذي أشرنا إليه في صدر هذا النوع، وهو أن يقطع المؤلف كلامه ويستأنف كلاماً آخر غيره، من غير علاقة تكون بينه وبين ما قبله، فمن ذلك ما هو أحسن من

النوع الرابع عشر من الباب الأول من الفن الثاني في مبادئ والافتتاحات

التخلص، وهو فصل الخطاب، ولنبين في ذلك ما يوقفك عليه، ويأخذ بمجامع قلبك فنقول: إن أريد فصل الخطاب، الفاصل في الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ فهو (فَعْل) بمعنى فاعل كالفَّوْم والزَّوْر، وقال بعضهم هو (أما بعد) لأن المتكلم يفتتح، إذا تكلم في الأمر الذي له شأن؛ بذكر الله عز وجل (أما بعد) وهذا مذهب المحققين من علماء البيان. قالوا في الفصل الذي هو أحسن من الوصل هذا، وهي علامة وكيدة من الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره كقوله تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) إلى قوله: (مفتحة لهم الأبواب) ألا ترى ما ذكر قبل (هذا ذكرُ) في الأنبياء، وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر وهو ذكر الجنة وأهلها فقال (هذا ذكر) ثم قال (وإن للمتقين لحسن مآب). وبدل عليه لما أتم ذكر أهر الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال (وإن للطاغين لشر مآب) وذلك من فضل الخطاب الذي هو ألطف موقعاً من التخلص فاعرفه. النوع الرابع عشر من الباب الأول من الفن الثاني في مبادئ والافتتاحات وهو نوع من صناعة التأليف جّمة فوائده، وذلك أن يجعل مطلع الكلام من الشعر والخطب والرسائل دالاً على المعنى المقصود بذلك الشعر أو تلك الخطبة أو تلك الرسائل. ومن أدب ذلك أن لا يذكر الشاعر في افتتاح القصيدة المديح بما يتطير به وقال بعض علماء البيان (أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فإنهن دلائل البيان). وينبغي للشاعر أن يحترز في المدح مما يتطير به من وصف إفقار الديار، ودثور المنازل والأطلال، وتشتت الألاّف، وذم الزمان،

وأشباه ذلك، ولا سيما إذا كان في التهاني، فإنه يكون أشد قبحاً، وإنما يستعمل ذلك في الخطوب النازلة، والنوائب الحادثة، ومتى كان الكلام في المديح مؤسساً على هذا المثال تطير منه سامعه، فإن رأس صناعة التأليف وضع كل شيء مكانه، وإنما خصصت الابتداءات بالاختيار لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام، فانه متى كان الابتداء لائقاً بالمعنى الوارد بعده توفرت الدواعي على استماعه وتزايدت البواعث على الاستغناء إليه، ومن أقبح الابتداءات قول ذي الرمة (ما بال عينيك منها الماء ينسكب). لأن مقابلة الممدوح بهذا الخطاب لإخفاء بقبحه، وقد أنكر الفضل بن يحيى على أبي نواس قوله فيه: (أربع البلى إنَّ الخشوع لبادي) فلما انتهى إلى قوله: سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني بربك من رائحين وغادي استحكم تطير الفضل بن يحيى، وقيل إنه لم يمض على ذلك أسبوع واحد حتى نكبوا، وحكي أنه لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه وجمع أهله وأصحابه وأمرهم أن

يلبسوا أسنى الملابس، ويظهروا محاسن الزينة، وجلس على سرير مرصّع بالجواهر والى جانبه أسرة، فكلما دخل عليه رجل من أكابر دولته أجلس في الموضع الذي يليق به فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم، فاستأذن إسحاق بن إبراهيم الموصلي في الإنشاد فأذن له، فانشد شعراً ما سمع بأحسن منه في صفته وصفة المجلس إلا أنه استفتح بذكر الديار القديمة وبقية آثارها فقال: يا دار غيرك البلى ومحاك ... يا ليت شعري ما الذي أبلاكِ؟! فتطير المعتصم من ذلك وتغامز الناس على إسحاق بن إبراهيم، وعجبوا كيف ذهب عليه مثل ذلك مع علمه ومعرفته وطول خدمته للملوك، ثم أقاموا يومهم وانصرفوا فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس، وخرج المعتصم إلى سر من، رأى وخرب القصر، فإذا أراد الشاعر أن يذكر داراً في مديحه فليذكر كما ذكر الخريمي: ألا يا دار لك السرور ... وساعدك النضارة والحبور وكما قال أشجع. . . قصر عليه تحية وسلام ... نشرت عليه جمالها الأيام

وما أجدر هذا البيت بمفتح شعر إسحاق بن إبراهيم الذي أنشده للمعتصم في ذلك القصر، فإنه لو ذكر هذا وما يجري مجراه لكان حسناً لائقاً. وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء، فقال من أجاد الابتداء والمقطع، ألا ترى أن قصيدة أبي نواس التي هي: يا دار ما فعلت بك الأيام ... لم يبق فيك بشاشة تستام قد قيل إنها من أشرف شعره وأعلاه منزلة، وأن أبا تمام مع تقدمه في صناعة الشعر أتعب نفسه في الإتيان بما يماثلها أو يشابهها فلم يقدر على ذلك، وهي مع شرفها وعلو منزلتها في الشعر مستكرهة الابتداء من حيث النظر، لأنها في مدح الخليفة الأمين. وافتتاح المديح بذكر الديار ودروسها يتطير به، ولا سيما في حق الخلفاء والملوك، ولهذا يختار من ذكر الأماكن والمنازل ما راق لفظة، وحسن التلفظ به كالغوير والعقيق وزرود وأشباه ذلك، ويختار أيضاً من أسماء النساء في الغزل نحو (سعاد وأمام وفوز) وما يجري هذا المجرى. ولقد عيب على الأخطل من أجل تغزله باسم (قدور) وهي امرأة كان يحيها فإنه مستقبح في الذكر، وأمثال هذه الأشياء تجب مراعاتها بها فاعرف ذلك. ولما نظر أبو العميثل في قصيدة أبي تمام وهي:

(أهن عوادي يوسف وصواحبه) استرذل ابتداءها فاسقط القصيدة كلها حتى عاد إليه أبو تمام ووقفه على موقع الاختيار منها وهو: إليك جزعنا مغرب الشمس كلما ... أجزنا ملاً صَلَّتْ عليك سياسيه وغير ذلك مما ذكره أبو تمام في قصيدته، فلما وقف أبو العميثل عليه راجع عبد الله بن طاهر فأجازها له. ولأبي تمام ابتداءات كثيرة تجري هذا المجرى كقوله: (قدك آنئد أربيت في الغلواء). فإن الابتداء المستكره ليس من شرطه أن يكون مما يتطير به فقط وإنما يكون مستكرهاً كما أشرنا إليه من قول أبي تمام وما جانسه، فاعرف ذلك. واعلم أن الابتداء البديع البارع يكون داعياً إلى الإصغاء إلى ما بعده من الكلام، ألا ترى أن الله تعالى قال: (حم، ألم، وطسم، وكهيعص). فيقرع الأسماع شيء بديع، ليس لها بمثله عادة فيكون ذلك داعياً لها إلى الاستماع، ولذلك استحسن من الابتداءات في الكتب (الحمد لله) لأن النفوس تتشوف إلى تمجيد الله - عز وجل - والثناء عليه، وتميل إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام. ومن أحسن الابتداءات ما ذكره مهيار فإنه أتى بالمعنى المقصود من أول كلامه فقال: أما وهواها عِذْرَةّ وتنصُّلاً ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا سعى جُهدَه لكن تجاوز حدَّهُ ... وكثَّر فارتابت ولو شاء قلّلا ألا ترى ما ألطف هذا الاعتذار الذي قد أبرزه في هيئة القول، وأخرجه في معرض النسيب،

والمراد به الاعتذار إلى الممدوح، وذلك من أبدع ما يكون في هذا الباب. ومما جاء على نحو منه قول بعض المتأخرين في أنوشروان الوزير وقد خلع عليه: خُلعَت من الحَدَثان أحصَنُ أَدرعي ... فلقد سُنِنَّ على الكريم الأروع وكذلك قوله وقد وشي في حقه إلى الممدوح: وراءك أقوال الوشاة الفواجر ... ودونك أحوال الغرام المُخامر فلولا وَلُوعُ منك بالصدق ما وشوا ... ولولا الهوى لم أنْتَدِبْ للمعاذر فسلك في هذا القول مذهب مهيار إلا أن في هذا زيادة على ما قاله مهيار، وهي في المعاتبة على الالتفات إلى الوشاة، والاستماع منهم وذلك من أغرب ما قيل في هذا المعنى، فاعرفه. ومن الابتداءات في الكتب قوله مؤلف الكتاب (الحمد لله رافع لواء الإيمان، وقامع أولياء الشرك والبهتان، الذي نصر الإسلام وأطلع نجومه، وخذل الكفر وطمس رسومه)، فإنه قد جيء بالمعنى المقصود وهو البشرى بهزيمة الكفار من أول الكتاب، ومتى سمع الإنسان

النوع الخامس عشر من الباب الأول من الفن الثاني في قوة اللفظ لقوة المعنى

هذا المطلع علم أنه يتضمن البشرى بادالة المسلمين على المشركين من غير أن يحتاج إلى وقوف على حديث الوقعة. ومن ذلك قوله بعض الكتاب في زمن المأمون وقد نتجت ناقة شخص آدمي، فأمر أن يكتب بذلك إلى البلاد فقال (الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام)، فعير عن المراد في أول كلامه. وأمثال ذلك كثيرة فاعرفها. النوع الخامس عشر من الباب الأول من الفن الثاني في قوة اللفظ لقوة المعنى وهو نوع من علم البيان شريف المحل، لطيف المأخذ، وإنما يعمد إليه لضرب من المبالغة. أعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر اكثر منه فلا بد وأن يتضمن من المعنى أكثر مما كان يتضمنه أولاً، والدليل على ذلك أن الألفاظ هي أدلة على المعاني وأمثلة للإبانة عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني بقدر ما زيد في الألفاظ. وهذا لا نزاع فيه، لبيانه ووضوحه. فمن ذلك (خشن) و (اخشوشن) فمعنى (خشن) دون معنى (اخشوشن) لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو. ونحو (فعل) و (افعوعل) وكذلك قولهم (أعشب المكان) فإذا أرادوا كثرة العشب قالوا (اعشوشب) ومثله (فَعل) و (افتعل) نحو (قدر) و (اقتدر) فاقتدر أقوى معنى من قولهم (قَدر) قال الله - تعالى - (أخذ غزير مقتدر) فمقتدر هنا أبلغ من (قادر) من حيث كان الموضع لتفخيم الأمر وشدة الأخذ الذي لا يصدر إلا عن وفور الغضب، وكثرة السخط، ومما ينتظم في هذه الأوزان من أسماء الفاعلين، فإن بعضها أبلغ من بعض، نحو (فاعل) و (فعيل) وما جرى مجراها. ولقد سألني بعض الأخوان عن (فاعل) و (فعيل) وأيهما أبلغ؟ فقلت في الجواب

ما أذكره هاهنا هو إن كانت العرب قد قالت إن (فاعِلا) أبلغ من (فَعيل) أو إن (فعيلا) أبلغ من (فاعل) بغير علة أوجبت ذلك ولا سبب اقتضى تمييز أحدهما عن الآخر، إلا تحكما محضا، فذلك مُسَلَّم اليهم، لأنه لغة القوم وكلامهم، وهم المتحكمون فيه، وإن كانت العرب لم تميز (فاعِلا) على (فَعِيل) ولا (فَعِيلاً) على (فاعِل) ولا قالت إن أحدهما أبلغ من الآخر فلنا أن نبحث عن ذلك، فإن وجدنا لأحدهما مزية على الآخر ذكرناها، وإن لم نجد كان لذلك أسوة بباقي لغتهم، التي لا تعرف لها علة، وإنما بأخذ عنهم بالنقل والتقليد، ولما سألت، أيها الأخ، عن الفرق بين (فاعل) و (فعيل) وأيهما أبلغ؟ أنعمت النظر في ذلك مستعيناً بالله، فسنح الفرق بينهما بما أذكره، والله الموفق، فأقول: أما الحكم على أن أحدهما أبلغ من الآخر فهو أن (فاعلا) أبلغ من (فعيل). وأما علة الحكم فمن وجهين: الأول: أن (فاعلاً) لم يرد في كلام العرب إلا اسماً للفاعل فقط نحو (ضارب) اسم فاعل من (ضرب) و (قاتل) اسم فاعل من قتل، وهذا مطرد في بابه لم يأت غيره وأما (فعيل) فانه يكون اسماً للفاعل وبمعنى (المفعول) فأما كونه اسماً للفاعل فنحو (ظريف) اسم فاعل من (ظرف) و (كريم) اسم فاعل من (كرم) وكذلك ما جرى هذا المجرى. وأما كونه بمعنى (المفعول) فهو نحو (قتيل وجريح) اللذين هما بمعنى المقتول والمجروح. فلما كان (فاعل) مختصاً باسم الفاعل لا يشاركه فيه غيره، وفعيل يشترك فيه اسم الفاعل والمفعول كان ما هو مختص بالفاعل وحده أبلغ مما يشترك فيه الفاعل والمفعول، وذلك لقوة الفاعل على المفعول وضعف المفعول عن الفاعل، وما يختص بأمر قوي أبلغ مما يتردد بين أمرين قوي وضعيف. فإن قيل إن (فاعلاً) قد جاء بمعنى المفعول كما جاء (فعيل) بمعنى المفعول في قوله تعالى (ماء دافق) أي مدفوق قلنا: أما قولك إن (فاعلاً) قد جاء بمعنى المفعول واستدلالك عليه بالآية فإنه ضعيف شاذ، لأن ذلك لم ينقل جوازه عن العرب ولم يذهب إليه أحد من العلماء، غير أن بعض المفسرين قد ذكره وزيف قوله الجمهور، وأجمعوا على مخالفته

وقالوا إن معنى قوله تعالى (ماء دافق) أي مندفق وذلك أيضاً اسم (فاعل) من (أنْفَعَل) نحو (أنْطَلَقَ فهو منطلق) و (انعكف فهو منعكف) وما جرى هذا المجرى، ثم لو نقل جواز هذا عن العرب وصح عنهم لما كان ناقضاً لدعوانا نحن في (فَعيِل) وأنه يجيء بمعنى (المفعول) شائعاً كثيراً في كلامهم ويصح عليه القياس. وما ذكرته أيها المعترض شاذ قليل لا يعتد به ولا يقاس عليه، لأنه لم يأت منه إلا لفظة واحدة أو لفظتان أو لفظات كماء دافق وعيشة راضية) والشائع الكثير في كلام العرب وغيره أرجح جانباً من الشاذ القليل، وما يقاس عليه أبلغ مما ليس بمقيس (عليه). وأما الوجه الثاني في إثبات أن (فاعلاً) أبلغ من (فعيل) فهو أن فاعلاً يكون اسماً للفاعل معتدياً كان أو قاصراً فهو إذا يعمها جميعاً نحو (غالب وجالس)، وأما (فعيل) فإنه لا يكون اسماً إلا لفاعل فعله قاصر غير متعد نحو (شريف ونبيه وغليظ) وهو مطرد في هذا الباب لم يأت في كلام العرب غيره، فلما كان (فاعل) اسماً للفاعل المتعدي فعله والقاصر معاً، و (فعيل) اسماً للفاعل القاصر فعله فقط كان (فاعل) أبلغ من (فعيل) المتعدي فعل إلى مفعوله، وقصور فعل (فعيل) عن معموله فإن قيل إن (فعيلاً) جاء اسماً للفاعل المتعدي فعله على غير وزن (فَعُل) نحو (خطبَ فهو خطيب) و (علم فهو عليم) وهذا يدل على أن (فعيلاً) مساو (لفاعل) في التعدي لأن (فاعلا) قد جاء اسماً للفاعل متعدياً كان فعله أو قاصراً، وكذلك قد جاء (فعيل) أيضاً كما رأينا. قلنا هذا الذي أشرت إليه من أن فعيلاً قد جاء اسماً للفاعل المتعدي فعله على غير وزن (فُعل) نحو (خطب فهو خطيب وعلم فهو عليم) مسلم إليك إلا أن ذلك لا يكون ناقضاً لما ذكرناه ولا اعتراضاً

عليه، لأن الذي أوردته إنما كان يصح لك الاعتراض به على ما أشرنا إليه أن لو كان (خطيب) وحده اسم فاعل من (خطب) ولا يجوز فيه (خاطب) أو كان (عليم) اسم فاعل من عليم ولا يجوز فيه (عالم) وكذا الأصل في (خَطَبَ) أن يكون اسم فاعله (خاطب) ولهذا لا ترى وزن (فعيل) أبداً وهو اسم فاعل من (فَعَل أو فَعِل) إلا وهو دخيل على (فاعل) لأنه الأصل وعليه القياس. والدليل على ذلك الاطراد والغلبة، لأن من شروط القياس الاطراد والغالب عليه أن يكون كذلك. وهذا موجود في (فَعَل) و (فَعِل) فهو (فاعل) وأما (فعيل) منهما فهو شاذ نادر والشاذ النادر لا ينقض القياس، والدليل على أن (فعيلا) شاذ في (فَعَل وفَعِل) فانه قد جاء فيهما ألفاظ معدودة لا غير، وإنما اطراده وغلبته (في) (فَعُل) نحو (شرُف فهو شريف) و (كرم فهو كريم) و (نَبُهَ فهو نبيه) وكذلك ما جرى هذا المجرى، على أنه قد شذ منه (فاعل) أيضاً نحو (طُهر) فهو طاهر ولا يقال فيه (طَهير) فاعرفه. فإن قيل: إن (فعيلا) هو اسم فاعل من الصفات الذوية، ولسنا نعني بذلك ما كان مقوماً للذات، نحو الحياة التي لا تقوم الذات إلا بها، وإنما نعني بذلك ما كان ملازماً للذات نحو (عليم وقدير وسميع وبصير) و (فاعل) هو اسم فاعل من الصفات العرضية نحو (ضارب وآكل وشارب) وما يكون مختصاً بصفة الذوات أبلغ مما يكون مختصاً بصفة الأعراض، واشرف محلاً، الجواب عن ذلك: أنا نقول لو سلم لك يوماً المعترض ما ذكرته واطرد في بابه لكان ناقضاً لما ذكرناه نحن وادعيناه من أن (فاعلاً) أبلغ من (فعيل) وإنما قد جاء (فاعل) وهو أيضاً اسم الفاعل من صفات الذات نحو (عالم وقادر وسامع) وأشباه ذلك، فقد عم (فاعل) إذن صفات الذوات وصفات الأعراض. وما

النوع السادس عشر من الباب الأول من الفن الثاني في خذلان المخاطب

كان عاماً للأمرين جميعاً كان أبلغ مما اختص بأحدهما دون الآخر. فإن قيل قد قلت في كتابك: إن ما كان مختصاً بأمر قوى في بابه أبلغ مما تردد بين أمرين أحدهما قوي والآخر ضعيف، وهذا الحكم قد وجدناه هاهنا في (فعيل وفاعل) ففيعل مختص باسم الفاعل من الصفات الذوية واسم الفاعل من الصفات العرضية، فالذي يختص بالأشرف الأقوى وحده أبلغ من الذي يترد بينه وبين ضده، وهو الأذني الأضعف. الجواب عن ذلك: أنا نقول قد سلمنا إليك أن (فاعلاً) الذي هو اسم الفاعل هاهنا متردد بين صفات الذوات والأعراض ولكن من أين لك، أيها المعترض (الشاهد)، بصحة ما ذكرته من أن (فعيلاً) الذي هو اسم الفاعل هاهنا يخص صفات الذوات دون صفات الأعراض، فإن هذا شيء لم ينتظم لك سلكه، ولإرسالك أصله، لأنه قد جاء (فعيل) أيضاً وهو (فاعل) من صفات الأعراض نحو (نبيه ووجيه وبصير وفقير) وأشباه (ذلك). فقد استوى إذن (فاعل) و (فعيل) في عمومهما لصفات الذوات والأعراض، ولم يكن لأحدهما مزية على الآخر في هذا المعنى، وتفرد (فاعل) بالمزية على (فعيل) فيما أشرنا إليه قبل هذا الموضع في هذا الباب من تعديه إلى معموله واختصاصه باسم الفاعل دون معنى المفعول، وقد مر ذلك مستوفى في مكانه، فاعرفه. هذا ما صح لنا في الفرق (بين) (فاعل وفعيل) وأيهما أبلغ. والله الموفق. ومما أشرنا إليه من ذلك كفاية للعارف بهذه الصناعة، فانه ينبغي أن يكون خبيراً بقياس هذه الأشياء على نظائرها وأشباهها. النوع السادس عشر من الباب الأول من الفن الثاني في خذلان المخاطب وهو الأمر بعكس المراد، ويدل ذلك على الاستهانة بالمأمور، وقلة المبالاة بأمره أي أني

النوع السابع عشر من الباب الأول من الفن الثاني في الاشتقاق

مقابلك على فعلك ومجازيك بحسنه، فمن ذلك قوله تعالى (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله، قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار) فقوله (تمتع بكفرك) من باب الخذلان، كأنه قال له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه، وهذا مبالغة في خذلانه لأن المبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على ضد ما أمر به. ومن هذا الباب قوله تعالى (قل الله أعيد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه). الآية، فإن المراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان، على ما سبق ذكره، وفي هذا الكلام معنيان لطيفان: الأول رأى أن عبادتهم لله وعبادتكم لغيره إنما تنفع أو تضر لكم لا لسواكم والله - تعالى - لا يؤثر ذلك عنده شيئاً، لأن مستغن عن عبادتكم له. الثاني توعده لهم بالمقابلة على فعلهم من غير إصراح بالوعيد، وذلك أبلغ من الاصراح به؛ لوقوع الموعود في حيرة من أمره، وترامي وهمه عند ذلك إلى كل خطب عظيم من المجازاة والمقابلة، كقولك لمن عصى (افعل ما شئت إني مقابلك) وهذا نوع من علم البيان شريف. النوع السابع عشر من الباب الأول من الفن الثاني في الاشتقاق اعلم أن جماعة علماء هذه الصناعة يفضلون الاشتقاق على التجنيس، وليس الأمر كما وقع لهم، بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام؛ وذلك لأن التجانس في أصل الوضع

هو التماثل والتشابه، يقال (جانس الشيء (الشيء) إذ ماثله وشابهه، ولما كان الحال كذلك، ورأينا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبيانه علماً أن ذلك يطلق عليه اسم (التجانس). وكذلك لما رأينا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك أن ذلك يطلق عليه اسم (التجانس). أيضاً، فالتجانس ينقسم قسمين أحدهما تجانس في اللفظ والآخر تجانس في المعنى، فأما التجانس في اللفظ فهو على بابه تجانس لم يجعل له اسم آخر كما جعل للتجانس في المعنى فانه يسمى (الاشتقاق) أي أن أحد المعنيين مشتق من الآخر، فهذا الموضع الذي كنا بصدد ذكره لا يليق أن نورد فيه إلا ما يختص بالمعاني، لأنه من باب الصناعة المعنوية، ولذلك أفردنا (الاشتقاق) وذكرناه هاهنا. وأما التجانس في الألفاظ. فسيأتي ذكره في باب الصناعة اللفظية. واعلم أن الاشتقاق على ضربين: صغير وكبير، فالصغير: أن يأخذ أصلا من الأصول فيجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغته ومبانيه، كتركيب (س ل م) فأنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه نحو (سالم وسالم وسلمان وسلمى والسليم) اللديغ: أطلق عليه ذلك تفاؤلاً بسلامته، وعلى هذا جاء غيره من الأصول كقولك (هشمتك هاشم) و (حاربك محارب) و (سالمك سالم) و (أصاب الأرض صيب) لأن الصّيب هو المطر الذي يشتد صوبُه أي وقعه على الأرض، وأمثال ذلك كثيرة، ولهذا الضرب من الكلام رونق لا يخفى على العارف بهذه الصناعة، فما جاء منه قول بعضهم: (أمحلّتي سَلمى لكاظمة أسلما) وكذلك قول الآخر وهو جرير بن عطية:

وما زال معقولاً عقال عن الندى ... وما زال محبوساً عن الخير حابس وقال غيره: لقد علم القبائل أن قومي ... لهم حدّ إذا لبس الحديد وأمثال هذه كثيرة، فاعرفها. وأما الاشتقاق الكبير فهو أن تأخذ أصلاً فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحداً يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك رد بلطف الصنعة والتأويل إليها، كما يفعل الاشتقاقيون. ولنضرب لذلك مثالاً فنقول: إن لفظة (ق ر م) من الثلاثي لها ستة تراكيب وهي (ق ر م. ق م ر. رم ق. م ق ر. م ر ق. فهذه التراكيب الستة يجمعها معنى واحد. وهو القوة والشدة، فالقرم شدة شهوة اللحم وقمر الرجل (إذا غلب من يقامره) و (الرقم) الداهية وهي الشدة التي تلحق الإنسان من أمره (وعيش مرمق) أي ضيق، وذلك نوع من الشدة أيضاً (والمقر) شبه الصبر يقال (أمقر الشيء إذا أمر) وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة (ومرق السهم) إذا نفر من الرميّة، وذلك لشدة مضائه وقوته. واعلم أنه إذا أسقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاق، لأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تراكيب الكلمة بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها، من تقديم حروفها أو تأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعها. فمثال ما سقط من تراكيب الثلاثي لفظ (وس ق) فإن لها خمسة تراكيب وهي: وس ق. وق س. س وق. ق س و. ق وس. وسقط من جملة التراكيب قسم واحد وهو (س ق و) وجميع هذه الكلمات المذكورة تدل على القوة والشدة أيضاً، فالوسق من قولهم (استَوْسَقَ الأمرُ) أي اجتمع وقوي. والوَقْسُ: ابتداءُ الجَرَبِ، وفي ذلك شدة على من يصيب وبلاء. والسَّوْق:

النوع الثامن عشر من الباب الأول من الفن الثاني في الحروف العاطفة والجارة

متابعة السيرة وفي هذا عناء وشدة للسائق والمسوق. والقَسْوة: شدة القلب وغلظه. والقَوْسُ: معروف، وفيه نوع من الشدة والقوة لنزعه السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد. واعلم أنا لا نَدعَّي أن هذا يطرد في جميع اللغة بل قد جاء شيء منها كذلك، وهذا مما يدل على شرفها وحكمتها، لأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب، وهي مع ذلك دالة على معنى واحد. وهذا من أعيب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها، فاعرفه. النوع الثامن عشر من الباب الأول من الفن الثاني في الحروف العاطفة والجارة وهو نوع ينبغي لمؤلف الكلام مراعاته والعناية به، لأن معانيه ودقائقه، لا يتنبه لها إلا الفطن اللبيب، وما رأيت أحداً من علماء هذه الصناعة تعرض له ولا ذكره ولا أقول إنهم لم يعرفوا ذلك أصلاً، لأن هذا النوع من الكلام أشهر من أن يخفى؛ لأنه مذكور في كتب العربية جميعها، ولست أعني بإيرادها هنا ما يذكره النحويون من أن الحروف العاطفة تتبع المعطوفَ (المعطوفَ) عليه في الإعراب، ولا أنَّ الحروف الجارة تجر ما تدخل عليه بل أمراً وراء ذلك، وإن كان المرجع فيه الأصل الذي ذكره علماء العربية في كتبهم فأقول: إن أكثر الناس يجعلون ما ينبغي أن يعْطَف بالواو معطوفاً بالفاء، وما ينبغي أن يعْطَف بالفاء معطوفاً بثم، وكذلك يجعلون ما ينبغي أن يكون (بعلى) (بقي) في حروف الجر. وفي هذه الأشياء دقائق، أذكرها لك أيها المتأمل، لتعلم السر فيها. فأما حرف العطف فنحو قوله تعالى (قَتِلَ الإنسان ما أكفَرَهُ مِنْ أي شيء حَلَقه، من نطفة خلقه فقدَّرَهُ، ثم السَّبيْلَ يسّرهُ، ثم أماتهُ فأقْبَرهُ، ثم إذا شاءَ أنشرَهُ) ألا ترى انه لما قال (من نطفة خلقه) كيف قال (فقدَّره) ولم يقل (ثم قدّره) لأن التقدير لما كان تابعاً للخلقة، وملازماً لها، عطفه عليها بالفاء، وذلك بخلاف قوله (ثم السبيل يسّره، لأن بين خلقته

وتقديره في بطن أمه وبين إخراجه منها وتسهيل سبيله مهلة وزماناً، فلذلك عطفه (بثم) وعلى هذا جاء قوله تعالى (ثم أماته فأقبره) وقوله (ثم إذا شاء أنشره) لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخياً وفسحة، وكذلك بين موته ونشوره أيضاً، ولهذا عطفهما (بثم). ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء، وأمثال هذا كثيرة، فينبغي لمؤلف الكلام تديرها والإتيان بها في أما كنها. واعلم أن في حروف العطف موضعاً تلتبس فيه الفاء بالواو، وهو موضع يحتاج إلى فضل تأمل لأنه شديد الاشتباه والالتباس؛ وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء دون الواو، وقد يجيء من الأفعال ما يلتبس بفعل المطاوعة ويعطي ظاهره أنه كذلك، إلا أن معناه يكون مخالفاً لمعنى فعل المطاوعة، فينعطف حينئذ بالواو لا بالفاء. وهذا موضع غامض يجب على المؤلف التحرز من الوقوع فيه، فمن ذلك قوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) فقوله تعالى (أغفلنا قلبه) هاهنا بمعنى صادفناه (غافلاً)، لأنه لو كان كذلك لكان معطوفاً عليه بالفاء وقيل (فاتبع هواه) وذلك أنه يكون مطاوعاً وفعل المطاوعة إنما يكون معطوفاً بالفاء دون الواو كقولك (أعطيته فأخذ ودعوته فأجاب) ولا تقول (أعطيته وأخذ ولا دعوته وأجاب) كما لا تقول (كسرته وانكسر) وكذلك لو كان معنى (أغفلنا) في الآية (صددنا) و (منعنا) لكان معطوفاً بالفاء، وكان يقال (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه) فلما لم يكن كذلك وكان العطف عليه بالواو؛ فطريقه أنه لما قال: (أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه أن يكون معناه (وجدناه غافلاً) وإذا وجد غافلاً فقد غفل لا محالة، وكأنه قال (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا

واتبع هواه) أي لا تطع من فعل كذا وكذا. يعدد أفعاله، التي توجب ترك طاعته، فاعرف ذلك وقس عليه. وأما حرف الجر فنحو قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود بمخالفة حرفي الجر هاهنا فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركض حيث يشاء، وصاحب الضلال كأنه منغمس في ضلاله مرتبك فيه فلا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلما يراعي في الكلام وكثيراً ما سمعت إذا كان الرجل يلوم صديقه أو يعاتب خليله على أمر من الأمور فيقول له (أنت على ضلالك القديم كما أعهدك) وهذا وإن كان جائزاً في الكلام إلا أن استعمال (في) هاهنا أولى لما أشرنا اليه، ومن هذا النوع قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) فإنه إنما عدل عن اللام إلى (في) في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في الاستحقاق والتصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن (في) للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخلص وتكرير (في) في قوله تعالى (وفي السبيل) فيه فضل وترجيح له على الرقاب وعلى الغارمين، وأمثال هذا مما يوجب مراعاته والاعتناء به (كثيرة) فاعرفه.

النوع التاسع عشر من الباب الأول من الفن الثاني في التكرير

النوع التاسع عشر من الباب الأول من الفن الثاني في التكرير وهو قسمان: أحدهما يوجد في اللفظ والمعنى، والآخر يوجد في المعنى دون اللفظ فأما الذي يوجد في اللفظ والمعنى فكقولك لمن تستدعيه (أسرِعْ أسرِع) ومنه قول أبي الطيب المتنبي: ولم أرَ مثر جِيْراني ومِثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام وأما الذي يوجد في المعنى دون اللفظ فكقولك (أطلعني ولا تعصني) فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية. وكل من هذين القسمين ينقسم إلى مفيد وغير ذلك. فالمفيد يأتي في الكلام تأكيداً له وتشييداً من أمره، وإنما يفعل ذلك للدلالة على معظم محل الشيء، الذي كررّت فيه كلامك، والإشعار بفخامته شأنه وعلو قدره، أو الدلالة على حقارته والإعلام بهوانه واتضاعه. وغير المفيد لا يأتي في الكلام إلا عَبَثاً وخَطَلاً، من غير حاجة إليه. فأما الأول وهو الذي يوجد في اللفظ والمعنى ويدل على معنى فهو ضربان: مفيد وغير مفيد. فالضرب الأول وهو المفيد فرعان: الأول إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على المعنى واحد المقصود به غرضان مختلفان كقوله تعالى (وإذ يَعِدُكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتَوَدُّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويُريد الله أن يُحِقَّ الحق بكلماته ويَقْطَعَ دابِرَ الكافرين، ليُحِقَّ الحقَّ ويُبْطِلَ الباطلَ ولو كره المجرمون) هذا تكرير في اللفظ (وهو قوله) (يحق الحق وليحقَّ الحق) وإنما جيء به هاهنا لاختلاف المراد، وذلك أن الأول تمييز بين الإرادتين، والثاني بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم، ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض.

ومن هذا الباب قوله تعالى (قل أني أمرتُ أنْ أعبد الله مخلصاً له الدين. . .) إلى قوله (فاتقون) ألا ترى إلى هذا التكرير في قوله (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) وقوله (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) والمراد به غرضان مختلفان وذلك أن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله عزَّ وجل بإحداث العبادة له والإخلاص في دينه. والثاني إخبار بأنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة، مخلصاً له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة في الثاني وأخره في الأول؛ لأن الكلام أولاً واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه (فاعبدوا ما شئتم من دونه). ومما أورد على نحو من ذلك قوله تعالى: (قل يأيها الكافرون. . .) إلى آخرها فقوله (لا أعبد) يعني في المستقبل لا تطلبوا مني عبادة إلهكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهين. (ولا أنا عابد ما عبدتم) أي (وما كنتُ قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني أنه لم يُعْهد في عبادة صنم في الجاهلية في وقت مّا، فكيف يرجى ذلك في الإسلام؟! ولا أنتم عابدون في الماضي في وقت مّا ما أنا على عبادته الآن). وأمثال هذا كثيرة فاعرفه. ومن هذا الجنس قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قومُ نوح المرسلين، إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، فاتقوا الله وأطيعوني) فإنه إنما كرر قوله (فاتقوا الله وأطيعوني) ليؤكده عندهم وليقرره في نفوسهم مع تعليق كل واحد منهما بعلة؛ فجعل علة الأول كونه أميناً فيما بينهم، وجعل علة الثاني حسم طعمه عنهم وخلوّه من الأغراض فيما يدعوهم إليه.

الفرع الثاني من الضرب الأول إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد

من هذا النحو قوله تعالى (كذبت قبلهم قومُ نوح وعادٌ وفرعون ذو الأوتاد، وثمودُ وقومُ لوطٍ وأصحاب الأيْكَة أولئك الأحزابُ، إنْ كُلٌ إلا كّذبَ الرُسلَ فحقَّ عقابي) وإنما كرر تكذيبهم هاهنا لأنه لم يأت به على أسلوب واحد، بل تنوع فيه بضروب من الصنعة فذكره أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء به بالجملة الاستثنائية، فأوضحه بأن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحداً منهم فقد كذبوا جميعهم. وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، والتنوع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً وبالاستثنائية ثانياً، وما في الاستثناء من الواضح علة جهة التأكيد والتخصيص من المبالغة المسجلة عليهم، باستحقاق أشد العذاب في أبلغه (من البيان ما لا خفاء فيه). وهذا باب من تكرير اللفظ والمعنى غامض، وبه يعرف مواقع التكرير والفرق بينه وبين غيره، فافهمه. الفرع الثاني من الضرب الأول إذا كان التكرير في اللفظ والمعنى يدل على معنى واحد والمراد به غرض واحد كقوله تعالى: (والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء) إلى قوله: (. . . لمبلسين) فقوله (من قبله) بعد قوله (من قبل) فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد بعد وتطاول فاستحكم يأسهم، وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم. ومثل من قوله تعالى (فكان عاقبتهما أنَّهما في النار خالدين فيها) وكذلك قوله تعالى (ولا تحْسَبنَّ الذين يفرَحون بما أتَوْا ويُحْمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم

الضرب الثاني من التكرير في اللفظ والمعنى وهو غير المفيد

بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم) ومن هذا الجنس قوله تعالى (وقال الذين آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيلَ الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار) فإنه إنما كرر نداء قومه هاهنا لزيادة التنبيه لهم، والإيقاظ من سنة الغفلة، ولأنهم قومه وعشيرته وهم فيما يوبقهم كمن الضلال، وهو يعلم وجه صلاحهم، ونصيحتهم عليه واجبة، فهو يَتَحزَّن لهم، ويتلطف بهم، ويستدعي بذلك أن لا يتهموه، فإن سرورهم سرور وغمهم غمه وإن لم ينزلوا على نصيحته لهم. وهذا من التكرير الذي هو أبلغ من الإيجاز وأشد موقعاً من الاختصار، فاعرفه. وعلى نحو منه جاء قوله تعالى في سورة القمر (فذوقوا عذابي ونذُري) وقوله (ولقد يسّرنا القرآن للذكر فَهَل من مُدّكِر) فإنه تكرر ذلك في السورة كثيراً، وفائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبيهاً واستيقاظاً، إذ سمعوا الحث على ذلك، والبعث إليه وأن تقرع لهم العصا مرات، لئلا يغلبهم السهو، وتستولي عليهم الغفلة. وهكذا حكم التكرير في قوله تعالى في سورة الرحمن - جل وعلا - (فبأي آلاء ربكما تكذبان) وذلك عند ذكر كل نعمة عددها على عباده، وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة فاعرفها. الضرب الثاني من التكرير في اللفظ والمعنى وهو غير المفيد وهو الذي يكون وجوده وعدمه سواءً لأنه لا يأتي (إلا) بمعنى واحد فقط، فمن ذلك

ما أوردناه في صدر هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي: ولم أرَ جِيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مُقام إنه يقول: لم أر مثل جيراني في سوء الجوار وقلة المراعاة، ولا مثلي في مصابرتهم ومقامي عندهم، إلا أنه قد كرر هذا المعنى في البيت مرتين، وعلى نحو ذلك جاء قوله: فَقَلقَلتُ بالهمَّ الذي قَلقَلَ الحشا ... قَلاقِلَ عِيسِ كلُّهن قلاقل فإن الصاحب إسماعيل بن عباد أنكر على أبي الطيب هذا البيت لأجل التكرير الذي فيه ورأيت الواحدي ذكر في شرحه لشعر أبي الطيب أنه لا يلزمه من هذا عيب وأنه قد جرت عادة الشعراء بمثل هذا كقول أبي منصور الثعالبي: وإذا البَلابلُ أطربَتْ بهدِيلها ... فأنفِ البلابلَ باحتساه بَلابل ولقد أصاب الصاحب بن عباد في استقباح بيت أبي الطيب، وأخطأ الواحدي في الاعتذار عنه، وتمثيل ذلك يقول الثعالبي. وبيانه أن بيت أبي الطيب قد ورد فيه ذكر القلقلة والقلاقل أربع مرات، وهن دلائل معنى واحداً لا غير5 وهو الحركة يقول (وحركت بالهم الذي حرك

القسم الثاني من النوع الأول في التكرير وهو الذي يوجد في المعنى دون اللفظ، وهو ضربان: مفيد وغير مفيد

الحشا نوقاً سراع الحركة كلهن متحركات) وهذا من أقبح ما يكون من التكرير وأما بيت الثعالبي الذي مثله الواحدي ببيت أبي الطيب فليس مثالاً لأن لفظة (البلابل) قد وردت فيه ثلاث مرات. وكل منها دال على معنى، والبلابل الأولى جمع بلبل، وهو طائر حسن الصوت، والبلابل الثانية جمع بلبلة، وهي وسواس الصدر، والبلابل الثالثة جمع بلبلة وهي مخرج الماء من الابريق، فهو يقول: وإذا الأطيار من البلابل هدلت وغردت فانف البلابل من قلبك باحتساء الخمر من بلابل الأباريق، وهذا من أخف ما يكون من التجنيس. ومن هاهنا وقع السهو للواحدي، وهو أن (البلابل) في شعر الثعالبي تدل على معان مختلفة و (القلاقل) في شعر أبي الطيب تدل على معنى واحد، فاعرف ذلك وقس عليه. القسم الثاني من النوع الأول في التكرير وهو الذي يوجد في المعنى دون اللفظ، وهو ضربان: مفيد وغير مفيد الضرب الأول المفيد وهو فرعان: الأول إذا كان التكرير في المعنى يدل معنيين مختلفين كدلالته على الجنس والعدد، وهو باب من التكرير مشكل؛ لأنه يسبق إلى الوهم أنه تكرير محض، يدل على معنى واحد فقط، وليس كذلك. فمما جاء منه قوله تعالى (وقال الله لا تتخذوا إلهْين اثنين إنما هو إله واحدٌ) ألا يرى أن العرب إنما جمعت بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا (عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة) لأن المعدود عار من الدلالة على العدد المخصوص، فأما (رجل ورجلان وفرس وفرسان) فمعدودان. فالفائدة إذن في قوله تعالى: (إلهين اثنين وإله واحد) وهو أن الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية (يدل) على الجنسية والعدد المخصوص،

الفرع الثاني من الضرب الأول من القسم الثاني إذا كان التكرير في المعنى يدل معنى واحد

فإذا أريدت الدلالة على أن المعني به واحد منهما وكان الذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت (إنما هو إله) ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية. وهذا باب من تكرير المعاني وعر المسلك دقيق المغزى وبه تحل مشكلات من التكرير فاعرفه. ومن هذا النحو إذا كان التكرير في المعنى يدل على معنيين: أحدهما خاص والآخر عام كقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) الآية. فإن الأمر بالمعروف داخل تحت الدعاء إلى الخير، لأن الأمر بالمعروف خاص والخير عام. فكل أمر بالمعروف خير وليس كل حير أمراً بالمعروف؛ لأن الخير أنواع كثيرة، من جملتها الأمر بالمعروف، ففائدة التكرير هنا أنه ذكر الخاص بعد ذكر العام، للتنبيه على فضله كقوله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) الآية. وأمثال ذلك كثيرة، فاعرفها. الفرع الثاني من الضرب الأول من القسم الثاني إذا كان التكرير في المعنى يدل معنى واحد وقد سبق مثاله، في أول هذا الباب، كقولك (أطعني ولا تعصني) لأن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية، والفائدة في ذلك تثبيت الطاعة في نفس المخاطب، والتقرير لها في قلبه. والكلام في هذا الموضع من التكرير كالكلام في الموضع الذي قبله من تكرير اللفظ والمعنى؛ إذ كان المراد به غرضاً واحداً. الضرب الثاني من القسم الثاني في تكرير المعنى دون اللفظ وهو غير المفيد فمن ذلك قول ابن هانئ المغربي: سارت به صِيغ القصائد شرَّداً ... فكأنما كانت صَباً وقبولا

النوع العشرون من الباب الأول من الفن الثاني في تناسب المعاني

فكأنه قد قال (فكأنما كانت صباً وصباً) لأن الصباً هي القبول، وليس ذلك مثل التكرير في قوله تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) فيما يرجع إلى تكرير اللفظ والمعنى. ولا مثل التكرير في قوله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف) فيما يرجع إلى تكرير المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحدة من هاتين الآيتين تشتمل على معنيين: خاص وعام، وقول ابن هانئ (صباً وقبولا) لا يعطى إلا معنى واحداً لا غير، وهذا لا يخفى على المعارف بصناعة التأليف. ومن هذا النحو قول الصابي في كتاب: (وصل كتابك بعد تأخير وإبطاء، وانتظار له واستبطاء) فإن التأخير والإبطاء بمعنى واحد، وقد يكون لهذا وجه في التجويز، وهو التقرير في نفس المخاطب لبعد الأمد، وتطاول المدة في انقطاع كتابه عنه، وذلك مما لا بأس به في هذا الموضع، وأمثال ذلك كثيرة، فاعرفها. النوع العشرون من الباب الأول من الفن الثاني في تناسب المعاني وهو ثلاثة أضرب: الضرب الأول المطابقة وهي المقابلة اعلم أن جماعة العلماء من أرباب هذه الصناعة قد أجمعوا على أن المطابقة في الكلام: هي الجمع بين الشيء وضده، كالسواد والبياض والليل والنهار، وخالفهم في ذلك أبو الفرج قدامة ابن جعفر الكاتب فقال: (المطابقة إيراد لفظتين متساويتين في البناء والصيغة مختلفتين في المعنى). وهذا الذي ذكره قدامة هو (التجنيس) بعينه، غير أن الأسماء لا مشاحة منها إلا إذا كانت مشتقة، ولننظر نحن في مخالفة قدامة لجماعة العلماء في اسم المطابقة ليعلم الحق في أي الجهتين مقره، وذلك أنا ننظر إلى أصل المطابقة في وضع اللغة فإن كانت مناسبة لما أجمع عليه العلماء تحققنا أن الحق معهم، وإن كانت مناسبة لما ذكره قدامة تحققنا أن الحق في يده فرأينا: أصل الطباق في اللغة من (طابق البعير في سيره) إذا وضع رجله موضع يده، وهذا يقوي

فأما القسم الأول وهو مقابلة الشيء بضده

ما ذكره قدامة، لأن اليد غير الرجل لا ضدها، والموضع الذي يقعان منه واحد، وكذلك المعنيان يكونان غير بن أي مختلفين، واللفظ الذي يجمعهما واحد، فقدامة سمى هذا النوع من الكلام المطابقة، حيث كان الاسم مشتقا مما سمي به، وذلك مناسب وواقع (موقعه) إلا أنه قد جعل للتجنيس اسماً آخر هو المطابقة، ولا بأس به. وأما جماعة العلماء فكأنهم سمواً هذا الضرب من الكلام مطابقاً، بغير اشتقاق، ولا مناسبة بينه وبين مسماه. كذا هو الظاهر لنا من هذا الأمر، إلا أن يكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطيفة، لم نطلع نحن عليها، ولنرجع نحن إلى هذا النوع من التأليف ونحقق الكلام فيه فنقول: اعلم أن الأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع (المقابلة) لأنه لا يخلو الخال في ذلك من ثلاثة أقسام: أما أن يقابل الشيء بضده أو بغيره (أو بمثله) وليس لنا قسم رابع. فأما القسم الأول وهو مقابلة الشيء بضده، كالسواد والبياض وما جرى مجراه فكقوله تعالى (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً). ألا ترى إلى صحة هذه المقابلة البديعة؛ حيث قابل الضحك بالبكاء والقليل بالكثير؟. وكذلك قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). وهذا من أحسن ما يجيء في هذا الباب. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خير المال عين ساهرة لعين نائمة). ومن هذا قول بعضهم في السحاب: وله بلا حزن ولا بمسرّة ... ضحك يراوح بينه وبكاء

وأما القسم الثاني وهو مقابلة الشيء بغيره فهو ضربان

فقابل الضحك بالبكاء، والحزن بالسرور في بيت واحد إلا أن في ذلك نظراً، من حيث ترتيب التفسير، لا من حيث المقابلة، لأن ترتيب التفسير يقتضي أن كان قال (فله بلا حزن ولا بمسرة) (بكاء يراوح بينه وضحك). وهذا لا كبير عيب فيه، وإنما الأولى والأليق ما أشرنا إليه، فاعرفه، وسيأتي بيانه، وقال آخر: فلا الجودُ يفني المالَ والجدُّ مقْبلُ ... ولا البخلُ يُبقي المال والجد مدبرُ ألا ترى إلى هذه المقابلة البديعة التي قد أتى بها هذا الشاعر؛ فانه قابل الجود بالبخل ويُفْني بيُبقي ومُقبِل بمدبر؟ وهذا الكلام هو السهل الممتنع، الذي هو كالنجم تراه قريباً على صفحات الماء وهو بأفق السماء. ومن هذا النوع أيضاً قول البحتري: وأمة كانَ قُبْحُ الجَور يُسخطها ... دهراً فأصبح حُسنُ العدل يُرضيها فقابل الحسن بالقبح، والجور بالعدل، والسخط بالرضى، وذلك بديع في بابه، فاعرفه. وأما القسم الثاني وهو مقابلة الشيء بغيره فهو ضربان أحدهما ما كان بين المقابل والمقابل له مناسبة وتقابل، كقول بعضهم. يَجْزُونَ من ظلم أهل الظُلمِ مَغْفِرةً ... ومِنْ إساءةِ أهلِ السُّوء إحسانا فقابل الظلم بالمغفرة، والظلم ليس ضد المغفرة، وإنما هو ضد العدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل مناسبة له حسنت المقابلة بينها وبين الظلم، وأمثال هذه كثيرة. الضرب الثاني من القسم الثاني في المقابلة وهو أن يقابل الشيء بما بينه وبينه بعد ولا مناسبة (بينهما) بحال من الأحوال وذلك مما لا يحسن استعماله في التأليف، مما جاء منه قول بعضهم: أمْ هَلْ ظعائنُ بالعلَياءِ رافِعَةٌ ... وإنْ تكامل فيها الدَلُّ والشَنَبُ

وأما القسم الثالث من النوع العشرين

فإن ذلك غير مناسب، لأنه إنما يكون يحسن الدل مع الغنج والشنب مع اللّمَس أو ما يجري مجراه من أوصاف الثغر والفم. وأما القسم الثالث من النوع العشرين فهو أن يقابل الشيء بمثله، وهو ضربان: أحدهما التقابل في اللفظ والمعنى، والآخر التقابل في المعنى دون اللفظ، فالضرب الأول كقوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم). وكقوله تعالى (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً) وأمثال هذا كثيرة، والضرب الثاني فهو أن تقابل الجملة بمثلها: إن كانت مستقبلة (بمستقبلة) وأن كانت ماضية قوبلت بماضية، وربما قوبل الماضي بالمستقبل، والمستقبل بالماضي، وذلك إذا كان أحدهما في معنى الآخر: فمن ذلك قوله تعالى (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فيما يوحي إلي ربي) فإن هذا تقابل من جهة المعنى، ولو كان التقابل من جهة اللفظ لقال (وإن اهتديت فإنما أهتدي لها). وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى هو أن النفس كل ما هو عليها فهو بها، أعني أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بسببها ومنها، لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما حولها مما ينفيها فبهداية ربها وتوفيقه إياها. وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسنده إلى نفسه، لأن الرسول إذا دخل تحته مع علو محله وسداد طريقه كان غيره أولى به، ومن هذا الضرب أيضاً قوله تعالى (أو لم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) فإنه لم يراع التقابل في قوله (ليسكنوا فيه والنهار مبصراً) لأن القياس

يقتضي أن يكون (والنهار ليبصروا فيه) وإنما هو مراعى من جهة المعنى، لا من حيث اللفظ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى قوله (مبصراً) ليبصرواً فيه طرق التقلب في الحاجات. ومن مقابلة الشيء بمثله أنه إذا ذكر المؤلف ألفاظاً تقتضي جواباً فالمرضي عندنا أن يأتي بتلك الألفاظ في الجواب من غير عدول عنها إلى غيرها مما هو في معناها، فمن ذلك قوله تعالى (وجزاء سيئة مثلها). ومما عيب في هذا الباب قول بعضهم (من افترى ذنباً عامداً أو اكتسب جرماً قاصداً لزمه ما جناه وحاق به ما توخاه). والأليق أن كان قال (لزمه ما اقترف وحاق به ما اكتسب) ليكون أحسن طباقاً وإن كان ذلك جائزاً في الكلام من حيث إن معناه صواب، لكنه عدول عن الأليق والأولى في هذا الباب. وأمثال هذا كثيرة فاعرفها. واعلم أن في تقابل المعاني باباً عجيب الأمر يحتاج إلى فضل تأمل وزيادة نظر وتدير، وهو تخليص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالأعجاز من أبيات الشعر، مما جاء من ذلك قوله تعالى في حق المنافقين (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وقوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) ألا ترى كيف فصل الآية الأخيرة (بيعلمون) والآية التي قبلها (بيشعرون) وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال، حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك. وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، معلوم عند الناس، خصوصاً عند العرب، وما كان فيهم من التجارب والتعاود، فهو كالمحسوس عندهم فلذلك قال فيه (يشعرون) وأيضاً فانه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقاً، فقال (لا يعلمون).

وآيات القرآن الكريم جميعها فصلت هكذا، كقوله تعالى (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير). وكقوله (وله ما في السموات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد) وكقوله (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره) إلى قوله (. . . لرؤوف رحيم) فإنه إنما فصلت الآية الأولى (بلطيف خبير) لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث، وإخراج النبات من الأرض، ولأنه خبير بمنفعتهم ومضرتهم، في إنزال الغيث وغيره، فأما الآية الثانية فإنما فصلت (بغني حميد) لأنه قال (ما في السموات وما في الأرض) فعرف الناس بأن جميع ما في السموات والأرض له لا الحاجة بل هو غني عنها، جواد بها، لأنه ليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه، واستحق عليه الحمد، فذكر الحمد ليدل على أنه الغني النافع بغناه خلقه. وأما الآية الثالثة فإنما فصلت (برؤوف رحيم) لأنه لما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم، وإجراء الفلك في البحر بهم، وتسييرهم في ذلك الهول العظيم، وجعله السماء فوقهم، وإمساكه إياها عن الوقوع حسن أن يفصل ذلك بقوله (رؤوف رحيم) أي إن هذا الفعل فعل رؤوف رحيم. واعلم أيها المتأمل لكتابنا هذا أنه توجد هذه الملاءمة والمناسبة في كلام ناظم أو ناثر. وهذا الباب ليس في علم البيان أكثر نفعاً منه، ولا أعظم فائدة، وهو مع ذلك دقيق المسلك ضيق المذهب، فعليكم - معشر المنتصبين لهذه الصناعة - بتدير مطاويه، وإمعان النظر مشكلاته. وكفى بما أشرنا إليه مثالاً لمن له لب. ومما جاء من هذا الباب في الشعر قول المتنبي:

وَقَفْتَ وما في الموت شك لِواقف ... كأنكَ في جفَن الردى وهو نائم تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... وَوَجهُك وَضّاحُ وثغرُكَ باسِمُ ولقد أخذ عليه ذلك، وقيل: لو جعل آخر البيت الثاني آخر الأول لكان أولى؛ وحكاية أخذه عليه أنه استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها: (على قدر أهل العزم تأتي العزائم). فلما بلغ إلى قوله: (وقفت وما في الموت شك لواقف) البيتين قال له: وقد انتقدت عليك هذين البيتين كما أنتقد على امرئ القيس قوله: كأني لم أركب جواداً للذَّة ... ولم أتَبَطَّنْ كاعباً ذات خَلْخالِ ولم أسبأ الزَّقَ الرويَّ ولم أقُلْ ... لخيليَ كُرّي كرةً بَعْدَ إجفالِ فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم بيتا امرئ القيس، وكان ينبغي أن يقول: كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي. . . ولم أسبأ الزق الروي. . . وكذلك ينبغي أن تقول: وقفت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم تمر بك الأبطال كَلْمىَ هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم فقال المتنبي: إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا وهو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك؛ لأن البزاز يعلم جملته، والحائك يعلم تفاصيله. وإنما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة بسباء الخمر للاتصاف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر

الضرب الثاني من النوع العشرين في صحة التقسيم وفساده

البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره، ليكون أحسن طباقاً وتلازماً. ولما كان وجه الجريح المنهزم يكون عبوساً وعينه باكية قلت (وجهك وضاح وثغرك باسم) لأجمع بين الأضداد في المعنى. فأعجب سيف الدولة كلامه. وأمثال ذلك كثيرة إلا أنه يحتاج الناقد لها والمميز بين جيدها ورديئها إلى فكرة صافية، وروية زائدة. الضرب الثاني من النوع العشرين في صحة التقسيم وفساده اعلم أنا لم نرد بالتقسيم هاهنا ما تقتضيه القسمة العقلية كما يذهب إليه المتكلمون؛ فإن القسمة العقلية تقتضي أشياء مستحيلة، كما قالوا (الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة. أو لا مجتمعة ولا مفترقة. أو مجتمعة مفترقة معاً. أو بعضها مجتمعة، وبعضها مفترقة). ألا ترى أن هذه القسمة صحيحة من حيث العقل لاستيفاء الأقسام جميعها، وإن كان من جملتها ما يستحيل وجوده، فإن الشيء لا يكون مجتمعاً مفترقاً في حالة واحدة، وإنما تريد نحن بالتقسيم هاهنا ما يقتضيه المعنى، مما يمكن وجوده؛ وهو أن يأتي المؤلف إلى جميع أقسام الكلام المحتملة فيستوفيها، غير تارك منها قسماً واحداً. فمن ذلك قوله تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فإنه لا يخلو العالم من هذه الأقسام الثلاثة: أما عاص ظالم لنفسه وإما مطيع مبارد إلى الخيرات وإما مقتصد بينهما، وهذا من أصح التقسيمات وآكملها، فاعرفه. ومن هذا النحو قوله تعالى (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون) الآية. وأعلم أن هذه الآية مماثلة في

المعنى لما سبق ذكره، فأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم. وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعا). ألا ترى إلى بداعة هذه القسمة؟ فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، وليس لهم ثالث. وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة المنتصبين في صدرها يعجبون يقول بعض الأعراب في هذا المعنى، ويقولون إن ذلك من أصح التقسيمات وهو قوله (النعم ثلاث: نعمة في حال كونها نعمة ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة. فأبقي الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه). فقالوا إنه ليس في أقسام النعم التي يقع الانتفاع بها قسم رابع سوى ما ذكره الأعرابي. وهذا القول فاسد؛ وهو أن في أقسام النعم التي قسمها هاهنا نقصاً لا بد منه، وزيادة لا حاجة إليها، فإما النقص فإغفاله ذكر النعمة الماضية، وأما الزيادة فقوله بعد النعمة المستقبلة: التي تأتي غير محتسبة، وهذا خطأ لأن النعمة التي تأتي غير محتسبة هي داخلة في قسم المستقبل، وذلك أن النعمة المستقبلة تنقسم إلى قسمين: أحدهما يرجى حصوله ويتوقع بلوغه، والآخر لا يحتسب ولا يشعر بوجوده، فقوله (ونعمة تأتي غير محتسبة) يوهم أن هذا القسم غير المستقبل، وهو داخل في جملته، ولو قال (ونعمة مستقبلة) من غير أن يقول (ونعمة تأتي غير محتسبة) لكان قوله كافياً، إذ النعمة التي ترجى والنعمة التي لا يحتسب تدخلان تحت قسم المستقبل. وكان ينبغي أن يقول (النعم ثلاث نعمة ماضية، ونعمة في حال كونها، ونعمة تأتي مستقبلة، فأحسن الله آثار النعمة الماضية وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها، ووفر حظك من النعمة التي تستقبلها). ألا ترى لو قال ذلك لكان قد طبق به مفصل الصواب، فافهم ما ذكرناه وقس عليه. ووقف أعرابي على مجلس الحسن فقال: (رحم الله من أعطى من سعة أو واسى من كفاف أو آثر من قلة). فقال الحسن: ما ترك لأحد عذراً؛ فانصرف الأعرابي بخير كثير.

ومن هذا الضرب ما ذكره أبو هلال العسكري في كتابه وذلك أنه أخذ على جميل قوله: لو أن في قلبي كقدر قُلامةٍ ... حُباً وَصَلْتُكِ أو أتتكِ رسائلي فقال أبو هلال: إن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل. وليس الأمر كما وقع له، فإن (جميلاً) أراد به (وصلتك) أي أتيتك زائراً أو قاصداً أو (كنت راسلتك مراسلة). والوصل لا يخرج عن هذين القسمين إما رسالة وإما زيارة. ومن أعجب ما شاهدته في هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي، وهو قول العباس بن الأحنف: وصاُلكم هجرٌ وهجركم قِلىً ... وعطفكمُ صدٌّ وسلمكمُ حربُ ثم روى المشار إليه عن أبي القاسم الآمدي - رحمة الله - أنه قال إن بعض نقدة الكلام من البلغاء لما سمع هذا البيت قال: (والله هذا أحسن من تقسيمات إقليدس).

الضرب الثالث من النوع العشرين وترتيبه في التفسير وما يصح من ذلك وما يفسد

ومن العجب كيف ذكر الغانمي ذلك في كتابه وفاته النظر فيه مع تقدمه في هذه الصناعة. وأعجب من ذلك قول أبي القاسم الآمدي، وأعجب منهما جميعاً استحسان ناقد الكلام لهذا التقسيم، ألا ترى أن هذا البيت قد بني عليه شيء آخر من جنسه فانه لو أضيف له بيت غيره فقيل: ولِينكمُ عُنفُ وقُرْبُكم نوىً ... وإعطاؤكمَ منعُ وصِدقكمُ كذِبُ لجاز ذلك وربما يحتمل أن بزاد على هذا البيت الثاني بيت ثالث ورابع، ولو كان ذلك التقسيم في البيت الأول صحيحاً لما احتمل أن يضاف إليه شيء آخر البتة، لأن من شرط صحة التقسيم أن لا يحتمل الزيادة. ومما جاء على نحو من هذا قول بعضهم في حق مكسورين في الحرب، (فمن بين جريح مضرج بدمائه، وهارب لا يلتفت إلى ورائه). فإن الجريح قد يكون هارباً، والهارب قد يكون جريحاً، ولو قال (فمن بين قتيل ومأسور وناج) لصح له التقسيم لأن المكسورين في الحرب، الذين دارت عليهم الدائرة، لا يخرجون عن هذه الأقسام الثلاثة، فأما قتيل أو مأسور أو نازح، وأما الجريح فإنه يدخل في جملة الناجي، والمأسور، لأن كلاً منهما يجوز أن يكون جريحاً أو أن لا يكون، فاعرف ذلك، وقس عليه. الضرب الثالث من النوع العشرين وترتيبه في التفسير وما يصح من ذلك وما يفسد اعلم أن صحة ترتيب التفسير هي أن يذكر المؤلف في كلامه معاني مختلفة، فإذا عاد إليها بالذكر ليفسرها، قدم المقدم وأخر المؤخر، وإذا لم براع المؤلف ذلك كأن مأخوذاً عليه، لأنه يخل بشطر من الصناعة، فمن ذلك قول بعضهم: غيث وليث فغيث حين تسأله ... عرفاُ وليث لدي الهيجاء ضرغامُ تحيا الأنام به في الَجدْب إن قُطحوا ... جُوداً وَيشقى به يوم الوغى الهامُ

ومن هذا الباب قوله تعالى (وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة) وكذلك قوله تعالى: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله). فلما قدم الليل في الذكر على النهار قدر سبب الليل، وهو السكون على سبب النهار، وهو التعيش، وذلك في غاية الحسن. ومن هذا النحو قول بعضهم: يوم الُمتيَّم فيكِ حوَلٌ كاملٌ ... يتعاقبُ الفَصلانِ فيه إذا أنى ما بين حَرّ جوىً مدامعٍ ... إن حَنّ صاف وإن بكى وجداً شتا وهذا من أصح التفسير فاعرفه، ومن ذلك قول الآخر وهو غاية في بابه: شَكَوتُ فقالت كلُّ هذا تبرُّمٌ ... بحُبًي أراح الله قلبَكَ من حبُيّ فلما كتمتُ الحب قالت اَشدَّ ما ... صَبَرتَ وما هذا بفعلِ شجى القلب وأدنو فتقصيني فأبعُدُ طالباً ... رضاها فتَعْتدُّ التباعد من ذنبي فشكوايَ تؤذيها وصبري يسوؤها ... وتجزَعُ من بُعْدي وتَنْفِرُ من قُربي فيا قومُ هلَ من حِيْلةٍ تعرفونها ... أعينوا بها واستوِ جبوا الأجرَ من ربي فما يرك هذا الشاعر شيئاً من المعاني التي ذكرها أولا فيما يلاقيه من الحب والبلوى إلا فسرها على هذا الترتيب، فاعرف ذلك. ومما أخذ على الفرزدق من هذا النحو قوله:

لقد خنتَ قمواً لو لَجاْت إليهمُ ... طريدَ دم أو حاملا ثقلَ مغرمَ لألفيتَ منهم معُطياً أو مُطاعنا ... وراك شزراً بالوشيج المقَّوم لأنه أصاب في التفسير وأخطأ في الترتيب، وذلك أنه أتى بتفسير ما هو أول في البيت الأول، ثانياً في البيت الثاني، وهو قوله: (طريد دم) فقال: (أو مطاعنا)، وكذلك أتى بتفسير ما هو ثان في البيت الأول أولاً في البيت الثاني، وهو قوله: (حاملاً ثقل مغرم) فقال: (لألفيت منهم معطيا) والأولى أن كان أتي بتفسير ذلك مرتباً؛ ففسر ما هو أول في البيت الأول بما هو ثان في البيت الثاني، وما هو ثان في البيت الأول بما هو ثان في البيت الثاني؛ وذلك لو سلم له الوزن. إلا أن هذا لا كبير عيب فيه. وإنما الأحسن ما أشرنا إليه. واعلم أن الناظم إذ أتى بمثل ما أتى به الفرزدق لا ينكر عليه ذلك، كما ينكر على الناثر، وذلك أن الناظم يضطره الوزن والقافية إلى اعتماد غير الواجب في تأليفه، وترك الأولى في صناعته، كما اضطر الوزن والقافية الفرزدق، فإنه لو أراد أن يأتي بمقتضى الصنعة لقال: لقد خنتَ قوماً لو لجأت إليهم ... طريدَ دم أو حاملاً ثقل مغرم (لألفيتَ منهم طاعناً بالوشيج المقوم أو معطيا) وهذا ما يفسد به الوزن والقافية. وأما الناثر فانه لا يضطر إلى مثل ذلك لتصرفه كيف شاء، ولهذا كان الناثر مؤاخذاً بأداء هذه الصناعة أكثر مما يؤاخذ الشاعر، فاعرف ذلك. ومما أخذ على الفرزدق قوله أيضاً: كيف أسلو وأنتِ حِقفُ وغُصْنٌ ... وغزالٌ لحظاً ورِدْفاً وقداً والأصل في هذا أن قال: (ردفاً وقداً ولحظاً) وأمثال هذا كثيرة، فاعرفها. وأما فساد التفسير في هذا الباب فهو أن يأتي المؤلف بكلام يفسره تفسيراً لا يناسبه، وذلك عيب لا يسامح فيه بحال من الأحوال كقول بعضهم:

النوع الحادي والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الخطاب بالجملة الفعلية والخطاب بالجملة الاسمية المؤكدة بأن المشددة وتفضيل أحدهما على الآخر.

فيا أيها الحيران في ظلمة الدجى ... ومنَ خاف أن يلقاهَ بَغْيٌ من العِدا تعالَ إليه تلقَ من نور وَجهْة ... ضياءً ومن كفيّه بحراً من النّدى وكان يجب لهذا الشاعر أن يجعل بازاء (بغي من العدا) ما يناسبه من النصرة أو الادالة فأما الإعانة أو ما جرى هذا المجرى، ليكون ذلك تفسيراً كما جعل بازاء الظلمة الضياء وفسرها به، فأما أن وضع بازاء ما يتخوف منه (بحراً من الندى) (فإنه) لا يكون تفسيراً له وأمثال هذا كثيرة، فلتجتنب. النوع الحادي والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الخطاب بالجملة الفعلية والخطاب بالجملة الاسمية المؤكدة بأن المشددة وتفضيل أحدهما على الآخر. وذلك كقولنا (قام زيد)، و (إن زيداً قائم) فقولنا: قام زيد. معناه؛ الإخبار عن زيد بالقيام. وقولنا: إن زيداً قائم، معناه؛ الإخبار عن زيد بالقيام أيضاً. إلا أن في الثاني زيادة ليست في الأول، وهو توكيده بأن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها من الكلام، فمن هذا النحو قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزؤن). فإنهم إنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بإن المشددة، فقالوا: في خطاب المؤمنين (آمنا) ولإخوانهم (إنا معكم) لأنهم في مخاطبة إخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا على صدق ورغبة ووفور نشاط، وكان ذلك متقبلاً منهم ورابحاً عند إخوانهم. وما قالوه للمؤمنين فإنما قالوه تكلفاً وإظهاراً للإيمان، خوفاً ومداجاة، وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه بأوكد لفظ وأشده لما راج لهم عند المؤمنين إلا رواجاً ظاهراً لا باطناً، ولأنهم ليس لهم من عقائدهم باعث قوي على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به إخوانهم،

النوع الثاني والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في ورود لام التأكيد في الكلام

(إنا معكم) وهذه نكت دقيقة ولطائف خفية لا توجد في نوع من الكلام العربي إلا في القرآن الكريم، وما أكثر ذلك وأمثاله في أثنائه وأوفره! مودعاً في غضونه، فاعرفه وقس عليه. النوع الثاني والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في ورود لام التأكيد في الكلام ولا يجيء ذلك إلا لضرب من المبالغة، وفائدتها في التأليف أنه إذا عبر عن أمر بعز وجوده، أو فعل يعظم إحداثه ووقوعه، جيء بها محققة لذلك، وشاهدة، فمن هذا الباب قوله عز وجل: (أفرايتم ما تحرثون، أأنتم تزرعون أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون، أفرأيتم الماء الذي نشربون، أأنتم أنزلتوه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون). ألا ترى كيف أدخلت (اللام) في آية المطعوم دون آية المشروب، وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب ملحاً أسهل إمكاناً، والموجود من الماء الملح أكثر من الموجود من الماء العذب، وكثيراً ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة والمرارة، فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحاً إلى زيادة تأكيد، فلذلك لم تدخل عليه (لام التأكيد) المفيدة زيادة للتحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاماً لما كان خارجاً عن المعتاد أو هو غير مألوف، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط شديد وغضب زائد، لذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره وتقرير إيجاده وكونه. وهكذا يفعل بكل أمر فيه خصوصية، فاعرفه.

النوع الثالث والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الاقتصاد والإفراط والفريط

النوع الثالث والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الاقتصاد والإفراط والفريط فأما الاقتصاد فهو أن يكون المعنى المضمن في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه في منزلته. وأما التفريط، والإفراط، فهو أن يكون المعنى المضمن في العبارة بخلاف ما يقتضيه منزله المعبر عنه، فأما انحطاطاً دونها وهو التفريط، وإما تجاوزاً عنها، وهو الإفراط، لأن أصل التفريط في وضع اللغة من (فرط في الإفراط إذا قصر فيه وضيعه)، وأصل الإفراط في وضع اللغة من (إفراط في الأمر إذا تجاوز فيه الحد) فالتفريط عيب في الكلام فاحش، وذلك كقول الأعشى: - وما مُزِبِدُ من خليج الفراتِ ... جَوْنُ غوارُبهُ تَلْتَطِمْ بأجْوَدَ منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تَغِم فإنه قد مدح ملكاً بأنه يجودُ بماعونه، والماعون هو كل ما يستعار من قدومٍ أو قصعةٍ أو قدرٍ أو ما أشبه ذلك. وليس للملوك في بذله مدح البتة، بل هو الذي أقرب منه إلى المدح، فهذا من أقبح التفريط.

ومن هذا الباب قول أبي تمام: ما زال يَهْذي بالمكارم والعُلا ... حتى ظننّا أنَّهُ مَحمومُ فإنه أراد أن يبالغ في ذكر الممدوح باللهج بالمكارم والعلا، فقال (ما زال يهذي ولا أعلم ما كانت حال أبي تمام، عند قوله هذا البيت، ولا أعلم أي أم اضطره إليه، مع سعة مجال العربية، وانفساح مداها؟! ثم ما كفاه ذلك، حتى قال: (ظننت أنه محموم) وعلى نحو من ذلك، قول بعضهم: وتلحقه عند المكارم هِزةٌ ... كما انتفض المجهودُ من أمّ مِلْدَم ومن أقبح ما رأيناه في هذا الفن، قول أبي تمام: أنت دَلْوُ وذو السَّماح أبو مو ... سى قليب، وأنت دلو القَليْبِ ومُراد أبي تمام من ذلك، أنه سبب لعطاء المشار اليه، كما أن الدلو سبب في امتياح الماء من القليب. فهذا وأمثاله، مما لا يجوز استعماله، وإن كان المعنى المقصود به حسناً. ولهذا كان لمده ألفاظ، لا يجوز استعمالها في الذم، وللذم ألفاظ لا يجوز استعمالها في المدح، ألا ترى أن من المعاني ما يعبر عنه بألفاظ متعددة، ويكون المعنى المتدرج تحتها واحداً؛ فمن الألفاظ، ما يحسن استعماله في المدح، ومنها مالا يحسن استعماله في الذم، ولو كان هذا الأمر يرجع إلى المعنى فقط لكانت جميع الألفاظ الدالة عليه شرعاً سواءً في الاستعمال، وإنما هذا نعود فيه إلى العرف، دون الأصل. ولنضرب الأصل. ولنضرب لذلك مثالاً، فنقول: هل يجوز أن يخاطب الملك،

فيقال له (وحق دماغك). قياساً على أن يقال له (وحق رأسك)؟. فإن هذا مما لا يجيزه أحد البتة. ألا ترى أن المؤلف، إذا أراد المدح، ذكر الرأس والهامة والكاهل وما جرى هذا المجرى، وإذا أراد الهجو، ذكر الدماغ والقفا والقذال، وما جرى هذا المجرى، وإن كانت معاني الجميع متقاربة. ولأجل ذلك حسنت الكناية في الموضع الذي يقبح فيه التصريح. وأمثال هذا الضرب من الكلام كثيرة، فاعرفه. وأما الإفراط، فهو بمنزله ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن رجلاً جاءه، فكلمه فقال (ما شاء الله وشئت). فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أجعلتني لله نداً)؟ قل (ما شاء الله وحده)، ومن هذا الباب قول عنترة: وأنا المنيةُ، في الموِاطن كلَّها ... والطّعْنُ مني سابقُ الآجالِ فإن الطعن، لا يسبق الأجل، إذ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر. وقد قيل (سابق) أقرب أمراً من كونه تالياً، غير أن كلهما إفراط في القول. ومما جاء على نحو من هذا قول بشار. إذا ما غَضبِنا غِضْبةً مُضَريّةً ... هتَكْنا حجاب الشمس أو قَطَرتْ دمَا وقال أبو عثمان الجاحظ في كتاب الحيوان (لم نعلم أحد أسرف في القول كالنابغة

حيث يقول: إذا ما غزا بالجيش حلَق فوقه ... عصائب طَيرٍ تُهْتدي بعصائب جوانح قد أيقنً أنَّ قبيلة ... إذا ما التقى الجمعان أول غالبِ لأنه ليس عند الطيور في اتباع الجموع والعساكر إلا ما يسقط من ركابهم ودوابهم إذ كانوا قد رأوا ذلك من تلك الجموع، وألفوه منها، فأما أن يقصدوا بالأمل واليقين لأحد الجمعين بالادالة والغلبة فهذا لم يقله أحد). وقيل أن بعض أفراد هذه الصناعة لما سمع قول قيس ابن الخطيم. ملكت بها كفى فانْهَرت فتقهَا ... يرى قائمٌ من دونها ما وراءها قال: هذا لم يطعنه وإنما فتح فيه بابا أبو دربا. واعلم أن علماء البيان في استعمال الإفراط على ثلاثة أضرب: (1) فمنهم من يكرهه ولا يراه صواباً كأبي عثمان الجاحظ فيما روي عنه. (2) ومنهم من يختاره ويؤثره كقدامة بن جعفر الكاتب فإنه كان يقول: (الغو عندي كان أجود المذهبين فإن أحسنَ الشعر أكذبه). (3) ومنهم من يذهب إلى التوسط بين الغلو والتفريط، وهو الاقتصاد، وذلك أن يجعل الغلو وهو الإفراط مثلاً ثم يستثنى فيه ب (لو) أو ب (كاد) أو ما جرى هذا المجرى، فيدرك مراده ويسلم من عيب عائب، أو طعن طاعن، وذلك كقول بعضهم: يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاَء يَسْتَلِمُ

النوع الرابع والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في المعاظلة

وكقول أبي عبادة البحتري: ولو أنَّ مشتاقاً تكلَّف فوق ما ... في وسعهِ لسعى إليك المنبر وهذا المذهب المتوسط أليق المذاهب الثلاثة، وأدخلها في الصنعة، فاعرفه. النوع الرابع والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في المعاظلة وهو نوع من التأليف يجب اجتنابه؛ لأنه عيب في الكلام فاحش. وأصل المعاظلة في اللغة؛ من تعاظلت الجرادتان: إذا ركبت إحداهما الأخرى، فسمى (تأليف) الكلام الذي تداخلت معانيه، وركب بعضها فوق بعض، المعاظلة، مأخوذاً من ذلك وهو اسم لائق بمسماه. ووصف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - زهير بن أبي سلمى فقال (كان لا يعاظل بين الكلام). واعلم أن هذا الباب يجب تدبره لاختلاف أهل هذه الصناعة فيه فقال قدامة: التعاظل: تداخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه، ولا أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة كقول أوس بن حجر: وذات هِدمٍ عارٍ نَواشِرُها ... تُصمت بالماءِ توْلَباً جدِعاً

فسمى الظبي (تولباً) والتولبُ: ولد الحمار. هذا ما ذكره قدامة، وهو خطأ؛ لأنه لو كان ما ذهب إليه صحيحاً، لكان أصل المعاظلة، في وضع اللغة دخول الشيء فيما ليس من جنسه. وليس أصلها في وضع اللغة كذلك، بل هو التداخل والتراكيبُ. وهذا المثال الذي مثل به قدامة لا تداخل في معانيه ولا تراكب، وإنما هو استعارة فاحشة فقط، فوجب حينئذ أن لا تسمى معاظلة) لأن حقيقة المعاظلة ليست موجودة فيه. وأما جماعة الأصحاب من علماء البيان، فانهم خالفوا قدامة فيما ذهب إليه، والحق في أيديهم، لاتباعهم في ذلك حقيقة هذا الاسم، الذي وضع له في أصل اللغة. وقد مثله الغانمي بقول الفرزدق: وما مِثْلُهُ في الناس إلا مملَّكاً ... أبوّ أمَّهِ حيٌ أبوه يقاربه وهذا مثال حسن لوقوعه على ما مثل به، ألا ترى إلى تداخل معاني هذا البيت بتقديم ما كان يجب تأخيره، وتأخير ما كان يجب تقديمه؟ لأن الأصل في معنى هذا البيت. (وما مثله في الناس حي يقاربه، إلا مملكاً، أبو أمه أبوه). واعلم أم هذا الذي أشرنا إليه من المعاضلة بابه التقديم والتأخير، وقد سبق ذكره في كتابنا هذا. إلا أن المعاظلة، قد جعل لها أهل هذه الصناعة؛ باباً مفرداً في كتبهم، فلم نر مخالفتهم في هذا القدر، لكنا بينا حقيقتها في بابها وأشرنا إليها بأوضح إشارة وألحظها ليعرف موضعها من التأليف.

النوع الخامس والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في التضمين

النوع الخامس والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في التضمين وهو ما يزداد به الكلام حلاوة، ويكتسب به رونقاً وطلاوةً، ولا سيما إذا كان التضمين بآيات من القرآن الكريم فإنها تكون في الكلام كالشاهدة له، والمنادية على سداده. واعلم أن التضمين على ضربين: أحدهما، تضمين الإسناد وذلك يقع في بيتين من الشعر وفقرتين من الكلام المنشور، على أن يكون الأول مسنداً إلى الثاني، فلا يقوم الأول بنفسه، ولا يتم معناه إلا بالثاني. فما جاء من ذلك قول بعضهم: ومِنَ البلوى التي لي ... س لها في الناس كُنْةُ أنّ منْ يعرف شيئاً ... يدّعي أكثر مِنهُ ألا ترى أن البيت الأول لم يقم بنفسه ولا تم معناه إلا بالبيت الثاني؟ ويجوز أن يكون البيت الثاني لغير قائل البيت الأول كقول بعضهم: ولما أتاني من حِماك تحيّةٌ ... تَضوَّعُ من أثنائها المسك والنَّدُ وقفتُ فأعيَيْتُ الرسولَ تساؤلاً ... وأنشدته بيتاً له المثل الفردُ (وحدثتني يا سعدُ عنهم فزدتني ... جنوناً فزدني من حديثك يا سعدُ) وأمثال هذا الضرب من الكلام كثيرة، فاعرفها. الضرب الآخر من التضمين: وهو أن يضمن الشاعر شعره، أو الناثر نثره، بكلام لغيره قصداً للاستعانة على إتمام المراد، وتأكيداً لمعناه، ولو لم يذكر ذلك التضمين لكان المعنى صحيحاً لا يحتاج إلى تمام. وربما ضمنّ الشاعر شعره بنصف بيت أو أقل منه كما قال

جحظة: قم فاسقنيها يا غُلامُ وغنني ... (ذهب الذين يُعاش في أكنافهم) ألا ترى أنه لو لم يقل في هذا البيت: . . . . . . . . . . . . ... (ذهب الذين يعاش في أكنافهم) لكان المعنى صحيحاً لا يفتقر إلى شيء آخر يتممه؟ فإن قوله: قم فاسقنيها يا غُلامُ وغنني ... . . . . . . . . . . . . فيه كفاية، إذ لا حاجة إلى تعيين الغناء أي شيء هو؛ لأن في ذلك زيادة على المعنى المفهوم لا على الغرض المقصود. وقد استعمل هذا الضرب كثيراً الخطيب عبد الرحيم بن نباتة كقوله في بعض خطبه: (فيا أيها الغفلة المطرقون، أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ ما لكم منه لا تشفقون؟ فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون). وكقوله في ذكر يوم القيامة: (فيومئذٍ تَفِدُ الخلائق على اللهُ بهماً، فيحاسبهم على ما أحاط به علماً، وينفذ في كل عاملٍ بعلمه حُكماً؛ وعنت الوجوه للحي القيوم، وقد خاب

من حمل ظلماً). ألا ترى إلى براعة هذا التضمين، الذي كأنه رصع في هذا الموضع رصعاً؟ وكذلك قوله في ذكر يوم القيامة. (هنالك يقع الحساب على ما أحصاه الله كتاباً، وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابا. يوم يقوم الروح والملائكة صفاً. لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً). وعلى نحو من ذلك جاء قوله: (أسكنهم، والله، الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدهم كما أخلقهم، ويجمعهم كما فرقهم، يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً، يوم تكونون شهداء على الناس (ويكون الرسول عليكم شهيداً). يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضراً، وما علمت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً). وكقوله في صفة أهل الجنة: (قد أنسوا بجوار الجبار، وكوشفوا بحقائق الأسرار، وتبوءوا منازل الشهداء والأبرار، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار). وعلى هذا النهج ورد قوله في ذكر القيامة (هناك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، ويجمع من وجب له الثواب، ومن حق عليه العقاب، فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره فيه من قبله العذاب). وأمثال هذه التضمينات في الخطب للشيخ عبد الرحيم كثيرة، فاعرفها، فهي من

النوع السادس والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الاستدراج

أعجب ما يجيء في هذا الباب. النوع السادس والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الاستدراج وهو التوصل إلى وصول الغرض من المخاطب، والملاطفة له بلوغ المعنى المقصود، من حيث لا يشعر به، وفي ذلك من الغرائب، والدقائق ما يوثق السامع، ويطربه؛ لأن مبنى صناعة التأليف عليه، ومنشأها منه، فما جاء من هذا الباب، قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً، إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد مالا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن، فتكون للشيطان ولياً). هذا كلام، يهز أعطاف السامعين، ويبهج نفوس المتأملين، فعليك، أيها المترشح لهذه الصناعة، بإمعان النظر في مطاويه، وترداد الفكر في أثنائه، واتخاذه قدوة ونهجاً تقتفيه، ألا ترى حين أراد إبراهيم، أن ينصح أباه، ويعظه مما كان متورطاً فيه، من الخطأ العظيم، الذي عصى به أمر العقل، كيف رتب الكلام معه، في أحسن اتساق وانتظام، مع استعمال المجاملة، واللطف، واللين، والأدب الجميل، والخلق الحسن؟! مستنصحاً في ذلك بنصيحة ربه؛ وذاك أنه طلب منه أولاً العلة في خطيئته طلب منبه على تماديه، موقظ (له) لإفراطه (في غفلته) وتناهيه، لأن المعبود لو كان حباً، متميزاً، سميعاً بصيراً، مقتدراً على الثواب، والعقاب، إلا أنه بعض الخلق، لاستسخف عقل من أهله للعبادة، ووصفه بالربوبية، ولو كان أشرف الخلق، كالملائكة، والنبيين فكيف لمن جعل المعبود جماداً، لا يسمع، ولا يبصر؟! ثم ثنى ذلك بدعوته إلى الحق، مترفقاً به، متطلعاً، فلم يسم أباه بالجهل المطلق، ولا نعته بالعلم الفائق، ولكنه قال: (أن معي

لطائف من العلم، وشيئاً منه. وذلك علم الدلالة على الطريق السوي. فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث ذلك بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن، الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك وعدو أبيك آدم، هو الذي ورطك في هذه الورطة، وألقاك في هذه الضلالة. إلا أن إبراهيم - عليه السلام - لإمعانه في الإخلاص، لم يذكر من جنايتي الشيطان، إلا التي تختص منها بالله - عز وجل -: عصيانه واستكاره. ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم - عليه السلام - وذريته. قم ربع ذلك بتخويفه سوء العاقبة وما ينتج عليه من الوبال. ولم يخل هذا الكلام من حسن أدب، بحيث لم يصرح بأن العقاب لا حق لأبيه ولكن قال (إني أخاف أن يمسك عذاب) فذكر الخوف والمس إعظاماً لهما، ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة

أشياعه، أكبر من العذاب، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله: (يا أبت) توسلاً إليه واستعطافاً، فقال له في الجواب (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم: لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا). ألا ترى كيف أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله (يا أبت) بابني؟ وقدم الخبر على المبتدأ في قوله: (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) لأنه كان أهم عنده وفيه ضروب من التعجب والإنكار، لرغبة إبراهيم عن آلهته وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب أحد عنها. ومن هذا الباب، قوله تعالى: (قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، وأن بك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم. أن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطف مغزاه؟ فانه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذباً، فكذبه يعود عليه ولا يتخطاه، أو يكون صادقاً فيصيبكم بعض ما يعدكم إن تعرضتم له. وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك، أيها المتأمل، فأقول: إنما قال (يصبكم بعض الذي يعدكم) وقد علم أنه نبي صادق وأن كل ما يعدكم به، لا بد من أن يصيبهم (كله) لا بعضه، لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له، وقبولهم منه، فقال (وإن بك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم). وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتط فيه؛ وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد به، لكنه أردفه بقوله: (يصبكم بعض الذي يعدكم) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه

النوع السابع والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الأرصاد

حقه وافياً، فضلاً عن أن يتعصب له. وتقديم الكاذب على الصادق من (هذا) القبيل، وكذلك قوله تعالى: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) أي لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه للنبوة ولا عضده بالبينات. فتدبر أيها المتأمل لهذه الدقائق اللطيفة تضع يدك على النقط في صناعة التأليف. النوع السابع والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الأرصاد وهو نوع من أنواع علم البيان، لطيف المأخذ، دقيق الصنعة؛ وذلك أن يبني الشاعر البيت على قافية قد أرصدها له أي أعدها في نفسه، فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته؛ وذلك من محاسن التأليف، لأن خير الكلام ما دلَ بعضه على بعض. وفي هذه الصناعة يقول ابن نباتة: خذها إذا أنشِدَتْ للقومِ من طَرَب ... صدورها عرفت منها قوافيها يَنْسى لها الراكبُ العَجْلان حاجته ... ويُصبح الحاسدُ الغضبان يُطربها فمن هذا الباب قول النابغة: فداء لامرئ سارت إليه ... بعذرة ربها عَميّ وخالي

ولو كفي اليمين بغتك خوفاً ... لأفردت اليمين من الشمالِ ألا ترى أنه يعلم، إذا عرفت القافية في البيت الأول، أن في البيت الثاني يكون ذكر الشمال. وقال البحتري: أحلّتْ دمي من غير جُرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي فليس الذي حَلَّلتِهِ بمحلَّلٍ ... وليس الذي حرَّمتِهِ بحرامِ فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الاول، والمصراع الأول من البيت الثاني منه (أن عجزه هو ما) قاله البحتري، فاعرف ذلك، وقس عليه. ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: (وما كان الناسُ إلا أمةً واحدةً فاختلفوا، فلولا كلمة سَبَقَتْ من ربك لَقُضي بينهم فيما فيه يختلفون). فإذا وقف السامع على قوله (فيما فيه) عرف أن بعده (يختلفون) لما تقدم من الدلالة عليه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (ومنهم من خَسَفنا به الأرض، ومنهم من أغرَقْنا، وما كان الله ليَظْلمَهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). وعلى نحو منه ورد قوله - عز من قائل - (كمثل العَنكبوت اتّخَذتْ بيتاً، وإنَّ لأوهَنَ البُيوت لَبَيْتُ العنكبوت) فإذا وقف السامع على قوله: (وإن أوهن البيوت) يعلم أن بعده (لَبَيْتُ العَنْكبوت).

وأمثال هذا كثيرة فاعرفها؛ إلا أن أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع (التوشيح)، وليس كذلك لأن تسميته: (الأرصاد) أولى، وذلك حيث ناسب الاسم مسماه ولاق به. وأما (التوشيح) فهو نوع آخر من التأليف وسيأتي ذكره في بابه. واعلم أنه قد اختلف أرباب هذه الصناعة في تسمية أنواع علم البيان، حتى إن أحدهم يضع لنوع واحد اسمين، اعتقاداً منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان، وليس الأمر كما وقع له بل هما نوع واحد. فممن فعل ذلك (الغانمي) فإنه ذكر في كتابه باباً من أبواب علم البيان وسماه (التبليغ) وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاماً من غير أن يكون للقافية فيما ذكر صنع، ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها حتى يتم وزنه، فيبلغ بذلك الغاية القصوى (في الجودة)، كقول امرئ القيس: - كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزعُ الذي لم يُثقَّبِ فأنه قد أتى بالبيت كاملاً قبل القافية ثم جاء بها، بلغ بها الأمد الأقصى في التأكيد. ثم إنه ذكر بعد هذا الباب باباً آخر وسماه (الإشباع) فقال: هو أن يأتي الشاعر بالبيت معلقاً بالقافية على آخر أجزائه، ولا يكاد يفعل ذلك إلا حذاق الشعراء: وذلك أن الشاعر إذا كان بارعاً جلب بقدرته وذكائه وفطنته إلى البيت، وقد تمت معانيه واستغنى عن الزيادة فيه، قافية متممة لأعاريضه ووزنه، فجعلها نعتاً للمذكور، كقول ذي الرمّة: - قف العيس من أطلال مية فاسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل

هذا الكلام الغانمي بعينه، والبابان المذكوران سواء، لا فرق بينهما بحال من الأحوال، والدليل على ذلك أن بيت امرئ القيس يتم معناه قبل الإتيان بقافيته. وكذلك بيت ذي الرمة. ألا ترى أن امرأ القيس لما قال: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع. . . . . .) أتى بالتشبيه قبل القافية؟ ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهو قوله: (لم يثقب)؟! وهكذا ذو الرمة فإنه لما قال: - قف العيس في أطلال مية فاسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء. . . أتى بالتشبيه أيضاً قبل الإتيان بالقافية. ولما احتاج إليها أتى بزيادة حسنة؛ وهو قوله: (المسلسل). واعلم أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين القسمين بعينهما (الإيغال). وقال: هو أن يستوفي (الشاعر) معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ثم يأتي بالمقطع فيزيد فيه معنى آخر. وأصل (الإيغال) من (أوغل في الأمر، إذا أبعد في الذهاب فيه). ثم مثل أبو هلال ذلك بقول ذي الرمة: (قف العيس. . . . . .) وهذا أقرب أمراً من الغانمي، لأنه ذكره في باب واحد، وسماه باسم واحد: ولم يذكره في باب آخر، كما فعل الغانمي - رحمة الله - وليس الأخذ على الغانمي في ذلك مناقشة على الأسماء وإنما المناقشة له على ينتصب لا يراد علم البيان، وتفصيل أبوابه. ويكون أحد الأبواب التي ذكرها داخلاً في الآخر، فيذهب عليه ذلك، ويخفى عنه، وهو أشهر من فلق الصبح.

النوع الثامن والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني

النوع الثامن والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في التوشيح وهو أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين. فإذا وقف من البيت على القافية الأولى، كان شعراً مستقيماً من بحر على عروض. وإذا أضاف إلى ذلك ما بني عليه شعره من القافية الأخرى، كان أيضاً شعراً مستقيماً من بحر آخر على عروض، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى كالوشاح، فمن ذلك قول بعضهم: أسلم ودمت على الحوادث مارسا ... رُكنْا ثَبيرٍ أو هضابُ حِراءِ ونل المراد ممكّناً منه على ... رغم الدهور وفز بطول بقاء وهذا من محاسن صناعة التأليف فاعرفه، ألا ترى إلى هذين البيتين يذكران على قافية أخرى وبحر آخر، نحو قولنا: أسلم ودمت على الحوا ... دث مارسا ركنا ثبير ونل المراد ممكّناً ... منه على رغم الدُّهور وأمثال هذا كثيرة، فاعرفه، إلا أن فيه نوع إشكال، وصعوبة. النوع التاسع والعشرون من الباب الأول من الفن الثاني في الأخذ والسرقة والإشارة إلى الجيد من ذلك الذي لا بأس به. والرديء الذي لا فسحة في استعماله. لأنه عيب في الكلام فاحش. اعلم أنه لا يخلو المؤلف السارق معنى من المعاني المسبوق هو إليها من أحد قسمين. إما أن يذكر ذلك المعنى بلفظه من غير تغيير له، وهذا يسمى (النسخ) مأخوذاً من (نسخ الكتاب: إذا نقله على هيئته وصورته). وإما أن يغير لفظه الأول، ويبدله بغيره. وهو ضربان: أحدهما أن يخرجه في معرض جميل وهيئة حسنة، وذلك يسمى (السلخ) مأخوذاً من (سلخ جلد الشاة): لأنه أخذ بعض الشيء المسلوخ. والآخر أن يخرجه من معرض رديء وهيئة قبيحة،

فأما القسم الأول وهو (النسخ)

وذلك يسمى (المسخ) مأخوذاً من (مسخ الصورة صورة أخرى دونها) كما مسخ الله الآدميين قردة. فأما القسم الأول وهو (النسخ) فإن أرباب هذه الصناعة يسمونه (وقوع الحافر على الحافر) كقول امرئ القيس: وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم ... يقولون لا تهلِك أسىً وتحمّل وقول طرفة بن العبد البكري: وقوفاً بها صحبي عليّ مطيَّهم ... يقولون لا تهلك أسىً وتجلَّد والأخذ إذا كان كذلك كان معيباً وأن ادعى الآخر، أنه لم يسمع قول الأول، بل وقع له كما وقع لذلك؛ فإن صحة ذلك لا يعلمها إلا الله - عز وجل - والعيب لازم للآخر في ظاهر المر وإن كان فيما ادعاه صادقاً. ولعمري إن القوم إذا كانوا من قبيلة واحدة فإن خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم وشمائلهم تكون متقاربة، إلا أن الظاهر ما قلناه فإنه ليس لنا، إلا الظاهر، والله يتولى السرائر. فاعرف ذلك. واعلم أن من هذا القسم الذي هو (النسخ) ما يعمد المؤلف الآخر فيأخذ ما ذكره المؤلف الأول، لفظاً ومعنى، ولكنه يغير هيئة ذلك؛ بتقديم بعض الألفاظ التي كانت مقدمة في الأول. وذلك أيضاً من قبيح الأخذ وفاحشه. أو أن المؤلف الآخر يأخذ المعنى من المؤلف الأول ويأتي على أكثر ألفاظه، غير تارك منها إلا القليل. وهذا مما يقبيح ذكره ولا يجوز استعماله. وأما القسم الثاني وهو ضربان: الأول: (السلخ) ولا عيب فيه لأحد من أرباب التأليف (فليس للمؤلف) غنى عن تناول المعاني ممن تقدمه. ولكن يجب عليه أنه إذا أخذها أن

يكسوها ألفاظاً جميلة ويخرجها في معرض أنيق وصورة حسنة، ويزيد في بداعة تركيبها وجودة تأليفها، فانه إذا فعل ذلك صار أولى بها ممن تقدمه، وأحق بها ممن سبقه إليها. قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهة: (لولا أن الكلام يعاد لنفد). واعلم أن المعاني مشتركة بين أرباب هذه الصناعة وإنما يتفاضلون في تركيبها واختلاف صورها، وقد قيل: (إن أبا عذر الكلام من سبك لفظه على معناه). والمعنى الجيد جيد وإن كان مسبوقاً إليه، وقد أطبق المتقدمون والمتأخرون على تداول المعاني بينهم، وليس على أحد منهم عيب في ذلك إلا إذا أخذ المعنى بلفظه (أخذة) واحدة فأفسده، وقصر فيه عمن تقدمه. وأما إذا أخذه فأبرزه في لباس جميل وركبه تركيباً أنيقاً وأخرجه في معرض جميل حسن فإنه يكون أحق من مبتدعه، فمن ذلك قول بشار: من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج أخذه سلم الخاسر بعده فقال: من راقب الناس مات همّاً ... وفاز باللذة الجسور وهذا البيت أوجز من الأول وأخصر، ولما سمع بذلك بشار قال: (ذهب به ابن الفاعلة) ومن هذا النحو قول بعضهم نثراً (أحق من أثبت لك العذر في حال شغلك من لم يخل ساعة من برك وقت فراغك) أخذه آخر بعده فقال (شكر ما تقدم من إحسانك شاغل عن استبطاء ما تأخر منه) فأني بالمعنى الذي الأول، وزاد عليه زيادة مع الإيجاز والاختصار؛ فأما

الزيادة فهي الذكر والشكر لما أولاه من الجميل وأسداه إليه من الإحسان؛ وذلك واجب ذكره لأنه من فروض الأعيان على المنعم عليه، وأما الإيجاز فهو أن الكلام الثاني اثنتا عشرة كلمة، والكلام الأول سبع عشرة كلمة. ولما جاء أبو نواس صاغ هذا المعنى صياغة أخرى أكثر اختصاراً فقال: - لا تُسدينَّ إليَّ عارفةً ... حتى أقومَ ببعض ما سلفا وذلك من بديع هذا الباب. ومما ورد من هذا الأسلوب قول العرب: (القتل أنفى للقتل) فجاء القرآن الكريم بهذا المعنى وزاد عليه أشياء عجيبة فقال تعالى: (ولكم في القصاص حياة). فما زادت به الآية على قول العرب: أنه ليس كل قتل ينفي القتل، وإنما القتل الذي ينفي القتل ما كان على وجه القصاص والعدل. ففي ذكر الحياة من إيضاح المعنى المرغوب ما ليس في قول العرب: (القتل أنفي للقتل). ومن ذلك أن قوله تعالى: (. . . القصاص حياة) نظير قولهم: القتل أنفي للقتل، و (القصاص حياة) أوجز وأخصر لأن (القصاص حياة) عشرة أحرف، و (القتل أنفي للقتل) أربعة عشر حرفاً، ومن ذلك أن في قولهم: (القتل أنفي للقتل) تكريراً يثقل النطق به على اللسان؛ وليس في قوله تعالى: (القصاص حياة) تكرير. فهذه أربع زيادات تفضل بها الآية على قول العرب؛ وكذلك أيضاً قول بعض الأعراب: - فحيّ ذوي الأضغان تسب عقولهم ... تحيةَ ذي الحسنى وقدُ برفع النفل وإن دَحسوا بالقول فاعفُ تكرماً ... وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل

فإن الذي يؤديك منه سماعه ... وإنّ الذي قالوا وراءك لم يُقَّل فورد في القرآن الكريم هذا المعنى المذكور في كلمات مختصرات، وهي قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). ألا ترى إلى هذه الآية (فهي) حاوية للمعنى المشار إليه في الأبيات مع الإيجاز، فهو أن الشاعر ذكر هذه المعاني في ثلاثة أبيت فيها ثلاث وثلاثون كلمة، والقرآن العزيز أتى بالمعنى في آية واحدة فيها ثلاث عشرة كلمة. وأما حسن التركيب فلا خفاء به. ومن جملته المقابلة بين الأضداد نحو ذكر السيئ والحسن، والعدو والصديق. ومن هذا الباب قول النابغة: - إذا ما غزا بالجيش حَلَّق فَوقَهُ ... عصائب طَيْر تهتدي بعصائب جوانح قد أيقنّ أنَّ قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالب أخذ هذا المعنى الأفوه فقال: - وترى الطير على آثارنا ... رأيَ عين ثقةً أنْ ستَمُار فذكر المعاني المشار إليها في بيت واحد، فحاز فضيلة الإيجاز، التي هي أعلى درجات الكلام وصار أحق بذلك المعنى من النابغة، وإن سبقه إليه وتقدمه فيه.

ومما جرى هذا المجرى قول أبي العتاهية: - كم نعمة لا تستقبل بشكرها ... لله في طي المكاره كلمته أخذه أبو تمام فقال: قدُ ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله بعض القوم بالنعم فذر المعنى الذي ذكره أبو العتاهية، وعكسه. وهذا من غرائب ما يوجد في باب الأخذ، فاعرفه. ومن هذا الباب قول أبي تمام أيضاً: - فإن لم يجد في قسمة العمر حيلة ... وجاز له الإعطاء من حسناته لجاد بها من غير شرك بربه ... وأشركهم في صومه وصلاته أخذه المتنبي فقال: فلو يمتهم في الحشر تجدو ... لأعطَوْكَ الذي صَلَّوا وصاموا فأتى بالمعنى الذي ذكره أبو تمام، وزاد عليه بقوله (في الحشر) لأن الإنسان يكون في ذلك اليوم أشد احتياجاً إلى صلاته وصيامه، وأعظم افتقاراً. وأمثال هذا كثيرة فاعرفها. وفد يتساوى المؤلفان في إيراد المعنى باللفظ، كقول بشار:

الضرب الثاني من القسم الثاني وهو (المسخ)

يسقط الطير حيث يلتقط الحبُّ ... وتُغشى منازل الكرماء أخذَهُ غير فقال، ولم يزد عليه شيئاً: يزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزحام وعلى نحو من ذلك قول الآخر: وإن يقوم سوَّدوكَ لحاجةً ... إلى سيد لو يظفرون بسيد الضرب الثاني من القسم الثاني وهو (المسخ) وذلك عيب في الكلام فاحش، فما جاء منه قول الشريف الرضي: أحن إلى ما تضمَن الخُمرْ والحُلي ... وأصدِف عما في ضمان المآزر وقال المتنبي: أني على شغفي بما في خُمْرها ... لأعفُّ عما في سراويلاتها ألا ترى إلى هذا المسخ ما أقبحه، وذلك لو تأخر زمان المتنبي عن زمان الشريف الرضي. وبمثل ذلك يعرف التفاضل بين الشاعرين، وبين الكلامين؛ فقول الشريف على ما تراه من اللطافة والحسن، وقول أبي الطيب على ما تراه من الرداءة والقبح، قال تعالى: (وفوق كلّ ذي علم عليم) وأعلم أن ما كان من هذا الباب على سبيل (المسخ) فإنه كان على نحو من قول أبي الطيب، وفيما أشرنا إليه كفاية للمتأمل.

وهذا النوع خاتمة الأنواع من باب الصناعة المعنوية، وذلك مبلغ ما عرفناه من علم البيان، فيما يختص بالمعاني. إلا أني رأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي قد ذكر في كتابه نوعاً آخر فقال: (لا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم، والألفاظ التي تختص بها بعض المهن والعلوم، لأن الإنسان إذا خاص في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ ذلك العلم. و (كلام) أصحاب تلك الصناعة)، ثم مثل ذلك بقول أبي تمام: مودةٌ ذهَبٌ أثمارها شَبَهٌ ... وهمَّةٌ جوهرٌ معروفُها عَرَض وبقوله أيضاً: خرقاء يلعب بالعقول حَبابها ... كتلعُّب الأفعال بالأسماء هذا ما ذكره الخفاجي في كتابه. ولنا عليه اعتراض وهو أنا نقول له: ما الموجب لجعلك هذا القسم مما يرفض ولا يستعمل؟ وما السبب في اجتنابه؟ فإن قال: إني إنما أنكرت استعماله وآثرت تركه واجتنابه، لأنه غير مفهوم. قلنا له في الجواب: لا يخلو الأمر من هذا من حالين: إما إنه غير مفهوم للعامة أو للخاصة. فإن كان غير مفهوم للعامة فقط، فليس جهل العامة بهذا النوع من الكلام داعياً إلى اجتنابه. ولو كان فهم العامة معتبراً في اختيار الكلام لكان ما تبتذله من ألفاظها مقدماً على غيره في الاختيار (لأنهم)

إلى فهمه أقرب من فهم غيره، وذلك شيء مدفوع لا يذهب إليه أحد البتة. وإنْ قال: إن هذا النوع غير مفهوم للخاصة، قلنا له: فأنت أيها الشيخ الإمام قد فهمته وعرفته، ولولا فهمك له ومعرفتك به (لما أنكرته) وإلا فكيف كنت تنكره وتبعث على اجتنابه؟ وهذا يدل على أنك لست من العامة ولا من الخاصة؛ لأنك قد فهمت ما لا يفهمه الفريقان، وذلك من أعجب الأشياء. فإن قال: إني ما أنكرت هذا النوع إلا لأن صناعة التأليف من المنظوم والمنثور لا تستعمل فيها ما ليس من جنسها، قلت له في الجواب: يبطل عليك ذلك باستعمال الفقه من الأحكام السلطانية في المكاتبات، واستعمال الحساب مما يحتاج إليه في الكتابة إلى العمال وأرباب الخراج، واستعمال النجوم في كبس سني الخراج بعضها على بعض، فيكون لما أنكرته أيها الشيخ الإمام من استعمال تلك العلوم أسوة بالفقه والحساب والنجوم. ثم ماذا تنكر من شيء يدل على فضل صاحبه وغزارة علمه؟ أليس من الواجب في صناعة التأليف أن الناظم والناثر ينبغي له أن يستعمل في كل معنى يقصده، ما يليق به وينخرط في سلكه؛ فإن كان ذلك المعنى يحتاج إلى النحو استعمل فيه النحو، وإن كان شيئاً يحتاج إلى الحساب استعمل فيه الحساب، وكذلك باقي العلوم. فإذا أخذ المؤلف معنى يحتاج فيه إلى ذكر أحد هذه العلوم المذكورة ولم يذكره، كان ذلك المعنى ناقصاً عما يحتاج اليه، وهذا ليس بخافٍ على اللبيب المنصف، فاعرفه.

الباب الثاني من الفن الثاني من القطب الثاني في الصناعة اللفظية

الباب الثاني من الفن الثاني من القطب الثاني في الصناعة اللفظية وينقسم إلى سبعة أنواع: النوع الأول في السجع والازدواج وهو تواطؤ الفواصل من الكلام المنثور على حرف واحد اعلم أن السجع قد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة، ولا أرى لذلك وجهاً سوى عجزهم عن الإتيان به وقصورهم عن سلوك مذهبه، وإلا فلو كان مذموماً، كما ذكر، لم ورد في القرآن الكريم؛ فإنه قد أتى منه شيء كثير، كقوله تعالى: (إن الله لمن الكافرين وأعد لهم سعيراً، خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً) وكقوله تعالى في سورة (ق): (بل كذبوا بالحق لما جاءهم، فهم في أمر مريج أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها كل زوج بهيج). وكقوله تعالى: (والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً) إلى قوله: (. . . جمعاً). ومثال ذلك هذا كثيرة فاعرفه. وورد على هذا الأسلوب من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء كثير أيضاً؛ فمن

ذلك ما رواه عبد الله بن سلام قال: لما ورد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أن جفل الناس قبله، وقيل قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت في الناس لأنظر اليه، فلما تبينت وجهه عرفت انه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصّلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا بسلام) فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعضهم منكراً عليه، وقد كلمه بكلام مسجوع: (أسجعاً كسجع الكهّان) ولو أن السجع مكروه لما أنكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجواب عن ذلك أنا نقول: لو كره النبي - صلى الله عليه وسلم - السجع أصلاً لقال أسجعاً؟! ثم سكت، وكان المعنى يدل على إنكار هذا الفعل لِمَ كان، فلما قال (أسجعاً كسجع الكهان؟) صار المعنى معلّقاً على أمر آخر؛ وهو إنكار الفعل لم كان على هذا الوجه، فعلم أنه إنما ذم من السجع ما كان مثل سجع الكهان، لا غير وأنه لم يذمَّ السجع على الإطلاق. ومحال أن يذمه على الإطلاق؛ لأن القرآن الكريم، قد أتى به. وهو - صلى الله عليه وسلم - قد نطلق به في كثير من كلامه، حتى أنه غير الكلمة عن وجهها، اتباعاً لها بأخواتها لأجل السجع؛ فقال لابن ابنته - عليهما السلام -: (أعيذه من الهامة والسامة، وكل عين لامة) وإنما أراد ملمه، لأن الأصل فيها من (ألم فهو ملم)، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليرجعن مأزورات غير مأجورات) طلباً للتوازن والسجع، وهذا من أدل على فضيلة السجع. واعلم أن الأصل في هذا الاعتدال في مقاطع الكلام، والطبع يميل إلى الاعتدال في

جميع الأشياء. وحيث أنهى بنا القول إلى هذا الموضع، فلنتبعه بذكر أقسام السجع، وما يحمد منه في الاستعمال، وما يذم، فنقول: اعلم أولاً: أن السجع لا يحمد على كل حال، ولا في كل موضع، حتى يتوخاه المؤلف في كلامه، بحيث يذهب بفضيلة المعاني لأجله، وذلك أنه إذا صور في نفسه معنى من المعاني، ثم أراد أن يصوغه بلفظ مسجوع، ولم يؤاته ذلك إلا بزيادة على ذلك المعنى، أو نقصان منه، ولا يكون محتاجاً إلى الزيادة ولا إلى النقصان، وإنما يضطر إلى ذلك اضطراراً، لأن المعنى الذي يكون قد قصده يحتاج إلى لفظ يدل عليه، وإذا دلّ عليه بذلك اللفظ لا يكون مسجوعاً، إلا أن يضيف إليه شيئاً آخر، وينقص لأجل الفقرة المطلوبة، فإذا فعل ذلك، فلا بد وأن يزداد الكلام الذي قصده، زيادة لا حاجة إليها، أو ينقص نقصاً لا حاجة اليه، وهذا الذي يذم من السجع ويستقبح، لما فيه من التكلف والتعسف. وأما إذا كان محمولاً على الطبع غير متكلف، فانه يجيء في غاية الحسن، وهو أعلى درجات الكلام. واعلم أن السجع ينقسم إلى ثلاثة أقسام. الأول: أن يكون الفصلان متساويين، لا يزيد أحدهما على الآخر، كقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر) وقوله تعالى: (والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً، فأثرن به نقعاً، فوسطن به جمعاً). ألا ترى كيف جاءت هذه الفصول متساوية الأجزاء حتى كأنها خرطت في قالب واحد؟ وأمثال ذلك في القرآن الكريم (كثيرة)، وهو أشرف السجع منزلةً، وأعلاه درجةً للاعتدال الذي فيه. القسم الثاني: أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول، لا طولاً يخرج به عن الاعتدال خروجاً كثيراً، فإنه يقبح عن ذلك ويستنكره، فمن جيد هذا القسم قوله تعالى: (بل

كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمرٍ مريج، أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج). ألا ترى أن الفصل الأول تسع كلمات، والفصل الثاني اثنتا عشرة لفظة، والفصل الثالث إحدى عشرة لفظة؟ ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة مريم: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئاً إدّاً تكادُ السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، أن دَعوْا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذَ ولدا). . . إلى قوله: (. . . وتُنذِرَ به قوماً لُدّا) وأمثال هذا في القرآن كثيرة، فاعرفها: القسم الثالث: أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول وهو عيب عند أرباب هذه الصناعة فاحش. وسبب ذلك أن السمع يكون قد استوفى مدة من الفصل الأول بحكم طوله، ثم يجيء الفصل الثاني قصيراً عن الأول، فيكون كالشيء المبتور، فيبقى الإنسان عند سماعه كمن يريد المضي إلى غايةٍ فيعثر دونها. وإن شك أحدٌ فيما أشرنا إليه من هذا المثال، فليصنع فصلين من الكلام وليكن الأول منها أطول من الثاني، ثم يعرضهما على نفسه؛ فانه يجد صحة ما ذكرناه. واعلم أن التصريع في الشعر بمنزلة السجع في الفصلين من الكلام المنثور، وفائدته في الشعر أنه يفهم منه قبل كمال البيت الأول من القصيدة قافيتها، وشبّه البيت المصرَّع بباب له مصرعان متشاكلان، وقد فعل ذلك القدماء والمحدثون وفيه دلالة على سعة القدرة، وفسحة المجال في أفانين الكلام. فأما إذا كَثُرَ التصريع في القصيدة فلست أراه مختاراً، لأن هذه الأصناف من التصريع،

والتصريع، والتجنيس، وغيرهما، إنما يحسن منها في الكلام ما قلَّ وجرى مجرى اللمعة وكان كالطراز في الثوب، فأما إذا تواتر وكثر فإنه لا يكون مرضياً لما فيه من إمارات الكلفة. وقد استعمل التصريع كثيراً أمرؤ القيس، فمما جاء منه في شعره قوله: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقطِ اللّوى بين الدخول فحومل ثم قال: أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي ثم قال: ألا يا أيها الليلُ الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وقال حاتم بن عبيد الله الطائي: أتعرف أطلالاً ونؤياً مهدَّماً ... كخطك في رّقٍ كتاباً منمماً ألا لا تلوماني على ما تقدما ... كفى بصروف الدهر للمرءِ محكما وهذا وأمثاله هو التصريع الحسن المشار إليه في هذا الباب، لأنه بكلمتين غير بن، وأما التصريع بكلمة واحدة فغير لائق وإن جائزاً كقول بعضهم: فكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب وأمثال هذا كثيرة فاعرفه.

النوع الثاني من الباب الثاني في التجنيس

النوع الثاني من الباب الثاني في التجنيس اعلم أن التجنيس غرة شادخة في وجه الكلام، وقد تصرف العلماء من أرباب هذه الصناعة فيه فغرّبوا وشرّقوا، ولا سيما المحدثين، منهم من صنف للناس فيه كتباً كثيرة وجعلوه أبواباً متعددة، واختلفوا في ذلك (وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض فمنهم) عبد الله بن المعتز وأبو علي الحاتمي وأبو القاسم الآمدي والقاضي أبو الحسن الجرجاني، وقدامة بن جعفر الكاتب وغيرهم، وأفاضوا فيه وأطالوا القول في شرحه. وإنما سمي هذا النوع من الكلام مجانساً، لأن الكلام يكون تركيبه من جنس واحد. واعلم أن التجانس ينقسم إلى سبعة أقسام: الأول وهو أشرفها وأعلاها قدراً، وذلك إذا تساوت لألفاظ الكلام في تركيبها ووزنها ويسمى (التجنيس المطلق)، كقوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) وليس في القرآن الكريم من هذا القسم من التجنيس سوى هذه الآية، فاعرفها. ومن ذلك أيضاً قول بعضهم:

ومري سوابق دمعها فتوا كفت ... ساق يجاذب فوق ساق ساقا وكذلك أيضاً قول أبي إسحاق بن عثمان المغربي: لم يبق غيرَك إنسان يلاذُ به ... فلا بَرحْتَ لعين الدهر إنسانا فهذا هو التجانس البديع الذي هو أعلى المراتب وأسمى المنازل. وقال الآخر: وإذا البلابل أطربت بديلها ... فانف البلابل باحتساء بلابل وقال الآخر: هل لما فات من تلافٍ تلافي ... أو لشاكٍ من الصبابة شاكي وقال الآخر: لقائك يدني من المُرتجى ... وبفتح باب الهوى المُرتجا وأمثال هذا كثيرة كقول بعضهم: قلت للقلب ما دهاك أجبني ... قال لي بائع الفراني فراني ناظراه فيما جنى ناظراه ... أودعاني أمُتْ بما أودعاني

وعلى هذا الأسلوب جاء قول بعضهم: إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراقَ دمي ورأيت الغانمي - رحمة الله - قد ذكر في كتابه باباً وسماه (رد الأعجاز على الصدور) خارجاً عن باب التجنيس، وهو ضرب منه وقسم من جملة أقسامه كالذي نحن بصدد ذكره هاهنا. فمما أورده الغانمي من الأمثلة في ذلك قول بعضهم: ونشري بجميل الصن ... ع ذكراً طيب النشر ونفري بسيوف الهن ... د من أسرف في النفر ونجري في شرا الحمد ... على شاكلة النجر ومن ذلك أيضاً قول بعضهم في الشيب: - يا بياضاً أذرى دموعي حتى ... عاد منها سوادُ عيني بياضا وكذلك قول الزمن البحتري: - وأغرَّ في الزَّمن البهيم مُحجَّلٍ ... قد رحت منه على أغرَّ مُحجَّل كالهيكل المبنيَّ إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل وليس الأخذ على الغانمي في ذلك مناقشته على الأسماء وإنما المناقشة له على أنه

القسم الثاني من النوع الثاني في التجنيس

ينتصب لإيراد علم البيان وتفصيل أبوابه، ويكون أحد الأبواب التي ذكرها داخلاً في الآخر؛ فيذهب عليه ويخفى عنه، وهو أشهر من فلق الصباح. القسم الثاني من النوع الثاني في التجنيس وهو أن تكون الألفاظ متساوية التراكيب، مختلفة الوزن، وذلك دون الأول في المنزلة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي). ألا ترى إلى (أن) هاتين اللفظتين متساويتان في التراكيب مختلفتان في الوزن، لأنه تركيب (الخلق) و (الخلق) من ثلاثة أحرف هي الخاء واللام والقاف إلا أنهما قد اختلفا في الوزن إذ وزن الخلق، (فعل) ووزن الخلق (فعل)، ومن هذا القسم قول بعض الكتاب في صفة كتاب وصل إليه من صديق له: (فللزهر والزهر من نور بداعته، ونور براعته إشراق). وكذلك قول بعضهم: (لا تنال غرر المعالي إلا بركوب الغرر واهتبال الغرر). وقال ابن العميد: قد ذُبت غير حشاشة وذَماء ... ما بين حَر هوى وحَرَّ هواءِ وأمثال هذا كثيرة، فاعرفها.

القسم الثالث من النوع الثاني من التجنيس

القسم الثالث من النوع الثاني من التجنيس وهو أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير. فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس وهذا القسم دون الذي مثله في المنزلة. فمن ذلك قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة). ألا ترى أن وزن هاتين اللفظين واحد، وأما تركيبها فانه مختلف؛ لأن تركيب (ناضرة) من النون والضاد والراء، وتركيب (ناظرة) من النون والظاء والراء: وكذلك قوله تعالى: (ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون). وقال تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد). وعلى نحو من هذا ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة). وقال أبو تمام: يمدّون من أيد عواِص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب وقال البحتري: من كل ساجي الطرف أغيد أجيدٍ ... ومهفهفِ الكشحين أحوى أحور وقال بعضهم (لا تنال المكارم إلا بالمكاره). وأشباه ذلك كثيرة لا تحصى.

القسم الرابع من النوع الثاني من التجنيس

القسم الرابع من النوع الثاني من التجنيس وهو أن تكون الألفاظ مختلفة في الوزن، مختلفة في التركيب بحرف واحد كقوله تعالى: (والتفّت السّاقُ بالساقِ إلى ربِّك يومئذ المساق) وقال - عز اسمه - (وهم يَحسَبونَ أنهم يُحسِنونَ صنعاً). ومن هذا القسم قول البحتري: نسيم الروض في ريح شمال ... وصوبُ المزنِ في راح شمول وذم أعرابي رجلاً فقال: (كان إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوَّف، يحسد على الفضل، ويزهد في الافضال). وقال بعض الشعراء: - تقاصرت همم الأملاك عن ملك ... أضحى الثناء عليه وهو مقصور فوفره بين أيدي العرف منتهب ... وعرضهُ عن لسان الذم موفور وأمثال هذا كثيرة في التأليف. القسم الخامس من النوع الثاني من التجنيس وهو المعكوس وهو ضربان: أحدهما عكس الألفاظ، والآخر عكس الحروف. فالأول كقول بعضهم: (عادات السادات سادات العادات). وكقول الآخر: (شيم الأحرار أحرار الشيم) وقيل للحسن بن سهل: (لا خيرَ في السرف)، فقال: (لا سرف في الخير) فرد اللفظ واستوفى المعنى، وفي هذا القسم قول عتّاب بن ورقاء:

إن الليالي للأنام مناهل ... تُطوى وتُنْشَرُ دونها الأعمال فقصارهنّ مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السُّرور قصار وقال الآخر: كم من حمار على جَوادٍ ... ومن جَوادٍ على حمار وهذا ضرب من التجانس له حلاوة ورونق، فاعرفه، وقد سماه قدامة بن جعفر الكاتب (التبديل). وذلك اسم مناسب لمسماه لأن المؤلف يأتي بما كان مقدماً في جزء كلامه الأول مؤخراً في الثاني، وبما كان مؤخراً في الأول مقدماً في الثاني ومثله قدامة بقول بعضهم: (أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك) ومن هذا القسم قوله تعالى: (يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي) وقوله - تعالى - (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده). وقال بعضهم: تلك الثنايا من عِقدها نظمت ... أم نظم العقْدُ من ثناياها وأشباه ذلك كثيرة فاعرفها. وأما الضرب الثاني من القسم وهو (عكس الحروف) فكقول بعضهم: أهديت شيئاً يقل لولا ... أحدوثة الفأل والتبركْ كرسي تفاءلت فيه لما ... رأيت مقلوبه (يسرُّك) وكذلك قول الآخر: كيف السرور بإقبال وآخرُهُ ... - إذا تأملته - مقلوب إقبال وهذا الضرب نادر الاستعمال؛ لأنه قلما تقع كلمة تقلب حروفها فيجيء معناها صوابا، فاعرف ذلك.

القسم السادس من النوع الثاني في التجنيس وهو المجنب

القسم السادس من النوع الثاني في التجنيس وهو المجنَّب وذلك أن يجمع المؤلف بين كلمتين: إحداها كالتبع للأخرى والجنيبة، كقول بعضهم: أبا العباس لا تحسبْ لساني ... لشيء من حُلي الأشعار عاري فلي طبع كسلسالٍ معينٍ ... زلال من ذرى الأحجار جاري وهذا القسم له رونق وطلاوة، فاعرفه. القسم السابع من النوع الثاني من التجنيس وهو ما تساوى وزنه وتركيبه، غير أن حروفه تتقدم وتتأخر، وذلك كقول أبي تمام: بيض الصفائح لا سودُ الصحائف في ... مُتونِهُنَّ جلاء الشك والريِّبِ وأمثال هذا كثيرة، فاعرفه. النوع الثالث من الباب الثاني في الترصيع وهو نوع من علم البيان وعر المسلك قلما يختلُ المؤلف بشرك فكره أوابد ألفاظه، وأصله من (ترصيع العقد) وذلك أن يكون في إحدى جانبي العقد من اللآلئ والجواهر مثل ما في الجانب الآخر، ولذلك جعل هذا في الكلام، وهو أن يكون كل لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الفصل الثاني في الوزن والقافية، وهذا هو أعلى درجات الترصيع وأصعبها مراماً. وأعلم أن علماء هذه الصناعة قد جعلوا الترصيع منقسماً إلى قسمين: أحدهما ما ذكرناه، والآخر أن يكون أحد ألفاظ الفصل الأول مخالفاً لما يوازنه من ألفاظ

القسم الثاني. فالقسم الأول كقول الحريري في مقاماته: (فهو يَطْبَعُ الأسجاع بجواهر لفظه، (ويقرع الأسماع بزواجر وعظه، فانه جعل ألفاظ الفصل الأول) مساوية للألفاظ الفصل الثاني وزناً وقافيةً، فجعل (يطبع) بازاء (يقرع) و (الأسجاع) بازاء (الأسماع) و (جواهر) بازاء (زواجر) و (لفظه) بازاء (وعظه)، وهذا هو الكلام السهل الممتنع الذي تخاله قريباً وهو بعيد المنال، عسير الحصول. وقد ورد هذا القسم كثيراً في الخطب التي أنشأها الشيخ الخطيب عبد الرحيم ابن نباتة، فمن ذلك قوله في أول خطبة: (الحمد لله، عاقد أزمة الأمور بعزائم) (أمره)، وحاصد أئمة الغرور بقواصم مكره، وموفق عبيده لمغانم ذكره، ومحقق مواعيده بلوازم شكره). ومن ذلك قوله في ذكر الزمان وتقلبه بأهله: (أولئك الذين أفلوا فنجمتم، ورحلوا فاقمتم، وأبادهم الموت، كما علمتم، وأنتم الطامعون في البقاء بعدهم، فيما زعمتم، كلا والله ما أشخصوا لتقروا، ولا نغصوا لتسروا، ولا بد أن تمروا حيث مروا، فلا تثقوا بخدع الدنية، ولا تغتروا). ومن ذلك ما جاءنا فيبعض خطبه: (أيها الناس، أسيموا القلوب في رياض الحكم، وأديموا النحيب على ابيضاض اللمم، واطلبوا الاعتبار بانتقاض النعم، وأجيلوا الأفكار في انقراض الأمم). وأمثال هذا في كلامه كثيرة، وأما ما ورد على نحو ذلك نظماً، فقول ذي الرُمّة: كحلاء في برَج صفراء في دَعَج ... كأنها فضةٌ قد شابها ذهب

القسم الثاني من النوع الثالث من الترصيع

وهذا القسم قليل الاستعمال في الشعر جداً، فاعرفه إن شاء الله. القسم الثاني من النوع الثالث من الترصيع وهو أن يكون أحد ألفاظ الفصل الأول مخالفاً لما يوازيه من الفصل الثاني، وذلك كقول تأبط شراً: حمال ألوية، شهاد أندية ... قوال محكمة جواب آفاق ألا ترى أن (ألوية) مثل (أندية) في الوزن والقافية، ولكن حمال لا يماثل (شهّاد) قافية وإنما يماثله وزناً، وكذلك (قوال) موازن (لجواب) و (محكمة) لا يوازن (آفاق) ومن هذا القسم أيضاً قول الخنساء: حامي الحقيقة محمود الخليقة مه ... ديّ الطريقة نفاع وضرار وكذلك قول الآخر: سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت من الكرم وأمثال هذا كثيرة فاعرفها إن شاء الله تعالى. النوع الرابع من الباب الثاني في لزوم ما لا يلزم وهو نوع من أشق هذه الصناعة مذهبا، وأوعرها طريقاً، لأن المؤلف يلزم في تأليفه مالا يجب عليه ليدل به على قوته في الصنعة، واتساع باعه فيها، وانطلاق عنانه. وقد جمع أبو العلا (أحمد بن) عبد الله بن سليمان في ذلك فيه الجيد

الذي لا مطلع فوقه، والرديء الذي لا مهوى تحته، وسنذكر من ذلك طرفاً. واعلم أن حقيقة هذا النوع هي: أن تكون الحروف التي قبل رويّ الأبيات من الشعر حرفاً واحداً، وهذا أيضاً موجود في موجود في فواصل الكلام المنثور. ومن أراد معرفة ذلك والاطلاع عليه، فليطلبه من كتاب (اللزوم) لأبي العلاء، وغيره من الكتب المؤلفة في هذا الفن، فإن كتابنا هذا ليس موضوعاً لشرح هذه الأسباب، وإنما وضع لمن عرف الأصل فيها، فنبين له نحن الجيد منها والرديء ونفرق بينهما، ليعلم أين يضع يده في استعمال ذلك واطراحه. فمهما جاء في هذا الباب قولي في حصار قلعة: (فلما رأونا بساحتهم حاضرين، ولهم في عقر دارهم حاصرين، وهم من بأسنا حذرين، تنادوا: الاساء صباح المنذرين). ألا ترى إلى الفقرتين الآخرتين كيف قد لزم فيهما (الذال والراء) نحو (حذر ومنذر)، وأما الفقرتان الأوليان فليستا من هذا القبيل، لأنه يجب أن يكون بازاء (حاضر) كلمة أخرى في آخرها ضاد وراء، إلا أن ذلك كأنه شبيه بما لا يلزم، والسبب فيه ورود الياء والنون المختصة بالجمع بعد الراء، ولو كان هذا معتبراً في لزوم ما لا يلزم، لوجب أن يكون التأثير للياء والنون، من غير نظر إلى ما قبلهما. وعلى هذا التقدير فلو قال القائل (فلما رأونا بساحتهم نازلين، ولهم في عقر دارهم حاصرين)، لكان ذلك من باب لزوم ما لا يلزم. وهذا مما لم يذهب إليه أحد. وإنما الأصل ما أشرنا إليه أولا فاعرفه. واعلم أنه متى صغرت الكلمة الأخيرة من الشعر والكلام المنثور، وجب أن يصغر الباقي اتباعاً للوزن. فمن ذلك قولُ بعضهم: عزّ على ليلى بذي سُدَير ... سوءُ مَبيتي ليلة الغُميَر مقبضاً نفسي في طُمير ... تنتهض الرعدة في ظهيري يهفو إلي الزّورُ من صديري ... ظمآن في ريح وفي مُطير

وأزرقي ليس بالقدير ... من لد ما ظهر إلى سحير حتى بدت لي جبهة القمير ... لأربع خلون من شهير ألا ترى هذا الشاعر، كيف لزم التصغير في هذه الأبيات جميعها؟ فإن ذلك من محاسن الصنعة فاعرفه. واعلم أنا لا نبعث المؤلف على استعمال هذا القسم من الكلام حتى يجيء به متكلفاً وحشياً فيكون قد قصد جودة الصنعة وإظهار القدرة عليها، والقوة فيها، فيلقيه ذلك فيما يستكره من الألفاظ، وتعافه الأسماع. وما مثل المتكلف لهذا الضرب من الكلام حتى يأتي به في صورة قبيحة، إلا مثل الصائغ الذي يأخذ مصوغاً ردياً فيجيد فيه عمله، ويخرج فيه بديع صنعته فيكون عند ذلك قد رعى الفرع، وأهمل الأصل، فتذهب جودة الصنعة فيه رداءة المصوغ. وأما إذا أتى المؤلف بهذا الضرب من الكلام غير متكلف ولا وحشي كان له رونق وطلاوة، وقد استعمل ذلك أبو العلا المعري في كتابه فأتى منه بشيء ينبو عنه الطبع كقوله في قافية التاء مع الخاء: بِنتُ عن الدنيا ولا بنت لي ... فيها ولا عرسٌ ولا أُختُ وقد تحملتُ من الوزر ما ... تعجز أن تحمله البُخت إن مدحوني ساءني مدحهم ... وخلت أني في الثرى سُخت وقال في الخاء المضمومة مع الباء: لا يفقدن خيركم مجانسكم ... ولا تكونوا كأنكم سَبَخُ

ولا كقوم حديث يومهم ... ما (أكلوا) أمسهم وما طبخوا وأمثال هذا كثيرة في كتابه، وله من ذلك البديع النادر الذي تتقاصر دونه الفصحاء كقوله: ليل بلا نور أجن بمهمه ... حبس الأدلة ليس فيه منار وهي الحياة؛ فعفة أو فتنة ... ثم الممات فجنة أو نار وقال: يلقاك بالماء النمير الفتى ... وفي ضمير النفس نارٌ تَقِد يعطيك لفظاً ليناً مسُّهُ ... ومثل حد السيف ما يعتقد وقال أيضاً: تنازع في الدنيا سواك وماله ... ولا لك شيء في الحقيقة فيها ولكنها ملك لربٍ مقدّر ... يعير جنوب الأرض مرتد فيها ولم تحظ في ذاك النزاع بطائل ... من الأمر إلا أنْ تعد سفيها أيا نفس لا تعظم عليك خُطوبها ... فمتفقوها مثل مختلفيها تداعوا إلى النزر القليل فجالدوا ... عليه وخلَّوها لمغترفيها وما أمُّ صل أو حليلة ضيغم ... بأظلم من دنياك فاعترفيها تلاقي الوفود القادميها بفرحة ... وتبكي على آثار منصرفيها ولم يتوازن في القياس نعيمها ... وسيئة أودت بمقترفيها وما هي إلا شاكية ليس عندها ... وجدَّك أرطابٌ لمخترفيها

كما نبذت للطير والوحش رازم ... فالقت شروراً بين مختطفيها تناءت عن الإنصاف من ضيم لم يجد ... سبيلاً إلى غايات منتصفيها فأطبق فماً عنها وكفاً ومقلةً ... وقل لغوي الناس فاك لفيها كأن التي في الكأس يطفو حبابها ... سمام حباب عند مرتشفيها وله من جملة قصيدة: أرى الدنيا وما وصفت ببر ... إذا أغنت فقيراً أوهقته إذا خُشيت لشر عجلته ... وإن رُجيت لخير عوقته حياة كالحبالة ذات مكر ... ونفس المرء صيدٌ أعلقته وأنظر سهمها قد أرسلته ... إلي بنكبة أو فوقته فلا يُخدع بحليتها أديب ... وإن هي سورته ومنطقته أذاقته شهياً من جناها ... وصرت فاه عما ذوقته وأمثال هذه كثيرة في شعره، فاعرفها فإنها من محاسن لزموا ما لا يلزم. وعليك أيها المنتصب لاستعمال هذا النوع من الكلام أن تسلك هذا المذهب القويم وتنهج هذا اللقم الواضح، غير متصيد له ولا مكثر منه حتى تخل بالمعنى المندرج تحته وتذهب برونقه وطلاوته. وقد ورد من هذا الباب قول طرفة بن العبد: ألم تر أن المال يكسب أهلهُ ... نضوحاً إذا لم تعط منه نواسبه أرى كل مال لا محالة ذاهباً ... وأفضله ما ورث الحمدَ كاسبهْ

النوع الخامس من الباب الثاني في الموازنة

ألا ترى ما أحسن هذا الأسلوب، وألطف مأخذه، وعلى متنه ينبغي أن يكون الاستعمال فاعرفه. النوع الخامس من الباب الثاني في الموازنة وهي أن تكون ألفاظ الفواصل من الكلام المنثور متساوية في الوزن، وذلك نوع من التأليف شريف المحل، لطيف الموقع، وللكلام به طلاوة ورونق، وسبب ذلك الاعتدال، لأنه مطلوب في جميع الأشياء. وحيث كانت مقاطع الكلام معتدلة في الوزن لذ بها السمع ووقعت من القلب موقع الاستحسان، وهذا لا مراء فيه بحال من الأحوال لبيانه ووضوحه. فمما جاء من ذلك قوله تعالى: (وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم) وكذلك قوله تعالى: (قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن، أفعصيت أمري قال يبنؤّم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي). وعلى نحو منه ورد قوله تعالى: (من أعرض عنه فانه يحمل يوم القيامة وزراً، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً). ومن هذا الأسلوب قوله تعالى: (يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا مَن أذن له الرحمن ورضي له قولاً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً). وعلى هذا المنهج جاء قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيهُ وقل ربي زدني علما). ومن ذلك قوله عز وجل: (فقلنا يا آدم

النوع السادس من الباب الثاني في إتلاف صيغ الألفاظ

إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى). وأمثال هذا في القرآن كثيرة، فاعرفه. النوع السادس من الباب الثاني في إتلاف صيغ الألفاظ وهو من صناعة التأليف بمنزلة علية ومكانة شريفة اعلم أن الألفاظ إذا نقلت من أسلوب إلى أسلوب كنقلها من الواحد إلى الجمع أو إلى التثنية، أو إلى التأنيث أو إلى غير ذلك انتقل حسنها وصار قبحاً، أو قبحها وصار حسناً. دليل ذلك؛ أن التاء التي تزاد في آخر الاسم للفرق في الصفة نحو: مقعد ومقعدة. ألا ترى إلى لفظة (مقعد) الدالة على مكان الجلوس تجمع على مقاعد، ولفظة (مقعدة) الدالة على المحل المخصوص من الحيوان تجمع على (مقاعد) أيضاً؛ فإذا وردت هذه اللفظة أعني (مقاعد) في الكلام، والمراد جمع (مقعد) استقبحت لمماثليها لجمع (مقعَدة) وذلك مما يكره ذكره؛ وإذا وردت منفردة برأسها لم تستقبح ولا تستكره، قال الله تعالى: (في مقعد صدق عند مليك مقتدر). ولأجل ذلك لما جاءت لفظة (مقاعد) في القرآن الكريم أضيفت إلى ما لا يحتمل معه الاستقباح، فقال جلّ وعلا: (وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال) ولولا إضافة مقاعد إلى القتال لا ستقبح إيرادها هاهنا. وهذا لا يخفى على من له أدنى معرفة بهذه الصناعة، إلا أن هذا المثال الذي مثلناه لا يطرد فيما هذا سبيله، وإنما يقع في بعض الألفاظ دون بعض، وقد نبهنا عليه في كتابنا ليعرف محله من التأليف. ومن ذلك أيضاً ما أشرنا إليه في صدر الكتاب في باب الألفاظ المركبة وهو أنك ترى

بعض الألفاظ تروقك في كلام ما، وتزداد بها إعجاباً واستحساناً، ثم تراها في كلام آخر فتثقل عليك وتستكرهها؛ مثال ذلك: أن لفظة (الأخداع) قد وردت في بيتين من الشعر، وهي في أحدهما لائقة حسنة، وفي الآخر ثقيلة مستكرهة، كقول الصمة بن عبد الله: تلفتّ نحو الحيَّ حتى كأنني ... وَجِعت من الإصغاء (ليتا) وأخدعا وكقول أبي تمام: يا دهر قومّ من أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك ألا ترى أنه قد وجد لهذه اللفظة في بيت أبي تمام من الثقل على النفس والكراهة أضعاف ما وجدلها في بيت الصمة بن عبد الله من الروح والخفة والإيناس والبهجة!؟ وهذا ما لا يمكن النزاع فيه لظهوره، وليس سبب ذلك إلا ما أشرنا إليه من اختلاف الصيغة؛ ألا ترى أن لفظة (الأخداع) قد جاءت هاهنا موحدة ومثناة، وهي حسنة في حالة الانفراد، مستكرهة في حالة التثنية. وقد يكون ذلك لأمر يرجع إلى التركيب إلى الألفاظ، وذلك أن يكون التركيب مختل النظام، مضطرب الترتيب فتجيء ألفاظه عند ذلك مستكرهة، مستثقلة، لكونها واردة في غير أماكنها، وإن كانت من حيث انفرادها حسنة لائقة. وقد تقدم الكلام على ذلك في باب تركيب الألفاظ، فاعرفه.

النوع السابع من الباب الثاني في تكرير الحروف

النوع السابع من الباب الثاني في تكرير الحروف اعلم أن هذا النوع لا يتعلق بتكرير الألفاظ ولا تكرير المعاني مما سبق ذكره في باب التكرير، لأن تكرار الحروف هو أن يأتي حرف واحد أو حرفان في كل لفظة من ألفاظ الكلام أو في أكثرها، فيثقل على اللسان النطق بها، فمن ذلك ما أشده الجاحظ: وقبر حربٍ بمكان قفرٍ ... وليس قُربَ قبر حربٍ قبر ألا ترى إلى هذه الراءات، والقافات التي في هذا البيت من الشعر؟ فإنها في تتابعها كالسلسلة، ولا خفاء بما على الناطق بها من الكلفة، وليس الكلام العاري من ذلك بمعوز ولا بعزيز، ولا هو بالذي لا يستطيعه إلا الشاعر المبرز أو الكاتب المفلق بل هو مما يصعب النطق به. ولذلك كان الكلام الناس في محاوراتهم، ومكاتباتهم، خالياً من هذا القبيل، وذلك لأنه لا يحصل إلا بالتكلف والقصد للإتيان به، فأما إذا أرسل الإنسان نفسه على سجيتها، وخلى بينها وبين طبعها فإنه لا يعرض له ذلك. فليت شعري أي أمر يضطر مؤلف الكلام حتى يأتي به مستكرهاً ثقيلاً على اللسان، ويترك ما هو أسهل عليه. ألم تعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرار الحروف في كثير من كلامهم؟ وذاك أنه إذا تكررت الحروف عندهم أدغموها استحساناً، فقالوا: في جعل لك. (جعل لك) وفي تضربونني (تضربوني). وكذلك (استعد فلان للأمر) إذا تأهب له والأصل فيه (استعدد)، (واستتب الأمر) إذا تهيأ وكمل (وأصله استتبب) وأشباه هذا كثيرة في كلام العرب، حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرار الحروف أبدلوا أحد الحرفين، لما تكرر، حرفاً آخر غيره فقالوا: أمليت الكتاب) والأصل من ذلك (أمللت) فأبدلوا

(اللام) ياء طلبا للخفة على اللسان، وفراراً من الثقل والاستكراه. واعلم أن ورود الإدغام في هذه اللغة أقوى دليل على كراهة العرب لتكرار الحروف وفيما أشرنا إليه كفاية للمتأمل، فاعرفه. وحيث انتهى بنا الكلام إلى هذا المقام، وفرغنا من جميع الأنواع في علم البيان والأقسام، فلنجعل خاتمة حمد الله على توفيقه، والهداية إلى أقوم طريقة، ونرغب إليه في العصمة من الزلل، والإرشاد في القول والعمل، فإن عثر الناظر في كتابنا هذا على سقطة، أو وقع في أثنائه على هفوة أو غلطة، فليغض عنها إغضاء الصافح، وليسترها ستر المتجاوز المسامح، فإن الكريم من ستر العورة، وأقال العثرة. تم الكتاب بمنه تعالى وقد كتب في آخره: وكان الفراغ من تحرير هـ نهار الثلاثاء عشرين (كذا) من شهر شوال سنة ألف وثلاثمائة وأربعة عشر هجرية (كذا)، على نبينا أفضل الصلاة والسلام وأزكى التحية ونقل هذا الكتاب على ذمة الكتبخانة الخديوية، بخط الفقير الحقير محمود صالح، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين، والحمد لله رب العالمين، آمين.

§1/1