الجامع الصحيح للسيرة النبوية

سعد المرصفي

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م مكتبة ابْن كثير ص. ب: 1106 حَولي 32012 الكويت تليفون: 22631298 - فاكس: 22657046

الْجَامِع الصَّحِيح للسيرةِ النَّبَوِيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 158] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب: 21]

(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! الزهري (كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)! زين العابدين علي بن الحسين (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا, ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)! إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

إهداء

إهداء إلى المهاجرين في سبيل الله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8] إلى أنصار الحق ودعاته، وجنده وحُماته .. الذين يرجون الشهادة في سبيل الله! إلى أصحاب البصائر والأبصار .. الذين يتطلعون إلى آفاق النور والإخاء، والإيثار والفداء، والبذل والعطاء، والحب والنقاء، والود والصفاء، ليعيشوا في أجواء الروح الرفافة الندى والظلال! إلى أهل القرآن .. أهل الله وخاصته .. الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لله أَهلينَ من الناسِ". فقيل: منْ أَهلُ الله منهم؟ قال: "أهلُ القرآنِ هُم أهلُ الله وخَاصّتُه" (¬1)! ¬

_ (¬1) أحمد: 3: 127 - 128، 242، (12279، 12292، 13542) مؤسسة الرسالة، والدارمي: 2: 433، (3590) فتح المنان، والنسائي: الكبرى: 5: 17 (8031)، وابن ماجه: المقدمة (215)، وأبو عبيد: فضائل القرآن: 88، وابن الضريس: فضائل القرآن (75)، والحاكم: 1: 556، (2090) الدرك بتخريج المستدرك، وأبو نعيم: الحلية: 3: 63، 9: 40، والبيهقي: شعب الإيمان (2988، 2989)، والذهبي: ميزان الاعتدال: 2: 549، والخطيب: تاريخ بغداد: 2: 311، والموضح 2: 373، وابن الجوزي: الحدائق: 1: 498، وأبو جعفر النحاس: القطع والائتلاف: 80 - 81. =

إلى الإخوة الأحبّة جُند الحق .. الذين صبروا وصابروا ورابطوا .. وزادتهم المِحنُ منحًا وثَبَاتاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23]! أصدق الناس قولاً، وأجمعهم لُبًّا، وأقواهم عزماً، الجهاد شعارهم، واليقن دثارهم، لا تتغيّر بهم في خشية الله عادة، ولا تملكهم في مخافته هوادة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران: 173]! إلى البراعم المؤمنة، والأجيال القادمة، الذين يأتي الله بهم، على امتداد آباد الزمان، وأبعاد المكان: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54]! إلى الأخُوَّة الزّكيّة، الصافية النقيّة، والمحبّة النديّة، والمودّة الرضيّة، والنفحة العلويَّة، والألفة القدسيّة، التي تنشئ في القلب إدراكاً كاملاً، ونورًا شاملاً، ونبضاً متصلاً، وحياة مباركة، هي سراج ما بطن، وملاك ما علن، تنطف نوراً كأنها قناع رحمة الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]! ¬

_ = وقوله: "إنَّ لِلَّه أهْلين"، قال السندي: بكسر اللام، جمع (أهل) جمع السلامة، والأهل يجمع جمع السلامة، ومنه قوله تعالى: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11]. وإنما جمع تنبيهاً على كثرتهم. "أهل القرآن" أي: حفظة القرآن الذين يقرؤونه آناء الليل وأطراف النهار، العاملون به. "أهل اللهِ" أَي: أولياؤه المختصون به.

{فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]! وهنا يقف الفكر سابحاً مستبحاً، والحسّ مشدوهاً، أمام وقع التصوير والتعبير، والإدراك والتَّقدير، في لمسات وجدانيّة عقليّة، روحيّة فكريّة، فطريّة، نفسيّة، لا يؤثّر فيها إلا الضمير، ولا يطلع عليها إلا اللطيف الخبير .. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يجمعنا الحق جل شأنه في مستقر رحمته: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47]! آمين. إلى هؤلاء وهؤلاء أهدي هذا الكتاب ..

مقدمة

مقدمة

مقدمة 1 - السيرة ومكانتها 2 - في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - 3 - مكانة النبوة والأنبياء 4 - النبوَّة وبناء الحضارة 5 - أعظم دوافع التطوّر 6 - الطفولة الفكريّة 7 - أعظم تراث إنساني 8 - أعظم شهادة 9 - فتح فكري جديد 10 - شمس الوجود الروحي 11 - في علم المغازي خير الدنيا والآخرة 12 - الله أكبر

1 - السيرة ومكانتها

مقدمة ما أحوجنا أن نبصر مكانة السيرة النبويّة .. وأنها تسع الحياة كلها، وأعظم تراث إنساني فريد، وفتح فكري جديد، على مدى التاريخ .. وما يجب أن ندرسه .. ونفقه في معالمها خيَريْ الدنيا والآخرة! وما أحوجنا أن نبصر خصائص الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ومصادر تلك الخصائص، ومناهج المؤلفين قديماً وحديثاً .. والمنهج الأمثل في الدراسة .. وأنه واسع الآفاق، متنوّع المعالم، غزير العوالم .. تسابقت الأقلام في حلبته، تنافست الأفكار في ديباجته! وقد عشت أكثر من نصف قرن في تلك الرحاب .. وقمت بتدريس السيرة في الجامعة سنين؛ مما جعلني بعون الله وتوفيقه أكتب بعد طول مراجعة للمصادر الأصليّة، وفق أصول التحديث روايةً ودرايةً! وسجل التاريخ منذ فجر الرسالة صيحات من هنا وهناك، تشكّل في إطارها سيل منهمر من الحقد الأعمى على خاتم النبين محمد - صلى الله عليه وسلم -، تحيطه جهالة جهلاء، وفوضى عمياء، وأصبحت تلك المفتريات غريزة موروثة، وخاصّة طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلفتها تلك الحرب الضروس في القديم والحديث سواء! 1 - السيرة ومكانتها: وإذا كانت السيرة في اللغة بمعنى الطريقة والسنة، فإنها يراد بها التعرّف على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، منذ ظهور الإرهاصات التي مهّدت

لرسالته (¬1)، وما سبق مولده من سمات تلقي أضواء رحمانية على طريقة الدعوة المحمديّة، ومولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونشأته، حتى مبعثه .. وما جاء بعد ذلك من دعوة الناس إلى (الدّين القيّم) .. وما لقي في سبيل نشر هذا الذين من معارضة، وما جرى بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين من عارضوه من صراع بالبيان والسنان، وذكر من استجاب له - صلى الله عليه وسلم -، حتى علت راية الحق، وأضاءت شعلة الإيمان! إنها نور وهّاج، أفضى إلى ظلمات الجهل والوثنيّة، فانجابت كما ينجاب الغمام، وهدى من الله -عَزَّ وَجَلَّ- أرسله إلى الإنسانيّة الضالّة، فانتشلها من ضياع، وانتاشها من هلاك، وأنقذها مما كانت تتخبّط فيه من دياجير الظلام، وعقابيل الضلال! إن الله عز وجل خلق محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشراً سويًّا، ولكنه فوق سائر البشر، وآثاره التي حملتها الأجيال من بعده فوق القُدَر، ونحن معشر المتبعين كان فينا شرف هذا الاتباع إنما ندرك بالتصوير أمثالنا، ومن خواطرنا ومنازع نفوسنا نتعرف نفوس غيرنا، ونحكم على أحوالهم، وإن حاولنا أن ندرك من هو أعلى منا فإنه يجب أن يكون علوه على مَرأى أنظارنا، وفي مطالع آفاقنا، وعندئذ نحاول، وقد نصل .. ولكن الحديث عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في علو لا نصل إليه، وفي سماك لا نراه، وليس منّا من يقاربه حتى نتمثّله ونتخيّله، فأنّى لأمثالنا أن يكتب في شأنه، وأن يعلو إلى قدره؟! إن ذلك لأمر فوق المنال، ويعلو على مدارك الخيال! ¬

_ (¬1) انظر مقدمة كتابنا: الجامع الصحيح للسيرة النبوّية: 8 وما بعدها، مكتبة المنار الإسلاميّة، ومؤسسة الريّان، ط أولى 1415 هـ - 1994 م.

من أجل هذا نضرع إلى الله -جلّ شأنه- أن يشملنا بغفرانه، إن تسامينا محاولين الوصول إلى الحديث عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمعذرة قائمة، والقصور ثابت، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها! وهنا نحسّ النور يغمر حياتنا، ونشعر بالضوء المنير يكفّ أبصارنا، فأنّى ندرك، وأنّى نرى، وقد صرنا كذي رمد غمره ضوء الشمس، أو ما هو أعلى، فأصابته الحيرة، ولا هادي له يخرجه منها، إلا أن يكون الهُدى من الله، والعون والرشاد، والتوفيق والسداد! ومن ثم نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يهدينا لتصوير حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لتقريبها ما دام التصوير فوق الطاقة، والقاصر معذور، والله -تبارك وتعالى- عفوّ غفور! ومعلوم أن وجوه عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تعدّدت، بحيث يعجز المحصي عن الإحصاء، والمستقري عن الاستقراء! وإذا نفدت الطاقة كان الإقرار بالعجز، وبأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد صانه وحفظه، وتولاه بعنايته، ورعاه برعايته، حتى كان وحيداً بين الغلمان بما كلأه الله به وحماه، وصبيًّا فريدًا بين الصبيان، والشابّ الأمين البعيد عن رجس الجاهليّة بين الشباب، فكل شيء في حياته الأولى كان من الخوارق التي علت عن الأسباب والمسبّبات، فلم تكن أثر تربية موجهة، ولا أثر بيئة حاملة، ولا أثر شرف رفيع وإن كان محقّقاً؛ ولكنه كان صنع الله، تمثّلت فيه المعجزة بشخصه وكونه ووجوده، ففيه البشريّة، وفيه المعجزة الإلهيّة! وصدق الله العظيم: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]!

والرسالة أمر هائل خطير (¬1)، أمر كونيّ تتّصل فيه الإرادة الأزليّة الأبديّة بحركة عبد مصطفى، ويتّصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثّل فيه الحق الكليّ في قلب بشر، وفي واقع حياة، وفي حركة تاريخ، وتتجرّد فيه كينونة بشريّة من حظ ذاتها لتخلص لله، لا خلوص النيّة والعمل وكفى؛ ولكن خلوص المحلّ الذي يملؤه هذا الأمر الخطير، فذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصبح موصولة بهذا الحق ومصدره صلة مباشرة كاملة، وهي لا تتّصل هذه الصلة إلا أن تكون من ناحية عنصرها الذاتي صالحة للتلقّي المباشر بلا عوائق ولا سدود، ولا قيود ولا حدود! وهنا نبصر النبوة أمراً عظيماً حقًّا، ونتصوّر مجرّد تصوّر لحظة التلقّي عظيمة حقًّا (¬2)! هذا الوحي .. هذا الاتصال العجيب .. هذا الاتصال المعجز الذي لا يملك إلا الله أن يجعله واقعاً يتحقق .. ولا يعرف إلا الله كيف يقع ويتحقّق؟! تُرى، أيّة طبيعة هذه التي تتلقّى ذلك الاتصال العلويّ الكريم؟! أيّ جوهر من جواهر الأرواح ذلك الذي يتّصل بهذا الوحي، ويختلط بذلك العنصر ويتّسق مع طبيعته وفحواه؟! إنه إنسان ذو حدود وقيود، وتلك حقيقة .. ولكنها تتراءى هنالك بعيداً بعيداً على أفق عال، ومرتقى صاعد، لا تكاد المدارك تتملاّه! روح هذا النبيّ .. روح هذا الإنسان الكريم .. تُرى، كيف كانت تحسّ بهذه الصلة؟! وهذا التلقّي؟! كيف كانت تتفتّح؟! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1202 بتصرف. (¬2) المرجع السابق: 5: 3171 بتصرف.

2 - حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

كيف كان ينساب فيها ذلك الفيض؟! كيف كانت تجد الوجود في هذه اللحظات العجيبة التي يتجلّى فيها الحق على الوجود، وتتجاوب جنباته كلها بكلمات الحق؟! أيّة رعاية؟! وأيّة رحمة؟! وأيّة مكرمة؟! والله العليّ الكبير يتلطّف فيكرم هذه الخليقة فيوحي إليها لإصلاح أمرها، وإنارة طريقها، وردّ شاردها، والله هو الغنيّ الحميد! 2 - حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفحة عريضة فريدة وحيدة، من صفحات الجهاد لإنقاذ البشريّة، ومثلاً صادقاً فريداً وحيداً لمُثُلِ البرّ والمرحمة، وسيرة عالية، رفيعة الشأن، جليلة القدر، عظيمة النفع، كبيرة الفائدة، تلمع أضواؤها في الكتاب والسنّة وفق قواعد التحديث روايةً ودرايةً، متضمنة نفحات هذا الهُدى، وومضات ذلك الإشراق! وما كان لباحث منصف يسعى إلى إيفاء حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقها من البحث والتحليل، إلا أن يدرك أنها غنيّة بأحداثها، من حيث كونها: - واقعيّة مثاليّة! - حركيّة أخلاقيّة! - قياديّة روحيّة!

- فقهيّة حضاريّة (¬1)! وقد شهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا العالم تعليم الله وهدايته (¬2)، وبشّر الصالحين بالفوز والنجاح، والنجاة والفلاح، فهو (مبشّر)! ونادى الغافلين، وأسمع الصمّ، وحذّر المذنبين عاقبة ذنوبهم، وأنذر المشرفين على الهلاك، وأيقظ النائمن، فهو (منذر)! ودعا إلى الله من ضلّ عن سبيل الحق والهُدى والفوز، فهو (داع)! وإن هو إلا نور يستضاء به إلى يوم القيامة، ونبراس يستنار بأشعّته في شعاب الحياة الملتوية، فتنكشف به الظلمات المتراكمة، فهو (السراج المنير) إلى الأبد! وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب: 45]! نعم، إن جميع الأنبياء كانوا شهداء ودعاة ومبشّرين ومنذرين، بيد أن هذه الصفات لم تكن هكذا في جميع الرسل .. بل كان بعضها في بعضهم أظهر من أخواتها! فقد غلبت على يعقوب وإسحاق وإسماعيل -عليه السلام- صفة الشهادة، فكانوا شهداء الحق! ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: الهجرة النبويّة ودورها في بناء المجتمع الإسلامي: 20 وما بعدها، مكتبة الفلاح، ط ثانية 1409 هـ - 1988 م. (¬2) الرسالة المحمديّة: 42 وما بعدها: السيد سليمان الندوي، دار الفتح، دمشق ط ثالثة 1393 هـ - 1973 م.

3 - مكانة النبوة والأنبياء

وغلبت على إبراهيم وعيسى -عليهما السلام- صفة التبشير، فكانا مبشّريْن! ومن الأنبياء من غلب عليه وصف الإنذار لمن خالف الحق وجحده، فكانوا منذرين، كنوح، وموسى، وهود، وشعيب - عليهم السلام! ومنهم من غلبت عليه صفة الدعوة إلى الحق، وامتاز بها أكثر مما امتاز بسائر النعوت الأخرى، كيوسف ويونس - عليهما السلام! وأما من كان جامعاً لهذه الصفات كلها، واتصف بها جميعاً، وكان مبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، وكانت حياته ملأى بهذه النعوت والشؤون، وسيرته ممتازة بهذه الخصال وتلك الخلال، فهو محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، المبعوث ليختم الله به النبوات؛ فأُعطي الرسالة الأخيرة ليبلغها إلى البشر كافة، وجاء بالشريعة الكاملة التي لا يحتاج البشر معها إلى غيرها, ولن تنزل من السماء إلى الأرض شريعة على قلب بشر بعد هذه الشريعة! لقد حظيت الرسالة المحمديّة بالخلود، واختصّت بالبقاء والدوام إلى يوم القيامة، فكانت نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - جامعةً لجميع الأخلاق العالية، والعادات السنيّة! 3 - مكانة النبوة والأنبياء: والذين يقرؤون كتاب الرسالة المحمديّة: (القرآن العظيم) (¬1) الذي هو أول مصدر من مصادر السيرة النبويّة، قراءة فهم وتدبّر، وبحث متعمّق في معانيه وحقائقه الكونيّة، وعقائده وتشريعاته، ونظمه الاجتماعيّة وأخلاقيّاته، ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 229 بتصرف: محمد الصادق عرجون، دار القلم، دمشق ط أولى 1405 هـ - 1985 م.

ويقرؤون السيرة النبويّة في مصادرها الوثيقة -كما سيأتي- قراءة إمعان وإنصاف، يعلمون أن هذا الكتاب الحكيم، وهذه السيرة الكريمة عُنيا أكثر ما عُنيا في نصوصهما بالنبوّة والرسالات الإلهية، فأشادا بهما، وأعظما شأنهما، وجعلا معرفتهما والإيمان بهما شطر الإيمان الصحيح، فلا تكمل حقيقة إيمان مؤمن - في شرعة هذا الكتاب الكريم، وفي هدي سنة نبيّه الأمين - صلى الله عليه وسلم - إلا بصدق الرسالات الإلهية والإيمان بها، إيماناً لا يفرق بين أحد من رسل الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]! وإيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو إيمان التلقّي المباشر (¬2) .. تلقّي القلب النقي للوحي العلي، واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة .. الحقيقة التي تتمثل في كيانه بذاتها من غير كدّ ولا محاولة، وبلا أداة أو واسطة، وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها، فلا يصفها إلا من ذاقها, ولا يدركها من الوصف -على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك! فهذا الإيمان -إيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يكرم الله عباده المؤمنين فيجمعهم في الوصف مع الرسول الكريم، على فارق ما بين مذاقه في كيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطبيعة الحال وكيان أي سواه، ممن لم يتلقّ الحقيقة من مولاه! ترى، ما حقيقة هذا الإيمان وحدوده؟ {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} [البقرة: 285]! ¬

_ (¬2) في ظلال القرآن: 1: 340 بتصرف.

إنه الإيمان الشامل الكامل الذي جاء به (الدّين القيّم) .. الإيمان الذي يليق بهذه الأمّة الوارثة لدين الله، القائمة على دعوته في الأرض إلى يوم القيامة، الضاربة الجذور في أعماق الزمان، السائرة في موكب الدعوة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وموكب الإيمان الممتد في شعاب التاريخ البشري! وهذا الإيمان قاعدة التصوّر، وقاعدة المنهج الذي يحكم الحياة، وقاعدة الخُلق، وقاعدة الاقتصاد، وقاعدة كل حركة يتحركها المؤمن هنا أو هناك! والإيمان بالملائكة شأنه شأن الإيمان بالحقائق الغيبيّة المستيقنة التي جاءت من عند الله .. وهو يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصوّر المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه، وهو ضئيل، كما أنه يؤنس قلبه بهذه الأرواح المؤمنة من حوله، تشاركه إيمانه بربّه، وتستغفر له، وتكون في عونه على الخير بإذن الله، وهو شعور لطيف ندي مؤنس ولا شك .. ثم هناك المعرفة بهذه الحقيقة، وهي في ذاتها فضل يمنحه الله للمؤمنين به وبملائكته! والإيمان بكتب الله ورسله بدون تفرقة بين أحد من رسله هو المقتضى الطبيعي الذي ينبثق من الإيمان بالله في الصورة التي يرسمها، فالإيمان يقتضي الاعتقاد بصحة كل ما جاء من عند الله، وصدق كل الرسل الذين بعثهم الله، ووحدة الأصل الذي تقوم عليه رسالتهم، وتتضمّنه الكتب التي نزلت عليهم! ومن ثم لا تقوم التفرقة بين الرسل في ضمير المسلم؛ فكلهم جاء من عند الله بالإِسلام، في صورة من الصور المناسبة لحال القوم الذين أرسل إليهم، وكلهم مسلمون!

والمسلمون أولى الناس بهم إيمانًا وتصديقًا، وجاء خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - بالصورة الأخيرة لـ (الدّين القيّم) لدعوة البشريّة كلها إلى يوم القيامة! وهكذا تتلفى الأمة المسلمة تراث الرسالة كله، وتقوم على دين الله في الحياة، ويشعر المسلمون -من ثم- بضخامة دورهم في هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة، ويتوجهون إلى ربهم بالطاعة والتسليم، ويعرفون أنهم صائرون إليه، فيطلبون مغفرته من التقصير! إنها الوحدة الكبرى التي هي طابع العقيدة الإسلامية: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، بلا تفريق بين الرسل .. والسمع والطاعة، والإنابة إلى الله .. واليقين بيوم الحساب! وإنها العقيدة التي تصوّر موكب الإيمان الواحد، من مبتدأ الخليقة إلى منتهاها، وخط الهداية المتّصل الموصول بأيدي رسل الله جميعاً، المتدرجّ بالبشريّة في مراقي الصعود، الكاشف لها عن الناموس الواحد، بقدر ما تطيق، حتى كانت الرسالة الخاتمة التي أعلنت وحدة الناموس كاملة! ونظرة إلى قصص الأنبياء والرسل في القرآن الكريم (¬1)، وفي أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الدعوة إلى التوحيد، وإخلاص العبوديّة لله تعالى وحده، وعرض ما جرى لهم من أممهم وأقوامهم، وبيان ما كان في أقوامهم من رذائل الشرك والوثنيّة، ومنكرات الأخلاق، وسفساف الاجتماع، وتحذير الأنبياء والرسل لهم من عواقب هذه الخبائث، وإنذارهم بطش الحق وبأسه، وما رمى الله به تلك الأمم من عذاب استأصل به الظالمين، ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 229 وما بعدها بتصرف.

وقطع دابر المعاندين، كما قال الله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)} [العنكبوت: 40]! تبيّن مقدار العناية التي أضفاها القرآن الكريم، والسنة الصحيحة المطهرة، على النبوّة ومكانتها، وعلى حياة الأنبياء، ومقام الرسالات والرسل، من تعظيم وتقدير! وقلما يجد الباحث سورة من سور القرآن الكريم في طِوَلَه، لا يجد فيها ذكراً للنبوّة والأنبياء، والرسل والرسالات .. وقد يطول الحديث عن بعضهم في إسهاب تقتضيه المناسبة، يكشف كثيراً من أحداث التاريخ, كما في قصص نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى - عليهم السلام .. وقد يختصر الحديث عن بعضهم في إيجاز معبّر أصدق تعبير .. وفي القرآن سورة تسمّى سورة الأنبياء! والقرآن الكريم يقصد إلى استكمال الحجة والموعظة، عندما يتطلّب الحديث تنويع البرهان والموعظة، فيذكر شيئاً في موضع آخر من القصة، يجعله كالتمهيد، ليضيف إليه ما لم يذكر هناك، حتى تكتمل القصة في جوّها ومناسبتها، بما يقتضيه مقام الحديث عنها، ومن هنا قال علماء البلاغة: (لكل مقام مقال)! بيد أن الذين يقفون في سفح البحث ممن لا يستطيعون القدرة على السبح في محيطه، لا يرتفع نظرهم إلى حقيقة الأسلوب البياني في هذا الكتاب المبين، ولكنهم يرون لأول نظرة عابرة أنهم أمام قصص مكرّرة، وسير معادة،

4 - النبوة وبناء الحضارة

وآيات مردّدة .. وهذا عند التأمّل في سياق كل قصة، يبدو خيالاً واهماً، لا يركن إليه ويعتقده إلا من لم يكن له صبر على البحث لمعرفة الحقائق التاريخيّة في سير الأنبياء والمرسلين، وإلا من لم يعرف وسيق الوشائج التي تربط بين رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بكافة نبوّات الأنبياء، وسائر رسالات الرسل -عليهم السلام-! ألا ترى إلى هذا الكتاب الحكيم في صنيعه بقصة يوسف -عليه السلام- وقد نزلت -كما تقول روايات أسباب النزول- إجابة لطلب قصد القصة كاملة؛ فإنه لما استوفى أحداث القصة متكاملة في سورتها، تحقيقاً للمطلوب، وإعجازًا للمعاندين، وتصديقاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لم يعد إليها في سورة أخرى إلا إشارة ورمزًا! والقرآن الكريم، وهو كتاب هداية وعبرة، في وزنه للحياة، وتقديره لحقائقها، يقصد في قصص الأنبياء والرسل فيما يقصد إليه من معان وحقائق إلى تنبيه العقول والأفكار إلى ما وقع في التاريخ البشري من غمط ظالم لأعظم حقائق الحياة، وتقصير متعمّد فيما كان يجب أن يكون في موضوع الصدارة من صحائفه! 4 - النبوّة وبناء الحضارة: ومن ثم جعل القرآن الكريم حديثه في عقائده، وعباداته، وتشريعاته، وآدابه، وأخلاقيّاته، ونظمِه في بيان علاقات الناس الاجتماعية، متصلاً أكمل اتصال بسيرة الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعاً لبنات في بناء الحضارة المثلى الرفيعة، التي جاءت رسالة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - لتكميلها، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إِنَّ مثَلي

ومثلَ الأنبياء مِنْ قبْلي كمثَل رجل بَنى بيتاً فأحسنَهُ وأجمله، إِلاّ موضِع لبِنة مِنْ زاويةٍ، فَجعَل الناسُ يطوفونَ بهِ، ويعجبون له، ويقولون: هلًا وُضِعَتْ هذه اللَّبنة؟ قال: فأنا اللَّبنةُ، وأنا خاتم النبيين" (¬1)! وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: "مثَلي ومثلُ الأنبياء كرجل بَنى دارًا فأكملَها وأحسَنها، إِلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجّبون، ويقولون: لولا موضعُ اللَّبنة"! زاد مسلم: "فأنا موضع اللّبنة جئت فختمت الأنبياء" (¬2)! فهذا الحديث الشريف يضع النبوّة في أفقها الواقعي من آفاق الحياة، ويضع حملة لوائها من المصطفين لتلقّي كلمات الله في ذروة بناء الحضارة الإنسانية، حتى كأنهما حقيقة واحدة، هي التي تصنع الحياة، وتبني الحضارة الفكريّة والماديّة في صورة إنسانيّة موحّدة الإحساس والشعور والاتجاه! فالحضارة الإنسانيّة الرفيعة، أو الحياة الإنسانيّة المهذّبة، في معنى هذا الحديث الشريف بناء وضع كل نبيّ من الأنبياء، وكل رسول من الرسل، لبنة في صرحه، حتى استقام مستعلياً سامقاً في أجواء الحياة، مزيّناً مجملاً، إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه لم توضع، وبقي مكانها فارغاً، يُنْقِص من ¬

_ (¬1) البخاري: 61 - المناقب (3535)، ومسلم (2286)، وأحمد: 2: 398، والبغوي (3621)، والبيهقي: "الدلائل": 1: 366، والآجري: الشريعة: 456، والنسائي: الكبرى (11422)، وابن حبان (6405). (¬2) البخاري: 61 - المناقب (3534)، ومسلم (2287)، والترمذي (2862)، والطيالسي (1785)، وابن أبي شيبة: 11: 49، وأحمد: 3: 361، والبيهقي: 9: 5، و"الدلائل": 1: 365، وابن حبان (6407).

5 - أعظم دوافع التطور

إعجاب الناس بالبناء، وهم يطوفون به في أطوار الحياة، ودورات الفلك، ويتمنّون لو أن هذه اللبنة جاءت بحقيقتها وصورتها, لتوضع في موضعها، ليتكامل حُسن البناء، ويتم الإعجاب به .. وجاءت اللبنة بحقيقتها الجامعة لكل ما في لبنات البناء من طبيعة وحقيقة، فكانت درّة البناء الفريدة، وكانت الرسالة الخالدة لخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! 5 - أعظم دوافع التطوّر: وفي حديث آخر عن أبي هريرة وغيره: "إِنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق" وفي رواية: "صالح الأخلاق" (¬1)! وفي هذا الحديث يبيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قدّمه إخوانه أنبياء الله ورسله للحياة من إصلاح وتقدّم، يقوم على القيم الروحيّة، والفضائل الخلقيّة، ومبيّناً ¬

_ (¬1) أحمد: 2: 381 عن أبي هريرة، صحيح، وإسناده قوي، رجاله رجال الصحيح، غير محمد ابن عجلان، فقد روى له مسلم متابعة، وهو قوي الحديث، وابن سعد: 1: 192، والبزار: كشف الأستار (2740)، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (4432)، والخرائطي: مكارم الأخلاق: 2، والبيهقي: 10: 191 - 192، والشعب (7978) من طرق عن سعيد بن منصور بهذا الإسناد، وفي رواية البزار "مكارم الأخلاق"، والبخاري: الأدب المفرد (273)، والتاريخ الكبير: 7: 188، وابن أبي الدنيا: مكارم الأخلاق (13)، والحاكم: 2: 613 بلفظ "صالح الأخلاق" وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والقضاعي: مسند الشهاب (1165)، وابن عبد البر: التمهيد: 24: 333 - 334 من طرف، ومالك بلاغا: 2: 904، وانظر: ابن أبي الدنيا عن معاذ (14)، والبزار (1973)، والطبراني: الكبير: 20: 120، وعن جابر: الطبراني (6891)، والبيهقي: الشعب (7979)، وابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم مرسلاً: 11: 500 - 501. وانظر: التمهيد: 24: 332، وفضل الله الصمد: 1: 371.

مكانته منهم في رسالته الخاتمة، مكمّلاً ما أسّسوا، وما أقاموا من حضارات إنسانيّة رفيعة الشأن! ويبيّن -أيضاً- أن بناء الحضارة الذي أقامته النبوّة بكلمات الله ووحيه ليس بناءً ماديًّا كأبنية الناس في حضاراتهم الماديّة، ولكنه بناء روحاني يقوم على دعائم الأخلاق والفضائل، ومحاسن الشيم والشمائل التي شيّدوا بها بناء الحضارة الفكريّة والاجتماعيّة! وقد أبان الحديث عن عمل النبوة باعتبارها الحقيقة العظمى المسيطرة على التفكير في إقامة صرح البناء الحضاري، بإسهام كل نبيّ وكل رسول في إرساء هذا البناء حتى جاء خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وكمّله برسالته الخاتمة الخالدة! وهذا المعنى الذي أبان عنه الحديث هو إجمال لمعنى الحديث الأول، وفيه بيان المعاني والحقائق التي أقيم بناء الحضارة الإنسانيّة من لبناتها! والنبوّة في عمومها حرية أن تكون بمنزلة من التاريخ البشريّ ترفعها فوق كل منزلة من منازل حقائق الحياة وفضائلها .. ورسالاتُ الله تعالى إلى الناس لإخراجهم من ظلمات الضلالات إلى نور الهداية جديرة أن تكون بموضع من مسيرة الإنسانية، يسمو بها إلى أرفع مكان في ذروة تاريخ الحياة! بيد أن التاريخ البشري لم ينصف النبوّة -وهي أعظم مراتب الحضارة الفكرية- ولم يعط الرسالات الإلهيّة حقها من التقدير، وهي أجل صور الحياة في العلم والمعرفة، بل هي أبلغ وأقوى وأثبت وأعظم دوافع التطوّر الاجتماعي في حياة الإنسانيّة!

6 - الطفولة الفكرية

6 - الطفولة الفكريّة: ونستعرض التاريخ منذ بدأ يكتب ويسجّل أحداث الحياة في المجتمع البشري فنجده شغل -حتى أتخم- بالفلسفة الوضعيّة، التي هي في كثير من موضوعاتها وقضاياها حصيلة العقل الإنساني، وقد كان هذا العقل في مهد الطفولة الفكرية لا يزال يحبو، وحصيلة الهوس الخيالي الجامح في كثير من مسائلها وبحوثها التي شغلت بجدلها العقيم قسطاً كبيراً من عمر الحياة، وكانت هذه الفلسفات تعج بأوضار الوثنيات التي كانت أساساً لما يُسمّى (الفن)، ولا سيما في دائرة التصوير المجسّم والنحت! لقد مضى على هذا العقل وهو يفكّر وينظر ويتحرك عشرات الألوف من السنين، ولكنه لم يصل إلى شيء في قضاياه التي استقل بها من شؤون الحياة والكون؛ بل إنه زادها تعقيداً وشتاتاً، ولم يستطع أن يحسم رأياً فيما شارك فيه من شؤون الحياة، ولم يقول على البت في قضايا الغيب التي جاءت النبوّات بحقائقها، إخباراً عن واقع مشهود؛ لأن النبوّات تطير إلى هذا الغيب بأجنحة الوحي والتلقّي عن الله تعالى، خالق الغيب والشهادة، والعقل تعبّد للحسّ وجعل منافذه وسيلة إلى إدراك الحقائق، والحسّ محدود الجوانب إذا تعدّاها سقط في هاوية الجحود والتشكيك! ولو أن العقل خفّف من غلوائه، واستقام على نهج النبوّة يهتدي بهديها في موازين إدراكاته لكان له اليوم مع الحياة شأن غير شأنه الذي يعيش فيه، ويقود الحياة بزمامه، ولا يدري أحد ما تكون نهاية هذه القيادة القاصرة عن إدراك كثير من حقائق الحياة!

وكان بحسب العقل أن يتفقّه فيما يقال له من وحي النبوّات مما هو وراء الحسّ المادّي، ويلائم بين مدركاته الماديّة وحقائق الوجود الكونيّة العظمى، ليظفر بلون من الشفافية والإشراق، يتيح له من معارف الغيب وحقائقه ما يتحرّر به من أغلال الحسّ ومنافذه! وإلى جانب شغل التاريخ بتلك الفلسفة الوضعيّة نجده شغل بالمظاهر الماديّة في سائر جوانب الحياة، وملأ كثيراً من صفحاته بالحديث عن آثار الوثنيّات وأصنامها وتماثيلها وأساطيرها وخرافات أهلها، وتناسى النبوّات وآثارها الفكريّة والرّوحيّة وقيمها الأخلاقيّة! وتناسى الرسالات الإلهيّة وعملها في دفع عجلة الحضارة الإنسانيّة إلى التقدّم الأدبي، والرقيّ الفكري، والسموّ الخلقي، وحفاظها على القيم الأصلية في توجيه العقل، وأقوم الطرق في تطوّر الفكر! فكم من صفحات هذا التاريخ البشري الظالم -منذ كان- شغلها تاريخ النبوة؟ وكم من صفحات هذا التاريخ شغلها عمل الرسالات الإلهيّة في تقدّم المجتمع البشري؟ إنها أقل من القليل! قد يقبل في منطق الوثنيّات وفنونها الأسطوريّة أن يُشغل التاريخ البشري - وهو من أوضاع تلك الوثنيّات- عن العناية بالنبوّة والرسالات الإلهيّة، ويتعوّض عنها الأباطيل والخرافات وأساطير الوثنيّات عند الإغريق والفراعنة والكنعانيّين، ومَن إليهم من الأمم الراسبة في قاع حمأة الوثنيّات؛ لأن النبوّة إنما جاءت لتصحيح أوضاع الحياة التي شوّهتها الوثنيّات بأباطيلها، وذلك

بالقضاء على منطقها المهلهل، لتقيم صرح العقيدة التوحيديّة التي تحرّر الحياة من عبوديّة الأحجار والتماثيل تحت عنوان (الفن)! ولكن الذي لا يقبله منطق العقل المستقيم أن يتغلّب منطق هذه الوثنيّات المتهالكة على عقول الذين أوتوا منطق التوحيد على ألسنة الأنبياء والرسل، ونزلت عليهم كتب النبوّات، فبدّلوا كلمها طواعية وعناداً، وحرّفوا آياتها قصداً إلى أحطّ منطق في تاريخ الوثنيّات! فهذه التوراة كتاب موسى نبيّ الله ورسوله وكليمه، وهذا الإنجيل كتاب عيسى نبيّ الله ورسوله وروحه وكلمته، وهما اليوم بأيدي الأخلاف نرى فيهما ما لا يمكن أن يتصوره عاقل من بهت للنبوّة والرسالات الإلهيّة في تصوير حياة أنبياء الله ورسله! ومن ثم أبصرنا تلك الحرب الضروس في القديم والحديث على خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! ولم يكتف التاريخ البشري في إهماله أمر النبوّات والرسالات الإلهيّة ليتعوّض عنها بهذه الوثنيّات وأقاصيصها، بل أضاف إليها -ليستغرق في ضلالاته- أنباء الطغاة البغاة العتاة من سفّاكي دماء البشريّة، ومدمّري عمران الحياة، ومخرّبي بناء الحضارات الإنسانيّة، فجعل من أحاديثهم في معاركهم الظالمة أقاصيص الإعجاب، ومفاخر البطولة، وهي في حقيقتها نزوات من الطغيان الأحمق الذي يرقص على طبول الخراب! هذا التاريخ الظلوم المظلوم حمل على كاهله طوال أحقاب ما مرّ عليه من دورات الفلك أثقال الوثنيّات بكفرياتها وإلحادها ومذاهبها، وأفكارها

وأساطيرها، وآثارها الماديّة في تفصيل مسهب، بل في مبالغة وإغراق وأكاذيب، ولم يسمح بأسطر يكتبها في سجلاته عن النبوّات والرسالات الإلهيّة إلا بقدر ما يصلها بهذه الوثنيّات في معاركها معها ونضالها ضدّها! أما بيان مكانة النبوّة من الحياة، وبيان أعمالها في توجيه الحياة، وتهذيب الغرائز، وإرشاد العقل في سيره، وبيان ما يطيق إدراكه وما لا يطيق، وبيان أقدار الرسالات الإلهيّة، وجهاد الرسل في سبيل تقدّم الحياة، وإقامة موازين العدالة، وإصلاح ما أفسده الطغاة البغاة العتاة بطغيانهم ومظالمهم، وكفاح البطولات الروحيّة، واصطبار المكافحين من الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم من المؤمنين برسالاتهم، على محن الجبروت، وبلاء الطغيان، وفدائح الظلم .. أما هذا كله فأمر لا يعني هذا التاريخ البشري أن يفرد له بين صفحاته قدراً يعطيه حقه من التقدير والاعتزاز! وقد صوّر التاريخ النبوّة والرسالات الإلهيّة في أسطره التي سمح بها في سجلاته للحديث عنها، وعن حملتها من المصطفين، على أنها مرشد لمن يريد اعتزال الحياة، ليعيش روحانيًّا قانعاً زاهداً، قعيد الكهوف والصوامع، جوعان ذا مسغبة، عريان ذا متربة، سموحاً لا يزاحم في معترك العيش، خانعاً في ذلة، مستسلماً لنوازل الحياة، شروداً نفوراً، يحيا ويموت دون أن تحسّ به الحياة! والتاريخ بهذا التصوير الظالم يضع النبوّة والرسالات الإلهيّة في إطار من السلبيّة، لا تعني الحياة في شيء، ولا تعنيها الحياة في شيء! ومن هنا نشأت فكرة (الدّين والدنيا) فالدّين- عند هذا التاريخ الظلوم- هو السلبيّة التي تعيش مع خيالات الأوهام، وأوهام الغيبيّات التي لا تحسّ ولا تمسّ .. والدنيا عند هذا التاريخ هي كل المعاني التي قامت على دعائمها فلسفة

7 - أعظم تراث إنساني

الوثنيّات والإلحاد، والتفكير المادي الكفور، وعلى أساسها قامت الحضارات الماديّة بكل سوآتها وما يتصل بها! 7 - أعظم تراث إنساني: وجاءت رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - لتصحّح أغاليط التاريخ, وتنصف النبوّة والرسالات الإلهيّة وتردّ اعتبار الحقائق الكونيّة، فوضعت هذا التاريخ في مواجهة النبوّة وأحداثها، ووضعت الحياة كلها أمام الرسالات الإلهيّة وأعمالها، ووضعت الوثنيّات وفلسفاتها في مكانها من منازل الجحود! فلم يستطع التاريخ بعد بعثة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - أن يلوي عنقه مشيحاً عن الحديث في النبوّة ومكانتها في دنيا الناس والأشياء .. ولم تستطع أن تُنْغض رأسها متجاهلة مكانة الذين شُرِّفوا بقلائد النبوّة من المصطَفين الأخَيار .. ولم تستطع -أيضاً- أن تُصَعِّر خدّها متغافلةً متعاميةً عن أشعة الحق في رسالات رسل الله الذين بعثهم إلى الحياة نوراً يبدّد ظلام القلوب والعقول والأرواح، ويهذب جموح الغرائز الإنسانيّة الضارية، ويشذّب أشجار الأفكار الشائكة بشبهات الجهالة، وأغلوطات الضلالة، في أدمغة أحلاس هوس الفلسفة، بما لا يعني شيئاً غير هوس التعالي، في ألغاز مريبة غامضة، وألفاظ مظلمة قاتمة، تسبح في محيط خيالي لا مرفأ له, تستقر فيه حقيقة من حقائق الحياة في واقعها الوجودي الذي جاءت به النبوّة والرسالات الإلهيّة، وعرفت الحياة للدّين معناه الشامل القويم الذي يعني المعاني والقيم والحقائق الإيجابية في منهج النبوّة والرسالات الإلهيّة .. وعرفت ألا تقابل بين الدّين والدّنيا، وإنما التقابل الحق بين حياتين:

8 - أعظم شهادة

- هذه الحياة التي يحياها الناس والأشياء، وللدّين فيها منهجه الأعم والأشمل الذي استقاه من معين النبوّة، والرسالات الإلهيّة! - وحياة آتية لا ريب فيها, وللدّين فيها معرفته التي تلقاها عن وحي النبوّة، والرسالات الإلهيّة! 8 - أعظم شهادة: وقد قضى خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة من عمره في مكة قبل أن يبعث -كما سيأتي- فكان بين أهلها، يعاملهم في أمور الحياة ليل نهار (¬1)، وهي الحياة اليوميّة، وما تنطوي عليه من أخذ وعطاء .. ومن شأنها أن تكشف عن أخلاق المرء، فيتبيّن للناس فسادها وصلاحها، وهي عيشة طويل طريقها، كثيرة منعطفاتها، وعرة مسالكها، تعترضها وهدات مما قد يصدر عن المرء من خيانة، وإخفار عهد، وأكل مال بالباطل، وعقبات في الخديعة والخيانة، وتطفيف الكيل، وبخس الحقوق، وإخلاف الوعد .. وقد اجتاز الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه السبل الشائكة الوعرة، وخلص منها سالماً نقيًّا، لم يصبه شيء مما يصيب عامة الناس، حتى دعوه (الأمين)! ومع كل هذا خالفه المخالفون أشدّ الخلاف في دعوته، ولم يتركوا سبيلاً إلى ذلك إلا سلكوه، فقاطعوه وعاندوه، وصدّوا عن سبيله، ورموه بالحجارة، وأرادوا قتله، وكادوا له كيدهم! ولكن لم يجرؤ أحد منهم أن يقول شيئاً في أخلاقه، ولا أن يرميه ¬

_ (¬1) الرسالة المحمديّة: 114 وما بعدها بتصرف.

بالخيانة، أو ينسب إليه الكذب في القول، أو إخلاف الوعد، أو إخفار الذمة، أو نقض العهد! وإن من ادّعى النبوّة وقال: إن الله يوحي إليه، فكأنه ادّعى العصمة والبراءة من جميع المفاسد، ومساوئ الأعمال! ألم يكن يكفي قريشاً في ردّهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يذكروا أمورًا عمل فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغير الحق، وأن يشهدوا عليه بأنه أخلفهم وعداً، أو خانهم في أموالهم، أو كذب في شيء مما قاله لهم؟! إن قريشاً أنفقوا أموالهم، وبذلوا نفوسهم في عداوة الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وضحّوا بفلذات أكبادهم في قتاله، حتى قُتل وجُرح منهم كثيرون، لكنهم لم يستطيعوا أن يصموه بشيء في عظيم أخلاقه .. وكانت أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشؤونه ظاهرة لجميع الناس، معلومة لهم، استوى في ذلك أحبابه وأعداؤه، ولم يَخْفَ عليهم شيء من أمره! روى ابن جرير عن السدي (¬1): (لمَّا كان يوم بدر، قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة، إِن محمداً ابن أختكم، فأنتم أحق من كفّ عنه، فإِنه إِن كان نبيًّا لِمَ تقاتلونه اليوم؟ وإِن كان كاذباً كنتم أحقّ من كفّ عن ابن أخته، قِفوا هنا حتى ألْقى أبا الحكم، فإِن غَلَب محمد - صلى الله عليه وسلم - رجعتم سالمين، وإِن غُلِبَ فإِن قومكم لا يصنعون بكم شيئاً، فيومئذ سُمّي الأخنس، وكان اسمه أبي، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس بأبي جهل، فقال: يا أبا الحكم، أخبرني ¬

_ (¬1) تفسير الطبري: 7: 182.

عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإِنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا! فقال أبو جهل: ويحك، والله! إِن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إِذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوّة، فماذا يكون لسائر قريش؟) فذلك قوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام]! إنهم لم يكونوا يشكّون في صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلقد عرفوه صادقاً أميناً، ولم يعلموا عنه كذبة واحدة في حياته الطويلة بينهم قبل الرسالة .. كذلك لم تكن الطبقة التي تتزعّم المعارضة للدعوة تشك في صدق رسالته، وفي أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، ولا يملك البشر أن يأتوا بمثله .. ولكنهم كانوا يرفضون إظهار التصديق، ويرفضون الدخول في (الدّين القيّم)! ويروي الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (¬1): لمَّا نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء]! صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي" لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إِذا لم يستطع أن يَخرُج، أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تُريد أن تُغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟! " قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إِلا صدقاً، قال: "فإِني نذير لكم بين يدي ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4770)، وانظر (1394، 3525، 3526، 4801، 4971، 4972، 4973)، ومسلم (208)، وأحمد: 1: 281، 307، والترمذي (3363)، والنسائي: عمل اليوم والليلة (982، 983)، والطبري: التفسير: 19: 120، 121، وابن منده: الإيمان (949، 450، 451)، والبيهقي: الدلائل: 2: 181، 182، والبغوي (3742)، ومعالم التنزيل: 3: 400، 401، وابن حبان (6850).

عذاب شديد"! فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد]! ولمَّا أرسلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتاب الدعوة إلى هرقل عظيم الروم، دعا هرقل أبا سفيان ليسأله عن هذه الدعوة وصاحبها، وقد كان أبو سفيان يومئذ على العداوة للإسلام ورسوله .. وهنا كانت إجابة عدوّ لو استطاع أن يقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويمحو اسمه، ويخفض من شأنه .. ثم هو يُدعى إلى مجلس صاحب سلطان ليشهد عنده في عدوّه، ودعا هرقل بترجمانه، فقال فيما يرويه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، من حديث طويل: أيّكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً! فقال: أَدْنُوه منّي، وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره! ثم قال لترجمانه: قل لهم: إِنّي سائل هذا الرجل، فإِن كذبني فكذّبوه! فوالله! لولا الحياء من أن يأثِروا عليّ كذباً لكذَبْتُ عنه! ثم كان أوّل مَا سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب! قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قطّ قبله؟ قلت: لا! قال: فهل كان من آبائه من مَلِك؟ قلت: لا! قال: فأشراف الناس يتّبعونه أم ضُعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤُهم! قال: أيزيدون أم يَنْقُصون؟ قلت: بل يزيدون! قال: فهل يرتَدُّ أحدٌ منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا! قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا! قال: فهل يَغْدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مُدَّةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمْكِنِّي كلمةٌ أُدْخِلُ فيها شيئاً غير هذه الكلمة! قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم! قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منّا وننال منه! قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به

شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة! فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها! وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو قال أحد هذا القول قبله لقلت: رجل يأتي بقول قيل قبله! وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك. قلت: رجلٌ يطلب مُلك أبيه! وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا؛ فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله! وسألتك: أشراف الناس اتّبعوه أم ضُعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرسل! وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإِيمان حتى يتمّ! وسألتك: أيرتدّ أحدٌ سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإِيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب! وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر! وسألتك: بما يأمُركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف! فإِن كان ما تقول حقًّا، فسيملك موضع قَدَمَيَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكُن أظُنُّ أنه منكم! فلو أنّي أعلم أنّي أخْلُصُ إِليه لَتجشَّمْتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسَلْتُ عن قَدَمه (¬1)! ¬

_ (¬1) البخاري: 1 - بدء الوحي (7) وانظر (51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553 , 5980، 6260، 7196، 7541)، والأدب المفرد (1109)، وخلق أفعال العباد (63، 64)، ومسلم (1773)، وأحمد: 1: 262 - 263، وانظر: الترمذي (2717)، وابن منده: الإيمان (143)، والبيهقي: "الدلائل": 4: 381 - 383.

فهل تجدون شهادة أعظم من هذه الشهادة؟ إن الموقف حرج، وإن السائل ملك ذو شوكة وقوّة، يسأل رجلاً ملأ الضِّغن صدره عن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فَلا يقول فيه إلا الصدق والحق! وإن هرقل لم يستطع أن يقف حيال هذه الشهادة صامتاً فقال ما قال! وأي شهادة أصدق من هذه الشهادة! إن تاريخ الرسل عليهم صلوات الله وتسليماته لم يسجّل مثل هذه الشهادة عن غير محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! ثم إن الذين آمنوا كانوا من أمّة عريقة في الحرية، ذات عقول ناضجة وفطنة، ولهم حماسة وحميّة، لم تَلن قناتهم لحكومة قاهرة، ولا ذلّلت أنَفَتهم دولة قويّة منذ فجر التاريخ, وكَانت لهم تجارة واسعة النطاق، تصدر فيها وترد سلعهم وأمتعتهم بين بلاد وبلاد، وكانت مملكة فارس، وبلاد الشام، ومصر، وآسيا الصغرى، مضربهم ومورد تجارتهم، ولاحتكاكهم بالأمم المتمدنة، ولقائهم الرجال من مختلف الأمم، تفتّقت آراؤهم، واتسعت عقولهم، وازدادت تجاربهم، يدل على ذلك ما أثر عنهم من الأحكام، وما وصل إلينا من صفحات التاريخ من الأخبار، وكان من هؤلاء مَن قاد الجيوش وانتصر بها، فعدّ من أعظم الفاتحين! وكان منهم من ساس البلاد، وحكم الناس، فأحسن الإحسان كله في سياسته وحكمه، حتى عُدَّ من أعدل الولاة، وأحكم الحكّام سياسة وتدبيراً! وهل يسوغ في منطق العقل أن من أوتي مثل هذا العقل الراجح، والمواهب العظيمة، والرأي الحصيف، يخفى عليه شيء من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ينخدع به؟

9 - فتح فكري جديد

هؤلاء هم الذين نقلوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما شهدوه بأنفسهم، وسمعوه بآذانهم، وكانوا يرون الاقتداء به سعادة لهم .. والاهتداء بهديه شرفاً في الدنيا، وذخراً لهم في الآخرة، فاقتفوا آثاره، وسلكوا سبيله، واستنّوا بسنّته .. وهذا دليل واضح على أنه الرسول الكامل، وأنه على الحق، مما لا يرده ولا يجادل فيه إلا مكابر! ومن شواهد أن سيرة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - كانت نقيّة من كل ما يخدش في دعوى الرسالة، أن أشدّ الناس إيماناً به، وأملأهم قلوباً بمحبّته وإجلاله، هم أطول الناس صحبة له، ومن لا يكادون يفارقونه إلا قليلاً، كالسابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم! ولو لم يكن من معالم سيرة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا التراث الفكري العظيم في مكتبات العالم قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، من شمالاً وجنوباً، وفي خزائن العلم والمعرفة التي يملكها الأفراد والجماعات، والهيئات والطوائف، في شتى بلاد العالم، لكفى في إبراز القيمة الحقيقيّة ما بذلته الأقلام في تسجيل وتدوين مجالات الفكر والعلم والبحث لكل ما دار حول محور الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! 9 - فتح فكري جديد: وحسب الباحث في باب الإيمان بصدق ذلك أن يتيح لعقله (¬1)، بل لخياله تصوّر ما كتب عن خصائص رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - في هديها وإصلاحها، تصديقاً وتبياناً، وبحثاً ومعرفة، وأخذاً ونشراً، وحواراً وتحليلاً، ودرساً وتحقيقاً، ليؤمن ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 220 وما بعدها بتصرف.

إيمان إيقان، ويعرف معرفة صدق أن رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - كانت ولا تزال فتحاً جديداً أمام الفكر الإنساني، أتاح له الانطلاق إلى لون جديد من المعرفة لم يسبق بحال، فهو لا يقف عند غاية، ولا تعرف الحياة له نهاية، ولا يتوقّف أمام عقبات، ولا تحول دون انطلاقه حواجز، ولكنه يقتحم الآفاق، ويثب إلى ذروات الشموخ والتطلّع، ويغوص إلى أعماق الكون وأسرار الوجود، متطلّعاً إلى مزيد من العلم والمعرفة، وفي وقائع التاريخ ومشهود رواياته ما يؤكد صدق هذه الحقيقة! وحادثة اندفاع جحافل التتار على عاصمة الخلافة الإسلامية (بغداد) - بموجاتها الساحقة المدمّرة واحدة من أحداث كثيرة حفل بها التاريخ - تصوّر مدى ضخامة ما كان من التراث الفكري الإسلامي في (بغداد) عاصمة الإسلام يومئذ، وهي واحدة من أخوات لها في أوطان المسلمين، في مجالات العلم والفكر والمعرفة! وكان في مكتباتها من آثار أقلام علماء الإسلام ومفكّريه وباحثيه، من المفسّرين، والفقهاء، والمحدّثين، والأصوليّين، واللغويّين، والأدباء، والمؤرخين، والناظرين في علوم الأوائل في الفلسفة والفلك، وآثار الفرق والمذاهب، والملل والنحل، ما لا يمكن أن يحصره الحساب والتعداد! وإذا ذكرت (بغداد) بما تحفل به مكتباتها العامة والخاصة من فنون المعرفة التي هي أثر من آثار الفكر في خصائص رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، فلا يمكن أن تغيب عن الذاكرة (القاهرة)، و (قرطبة)، و (دمشق)، و (فاس)، وغيرها من عواصم الفكر في سائر أقطار الإسلام وأوطانه! وليس بأهون دلالة على صدق هذه الحقيقة التاريخيّة في تقدير ضخامة

التراث الإسلامي الذي كُتب عن خصائص رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - كمًّا وكيفاً ما وقع على أيدي برابرة (الحضارة) الأوروبيّة الحاقدة في عواصم الأندلس، حينما تألّبت عصبيّات الحقد الأسود على (الدّين القيّم)، منتهزة فرصة تميّع الحكم الإسلامي، وتفاهة الحاكمين باسم الإسلام في هذا الجانب من العالم الإسلامي، فمزّقته شرّ ممزّق! وفي غمرة هذا التمزّق .. وفي حومة هذا الضعف والهوان .. استولى أولئك الحاقدون، ومتعصبو الصليبيّة الحمقاء على ما كانت تعجّ به خزائن الفكر والعلم من آلاف الألوف من مؤلفات المفكّرين والباحثين في شتى مناحي الفكر وجوانب المعرفة، فنهبوا منها ما نقلوه إلى بلادهم وأوطانهم، وأحرقوا منها ما أحرقوا في جنون حاقد، وحقد مجنون، وذهبت هذه الثروة الفكريّة الضخمة مع مُلك الأندلس إلى متاهات الفناء والضياع! والذي وقع من السلب والنهب والتحريق والتدمير في عواصم الإسلام الكبرى وقع مثله وأعظم منه في مكتبات العالم، وخزائن العلم التي كانت منتشرة في أنحاء العالم الإسلامي وغيره، عندما تعاوت ذئاب الفتن داخل الكيان الإسلامي على أيدي الزنادقة من القرامطة، والباطنيّة، والدول التي قامت على أنقاض دول غلبتها على أزمة الحكم؛ فدمّرت آثارها الفكريّة والعمرانيّة، ومحت من صفحة الوجود آثار علمائها ومفكّريها، وغيّرت أوضاعها ونظمها الاجتماعية! وعلى الجملة فكل أثر فكري يتصل بالإِسلام من قريب أو بعيد هو حصيلة الأقلام والأفكار التي كانت خصائص الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - معينها الذي تنهل منه وتعل!

ومن هنا كان كل ما كتب ويكتب في مجال البحث الإسلامي بأيّة لغة من لغات الأمم والشعوب، على أيّة صورة من صور البحث، هو في لبابه جانب من جوانب خصائص محمد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رسالته! والذين كتبوا، والذين يكتبون في مستقبل الحياة عن محمد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عاشوا ويعيشون في ظلال دائمة من نفحات الخلود في رسالة خاتم النبيّين التي لا يَنْضب معينها, ولا ينفد مدادها! ولقد تضاعفت أضعافاً مضاعفة الكتابة عن الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرن الذي نعيشه، ولا تزال في سموّ وازدياد .. وجرت أقلام الكاتبين والباحثين من المسلمين وغير المسلمين بألوان من البحوث، وضروب من الدراسات المختلفة نوعاً وكثرةً، تواردت بين كتابة علميّة صادقة، عميقة الإدراك والتهدّي، وكتابة تتّجر بالبحث، وتتملّق الجماهير! وكتابة لا تجهل، ولكنها متعصّبة كافرة، تلحد في بحثها، حاقدة، سيئة القصد، متحيّزة الهوى، تروح وتجيء في أودية من الضلال، تنكر المعروف، وتعرف المنكر، وتثير الشكوك والشبه، وتعتصم بروايات الأباطيل الدخيلة تدعم به أكاذيبها! وكتابة كافرة جاهلة، تتبع كل ناعق، تنعب بالبهتان، بليدة التقليد، تساق بعصا العصبيّة العمياء! وفي هذه الكتابات بألوانها واتجاهاتها كتابات دارسة مبسوطة، فيها عمق وجديّة في بعض جوانبها، وفيها سذاجة ضحلة في بعض نواحيها! وفيها كتابات تعنى بالصور والشكل وزخرفة الإطار، تنسق اللمع البرّاقة من الأحداث، مهتمّة ببريقها، تنسيق بائع الورود، لتبهر الناظرين!

وهذا اللون من البحث النسّق المزخرف قد يرضي إحساس قارئه، ولكنه لا يرضي عقله؛ لأنها بحوث لا تبالي بالحقائق أن تجيء في إطارها أو لا تجيء! وفيها كتابات تلفت نظر الذين يعرضون عن قراءة هذه البحوث في مظانها الأصيلة القديمة، لصعوبة المسلك الكتابي في تلك المظان، وعدم العناية بالتنظيم في أسلوب القدامى من العلماء والباحثين، فتجذبهم هذه الكتابات المنسّقة بتنظيمها النسقي إلى القراءة، وقد تدفع ببعض القرّاء إلى حبّ الاستزادة والتعمّق، وربما وقفت بكثير من القارئين على مهيع الإرشاد إلى مفاتيح الهداية في الرسالة الخالدة، رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! وهذا اللون من الكتابة لا يشبع نهم المستشرق لمعرفة الحقائق، المتطلع للبحث الجاد؛ ولكنها تفيده وتوجهه، وكأنها لافتة إعلان مضيء، يثير شوق القارئ إلى التطلّع لمعرفة ما وراءها من حقائق فكريّة، وأفكار علميّة، وهذا ليس بالقليل من فوائد البحث ومنافعه! وفيها كتابات أشبه ما تكون بسلعة غريبة تعرض في السوق تحت لافتة لامعة، فإذا حركتها بيد فكرك لتختبر ما فيها من حقائق لم تجد إلا كلمات ملتقطة من هنا وهناك! ولا تزال أقلام الباحثين والكاتبين تتسابق في مضمار خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - في رسالته وهدايتها، متخذة طرائق شتّى من البحث، في أسلوب يعتدل أحياناً، ويتعرّج أحايين أخرى .. وتختلف موضوعات الكتابة في دائرة تلك الخصائص، وإن كانت كلها أشبه بالروافد التي تنبع من منبع واحد، وتسير في أودية مختلفة أشدّ الاختلاف، فبعضها وسيع مترامي الجوانب، وبعضها ضيّق

10 - شمس الوجود الروحي

متقارب الأطراف، وبعضها عميق غائص بعيد القرار، وبعضها ضحل قريب المستقر، ولكنها تنتهي كلها إلى مصب واحد، يرمي بزبدها وغثائها جفاء، ويمسك منها خصائل الحق، فيمزج بينها حتى يجعلها حقيقة واحدة، هي لباب الهداية، وروح الرسالة في قيادة الحياة! وإذا كان التراث الإسلامي الذي اتخذ من خصائص رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - محوره الذي دار حوله بهذه المثابة من الضخامة والعظمة، فالذين يكتبون اليوم وغداً عن هذه الرسالة، وخصائصها وسيرة صاحبها خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - ماذا يكتبون؟ أتراهم يجترّون ما يجتنون من ثمار أولئك الكاتبين من القدامى والمحْدثين؟ أم أنهم سيجدون لأقلامهم مراتع جديدة لم تنسرب إلى مروجها أقلام من تقدمهم؟ وحينئذ يكتبون في خصائص رسالة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - وحقائقها، وفنون هدايتها، ويكتبون في خصائص الرسالة التي أعدّه الله بها جبلة وكسباً لحمل عبء هذه الرسالة الشاملة الخالدة .. ويكتبون في كشف الكثير مما توارى عن أعين الأقلام الباحثة في هذه الخصائص وراء سحب الإمكان الزمني، واقتدار العقول تحت تأثير البيئات والمجتمعات التي كان لها أثر في إبراز ما ظهر من تلك الخصائص! 10 - شمس الوجود الروحي: أليست هذه الشمس التي تشرق على الحياة كل يوم بهيئتها وصورتها المتكرّرة، ويرى الناس منها أول ما يرون ضوءها الذي يكشف أسجاف الظلام،

لتظهر أمام أبصارهم جوانب الحياة في تقلّباتهم على هذه الأرض، ثم يحسّون حرارتها الدافئة في خيوط أشعتها الملتهبة، لا يعلم العامة منها أكثر من هذه الظواهر التي يفيدون منها في مختلف مصالحهم، وينتفعون بها في شتى منافعهم، في دائرة علمهم المحدود بمستوى ما بلغته معارفهم من حقائق الكون، ومظاهر الطبيعة؟! ومع ذلك كأنما هم منها في جديد عند إشراقة كل يوم، لم يكونوا يرونه، ولا أحسّوه من قبل! فإشراقها على الحياة في جانب من جوانب هذا الكوكب الذي يحيا فوقه الناس حدث واحد في كل وحدة من وحدات الزمن في إصلاح الحياة، ولكنه يتراءى جديداً يقبل على الأحياء والأشياء بتجدد الحياة وتقلّباتها! واحتجابها عن الحياة وراء الأفق في جانب آخر من جوانب الأرض حدث واحد في وحدة أخرى من وحدات الزمن، يُرى وكأنه جديد، وهو مقبل ومعه رهبة الليل وهدأته وسكونه، لتهدأ فيه الحياة، وتسكن حتى تستجمع عناصر حركتها مقبلة مع إشراقة الشمس من جديد بكل جديد، يتراءى أنه يولد مع الشمس كل يوم في كل مكان تشرق من أفقه! وهذا الجديد (المتكرّر) هو معترك أفكار العلماء والباحثين والمفكّرين الذين لا يقفون مع ظواهر الأشياء في عناصر الكون، ولكنهم يحاولون أن ينفذوا إلى مداخلها وأعماقها ليعرفوا حقائقها .. ومن ثم فهم لا يكتفون بما اكتفى به العامة من رؤية ضوء الشمس، يرونه بأبصارهم، ولا بحرارة أشعتها يحسّونها بحواسّهم؛ بل إنهم يجهدون في تعرّف حقيقتها عن طريق تعرّف خصائصها الذاتيّة التي تنشأ عنها هذه الظواهر!

وقد عرف العلماء والباحثون من خصائص الشمس الذاتيّة الكثير مما قصرت دون معرفته أنظار العامة بمداركها المحدودة .. وهذا الكثير مما عرفه العلماء والباحثون هو الذي يفتح أمامهم في كل آن باباً جديداً من المعرفة والعلم بالمجهول .. وكل باب جديد يُفتح يكشف عن منافذ للعلم والمعرفة التي تتجدّد على مرّ الزمان في سائر الأمكنة والأوطان التي يأرز إليها العلم بفنونه وآلاته! وهكذا كلما ازداد العلماء والمفكّرون معرفة بحقائق الكون ازدادوا تطلّعاً إلى أبعد مما وصلوا إليه من العلم بالمجهول .. ولا يزال العلم يكشف للفكر الإنساني عن جديد مجهول من خصائص الشمس يزيده علماً ومعرفة بحقيقتها الكونيّة كنموذج لظاهرة كونية تمدّ الحياة بقوّة الحيويّة الخصبة! والشمس لا تزال -مع تعلق البحث وزيادة العلم والمعرفة بخصائصها- هي الشمس مشرقة وغاربة، لا تنقطع عنها سبحات الدراسة والبحث، ولا يتوقّف العقل الإنساني عن النظر وراء ما يكشفه من خصائصها الكونيّة! وهذه الشمس التي يبذل العقل الإنساني جهده في البحث عن خصائصها الكونية -ولن يصل إلى نهايتها- إن هي إلا شمس صغيرة إلى جانب الشموس الكبار، من مجموعة الكواكب والنجوم السابحة في فضاء الكون، محجوبة بأبعادها الشاسعة، وعظمتها الهائلة عن مجال الإدراك الحسّي والعقلي، حتى يستطيع العلم -وهو سيّار لا يتوقّف- بوسائله المعروفة وغير المعروفة، إبداع ما يشق طريقه لإخضاعها للنظر والدرس والبحث، ليكشف عن خصائصها الكونيّة، وقد بدأ يعرف طريقه إلى أطراف المجهول، وهو دائب طموح إلى الوصول!

وهذه الشموس الكبار العظام التي تعبر الوجود بكل خصائصها الذاتيّة المجهولة في غير توقّف إن هي إلا ذرّات من عناصر هذا الكون الهائل في هذا الوجود العظيم! وإذا كانت هذه الشموس بعظمتها الكونيّة مشهودة وغائبة هي ضياء الحياة الماديّة التي يعيش على ضوئها العالمون، وهم بعد -على دأب عالميهم وجدّ باحثيهم في تعمّق الدراسة- لم يبلغوا من معرفة خصائصها الذاتيّة وآثارها الكونيّة، ومظاهر عناصرها الطبيعيّة إلا الشيء القليل الضئيل! والرسول - صلى الله عليه وسلم - في خصائص رسالته الخالدة، وخصائص إنسانيّته السامية هو شمس الوجود الروحي في هذا الكون المحجّب بغلائل الجلال الإلهي! حظّ العامة منه حظّهم من شموس الوجود المادي، رأوا ضوء رسالته بأعين بصائرهم، فمشوا إلى نورها يستبشرون برحمتها، وأحسّوا حرارة هدايتها فدلفوا لها يستظلّون بعدلها! والوجود الروحي الذي جعل الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - شمسه هو القوّة الربّانيّة المنبثّة في ذرّات الكون، تبثّ فيها الحياة، وتحرّكها حركتها المقدّرة في كتاب الغيب، فلا تحيد عنها مسرعة ولا مبطئة! فكما لا يزال العلماء والمفكّرون والباحثون في جديد من شمس هذا الوجود الماديّ والحسيّ، يكشفون كل يوم من خصائصها الكونيّة الشيء بعد الشيء .. فكذلك شأن العلماء والمفكّرين والباحثين لا يزالون في جديد من خصائص رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهدايتها .. ولا يزالون في جديد من خصائص محمد - صلى الله عليه وسلم - الروحيّة وشمائله الإنسانيّة التي أعدّه الله بها جبلّة وتأدّباً، ليكون خاتم

النبيين، ورسولاً إلى العالمين برسالة شاملة عامة خالدة، يجد فيها كل جيل في كل زمان وفي كل مكان مطالب حياته الروحية، ومجال عقله وتفكيره، ونظام حياته وعيشه، ووشائج علائقه في أفراده وجماعاته وأممه وشعوبه! فما كُتب وما يكتب عن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - في شمولها تشريعاً وهدياً، وعمومها زماناً ومكاناً، وأعصراً وأجيالاً، وفي خلودها بمعانيها وحقائقها، وأنظمة الحياة في تقنينها وأحكامها، وحكَمها ودعائم قيمها الروحيّة، وأسلوبها في التعبير عن مقاصدها وأهدافها، ووسائلها، وطرائق منهجها في التوجيه والإرشاد لم يسجّل إلا نقطةً في خط الدراسة والبحث! وما كُتب وما يكتب عن شخصيّة محمد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته وشمائله وأخلاقه وخلائقه، وإبراز خصائصه الإنسانيّة التي جبله الله عليها، وأدّبه بها, لتكون عدّته في اقتداره على حمل عبء رسالته الخالدة الخاتمة لرسالات السماء، لم يأت ولن يأتي إلا على بعض معالم هدايته في رسالته، وإلا على بعض خصائصه في إنسانيّته، وما حباه الله به من الكمالات البشريّة؛ لأنه اختاره رسولاً إلى الناس كافة في الأزمنة والأمكنة والأحوال كافة! فلابدّ إذن أن يكون لكل جيل من البشريّة في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل، وعصر ومصر، وعلى أيّة حال من العلم والمعرفة حظّه من رسالته، وحظّه منه في دعوته وهدايته، ومنهجه وشمائله .. مهما اختلفت بالناس مناحي الحياة، وطرائق التفكير .. ومهما (تطورت) العلوم والمعارف ووسائلها، ومهما تنوّعت أساليب الحياة الاجتماعيّة في المجتمع البشري .. ومهما بلغ العقل الإنساني من مراتب النضج في التفكير!

11 - في علم المغازي خير الدنيا والآخرة

11 - في علم المغازي خير الدنيا والآخرة: وإن خير ما يتدارسه المسلمون (¬1)، ولا سيما الناشئة وطلاب العلم، ويُعنى به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية، إذ هي خير معلّم ومثقف، ومهذّب ومؤدّب، فيها ما ينشده المسلم، وطالب الكمال من دين ودنيا, وإيمان واعتقاد، وعلم وعمل، وآداب وأخلاق، وسياسة وكياسة، وإمامة وقيادة، وعدل ورحمة، وبطولة وكفاح، وجهاد واستشهاد في سبيل العقيدة والشريعة، والمُثل الإنسانيّة الرفيعة، والقيم الخُلقيّة الفاضلة! لقد كانت السيرة مدرسة تخرج فيها أمثل النماذج البشريّة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين! وكان السلف الصالح من هذه الأمة الإسلاميّة يدركون ما لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة أصحابه النبلاء، من آثار حسنة في تربية النشء، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام، والتضحية في سبيل تبليغها بالنفس والمال .. ومن ثم كانوا يتدارسون السيرة ويحفظونها، ويلقنونها للغلمان، كما يلقنونهم السور من القرآن! قال زين العابدين علي بن الحسين بن علي: (كنا نُعلم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن)! وقال الزهري: (في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 7 وما بعدها بتصرف: دكتور محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط أولى 1409 هـ - 1988 م.

وقال إِسماعيل بن محمد بن سعيد بن أبي وقاص: (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني، هذه شرف آبائكم، فلا تضيّعوا ذكرها) (¬1)! نعم، والله! إنها لشرف الآباء، والمدرسة التي يُرَبَّى فيها الأبناء! وسبق أن أشرنا إلى أن التاريخ سجل منذ فجر الرسالة صيحات من هنا وهناك، تشكّل في إطارها سيل منهمر من الحقد الأعمى على الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، في القديم والحديث سواء! وهنا يطالعنا قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33]! وقوله جل شأنه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 8، 9]! ونبصر هؤلاء لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الحق، وعبادة أرباب من دون الله، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر -وفق المفهوم الصحيح للإيمان بالله واليوم الآخر- إنما هم يعلنون الحرب على الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - ويريدون إطفاء نور الله في الأرض، المتمثّل في هذا (الدّين القيّم)، وفي الدعوة التي تنطلق به في الأرض، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر! ¬

_ (¬1) انظر: شرح الزرقاني: 1: 392 دار المعرفة، بيروت.

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}! فهم محاربون لنور الله، سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن، على الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بما يحرّضون به أتباعهم على حرب هذا الدّين وأهله، والوقوف سدًا في وجهه، كما يشهد الواقع على مدار التاريخ (¬1)! {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33]! وهو الوعد الحق من الله، الدال على سنّته التي لا تتبدّل، في إتمام نوره بإظهار دينه، ولو كره الكافرون! وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا فيدفعهم إلى المضيّ في الطريق على المشقّة واللأواء في الطريق، وعلى الكيد والحرب من الكافرين .. ويتضمّن الوعيد لهؤلاء وأمثالهم على مدار الزمان! {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}! وهذا توكيد لوعد الله .. ولكن في صورة أكثر تحديدًا .. فنور الله الذي قرر سبحانه أن يتمّه، هو دين الحق الذي أرسل به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليظهره على الدّين كله! ولقد وقف هؤلاء في وجه (الدّين القيّم) وقفة العداء والتضليل (¬2) .. ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1643 بتصرف. (¬2) المرجع السابق: 6: 3557 بتصرف.

حاربوه -كما سيأتي- بالاتهام .. وحاربوه بالدس والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي، للإيقاع بي المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج! وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة! وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين، كما وقع في غزوة الأحزاب! وحاربوه بالإشاعات الباطلة، كما جرى في حديث الإفك! ولم تضع الحرب أوزارها حتى اللحظة! وهي حرب طويلة سنعرض لها في هذه الدراسات بعون الله وتوفيقه! {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)}! وأتمّ الله نوره في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأقام الجماعة الإسلاميّة صورةً حيّةً واقعةً من المنهج الإسلامي .. ذات معالم واضحة، وحدود مرسومة، تترسّمها الأجيال، لا نظريّة في بطون الكتب، ولكن حقيقة في عالم الواقع! وأتم الله نوره فأكمل للمسلمين دينهم، وأتمّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام ديناً يحبّونه، ويجاهدون في سبيله .. وتمّت حقيقة (الذين القيم) في القلوب وفي الأرض سواء! وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين، وتنبض وتنتفض قائمة، على الرغم من كل ما جرد على الإسلام والمسلمين من حرب وكيد وتنكيل وتشريد، وبطش شديد!

ونور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه النار والحديد، في أيدي العبيد! وإن خيّل للطغاة البغاة العتاة، ومن يشايعهم، أنهم بالغوا هذا الهدف البعيد! {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}! وشهادة الله لهذا الدّين بأنه (الهدى ودين الحق) هي الشهادة، وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة! وقد ظهر الدّين قوّةً وحقيقةً، فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض، في مدى قرن من الزمان! ثم زحف زحفاً سلمياً بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقيا وغيرهما! وما يزال يمتدّ بنفسه .. رغم ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، ومن تحطيم للحركات الإسلاميّة، على أيدي عملاء السيل المنهمر من الحقد الأعمى على الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! وما تزال لهذا (الدّين القيّم) أدوار في تاريخ البشريّة يؤدّيها، ظاهراً بإذن الله تعالى على الدّين كله، تحقيقاً لوعد الله، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل، مهما بلغوا من القوّة والكيد والتضليل! {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح]!

وما من صاحب دين آخر أو مذهب مادي، ينظر في الإسلام نظرةً مجرّدة من التعصّب والهوى، حتى يقرّ باستقامة هذا (الدّين القيّم) وقوّته على قيادة البشريّة قيادةً رشيدةً، وتلبية حاجاتها النامية المتطوّرة في يسر واستقامة! {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}! فوعد الله قد تحقق في الصورة الظاهرة قبل مضيّ قرن من الزمان بعد البعثة المحمديّة! ووعد الله ما يزال متحقّقاً في الصورة الموضوعية الثابتة، وما يزال الدّين ظاهراً في حقيقته، في معالم الرسالة، وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! ويطالعنا بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} [الفتح]! ونبصر ذكر منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالثناء عليه من الله تعالى، وذكر منزلة الصحابة رضي الله عنهم بالثناء عليهم، وأنهم -كما قال ابن كثير (¬1): (خلصت نيّاتهم، وحسنت أعمالهم، وكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم)! ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 4: 204.

وقال مالك - رضي الله عنه -: (بلغني أن النصارى كانوا إِذا رأوا الصحابة -رضي الله عنهم- الذين فتحوا الشام يقولون: والله! لهؤلاء خير من النصارى فيما بلغنا)! وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمّة معظمة في الكتب المتقدّمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نوّه الله تعالى بذكرهم في الكتب المنزلة، والأخبار المتداولة! ونبصر صورة مؤلفة من عدة معالم لأبرز حالات هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم (¬1) .. فهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}! فهي الشدّة لله، والرحمة لله .. وهي الحميّة والسماحة للعقيدة .. فليس لهم في أنفسهم شيء، ولا لأنفسهم فيهم شيء .. وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها، يشتدّون على أعدائهم فيها، ويلينون لإخوتهم فيها .. قد تجرّدوا من الأنانية ومن الهوى، ومن الانفعال لغير الله، والوشيجة التي تربطهم بالله! وإرادة التكريم واضحة، وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم، هيئة الركوع والسجود، وحاله العبادة! {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}! والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيث رآهم .. ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة، وهي الحالة الأصيلة لهم في ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3332 بتصرف.

حقيقة نفوسهم، فعبر عنها تعبيراً يثبتها كذلك في زمانهم، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركّعاً سجّداً! وتطالعنا بواطن نفوسهم، وأعماق سرائرهم! {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}! وتلك صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة .. كل ما يشغل بالهم، وكل ما تتطلّع إليه أشواقهم، هو فضل الله ورضوانه، ولا شيء وراء هذا الفضل والرضوان يتطلّعون إليه، ويشغلون به! ويطالعنا أثر العبادة الظاهرة، والتطلّع المضمر في ملامحهم، ونضحها على سماتهم! {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}! والسيما: العلامة، وقيل: المراد بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وهو رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وفي رواية عن مجاهد: السيماء في الدنيا: هو السمت الحسن، وعن مجاهد أيضاً: هو الخشوع والتواضع! ولا منافاة بينها، حيث يكون السمت في الدنيا: الحسن الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نوراً (¬1)! واختار لفظ السجود؛ لأنه يمثل حالة الإذعان والخشوع، والانقياد والخضوع، والعبوديّة لله -عَزَّ وَجَلَّ- في أكمل صورها، فهو أثر الخشوع والخضوع، في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة، ويحلّ ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري: 26: 112.

مكانها التواضع النبيل، والشفافية الشافعية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءةً وصباحةً ونبلاً! قال أمير المؤمنين عمر الفاروق - رضي الله عنه -: (من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيّته)! وقال أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - (¬1): (ما أسرّ أحد سريرة إِلا أبدلها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه)! والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله -عَزَّ وَجَلَّ- ظاهره للناس! وقال بعضهم: (إِن للحسنة نوراً في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبّة في قلوب الناس)! وتلك الصورة الوضيئة المضيئة للصحابة -رضي الله عنهم- ليست مستحدثة، إنما هي ثابتة في لوحة القدر، ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة! {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}! وصفتهم التي عرفهم الله بها، وبشّر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها! {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}! وهكذا نبصر مثلهم ثابتاً في صفحة القدر، قبل أن يجيء محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - ومن معه! ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 4: 204.

ونبصر صفة هذه الجماعة المختارة .. صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضحةً ثابتةً في صلب الوجود، تتجاوب بها أرجاؤه .. وتبقى نموذجاً للإنسانيّة، تحاول جاهدة أن تحققها, لتحقّق معنى الإيمان في أعلى الدرجات! ونبصر فوق هذا التكريم كله .. وعد الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالمغفرة والأجر العظيم! وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة، بعد ما تقدّم من صفتهم التي تجعلهم أوّل الداخلين في هذه الصيغة العامة! {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}! وذلك التكريم وحده حسبهم، وذلك الرضى وحده أجر عظيم .. ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود. والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ! قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1): (ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات، وهو الشدّة على الكفار، والرحمة بينهم، والركوع والسجود، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً .. والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات، بل على الإِيمان والعمل الصالح، فذكر ما به يستحقون الوعد، وإِن كانوا كلهم بهذه الصفة، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء، بخلاف ما إِذا ذكر الإِيمان والعمل الصالح، فإِن الحكم إِذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم)! ¬

_ (¬1) منهاج السنة: 1: 158 دار الكتب العلمية، بيروت.

ترى، هل آن لنا أن نبصر مكانة هؤلاء الصحابة الكرام، رضي الله عنهم .. ونبصر وجوب محبّتهم وتعظيمهم وتوقيرهم، ونبصر ضرورة الاقتداء بهم، والأخذ بآثارهم، لما شرفهم الله به من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والجهاد معه، لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين ومن على شاكلتهم، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم، وتقديم حبّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك كله (¬1)! ونحاول أن نستشرف وجوه هؤلاء الصحابة الكرام وقلوبهم .. وهم يتلقّون هذا الفيض الإلهيّ من الرضى والتكريم والوعد العظيم .. وهم يرون أنفسهم هكذا في كتاب الله .. وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسّها هو في كيانه! ولكن أنّى لبشر لم يكن معهم ولم يعايش حياتهم أن يتذوّق ذلك إلا من بعيد .. رجاء أن يكرمه الله بحبّهم فيقرّب له البعيد! ونحاول -جاهدين- أن نعيش معهم في رحاب السيرة النبويّة، وهم يجاهدون في الله حق جهاده، ويرفعون لواء الحق عالياً، وهم أزكى الأمّة وأطهرها .. ونترسم خطاهم! رجاء أن ترجع إلينا سيرتنا الأولى، وتهبّ نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد يكون قضاءَ الله الغالبَ، وقدرَه الذي لا يرد! ¬

_ (¬1) انظر: شرح الطحاوية: 467، والشرح والإبانة على أصول السنة والديانة: 271.

12 - الله أكبر

12 - الله أكبر: وتفاعلت في نفسي من نفحات السيرة النبوية، ودورها في بناء المجتمع الإسلامي .. ما يبصّرنا معالم الطريق في واقعنا المعاصر .. منذ صبيحة ليل بيروت، وما جدّ بعده من أحداث .. فيما يلي (¬1): يا قومنا هل تذكرون بشائرا ... دَقَّت على الأفهام أن تُتَصوّرا أعطت لنا معنى الحياة وعزّها ... من وحيها النور الوضيء تحدّرا وبنورها فجرٌ فريد قد بدا ... لنرى به وجه الحقيقة مُسْفرا فجر أتى فمحا الظلام بنوره ... وبنى المصلَّى بل أضاء المنبرا وكأننا في الغار نرقب ما جرى ... ومحمد في الغار يعتزل الورى * * * ¬

_ (¬1) ألقيت بعضها في معاهد التربية الخاصة بالكويت، في حفل منظمة التحرير الفلسطينيّة في ذكرى مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام 1393 هـ، وبعضها في حفل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية عام 1394 هـ.

يا قومنا هل تذكرون محمداً ... والروح هلّل في السماء وكبّرا؟ يا قومنا هل تذكرون حبيبكم ... والوحي في آياته متكررا؟ هل تذكرون اقرأ فهذا أمرنا ... واجهر بدين الله واصدع منذرا؟ فهنا سما فوق الحياة وإِصرها ... متسامياً لمعالمٍ لن تحصرا في لمحة ترك المكان خلالها ... ليقول عمن لا يُحدّ ولا يُرى وهنا بدا صوت الحقيقة واضحاً ... لم يُبقِ منه قصّةً أو منظرا أعطى الحياة جلالها ووقارها ... حتى نرى فيه الوجود الأكبرا * * * صلى عليك الله يا خير الورى ... في يوم مولدك الشريف وطهّرا

يا خير خلق الله يا علم الهدى ... يا نفحة الرحمن يا نوراً سرى قد كان قبلك كل شيء مظلما ... والحق كان لدى المكابر منكرا كانت حياة الناس طرًّا لعبة ... شنعاء بل سفرت أخسّ وأحقرا ما بين أصنام تُطاف وعصبة ... تدعو بعزّ جدودها وتكاثرا حتى أتيت فأشرقت شمس الهدى ... فإِذا جميع الخلق أضحى مبصرا وإِذا طواغيت تهاوت جملة ... فتحرّرت من ظلمها أممٌ ترى وإِذا الإِخاء يعمّ حتى أصبحوا ... جسداً يحس بما لأضعفهم جرى والعدل والإِحسان رفرف عالياً ... والنصر للإِسلام أصبح مظهرا

فإِذا أُصبنا في الحروب بنكسة ... ترتاد من ظلم النفوس القهقرى فاليوم أوضحت الأمور وأظهرت ... ما كان من سبب الهزائم مضمَرا الغرب والشرق الجحود كلاهما ... كالرجفة الهيجاء تعصف بالقرى يعطون من كل القذائف نحونا ... ناراً تؤجّج في الضلوع وخنجرا ناراً تحرِّق كل ما فوق الثرى ... تصلي مزيداً في البلاء ومحورا في ليلة ليلاء قامت عصبة ... ملعونة رعناء تأتي المنكرا في أرض لبنان الأبيّ مهازل ... كالموج يعصف بالديار مزمجرا وكان قومي في غياهب ليلهم ... والموت يدخل كل دار في الذرا والحقد غذته اللعوب مرارة ... والبيت في شعب هنالك أقفرا

والجبن في هذا الجبان قد انزوى ... وكأننا في الكهف نرقب ما جرى وهنا نلاقي في الشوارع خنفسا ... ببغاء يصرخ في الهواء مكررا من كل لون في الضلال ووزره ... وإِذا تقدمّ للقتال تأخّرا يا أيها الهيبي المخالف ربه ... ماذا أقول بما أحسّ وما أرى؟ يا أيها الرجل المدلّي شعره ... طولاً أشدّ من البنات وأنضرا أنت الجهالة والضلالة ركّبا ... من كل شيطان هوى أن يحفرا قبراً هنا للمسلمين جميعهم ... والكلّ يهوي في متاهات السرى قبراً هنا يبني بكل خطيئة ... ليضمّ جيلاً للمعاصي سخّرا

ويضمّ جيلاً للرسول مخالفا ... ويضم جيلاً للمعارك قصّرا ويضمّ جيلاً للمكارم تاركاً ... والعلم نزراً والحديث مثرثرا عصر الهزائم عاش فيه جنابهم ... عاث المضلّل فيه حتى أدبرا باسم التقدّم يهدمون لأنهم ... يجدون كل حديث دين منكرا * * * يا أمة الأخلاق هذا جيلنا ... يلقاك بالخلق الوضيع مصعّرا إِن كان لا يدري فتلك جهالة ... مهما ادّعى أن الحياة تحرّرا كنا نؤمل أن يكون سلوكهم ... خلقاً قويماً في المدائن والقرى يا أمتي إِن الصراط لواضح ... والحق قد أوحى السبيل وحرّرا

يا أمة الإِسلام هذا حالنا ... هلاً بصف واحد لن يكسرا؟ هلاّ بدين الحق يحمي جيشنا ... ويعيد في يده اللواء مظفرا فالله قد رسم الطريق لنصرنا ... فلم المتاهة في المذاهب يا ترى؟ * * * الله أكبر قالها خير الورى ... للعالمين هدايةً وتحرّرا وسراجها الوهّاج أرسل نوره ... يهدي الضرير ويرشد المتحيّرا نور سرى فكسا المنارة ضوؤه ... وعلا نداء الله جلّ مكّبرا * * * الله أكبر قالها جيش سرى ... فوق الحمام ليستعين ويعبرا

فإِذا القناة تقاصرت أطرافها ... وكأن كل الجيش يزحف في الثرى وحباه وعد الله جل جلاله ... نصراً أتى بعد الهزائم مبهرا في شدة الأحداث يأتي وعده ... ليعين من عرف الكتاب وأبصرا ويعين من تبع النبي محمداً ... ويريه نور الحق أوضح ما يرى في قوة بدأ القتال وجنده ... ملك الزمام وذلّل المتكبّرا ومشى على متن القناة ومائها ... ورقى على هول الصعاب غضنفرا لولا العقيدة ما تحرّك خطوة ... أبداً ولا بالنصر عاد مظفّرا حمل اللواء وقام بضرب وافداً ... داس الكرامة والقداسة مهدرا دستوره بين الأنام خيانة ... عدد النجوم شواهد لن تنكرا

إِن ترجع الماضي تجد لك شاهداً ... حقًّا وإِن يك في الصحائف سطّرا فحقائق التاريخ خير مواعظٍ ... للمؤمنين وسل بذلك من قرا حقب من الأهوال تحمل عبرة ... ماذا بهذا القزم حتى يفخرا؟ والخطب أكبر والحياة مريرة ... بين الأنام سفاهة وتحدّرا * * * الله أكبر دوحة أحيى بها ... أشهى لديّ من الحياة وأنضرا وزعيم دوحتها الحبيب محمد ... نور من الرحمن أهدي للورى ما إِن قرأت ولا سمعت حديثه ... حتى أحسّ به بروحي قد سرى وكأنه يوحى لأول مرة ... والروح يزجيه مهيباً نيّرا

في حبه أجد الحياة سعيدة ... وأحسّ وجه الحور فيه مسفرا قبس من الإِيمان شع ضياؤه ... فأنار ما أخفى الظلام وأظهرا لو كان فينا نوره ما أطبقت ... كسف الظلام على النفوس كما نرى لو كان دستور السماء دليلنا ... لرأيت من فيض العجائب أنهرا لو كان فينا سنة الهادي لما ... جرؤ الطغاة وطأطأت لهم الذرا * * * عفواً حبيب الروح إِني حائر ... وبكل ناحية أرى خَطْباً عرا وعلى ربوع القدس خيّم باطل ... من ظلم صهيون تجبّر وافترى والحرب قائمة نخوض غمارها ... وتواجه الأخلاق حرباً أخطرا

والصوت في سمع الزمان شعاره ... شر المبادئ ما يباع ويشترى * * * الله أكبر باسم ربّي وحده ... نحمي الشريعة والكتاب النيّرا والظلم يأذن بالرحيل ولن ترى ... من ملحد باغ ولا متجبّرا * * * قسماً سأصدع بالكتاب مجاهراً ... ومجاهداً حتى أغيَّب في الثرى حتى يعود إِلى النفوس صفاؤها ... فترى هداها بالجلال مسورا حتى يعود إِلى القلوب ضياؤها ... فترى النبي مشفّعاً ومبشّرا وترى الحبيب مجاهداً ومصابراً ... وترى الرسول مثابراً ومبصّرا وترى الحياة سعيدة وهنيئة ... وترى الطريق موضّحاً ومحرّرا

صدق الولاء يشدّني حيث التُّقى ... باسم الحنيفة بالكتاب مذكّرا من كل معنى للعقيدة قائم ... وبكل حب كان نوراً نيّرا نوراً ترى فيه إِذا أحببته ... معنى الحياة وعزّها متفجّرا حبًا لدين الله كان ولم يزل ... مسكاً بأفواه الزمان وعنبرا * * * يا حبّنا لك في القلوب مكانة ... تسمو وتعلو كل حب أثّرا الحبّ أنت فمنك يعلم أمره ... وإِليك يرجع يا حبيبي آخرا صدق اليقين أمانة لك في دمي ... يأبى لها الإِيمان أن تتغيّرا لست الذي يرضى الحيانة مذهباً ... ويرى التقلّب في العقيدة متجرا

إِن كنت للرسل الكرام إِمامهم ... فلأنت للدنيا صباح أسفرا ولأنت للقلب المعنَّى حبه ... أبداً أرى فيك الحبيب الأطهرا * * * يا حبّنا لما ذكرتك أشرقت ... روحي فأنظر للبرايا حضّرا في ساحة الميزان أرقب رحمة ... تسمو فتهدي المخلصين الكوثرا والنار في غليانها وحريقها ... والظالمون على الصراط تعثّرا يهوون في نار تذيب جلودهم ... والعقل من هول العذاب تحجّرا فمضى يولول في الجحيم ونارها ... وهوى يجلجل في الوعيد مكشّرا مستصرخاً من كل أنّات النوى ... ويكاد يفنيه اللهيب مسعّرا

حتى يذوق الذل في جبروتها ... يهوي هشيماً في الجحيم مبعثرا يتجرّعون صدديدها وجحيمها ... من كل لون في العذاب مكرّرا حتى الثياب مقيسة ومحيكة ... كفناً أعدّ من الجحيم محرّرا يمسي ويصبح بالوعيد مجددا ... يعطى عقاباً بالخطايا مشترى وهنا ترى اللعنات فيما بينهم ... وترى الحديث ملفّقاً ومزوّرا وترى التبرؤ والتنصّل شاملاً ... ما كان في الدرج الذوائب والذرا وهنا ترى تلك الوجوه كئيبة ... وحسيرة تصلى سعيراً ممطرا ومشاهداً أخرى هنالك غيرها ... حتى ترى فوق العجائب ما ترى حتى ترى هذا الرجيم إِمامهم ... يلقي بدائرة الملام ومنكرا

وهنا فقط يعظ اللعين موضحاً ... وهنا فقط يعظ اللعين مقرّرا والكل يرجو أن يفوز بجنة ... والحق يحكم ليس يحكم فجّرا هلا تبعت إِلى النجاة محمدًا ... حتى تفوز إِلى الجنان وتعبرا فهو السبيل إِلى الحياة وعزّها ... بل رحمة للعالمين مبشّرا لا تطفئ الأحقاب من أنواره ... أبداً يساقط عن ضياه الأعصرا * * * يا أمة الإسلام قودي للهدى ... كل الخليقة أسوداً أو أحمرا حتى نرى سِلماً يعود ورحمة ... ونرى الوجود مضمّخاً ومعطّرا ونرى الشباب تحسنت أخلاقه ... مسكاً بأفواه الزمان وعنبرا

ونرى الظلام تكسرت أمواجه ... والناس قد لزموا الكتاب المبصرا ونرى حياة الخلق طرًّا حلوة ... لو أنهم تبعوا السراج النيّرا ونرى بلاد المسلمين تحرّرت ... من كل شيطان أتى مستعمرا ونرى فلسطين الأبيّة أصبحت ... علماً يرفرف بالسلام ومفخرا ومآذن القدس الشريفة أذّنت ... والمسجد الأقصى هنالك كبّرا والنور يسري في ربوع حياتنا ... والأرض تلتحف البساط الأخضرا ونرى كتاب الله يحكم شرعه ... بين الخلائق قاضياً ومدبّرا فتهزّنا الأصداء من إِرعاده ... والقلب لمَّا أن جفاه تفطّرا وتهزّنا الكلمات من آياته ... والروح لمَّا أن هواه تعطّرا

يتدفّق الإِيمان في عبراتنا ... وهنا نرى الوطن الأبيّ تحرّرا ونرى رسول الله في سنن الهدى ... عادت لتحيي كل شيء أقفرا والشمس بالتوحيد أشرق نورها ... والخلق هلّل وجههم وتنوّرا والحبّ والإِيمان جاء لقلبنا ... والنصر للإِسلام جاء معطّرا والأزهر المعمور بشّر داعياً ... والقيروان أتى يحيي الأزهرا ومن هنا كان هذا الكتاب معالم ضروريةّ لكل مسلم، وردًّا للشبهات، ودحضاً للمفتريات، في مواجهة ذلك السيل المنهمر من الحقد الدفين عبر التاريخ على محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! بيّنت فيه ما وفقني الله تعالى إليه من خصائص حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودورها في بناء المجتمع الإسلامي، في ضوء القرآن الكريم، والسنة وفق قواعد التحديث رواية ودراية، ومكانة الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحاجة الإنسانيّة إلى اتباعه - صلى الله عليه وسلم -!

واقتضت منهجية البحث أن نقدِّم خصائص السيرة ومصادرها. والله أسأل: التوفيق والسداد! والعون والرشاد! إنه سميع مجيب! الكويت في: 22 من جمادى الأولى 1428 هـ 27 من مايو 2008 م راجي عفو ربه سعد محمد محمد الشيخ (المرصفي) أستاذ الحديث وعلومه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت. سابقاً

خصائص السيرة

خصائص السيرة

خصائص السيرة أولاً: أصح سيرة لتاريخ نبيّ مرسل: 1 - من خصائص الأمة الإسلامية 2 - الحفظ في الصدور والكتابة في السطور 3 - قواعد التحديث رواية ودراية 4 - أربع خصال ثانياً: الوضوح في جميع المراحل ثالثاً: المثالية في كل ما يتعلق بها رابعاً: الشمول والتكامل خامساً: الدليل العملي على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -

أولا: أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل

خصائص السيرة ويأتي الحديث عن خصائص السيرة فيما يلي: أولاً: أصح سيرة لتاريخ نبيّ مرسل: لم نعرف على مدى التاريخ البشري كله أمة من أمم الرسل عليهم صلوات الله وتسليماته (¬1)، سعدت بمثل ما جاء في القرآن الكريم عن الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا بمثل المجموعة الناطقة من الأحاديث النبويّة، وذلك السجل الخالد .. بل على العكس من ذلك، نرى الأمم كلها فقيرة لا تملك مصدراً وحيداً من مصادر البحث عن الأنبياء، ونراها قد انقطع ما بينها وبين أنبيائها، وفقدت الصلة التي تصلها بعصر هؤلاء الرسل، وتوقفها على شؤون حياتهم، وما يكتنفها من ظروف وملابسات، حتى صار كثيرون يتساءلون، بل يشكّون في نبوّة أنبيائهم! ونحن مع معارضتنا لهذا التطرّف نؤمن بأن حلقات كثيرة مفقودة من حياة أنبيائهم، لا يمكن البحث عنها، والاهتداء إليها! أما خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - فهو الرسول الذي نعرف عنه كل دقيق وجليل، ونعرف عنه من دقائق الأخلاق والصفات، والميول والرغبات، والقول والعمل، ما لا نعرفه عن غيره، بل إن ما عرفناه عن الأنبياء جاء من طريق الوحي الذي أنزله الحق -تبارك وتعالى- على خاتم الرسل صلوات الله ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: دروس وعبر: الدكتور مصطفى السباعي: 13 وما بعدها، المكتب الإسلامي، وكتابنا: الهجرة النبوية ودورها في بناء المجتمع الإسلامي: دراسة تحليليّة في ضوء الكتاب والسنة: 23 وما بعدها، مكتبة الفلاح، ط ثانية 1409 هـ 1988 م.

1 - من خصائص الأمة الإسلامية

وسلامه عليه وعلى إخوانه من الرسل والأنبياء أجمعين، كما جاء من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 1 - من خصائص الأمة الإسلاميّة: وعليه فالحديث النبوي بهذه الصورة هو السجل الخالد، الذي حفظ هذه الحياة المباركة، وهو من خصائص الأمّة الإسلاميّة، وهو الذي يعرّف المسلم بكل ما يتصل بنبيّه وحبيبه، من قول وفعل، وتقرير ووصف، في الحركات والسكنات، ويسعده بصحبته، وكأنه حضر مجلسه، واستمع لحديثه، وقضى معه أسعد مدة من الزمان، ليسمع كلامه، ويشاهد عمله، ويدرس سيرته! وهو ميزان عادل لحركة هذه الأمّة، والحياة النابضة، والقوى المؤثرة، التي تبعث على الخير والفلاح، والرشد والصلاح! 2 - الحفظ في الصدور والكتابة في السطور: ومن رحمة الرحمن الرحيم جلّ شأنه أن كانت هذه الأمة تملك قوة الذاكرة، وسرعة الحفظ والاستظهار، مما يسّر لها الجمع والاستحضار -كما أسلفنا-، حتى كانت القلوب واعية، والعقول حافظة، ولا غرو فهم قد بهرهم الوحي بقوة بيانه، وأخذ عليهم مشاعرهم بسطوة سلطانه، واستأثر بكريم مواهبهم في لفظه ومعناه، فكان الحفظ في الصدور، والتدوين في السطور، وكانت الصبغة التي شاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن تكون، وقد تأسوا به في حياتهم، حين علموا أنه روح الحياة! ومن ثم كانوا أهلاً لتحمل الرواية, وفقه الدراية، حتى فاقوا في ذلك كل الأمم!

3 - قواعد التحديت رواية ودراية

وقد وعى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ما سمعوا، وما شاهدوا، وحرصوا أشدّ الحرص وأبلغه على حفظه ونشره، حرصاً لم يعرف عن أمّة نبيّ من الأنبياء! وجاء التابعون وتابعوهم بإحسان، فحملوا الراية، وأدّوا الأمانة، وبلّغوا حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتتابع المسلمون جيلاً بعد جيل يحفظون ويبلغون! 3 - قواعد التحديت رواية ودراية: وقد كان لقواعد التحديث روايةً ودرايةً الأثر الفعال في وضع الموازين التي تكفل السلامة للباحثين، وتقيم الحجّة على المفسدين المغالطين، ممن ساءت نواياهم حيال هذا الدّين، فاتهموا هذه القواعد بما لا يقوم على ساق ولا قدم، ولا يستقرّ عند البحث والنظر! أجل، إن في هذه القواعد التي لا نظير لها عند غير المسلمين فوائد مهمة فريدة، ومباحث جمّة مفيدة، ومعارف رائعة وحيدة، ومعالم عالية عجيبة، وتحقيقات بديعة لطيفة، نفيسة شريفة، لا يستغني عنها من يشتغل بالبحث في العلوم الشرعية، والطرق الحكميّة، والأدلة اليقينيّة! إنها عصمة من الزلل، ولولاها لقال من شاء في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما شاء، وخبط الناس في ذلك خبط عشواء، وركبوا من عمياء! إنها مقدمة العلوم الشرعيّة ومفتاحها، ومشكاة الأدلّة اليقينيّة ومصباحها، وعمدة المناهج العلميّة ورأسها! وليعلم من يريد أن يعلم (¬1): ¬

_ (¬1) مقدمة سنن الترمذي: أحمد شاكر: 71 وما بعدها، الحلبي، ط ثانية 1398 هـ 1978 م.

من إنسان أسلس للعصبيّة المذهبيّة قياده، حتى ملكت عليه رأيه، وغلبته على أمره، فحادت به عن طريق الهدى، وقذفت به في مهاوي الردى! أو من إنسان قرأ شيئاً من العلم فداخله الغرور، إذ أعجبته نفسه فتجاوز بها حدّها، وظن أن عقله هو كل شيء في هذا الوجود، وأنه (الحكم الترضى حكومته) فذهب يلعب بأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، يصحّح منها ما وافق هواه، وإن كان مكذوباً موضوعاً، ويردّ ما لم يعجبه، وإن كان الثابت الصحيح! أو من إنسان استولى أعداء الحق على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم، يحسبها نوراً، ثم هو قد سماه أبواه باسم إسلامي، وقد عدّ من المسلمين -أو عليهم- في دفاتر المواليد، وفي سجلات الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي ألبسه جنسيّة، ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل النصوص، ليخضعها لما تعلّم من ضلالات أساتذته، ولا يرضى من الأحاديث والسيرة ما يخالف أهواءهم وضلالاتهم! أو من إنسان مثل سابقه، إلا أنه أراح نفسه، وأراح الناس من التعرّف على هويّته، فاعتنق ما نفث أعداء الحق في روحه من انحرافاتهم وضلالاتهم، ثم هو يأبى أن يعرف الإسلام ديناً ويعترف به، إلا في بعض شأنه في التسمّي بأسماء المسلمين، وفي بعض المظاهر! أو من إنسان عُلّم في معاهد هؤلاء، فعرف من أنواع العلوم كثيراً، ولكنه لم يعرف عن دينه إلا نزراً أو قشوراً، ثم خدعته مدنيّة هؤلاء عن نفسه، فظنّهم بلغوا من المدنيّة الكمال والفضل، وفي نظريّات العلوم اليقين والبداهة، ثم

4 - أربع خصال

استخفّه الغرور فزعم لنفسه أنه أعرف بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأعلم من علماء هذا الدّين وحفظته وخلصائه، فذهب يضرب في الدّين عن هوى مبين، يرجو - في زعمه- أن ينقذه من جمود علمائه وحفظته وخلصائه! أو من إنسان كشف عن دخيلة نفسه، وأعلن إلحاده في هذا الدّين وعداوته، ممن قال القائل فيهم: كفروا بالله تقليداً! أو من إنسان .. أو من إنسان! ليعلم هؤلاء، وليعلم من شاء من غيرهم: أن المحدّثين كانوا محدّثين ملهمين، تحقيقاً لمعجزة سيد المرسلين، وخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، حين استنبطوا القواعد المحكمة لنقد الأحاديث، ومعرفة الصحاح من الزياف، وأنهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين بل كانوا جادّين على هدى وعلى صراط مستقيم، فكانت تلك القواعد، التي ارتضوها للتوثيق من صحة الأخبار أحكم القواعد وأدقّها, ولو ذهب الباحث المتثبّت يطبّقها على رواية الأحاديث لآتته ثمرتها، ووضعت يده على الخبر اليقين! 4 - أربع خصال: والحياة التي يجدر بالناس أن يتخذوا منها قدوة لهم في حياتهم، تتوافر فيها أربع خصال (¬1): الأولى: أن تكون (تاريخيّة)، أي أن التاريخ الممحّص الصحيح يصدّقها ويشهد لها! ¬

_ (¬1) الرسالة المحمديّة: 68 وما بعدها بتصرف.

الثانية: أن تكون (جامعة)، أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شمائلها! الثالثة: أن تكون (كاملة)، أي متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة! الرابعة: أن تكون (عمليّة)، أي أن تكون الدعوة إلى المبادئ والفضائل والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه، وأن يكون كل ما دعا إليه بلسانه قد حقّقه بسيرته، وعمل به في حياته الشخصية والعائليّة والاجتماعيّة، فأصبحت أعماله مُثلاً عليا للناس، ومن ثم تكون الأسوة! وكل هذه الأمور موجودة في سيرة محمد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس معنى هذا أن سير الأنبياء قد صفرت من تلك الخصال مدة وجودهم في الحياة الدنيا، بل إن سيرتهم التي توجد الآن بين أيدي الناس قد أصابها التحريف، ودخلها التخريف، ومن ثم فهي لا تنصّ على هذه الأمور! ولعل الحكمة في ذلك ترجع إلى أن أولئك الأنبياء إنما بعثوا لأزمانهم وشعوبهم، فكان الموفّقون للخير من شعوبهم في أزمانهم يرون سيرتهم، ومن ثم تكون الأسوة .. ولم تكن هناك حاجة إلى أن تبقى سيرتهم معلومة للأجيال التالية بعدهم؛ لأن النبوات ستختم برسالة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - الكاملة إلى الناس كافة، في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل، وعصر ومصر .. فكانت الحاجة ماسة إلى أن تكون سيرته - صلى الله عليه وسلم - معلومة على حقيقتها إلى يوم القيامة؛ ليتيسّر التأسّي بها لجميع أمم الأرض، وهذا من أصدق البراهين العملية والسلوكيّة على كون خاتم النبيّين محمد - صلى الله عليه وسلم - لا نبيّ بعده! ولقد شهدت الدنيا أصدق شهادة، ثم ازداد ذلك ثبوتاً على الأيّام بأن الدّين القيّم لم يقتصر على مجرد حفظ سيرة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، بل توسّع في

ذلك إلى ما يتعلق بها من كل النواحي، وصان هذه الأمانة القدسيّة، فلم تقترب منها يد الضياع، ولم تعبث بها عوامل الدهر، إلى درجة أن العالم كله يقف من ذلك موقف العجب! والذين وقفوا حياتهم منذ العصر النبوي على حفظ أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواية أحاديثه، وكل ما يتعلق بحياته أدّوها إلى من ضبطوها بعدهم، وكتبوها، وهم طبقات معروفة من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم بإحسان .. فلما تمّت هذه الذخيرة التاريخية جمعاً وكتابة وتدويناً، وفق أصول التحديث رواية ودراية، جعل العلماء يكتبون سير هؤلاء الرواة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة الذين رووا شيئاً مما يتعلق بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكتبوا أسماءهم وكناهم، وأنسابهم، ومنشأهم، وأخلاقهم، وعاداتهم .. وبالجملة شؤون حياتهم، حتى أصبح ما كتبوا في هذا الباب علماً مستقلاً! وقد ادّعى الألماني المعروف الدكتور (سبرنكو) أنه أول أوروبّي كتب في سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم -، معتمداً على المصادر العربيّة الأولى، ولم يعتمد في تأليفه إلا عليها، مع أنه في الحقيقة لم يكتب دفاعاً عن صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم -، بل كان متحاملاً، إلا أنه قال في مقدمته على كتاب (الإصابة) المطبوع في (كلكتا) 1853 - 1864 م: (لم تكن فيما مضى أمّة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمّة من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر)! وقد توفّي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان (¬1)، من رجل وامرأة! ¬

_ (¬1) انظر: الإصابة: 1: 2 - 3.

ومن هؤلاء عشرة آلاف صحابي، مذكورة أسماؤهم وأحوالهم في الكتب التي أفردت للتدوين؛ لأن كل واحد منهم حفظ شيئاً من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وهديه وسيرته! وبعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقي فريق من كبار الصحابة إلى سنة (40 هـ)، وبقي بعد ذلك من الصحابة الذين كانوا أحداثاً في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد غير قليل .. فلما انقرض ذلك الجيل لم يبق من الصحابة أحد، وانطفأ سراج أُوقد بنور النبوّة! وجاء دور التابعين الذين هم تلاميذ الصحابة، والذين ينزلون المنزلة الثانية بعدهم في تبليغ الدعوة، وحمل الرسالة المحمديّة إلى الأنحاء النائية، والبلاد المترامية الأطراف، ولم يكن لهم همّ في الدنيا إلا حفظ الدين، ونشر أحكامه، وتعميم سننه وآدابه، والتعريف بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه! فقد ذكر ابن سعد في الطبقات (139) من التابعين أهل الطبقة الأولى الذين كانوا في المدينة! وذكر (129) من الطبقة الثانية الذين أدركوا عامة الصحابة ورووا عنهم! أما الطبقة الثالثة من التابعين فهم الذين حظي الواحد منهم برؤية صحابي واحد، أو عدة من الصحابة، وعدد هؤلاء (87)، فمجموع التابعين (355) في مدينة واحدة، وهي مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! فقيسوا على ذلك عدد الذين أخذوا عن الصحابة في المدن الإسلاميّة، التي انتشر الصحابة فيها من مكة إلى الطائف، والبصرة، والكوفة، ودمشق، واليمن، ومصر، وغيرها .. وهؤلاء لم يكن لهم همّ إلا نشر رسالة الإسلام، وتبليغ أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه وسيرته!

وهنا نبصر اهتمام المؤّرخين باستيعابهم، واستقصاء أحوالهم في إحصاء الأحاديث المرويّة عن الصحابة .. وتلك الروايات الكثيرة التي حفظت لنا سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع مراعاة التبليغ إلى الجيل الذي بعدهم كل ما رأوه بأعينهم، وسمعوه بآذانهم، من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله .. ومن ثم كانوا يعلّمون أولادهم وإخوانهم وأصحابهم وأقرباء هم من الدّين والعلم كل ما كانوا يعلمونه، بحيث كان ذلك هو الشغل الشاغل آناء الليل وأطراف النهار، وفي الغدوّ والآصال! ونبصر -أيضاً- تعلم النشء الإسلامي الأول حقائق رسالة الإسلام، وتفاصيل حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، منذ ترعرعوا في بيئاتهم التي كانت ساحة للعلم والعمل، ومدارس يتقلّبون في فصولها، وما لبثوا أن قاموا مقام الصحابة - رضي الله عنهم- وسدّوا مستدّهم في حفظ هذه الأحاديث، ووعي هذه المرويات التي كانوا يحفظونها كلمة كلمة، ويعيدون رواياتها بألفاظها، دون أن يبدّلوا منها كلمة! وكما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرّض أصحابه على أن يبلّغوا عنه، ويفقهوا رسالته، وينصروا دعوته، ويعرّفوا سنته، كان ينهى عن أن يتقوّلوا عليه ما لم يقل، أو ينسبوا إليه ما لم يفعل، وكان ينذر من يتعمّد الكذب عليه بأنه سيتبوأ مقعده من النار! ومن المعلوم أن ذاكرة العرب كانت قويّة -كما عرفنا- وأنهم يحفظون آلافاً من الشعر وينشدونها عن ظهر قلب بلا زيادة ولا نقص، ومن طبيعة البشر أنهم إذا أكثروا استعمال قوة من قواهم تزداد هذه القوّة قوّة وحيويّة، وقد مُرِّن الصحابة والتابعون على حفظ الأحاديث، حتى بلغوا في ذلك شأواً بعيداً،

ثانيا: الوضوح في جميع المراحل

والمحدّثون كانوا يحفظون ألوفاً من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويكتبون بعد ذلك ما كانوا يسمعون ويحفظون! وصدق شبلي نعماني، حيث قال: (إلى يوم الدين لن يستطيع أحد أن ينافس المسلمين في فخرهم بحفظ أدق تفاصيل كل حادث في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطريقة دقيقة وواعية، لا يصل إلى مستواها تسجيل حياة أي إنسان آخر من قبل، ولا يمكن أن ينتظر من بعد، فمن أجل تسجيل هذه الحياة بأدق تفاصيلها قام علماؤنا بتسجيل أسماء وخصائص نحو ثلاثة عشر ألفاً من الصحابة، وتمّ هذا في وقت كان فجر نظام التأليف! ولنرجع إلى كتب الطبقات وعلم الرجال، لنرى فيها هذه الصورة الفريدة في التراث الإنساني .. إنه جهد لا نظير له في تاريخ الإنسانيّة من أجل حياة فرد واحد) (¬1)! ثانياً: الوضوح في جميع المراحل: وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها (¬2)، مما يجعل سيرته - صلى الله عليه وسلم - واضحة وضوح الشمس، حتى قال بعض الغربيين: (إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو الوحيد الذي وُلد على ضوء الشمس)! وهذا ما لم يتيسّر مثله ولا قريب منه لرسول من رسل الله السابقين .. وما ¬

_ (¬1) الإسلام والعروبة في عالم متغير: دكتور عبد العزيز كامل: 51 - 52 كتاب العربي: الكتاب الثاني والعشرون 1989 م نقلاً عن: سيرة النبي: شبلي نعماني: 1: 8. (¬2) السيرة النبوية: دروس وعبر: 15 وما بعدها بتصرف.

من حياة أحد يصح أن يكون منها للناس أسوة تتّبع (¬1)، ومثال يُقتدى به إلا إذا كانت متّصفة بالكمال، ولا تكون حياة أحد كاملة ومنزّهة عن العيوب والمثالب إلا إذا كانت معلومة للناس بجميع أطوارها، ومتجلّية لهم دخائلها من كل مناحيها، وواضحة كل الوضوح في جميع مراحلها، وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة للذين عاصروه وشهدوا عهده، وقد حفظها التاريخ عنهم لمن بعدهم! وقد سجل التاريخ أن جميع شؤونه وأطوار حياته، من ولادته ورضاعته وطفولته، إلى أن صار يافعاً وشابًّا .. كل ذلك ظاهر أمره، معلومة تفاصيله، وقد علم الناس سجاياه في صدقه وفي وفائه للناس قبل النبوة -كما عرفنا- واتصلوا به حين اتخذوه أميناً، وأقاموه حكماً فيما اختلفوا فيه من نصب الحجر الأسود في موضعه في الكعبة، ثم وقفوا على أمره حين حُبّب إليه الخلاء في (غار حراء)، ثم علموا حاله حين نزل عليه الوحي، وحين بدأ أمر الإسلام يظهر للوجود، فأخذ يدعو الناس، ويبلّغ ما أنزل عليه -كما سيأتي- وقد رأى التاريخ كيف خالفوه وعاندوه! وهل غاب عن التاريخ ما لقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نشر الإسلام من جهد وعناء، وما قابله به أهل الطائف، حين سار إليهم يدعوهم إلى عبادة الرحمن؟! وهل نسي التاريخ كيف أخبر أهل مكة، وهم أقليّة من المسلمين، وأكثريّة ساحقة من المشركين بخبر العروج إلى السماء؟! ثم هل خفي عن التاريخ أمر هجرته - صلى الله عليه وسلم -، ومن هاجر، والغزوات التي ¬

_ (¬1) الرسالة المحمدية: 102 وما بعدها بتصرف.

ثالثا: المثالية في كل ما يتصل بها

غزاها، والأسباب الباعثة عليها، وموقفه من الهدنة إذا هادن، وعهوده إذا عاهد؟! وما صلح الحديبية بسر! والذين طالعوا كتب السيرة النبوية يعلمون ذلك وغيره، وقد وقفوا على كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك وغيرهم يدعوهم فيها إلى دين الله، دين السلام والوئام، وعرفوا جهاده - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الحق، وما بذله في تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، إلى أن أكمل الله للإنسانيّة دينها، وحج - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، وتوفاه الله إليه! فهل في شيء من ذلك ما يجهله التاريخ؟! وهل فيما يتعلق بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته ما أسدل عليه ستار من خفاء؟! وقد سجلت مصادر السيرة أدق التفاصيل في حياة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، كأكله، وقيامه، وقعوده، ولباسه، وشكله، وهيئته، ومنطقه، ومعاملته لأسرته، وتعبّده، وصلاته، ومعاشرته لأصحابه، بل بلغت الدقة في رواة سيرته أن يذكروا لنا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته - صلى الله عليه وسلم -! ثالثاً: المثاليّة في كل ما يتصل بها: وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيرة إنسان أكرمه الله بالرسالة، لم تخرجه عن إنسانيّته، ولم تلحق حياته بالأساطير، ولم تضف عليه الألوهيّة قليلاً ولا كثيراً، ونحن إذا قارنا هذا بما يرويه المسيحيّون عن سيرة عيسى -عليه السلام- وما يرويه غيرهم عن آلهتهم المعبودة، اتضح لنا الفرق جليًّا بين سيرته - صلى الله عليه وسلم - وسير هؤلاء، ولذلك أثر بعيد المدى في السلوك الإنساني والاجتماعي، فادعاء النصارى الألوهية لعيسى عليه السلام جعله أبعد منالاً من أن يكون قدوة،

نموذجيّة للإنسان في حياته الشخصيّة والاجتماعيّة، بينما نرى محمداً - صلى الله عليه وسلم - المثل النموذجي الإنساني الكامل لكل من أراد أن يعيش سعيداً كريماً في نفسه وأسرته وبيئته، وصدق الله العظيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]! وهنا نبصر أن هذا (الدّين القيّم) قدّم للناس أعمال خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وطلب منهم التأسّي به في سيرته، وجعل الاتّباع لتلك السيرة والتأسّي بصاحبها وسيلة لهم في الحصول على رضا الله ومحبّته .. وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - جامعة، تجد فيها كل طائفة من طوائف البشر المثل الأعلى الذي تقتدي به، والأسوة التي تأتسي بها! ومن الظاهر الواضح أن الناس لا يزالون مختلفين في معايشهم .. ومن ثم كانت حياة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - واضحة مثاليّة كاملة، يجد فيها الناس كلهم على اختلاف طوائفهم -كما سيأتي- المثاليّة الكاملة في جميع ألوان الحياة وأطوارها! وأعظم من الأسوة (¬1)، في أعمال الإنسان الظاهرة، الأسوة فيما يتعلق بخطرات القلوب، ومجالات الفكر، ونزعات العواطف، فنحن نشعر بين كل حين وآخر بنزعات وعواطف تخالج قلوبنا وأفكارنا، فنرضى ونسخط، ونفرح ونحزن، وتعترينا السكينة والطمأنينة أو القلق والضجر، وتترتّب على هذه الأحوال عواطف مختلفة، ونوازع متعددّة، وليس الخلق الحسن إلا التعديل بين هذه الأحوال، وإقامة الوزن بالقسط بين العواطف القويّة والنوازع الثائرة، ولا يحظى بنصيبه من مكارم الأخلاق إلا الذي يعرف كيف يكبح النفس عند ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 133.

رابعا: الشمول والتكامل

جموحها، ويحسن التصرف فيها وقت ثورتها .. ومن ثم لا بد للإنسان من إمام تكون له فيه الأسوة التامة في هذه الأمور، حتى يأتمّ به في قهر هذه القوة الثائرة، والعواطف المتوثبة، إلى أن تسكن ثورة النفس، ويسلك في ذلك مسلك صاحب السيرة الذي يحمل بين جنبيه قلباً زكيًّا، ونفساً طاهرة، وروحاً عالية نزيهة! رابعاً: الشمول والتكامل: وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاملة لكل النواحي الإنسانيّة في الإنسان (¬1)، فهي تسجل سيرة محمد الشاب الأمين المستقيم قبل أن يكرمه الله بالرسالة! وتسجل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الداعي إلى الله، الملتمس أجدى الوسائل لقبول دعوته، الباذل منتهى طاقته وجهده في إبلاغ رسالته! وتسجل سيرته - صلى الله عليه وسلم - كرئيس دولة يضع لها أقوم النظم وأصحّها، ويحميها بيقظته وإخلاصه وصدقه بما يكفل لها النجاح! وتسجل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الزوج والأب في حنوّ العاطفة، وحسن المعاملة، والتمييز الواضح بين الحقوق والواجبات لكل من الزوج والزوجة والأولاد! وتسجل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المربّي المرشد الذي يشرف على تربية أصحابه تربية مثاليّة ينقل فيها من روحه إلى أرواحهم، ومن نفسه إلى نفوسهم، ما يجعلهم يحاولون الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في دقيق الأمور وكبيرها! وتسجل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي يقوم بواجبات الصحبة، ويفي بالتزاماتها ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: دروس وعبر: 17.

وآدابها، مما يجعل أصحابه -رضي الله عنهم- يحبّونه أكثر من حبّهم لأنفسهم ومن حبّهم لأهليهم وأقربائهم! وتسجل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القائد الشجاع، والمحارب المنتصر، والسياسي الناجح، والجار الأمين, والمعاهد الصادق! ونحن لا نجد مثل هذا الشمول ولا هذا التكامل، ولا قريباً منهما، فيما بقي لنا من سير الرسل السابقين، عليهم صلوات الله وتسليماته! فموسى -عليه السلام- لا نجد في أسفار التوراة الخمسة (¬1)، إلا أنه بعد ولادته تربّى في قصر فرعون، ولما بلغ مبلغ الرجال نصر قومه، ثم خرج إلى مدين وتزوج فيها، وأقام هناك برهة من الزمن، ثم رجع إلى مصر، وبينما هو في الطريق أُوحي إليه من ربه، ثم لقي فرعون وأراه آيات بينات، وخرج بقومه، ووجد في البحر طريقاً بإذن الله، وتبعه فرعون فأدركه الغرق، ودخل بقومه أرض الشام، وقد اختتم سفر التثنية بهذه الفقرات: 54: 5 - 10. (إِن عبد الله موسى مات بإِذن الله في أرض موآب، ودفنه الله في الجواء في أرض موآب، مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إِلى هذا اليوم، وكان موسى ابن عشرين ومائة حين جاءه الموت .. ولم يقم بعد نبي في بني إِسرائيل مثل موسى)! هذه الكلمات من سفر التثنية، وهو السفر الخامس من التوراة، ولا يخفى أن تلك الكلمات لم ينطق بها موسى عليه السلام، وهذا يدل على أن هذا الكلام ليس لموسى، وأن الدنيا تجهل كاتب هذه السيرة لموسى! ¬

_ (¬1) الرسالة المحمدية: 54.

ومما يلفت النظر قول القائل: (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم)! وقوله: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى)! وفي هذا دلالة على أن هذا الجزء قد أضيف إلى سيرة موسى بعد زمان طويل كان يرجى فيه أن يقوم في بني إسرائيل نبي يسد فراغ موسى، فنوّه كاتب السفر بأنه لم يقم بعد مثله! ومع هذا العمر الطويل نتساءل: ما الذي نعرفه عن حياة موسى الطويلة؟ وبأي الأعمال شغل فراغ حياته المباركة؟ وما النواحي التي نعلمها واضحة مفصلة من سيرته، مما كان ينبغي أن يعلم، لتحسن به الأسوة؟ إن الأمور التي يحتاج البشر إلى معرفتها من حياة موسى الاجتماعيّة هي الأخلاق والعادات والهدي، وكل ذلك لا نجده في سيرته، ومع ذلك فموسى - عليه السلام - يمثل القائد الذي أنقذ أمته من العبوديّة، ووضع لها من القواعد والمبادئ ما يصلح لها وحدها في عصر رسالته وكفى، ولكننا لا نجد في سيرته ما يجعله قدوة للمحاربين أو السياسيّين، أو رؤساء الدول، مثلاً! ويستغرب المرء حين يعلم أن شؤون حياة عيسى -عليه السلام - وأحوال معيشته، أخفى من غيره وأغمض، وقد أسدل الزمان عليها حجاباً أكثف مما نراه في حياة غيره من الرسل! وإن أوروبّا المسيحية قد حملها حافز البحث والكشف عن أن تستثير بطون الصحارى، وقلل الجبال، وأطراف الصخور، والأطلال الدارسة، ومظان

الآثار، ومجالات الحوادث التي مرت عليها الأحقاب الطويلة، فكتب المستشرقون التاريخ القديم لبابل وآشور وغيرهما، وأخذوا يلائمون بين الحوادث القديمة المجهولة الزمن ويعرضونها على الناس واضحة نقيّة، منسقة مرتبطاً بعضها ببعض، وطفقوا يعثرون على الصفحات المفقودة من كتاب التاريخ القديم للبشر! إلا أنهم قد أعياهم البحث والفحص فلم يجدوا الصفحات المفقودة عن حياة نبيّهم! وقد استفرغ (ريتان) جهده، ولقي من العناء والنصب مبلغاً عظيماً، ليقف على حياة عيسى كاملة تامة، ومع ذلك فإن شؤون عيسى -عليه السلام- وأحواله لا تزال سراً مكنوناً في ضمير الزمن، لم يبح به لسانه بعد! إن عيسى -عليه السلام- عاش في هذه الدنيا ثلاثاً وثلاثين سنة، كما يروي الإنجيل، والأناجيل الموجودة الآن -على ما في رواياتها من ضعف ولبس- مقصورة على ذكر أحواله لمدة ثلاث سنوات من أواخر حياته وحسب! ونتساءل: أين قضى عليه السلام الثلاث أو الخمس والعشرين سنة على الأقل من حياته؟ وفيم قضاها؟ وبأي الأعمال شغل هذا الفراغ الواسع من عمره؟ إن الدنيا لا تعلم عن ذلك شيئاً، ولن تعلم! وإن السنوات الثلاث الأخيرة التي ذكرت أحواله ماذا نجد فيها؟ آيات ومعجزات معدودات وبعض العظات! ومن الشروط الضروريّة التي لا بد منها لكل من يرجى أن تكون سيرته وهدايته أسوة للبشر، الشمول والتكامل -كما أسلفنا- والمراد أن الطوائف البشريّة المتفرقة، والطبقات البشريّة المختلفة تحتاج إلى أمثلة كثيرة متنوعة، تتخذها منهاجاً لحياتها الاجتماعيّة!

خامسا: الدليل العملي على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -

وكذلك الأفراد في المجتمع البشري هم في حاجة إلى مُثل عليا، يقتدون بها في مناحي حياتهم البيئيّة، لتتوثق الروابط بين الأفراد وتحسن العلاقات بين شتى الطوائف، في داخل الأسرة وخارجها, ولذلك يجب أن تكون تلك المُثل واضحة في جميع مراحل الحياة، ومثاليّة كاملة! ومن ثم نجد عيسى -عليه السلام - يمثل الداعية الزاهد الذي غادر الدنيا وهو لا يملك مالاً، ولا داراً، ولا متاعاً، ونجده في سيرته الموجودة بين أيدي المسيحيّن لا يمثل القائد المحارب، ولا رئيس الدولة، ولا الأب، ولا الزوج، ولا غير ذلك مما تمثله سيرة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - من الشمول والتكامل! خامساً: الدليل العملي على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وسيرة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - تعطينا الدليل العملي الذي لا ريب فيه على صدق رسالته ونبوَّته (¬1)، فهي سيرة إنسان سار بدعوته من نصر إلى نصر، على طريق طبيعي بحت، فقد دعا فأوذي، وبلّغ فأصبح له الأنصار، واضطر إلى الحرب فحارب، وكان حكيماً موفّقاً في قيادته، فما أزفت ساعة وفاته إلا كانت دعوته تلف الجزيرة العربيّة، عن طريق الإيمان, لا عن طريق القهر والغلبة! وقد عرف ما كان عليه العرب من عادات، وعقائد، وما قاوموا به دعوته من شتى أنواع المقاومة، حتى تدبير اغتياله - صلى الله عليه وسلم -! ومَنْ عرف عدم التكافؤ بينه وبين محاربيه في كل معركة انتصر فيها! ومَنْ عرف قصر المدة التي استغرقتها رسالته حتى وفاته، وهي ثلاث ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: دروس وعبر: 17.

وعشرون سنة، أيقن أن محمداً - صلى الله عليه وسلم -، رسول الله حقًّا، وأن ما كان يمنحه الله من ثبات وقوة وتأييد ونصر، ليس إلا لأنه نبيّ حقًّا .. وما كان الله يؤيّد من يكذب عليه هذا التأييد الفريد في التاريخ, فسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تثبت لنا صدق رسالته بطريق عقلي بحت، وبطريق عملي بحت، ومن المؤكد أن المسلمين الذين لم يروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشاهدوا معجزاته، إنما آمنوا بصدق رسالته للأدلة القاطعة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. والقرآن الكريم هو المعجزة الكبرى التي تلزم كل عاقل منصف أن يؤمن بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رسالته! وهذا يختلف تماماً عن سير الأنبياء السابقين المحفوظة لدى أتباعهم، فهي تدلنا على أن الناس إنما آمنوا بهم لما رأوا على أيديهم من معجزات وخوارق، دون أن يحكّموا عقولهم في مبادئ دعواتهم فتذعن لهم! وأوضح مثل لذلك عيسى -عليه السلام - فإن القرآن الكريم بيّن الدعامة الأولى في إقناع اليهود بصدق رسالته، وهي أن كل خارقة من الخوارق التي جاءهم بها من عند الله (¬1) هي في عمومها تتعلق بإنشاء الحياة أو ردّها أو ردِّ العافية، وهي فرع عن الحياة، ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية .. والأناجيل الحاضرة تروي لنا أن هذه المعجزات هي وحدها التي كانت سبباً في إيمان الجماهير دفعة واحدة له، لا على أنه رسول، بل على أنه إله أو ابن إله، وحاشا لله! ومن هنا نرى هذه الميزة الواضحة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أنه من آمن به آمن عن اقتناع عقلي ووجداني، وإذا كان الله قد أكرم رسوله بالمعجزات الخارقة فما ذلك إلا لإكرامه له، وإفحام معانديه المكابرين! ¬

_ (¬1) انظر: في ظلال القرآن: 1: 399.

ومن تتبّع القرآن الكريم وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقليّة، والمشاهدة المحسوسة لعظيم صنع الله، والمعرفة التامة بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من أميّة تجعل إتيانه بالقرآن دليلاً على صدق رسالته، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت]! يعنون بذلك الخوارق الماديّة التي صاحبت الرسالات (¬1) من قبل في طفولة البشريّة، والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي شاهدها .. بينما الرسالة الأخيرة تقوم حجتها على كل من بلغته دعوتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها! ومن ثم جاءت الآيات متلوة من القرآن الكريم المعجز الذي لا تنفد عجائبه، والذي تتفتّح كنوزه لجميع الأجيال، والذي هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم، يحسّونها خوارق معجزة كلما تدبروه، كما أحسّوا مصدرها الذي تستمد منه سلطانها العجيب! وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي قبل عن الشكر والتقدير! أو لم يكفهم أن يعيشوا مع الحق بهذا القرآن الكريم! وهو يتنزّل عليهم، ويحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم، ويشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه مَعْني بهم، يحدّثهم بأمرهم، ويقصّ عليهم القصص ويعلّمهم .. وهم هذا الخلَق الصغير الضئيل التائه في ملكوت ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 5: 2746 بتصرف.

الله الكبير .. هم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم .. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله، والله عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل كلماته تتلى عليهم، ثم هم لا يكتفون؟! والذين يؤمنون هم الذي يجدون مسّ هذه الرحمة في نفوسهم .. وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم مننه على البشريّة بهذا التنزيل .. ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إليه، وهو العلي الكبير، وهم الذين ينفعهم هذا القرآن الكريم؛ لأنه يحيى في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه، ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور! تلك إشارات إلى أهم خصائص السيرة النبويّة!

مصادر السيرة

مصادر السيرة

مصادر السيرة أولاً: القرآن الكريم ثانيًا: السنة النبويّة ثالثاً: كتب المغازي والسير: 1 - عروة بن الزبير بن العوام 2 - أبان بن عثمان بن عفان 3 - ابن شهاب الزهري 4 - عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري 5 - عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري 6 - موسى بن عقبة 7 - محمد بن إسحاق 8 - محمد بن عمر الواقدي 9 - عبد الملك بن هشام 10 - محمد بن سعد 11 - جوامع السيرة لابن حزم 12 - الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر 13 - عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس 14 - زاد المعاد في هدي خير العاد لابن قيّم الجوزية 15 - الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن كثير 16 - المواهب الدنيّة بالمنح المحمدية رابعاً: دلائل النبوة: 1 - كتب السنة 2 - دلائل النبوّة لأبي نعيم 3 - أعلام النبوّة للماوردي 4 - دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي 5 - دلائل النبوّة للأصبهاني خامساً: كتب الشمائل: 1 - الشمائل للترمذي 2 - الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي 3 - شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه لابن كثير سادساً: كتب جمعت بين التاريخ والسيرة: 1 - تاريخ الأمم والملوك للطبري 2 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (السيرة النبويّة) للذهبي 3 - البداية والنهاية لابن كثير سابعاً: أخبار مكة والمدينة والشعر

أولا: القرآن الكريم

مصادر والسيرة ويأتي الحديث عن مصادر السيرة النبويّة فيما يلي: أولاً: القرآن الكريم: سبق أن عرفنا مكانة النبوّة والأنبياء في القرآن الكريم .. وأنه قلما يجد الباحث سورة من سور القرآن في طِوَله لا يجد فيها ذكراً للنبوّة والأنبياء .. وحسبنا أن نقرأ أول ما نزل من القرآنَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق]! ونقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر]! ونقرأ قوله جل شأنه: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى]! وهنا نبصر تذكيراً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما كان من شأن ربّه معه منذ أول الطريق (¬1)، ليستحضر في خاطره جميل صنع ربّه معه، وموّدته له، وفيضه عليه، ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والودّ، والإيناس الإلهي، وهو متاع ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3927 بتصرف.

فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)}! انظر في واقع حالك وماضي حياتك .. هل ودعك ربك وهل قلاك حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟ لقد ولدت يتيماً فآواك إليه، وعطَّف عليك القلوب، حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك! ولقد كنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة، عن أن تحسّ الفقر، أو تتطلّع إلى ما حولك من ثراء! ثم لقد نشأت في عصر جاهليّة مضطربة التصورات والعقائد، منحرفة السلوك والأوضاع، فلم تطمئن روحك إليها, ولكنك لم تجد طريقاً واضحاً مطمئناً، فيما عند الجاهليّة، ولا فيما عند أتباع موسى، وأتباع عيسى، فقد حرّفوا وبدّلوا، وانحرفوا وتاهوا، ثم هداك الله بالأمر الذي أوحي به إليك، وبالمنهج الذي يصلك به! والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنّة "الكبرى" التي لا تعدلها منّة، وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق، ومن التعب الذي لا يعدله تعب! ونقرأ قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)} [الشعراء]!

ثانيا: السنة النبوية

ونقرأ قوله جل شأنه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} [الحجر]! ويطول بنا الحديث لو حاولنا ذكر الآيات التي تحدثت عما لقيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أذى وعنت في سبيل دعوته، وما كان المشركون ينعتونه به صدًّا عن دين الله عَزَّ وَجَلَّ، وما ذكر من أمر الهجرة، وأهم المعارك التي خاضها! كل هذا -كما سيأتي- نراه مذكوراً في القرآن الكريم ببيان واضح، وأسلوب معجز رائق! ثانياً: السنة النبويّة: والمصدر الثاني هو السنة النبويّة التي جمعت أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخُلقية، انطلاقاً من أن السيرة -كما أسلفنا- يراد بها التعرف على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، منذ ظهور الإرهاصات التي مهّدت لرسالته .. حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وانطلاقاً -كذلك- من أنها جزء من الحديث (¬1)! ومن ثم شغلت السيرة النبويّة جزءاً غير قليل من الأحاديث (¬2)، والذين ألفوا في السنة لم تخل كتبهم غالباً من ذكر ما يتعلق بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه، وخصائصه، ومناقبه، ومناقب صحابته .. وقد استمر هذا المنهج حتى بعد انفصال السيرة عن الحديث في التأليف، وجعلها علماً مستقلاً! وموطأ الإِمام مالك المتوفى (179 هـ) لم يخل من ذكر جملة من ¬

_ (¬1) انظر: توجيه النظر: الجزائري: 20 وما بعدها، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 10: 18. (¬2) انظر: السيرة النبويّة في ضوء القرآن والسنة: الدكتور محمد أبو شهبة: 1: 27.

الأحاديث، فيما يتعلق بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأوصافه، وأسمائه، وذكر ما يتعلق بالجهاد! وصحيح الإِمام البخاري (¬1) المتوفى (256 هـ) فيه بعض ما يتعلق بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها، كما ذكر كتاب (المغازي) وما يتعلق بخصائصه - صلى الله عليه وسلم - وفضائله، وفضائل الصحابة -رضي الله عنهم- ومناقبهم، وذلك كله لا يقل عن عشر الكتاب! وصحيح الإِمام مسلم (¬2) المتوفى (261 هـ) اشتمل على جزء كبير من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضائله، وفضائل أصحابه، والجهاد والسير! ومسند الإِمام أحمد المتوفى (241 هـ) اشتمل على أحاديث كثيرة في ذلك، وقد جمع الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا -رحمه الله - الشهير ¬

_ (¬1) اشتهر بهذا الاسم، دون الاسم المطول الذي وضعه البخاري، وقد عقد الحافظ ابن حجر فصلاً خاصًّا بفضائل (الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسننه، وأيامه): هدي الساري: 8، ويطلق عليه -أيضاً-: (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه، وأيامه): مقدمة ابن الصلاح، ومحاسن الاصطلاح: 167 ذخائر العرب: 64 دار المعارف، أو (الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسننه، وأيامه): شرح النووي على البخاري: 7 دار الكتب العلمية، بيروت، و (التوشيح شرح الجامع الصحيح): السيوطي، مكتبة الرشد، الرياض، ط أولى 1419 هـ 1998 م، وأرى أن يجمع أهل العلم بين الاسمين، وبخاصة أهل الحديث أو يقتصر على الاسم الذي سماه به: انظر كتابنا: (دفاع عن الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب .. " في ضوء أصول التحديث رواية ودراية، ورد الشبهات ودحض المفتريات): 11 - 12. (¬2) اشتهر بهذا الاسم، دون الاسم الذي ذكره كثيرون، نذكر منهم ما ذكره الحافظ ابن خير الإشبيلي في (فهرست ما رواه عن شيوخه: 98) وهو: (السند الصحيح المختصر من السنن, بنقل العدل عن العدل، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -): انظر: (تحقيق اسم الصحيحين واسم جامع الترمذي): عبد الفتاح أبو غدة: 33 - 52 دار القلم، دمشق، بيروت، ط أولى 1414 هـ 1993 م.

ثالثا: كتب المغازي والسير

بالساعاتي، في كتابه (الفتح الرباني لترتيب مسند الإِمام أحمد بن حنبل الشيباني ومعه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني) ما يتعلق بالجهاد، والسير، والمناقب، في أجزاء كبيرة (¬1)! وأبو د اود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم .. لم تخل كتبهم من الجهاد، وطرف مما يتعلق بالسيرة .. وهكذا! ثالثاً: كتب المغازي والسير: وقد ألفت كتب خاصة في المغازي والسير، على سبيل الاستقلال في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وأول من عرف بالمغازي والسير جماعة .. منهم: 1 - عروة بن الزبير بن العوام: أبوه الزبير حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه أسماء بنت الصديق التي شهدت الكثير من أحداث السيرة، وكان لها عمل مشهور مذكور في الهجرة، وكان عروة كثير الحديث، وقد خرّج له أصحاب الصحاح وغيرهم، ويعدّ أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة، وقد جمع الدكتور محمد مصطفى الأعظمي مرويّات عروة بن الزبير من رواية أبي الأسود عن عروة فقط، ونشرت من قبَل مكتب التربية العربي لدول الخليج (¬2)، توفي (92 هـ) وقيل (93 هـ) وقيلَ (95 هـ)! ¬

_ (¬1) انظر: أجزاء: 13، 20، 21، 22. (¬2) انظر: السيرة النبويّة الصحيحة: الدكتور العمري: 1: 54، العلوم والحكم: المدينة 1412 هـ 1922 م، والسيرة النبوّية في ضوء القرآن والسنة: الدكتور أبو شهبة: 1: 28 ط أولى، دار القلم، دمشق 1409 هـ 1988 م.

2 - أبان بن عثمان بن عفان

2 - أبان بن عثمان بن عفان: ابن الخليفة الثالث -رضي الله عنه- كان والياً على المدينة لعبد الملك ابن مروان سبع سنين، وعُرف بالحديث والفقه، والظاهر أن سيرته التي جُمعت لم تكن إلا صحفاً فيها أحاديث عن حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيامه ومغازيه! ونقل ابن سعد عن المغيرة بن عبد الرحمن أنه خرج إلى الشام غير مرة غازياً، وكان في جيش مسلمة الذي احتبس بأرض الروم، حتى أقفلهم عمر ابن عبد العزيز وذهبت عينه، ثم رجع إلى المدينة فمات بها، وأوصى أن يُدفن بـ (أُحد) مع الشهداء فلم يفعل أهله، ودُفن بـ (البقيع)، وقد رُوي عنه، وكان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخذها من أبان بن عثمان، فكان كثيراً ما تقرأ عليه، ويأمرنا بتعليمها (¬1)، وتذكر رواية أخرى أنه كتاب كبير، يبرز فضائل الأنصار (¬2)، توفي (105 هـ)! 3 - ابن شهاب الزهري: محمد بن مسلم بن عبيد الله شهاب (الزهري) عالم الحجاز والشام، أجمع العلماء على جلالته، أخرج له أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وهو من أوائل من دوّنوا الحديث بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز المتوفى (101 هـ) بل قيل: إنه أول من دوّن الحديث مطلقاً، وقيل: إنه أول من دوّن في ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى: 5: 210. (¬2) انظر: السيرة النبويّة الصحيحة: 1: 54 هامش، نقلاً عن الموفقيات: 222 - 223، والتفاصيل في دراسة الدكتور الأعظمي: مغازي عروة بن الزبير: 27 - 29 ومع هذا ذهب الدكتور بشار عواد معروف في تحقيقه لكتاب: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للمزي: 2: 19 إلى أن نسبة المغازي لأبان بن عثمان مجرد وهم!

4 - عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري

السيرة، وسيرته أول سيرة ألفت في الإسلام (¬1)، وهي من أوثق السير وأصحها (¬2)، ويعتمد عليه ابن إسحاق كثيراً في السيرة، توفي (124 هـ) وقيل (125 هـ)! ثم جاء بعد هؤلاء طبقة أخرى .. من مشاهيرهم: 4 - عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري: كان جده قتادة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى عمر المغازي والأخبار عن أبيه، ورواها عن عمر ابنه عاصم، قال فيه ابن سعد: كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير، أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، ويحدّث الناس بالمغازي، ومناقب الصحابة، ففعل (¬3)، وكان من المصادر المهمة التي اعتمد عليها ابن إسحاق، والواقدي، توفي (120 هـ)، وقيل (129 هـ)! 5 - عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري: جده الأعلى عمرو صحابي، بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، ليفقّههم في الدّين، ويعلّمهم القرآن والسنة، وجده محمد، قيل: له رؤية، مات يوم الحرّة، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة، وواليها، وهو أول من دوّن الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز أو من أوائلهم، فقد نشأ إذن في بيت علم ورواية, وقد نقلت ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ بغداد: 12: 230، والنووي على مسلم: 5: 628، وطرح التثريب: 8: 47. (¬2) انظر: تهذيب الكمال: 26: 419 - 443. (¬3) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 29.

6 - موسى بن عقبة

عن عبد الله أخبار كثيرة، ذكرها ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، والطبري (¬1)، توفي (135 هـ)! ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي الأول .. من أشهرهم: 6 - موسى بن عقبة: مولى الزبيريّين، والظاهر أنه استفاد من هذه الصلة، قال فيه الإِمام مالك: عليكم بمغازي ابن عقبة، فهي أصح المغازي! وقال الذهبي: وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح ومرسل جيد، ولكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة (¬2)! وكانت سيرته التي كتبها مختصرة موجزة، وصل إلينا منها بعض مقتطفات، ينقل عنه ابن سعد، والطبري بعض أخبار السيرة (¬3)، وكانت وفاته (141 هـ)! 7 - محمد بن إسحاق: من أصل فارسي، كان جده يسار من سبي (عين التمر) سباه خالد ابن الوليد وكان ولاؤه لقيس بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف، فلذلك قيل ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 30. (¬2) سير أعلام النبلاء: 6: 116. (¬3) انظر: البخاري: 64 - المغازي 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب، قال موسى بن عقبة: كانت في شوال سنة أربع، وتهذيب الكمال: 29: 115 - 122، وتهذيب التهذيب: 10: 360 - 362.

له: المطلبي، ولد نحو سنة خمس وثمانين، لقي كثيراً من علماء المدينة وأخذ عنهم! قال عليّ بن المديني: مدار حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ستة (¬1)، فذكرهم، ثم قال: فصار علم الستة عند اثني عشر، أحدهم محمد بن إسحاق! وقال أيضاً: سمعت سفيان يقول: قال ابن شهاب: وسئل عن مغازيه، فقال: هذا أعلم الناس بها، يعني ابن إسحاق! وقال حرملة بن يحيى عن الشافعي: من أراد أن يتبحّر في المغازي فهو عيالٌ على محمد بن إسحاق! وقال أبو أحمد بن عدي: ولمحمد بن إسحاق حديث كثير، وقد روى عنه أئمة الناس: شعبة، والثوري، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وغيرهم! وقد روى المغازي عنه إبراهيم بن سعد، وسلمة بن الفضل، ومحمد ابن سلمة، ويحيى بن سعيد الأموي، وسعيد بن بزيع، وجرير بن حازم، وزياد البكائي، وغيرهم! وقد روى عنه (المبتدأ والمبعث)، ولو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء إلا الاشتغال بمغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومبعثه ومبدأ الخلق، لكانت هذه فضيلة سبق إليها ابن إسحاق! ثم من بعده صنفها قوم آخرون، فلم يبلغوا مبلغ ابن إسحاق منها! ¬

_ (¬1) تهذيب الكمال: 24 - 405 - 428، وانظر: الطبقات الكبرى: 7: 321 - 322، وتاريخ البخاري الكبير: 1: 40، والصغير: 2: 11، وسير أعلام النبلاء: 7: 33، وتهذيب التهذيب: 9: 38 - 46.

وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد في أحاديثه ما يتهيّأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ، أو يهم في الشيء بعد الشيء، كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، وهو لا بأس به! قال الذهبي (¬1): وقد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء، لأشياء، منها: تشيّعه، ونسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه! وقال البخاري: لو صح عن مالك تناوله من ابن إسحاق، فلربما تكلم الإنسان فيرمي صاحبه بشيء واحد، ولا يتهمه في الأمور كلها، قال: وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح: نهاني مالك عن شيخين من قريش، وقد أكثر عنهما في الموطأ، وهما ممن يحتج بهما, ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم، نحو ما يذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي، وكلام الشعبي في عكرمة، وفيمن كان قبلهم، وتناول بعضهم في العرض والنفس، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة، ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة، والكلام في هذا كثير! وقال الذهبي: لسنا ندّعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة، وقد علم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به (¬2)، ولا سيما إذا وثّق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف، وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثّر كلام محمد ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء: 7: 39 وما بعدها. (¬2) انظر: طبقات الشافعية: 1: 188، 190.

8 - محمد بن عمر الواقدي

فيه ولا ذرة، وارتفع نجم مالك وصار كالنجم، والآخر فله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة، إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذّ فيه، فإنه يعدّ منكراً، هذا الذي عندي في حاله! وقال (¬1): والذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال، صدوق، وما تفرد ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به الأئمة! وقال (¬2): كان أحد أوعية العلم، حَبْراً في معرفة المغازي والسير، وليس بذلك المتقين، فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوق في نفسه مرضي! وقال العراقي (¬3): المشهور قبول حديث ابن إسحاق، إلا أنه مدلّس، فإذا صرّح بالتحديث كان حديثه مقبولاً! وقال ابن حجر (¬4): ما يتفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرّح بالتحديث .. وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن، ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه! توفي ببغداد (150 هـ)، وقيل (151 هـ)، وقيل (152 هـ)! 8 - محمد بن عمر الواقدي: كان الثاني بعد ابن إسحاق في العلم بالمغازي والسير والتواريخ، قال فيه ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال: 3: 475. (¬2) تذكرة الحفاظ: 1: 173. (¬3) طرح التثريب: 8: 72. (¬4) فتح الباري: 11: 167.

الذهبي: جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمن، فاطرحوه لذلك، ومع هذا لا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم! وقال: وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ, ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر! وقال: وزنه عندي أنه مع ضعفه، يكتب حديثه ويروى؛ لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه، كيزيد، وأبي عبيد، والصاغاني، والحربي، ومعن، وتمام عشرة محدثين، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي (¬1)! وقال البخاري: الواقدي مدني، سكن بغداد، متروك الحديث، تركه أحمد، وابن معين، وابن نمير، وإسماعيل بن زكريا، وقال في موضع آخر: كذبه أحمد، وقال معاوية بن صالح، قال لي أحمد بن حنبل: الواقدي كذاب (¬2)! وقال ابن حجر: الواقدي إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي فهو مقبول عند أصحابنا (¬3)! وكانت كتبه عمدة للمؤرخين من بعده (¬4)، ونقلوا منها واقتبسوا، وللواقدي كتاب (التاريخ الكبير) مرتب على السنين، اقتبس منه الطبري في ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء: 9: 454 - 469 (172). (¬2) تهذيب التهذيب: 9: 364 (604). (¬3) التلخيص الحبير: 2: 291 (1116). (¬4) السيرة النبويّة في ضوء القرآن والسنة: 1: 31.

9 - عبد الملك بن هشام

تاريخه كثيراً، وكتاب (الطبقات) ذكر فيه الصحابة والتابعين حسب طبقاتهم، ويظن أن كاتبه ابن سعد قد تأثر به في (طبقاته)، ولم يبق لما من كتبه إلا كتاب (المغازي)! توفي (207 هـ)، وقيل (259 هـ)! ثم جاء بعد ذلك طبقة أخرى .. من مشاهيرهم: 9 - عبد الملك بن هشام: العلامة النحوي الأخباري (¬1)، أبو محمد، الذهلي السدوسي، وقيل: الحميري المعافري، البصري، نزيل مصر! وله كتاب في (أنساب حمير وملوكها)، وكتاب في (شرح ما وقع في أشعار السيرة من الغريب)، والكتاب الذي اشتهر به (السيرة النبويّة)، وهو مختصر لسيرة ابن إسحاق، مع بعض الزيادات، أو التعقيبات والتصحيحات، ولئن كانت سيرة ابن إسحاق لم تصلنا بعينها، فقد وصلتنا مهذبة على يد ابن هشام! وقد تلقاها عن زياد بن عبد الله البكائي شيخ ابن هشام (¬2)، عن ابن إسحاق، وقد بيّن ابن هشام في مقدمة السيرة النبويّة منهجه حيال سيرة ابن إِسحاق فقال: (وأنا -إِن شاء الله- مبتدئ هذا الكتاب بذكر إِسماعيل بن إِبراهيم، ومَن وَلَد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ولده، وأولادهم لأصلابهم: الأول فالأول، من إِسماعيل إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يعرض من حديثهم، ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء: 10: 428 (131). (¬2) انظر: طبقات ابن سعد: 6: 396، وتاريخ البخاري الكبير (1218)، وتهذيب الكمال: 9: 485 - 490 (2053).

- رضي الله عنه - وتاركٌ ذكر غيرهم من ولد إِسماعيل، على هذه الجهة للاختصار، إِلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتاركٌ بعض ما ذكره ابن إِسحاق في هذا الكتاب، مما ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقص -إِن شاء الله- ما سوى ذلك منه مبلغ الرواية له، والعلم به)! (¬1) وقال الذهبي: هذب السيرة النبويّة، وسمعها من زياد البكائي، صاحب ابن إسحاق، وخفّف من أشعارها، وروى فيها مواضع من عبد الوارث ابن سعيد وأبي عبيدة، ورواها عنه محمد بن حسن القطان، وعبد الرحيم بن عبد الله بن البرقي، وأخوه أحمد بن البرقي (¬2)! وقد قام الحافظ ابن حجر بتخريج الأحاديث المنقطعة في سيرة ابن هشام في مصنف مستقل، وللأسف فقد هذا المصنف (¬3)! وكانت وفاته (218 هـ)! وقد شرح هذه السيرة شرحاً يدل على تبحّر في العلم، وتضلّع في علم اللغة والأدب والأخبار، الإِمام أبو القاسم السهيلي المتوفى (581 هـ) في كتابه القيّم (الروض الأنف) قال في مقدمته: ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: 1: 36 - 37 تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، ومحمد بن عبد الله أبو صعيليك. (¬2) سير أعلام النبلاء: 10: 429 (131)، وانظر: وفيات الأعيان: 3: 177. (¬3) السيرة النبوية الصحيحة: 1: 58 نقلاً عن عنوان المجد 1 / ق 51.

10 - محمد بن سعد

وبعد: فإني قد انتحيت في هذا الإملاء بعد طول استخارة ذي الطول والاستعانة بمن له القدرة والحول، إلى إيضاح ما وقع في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي سبق إلى تأليفها أبو بكر محمد بن إسحاق المطلبي، ولخصها عبد الملك بن هشام المعافري، المصري، النسابة النحوي، مما بلغني علمه، ويسر لي فهمه، من لفظ غريب، أو إعراب غامض، أو كلام مستغلق، أو نسب عويص، أو موضع فقه ينبغي التنبيه عليه، أو خبر ناقص يوجد السبيل إلى تتمته، مع الاعتراف بكلول الحد، عن مبلغ ذلك الحد، فليس الغرض المعتمد أن أستولي على ذلك الأمد، ولكن لا ينبغي أن يُدَعَّ الجحش من بذِّه الأعيار (¬1)، ومن سافرت في العلم همته فلا يلق عصا النسيان، وقد قال الأول: افعل الخير ما استطعت وإِن ... كان قليلاً فلن تحيط بكله ومتى تبلغ الكثير من الفضل ... إِذا كنت تاركاً لأقله (¬2) 10 - محمد بن سعد: أبو عبد الله البصري، مولى بني هاشم، نزيل بغداد، وهو كاتب الواقدي (¬3)، وأجل كتبه (الطبقات الكبرى) في ثمانية أجزاء (¬4)! ¬

_ (¬1) الدع: الدفع بشدة، والجحش: ولد الحمار، وبذه: سبقه، والأعيار. الحمير الوحشيّة والأهليّة. (¬2) الروض الأنف: 1: 3 - 4. (¬3) تهذيب الكمال: 25: 255 - 258 (5237)، وانظر مقدمة الطبقات: 5 - 17. (¬4) انظر كتابنا: الفهارس ومكانتها عند المحدثين: 170 - 171، ذات السلاسل: ط. أولى 1409 هـ - 1989 م.

وقد خصص الجزء الأول: للسيرة النبويّة الشريفة! والثاني: لغزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر مرضه ووفاته، ثم ذكر من كان يفتي بالمدينة، ومن جمع القرآن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عهده وبعده، وذكر من كان يفتي بالمدينة بعد أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار! والثالث: لتراجم البدريّين من المهاجرين والأنصار! والرابع: لتراجم المهاجرين والأنصار ممن لم يشهدوا بدراً، ولهم إسلام قديم، وللصحابة الذين أسلموا قبل فتح مكة! والخامس: لذكر التابعين من أهل المدينة، والصحابة الذين نزلوا مكة والطائف، واليمن، واليمامة، والبحرين، ثم من كان بعد هؤلاء من الصحابة في تلك المدن من التابعين، فمن بعدهم! والسادس: للكوفيّين من الصحابة، ثم من كان في الكوفة بعدهم من التابعين، فمن بعدهم من أهل الفقه والعلم إلى زمنه! والسابع: لمن نزل أصقاعاً وبلاداً كثيرة من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم إلى زمنه، لكنه أكثر ذكر من نزل البصرة والشام ومصر، وأما باقي الدول فذكر عدداً قليلاً! والثامن: للنساء الصحابيّات! قال أبو بكر الخطيب: كان من أهل العلم والفضل، وصنف كتاباً كبيراً في طبقات الصحابة والتابعين والخالفين إلى وقته فأجاد فيه وأحسن! وقال: ومحمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه،

11 - جوامع السيرة لابن حزم الأندلسي الظاهري

فإنه يتحرى في كثير من رواياته، ولعل مصعباً الزبيري ذكر ليحيى عنه حديثاً من المناكير التي يرويها الواقدي، فنسبه إلى الكذب (¬1)! وقال الذهبي: كان من أوعية العلم، ومن نظر في (الطبقات) خضع لعلمه (¬2)! توفي (230 هـ)! وإليك بعض أشهر الكتب المؤلفة: 11 - جوامع السيرة لابن حزم الأندلسي الظاهري: وقد تخلى عن ذكر الأسانيد، ولم يشر إلى مصادره، لكنه صرح بالنقل عن خليفة بن خياط في ثلاثة مواضع، وعن تاريخ أبي حسان الزيادي في ثلاثة مواضع -أيضاً-، وعن الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر في موضع واحد، ورأى محققو كتابه أنه نقل عن (الدرر) كثيراً بتصرف (¬3)! ورجح بين الروايات، وأثبت في كتابه ما اختاره، وحقق في تواريخ الأحداث، وغلبت عليه طريقة التخليص، فجرد السيرة من الأشعار والقصص (¬4)! توفي (456 هـ) (¬5)! ¬

_ (¬1) تهذيب الكمال: 25: 256 - 257 (5237). (¬2) سير أعلام النبلاء: 10: 665 (242). (¬3) السيرة النبويّة الصحيحة: 1: 68 نقلاً عن مقدمة جوامع السيرة: 8، والدرر: المقدمة: 15. (¬4) انظر: جوامع السيرة: مقدمة: 10، 13. (¬5) انظر: البداية والنهاية: 12: 91.

12 - الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر

12 - الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر: قال الحميدي: أبو عمر فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءة وبالخلاف، وبعلوم الحديث والرجال (¬1)! وقد اعتمد على سيرة ابن إسحاق، وسيرة موسى بن عقبة، وتاريخ ابن أبي خيثمة، إضافة إلى كتب الحديث، ولم يصرح بالنقل عن الواقدي إلا في موضع واحد، لكنه أشار إلى روايته لمغازيه، وقد صرح بمتابعة ابن إسحاق في البناء العام لكتابه، ولم يتقيد بذكر الإسناد كثيراً (¬2)! توفي (463 هـ)! 13 - عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لابن سيد الناس: قال الحافظ ابن كثير (¬3): الحافظ العلامة البارع فتح الدين بن أبي الفتح محمد بن الإِمام أبي عمرو محمد بن الإِمام الحافظ الخطيب، أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن ييىح بن سيد الناس، الربعي، اليعمري، الأندلسي، الأشبيلي، ثم المصري، وقال: ساد أقرانه في علوم شتى من الحديث والفقه والنحو من العربيّة، وعلم السير والتواريخ وغير ذلك من الفنون، وقد جمع سيرة حسنة من مجلدين .. وكان شيخ الحديث بالظاهريّة بمصر، ولم يكن في مصر في مجموعه مثله في حفظ الأسانيد والمتون والعلل والفقه والملح والأشعار! ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري. (¬2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 67. (¬3) البداية والنهاية: 14: 169 بتصرف.

14 - زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية

وذكر في مقدمة كتابه مصادره فقال: وعمدتنا فيما نورده من ذلك على محمد بن إسحاق، إذ هو العمدة في هذا الباب لنا ولغيرنا، غير أني قد أجد الخبر عنده مرسلاً، وعند غيره مسنداً، فأذكره من حيث هو مسند ترجيحاً لمحل الإسناد، وإن كانت في مرسل ابن إسحاق زيادة اتبعته بها, ولم أتتبع إسناد مراسيله، وإنما كتبت ذلك بحسب ما وقع لي، وكثيراً ما أنقل عن الواقدي، من طريق محمد بن سعد وغيره أخباراً، ولعل كثيراً منها لا يوجد عند غيره، فإلى محمد بن عمر انتهى علم ذلك أيضاً في زمانه (¬1)! توفي (734 هـ)! ثم اختصره وسماه (العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون)، وقد شرحه برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي، المتوفى (841 هـ) ونظمه الشمس محمد بن يونس الشافعي، المتوفى (845 هـ) (¬2)! 14 - زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيّم الجوزية: صاحب القلم الفيّاض، والعلم الواسع، استوعب في كتابه هذا -غالباً- هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في شؤونه العامة والخاصة، وما لابسها من أمور يجدر بكل مسلم أن يقف عليها، ويتبيّن أمرها، وهو كتاب نفيس في الشمائل والآداب والفقه والمغازي، فهو مزيج من ذلك كله، وقد ظهر في طبعة محققة أعطت للكتاب مكانته اللائقة به (¬3)! توفي (751 هـ)! ¬

_ (¬1) عيون الأثر: 1: 7. (¬2) السيرة النبويّة في ضوء القرآن والسنة: 1: 35. (¬3) انظر: السيرة النبوّية الصحيحة: 1: 68، ومقدمة زاد المعاد: تحقيق الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار الإسلاميّة، الكويت، ط. أولى 1399 هـ - 1979 م.

15 - الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن كثير

15 - الفصول في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن كثير: ويمتاز أسلوبه في هذا الكتاب بالبعد عن السجع والمحسنات البديعية (¬1)، إلا ما ورد في المقدمة، وبعض خواتيم الفصول! كما يمتاز بعاطفته الواضحة في حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولم يعتمد على تجميع وحشد الروايات والأقوال، كما كان يفعل كثير ممن سبقه من كُتاب التاريخ والسير، وكما فعل هو في البداية والنهاية، كما سيأتي! ويمتاز -أيضاً- باشتماله على فصل الخصائص النبوية، وهو فصل يستحق أن يكون كتاباً مستقلاً! توفي (774 هـ)! 16 - المواهب اللدنيّة بالمنح المحمديّة للقسطلاني الشافعي المصري: وهو كتاب جليل القدر، كبير النفع، لا نظير له في عالم الاستيفاء، وذكر الأقوال والآراء والحجج، اعتمد في ذلك على سيرة الحافظ ابن سيد الناس، وسيرة الشمس الشامي، وغيرهما! توفي (923 هـ)! وقد شرح الكتاب كئيرون، ومن أجل الشروح شرح الإِمام الحافظ محمد ابن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المالكي، المتوفى (1122 هـ) وهو شرح جليل تعرض فيه لنقد المرويات، وبيان صحيحها من ضعيفها، وبيان الراجح من الأقوال، وهو يدل على سعة علم الإِمام الزرقاني وتبحره (¬2)! ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة الكتاب: تحقيق وتعليق محمد العيد الخضراوي، ومحيى الدين مستو، مؤسسة علوم القرآن. (¬2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 35، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 69.

رابعا: دلائل النبوة

تلك إشارات إلى أهم مصادر السيرة النبويّة المتداولة .. وهناك مصادر أخرى يضيق المقام عن ذكرها (¬1)! رابعاً: دلائل النبوة: ومع أن السيرة النبوّية معلومة للناس بجميع مراحلها، ومتجلّية لهم -كما أسلفنا- وأن التاريخ سجّل أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وأنه قد اختير من قوم عرفوا بتملك زمام الفصاحة والبلاغة، والتصرّف في فنون القول وضروبه، حتى كان هدف العاقل منهم أن يكون شاعراً مفلقاً، أو خطيباً مصقعاً، وكانوا جميعاً يتفاخرون بالشعر والأدب، وأن آية خاتم النبيّين الكبرى هي القرآن الذي بلغ أقصى درجات البلاغة التي يعجز الخلق كل الخلق عن مجاراتها بحال من الأحوال، وأن معجزات الأنبياء السابقين في صورها العامة ملائمة لما اشتهر في زمان كل رسول، حتى إذا ما عجز الناس جميعهم عن الإتيان بمثلها، كان ذلك أكبر شاهد على صدق من ظهرت على يديه! وفي القرآن الكريم قصص لهذه المعجزات، ومن تتتع منهج القرآن وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقليّة، والمشاهد المحسوسة لعظيم آلاء الله، والمعرفة التامّة بالرسول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بما يجعل نزول القرآن عليه دليلاً على صدق دعوته: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} [العنكبوت]! ¬

_ (¬1) انظر مثلاً كتاب: (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) للإمام محمد بن يوسف الصالحين الشامي المتوفى سنة (942 هـ).

إن مقالة هؤلاء عن الآيات يعنون بها الخوارق الماديّة التي صاحبت الرسالات من قبل، والتي لا تقوم حجة إلا على الجيل الذي شاهدها، بينما تقوم حجة الرسالة الخاتمة على كل من بلغته الدعوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. ومن ثم جاءت الآيات متلوة في الذكر الحكيم الذي لا تنفد عجائبه، والذي تتفتّح كنوزه لجميع الأجيال في جميع الأحوال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت]! ومع هذا أرادت قريش أن تتحدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يأتيهم بالخوارق الكونيّة: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}! فكان الرد عليهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} [الإسراء]! إن الأمر ليس مجرد خوارق كونيّة، فالتحدي قائم بالقرآن الكريم، ونقرأ قبل هذه الآيات: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء]! ونقرأ التعقيب على هذا في الآية التالية: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} اً [الإسراء]! وفي هذه السورة نبصر التحدي الأكبر إنما هو بالقرآن الكريم، وأن الهدف

من الإيمان أن يعمل الناس صالحًا وفق ما أراده الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء]! ونبصر منهج القرآن في بيان أن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة القاسية، والنفوس الميّتة الجاسية، ونحن نقرأ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} [الإسراء]! ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء]! وهكذا تصور الآيات مشهد الذين أوتوا العلم من قبله، وهم لا يتمالكون أنفسهم، وتنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس عميق بالحق، ويغلبهم التأثر البالغ، فلا تكفي الكلمات في تصوير ما يجيش في صدورهم، فإذا القطرات التي تكونت خشوعاً، وتجمعت خضوعاً، تتساقط دموعاً! وشاء الحق -جل شأنه- أن يجمع الفضل من أطرافه لخاتم رسله، فأعطاه معجزات حسيّة؛ لأن الناس ليسوا سواء في الإدراك والتفكير، ومن ثم أوتي

1 - كتب السنة

من الآيات المتكاثرة ما لم يؤت غيره من الأنبياء، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر المعجزات! ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: (ما أعطى الله نبيًّا شيئاً إلا أعطى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما هو أكثر منه، فقيل له: أعطى الله عيسى ابن مريم إحياء الموتى، فقال الشافعي: حنين الجذع أبلغ؛ لأن حياة الخشبة أبلغ من إحياء الميّت، ولو قيل كان لموسى فلق البحر، عارضناه بفلق القمر، وذلك أعجب؛ لأنه آية سماويّة، وإن سئلنا عن انفجار الماء من الحجر، عارضناه بانفجار الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خروج الماء من الحجر معتاد، أما خروجه من اللحم والدم فأعجب، ولو سئلنا عن تسخير الرياح لسليمان، عارضناه بالمعراج) (¬1)! وجاء في كتب السنة كثير من دلائل النبوّة (¬2)، وحسبنا أن نذكر ما يلي: 1 - كتب السنة: أفرد الإِمام البخاري في صحيحه، باباً أسماه: (باب علامات النبوة في الإسلام) (¬3)، وأتبعه بقيّة أحاديث علامات النبوة! وكذلك صنع الإمام مسلم في صحيحه, في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4)! ¬

_ (¬1) مناقب الشافعي: 38 ط. القاهرة. (¬2) انظر: نيل الفضائل في تخريج أحاديث كتاب "الدلائل" (دلائل النبوة) للحافظ موفق الدين أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني، الملقب (قوام السنة) تحقيق أبي عبد الرحمن، مساعد بن سليمان الراشد الحميد: 1: 221 - 228 فقد ذَكر أربعين كتاباً في دلائل وأعلام النبوة، دار العاصمة، السعوديّة، ط. أولى 1412 هـ. (¬3) انظر: البخاري: 61 - المناقب 25 - باب علامات النبوة في الإسلام. (¬4) انظر: مسلم: 43 - الفضائل 3 باب في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -.

2 - دلائل النبوة لأبي نعيم

وفي مسند الإمام أحمد، كذلك دلائل النبوة منثورة في مسند كل صحابي، وسبق أن أشرنا إلى جمع الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي - رحمه الله - في كتابه: (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني)، ما يتعلق بالسيرة في أجزاء كبيرة! ولم تخل كتب السنن المشهورة من ذلك! ويضيق المقام عن ذكر الكتب التي أفردت بالحديث عن دلائل النبوّة: ومن أقدم ما وصل إلينا من ذلك: 2 - دلائل النبوّة لأبي نعيم: يعرض لفضائل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتناول ذكره في الكتب المتقدمة، كما يستعرض حياته، مشيراً إلى جانب المعجزة أو حجة التصديق في كل موقف، وفيه الصحيح وغير الصحيح (¬1)! توفي (430 هـ)! 3 - أعلام النبوّة للماوردي: وهو يعتمد على الحجة العقليّة، إلى جوار ما ينقله من آثار فيها الصحيح وغيره (¬2)! ويبدأ بمقدمة عن الأدلة، ويفصل القول في أصل النبوات، ويتحدث عن معرفة الإله المعبود، ويثبت صحة التكليف، كما يثبت النبوات على وجه العموم، ويتحدث عن مدة العالم، وينقل أنها سبعة آلاف (¬3) سنة! ¬

_ (¬1) انظر: ط. دار الوعي بحلب 1397 هـ 1977 م، وطبع المنتقى منه: المكتبة العربيّة، حلب 1392 هـ. (¬2) انظر: ط. 1931 نشر مكتبة الكليّات الأزهريّة. (¬3) المرجع السابق: 39.

4 - دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي

ويعرض لعدة الرسل، ويذكر روايات لا ترقى إلى القبول، ويتحدث عن إثبات نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويرد على المانعين لنبوته من اليهود والنصارى، كما يتحدث عما تضمنه القرآن من أنواع إعجازه، ويذكر عصمة الرسول، وما شوهد من معجزات أفعاله، وما سمع من معجزات أقواله، وإنذاره بما سيحدث بعده، وظهور المعجزات، وما هجست به النفوس من إلهام العقول بنبوته، ومبادي نسبه وطهارة مولده، وأخلاقه .. توفي (450 هـ)! 4 - دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للبيهقي: يعرض معجزات الأنبياء السابقين في مدخل الكتاب، ثم يقول (¬1): (فأما النبي المصطفى، والرسول المجتبى .. فإنه أكثر الرسل آيات وبيّنات، وذكر بعض أهل العلم أن أعلام نبوته بلغت ألفاً! فأما (العلَم) الذي اقترن بدعوته ولم يزل يتزايد أيام حياته، ودام في أمته بعد وفاته، فهو القرآن العظيم، المعجز المبين، وحبل الله المتن)! وبعد أن يستعرض وجوه الإعجاز يقول (¬2): (ثم إن لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - وراء القرآن من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة، ما لا يخفى، وأكثر من أن يحصى)! ويستعرض المعجزات إجمالاً، ويقول (¬3): ثم إِن له من وراء هذه الآيات المعجزات: انشقاق القمر، وحنين الجذع، وخروج الماء من بين أصابعه! ¬

_ (¬1) دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: 1: 10 تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي، ط. دار الريان، أولى 1408 هـ - 1988 م. (¬2) المرجع السابق: 18. (¬3) المرجع السابق: 19.

5 - دلائل النبوة للأصبهاني

ويقول (¬1): (ويُعلم أن كل حديث أوردته فيه قد أردفته بما يشير إلى صحته، أو تركته مبهماً وهو مقبول في مثل ما أخرجته، وما عسى أوردته بإسناد فيه ضعف أشرت إلى ضعفه، وجعلت الاعتماد على غيره)! وقد صنف جماعة من المتأخرين في المعجزات وغيرها كتباً، وأوردوا فيها أخباراً أخرى من غير تمييز منهم صحيحها من سقيمها, ولا مشهورها من غريبها، ولا مرويها من موضوعها، حتى أنزلها من حسنت نيّته في قبول الأخبار منزلة واحدة في القبول، وأنزلها من ساءت عقيدته في قبولها منزلة واحدة في الرد! وسرد الأخبار، واستنبط منها الدلائل .. ثم أفردها كلها مجتمعة في موضوع واحد، جمع في الجزء السادس من الطبعة الأخيرة المحققة! توفي (458 هـ)! وقد اختصر كتاب البيهقي ابن الملقن المتوفى (804 هـ) في كتاب (غاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم -)! 5 - دلائل النبوة للأصبهاني: يشتمل على معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعلام نبوته، وآيات بعثته، ويذكر ما كان قبل البعثة، وفي أثنائها، وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويذكر كرامات بعض الصحابة -رضي الله عنهم- في الفصل الثالث من الباب الأول تحت عنوان (كرامات الأولياء)! ويذكر الدافع على تأليف هذا الكتاب فيقول: (إن جماعة من أهل العلم ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 46 - 47.

خامسا: كتب الشمائل

سألوني أن أملي عليهم مختصراً في دلائل النبوة، ومعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعتمدون عليه، ويسكنون إليه، وتوخيت الاختصار والإيجاز، وضممت إلى ذلك طرفاً من مبعثه، ومغازيه، ومولده - صلى الله عليه وسلم - وسراياه) (¬1)! ويسند عامة أحاديث الكتاب وآثاره بأسانيده، وربما تكلم عليها بالتجريح أو التعليق، بخلاف بعض مؤلفي كتب دلائل النبوة ممن تقدمه -كالماوردي مثلاً في أعلام نبوته- فإن كتبهم كانت تأتي عارية عن الأسانيد والطرق! ويشرح غريب الحديث، ويعرب الكلمات المشكلة مع توجيهها، وقد استفاد ممن ألف قبل في دلائل النبوة (¬2)! توفي (535 هـ)! خامساً: كتب الشمائل: وكتب الشمائل التي أفردتْها بالتأليف، تذكر طرفاً من أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعبادته وهديه، ووصف سلوكه في نواحي حياته، باعتباره الأسوة الحسنة، وباعتبار صفاته وأحواله جانباً من جوانب سنته! ومن هنا نجد الصحاح، والسنن، والمسانيد، تحوي شمائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - منثورة بين العبادات، والمعاملات، والأخلاق، والزهد .. نذكر منها: ¬

_ (¬1) نيل الفضائل في تخريج أحاديث كتاب الدلائل (دلائل النبوة) للحافظ موفق الدين أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني، الملقب (قِوَام السنة) 1: 237 - 238 تحقيق أبي عبد الرحمن مساعد بن سليمان الراشد الحميد، دار العَاصمة، السعوديّة، أولى 1412 هـ. (¬2) المرجع السابق: 197 بتصرف.

1 - الشمائل للترمذي

1 - الشمائل للترمذي: وأشهر ما عُرف من ذلك كتاب (الشمائل) للترمذي، المتوفى (279 هـ)! يعرض فيه لحلية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشعره، وترجّله، وشيبه، وخضابه، وكحله، ولباسه، وعيشه، وخفه، ونعله، وخاتمه، وصفة سيفه، ودرعه، ومغفره، وعمامته، وإزاره، ومشيته، وتقنعه، وجلسته، وفرشه ووسادته، وما جاء في اتكائه، وصفة أكله، وخبزه، وإدامه، ووضوئه، وما يقول قبل الطعام، وبعده، وقدحه، وفاكهته، وشرابه، وصفة شربه، وتعطره وطيبه، وكيف كان كلامه، وإنشاده الشعر، ومسامرته وقصصه، ونومه، وعبادته، وضحكه وتبسمه، ومزاحه، وعبادته بعد طلوع الشمس، وتطوعه في بيته، وصومه، وتلاوة القرآن، وبكائه وخشوعه، وفراشه، وتواضعه، وأخلاقه، وأسمائه الكريمة، ومعاشرته، وسنه، ووفاته، وميراثه، وحجامته! تلك فهرسة أقدم كتاب في الشمائل للحافظ الترمذي، صاحب الجامع وغيره من الصنفات، وأحد الأئمة البارزين (¬1)! وقد اختصره الألباني بحذف إسناد المؤلف في كل حديث، إلا ما لا بد من ذكره من أعلاه، كالصحابي، وما دونه أحياناً، وحذف المتكرر إذا كان عن صحابي واحد، وإذا كان بين روايتيه اختلاف في المعنى أثبتهما معاً، كأن يقول: (وفي رواية: كذا وكذا)، وإذا كانت الرواية من طريق أخرى قال: (وفي طريق كذا وكذا)، وإذا كان فيها زيادة ضمها إلى الأولى وجعلها بين معكوفتين: []، وحذف كلام المؤلف عن الحديث إذا لم يكن فيه تصحيح أو تضعيف، أو ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء: 13: 270، وميزان الاعتدال: 3: 678، وتهذيب التهذيب: 9: 387، وتهذيب الكمال: 26: 250.

2 - الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي

فائدة تذكر، وحرص أن يذكر مرتبة الحديث؛ لأنها الغاية من التخريج، وقد بلغ عدد أحاديث الكتاب قبل اختصاره قرابة (400) أربعمائة حديث، وبعد اختصاره (352) اثنين وخمسين وثلثمائة حديث، مائة ويضع منها تبين ضعف أسانيدها، فتتبع طرقها وشواهدها من الكتب الستة وغيرها، فشد عضد نصفها، وَرَفعها إلى مرتبة ثبوتها، وذكر الأرقام، كما ذكر الأرقام في التساهل في التخريج .. وقال (¬1): (إنني لأرجو مخلصاً أن يكون هذا الكتاب هادياً للمسلمين جميعاً إلى التعرف على ما كان عليه نبيناً - صلى الله عليه وسلم - من الخلق الكريم، وما كان متحلياً به من الشمائل الكريمة، فيحملهم ذلك على الاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه، والاقتباس من نوره، في زمن كاد كثير من المسلمين أن ينسوا قول الله تبارك وتعالى فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]! 2 - الوفا بأحوال المصطفى لابن الجوزي: يعرض سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ويتحدث عن دلائل النبوة، ويذكر خصائص الرسول، وشمائله، وهديه، وما يتعلق بنواحي حياته، ونظام معيشته، يقول في مقدمة كتابه: (وإني قد رأيت خلقاً من أمتنا (¬3)، لا يحيطون علماً بحقيقة فضيلته، ¬

_ (¬1) مقدمة مختصر الشمائل المحمديّة: الألباني: 6 - 10 بتصرف، ط. المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط. رابعة 1413 هـ. (¬2) انظر: مقدمة الوفا بأحوال المصطفى: ابن الجوزي، تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد، دار الكتب الحديثة، السعادة ط. أولى 1386 هـ 1966 م. (¬3) المرجع السابق: المقدمة، وفيها (أئمتنا) ولعلها تحريف.

3 - شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه لابن كثير

فأحببت أن أجمع كتاباً أشير فيه إلى مرتبته، وأشرح حاله من بدايته إلى نهايته، وأدرج في ذلك الأدلة على صحة رسالته، وتقدمه على جميع الأنبياء في رتبته، فإذا انتهى الأمر إلى مدفنه في تربته، ذكرت فضل الصلاة عليه، وعرض أعمال أمته، وكيفية بعثته، وموقع شفاعته، وأخبرت بقربه من الخالق يوم القيامة ومنزلته)! وقطع على نفسه أن لا يورد إلا ما صح، ولكنه لم يستطع أن يفي بذلك (¬1)! توفي (597 هـ)! 3 - شمائل الرسول ودلائل نبوّته وفضائله وخصائصه لابن كثير: ذكر في أول الكتاب أنه سيفرد باباً للخصائص، ولكنه لم يصنع ذلك، وإن كان قد ذكر أحاديث متفرقة في بعض ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - (¬2)! واقتصر في الفضائل على مقارنات بين ما أوتي خاتم النبيّين، وبين ما أوتي الأنبياء قبله! وتحدث ابن كثير عن موضوع الشمائل فقال في مقدمة كتابه هذا: (قد صنف الناس في هذا قديماً وحديثاً، كتباً مفردة وغير مفردة، ومن أحسن من جمع في ذلك فأجاد وأفاد الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي رحمه الله، أفرد في هذا المعنى كتابه المشهور بالشمائل، ولنا به سماع متصل إليه! ونحن نورد عيون ما أورده فيه، ونزيد عليه أشياء مهمة، لا يستغني عنها المحدّث والفقيه) (¬3)! ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة المحقق. (¬2) انظر: 4: 71 تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة. (¬3) انظر: 5.

سادسا: كتب جمعت بين التاريخ والسيرة

ومن ثم يعدّ ما أورده الحافظ ابن كثير أوفى ما يمكن جمعه، إذ إنه لم يترك جانباً مما ورد في كتب الحديث في الشمائل إلا وذكره، ورتب ذلك في أبواب دقيقة، فجهده يتمثل في الجمع والإحاطة، وفي دقة الترتيب وحسنه! توفي (774 هـ)! سادساً: كتب جمعت بين التاريخ والسيرة: ونجد أنفسنا أمام الكتب التي جمعت بين التاريخ والسيرة .. نذكر منها: 1 - تاريخ الأمم والملوك للطبري: بدأ بذكر الدلالة على حدوث الزمان، وأول ما خلق بعد ذلك .. ثم ذكر آدم عليه السلام، وما كان بعده من أخبار الأنبياء والرسل، على ترتيب ذكرهم في التوراة، متعرضاً للحوادث التي وقعت في زمانهم، مفسراً ما ورد في القرآن الكريم بشأنهم، معرجاً على أخبار الملوك الذين عاصروهم وملوك الفرس، مع ذكر الأمم التي جاءت بعد الأنبياء، حتى مبعث خاتم النبيّين .. وذكر نسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعض أخبار آبائه وأجداده .. وتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - خديجة -رضي الله عنها - وما كان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتنبأ، وما كان بين مولده ووقت نبوته من الأحداث، واليوم الذي نُبئ فيه، وما تلا ذلك من الأحداث إلى وقت الهجرة .. ورتب كتابه بعد ذلك على الحوادث المذكورة، والأيام المشهورة، وإذا كانت أخبار الحوادث طويلة جزأها على حسب السنين، أو يشير إليها بالإجمال، ثم يذكرها في الموضع الملائم! وذكر الحوادث مروية، ولا يبدي في أسانيدها رأياً في معظم الأحيان!

ومن هنا كان النقد الموجه إليه؛ لأن ذكر الأخبار دون تمحيصها لا يليق بالمؤرخ الناقد البصير، وربما كان عذر الطبري في ذلك عذر من يذكرون الحديث بطرقه، تاركين الحكم للقارئ، وقد ذكر ذلك في مقدمة كتابه، حيث قال: (وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه، مما اشترطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه؛ إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أخبار الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقية، فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قبَلنا، وإنما أتى من قبل ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدّي إلينا) (¬1)! وقد وقع لهذا الكتاب كثير من التكملات والمختصرات والترجمات، ولعل أول من ذيل عليه هو الطبري نفسه، قال السخاوي: (وله على تاريخه المذكور ذيل، بل ذيل على الذيل أيضاً)! أما الترجمة فكان أول من قام بها أبو علي محمد بن عبد الله العلقمي إلى ¬

_ (¬1) تاريخ الأمم والملوك: 1: 13 خطبة الكتاب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط. ثانية 1408 هـ، 1988 م.

2 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (السيرة النبوية) للذهبي

الفارسيّة، ثم نقلت من الفارسيّة إلى التركيّة في عهد أحمد باشا، كما ترجم من الفارسية إلى الفرنسية، طبعت سنة 1874 م (¬1)! وعلى كل حال، ففي هذا الكتاب روايات غير صحيحة بحال! ولا تقبل روايتها في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحال، وإن كان قد أوردها بالسند، على قاعدة: (من أسند فقد حمّل، ومن أرسل فقد تحمّل)! بيد أن ذلك لم يعد يصلح في عصرنا هذا الذي أصبحنا أحوج ما نكون فيه إلى معرفة الصحيح من غيره، وعرض السيرة في ضوء الأحاديث الصحيحة! توفي (310 هـ)! 2 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (السيرة النبويّة) للذهبي: وهو كتاب تاريخ وتراجم معاً، وبهذا يختلف عن الموسوعة الضخمة الأخرى له، وهي (سير أعلام النبلاء) (¬2)؛ لأنه قد استوعب في (تاريخ الإسلام) فئتين من المترجمين: المشهورين، والأعلام، واقتصر في (سير أعلام النبلاء) على تراجم الأعلام النبلاء، إلا أنه قد يذكر في نهاية بعض التراجم غير واحد من المشهورين، للتعرف بهم، على سبيل الاختصار، وتحديد وفياتهم .. ومن ثم فقد ألفه بعد (تاريخ الإسلام) وأضاف إليه أخباراً كثيرة، وتناول أشياء بالنقد والتحقيق! وقد عرض للأخبار والوقائع والأحداث التي أسهم فيها صاحب الترجمة، قبل أن يترجم له ويؤرخ وفاته، أو يتناول سيرته الذاتية، ومن ثم قدم (مغازي ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 8. (¬2) انظر: سير أعلام النبلاء: 1: 145 مؤسسة الرسالة، ط. ثالثة 1405 هـ 1985 م.

3 - البداية والنهاية لابن كثير

النبي - صلى الله عليه وسلم - على (الترجمة النبوية) ولذا كانت (المغازي) في الجزء الأول، و (السيرة النبوية) في الجزء الثاني، ثم (سيرة الخلفاء الراشدين) في الجزء الثالث .. والأجزاء الأول تعتبر أقل الأجزاء كمية للتراجم، وقد أوضح الحافظ الذهبي ذلك في حوادث السنة الأولى للهجرة، حيث يقول: (والسبب في قلة من توفي في هذا العام وما بعده من السنين, أن المسلمين كانوا قليلين بالنسبة إلى من بعدهم، فإن الإسلام لم يكن إلا ببعض الحجاز، أو من هاجر إلى الحبشة، وفي خلافة عمر -بل وقبلها- انتشر في الأقاليم، فبهذا يظهر لك سبب قلة من توفي في صدر الإسلام، وسبب كثرة من توفي زمان التابعين ممن بعدهم) (¬1)! ويقول الذهبي في مقدمة كتابه (¬2): (هذا كتاب نافع إن شاء الله، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يُسمع، جمعته وتعبت عليه، واستخرجته من عدة تصانيف، يعرف به الإنسان مُهِمّ ما مضى من التاريخ, من أول تاريخ الإسلام إلى عصرنا هذا، من وفيات الكبار من الخلفاء والقراء، والزهاد والفقهاء، والمحدثين والعلماء، والسلاطين والوزراء، والنحاة والشعراء، ومعرفة طبقاتهم)! توفي (748 هـ)! 3 - البداية والنهاية لابن كثير: وهو موسوعة ضخمة، ابتدأ فيه بذكر قصص الأنبياء وأخبار الأمم الماضية، ¬

_ (¬1) انظر: مقدمة الدكتور عمر عبد السلام تدمري، لتاريخ الإسلام: الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. ثانية 1409 هـ - 1989 م. (¬2) المرجع السابق: 1: 11 وما بعدها.

ثم ذكر أخبار العرب وأحداث الجاهليّة، ثم سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حتى وفاته، وقد شغلت نحو ثلاثة أجزاء من الكتاب، من أواخر الجزء الثاني حتى أواخر الجزء الخامس، وهي بذلك موزعة بين أربعة أجزاء، ثم تابع أحداث التاريخ الإسلامي منذ خلافة الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -، حتى عصر ابن كثير في القرن الثامن الهجري، ثم ختمه بأشراط الساعة والفتن والملاحم وأحوال الآخرة! يقول الدكتور مصطفى عبد الواحد (¬1): وأول ما نلمسه في سيرة ابن كثير أنه اهتم بالأسانيد، تمشّياً مع صبغته الغالبة عليه كإمام محدّث، وأكثر مروياته عن أحمد، والبيهقي، وأبي نعيم! فلم يكتف بنقل ما كتبه أهل السير أمثال ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، ولكنه جمع ما رواه أهل الحديث، ولذلك اكتسب مزيّة يتفرد بها بين من كتبوا في السيرة!! وقد نقد ابن كثير بعض الأسانيد، عندما يكون المتن غريباً، ليحكم على بعض الأحاديث، وأحياناً يبيّن درجة الحديث دون أن ينقد السند! ومن ثم نجده ينقل عن بعض كتب السيرة المفقودة، مثل كتاب موسى ابن عقبة، وكتاب الأموي في المغازي، كما ينقل عن بعض شروح السيرة، مثل: (الروض الأنف) للسهيلي، و (الشفا) للقاضي عياض! وفي مجال الاستشهاد بالشعر لا يهمل ابن كثير هذه الناحية، ولكنه لا يتابع ابن هشام في كل مروياته من الشعر، فيختصر بعضها ويهمل بعضها! وبالجملة فإن ابن كثير يحرص على جمع كل ما كتب في الموضوع الذي ¬

_ (¬1) مقدمة السيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 14 وما بعدها بتصرف، دار المعرفة، بيروت 1976 م.

يتناوله، ولكنه لا يدمج الأحاديث والأخبار بعضها في بعض، بل يحتفظ لكل نقل بطابعه ومكانه، وكثيراً ما يعوزه الترتيب في النقل، فلا ينسق الأخبار التي ينقلها حتى تكون وحدة منسجمة، فأحياناً يبدأ بالخبر المطول، ثم يذكر بعده أخباراً تحتوي على جانب من هذا الخبر أو تكرره! فإذا تتبعنا نقول ابن كثير عن غيره، وجدنا فيها ظاهرة عجيبة، هي: أنه يكاد لا يلتزم نص أي شيء، ينقله! فنقوله عن ابن إسحاق أغلبها بالمعنى، وقد تتبّعت ذلك في بعض الصفحات، ورأيت أن إثبات الفروق بين ابن كثير وابن إسحاق شيء يطول مداه، فابن كثير يقدّم ويؤخّر، ويزيد وينقص، ويغيّر ويبدّل، ويفوت بهذا التغيير والتبديل كثير من جمال عبارة ابن إسحاق وتناسقها! كذلك نجد روايات ابن كثير للأحاديث تختلف بعض الاختلاف عما في أيدي الناس من الكتب التي ينقل عنها .. فأحاديث البخاري التي يرويها ابن كثير بقوله: (وقال البخاري) لا تنطبق حرفيًّا مع صحيح البخاري الذي بين أيدينا، كذلك القول في روايته عن صحيح مسلم، وعن مسند أحمد، وعن دلائل النبوة لأبي نعيم، ودلائل النبوة للبيهقي، وعن الشفا للقاضي عياض، وعن الروض الأنف للسهيلي! فإذا ما تفحصنا منهج ابن كثير في الروايات، رأيناه لا يبالي برواية كثير من الأخبار الواهية! وقد كان بإمكانه ألا يلتفت إلى هذه الأخبار التي لا تتمالك أمام النقد، لكنه كان يذكر السند في ذلك -كما أسلفنا عن الطبري- وكان يعلّق على بعض هذه الأخبار بأنه (غريب جداً) أو (لم يخرجوه) ونحو ذلك!

سابعا: أخبار مكة والمدينة والشعر

لكننا مع ذلك نود أن لو أهمل الحافظ ابن كثير هذه الأخبار التي تزحم الأذهان، وتشوش على الحقائق .. وبخاصة فيما يتصل بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! توفي (774 هـ)! سابعاً: أخبار مكة والمدينة والشعر: أما كتب أخبار مكة والمدينة، فقد ذكر المؤلفون فيها ما في هذين البلدين الطيّبين من بقاع وأماكن وأودية وجبال، وذكروا من تولى الإمارة في كل منهما، وما له علاقة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -! وحسبنا أن نذكر في القديم: أ- أخبار مكة للأزرقي: المتوفى (233 هـ)! 2 - أخبار المدينة لعمر بن شبه: المتوفى (262 هـ)! وفي الحديث: 3 - مكة والمدينة في الجاهليّة وعصر الرسول للدكتور الشريف: وفيه ذكر كثير من المراجع في أخبار مكة والمدينة! ومعلوم أن هذه الكتب التاريخيّة فيها الكثير من الأحاديث الضعيفة والواهية! وأما الشعر فقد عني بنظم السيرة كثيرون، منهم من تقيد بسيرة ابن هشام، ومنهم من لم يتقيّد! فمن الأوّلين: 1 - شعر الشيخ عبد العزيز بن أحمد، المعروف بسيد الدرينى: المتوفى (697 هـ) تقريباً!

2 - شعر الشيخ فتح الدين محمد بن إبراهيم، المعروف بابن الشهيد: المتوفى (793 هـ) في أكثر من عشر آلاف بيت! ومن الآخرين: 3 - شعر الإمام الحافظ عبد الرحيم العراقي: المتوفى (سنة 806 هـ)! 4 - شعر الشيخ برهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي: المتوفى (885 هـ) (¬1)! ومن المحدثين: 5 - شعر عبد الحميد الخطيب: في (كتاب سيرة سيد ولد آدم: تائية الخطيب)! وقد تضمن عدة مواضيع، ونشر القيم الأخير منه، وهو (سيرة سيد ولد آدم) ويحتوي على (2300) بيت، يقول في مقدمته (¬2): (هذه السيرة ما هي إلا جزء من تائيتي الكبرى التي بلغت نحو ثمانية آلاف بيت، خمسة آلاف وسبعمائة منها في رسالته الشريفة، ضمنتها سر تأخير المسلمين، وحكمة التشريع الإسلامي، ومبادئ الإسلام وغاياته، كانت مجتمعة في (تائية الخطيب) ثم نشرتها في كتابي (أسمى الرسالات) وأفردت السيرة عن الرسالة، وطبعتها مستقلة في عام 1362 هـ بالنظر لما لاحظته من افتتان الكثير من الناس في الزمن الأخير بحضارة الغرب، وأخلاق أهله وعاداتهم، حتى اتخذوا الغربيّين مثلاً علياً .. كيف لا وهو الذي ما بعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق .. إلى أن قال: وأذكر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بما كان عليه نبيّهم، والذكرى تنفع المؤمنين)! ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة في ضوء القرآن والسنة: 1: 36، وكشف الظنون: 2: 1012، 1013. (¬2) انظر: كتاب سيرة سيد ولد آدم: تائية الخطيب: 34 - 35 ط. الشؤون الدينية، قطر.

6 - شعر أحمد محرم: في (ديوان مسجد الإسلام) (¬1) الذي قسمه إلى أربعة أجزاء، وفي الصفحة الأولى من كل جزء آيات تحث على الجهاد، وفي الثانية كلمات لبعض أئمة التابعين في علم المغازي والسير! وقد بدأ الحديث في الجزء الأول عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة، ثم عن هجرته، ثم عن استقراره بالمدينة، ومؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وموقفه من اليهود والمنافقين، ثم تحدث عن الغزوات، وما وقع فيها من أحداث وبطولات، وقد استغرق هذا الجزءين: الثاني والثالث! وفي الجزء الرابع تحدث عن الوفود، ثم عن الكتب والرسل، ثم عن السرايا، وختم ذلك بآخر عمل قام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل لحاقه بالرفيق الأعلى! توفي (1945 م)! تلك إشارات إلى أهم مصادر السيرة، وحسبنا أن نشير إلى أن العلماء المغاربة -كما يقول الدكتور محمد فاروق النبهان: (عكفوا على رواية المصنفات المشرقيّة في السيرة، من خلال اتصالهم بعلماء المشرق، ونقل مدوّناتهم، حتى أصبحت الحركة العلميّة في المغرب مواكبة للحركة العلميّة في المشرق، ولم يكتف المغاربة بمجرد الرواية والنقل، وإنما أخضعوا ما نقلوه لموازين نقديّة أرست أسس مدرسة مغربيّة متميّزة بخصائص من الإبداع والتفوّق، ولم يلبث نتاج هذه المدرسة المغربيّة أن أخذ مكانه في المشرق، منافساً ومزاحماً ما سبق أن دوّنته تلك المدرسة، وتلقى المشارقة المصنّفات المغربيّة بحفاوة وتقدير، وأوسعوا ¬

_ (¬1) ديوان مجد الإسلام: 36 مكتة الفلاح، الكويت، ط. أولى 1402 هـ - 1982 م.

لهذه المصنّفات مكان الصدارة في الحلقات العلميّة، وأصبحت متداولة. مما يؤكد أن تراث الإسلام وليد حضارة ممتدة عريضة شارك في تشييدها علماء من المشرق والمغرب، تنافسوا وتسابقوا في أن يبنوا هذا الصرح الشاهد الممتد من ثقافة الإسلام) (¬1)! * * * ¬

_ (¬1) المصنفات الغربية في السيرة النبويّة ومصنفوها: الدكتور محمد يوسف: رسالة دكتوراه الدولة في العلوم الإسلاميّة بدرجة حسن جداً: 4 ط. العارف الجديدة، زنفة الرخاء - الحي الصناعي - الرباط 1412 هـ - 1992 م- الجزء الأول: 309، والثاني 269 من القطع الكبير.

مناهج المؤلفين

مناهج المؤلفين

مناهج المؤلفين أولاً: المنهج التاريخي ثانياً: المنهج الموضوعي 1 - (دلائل النبوة) و (الشمائل المحمدية) 2 - (الهجرة النبوية ودورها في بناء المجتمع الإسلامي) 3 - (الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه) 4 - (سيرة النبي) لشبلى نعماتي 5 - (الرسول القائد) للواء الركن محمود شيت خطاب 6 - موسى بن عقبة 7 - محمد بن إسحاق 8 - محمد بن عمر الواقدي ثالثاً: المنهج التبشيري الاستشراقي 1 - نقص معيب 2 - تطور الموقف الغربي 3 - أخطاء منهجيّة 4 - المذهب الذاتي 5 - مدرسة جديدة 6 - الإيمان بالغيب 7 - السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة. 8 - (حياة محمد) للدكتور هيكل 9 - المقياس الصحيح للحديث عنده حديث موضوع 10 - موقفه من حديث شق الصدر 11 - وجوب التسليم بحديث شق الصدر 12 - حديث آخر موضوع 13 - الإسراء ووحدة الوجود 14 - بطلان فكرة وحدة الوجود 15 - إيجابيّات 16 - مصير هذه المدرسة اليوم

أولا: المنهج التاريخي

مناهج المؤلفين وبعد أن أشرنا إلى مكانة السيرة النبويّة عبر التاريخ, وخصائصها، ومصادرها، نجد أنفسنا أمام الحديث عن مناهج المؤلفين في السيرة، فيما يلي: أولاً: المنهج التاريخي: وهو المنهج الذي التزمه المؤلفون في السيرة، والذي اعتمده مؤرخونا، وعرفوه باسم (الحوليات) (¬1)، وهو ذكر الحوادث كما وقعت، من حيث الزمان، دون النظر إلى الوحدة الموضوعيّة بين السابق واللاحق! وفيه بيان وجه من وجوه عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث كانت حياته -كما أسلفنا- صفحة عريضة من صفحات الجهاد -في الداخل والخارج- لإنقاذ البشريّة، فانتشلها من ضياع، وانتاشها من هلاك، وأنقذها مما كانت تتخبّط فيه من دياجير الظلام، وعقابيل الضلال، وواجه المشركين، واليهود، والنصارى، في معارك كثيرة! وفيه -أيضاً- كثرة الآثار، مع كثرة عدم الالتزام بقواعد التحديث رواية ودراية، وربّ رجل مجروح عند أهل الحديث ثقة عند أهل السير، وعلّلوا ذلك باختلاف الغرضين، حيث إن غرض المحدث ذكر الأحاديث التي هي مناط معرفة الحلال والحرام، وغرض المؤلف في السير والتواريخ ذكر أخبار ليست مناط الحلال والحرام غالباً، فمن ثم تساهلوا، ووجدت في كتبهم الروايات ¬

_ (¬1) انظر: دراسة في السيرة: دكتور عماد الدين خليل: 6 وما بعدها، مؤسسة الرسالة 1394 هـ 1974 م.

ثانيا: المنهج الموضوعي

المرسلة، والمنقطعة، والمعضلة، والشاذة، والمنكرة، بل الموضوعة المختلقة على قلة، وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: (ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي)! ومراده أنه يغلب فيها رواية المراسيل، والمنقطعات، والبلاغات، ونحوها، وإلا فقد صح فيها أحاديث كثيرة (¬1)! ثانياً: المنهج الموضوعي: نذكر منه ما يلي: 1 - (دلائل النبوّة) و (الشمائل المحمديّة): كما سبق أن ذكرنا في مصادر السيرة .. وظهرت دراسات موضوعية .. منها: 2 - (الهجرة النبويّة ودروها في بناء المجتمع الإسلامي): وهي دراسة تحليليّة في ضوء الكتاب والسنة، سبق أن قدمتُها في إذاعة القرآن الكريم صباحاً من دولة الكويت، وأعيدت إذاعتها في البرنامج العام، مساء طيلة ثلاثة أشهر، وطبعت بعد ذلك في كتاب، ونفدت طبعاته، في الكويت، وهي في طور الترجمة إلى اللغات الأجنبية: توجهت بها إلى المهاجرين في سبيل الله، أنصار الحق ودعاته، وجنده وحُماته .. الذين يرجون الشهادة في سبيل الله! إلى أصحاب البصائر والأبصار .. الذين يتطلّعون إلى آفاق النور والإخاء، ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 34.

والإيثار والفداء، والبذل والعطاء، والحب والنقاء، والود والصفاء، ليعيشوا في أجواء الروح الرفافة الندى والظلال! إلى الإخوة الأحبّة جُند الحق .. الذين صبروا وصابروا ورابطوا .. وزادتهم الِمحنُ مِنَحاً وثَبَاتاً! أصدق الناس قولاً، وأجمعهم لُبًّا، وأقواهم عزماً، الجهاد شعارهم، واليقين دثارهم، لا تتغيّر بهم في خشية الله عادة، ولا تملكهم في مخافته هوادة! إلى الأُخُوَّةِ الزّكيّة، الشافعية النقيّة، والمحبّة النديّة، والمودّة الرضيّة، والنفحة العلويّةَ، والألفة القدسيّة، التي تنشئ في القلب إدراكاً كاملاً، ونوراً شاملاً، ونبضاً متصلاً، وحياة مباركة، هي سراج ما بطن، وملاك ما علن، تنطف نوراً كأنها قناع رحمة الله! بيّنت فيه معالم الهجرة من أرض لفّها الظلام والجحود، وخيّم عليها الظلم والكنود، إلى أرض سطع فيها نور الإسلام! مبدأ تاريخ خير أمة أخرجت للناس، والحدّ الفاصل بين الحق والباطل، والخير والشر! تضع يدك على معالم الطريق، كلما تمعّنت في أطيافها قرأت شجناً، واستعرضت جهاداً، وتبيّنت استشهاداً، ولست صدقاً، وأبصرت يقيناً! ومن ثم فأنت غاضب على الباطل، كاره له، وأنت ثائر على الظلم بكل ما أوتيت، حتى الحياة تجود بها طائعاً مختاراً، إذا شاهدت من خلال أدوارها ما نزل بالمؤمنين الصادقين، وأنت في صحبة مباركة طيّبة لهم، تعايش أنفاسهم،

3 - (الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجها لوجه)

وتبصر جهادهم، وتبهرك مواقفهم، وهم يرجون الرضا والرضوان .. وهل هناك أسمى من الرضا والرضوان؟! اللهم! أعطنا ولا تحرمنا! ولا تلبث أن تقول معي: عونك اللهم! وهذه المعالم حين تستقر في القلب المؤمن، تندفع بصاحبها لتحقيق ذاتها في عالم الواقع، وتتمثل حركة فاعلة في تكوين الشخصيّة الإسلامية، وبناء المجتمع الإسلامي، وفق معالم بناء الدولة الإسلاميّة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! 3 - (الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه): وهي دراسات سبق أن قدمتُها -أيضاً- في إذاعة القرآن الكريم صباحاً من دولة الكويت، وأعيدت إذاعتها في البرنامج العام، مساء، طيلة سبعة أشهر، ذكرتُ فيها ما يجب أن يعرفه المسلمون عن اليهود! وطُبعت في عشرة كتب، بعد (كامب ديفيد) في دار الوفاء بالمنصورة .. هي: الأول: أسطورة الوطن اليهودي! الثاني: الفكر اليهودي! الثالث: موقف اليهود من الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! الرابع: الطبيعة اليهوديّة! الخامس: التآمر اليهودي على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! السادس: اليهود والخيانة! السابع: القضاء على اليهود عسكريًّا!

4 - (سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -) لشبلي نعماني

الثامن: محاكمة اليهود! التاسع: الخطر اليهودي! العاشر: معالم النصر على اليهود! انطلاقاً من أنه ليس لنا من سبيل تجتمع عليه وجهات نظر المؤمنين إلا التأسي بموقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اليهود وموقفهم منه، من خلال معرفة سماتهم عبر تاريخهم وفكرهم وموقفهم من الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! ومن خلال الغزوات الخاصة باليهود، حيث كان لهم في شبه الجزيرة ما كان، ولم يتبيّن عداؤهم في أول الأمر سافراً، ولكن ما لبثوا أن كشفوا عن سماتهم، وأعلنوا الحرب والعدوان، وواجههم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. حتى كان القضاء عليهم عسكرياً! وهذا الموقف هو وحده الذي يجب أن نؤمن به جميعاً، وندعو إليه، ونتجمّع في رحابه، حتى تعود إلينا سيرتنا الأولى، ويتنزّل علينا وعد الله بالنصر: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]! وطبعتْ أخيراً في مجموعة كاملة، نفدت، والآن تحت الترجمة إلى لغات أجنبية أخرى! 4 - (سيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) لشبلي نعماني: وقد كتب شبلي نعماني كتابه (سيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم -) الذي بدأه (1857 - 1914 م) في خمسة مجلدات، وأتمه سليمان الندوي، فأصبح في سبعة مجلدات!

الأول والثاني: ترجمة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع دراسة عن الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، ويعدّ هذا الكتاب خاتمة أعمال شبلي - رحمه الله - وهو الذي كتب معظم فصوله، وكان حريصاً على الالتزام الدقيق بالنصوص الصحيحة, والرد على الشبهات التي أثارها غير المسلمين عن الإسلام ورسوله! هذا في أسلوب رائع أنيق، حتى إن بعض فصول المجلد تعتبر -كما يقول مسعود الندوي- كأحسن ما كُتب باللغة الأردية! الثالث: خاص بالمعجزات، كتبه والأجزاء التالية، سليمان الندوي، وله مقدمتان علميتان من الوجهتين الفلسفتين: القديمة والحديثة، أثبت فيهما إمكان المعجزات، وعدم معارضة العلوم العقليّة لها! الرابع: يبحث في منزلة النبوة، والفرق بينها وبين منازل الإصلاح والتجديد والزعامة، ثم يبحث في العقائد، مستنداً إلى الكتاب والسنة، في مزج دقيق بين علومها وأسرارها! الخامس: في العبادات! السادس: في الأخلاق! السابع: في المعاملات! وكل منها موسوعة في موضوعه! وجاء في المقدمة: (إن الواجب الأسمى والخدمة الكبرى التي تقدم إلى الإنسانيّة أن تجدّد وتضبط أخلاقيات الناس وثقافتهم، والوسيلة المعتادة لذلك هي العظات، والوسيلة الحديثة هي تأليف الكتب ذات المستوى الرفيع في السلوك ونشرها بين الناس، وهناك وسيلة أخرى هي إكراه الناس على غرس

الفضائل، ولكن أفضل الطرق وأصحها وأكثرها عمليّة، ليست الحديث ولا الكتابة ولا الإكراه، ولكن في ظهور شخص هو التصوير العام للفضائل، شخص تنعكس فيه الفضائل عمليًّا، وتعادل كل حركة من شفته عمل آلاف الكتب، وكل إشارة من يديه كأنها أمر ملكي، إن الفضائل التي تبدو في دنيانا هي انعكاسات من هؤلاء الرجال .. أما جميع العوامل الأخرى فلا تعدو أن تكون طلاء وزخرفة في صرح الحضارة) (¬1)! ويقول: (ولكن هؤلاء الذين ظهروا قبل الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - بعامة كانوا نماذج لفضائل معيّنة، على سبيل المثال: مدرسة المسيح كانت للتحمّل والصبر والسلام والتسامح والتواضع، ولا مكان للصفات الرفيعة اللازمة للإدارة والحكم! بينما لا مجال فيما جاء عن نوح وموسى للتسامح العام! من أجل ذلك كانت الحاجة إلى قائد جديد في كل مرحلة من مراحل الإنسانية .. ودائماً كان هناك انتظار لجديد يكمل به الدين، القائد الذي يستطيع أن يرفع سيفه، وأن يعيش معتكفاً أيضاً، قائد يستطيع أن يمارس حياة الحاكم والفاتح، كما يمارس حياة المسكين، والذي يستطيع أن يكون حاكم الدنيا وتالياً لأسماء الله الحسنى، والذي يستطيع أن يعيش حياة الفقر بالرضى وحياة الغنى بالقلب الكريم، هذا الرسول الكامل بين الخالق والكون، هذه الشخصيّة المحيطة، هذا التصور الحيّ لكلمات الله هو الذروة العليا في خلق الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]. وليس هناك من شئ خالد في دنيا الفناء، ومن أجل ذلك لن تعمر فيها ¬

_ (¬1) الإسلام والعروبة في عالم متغير: الدكتور عبد العزيز كامل: 47: كتاب العربي: الكتاب الثاني والعشرون: 1989 م نقلاً عن (سيرة النبي): 1: 1 - 2 ط. الإنجليزية.

هذه الشخصيّة الكاملة إلى الأبد، ولذلك كان من الضروري الاحتفاظ بصورتها الكاملة، كل كلمة منها، كل إشارة، كل لمحة من لمحات وجودها .. حتى نستطيع أن نفيد منها في كل مرحلة من مراحل الحياة عندما نحتاج إليها)! ومن الغريب أن الصورة الكاملة لغير محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء غير محفوظة -كما أسلفنا- فمن حياة المسيح التي استمرت ثلاثاً وثلاثين سنة، نعرف الأحداث المرتبطة بالأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته .. والتوراة الموجودة هي المصدر الوحيد للقليل الذي نعرفه عن موسى (¬1)! وبعد أن تحدث عن الفروق المنهجيّة بين علماء الحديث وعلماء المغازي، قال: أليس بين أيدينا كتاب عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتمد اعتماداً كاملاً على الحديث الشريف الصحيح وحده) (¬2)! وقال: (إلى يوم الدين لن يستطيع أحد أن ينافس المسلمين في فخرهم بحفظ أدق تفاصيل كل حادث في حياة الرسول، بطريقة دقيقة وواعية)! وقد سبق ذكر ذلك في حديثنا عن خصائص السيرة النبوية، وبيان أنها أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل! وفي رحلة منهجيّة استغرقت خمساً وثمانين صحيفة قبل أن ينتقل إلى دراسة التأليف الغربي عن السيرة، تابع ما عند الغرب من اتجاهات في كتابة السيرة، مركزاً على القرن السابع عشر وما بعده، وأورد قوائم بهذه المؤلفات، ذكرا منها سبعة عشر مؤلفاً في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين (1815 - 1909 م)! ¬

_ (¬1) المرجع السابق، نقلاً عن: 1: 2 - 3 سيرة النبي ط. الإنجليزية. (¬2) المرجع السابق، نقلاً عن: 1: 8 هامش.

ولخص النقاط التي ركز عليها الكتاب الأوروبيّون في الافتراء على حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في: 1 - أنه تحول من النبوّة في مكة، إلى الملك والقوة والسيطرة في المدينة، بكل ما يحمل ذلك من إشعال الحروب، والقتل، والردع، وإراقة الدماء! 2 - تعدد الزوجات والميل إلى النساء! 3 - نشر الإسلام بالقوة! 3 - إقرار الرق، وممارسته! 5 - اتباع الأساليب الدبلوماسيّة، كما يمارسها الحكام الدنيويون! وقد ناقش الكتاب كل هذه الافتراءات في مواضعها، ورد عليها بكل إفاضة! وعرض المصادر التي أسس عليها جمع كتابه وتقسيمه في: 1 - ما جاء في القرآن الكريم، وهو المرجع الأعلى في السيرة! 2 - ما جاء في الأحاديث الصحيحة, ورأى أن خطأ كبيراً حدث نتيجة البحث عن الموضوعات تحت عناوين معيّنة، فإذا لم يجدوا مالوا إلى الحديث الضعيف فاستعانوا به؛ بينما في كتب الحديث تفاصيل كثيرة جاءت كأنها حقائق ثانويّة ضمن موضوع أساسي، ويمكن -مع الدراسة الممعنة- جمع كل هذه التفاصيل الدقيقة والصحيحة عن حياة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من الكتب الستة! فميزة (سيرة النبي) أن شبلي قد استطاع أن يجمع فيه معظم التفاصيل من كتب الحديث، وأعاد تبويبها من جديد، وهي التي لم تجتذب أنظار مؤلفين سابقين!

3 - وفيما يتعلق بالأحداث اليوميّة اكتفى بما جاء به ابن سعد في طبقاته، وابن هشام في السيرة، والطبري في التاريخ, وإذا ما كان لحادث قيمة كبيرة قام بتحقيقه تحقيقاً علميًّا دقيقاً! 4 - إعداد كل المواد السابقة وتحقيقها! وقسم كتابه بعد هذا إلى خمسة مجلدات، رأينا في التنفيذ أنها عدلت إلى سبعة، وعزم على طبع أي جزء منها بعد إنجازه، دون تقيد بالترتيب الموضوعي للأجزاء، وإذا كانت وفاته عام 1914 م فإن الجزء الأول قد صدر عام 1918 م والثاني عام 1920 م ثم توالت الأجزاء! يقول سليمان الندوي في مقدمة المجلد الثاني: 2: 2: (عندما جاءت مخطوطة الكتاب إليّ -يقصد الجزءين: الأول والثاني بعد وفاة شبلي- أحسست أنها تحتاج إلى عدة فصول، بغيرها يظل الكتاب ناقصاً، ولم تكن عندي الشجاعة لأن أفكر في إضافة أي شيء إلى ما تركه المؤلف، ومرت فترة من التردّد الطويل، ثم عزمت على كتابة الفصول التي يحتاج إليها الكتاب، وبعد أيام عثرت على مجموعة من المذكرات كتبها المؤلف قبل وفاته بخمسة شهور، كانت المذكّرات الأخيرة هي رؤوس الموضوعات, ولم يكن لسروري حدود عندما قرأت المذكّرات، فوجدتها الفصول التي يحتاج إليها الكتاب، وأنها تطابق ما أحسست أن الكتاب محتاج إليه فكتبته، ولعلها كانت إشارة من الغيب له أن يضع هذه الخطوط لتكون عوناً لي على السير)! ولقد كان الجزء الخاص بأحوال المصطفى غير كامل، وفي بعض الصفحات فراغات أكملها سليمان، وأضاف هوامش، وميز ذلك عن الأصل!

5 - (الرسول القائد) للواء الركن محمود شيت خطاب

وصفوة القول: أن المجلد الأول يُعنى بالمنهج وما قبل الإسلام، وبالسير على أساس من التسلسل التاريخي، وحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمدينة ومغازيه! بينما يدرس الثاني السنوات الثلاث الأخيرة من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع عناية بنشر الدعوة، ورسله ووسائله، واستقبال الوفود، وإقامة المجتمع الجديد، ونظمه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ثم يعرض الإسلام كدين: عباداته، ومعاملاته، وحلاله، وحرامه، ويدرس العام الأخير من حياة الرسول، وحجة الوداع! وبعد أن يذكر وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يخصص فصولاً لما ترك وراءه، وأخلاقه، ونظام حياته اليومية، ومستشاريه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كخطيب (كيف يخطب .. طبيعته .. عظاته .. تأثيرها) ثم عباداته وأخلاقه وزوجاته وأبناؤه وحياته المنزليّة! ويستغرق المجلدان معاً نحو تسعمائة صفحة في الطبعة الإنجليزيّة! وهو كتاب أرجو أن يقدّم بجميع اللغات إلى المسلمين وغيرهم! 5 - (الرسول القائد) للواء الركن محمود شيت خطاب: يدل عنوانه على موضوعه، يقول في مقدمته: (فكّرت في وضع هذا الكتاب، بعد أن قرأت كثيراً من المؤلفات العسكريّة الباحثة في تاريخ حروب القادة العظام، الذين لمعت أسماؤهم قديماً وحديثاً! لقد أبرزت تلك المؤلفات بكل وضوح أعمال أولئك القادة، ووصفت معاركهم بتسلسل منطقي سهل، ووضّحت تلك المعارك بالخرائط والمخطّطات

والأشكال، وأظهرت الدروس المفيدة منها، فأضفت بذلك كله الخلود على حياة أولئك الرجال! وعدت لأقارن بين هذا الأسلوب في البحث، وبين أسلوب المؤرخين عندنا في الحديث عن معارك قادة المسلمين، فعرفت كيف أضاء الأسلوب الأول معالم الطريق للباحثين، وحقق قيمة جديدة لأعمال بعض القادة، بينما طمس الأسلوب الثاني أعمالاً خالدة تستحق أعظم التقدير والإعجاب! لقد قرأت أكثر كتب السيرة في تدبّر وإمعان، وحاولت أن أستشفّ منها كل نواحي العظمة التي تتّسم بها شخصيّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكني وجدت أن عبقريّته العسكريّة التي لا تتطاول إليها أيّة عبقريّة أخرى لأيّ قائد في القديم أو الحديث، تكاد تكون متوارية محجوبة لم يتح لها من يكشف أسرارها، ويجلي عظمتها، بأسلوب حديث يجنح إلى الكشف والتحليل، وإبراز المواهب النادرة، خاصة من عسكري يستطيع أن يلم بنواحي العظمة العسكريّة التي تكمن فيها، ويظهرها جليّة للعيان، ومن هنا بقي الجانب العسكري من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشوبه الغموض حتى اليوم! إن المسلم حقًّا هو الذي يقدّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق قدره، فيعترف بأن كفاية الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائداً متميزاً، وكفاية أصحابه جنوداً مميّزين، هي التي أمّنت لهم النصر العظيم! أما أن نستند على الخوارق وحدها في الحرب، ونجعلها السبب المباشر لانتصار المسلمين، فذلك يجعل هذا النصر لا قيمة له من الناحية العسكرية، بالإضافة إلى مخالفة الأمر بالأسباب، وإعداد القوة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً! إن أعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنها العسكرية، سنة متبعة، في كل زمان

ومكان، فهل يبقى أتباعه ينتظرون الخوارق لينتصروا على أعدائهم، أم يعدّون ما استطاعوا من قوة، كما قرر القرآن الكريم، لينالوا هذا النصر؟ إن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - العسكريّة، تثبت بشكل جازم لا يتطرّق إليه الشك، أن انتصاره كان لشجاعته الشخصيّة، وسيطرته على أعصابه في أحلك المواقف، ولقراراته السريعة الحازمة في أخطر الظروف، ولعزمه الأكيد في التشبّث بأسباب النصر، ولتطبيقه كل مبادئ الحرب المعروفة في كل معاركه، تلك العوامل الشخصيّة التي جعلته يتفوّق على أعدائه في الميدان، ولو لم تكن تلك الصفات الشخصيّة المدعومة بقوة الإيمان بالله، لما كُتِب له النصر! ويمتاز الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن غيره من القادة في كل زمان ومكان بميزتين مهمتين: الأولى: أنه كان قائداً عصاميًّا! الثانية: أن معاركه كانت للدفاع عن الدعوة، ولحماية نشر الإسلام، ولتوطيد أركان السلام، لا للعدوان والاغتصاب والاستغلال! وقال: على ذلك يمكن تقسيم حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الناحية العسكرّية إلى أربعة أدوار: الأول: دور الحشد! الثاني: دور الدفاع عن العقيدة! الثالث: دور الهجوم! الرابع: دور التكامل!

أما دور الحشد: فمن بعثته إلى هجرته إلى المدينة المنورة، واستقراره هناك، وفي هذا الدور اقتصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الحرب الكلامية، يبشر وينذر، ويحاول جاهداً نشر الإسلام، وبذلك كوّن النواة الأولى لقوات المسلمين، وحشدهم في المدينة المنورة بالهجرة إليها! وأما دور الدفاع عن العقيدة: فمن بدء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإرسال سراياه وقواته للقتال، إلى انسحاب الأحزاب عن المدينة بعد غزوة الخندق، وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين، فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم ضد أعدائهم الأقوياء! وأما دور الهجوم: فمن بعد غزوة الخندق إلى ما بعد غزوة حنين، وبهذا الدور انتشر الإسلام في الجزيرة العربيّة كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في بلاد العرب، فاستطاعوا سحق كل قوة تعرضت للإسلام! وأما دور التكامل: وهو من بعد غزوة حنين إلى أن التحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، فقد تكاملت قوات المسلمين بهذا الدور، فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد لها متنفّساً خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة تبوك إيذاناً بمولد الدولة الإسلاميّة الكبرى! بهذا التطور المنطقي، تدرجّ الرسول القائد العصامي بقواته من الضعف إلى القوة، ومن الدفاع إلى الهجوم، ومن الهجوم إلى التعرّض، وبذلك بزّ كل قائد في كل أدوار التاريخ؛ لأنه أوجد قوة كبيرة ذات عقيدة واحدة وهدف واحد من لا شيء! تلك هي الميزة الأولى للرسول القائد - صلى الله عليه وسلم -!

ثالثا: المنهج التبشيري الاستشراقي

والميزة الثانية لقيادته هي: (أن معاركه كانت حرب فروسيّة بكل معنى الكلمة، الغرض منها حماية نشر الإسلام، وتوطيد أركان السلام، فلم ينقض عهداً، ولم يمثّل بعدو، ولم يقتل ضعيفاً، ولم يقاتل غير المحاريين)! وقال: (إن مهمة القائد في العصور الغابرة كانت أصعب من مهمته في العصر الحديث؛ لأن سيطرة القائد ومزاياه الشخصية، كانت العامل الحاسم في الحروب القديمة، بينما يسيطر القائد في الحروب الحديثة على قواته الكبيرة بمعاونة عدد ضخم من ضباط الركن الذين يعاونونه في مهمته، ويراقبون تنفيذ أوامره في الوقت والمكان المطلوبين، كما يسيطر القائد على قواته بوسائط المواصلات الداخلية الدقيقة من أجهزة لاسلكية، ورادار طائرات وأقمار صناعية ووسائط آليّة)! وقال: (إن حياة رسول التوحيد والجهاد عليه أفضل الصلاة والسلام هي أسوة حسنة للمسلمين في كل زمان ومكان .. وإن النبيّ العربيّ صلوات الله عليه وتسليمه يطالبكم اليوم جميعاً، أن تجاهدوا من أجل الوحدة، وتتوحّدوا من أجل الجهاد)! وهو كتاب أرجو أن تخرّج الأحاديث الواردة فيه، وأن يجد سبيله إلى الكليّات الحربيّة في البلاد الإسلاميّة! ثالثاً: المنهج التبشيري الاستشراقي: والمؤلفات في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عهد الرسالة إلى يومنا هذا، في مختلف الأوطان الإسلاميّة وغير الإسلاميّة، تعدّ بالألوف، وما أُلف بالأردية - وحدها- في موضوع السيرة يبلغ ألفاً إن لم يزد عليه، مع أنها لم تصر لغة تأليف

1 - نقص معيب

إلا منذ قرنين على الأكثر -كما يقول سليمان الندوي- رحمه الله - (¬1)، وحين ننظر إلى من ألف في السيرة ممن لا يؤمنون بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يوقنون برسالته، نجد كثيرين في الهند، على اختلاف مللها، قد ألفوا في السيرة، ونجد المبشّرين والمستشرقين قد كتبوا في السيرة، إرواء لظمئهم العلمي، أو محاولة للطعن في الكثير الغالب! وفي مجلة (المقتبس) التي كانت تصدر في دمشق قبل نصف قرن تقريباً إحصاء لما صنف في السيرة النبويّة بمختلف اللغات الأوروبيّة بلغ نحو (1300) ثلثمائة وألف كتاب، ولو أضفنا إلى هذا العدد ما صدر من المطابع الأوروبيّة في السيرة النبويّة خلال أربعين سنة بعد ذلك الإحصاء الذي نشرفه مجلة (المقتبس) لأربى على ذلك كثيراً! 1 - نقص معيب: وقد أصدر مرجليوث الذي كان أستاذاً للغة العربيّة في (جامعة أكسفورد) سنة 1905 م كتابه (محمد) وجعله حلقة في سلسلة (عظائم الأمم) وهو لم يكتب كتابه هذا ليثني فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لعله لم يُؤلَّف كاتبٌ بالإِنجليزيّة أشدّ تحاملاً على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما جاء في هذا الكتاب، وقد حاول مرجليوث أن يشوه كل ما يتعلق بالسيرة الشريفة، وأن يشكك في أسانيدها، ولم يأل جهداً في نقض ما أبرمه التاريخ, ومعارضة ما حققّه المحقّقون من المنصفين، لكنه مع كل هذا لم يتمالك عن الاعتراف في مقدمة كتابه بأن الذين كتبوا في سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا ينتهي ذكر أسمائهم، وأنهم يرون أن من الشرف للكاتب أن ينال المجد بتبوّئه مجلساً بين الذين كتبوا في السيرة المحمديّة! ¬

_ (¬1) الرسالة المحمدية: 96 وما بعدها بتصرف.

وقد كتب جون ديون بورت سنة 1870 م كتاباً بالإِنجليزيّة في السيرة المحمديّة عنوانه: (اعتذار من محمد والقرآن) والذي يقرؤه يخيّل إليه أنه كتبه بنزعة الإخلاص والإنصاف، يقول في مقدمته: (لا ريب أنه لا يوجد في الفاتحين والمشرعين، والذين سنوا السنن, من يَعْرفُ الناسُ حياتَهُ وأحواله أكثر تفصيلاً وأشمل بياناً، مما يعرفون من سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأحواله)! وألقى ريورند باسورث سميث Basworth smith عضو كلية التثليث في أكسفورد سنة 1874 م محاضرات عن (محمد والمحمديّة) في الجمعية الملكيّة لبريطانيا، طُبعت كتاباً -كان أيضاً- أشدّ تحاملاً على الرسول - صلى الله عليه وسلم -! وإذا أراد الإنسان أن يفهم الأحداث ويفسرها، ويربطها بما قبلها وما تلاها، ينبغي أن يكون لديه الاستعداد لإدراك مقومات النفس والحياة (¬1)! - مقومات النفس البشريّة: روحيّة، وفكريّة، وحيويّة! - ومقومات الحياة الإنسانيّة: معنويّة، وفطريّة، وماديّة! وأن يفتح روحه وفكره للحادثة، ويستجيب لوقوعها في مداركه، ولا يرفض شيئاً من استجاباته لها إلا بعد تحرّج وتمحيص ونقد! وإذا كان يتلقّاها -بادئ ذي بدء- وهو معطل الروح، أو الفكر، أو الحس، عن عمد أو غير عمد، فإن هذا التعطيل المتعمّد أو غير المتعمّد يحرمه استجابة معيّنة للحادثة التاريخيّة، وعنصراً من عناصر إدراكها وفهمها على الوجه الكامل، ومن ثم يجعل تفسيره لها خاطئاً أو ناقصاً! ¬

_ (¬1) في التاريخ: فكرة ومنهاج: 27 وما بعدها بتصرف، والهجرة النبويّة: 27 وما بعدها.

هذه الاستجابة الناقصة، هي أول ظاهرة تتّسم بها بحوث هؤلاء عن الموضوعات الإسلاميّة، وبخاصة السيرة النبويّة، ذلك أن هناك عنصراً ينقص طبيعة هؤلاء بصفة عامة، لإدراك الحياة الإسلامية، بصفة خاصة (عنصر الروحيّة الغيبيّة) وبخاصة في العصور الحديثة بعد غلبة النظريّات الماديّة، والطريقة التجريبيّة على وجه أخص، وكلما كانت هذه الموضوعات الإسلاميّة ذات صلة وثيقة بالفترة الأولى من حياة الإسلام، كان نقص الاستجابة إليها أكبر في العقليّة الاستشراقيّة الحديثة! وقد ذكرت (عنصر الروحيّة الغيبيّهَ) على وجه الخصوص؛ لأنه أظهر ما يبدو فيه هذا النقص في الطبيعة عند هؤلاء، وفيه تكمن معظم أوجه الاختلاف بين الطبيعتين، وهي شتى، وكثيرة! هذه المقدمة لا بد منها لبيان ما في تناول هؤلاء للسيرة النبويّة من: - نقص طبيعيّ في الإدراك والتقدير! - ونقص طبيعيّ في الفهم والتعبير! - ونقص طبيعيّ في التفسير والتصوير! ذلك أن انعدام عنصر من عناصر الاستجابة للحادثة أو ضعفه لا بد أن يقابله نقص في القدرة على النظر إلى الحادثة من شتى جوانبها .. وضياع عنصر من عناصر التقويم والحكم أمر لا يؤمن معه سلامة الحكم، أو على الأقل لا يسلم على علاته! هذا النقص يعدّ عيباً في منهج العمل ذاته، وليس مجرد خطأ جزئي في تفسير حادثة، أو تصوير حالة!

ومن ثم فالمنهج التبشيري الاستشراقي في البحث في السيرة النبويّة يسبّب تعطيل أحد عناصر الاستجابة، سواء كان ناشئاً عن الطبيعة الغربيّة ذاتها وملابسات حياتها البيئيّة والتاريخيّة، أم ناشئاً عن تعمد المؤرخ تعطيل هذا العنصر، استجابة لمنهج معيّن في الدراسة .. هذا المنهج غير صالح لتناول الحياة الإسلاميّة، ويتجلى عدم الصلاحية أوضح وأقوى في جانب الدراسات التي تتعلق بالرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! وثمة سبب معيب في قيمة الدراسات التاريخية عند هؤلاء للحياة الإسلاميّة! ذلك، أنه لا يخفى أن كل مرئي يختلف شكله باختلاف زاوية الرؤية، وكذلك الشأن في الأحداث والوقائع! والأوروبيّ بطبيعة الحال ميّال إلى اعتبار أوروبّا هي محور العالم، فهي نقطة الرصد في نظره، ومن هذه الزاوية ينظر إلى الحياة والناس والأحداث! وإذا كان بدهياً أن أوروبّا لم تكن هي محور العالم في كل عصور التاريخ, والأوروبيّ لا يملك اليوم أن يتخلّص من وهم وضعها الحاضر حين ينظر إلى الماضي .. أدركنا مدى انحراف الزاوية التي ينظر بها الأوروبيّ للحياة الإسلاميّة، وبخاصة السيرة النبويّة .. ومدى أخطاء الرؤية .. ومدى أخطاء التفسير والأحكام الناشئة من هذه الرؤية المعيّنة! ذلك كله على افتراض النزاهة العلميّة المطلقة، وانتفاء الأسباب التي تؤثّر على هذه النزاهة! فإذا نحن وضعنا في الحساب ما لا بدّ من وضعه، وما لا يمكن إغفاله من

2 - تطور الموقف الغربي

أسباب ملحّة قاهرة عميقة، طويلة الأجل، متجدّدة البواعث، تؤثّر في نظرة الأوروييّ، للرسالة والرسول، وللحياة الإسلاميّة، وللعالم الإسلامي: - من اختلاف في العقيدة! - إلى كراهية للرسالة والرسول! - إلى ذكريات تاريخيّة مريرة! - إلى صراع سياسي واقتصادي واستعماري! - إلى نزوات شخصيّة والتواءات فكريّة! - إلى آخر تلك البواعث القديمة والمتجددة أبداً! إذا نحن وضعنا في الحساب ذلك كله -ولابد أن نضعه لنضع الأمور في نصابها- وأضفنا إليه خطأ الرؤية .. أمكن أن نتعرف حقيقة الدراسات التبشيريّة الاستشراقيّة في الفكر الإسلامي -وبخاصة في السيرة النبويّة- وأن نتحرز التحرز العلمي الواجب .. لا من قبول هذه الدراسات على علاتها فحسب؛ بل من قبول المنهج الذي قامت عليه، ومحاولة اتباعه في دراستنا الإسلاميّة على وجه خاص! 2 - تطوّر الموقف الغربي: (وبدأ الموقف الغربي من الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتشكل في إطار ديني صرف، مترع بالتعصب والتشنج والانفعال، مليء بالحقد والغضب والكراهية، تحيطه جهالة عمياء، متعمدة أحياناً وغير متعمدة أحياناً -كما يقول الدكتور عماد الدين خليل- (¬1) جعلت بين القوم وشخصيّة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - سداً ¬

_ (¬1) المستشرقون والسيرة النبويّة: دكتور عماد الدين خليل: 15 وما بعدها بتصرف، ط. دار الثقافة، الدوحة 1410 هـ - 1989 م.

يصعب اختراقه، والنتيجة ليست أبحاثاً تاريخية علميّة أو موضوعيّة بحال!، إنما ذلك السيل المنهمر من الشتائم والسباب، مارسها رجال دين من قلب الكنيسة النصرانيّة باتجاهاتها المختلفة!، ومارسها رجال علمانيّون لا علاقة لهم بالكنيسة من قريب أو بعيد، وقد استمر هذا التيّار حتى العصر الراهن)! وذكر من أقوالهم ما يدل على ذلك! ثم قال: (وقد كان للنتائج التي تمخضّت عنها الحروب الصليبيّة طعم مرّ في حلوق الغربيين ما ذاقوه أبداً!، وإن ليوبولد فايس (محمد أسد) يتحدث عن التجربة التي استحالت معضلة في مناهجهم يصعب تجاوزها فيقول: (فيما يتعلق بالإسلام، فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلّل في شكل تحزب غير معقول إلى بحوثهم العلميّة، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أورويّا والعالم الإسلامي (منذ الحروب الصليبيّة) غير معقود فوقه جسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسيًّا من التفكير الأوروبّي، والواقع أن المستشرقن الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى، يعملون في البلاد الإسلاميّة، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبّرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيّين من الوثنيّين، غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر)! ثم قال: (أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثة، وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبيّة، بكل ما لها من ذيول، في عقول الأوروبيّين) (¬1)! ¬

_ (¬1) المرجع السابق، وانظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي: دكتور محمد البهي: 507 - 521، والإسلام على مفترق الطرق: محمد أسد: 60 وما بعدها.

3 - أخطاء منهجية

3 - أخطاء منهجيّة: ونستطيع أن نضع أيدينا على عدد من الأخطاء والثغرات المنهجيّة لهذه البحوث الاستشراقيّة .. ونشير هنا بالتحديد إلى ثلاث من هذه الثغرات (¬1): الأولى: المبالغة في الشك، والافتراض، والنفي الكيفي، واعتماد الضعيف الشاذ! الثانية: إسقاط الرؤية الوضعيّة، العلمانيّة، والتأثيرات البيئيّة المعاصرِ؛ على الوقائع التاريخيّة! الثالثة: رد معطيات السيرة إلى أصول نصرانيّة أو يهوديّة! 4 - المذهب الذاتي: وفي القرن التاسع عشر ظهرت طرائق كثيرة متنوعة في كتابة التاريخ وتدوينه، إلى جانب الطريقة الموضوعيّة، أو ما يسمونه بالمذهب العلمي، وقد تلاقى معظم هذه المذاهب -كما يقول الدكتور البوطي (¬2) - فيما أطلق عليه اسم (المذهب الذاتي)، ويعد (فرويد) من أكبر الدعاة إليه، والمتحمسين له! ولا يرى أقطاب هذا المذهب من ضير في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتيّة، أو اتجاهه الفكري أو المديني أو السياسي في تفسير الأحداث وتعليلها، والحكم على أبطالها!، بل إنهم يرون أن هذا هو واجب المؤرخ، لا مجرد وصف الأخبار، وتجميع الوقائع العارية! ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق: 19 وما بعدها، وانظر دخل التفكير وسوء التقدير في: دائرة المعارف الإسلامية: 12: 44 أو ما بعدها. (¬2) فقه السيرة: دكتور محمد سعيد رمضان البوطي: 23 وما بعدها بتصرف، دار الفكر، ط. سابعة 1398 هـ - 1978 م.

5 - مدرسة جديدة

ونحن وإن كنا لسنا بصدد الحديث عن المذاهب التاريخيّة ونقدها، فإن علينا ألا نخفي أسفنا أن يجد هذا المذهب -في عصر العلم والاعتزاز به وبمنهجيّته- دعاة إليه، ومؤمنين به، ذلك لأن هذا المذهب كفيل أن يمزق جميع الحقائق والأحداث التي يحتضنها الزمن في هيكله القدسي القديم الماثل أمام الأجيال، بفعل أخيلة التوسم، وشهوة الذات، وعصبيّة النفس والهوى، وكم من حقيقة مسخت، وأحداث نكّست، وأمجاد دثرت، وبرآء ظلموا، تحت سلطان هذه المحكمة الوهميّة الجائرة! فهل كان لهذا المذهب الجديد تأثير على كتابة السيرة وطريقة تحليلها؟ 5 - مدرسة جديدة: الحقيقة أن هذا المذهب الجديد في كتابة التاريخ قد أصبح أساساً لمدرسة جديدة في دراسة السيرة النبويّة وفهمها عند طائفة من الباحثين، فكيف نشأت هذه المدرسة؟ وما عوامل نشأتها؟ وما مصيرها اليوم؟ تعود نشأة هذه المدرسة إلى أيام الاحتلال البريطاني لمصر، حيث كانت آنذاك منبر العالم الإسلامي كما نعلم، يعنو إليه بتفكيره وعقله كلما أراد أن يعلم عن الإسلام علماً، كما يعنو إلى كعبة الله بوجهه كلما أراد حجاً أو صلاة! وكان في استمرار هذا الصوت العظيم من جانب، وفي استمرار إنصات العالم الإسلامي إليه من جانب آخر، ما لا يدع للاحتلال البريطاني فرصة هدوء واستقرار .. ومهما أخضعت بريطانيا لنفسها الوادي كله تحت سلطان من قوة الحديد والنار، فإنه خضوع موقوف لا يُطمأن إليه، ما بقيت للأزهر الشريف هذه القيادة الحيّة!

وكان الاعتماد على نقطة ضعف أليمة، كانت تعاني منها مشاعر الأمة الإِسلاميّة عامة، بما فيها مصر وغيرها، وهي إحساس المسلمين بما انتابهم من الضعف والتخلف والشتات، إلى جانب ملاحظتهم للنهضة العجيبة التي نهضها الغرب في شتى المجالات الفكريّة والعلميّة والحضاريّة! وقد كان المسلمون يتطلعون -ولا ريب- إلى اليوم الذي يتحرّرون فيه من الأثقال التي خلفتهم إلى الوراء، ليشتركوا مع الآخرين في رحلة الحضارة والمدنية والعلم الحديث! من هذا السبيل تسلّل الهمس، بل الكيد الاستعماري إلى صدور بعض من قادة الفكر، ولقد كان مؤدى هذا الهمس أن الغرب لم يتحرر من أغلاله، إلا يوم أخضع الدّين لمقاييس العلم! فالدّين شيء، والعلم شيء آخر، ولا يتم التوفيق بينهما إلا بإخضاع الأول للثاني! وإذا كان العالم الإسلامي حريصاً حقًّا على مثل هذا التحرر فلا مناص له من أن يسلك الطريق ذاته، وأن يفهم الإسلام هنا كما فهم الغرب النصرانية هناك، ولا يتحقق ذلك إلا بتخلص الفكر الإسلامي من سائر الغيبيّات التي لا تفهم، ولا تخضع لمقاييس العلم الحديث! وسرعان ما خضع لهذا الهمس أولئك الذين انبهرت أبصارهم بمظاهر النهضة الأوروبيّة الحديثة، ممن لم تترسّخ حقائق الإيمان بالله في قلوبهم، ولا تجلت حقائق العلم الحديث وضوابطه في عقولهم، فتنادوا فيما بينهم إلى التحرّر من كل عقيدة غيبيّة لم تصل إليها اكتشافات العلم الحديث، ولم تدخل تحت سلطان التجربة والمشاهدة الإنسانيّة! فكان أن قاموا بما عرف بعد باسم الإصلاح المديني، واقتضى منهم ذلك أموراً عديدة، منها تطوير كتابة السيرة وفهمها، واعتماد منهج جديد في

تحليلها، يتّفق وما استهدفوه من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيّات والخوارق التي لا يقف العلم الحديث منها موقف فهم أو قبول! ولقد كان لهم في الطريقة الذاتيّة في كتابة التاريخ خير ملجأ يعينهم على تحقيق ما قصدوا إليه، وبدأت تظهر كتب في السيرة النبويّة، تستبدل بميزان الرواية والسند وقواعد التحديث وشروطه طريقة الاستنتاج الشخصي، وميزان الرضا النفسي، ومنهج التوسّم الذي لا يضبطه شيء إلا دوافع الرغبة، وكوامن الأغراض والمذاهب التي يضمرها المؤلف! وقد ظهرت كتابات متفرّقة في الصحف المصريّة تحت عنوان (حياة محمد) في ملاحق السياسة عام 1932 م على أنها ترجمة لكتاب (إميل درمنجم) تلخيص وتعليق الدكتور (محمد حسين هيكل)! ثم ظهرت فصول (على هامش السيرة) في الأعداد الأولى من مجلة الرسالة عام 1933 م، للدكتور (طه حسين)! وظهرت فصول (عبقريّة محمد) عام 1942 م بعد أن اشتعلت الحرب العالميّة الثانية بعامين، للأستاذ (عباس العقاد)! وكان الكتّاب الثلاثة في ذلك الوقت من المعروفين في مجال الدراسات الأدبيّة والسياسيّة بأنهم عصريّون، قليلو الاهتمام بالدراسات الإسلاميّة، في الوقت الذي كانت جريدة السياسة تحمل حملات ضخمة على الإسلام، وتؤازر الغزو الثقافي! بل لقد حمل (العقاد) حملة ضارية على الكتب الإسلاميّة التي صدرت عام 1935 م في جريدة (روز اليوسف) وعدّها ظاهرة خطيرة، وقال:

(إن هذه الكتابات بمثابة مؤامرة على القضيّة الوطنيّة) (¬1)! وتردّد يومها أن الدكتور (هيكل) قد أحرز قدرًا ضخماً من الكسب المادي من كتابه (حياة محمد) الذي سنعرض له فيما بعد! ومن ثم أصبحت الكتابة الإسلاميّة موضع تقدير في نظر الكتاب! غير أن أخطر ما هنالك أن (هيكل) و (علي عبد الرازق) أعلنا موقفاً خطيراً في مجلس الشيوخ، عندما أثير النقاش في كتابات (طه حسين) ووقفا للدفاع عنه، وتبيّن أن هذه الكتابة لم تصدر عن إيمان برسالة الإسلام (ديناً ودولةً)، وإنما كانت من الأعمال السياسيّة والحزبيّة! وإذا كانت كتب (حياة محمد)، و (على هامش السيرة)، و (العبقريّات) قد هزّت وجدان المسلم وقتها، وأحدثت نوعاً من الإعجاب والتقدير، فإن هذا كان هدفاً مقصوداً في مواجهة حركة اليقظة الإسلاميّة التي تهدف إلى تقديم الإسلام كمنهج حياة، ونظام مجتمع، بكتابات إسلامية، من أقلام لها مكانتها السياسيّة في الجماهير، لتحويل التيار نحو المفاهيم الأخرى، وهو ما يسمى (تقديم البديل) المتشابه ظاهريًّا، والمختلف جوهراً، وهو بهذا استجابة ظاهرية للتيار الإسلامي، ومحاولة لاحتوائه! وكان هذا هدفاً مقصوداً لفرض المفهوم الغربي على السيرة النبويّة، والتاريخ الإسلامي، وهو المفهوم البعيد عن الوحي والغيبات والمعجزات! بيد أن هذه الظاهرة بالإعجاب بكتب هؤلاء عن السيرة النبويّة لم قدم ¬

_ (¬1) انظر: تقديم سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 19 وما بعدها، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط. أولى 1414 هـ - 1993 م.

طويلاً، فقد تكشّفت خفاياها، وظهر بجلاء ووضوح أن منهج الكتابة لم يكن إسلامياً أصيلاً، وإنما تشوبه التبعيّة لمناهج الاستشراق والتغريب! ورأينا الدكتور (طه حسين) قد أعلن أنه استوحى (على هامش السيرة) من كتاب (جيل لومتير) عنوانه (على هامش الكتب القديمة) وقد حشد فيه كل ما استطاع من أساطير اليونان وغيرهم! وقد صرّح في مقدمة كتابه بقوله (¬1): (هذه صحف لم تكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ, وإنما هي صورة عرضت لي أثناء قراءتي للسيرة، فأثبتها مسرعاً، ثم لم أر بنشرها بأساً، ولعلّي رأيت في نشرها شيئاً من الخير، فهي تردّ على الناس أطرافاً من الأدب القديم، قد أفلتت منهم، وامتنعت عليهم، فليس يقرأها منهم إلا أولئك الذين أتيحت لهم ثقافة واسعة عميقة في الأدب العربيّ القديم، وإنك لتلتمس الذين يقرؤون كتب القدماء في السيرة، وحديث العرب قبل الإسلام، فلا تكاد تظفر بهم .. إلى أن قال: وفي أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإلهام، فأحاديث العرب الجاهليّن وأخبارهم لم تكتب مرّة واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، وإنما قصّها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف، وقل مثل ذلك في السيرة نفسها، فقد ألهمت الكتّاب والشعراء في أكثر العلوم الإسلاميّة، وفي أكثر البلاد الإسلاميّة أيضاً، فصوّروها صوراً مختلفة تتفاوت حظوظها ¬

_ (¬1) انظر: إسلاميّات طه حسين: 173 وما بعدها، دار العلم للملايين، ط. خامسة 1991 م.

من القوّة والضعف، والجمال الفني، وقيل مثل هذا في الغزوات والفتوح .. إلى أن قال: وأنا أعلم أن قوماً سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم مُحْدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه، وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويلحّون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجدّه في طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها، وهم يجاهدون في صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث، واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول. هؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء؛ لأنهم سيقرؤون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها، ومحوها من نفوس الناس. وأحبّ أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقلّ حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل، وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي؛ فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبّب إليهم هذه الأخبار، ويرغّبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس، حين تشق عليهم الحياة، وفرق عظيم بين من يتحدّث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرّها العلم، وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدّمها إلى القلب والشعوب على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشرّ، معينة على إنفاق الوقت، واحتمال أثقال الحياة، وتكاليف العيش ..)!

6 - الإيمان بالغيب

ومن ثم وجدنا (على هامش السيرة) قد مهّد إلى استلهام السيرة النبويّة في الأدبي العربي الحديث شعرًا ونثرًا، وفي الحضارة الجديدة المسموعة والمرئيّة في (التليفزيون)، فيما أعدته (أمينة الصاوي)، حتى قال الدكتور (طه حسين) في رسالته إليها سنة 1943 م: (وأول ما أسجله لك أنك تحسنين الحوار، على نحو الأستاذ (توفيق الحكيم)، وأنك بالغة شأواً عظيماً، وأني أنصحك بدراسة فن التمثيل) (¬1)! والأستاذ (العقاد) قد بدأ عمله بمنطق غربي محض، هو فكرة (العبقريّة) التي تناولتها كتابات الغربيّين شوطاً طويلاً عن نوع من الامتياز أو الذكاء، في مجالات (الفن)، و (الموسيقى)، و (الشعر)، و (القصة) في الغرب، وفيما يتعلّق بالسيرة النبوّية، وما كتب عن الصحابة رضي الله عنهم، دون تفرقة واضحة بين النبيّ والصحابي!! مع أن له مواقف طيبة في مواجهة الغربيين الذين يكتبون عن (الدّين القيّم) (¬2)! 6 - الإيمان بالغيب: وإذا كانت هذه المدرسة الجديدة في كتابة السيرة قد استبدلت بقواعد التحديث رواية ودراية منهجاً يتفق وما استهدف من الإعراض عن كل ما يدخل في نطاق الغيبيّات، فإن هذا يتعارض مع السمة الأولى من سمات المتقين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ ¬

_ (¬1) انظر: التفسير الإعلامي للسيرة النبويّة: 440 دار الجيل، بيروت، ط. أولى 1412 هـ - 1992 م. (¬2) انظر كتابه: ما يقال عن الإسلام: 1 وما بعدها.

يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة]! وهذه السمة هي الوحدة الشعوريّة الإيجابيّة الفعالة .. الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب (¬1)، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة .. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلاميّة، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة .. والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعاً، ولتهيمن على البشريّة جميعاً، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة، شاملة للشعور والعمل، والإيمان والنظام! ومن ثم لا تقوم حواجز الحسّ دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها الوجود .. ولا تقوم تلك الحواجز بين أرواحهم وسائر ما وراء الحسّ من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات! والإيمان بالغيب هو العقبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيّز الصغير المحدود الذي تدركه الحواسّ -أو الأجهزة التي هي امتداد للحواسّ- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود، في إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير، كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض، فليس من يعيش في الحيّز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته، ويتلقّى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 39 بتصرف.

من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود .. وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها - وجوده .. تلك التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول! وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدّد والتمزّق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئاً أن تنفق فيه! إن الطاقة التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمّقها وتتقصّاها، وتعمل وتنتج، وتنمّي هذه الحياة وتجمّلها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحيّة التي تتصل مباشرة بالوجود كله، وخالق الوجود، وعلى أن تدع لما لا يدرك حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول! فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدّد الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها دون سند من الروح الملهم والبصيرة الفتوحة، وترك حصة للغيب لا تدركها العقول! فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولاً، ومحاولة عابثة أخيراً! فاشلة؛ لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال! وعابثة؛ لأنها تبدّد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال! ومتى سلم العقل البشري بالبديهة العقليّة الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه -احتراماً لمنطقه ذاته- أن يسلّم بأن إدراكه للمطلق مستحيل، وأن عدم إدراكه لما لا يدرك لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون، وأن عليه أن

7 - السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة

يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل، وأن يتلقى العلم في شأنه من العلم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، والغيب والشهادة! وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلّى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين! 7 - السيرة المحمديّة تحت ضوء العلم والفلسفة: ومع أن الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيميّة، فإن جماعة الماديين في هذا الزمان كجماعة الماديّين في كل زمان ومكان، وعصر ومصر، وجيل وقبيل، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى، إلى عالم البهيميّة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا (تقدميّة)! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إيّاها، فجعل صفتهم الأولى المميّزة صفة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}! والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين! ومن ثم بدأت تظهر كتابات في السيرة النبويّة، يستبعد أصحابها كل ما يدخل في باب المعجزات والخوارق -وهو من المصادر عند المسلمين-كما أسلفنا- وأخذوا يرجون للرسول - صلى الله عليه وسلم - صفة العبقرية والعظمة والبطولة وما شاكلها! وانطلق (محمد فريد وجدي) ينشر سلسلة مقالاته في مجلة (نور الإسلام) في مصر تحت عنوان: (السيرة المحمديّة تحت ضوء العلم والفلسفة)، داعياً إلى فهم الإسلام والسيرة النبويّة عن هذا الطريق .. طريق ألا يستسلم العقل للغيبيات ولا للخوارق والمعجزات!

8 - (حياة محمد) للدكتور هيكل

8 - (حياة محمد) للدكتور هيكل: ولقد كان كتاب (حياة محمد) للدكتور محمد حسين هيكل -كما أسلفنا- التجربة الرائدة في هذا المضمار، أعلن فيه أنه لا يريد أن يفهم حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا على هذه الطريقة الحديثة، حيث قال (¬1): (إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة، وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها .. وإنني أفعل ذلك؛ لأنه الوسيلة الصالحة في نظر المعاصرين .. وما كان لي -وذلك شأني- أن أتقيّد بنهج الكتب القديمة وأساليبها .. وإن كثرة الكتب القديمة كانت تكتب لغاية دينيّة تعبديّة، على حين يتقيّد كتاب العصر الحاضر بالنهج العلمي والنقد العلمي .. لكني رأيت من الخير أن أنبسط بعض الشيء في بيان الأسباب التي دعت المفكّرين من أئمة المسلمين فيما مضى، وتدعوهم اليوم، كما تدعو كل باحث مدقّق، إلى عدم الأخذ جزافاً بكل ما ورد في كتب السيرة وفي كتب الحديث، وإلى التقيّد بقواعد النقد العلمي تقيّداً يعصم من الزلل)! 9 - المقياس الصحيح للحديث عنده حديث موضوع: وقال (¬2): (وعندنا أن خير مقياس يقاس به الحديث، وتقاس به سائر الأنباء التي ذُكرت عن النبي، ما روى عنه عليه السلام أنه قال: "إِنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني")! ¬

_ (¬1) حياة محمد: الدكتور محمد حسين هيكل: 47 وما بعدها بتصرف، ط 130 مكتبة النهضة المصرية. (¬2) المرجع السابق: 50.

قال: (وهذا مقياس دقيق، أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى، وما زال المفكرون منهم يأخذون به إلى يومنا الحاضر)! قلت: هذا المقياس الصحيح عنده حديث موضوع، وليس مقياساً دقيقاً كما زعم، ولم يأخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى! ولم يأخذ به المفكّرون الذين يعتدّ بفكرهم، ولكن أخذ به أعداء السنة، والذين طعنوا في الأحاديث الصحيحة! وتابعوا المستشرقين في ذلك (¬1)! وحسبنا أن نذكر -بإيجاز- أن هذا الحديث الموضوع قد ورد بعدة روايات لا يصلح شيء منها للاحتجاج والاستشهاد، وقد جمع ابن حزم في (الأحكام) (¬2) بعض ألفاظ هذا الحديث وأبان عن عللها! وجاء في (عون المعبود) (¬3): (إنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة، ونقل الفتني في (تذكرة الموضوعات) (¬4) عن الخطابي أيضاً: وضعته الزنادقة، وقد سئل الحافظ ابن حجر عن هذا الحديث فقال: إنه جاء من طرق لا تخلو عن مقال، وقد جمع طرقه البيهقي في كتابه (المدخل)، وقال الصغاني: هو حديث موضوع) (¬5)! ¬

_ (¬1) انظر: أضواء على السنة: محمود أبو رية: 99 دار المعارف بمصر، ط. ثالثة. (¬2) الأحكام في أصول الأحكام: ابن حزم: 2: 76 وما بعدها. السعادة، ط. أولى 1345 هـ، وإن تعجب فعجب أن يذكر الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور - رحمه الله - أن هذا الحديث رواه البخاري: انظر: (مناهج الاجتهاد في الإسلام في الأحكام الفقهية والعقائد): 122 ط. جامعة الكويت 1393 هـ. (¬3) عون المعبود: 12: 356. (¬4) تذكرة الموضوعات: 28. (¬5) المقاصد الحسنة: 1: 83، وكشف الخفاء: 1: 89 ـ 90، وانظر: الرسالة: 224: =

10 - موقفه من حديث شق الصدر

10 - موقفه من حديث شق الصدر: وقال في حديث شق الصدر: (في هذه الفترة، وقبل أن يبلغ الثالثة، تقع الرواية التي يقصّونها، من أنه كان مع أخيه الطفل في سنّه في بَهم لأهله خلف بيوتهم، إذ عاد أخوه الطفل السعدي يعدو ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخي القرشي قد أخذه رجلان، عليهما ثياب بيض، فأضجعاه فشقّا بطنه، فهما يسوطانه، ويروى عن حليمة أنها قالت عن نفسها وزوجها: فخرجت أنا وأبوه، فوجدناه قائماً ممتقعاً وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بني؟ فقال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني فشقّا بطني، فالتمسا منه شيئاً لم أدر ما هو)! ورجعت حليمة ورجع أبوه إلى خبائهما، وخشي الرجل أن يكون الغلام قد أصابه الجن، فاحتملاه إلى أمه بمكة! ويروي ابن إسحاق في هذه الواقعة حديثاً عن النبي بعد بعثه، لكن ابن إسحاق يحتاط بعد أن يقصّ القصّة، ويذكر أن السبب في رده إلى أمه لم يكن حكايته الملكين، وإنما كان على ما روته حليمة لآمنة، أن نفراً من نصارى الحبشة رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلّبوه، ثم قالوا: لنأخذن هذا الغلام فلنذهب به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا الغلام كائن له شأن، نحن نعرف أمره، ولم تكد حليمة تنفلت به منهم، وكذلك يرويها ¬

_ = 617 - 619، ومجمع الزوائد: 1: 170، ولسان الميزان: 1: 455، وإرشاد الفحول: 29، والموافقات: 4: 17 - 19، والمنهج الحديث في علوم الحديث: 47 ـ 98: أستاذنا الدكتور محمد السماحي - رحمه الله -: القاهرة 1382 هـ.

الطبري، لكنه يحيطها بالريبة؛ إذ لم يذكرها في هذه السنة من حياة محمد، ثم يعود فيذكر أنها وقعت قبيل البعث وسنه أربعون سنة! وقال: لا يطمئن المستشرقون، ولا يطمئن جماعة من المسلمين كذلك إلى قصة الملكين هذه، ويرونها ضعيفة السند، فالذي رأى الرجلين في رواية كتاب السيرة إنما هو طفل لا يزيد على سنتين إلا قليلاً، وكذلك كانت سن محمد يومئذ، والروايات تجتمع على أن محمداً أقام ببني سعد إلى الخامسة من عمره، فلو كان هذا الحادث قد وقع وسنّه سنتان ونصف السنة، ورجعت حليمة وزوجها إذ ذاك إلى أمه، لكان في الروايتين تناقض غير مقبول! ولذلك يرى بعض الكتاب أنه عاد مع حليمة مرة ثالثة، ولا يرضى المستشرق (سير وليم موير) أن يشير إلى قصة الرجلين في ثيابهما البيضاء، ويذكر أنه إن كانت حليمة وزوجها قد نَبها لشيء أصاب الطفل فلعله نوبة عصبية أصابته، ولم يكن لها أن تؤذي صحته لحسن تكوينه، ولعل آخرين يقولون: إنه لم يكن في حاجة إلى من يشق بطنه أو صدره، ما دام الله قد أعده يوم خلقه لتلقي رسالته! ويرى (درمنجمِ) أن هذه القصة لا تستند إلى شيء، غير ما يفهم من ظاهر الآيات: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)} [الشرح]! وأن ما يشير القرآن إليه إنما هو عمل روحي بحت، الغاية منه تطهير هذا القلب وتنظيفه، ليتلقى الرسالة القدسيّة خالصاً، ويؤدّيها مخلصاً تمام الإخلاص، محتملاً عبء الرسالة المضني! وإنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكّرين من المسلمين إلى هذا الموقف من

11 - وجوب التسليم بحديث شق الصدر

ذلك الحديث أن حياة محمد كانت كلها إنسانيّة سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ إليه من سبقه من أصحاب الخوارق، وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سنداً حين ينكرون من حياة محمد النبي العربي كل ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متّفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله، وأن سنة الله لن تجد لها تبديلاً، غير متفق مع تعيير القرآن المشركين أنهم لا يفقهون أن ليست لهم قلوب يعقلون بها) (¬1)! 11 - وجوب التسليم بحديث شقّ الصدر: ونجد أنفسنا أمام ضرورة وجوب التسليم بحديث شقّ الصدر، فقد روى مسلم وغيره عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشقّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظّ الشيطان منك، ثم غسله في طمست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إِلى أمّه (يعني ظئره) فقالوا: إِن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (¬2)! ¬

_ (¬1) حياة محمد: 110 - 112. (¬2) مسلم: 1 - الإيمان (161)، وأحمد: 3: 121، 149، 288، وأبو يعلى (3374)، وأبو نعيم: دلائل النبوة (168)، والبغوي: شرح السنة (3708)، والبيهقي: دلائل النبوة: 2: 5، والحاكم: 2: 528 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد أخرجه مسلم، والأصبهاني: دلائل النبوة: 1: 251 - 253، وعبد بن حميد (1308)، وأبو عوانة: 1: 125، وابن حبان: الإحسان (6334، 6336)، وابن عساكر: السيرة النبويّة: 370، 371، وابن خزيمة: التوحيد: 1: 521 - 528، والدارمي: الرد على الجهميّة: 34، والنسائي: الكبرى (314)، والآجري: الشريعة: 481 - 482.

وفي رواية للشيخين وغيرهما عن قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة في حديث الإِسراء والمعراج: فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمة وإِيماناً، فشق من النحر إِلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإِيماناً .. (الحديث) (¬1)! قال ابن حجر: استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء، وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر -أيضاً- عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ولكل منهما حكمة! فالأول: وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس: (فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك)، وكان هذا في زمن الطفولة، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث، زيادة في إكرامه؛ ليتلقّى من ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء، ليتأهّب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرّة الثالثة، كما تقرر في شرعه - صلى الله عليه وسلم -! وجميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك، من الأمور ¬

_ (¬1) البخاري: 59 - بدء الخلق (3207)، 63 - مناقب الأنصار (3887)، ومسلم: 1 - الإيمان (164)، وأحمد: 4: 207 وما بعدها، والفتح الرباني: 20: 244 وما بعدها، والنسائي: 1: 217 - 218، ابن حبان: الإحسان (7406)، والترمذي مختصراً (3346)، وابن قانع: معجم الصحابة: 3: 52، والطبراني: الكبير: 19: 270 (599)، وانظر: تحفة الأشراف: 8: 346 (11202).

12 - حديث آخر موضوع

الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك! قال القرطبي في (المفهم): لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير (¬1)! وبهذا تتهافت تلك الدعاوى واحدة بعد الأخرى في إنكار حديث شق الصدر! 12 - حديث آخر موضوع: وننتقل سراعاً إلى ما أورده في كتابه هذا عن زهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطعام واللباس، والأساس الذي وضعه للحضارة، حيث قال: (الأساس الذي وضعه محمد للحضارة الجديدة التي يقيمها، يتلخص بصورة واضحة، فيما روي عن علي بن أبي طالب، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سنته، فقال (¬2): "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عين في الصلاة"! قال الشوكاني: ذكره القاضي عياض، وآثار الوضع عليه لائحة (¬3)! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 244 - 245 دار الريان للتراث، ط. ثانية 1409 هـ - 1988 م، وانظر: الروض الأنف: 1: 189 - 190، وشرح الزرقاني: 1: 153 - 154. (¬2) حياة محمد: 233. (¬3) الفوائد المجموعة: الشوكاني: 326 - 327 تحقيق عبد الرحمن اليماني، السنة المحمديّة، وانظر: الشفا: 1: 136 ط. الآستانة: 1312.

13 - الإسراء ووحدة الوجود

وسئل عنه ابن حجر في فتاويه فقال: لا أصل له (¬1)! 13 - الإسراء ووحدة الوجود: وقال في حكمة الإسراء: (ولنا في حكمة الإسراء رأي نبديه! ولسنا ندري أسُبقنا إليه أم لم نُسبق! وسرد تصوير المستشرق (درمنجم) ثم قال: وأنت تقع على ما قصه منثوراً في كتب السيرة، وإن كنت تجد فيها خلافاً بزيادة أو نقص في بعض نواحيها ..) ثم قال: وهنا موضوع الرأي الذي نريد أن نبديه، ولا ندري أسُبقنا إليه أم لم نُسبق، ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحيّة معنى سَامٍ غاية السُمو، معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظ غير قليل، فهذا الروح القوي قد اجتمعت فيه ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها، لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيًّا محدوداً بحدود قوانا المحسّة والمدبرة والعاقلة، تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها، وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل، بفضل من الله ومغفرة! وليس بمستطيع هذا السمو إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانيّة، فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمداً من عجز عن متابعته في سمو فكرته، وقوة ¬

_ (¬1) انظر: إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين: 9: 684.

14 - بطلان فكرة وحدة الوجود

إحاطته بوحدة الوجود في كماله، وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال فلا عجيب في ذلك ولا عيب فيه) (¬1)! 14 - بطلان فكرة وحدة الوجود: وفكرة وحدة الوجود، كما يقول أستاذنا الدكتور محمد أبو شهبة -رحمه الله- (¬2) فكرة خاطئة وافدة إلى الإسلام فيما وفد إليه من آراء فاسدة، وهي من مخلفات الفلسفات القديمة، وقد انتصر لها وتشيّع بعض المتصوفة الذين ينتسبون إلى الإسلام، وكتبوا فيها، فكان عاقبتهم الإلحاد في الله وصفاته! وقد أبان بطلانها كثير من علماء الأمة الراسخين في العلم، المتثبتين في العقيدة، والقول بها يؤدي إلى قول بالطبيعة، وقدم العالم، وإنكار الألوهيّة، وهدم الشرائع السماويّة التي قامت على أساس التفرقة بين الخالق والخلوق، وبين وجود الرب ووجود العبد، وتكليف الخالق للخلق بما يحقق لهم السعادة! ومقتضى هذا المذهب أن الوجود واحد، فليس هناك خالق ولا مخلوق، ولا عابد ولا معبود، ولا قديم ولا حديث! وعابدو الأصنام والكواكب والحيوانات حين عبدوها إنما عبدوا الحق؛ لأن وجودها وجود الحق، إلى آخر خرافاتهم التي ضلّوا بسببها، وأضلّوا غيرهم، والتي أشرف بالمسلمين، وجعلتهم شيعاً وأحزاباً! ولقد بلغ من بعضهم أنه قال: إن النصارى ضلّوا؛ لأنهم اقتصروا على عبادة ثلاثة، ولو أنهم عبدوا الوجود كله لكانوا راشدين، وقال بعض المعتنقين لهذه الفكرة الفاسدة: ¬

_ (¬1) انظر: حياة محمد: 189 - 194. (¬2) الإسراء والمعراج: 44 وما بعدها بتصرف. ط. أولى دار الطباعة المحمدية.

العبد حق والرب حق ... يا ليت شعري من المكلف؟ إِن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف؟ قال العلامة تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني بعد أن ذكر الفناء المحمود، والفناء المذموم (¬1): (ولهذا لمَّا سلك ابن عربي، وابن سبعين، وغيرهما، هذه الطرق الفاسدة أورثهم ذلك (الفناء عن وجود السوي) فجعلوا الموجود واحداً، ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق، وحقيقة الفناء عندهم ألا يرى إلا الحق، وهو الرائي والمرئي، والعابد والمعبود، والذاكر والمذكور، والناكح والمنكوح، والآمر الخالق هو الآمر المخلوق، وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم، وعباد الأصنام ما عبدوا غيره، وما ثم موجود مغاير له البتة عندهم، وهذا منتهى سلوك هؤلاء الملحدين .. ! وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون: إن فرعون أكمل من موسى، وإن فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}؛ لأن الوجود فاضل ومفضول، والفاضل يستحق أن يكون ربّ المفضول، ومنهم من يقول: مات مؤمناً، وإن تغريقه كان ليغتسل غسل الإسلام)! وهكذا نرى أن هذه العقيدة الزائفة تصادم نصوص الدين القطعيّة، ولا ¬

_ (¬1) نقلاً عن: الرد على المنطقيين، 521 ط. الهند.

توافق شيئاً من الكتاب والسنة النبويّة، وأن العقيدة الإسلاميّة السمحة براء من مذهب وحدة الوجود (¬1)! وتفسير الإسراء والمعراج بهذه الفكرة يقتضي إنكارهما، على حسب ما جاء به القرآن والسنة الصحيحة المشهورة، فليس هناك إسراء حقيقة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هناك عروج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من بيت المقدس إلى السموات السبع، ولا صلاة بالأنبياء، ولا لقاء ولا تسليم، ولا تكليم! وما الداعي إلى ذلك ما دام الكون كله قد اجتمع في روح النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال صاحب هذا الرأي، فالمسجد الحرام والأقصى في روحه، والسموات وما فيهن في روحه! ثم ما الداعي إلى كل هذا التكليف والإغراب من الدكتور هيكل -رحمه الله- في فهم نصوص صريحة جاءت بلسان عربي مبين؟! والإسراء والمعراج كما جاء بهما القرآن والأحاديث الصحيحة -كما سيأتي- أقرب منالاً، وأشد استساغة لعقول الناس مما ذهب إليه! ولو جلست زماناً لتفهم رجلاً أميًّا أو متعلماً بالإسراء والمعراج، على ما رأى الدكتور هيكل، ما أنت بمستطيع إفهامه هذه الألغاز والطلاسم، التي حاول بها إحداث رأي جديد، لا يدري سُبق إليه أم لا؟! وهل تصوير الإسراء والمعراج بهذا التصوير إلا إشكال على عقول الكثرة من ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: (دفاع عن الحديث القدسي: "من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب" في ضوء أصول التحديث رواية ودراية، ورد الشبهات ودحض المفتريات) ففيه مزيد بيان!

15 - إيجابيات

الناس، ومخاطبة لهم بما لا تبلغه عقولهم ومداركهم، وقد أمرنا أن نحدث الناس بما يعقلون، وأن ندع ما ينكرون، وفي الحكم الذهبية عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ ما أنت بمحدث قوم حديثاً لا تبلغه عقولهم إِلا كان فتنة لبعضهم! الحق أن الإغراب على القراء بمثل هذه الأفكار المسمومة تشكيك لهم في عقائدهم الصحيحة, وتسميم لعقولهم بالآراء الزائفة، والحق أبلج وأوضح، لا يحتاج إلى تكلف وتعمل وتفلسف من غير داع! 15 - إيجابيّات: هذا، ومع أن الدكتور هيكل كتب هذه الأفكار تحت عنوان: (حياة محمد) الذي قلّد فيه المستشرقين -كما أسلفنا- حتى صار تقليده لهم في الاسم والمسمى، فإنه لا يخلو من الجابيّات، في مناقشة المستشرقين بمنطقهم في كثير مما ذهبوا إليه، مثل أسباب خطأ المستشرقين (¬1)، وفرية الصرع (¬2)، والطعن في عجز محمد عن الطعن في رسالته (¬3)، وتهافت حديث الغرانيق (¬4)، والمسيحية والقتال (¬5)، وصيحة المستشرقين في مسألة زينب بنت جحش (¬6)، والمستشرقين والحضارة الإسلاميّة (¬7)! ¬

_ (¬1) انظر: 28. (¬2) انظر: 40. (¬3) انظر: 43. (¬4) انظر: 161. (¬5) انظر: 253. (¬6) انظر: 315. (¬7) انظر: 549.

16 - مصير هذه المدرسة اليوم

16 - مصير هذه المدرسة اليوم: وهكذا وجد أبطال هذه المدرسة الجديدة، في اتباع المذهب الذاتي في كتابة التاريخ, الميدان الفسيح الذي يمكنهم من نبذ كل ما لا يعجبهم من حقائق السيرة النبويّة، مهما جاءت مدعمة بدلائل العلم واليقين، متخذين من ميولهم النفسيّة، ورغباتهم الشخصيّة، وأهدافهم البعيدة، حاكماً مطلقاً على حقائق التاريخ, وتحليل ما وراءه من العوامل، وحكماً مطلقاً لقبول ما ينبغي قبوله، ورفض ما يجب رفضه (¬1)! وآخر المضحكات العجيبة التي جاءت عن هذا الطريق، تصير النبوة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيمان الصحابة -رضي الله عنهم- وعموم الفتح الإسلامي، بأن جميعه لم يكن إلا ثورة يسار ضد يمين، أثارتها النوازع الاقتصاديّة، انتجاعاً للرزق، وطلباً للتوسع، وألهبتها ردود الفعل لدى الفقراء ضد الأغنياء وأصحاب الإقطاع! كانت هذه الطريقة في دراسة السيرة خصوصاً، والتاريخ الإسلامي عموماً، مكيدة خطيرة عشيت عن رؤيتها أعين البسطاء من بعض المسلمين، وصادفت هوى وقبولاً عند طائفة أخرى من المنافقين وأصحاب الأهواء! لقد غاب عن أعين أولئك البسطاء، أن ذلك الهمس الاستعماري الذي يدعو المسلمين إلى ما أسموه بثورة إصلاحية في شؤون العقيدة الإسلاميّة، إنما استهدف في الحقيقة نسف هذه العقيدة من جذورها! وغاب عنهم أن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية إنما يعني حشوه بمنجزات ناسفة، تحيله أثراً بعد عين؛ ذلك لأن الوحي الإلهي -وهو ينبوع الإسلام ¬

_ (¬1) فقه السيرة: الدكتور البوطي: 26 وما بعدها بتصرف.

ومصدره- يعدّ قمة الخوارق والحقائق الغيبيّة كلها, ولا ريب أن الذي يسرع إلى رفض ما جاء في السنّة النبويّة من خوارق العادات، بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض الوحي الإلهي كله بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب، والجنة أو النار، بالحجّة الطبيعيّة ذاتها! كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج في عصر ما إلى مصلح يتدارك شأنه، أو إصلاح يغيّر من جوهره! غاب عن هؤلاء الناس لعذا كله، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم، لو كانوا يتمتّعون بحقيقته، وينسجمون مع منطقيّته، ولكن عيونهم غشيت في غمرة انبهارها بالنهضة الأوروبيّة الحديثة، وما قد حف بها من شعارات العلم وألفاظه، فلم تبصر من حقائق المنطق والعلم إلا عناوينها وشعاراتها، وقد كانوا في أمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين، وإلى هضم صحيح لمضمون تلك الشعارات، فلم يعد يستأثر بتفكيرهم إلا خيال نهضة (إصلاحية) تطوّر العقيدة الإسلاميّة هنا، كما تطوّرت العقيدة النصرانية هناك! وهكذا، فقد كان عماد هذه المدرسة الحديثة هياجاً في النفس، أكثر من أن يكون حقيقة علميّة مدروسة استحوذت على العقل! والحقيقة أن الاهتمام بهذه المدرسة في كتابة السيرة وفهمها، والحماسة التي ظهرت يوماً ما لدى البعض في الأخذ بها إنما كان منعطفاً تاريخيًّا .. ومرّ! وعذر أولئك الذين كتب عليهم أن يمرّوا بذلك المنعطف أو يمرّ هو بهم، أنهم كانوا -كما أسلفنا- يفتحون أعينهم إذ ذاك على خبر النهضة العلميّة في

أوروبّا، بعد طول غفلة وإغماض، وإنه لأمر طبيعي أن تنبهر العين عند أول لقياها مع الضياء، فلا تتبيّن حقيقة الأشياء، ولا تتميّز الأشباه عن بعضها، حتى إذا مرّ وقت، واستراحت العين إلى الضياء، أخذت الأشياء تتمايز، وبدت الحقائق واضحة جليّة لا لبس فيها ولا غموض! وهذا ما قد تم فعلاً، فقد انجابت الغاشية، وَصَفَت أسباب الرؤية السليمة أمام الأبصار .. أبصار الجيل الواعي المثقّف اليوم .. جيل الصحوة الإسلاميّة المباركة، فانطلق يتعامل مع حقيقة العلم وجوهره، بعد أولئك الذين أخذوا بألفاظه، وانخدعوا بشعاراته، ثم عادوا وقد أيقنوا ببصيرة الباحث العلم، والمفكّر الحر، بأن شيئاً مما يسمى بالخوارق والمعجزات لا يمكن أن تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه! ذلك لأن الخوارق سميت كذلك لخرقها لما هو مألوف أمام الناس، وما كان للإلف أو العادة أن يكون مقياساً علمياً لما هو ممكن وغير ممكن .. وهيهات أن يقضي العلم يوماً ما بأن كل ما استأنست إليه عين الإنسان مما هو مألوف ممكن الوقوع، وأن كل ما استوحشت منه عين الإنسان مما هو غير مألوف له غير ممكن الوقوع! ولقد علم كل باحث ومثقّف اليوم بأن أحدث ما انتهت إليه مدارك العلماء في هذا الصدد، هو أن العلاقة التي نراها بين الأسباب ومسبّباتها, ليست إلا علاقة اقتران مطرد، اكتسبت تحليلاً، ثم تعليلاً، ثم استنبط منها القانون الذي هو تابع لظهور تلك العلاقة، وليس العكس! فإن رحت تسأل القانون العلميّ عن رأيه في خارقة أو معجزة إلهيّة، قال لك بلسان الحال الذي يفقهه كل عالم بل كل متبصر بثقافة العصر: ليست

الخوارق والمعجزات من موضوعات بحثي واختصاصي؛ فلا حكم لي عليها بشيء، ولكن إذا وقعت خارقة من ذلك أمامي فإنها تصبح في تلك الحال موضوعاً جاهزاً للنظر والتحليل، ثم الشرح والتعليل، ثم تغطى تلك الخارقة بقانونها التابع لها! وقد انقرض الزمن الذي كان بعض العلماء يظنون فيه أن أثر الأسباب الطبيعية في مسبباتها أمر حتمي يستعصي على التخلف والتغيير، وانتصر الحق الذي طالما نبه إليه ودافع عنه علماء المسلمين عامة، والإمام الغزالي خاصة، من أن علاقات الأسباب بمسبّباتها ليست أكثر من رابطة اقتران مجردة، وما العلم في أحكامه وقوانينه إلا جدار ينهض فوق أساس هذا الاقتران وحده، أما سرّ هذا الاقتران فهو عند الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى! نعم، لا بد أن يشترط كل إنسان عاقل يحترم العقل والحقيقة، لقبول أي خبر، سواء تضمن أمراً خارقاً أو مألوفاً، شرطاً واحداً، وهو أن يصل الخبر إليه عن طريق علمي سليم ينهض على القواعد التي عرفناها، وأن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصح سيرة لتاريخ نبي مرسل، ومن ثم يأخذنا العجب كل مأخذ، عندما نتذكر مرة أخرى تلك الأخطاء المنهجيّة، وآثار تلك المدرسة الجديدة! أليس هذا من أفجع الكوارث النازلة برأس العلم؟! تلك إشارات إلى مناهج المؤلفين في السيرة النبويّة!

خصائص المنهج الصحيح في الدراسة

خصائص المنهج الصحيح في الدراسة

خصائص المنهج الصحيح في الدراسة 1 - في رحاب القرآن الكريم 2 - الأحداث الصحيحة 3 - فقه السيرة في تفسير الأحداث 4 - خطوات الدعوة 5 - عوامل البناء ومعازل الفداء 6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر 7 - واجبنا نحو الرسول - صلى الله عليه وسلم -

1 - في رحاب القرآن الكريم

خصائص المنهج الصحيح في الدراسة وتفرض منهجيّة البحث أن أذكر معالم المنهج الصحيح للدراسة -كما أرى - فيما يلي: 1 - في رحاب القرآن الكريم: سبق أن ذكرنا أن القرآن الكريم هو المصدر الأول في دراسة السيرة النبويّة، وذكرنا بعض الآيات في ذلك، ومن ثم نجد أنفسنا في أشد الحاجة إلى عرض الآيات المتعلقة بحوادث السيرة ووقائعها، وتنزيلها على حسب الوقائع والحوادث، والإفادة منها! وحسبنا أن نشير إلى كتاب (سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: صور مقتبسة من القرآن الكريم) للأستاذ محمد عزة دروزة - رحمه الله - انطلاقاً من أن القرآن الكريم هو أصدق الكتب قاطبة، وهو أوعاها وأحفظها لما مرّ بالبشريّة من أحقاب وحوادث، خلّدها هذا الكتاب الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت]، وهو خير مصور لشخصيّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - , وليس هناك أبرّ ولا أصدق، ولا أوفى بالكلام منه؛ لأنه يشف عما كان في الشخصيّة النبويّة الكريمة من قوى ومواهب، جعلت صاحبها - صلى الله عليه وسلم - موضع التكريم والعناية الربانيّة، وأهلاً للاصطفاء بالرسالة العلويّة؛ ولأنه يطلعنا على الناحية الرائعة حقًّا من الظروف والأدوار التي تقلّبت فيها الدعوة، حتى انتهت إلى ذلك النصر العزيز، والفتح المبين (¬1)! ¬

_ (¬1) انظر مقدمة سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: صور مقتبسة من القرآن الكريم: 5 - 6 ط. المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النويّة، الدوحة، محرم 1400 هـ.

ومعلوم أن أصحاب المنهج التاريخي في السيرة النبويّة لم يعرضوا الآيات القرآنيّة في أحداث السيرة، كما عرضها الأستاذ محمد عزة دروزة! ومن هنا رأيت ضرورة ذكر الآيات القرآنيّة التي لابد منها في المنهج الصحيح في الدراسة، لنعرف كيف تسلّم (الدّين القيّم) القيادة بعد ما ظهر الفساد، وأسنت الحياة، وتعفّنت الأفكار، وذاقت البشريّة الويلات من القيادات الضالة، ومن ثم ظهر الفساد وعم بما كسبت الأيدي! ولنعرف أن (الدّين القيّم) تسلّم القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور، فكان ذلك مولداً جديداً للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته! ولنعرف أن هذا القرآن أنشأ للحياة تصوّراً جديداً على الوجود والحياة والقيم، كما حقق للبشريّة واقعاً اجتماعيًّا فريداً، كان يعز على خيالها تصوره مجرّد تصور قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاءً (¬1)! ولنعرف ما لهذا الواقع من النظافة والجمال، والرقي والكمال، والعظمة والجلال، والسمو والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق، بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أراده لها، وحقّقه في حياتها! ولنعرف كيف وقعت النكبة القاصمة، ونحّى الإسلام عن القيادة، لتتولاها الجاهليّة مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة، من التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش، واللعبة الزاهية الألوان! ¬

_ (¬1) مقدمة في ظلال القرآن، بتصرف.

2 - الأحاديث الصحيحة

ولنعرف أن هناك عصابة من المضلّلين الخادعين أعداء البشرية، يضعون لها المنهج الإلهي في كفة، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى، ثم يقولون لها: اختاري! إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانيّة والتخلي عن منهج الله! وهذا خداع لئيم خبيث! فالمنهج الإلهي ليس عدواً للإبداع الإنساني، إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجّه له الوجهة الصحيحة .. ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض .. هذا المقام الذي منحه الله إياه، وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه، وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه، ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع .. على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام، والتقيّد بشرطه في عقد الخلافة، وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق الأسوة الحسنة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومعالم السيرة النبويّة، كما هي في القرآن، والواقع! ولنعرف أن الحياة في رحاب الآيات المتعلقة بالسيرة النبويّة نعمة كبرى يعجز القلم عن تصويرها, ولا يعرفها إلا من فقهها وأبصرها في حياة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم نحيا في كنف الله ورعايته، ونعمل جاهدين على أن نكون خلفاً صالحاً لسلف صالح، وتنطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتنطلق الطاقات الإنسانيّة الصالحة للعمل والبناء، وتعود إلينا سيرتنا الأولى! 2 - الأحاديث الصحيحة: سبق أن ذكرنا في مصادر السيرة كثرة الآثار, وأنها قد كثر فيها عدم الالنزام

3 - فقه السيرة في تفسير الأحداث

بما صح، وجاءت خلواً من تمييز المقبول من المردود، ومن ثم لا يكتفى بذكر من روى الحديث إذا لم يكن في الصحيحين أو أحدهما؛ بل لا بد من الالنزام بقواعد التحديث رواية ودراية، ولا تذكر الروايات الضعيفة، والموضوعة! لا في مجال الرد، انطلاقاً من أن السيرة جزء من الحديث -كما أسلفنا- وأن المسلم مطالب بالتأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يتطلب المعرفة الصحيحة, فكيف إذا كان من أهل العلم والدعوة إلى الله؟! وحسبنا أن نشير إلى رد بعض أقوال أهل العلم في المراد بالخشية في حديث بدء الوحي (¬1)، ورد بلاع التردّي من رؤوس شواهق الجبال (¬2) -كما سيأتي- وما إلى ذلك مما يطول الحديث فيه ويطول! ومن هنا كان علينا أن نلتزم قواعد التحديث رواية ودراية، وأن نحيط بها إحاطة دقيقة صحيحة، لنتعرف معالم حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! 3 - فقه السيرة في تفسير الأحداث: ولا نقف عند حد عرض الآيات القرآنيّة المتعلّقة بالسيرة، والأحاديث الصحيحة؛ لأن فقه السيرة لا يكون في مجرد سردها، وإنما يكون في تفسيرها للأحداث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفيّة التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيّات، ممتده مع الزمن والبيئة، امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان! ومن ثم يعيش المسلم بعقله وروحه، ونفسه وحسّه، وشعوره وإدراكه، ¬

_ (¬1) انظر: كتابنا: (حديث بدء الوحي في الميزان): 55 وما بعدها، مكتبة المنار الإسلاميّة، الكويت، ومؤسسة الريان، بيروت 1418 هـ 1997 م. (¬2) انظر: المرجع السابق: 75 وما بعدها.

في جو الإسلام كعقيدة وفكر ونظام، وفي جو الحياة الإسلاميّة المباركة الطيّبة كصورة واضحة المعالم والسمات، من حياة البشريّة الواقعيّة! وهذه الحياة في هذا الجو ضروريّة جداً لتفتح نوافذ الإدراك، لا لفهم الحياة فحسب، بل لإدراكها ككائن حي، وإدراك مواقع الحوادث والوقائع في جسم هذا الكائن الحي (¬1)! وإنه ليعزّ على الإنسان في أيّة فترة من فترات الإنسانيّة أدركها إدراكاً حقيقياً داخلياً، إلا أن يتجاوب معها بكل ذاتيّته، وأن يعيش في جوّها بكامل مؤثّراتها وإيحاءاتها؛ فليست هذه خصيصة قاصرة على الحياة اليوميّة الإسلاميّة، وإن كانت أكثر وضوحاً بالقياس إلى تلك الحياة؛ لأن مقوماتها تختلف في كثير من أنواعها وماهيّاتها عن مقومات ما عداها! وإنه ليصعب أن نتصوّر إمكان دراسة الحياة الإسلاميّة كاملة، دون إدراك كامل لروح العقيدة الإسلاميّة، ولطبيعة فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، ولطبيعة استجابة المسلم لتلك العقيدة، وطريقته في الاستجابة للحياة كلها في ظل تلك العقيدة! وهذه الخصائص كلها لا يمكن أن تطلب عند باحث غير صادق مدرك، إلا إذا تجرد من الهوى، وتخلص من التعصّب! ولابد من إدراك البواعث الحقيقية لتصرفات الناس في خلال هذه الحياة الإسلاميّة، وعلاقة هذه البواعث بالحوادث والتطورات! ولابد من ربط هذا كله بطبيعة الفكرة الإسلاميّة، لا في شكلها الخارجي وخطواتها العمليّة فحسب، ولكن في تفسيرها للعلاقات الكونيّة، والعلاقات ¬

_ (¬1) في التاريخ فكرة ومنهاج: 45 وما بعدها بتصرف، والهجرة النبويّة: 30 وما بعدها.

الإنسانيّة، والعلاقات الاجتماعيّة، وفي تصويرها لنظام الحكم، وسياسة المال، وطرق التشريع، ووسائل التنفيذ .. إلى غير ذلك من مقومات الحياة، وبالتالي من مقوّمات التاريخ لهذه الحياة! إن المعارك الحربيّة، والمعاهدات السياسيّة، والاحتكاكات الدولية، وما إليها، مما يُعنى به التاريخ غالباً أكثر من سواه، إنها كلها محكومة بعوامل أخرى، يختلف الباحثون في إدراكها وتقديرها .. كل يخضع للفلسفة التي تسيطر على تفكيره وتقديره، ولطريقة إدراكه للحياة في عمومها! وللمسلم مزيّة هنا في دراسة الحياة الإسلاميّة عامة، والسيرة النبويّة خاصة؛ لأن طريقة إدراكه تمت بصلة قوية إلى حقيقة هذه العوامل المؤثرة في سير التاريخ, ومن ثم فهو أقدر على التلبس بها واستنباطها، والاستجابة لها استجابة كاملة! وعلى ضوء إدراكه لطبيعة العقيدة الإسلاميّة، وطريقة استجابة المسلمين لها، يستطيع أن يزن دوافع الحياة الإسلاميّة في تلك الفترة التاريخيّة، والقيم الإنسانية الكامنة فيها، وأسباب النصر والهزيمة في كل خطوة! ويتصوّر الحياة الظاهرة والباطنة لتلك الجماعات الإنسانيّة في مهد الإسلام، وفي البلاد التي انساح فيها! ويضمّ إلى الجوانب الظاهرة التي لا يدرك غير المسلمين سواها في الغالب، كل الجوانب الروحيّة التي يعدّها الإسلام واقعاً من الواقع، ويحسب لها حسابها في سير الزمان، وتشكّل الحياة في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل! ولمَّا كانت الحياة الإسلاميّة فترة من الحياة البشريّة، ولمَّا كان المسلمون

جماعة من بني الإنسان في حيّز من الزمان والمكان، ولمَّا كان الإسلام رسالة كونيّة بشريّة غير محدودة بالزمان والمكان، فإن التاريخ الإسلامي لا يمكن فصله من التاريخ الإنساني .. وقد تأثّرت تلك الفترة -من غير شك- بتجارب البشريّة كلها من قبل، وبخاصة تلك العوامل التي كانت واقعة عند مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم أثرت بدورها في تجارب البشرية من بعد، وتلك الجهات التي امتدّت إليها أو جاورتها، فلابد إذن عند عرض التاريخ الإسلامي عامة، والسيرة النبويّة خاصة من الإلمام بالصورة التي انتهت إليها تجارب الإنسانيّة قبيل مولد الإسلام، والحالة التي صارت إليها المجتمعات البشرّية في الأرض، وبخاصة العقائد الدينيّة، وسائر ما يتعلق بها من أفكار وفلسفات ونظريّات، والأوضاع الاجتماعيّة، وما يتعلق بها من نظم الحكم، وسياسة المال، وعلاقات المجتمع، والأخلاق والعادات والأفكار، كي تتبيّن على ضوئها حقيقة دور الرساله والرسول - صلى الله عليه وسلم -! ويمكن تفسير استجابة العالم لهذا النظام الجديد قبولاً أو رفضاً، وتصوّر أسباب الصراع، وعوامل النصر والهزيمة، وعناصر التفاعل والتدافع، والتلاقي والانعكاس، على مرّ الأيام! وإذا كان الإلمام بوضع العالم إذ ذاك ضروريًّا؛ فإن الإلمام بوضع شبه الجزيرة العربيّة وتصور الحياة فيها، من نواحيها كافة أكثر ضرورة، بوصفها مهد الإسلام الأول من جهة، ومركز التجمّع والانسياح من جهة أخرى! تُرى، هل كانت مصادفة عابرة أن يظهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع من الأرض في هذا الزمان؟! إن هنالك نظاماً مقدورًا، وقصداً مقصوداً، وتدبيراً معيّناً، وترتيباً

4 - خطوات الدعوة

موضوعياً، لتلقي هذه الظواهر كلها، حيث التقت كي تؤدي دوراً معيّناً، ليس أقل نتائجه تخطيط خريطة العالم، في عالم الظاهر، وفي عالم الشعور، على هذا الوضع الذي صارت إليه الأمور، منذ ذلك التاريخ البعيد! وهذا يسوق إلى دراسة حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا السياق الكوني للتاريخ! وتسوق هذه الدراسة من كل جوانبها، وسائر ما يحيط بها إلى أن ندرك نظاماً مقدوراً، وقصدًا مقصوداً، وموافقات مدبرة .. فلم تكن مصادفة عابرة في الاختيار لهذا الحدث الفريد الوحيد عبر التاريخ .. ومن ثم تتبيّن المعالم الكليّة التي تضمنها هذا الحدث قبل البدء في دراسة الأحداث العالميّة التي تمت على هذا الأساس! وبذلك تتهيَّأ صورة مستكملة الجوانب لكل الأوضاع التي نشأت عنها الاستجابات التي وقعت بالفعل في تاريخ الإسلام، في الفترة التي قلت ظهوره، كما يتهيّأ تفسير هذه الاستجابات تفسيراً صحيحاً مستكملاً لكل عناصر الحكم والتقدير! وبذلك يكون التاريخ عمليّة استبطان وتجاوب في ضمائر الأشياء والأشخاص والأزمان والأحداث، ويتصل بناموس الكون، ومدارج البشرية، ويصبح كائناً حياً، ومادة حياة! 4 - خطوات الدعوة: ومتى استقام الأمر على ذلك النهج، وبرزت تلك المقوّمات الأساسيّة لحقيقة الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطبيعة البيئة التي استقبلت الدعوة، واستقبلت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطبيعة المجتمع الإنساني الذي كان يعاصر مولد الإسلام، وطبيعة العقائد والأفكار التي كانت تسوده يوم ذاك!

5 - عوامل البناء ومعاول الفناء

متى برزت تلك المقوّمات الأساسيّة سهل تتبّع نشاطها وتفاعلها وصيرورتها، وأمكن تصوّر وتصوير خطوات الدعوة على عهد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! هذه الخطوات التي تسير متأثرة في هذا الجيل تبرز في جلاء: - كيف تجمّع المسلمون حول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن أي نوعيّة كانوا؟! - وكيف صاغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء، وكيف أعدّهم للمهمة العظمى؟! - وكيف بني الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظامه، وعلى أيّ الأسس قام هذا النظام؟! - وماذا كان عند هؤلاء من استعداد لتلبية هذا الحدث أو معارضته؟! - وما الواقع الحقيقي لكل جزئية من جزئيّات هذه السيرة؟! إلى آخر هذه المعالم التي تصوّر المرحلة الأولى من مراحل حياة الإسلام التي أعقبتها المرحلة الثانية: - مرحلة المدّ الإسلامي! - المرحلة التي انساح فيها الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها! - مرحلة الفيض العجيب، الذي لم يعرف له العالم نظيراً في سرعته وفي قوته، لا من ناحية الفتح العسكري وحده، ولكن من ناحية التأثير الروحي، والفكري والاجتماعي أيضاً، بل من الناحية الإنسانيّة الشاملة التي شهدت تحولاً كاملاً في خط سير التاريخ, على مولد هذا الدّين، وانتشاره ذلك الانتشار العجيب! 5 - عوامل البناء ومعاول الفناء: وهنا تبدو قيمة المنهج الذي أشرنا إليه في دراسة السيرة النبويّة خاصة، والتاريخ الإسلامي عامة، ويمكن معرفة عوامل البناء وأسباب الفناء التي قامت

في تلك المساحة الفسيحة التي امتدّ إليها (الدّين القيّم)، ويمكن تتبّع تفاعله مع الأفكار والعقائد التي كانت سائدة أو سائرة فيها، ومع النظم الاجتماعيّة التي كانت تظلها، ومع الظروف الاقتصادية والمعالم التاريخيّة والملابسات الإنسانية، في أخصب بقاع الأرض وأكثرها حضارة في ذلك الزمان! والمدّ الإِسلاميّ لم يقف عند الحدود التي وصلت إليها فتوحاته العسكريّة؛ فلقد امتدّت الموجبة الفكريّة، والحضارة التي كوّنها إلى ما وراء حدود العالم الإسلامي قطعاً! ولابد من دراسة آثار هذا المد فيما وراء الحدود، طرداً وعكساً، في حياة العالم الإسلامي ذاته، وفي حياة العالم الإنساني كله! ودراسة هذه التفاعلات في ضوء هذا المنهج الذي عرضنا معالمه كفيلة بأن تنشئ صورة واضحة السمات للعالم الإنساني وخطواته الحيّة، مختلفة عن الصورة التي اعتاد غير المسلمين أن يرسموها، والتي اعتدنا أن نراها في كتاباتهم! والتي يعتنقها كثيرون من أبناء جلدتنا، الذين يتكلّمون بألسنتنا، ويدافعون عنها أكثر من دفاع أساتذتهم المستشرقين! ثم يجيء دور انحسار المدّ الإِسلاميّ! وعلى ضوء هذا المنهج، وضوء دراسة المراحل التاريخية السالفة يمكن أن نتبين أسباب هذا الانحسار، وعوامله الداخليّة والخارجيّة جميعاً! وهنا نتساءل: أكان هذا الانحسار شاملاً أم جزئيًّا، وسطحياً أم عميقاً؟! وما أثر هذا الانحسار في خط سير التاريخ, وفي أحوال البشر، وفي قواعد التفكير والسلوك، وفي العلاقات الدوليّة والإنسانيّة؟!

6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر

وما وزن الأفكار والنظم والعقائد التي استحدثتها الإنسانيّة بالقياس إلى نظائرها في الإسلام؟! وماذا كسبت البشريّة، وماذا خسرت، من وراء انحسار المدّ الإسلامي، وظهور المدّ الإلحادي؟! ومن ثم يصبح الحديث عن العالم الإسلامي طبيعيًّا وفي أوانه، وقائماً على أسسه الواضحة الصريحة، وليس حديثاً تمليه العاطفة أو يحدوه التعصب من هذا الجانب أو ذاك، ويصبح الحديث عن القديم والحديث -وفق هذا المنهج- مسلسل الحلقات، متشابك الأواصر، ويتحدّد دور الإسلام في هذا التاريخ وفي الماضي وفي الحاضر .. وتتبيّن خطوطه في المستقبل على ضوء الماضي والحاضر! 6 - عطاء السيرة بين الماضي والحاضر: ومن ثم، يتم استعراض أحداث السيرة النبويّة في وحدة موضوعيّة: - وفق معطيات القرآن الكريم -كما أسلفنا- وهي كثيرة وضرورية! - والسنة النبويّة الصحيحة, وفق أصول التحديث رواية ودراية! - والإفادة من الأرضيّة التاريخيّة الثابتة، التي تحرّكت فوقها الأحداث ونمت، واكتسبت ملامحها النهائيّة! - والنظرة الشموليّة التكامليّة، التي تدرس حركة الإسلام في منهج شامل كامل، له خصائصه! في إطار القيم والتوجيهات، والقواعد والأسس، التي جاء بها (الدّين القيّم) ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة عبر التاريخ, وفي حياتها كلها على سواء!

وهكذا تصبح هذه الأحداث مادة للتربية، ودليلاً وترجماناً للحياة الإسلاميّة الممتدّة وأحداثها، وعوامل البناء ومعاول الفناء! ومن ثم نبصر التقابل بين العوامل والمعاول، والحق والباطل، على سواء! وسبق أن قدمت دراسات موضوعيّة في السيرة النبويّة -كما ذكرت في المنهج الموضوعي- تلتزم الموضوعية والأحاديث الصحيحة, وفق قواعد التحديث رواية ودراية، والإفادة من المعالم التاريخيّة والتربويّة التي تفيدنا في واقعنا المعاصر! وأسأل الله العون والسداد، والتوفيق والرشاد، على الكتابة عن: (الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنصارى وجهاً لوجه)، حتى نتبيّن حقيقة دور النصارى في العداء للرسالة والرسول في القديم والحديث على سواء! والكتابة كذلك عن: (الرسول الداعي)! و (الرسول العابد)! و (الرسول في البيت)! و (الرسول المربي)! وما إلى ذلك من الدراسات التربويّة الموضوعيّة التي نحن في أشد الحاجة إليها! إن السيرة النبويّة فيض من العطاء متدفق، لا يغيض ماؤه، ولا يتوقّف عطاؤه، ومن أخلص النية، وجرد الطويّة، وطرح الغرض، وتخلص من الهوى، وابتعد عن الردى، وأحبّ الحق، وعقد العزم، وجدّ في الطلب،

فلابدّ أن تتفتّح له كوة جديدة عميقة من كواها المشعة بنور الحق والحقيقة، يستضيء بنورها ويضيء! وها نحن نعيش بداية القرن الخامس عشر الهجري، بعد أن ودعنا القرن الحافل بالمآسي الصارخة، والعبر القارعة! وعجلة الزمان تُطوى بنا يوماً بعد يوم، وحين تُطوى نقف على مفترق الطريق! وما أحوجنا في هذه اللحظة الفارقة أن نحاسب أنفسنا! على الماضي، فنندم على الأخطاء، ونستقيل العثرات، ونقوّم المعوج، ونستدرك ما فات! وعلى المستقبل، فندرك أن جيلنا قد ولد في منعطف تاريخي، أفضى به - في مجموعه- إلى أن تنفرج الشقّة بين سلوكه، والشمول والتكامل في الفكر والسلوك .. ولفّه ضباب الشعارات البراقة، في إطار ماكر جائر، من هؤلاء الجاهلين الذين أرادوا تحقيق شهواتهم، ونشر ضلالاتهم، جاهدين ألا ينكشف حالهم، ويتعرّى هدفهم! ومن ثم حالوا بيننا وبن حقيقة الإسلام في الوحدة والتوحيد، والفكر والسلوك، والحياة والتشريع، وأقاموا فصاماً نكداً بيننا وبين هذه الحقائق التي ينطلق بها اللسان معبراً عن العقيدة التي تعمر الجنان: - الله غايتنا! - والرسول قدوتنا! - والقرآن شرعتنا! - والجهاد سبيلنا!

- والموت في سبيل الله أسمى أمانينا! وركّزوا على تمكين غيبوبة الضمير، والعقل والوعي، عن واقع المسير، في الضباب الكثيف، وما يجر إليه من سوء المصير! وهذا الواقع أقوى من إنكار المنكرين، وجحود الجاحدين! ولن يفقد الحقيقة هويّتها أن يكفر بها معاند ماكر، أو يتسلّط عليها مخادع جائر! وعلينا أن نفقه عطاء سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الماضي والحاضر! ونرى كيف ظهرت (خير أمة أخرجت للناس) في ثلاث وعشرين سنة، كانت متفرّقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة! كانت الأمم تنظر إليها بعين الازدراء، فأصبحت معزّزة الجانب، تفتح البلاد، وتضرب على أعدائها بسلطانها الكريم! كانت في ظلمات من الجهل، فأصبحت في نور من العلم، دون أن يُجلب إليها من بلاد أجنبيّة، وإنما هو ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يُلقي إليها من الحكمة بنفسه، ويزكّيها بما يتحلّى به، ويما يدعوها إلى خصال الشرف والحمد! نرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام بين يدي هذه الأمة شريعة تقرّر حقوق الأفراد والجماعات، وتشتمل بتفاصيلها وأصولها على كل ما يُحتاج إليه في فصل القضايا من أحكام، هي مظهر العدل والمساواة، ولم يعقد لهذه الشريعة لجنة تتألف من أشخاص درسوا قوانين بعض الأمم .. ونراه يملي أحكام الوقائع مدنيّة كانت أو جنائيّة .. في الحضر والسفر، في يوم السلم، أو في مواطن القتال!

نرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستخف بأشياع الباطل؛ ولا تأخذه كثرة عددهم ووفرة أموالهم، فيلاقيهم بالفئة القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ولم يكن بالرئيس الذي يبعث بالجيش إلى مواقع القتال، ويقعد خلافهم حذراً من الموت؛ بل يقول الجند، ويدبّر أمر القتال بنفسه، ويقابل الأعداء بوجهه، ولا يوليهم ظهره! نرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصرف عنايته في تزكية الأمّة، وتدبير شؤونها والقيام بجهاد عدوّ هاجم، أو عدو متحفز للهجوم، ولم تشغله هذه الأعمال الخطيرة عن أن يقوم الليلَ قانتاً لله متهجداً، ثم يملأ جانباً من النهار في عبادة ربّه متطوعاً! نرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - زاهداً في متاع هذه الحياة! ولم يكن مثل أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا، حتى إذا ما أيسروا ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوع أيمانهم خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشره كثيراً أو قليلاً! إن كنت غنياً مثرياً فاقتد بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يسير بين الحجاز والشام، وحين ملك خزائن البحرين (¬1)! وإن كنت في سجن الطغاة البغاة العتاة، فلتكن لك أسوة به، وهو - صلى الله عليه وسلم - في الشِّعب! وإن كنت عائلاً ذلك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، حين قدم إلى المدينة مهاجراً إليها من موطنه، وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئاً! ¬

_ (¬1) الرسالة المحمدية: 135 بتصرف.

وإن كنت حاكماً فاقتد بسنته وأعماله - صلى الله عليه وسلم -، حين مَلَك أمر العرب، وغَلَب على آفاقهم، ودان لطاعته عظماؤهم، وذوو أحلامهم! وإن كنت تعيش في وطن غير إسلامي، ذلك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، أيّام كان بمكة قبل الهجرة! وإن كنت فاتحاً غالباً، ذلك في حياته - صلى الله عليه وسلم - نصيب أيام ظفره بعدوه في (بدر) وغيرها! وإن كنت مصاباً فاعتبر به - صلى الله عليه وسلم - في يوم (أحد)، وهو بين أصحابه القتلى، والمثخنين بالجراح! وإن كنت معلِّماً فانظر إليه وهو يعلّم أصحابه في صُفّة المسجد وغيرها! وإن كنت متعلّماً فتصور مقعده - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الروح الأمن جاثياً مسترشداً! وإن كنت داعياً ناصحاً مرشداً أميناً، فاستمع إليه - صلى الله عليه وسلم - وهو يعظ الناس! وإن أردت أن تقيم الحق، وتصدع بالمعروف، ولا ناصر لك، ولا معين، فانظر إليه بمكة، والطائف .. لا ناصر ينصره، ولا معين يعينه، وهو - صلى الله عليه وسلم - يشكو إلى الله أمره، ومع كل ذلك يدعو إلى الحق، ويُعلن به! وإن هَزَمْت عدوك، وخضّدت شوكته، واستتبّ لك الأمر، ولا ترى من عدوك خطراً، فانظر إليه - صلى الله عليه وسلم - يوم دخل مكة وفتحها! وإن أردت أن تصلح أمورك، وتقوم على ضياعك، فانظر إليه - صلى الله عليه وسلم - وقد مَلك من الغنائم ما ملك، كيف دبّر أمورها، وأصلح شؤونها، وفوّضها إلى من أحسن القيام عليها! وإن كنت يتيماً فانظر إلى يتمه - صلى الله عليه وسلم -!

وإن كنت شابًّا عاملاً فاقرأ سيرته - صلى الله عليه وسلم -، وهو يرعى الغنم! وإن كنت قاضياً أو حكماً فانظر إليه - صلى الله عليه وسلم - حين قصد الكعبة ليضع الحجر الأسود في محله، وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى، وهو في فناء مسجد المدينة، يقضي بين الناس بالعدل، يستوي عنده الفاقد والواجد، الفقير المعدم والغني المثري، والقريب والبعيد! وإن كنت زوجاً فاقرأ السيرة الطاهرة، والحياة النظيفة العفيفة النزيهة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في البيت! وإن كنت أباً فتعلم ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كانت الحياة المثاليّة! وأيًّا من كنت، وفي أي شأن كان شأنك، فإنك مهما أصبحت وأمسيت، وعلى أي حال بتّ أو أضحيت، فلك في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، تضيء لك بنورها دَياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العيش، فتُصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أوَدك، وتُقوِّمُ بسنته عوجك، وصدق الله العظيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]! إن هذه الآية الكريمة -كما أسلفنا- تحمل في ألفاظها القليلة معاني كثيرة جليلة غزيرة، فقد أرشدت إلى الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأومأت إلى أنه أقوم الخليقة منهجاً، وأشرفهم حالاً، وأطيبهم كلاماً، وأفضلهم أعمالاً! وتدعو إلى التأسي به - صلى الله عليه وسلم - في أخلاقه وأفعاله، فيما هو مطلوب منا أن نتأسى به، في ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب لا يخور في شديدة، ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، ولقد لقي ما لقي مما يشيب النواصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي!

وقد اقتدى به السلف الصالح في احتماله لما كان يلاقيه في سبيل الدعوة إلى الحق من العناء والمكابدة، وفي صلته بالأفراد والجماعات، ومعاملته لهم، ودعوته إلى الحق، وإرشادهم إلى وجوه الخير، وسبل السعادة! وتدعو إلى التأسّي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في صدق جهاده وقوة صبره على أدواء الحياة وشظفها وشدة أزماتها، وتحمل أشد البلاء في سبيل نشر رسالته؛ لإعلاء كلمة الله، ومجاهدة شراذم الكفر، وأهل النفاق، ليعلموا أن خَلَف هذه الأمة كسلفها لهم في رسول الله أسوة حسنة، ولن يتحقق هذا إذا اقتصر التأسي على المظاهر التي لا تكلف قليلاً أو كثيراً، ولا تؤثر في رفع راية العقيدة من قريب أو بعيد، وإنما يكون التأسي على هذا المستوى، ولن يتحقق ذلك التأسي إلا لمن صفا قلبه، واستنار بنور الهداية فؤاده، واستوى في الإخلاص للإسلام باطنه وظاهره، وهذا لا يكون إلا بمعرفة ما يجب على كل مؤمن بهذا (الدين القيم)، ومن كان يرجو الله واليوم الآخر، وهذا معنى التأسي بالرسول وتأكيده برجاء اليوم الآخر، والإيمان بمجيئه لتوفية كل عامل جزاء عمله، وأمارة ذلك أن يذكر العبد ربه ذكراً قلبيًّا، يغسل درن النفاق، حتى يخلص الجَنان للرحمن ويثبت على ذلك، وذكراً لسانيًّا يتطابق مع الذكر القلبي، ليكون ذلك عنواناً على إخلاص الإيمان وصدق اليقين! ولو كان مقدراً لهذا العالم الإسلامي أن يموت، لمات في خلال القرون الطويلة التي مرت به (¬1)، وهو مكبّل بالقيود، في حالة إعياء عن الحركة، بعد أن حمل عبء الحضارة الإنسانيّة طويلاً، وبعد أن تعب فاسترخى فنام! ¬

_ (¬1) في التاريخ: فكرة ومنهاج - بتصرف، وانظر: الهجرة النبويّة: 11 وما بعدها.

في الوقت الذي تحرك صوب القيادة حزب الشيطان، بعد أن تخلّى عن القيادة والريادة عباد الرحمن! ومن ثم دانت معظم أطراف الأرض لحزب الشيطان! وكان الثقل على صدر العالم الإسلامي النائم! تُرى، لو كان مقدّراً لهذا العالم الإسلامي أن يموت، لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء، وفي إبان حركة حزب الشيطان! ولكنه لم يمت؛ بل انتفض حياً متفاعلاً، يزيل الركام الهائل عن صدره، وينفض النوم العميق عن جفنه، ويحطم الأغلال، ويكسر القيود! وحيثما مد الإنسان بصره اليوم شعر بهذه الانتفاضة الحيّة، وشعر بالحركة المتفاعلة، حتى الشعوب التي ما تزال في أعقاب دور الاسترخاء، والتي ما تزال مرهقة بالأثقال، حتى هذه الشعوب يدرك المتأمل في أحوالها أن الحياة تدبّ في أوصالها، ويرى خلال الرماد وميض نار توشك أن يكون لها ضرام! تُرى، ما الذي احتفظ لهذه الشعوب بحيويّتها الكامنة بعد قرون كثيرة وعديدة، طويلة الأمد، من النوم والاسترخاء، ومن الضعف والخمود، ومن الهبوط والركود، ومن أساليب الجحود والكنود، والضغط والقسر، والاحتلال البغيض الذي بذل جهده لتقطيع أوصالها، وإخماد أنفاسها؟! إنه الإيمان المتمثّل في العقيدة القوّية العميقة، التي لم يستطيع حزب الشيطان قتلها، على الرغم من كل تلك الجهود المتواصلة المتواكبة، التي وجهت إلى الفكر والروح، والاجتماع والسياسة! هذه العقيدة التي تدعو معتنقيها إلى المقاومة والكفاح، لتحقيق الاستعلاء على حزب الشيطان وألاعيبه، وعدم الخضوع للظالمين!

ومن ثم أبصرنا الفجر يبعث خيوطه، والنور يتشقق به الأفق، بعد ليل طال أمده! وإذا بالصادقين من الخلف يسيرون على نهج السلف الصالح، في صحوة إلى غير سبات! ويوم تمسك سلفنا بالكتاب والسنة، وكان لهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، تسلّموا قيادة العالم وريادته، وجاء من بعدهم خلف انحرفوا فانجرفوا، واستمروا في الهبوط، حتى تخلفت الأمة، وحينئذ جاءتها: - قارعة التتار! بيد أنها لم تستخلص الدرس، فأصابتها: - جحافل الغرب! واستيقظت بعض اليقظة حين رفعت مصر العار والشنار عن الأمة في مواجهة الشرق وهزيمته، والغرب وهزيمته! - وجاءت مصيبة الأندلس! - ثم كارثة فلسطين! بيد أن الأمل قائم في أن ترجع إلى هذه الأمة سيرتها الأولى إذا ما كان لها في الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة! وهنا نبصر الفجر قد أشرقت أنواره، وبدت مطالعه! ونبصر قلوباً تتطلع إلى الخير والمستقبل المليء بالخير! ونحس بأننا خلف صالح لسلف صالح!

7 - واجبنا نحو الرسول - صلى الله عليه وسلم -

7 - واجبنا نحو الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ولا نحسب أحداً من البشر كائناً من كان، نال من الحبّ والإعجاب ما ناله خاتم النبيّين محمد - صلى الله عليه وسلم -! ولا نحسب أتباع نبيّ من الأنبياء تربطهم بأنبيائهم تلك الرابطة التي تربط المسلمين برسولهم وحبيبهم، حيث لا يمنعهم من تقديسه شيء إلا أن الله -جل شأنه- نهاهم أن يتوجهوا بالعبادة والتقديس لأحد سواه! ومع ذلك فإن درجة الحبّ التي يتوجهون بها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكاد تفلت أحياناً في قلوب البعض؛ فلا يُمسكها هذا النهي إلا بجهد جهيد! وإن الكثيرين لتصيبهم حالات من الوجد في حب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حتى تختلج المشاعر والخواطر، وتتجمع عبرات وعبرات تتكوّن خضوعاً، وتتلاقى خشوعاً، لتتساقط دموعاً! وإن الحديث عن حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذو شجون وشؤون! وحسبنا أن مقياس الإيمان بالله هو امتلاء القلب بمحبة رسول الله، بحيث تغدو تلك المحبة متغلبة على حب الولد والوالد والناس والنفس! يروي الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إِليه من والده وولده والناس أجمعين" (¬1)! ¬

_ (¬1) البخاري: 2 - الإيمان (15)، ومسلم (44)، وأحمد: 3: 177، 275، والدارمي (2741)، وعبد بن حميد (1175)، وأبو عوانة: 1: 33، وأبو يعلى (3049، 3258)، وابن منده (284)، والنسائي: 8: 114 - 115، وابن ماجه (67)، والبيهقي: الشعب (1374)، والبغوي (22)، وابن حبان (179).

ويروي البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبّ إِليّ من كل شيء إِلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبّ إِليك من نفسك". فقال له عمر: فإِنه الآن والله! لأنت أحب إِليّ من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الآن يا عمر" (¬1)! ويصور لنا مدى الحب في صورة عمليّة ما رواه مسلم وغيره عن أنس قال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابُه، فما يريدون أن تقع شعرة إِلا في يد رجل (¬2)! وفي رواية له قال: دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عندنا - فَعَرِق، وجاءت أمّي بقارورة -فَجَعلتُ تَسْلِتُ العرق فيها- فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا أم سُلَيم! ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرقُك نجعله في طيبِنا، وهو مِنْ أطيب الطيب! وفي رواية قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيت أم سُلَيمْ، فينام على فراشها -وليست فيه- قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها - فأُتيتْ فقيل لها: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نام في بيتك، على فراشك، قال فجاءت وقد عَرِقَ، واستَنقَعَ عَرقُه على قطعة أديم، على الفراش، ففتَحت عَتيدتَهَا، فجعلت تُنَشِّفُ ذلك العرق فتعصِرهُ في قواريرها، ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ¬

_ (¬1) البخاري: 83 - الأيمان (6632). (¬2) مسلم: 43 - الفضائل (2325، 2331، 2332) وأحمد: 3: 136، وعبد بن حميد (1268)، والبغوي (3661)، والطبراني: الكبير: 25 (289)، وأبو نعيم: الحلية: 2: 61، والبيهقي: الشعب (1429).

"ما تصنعين يا أم سُليم؟ " فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته لصبياننا، قال: "أصبت"! وفي رواية عن أنس عن أم سُليم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتيها فيَقيل عندها، فتبسُط له نطْعاً فيقيل عليه، وكان كثير العرق -فكانت تجمع عرقه فتجعلُه في الطّيبَ والقوارير- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أم سليم! ما هذا؟ " قالت: عرقك أدُوفُ به طيبي! قال القرطبي في تصوير حال من آمن إِيماناً صحيحاً ومدى الصلة بهذا الحب للرسول - صلى الله عليه وسلم -: (كل من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إيماناً صحيحاً لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبّة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الغفلات في أكثر الأوقات، ولكن الكثير منهم إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردد فيه) (¬1)! وحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستمر، وليس محصوراً في الوجود؛ لأنه يأتي في نصرة السنة النبويّة، والتأسّي بالرسول، والذّب عن رسالته، وهذا هو الطريق للبقاء الأبدي في النعيم السرمدي! يروي مسلم وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: "من أشد أمتي لي حبًّا، ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني، بأهله وماله" (¬2)! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 1: 60. (¬2) مسلم: 51 - الجنة (2832)، والبغوي (3843)، وابن حبان (7231).

وفي الصورة المقابلة نبصر عطاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه مسلم وغيره عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإِنا إِن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إِخواننا"! قالوا: أولسنا إِخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإِخواننا الذين لم يأتوا بعد .. " الحديث (¬1)! في هذا المقام الذي ينسى الإنسان فيه كل شيء .. ينسى الدنيا بما فيها، ويتذكر الآخرة! يود الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن قد رآنا، ويرفعنا إلى درجة الأخوة! يا لجلال التعبير النبوي الكريم! "وددت أنا قد رأينا إِخواننا"! يا لعظمة هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وهو يرسل هذا الودّ، ويقرّر تلك الأخوة! وهو خير الخلق وخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يحرّك فينا ضرورة التأسي به، والتمسك بسنته! لقد أعطانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحب المثالي اللائق به، والذي لا نقدر عليه بحال! وحسبنا -كذلك- أن نذكر ما رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر وابن العاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله -عَزَّ وَجَلَّ- في إِبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم]! وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة]! فرفع يديه، وقال: "اللهم! ¬

_ (¬1) مسلم: 2 - الطهارة (249)، وابن حبان (7240).

أمتي أمتي"! وبكى، فقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: يا جبريل! اذهب إِلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله - فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال: وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إِلى محمد فقل: إِنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك (¬1)! أرأيت كيف بكى الرسول - صلى الله عليه وسلم - شفقة علينا، ورحمة بنا؟! أرأيت هذه العبرات التي تعجز الكلمات عن تصويرها إلا بعبرات وعبرات، ولكن أنى لنا بعبرات تقترب مجرد اقتراب من بكاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو لنا! هنا يحق لنا أن ندرس سيرته للتأسي به - صلى الله عليه وسلم - .. ولكن ما كان لنا أن نقف عند هذا الحدّ مع عظمته .. فلنتقدّم إلى الأمام، إلى الناحية الإيجابيّة، إلى التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .. فهناك الكثيرون ممن يتشدّقون بالحبّ، وقد تتساقط دموعهم، حتى وهم ينحرفون بهذا الحب إلى لون من التقديس! ذلك أنه حب عاطفي سلبي وكفى، لا صدى له في واقع الحياة والسلوك! إن صورة الحبّ في قلوب هؤلاء لتعاني عزلة وجدانيّة عميقة، كما تعاني بُعداً في السلوك والفهم والإدراك؛ لأنها صورة منعزلة في الوجدان .. وليست صورة حيّة متحرّكة في واقع الحياة، شاخصة في سلوك أصحابها وأفكارهم ومشاعرهم وخواطرهم وماديّاتهم وروحانيّاتهم على سواء! ولا شك أن لهذه العزلة أسباباً ترجع في جملتها إلى واقعنا كأمة تعيش كما نرى ونشاهد ونعايش! لا كما عاش السلف الصالح، حكماً وتشريعاً، ودستوراً ونظاماً، حيث كانت الأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - طابع الأمة، وحيث كانت الأمة تحسّ ¬

_ (¬1) مسلم: 1 - الإيمان (202)، والطبري: التفسير: 13: 229، وابن منده: الإيمان (924)، والبيهقي: الأسماء والصفات: 2: 341 - 342، والبغوي (4337) وابن حبان (7235).

إحساساً عميقاً بأنها على الدرب تسير وفق سنة رسول الله، وأن تعاليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائمة، وإن غابت ذاته الرفيعة في الحسّ! وما عالم الحسّ من واقع النفس؟! إن الأمور لا تقاس بوجودها أو عدم وجودها في عالم الحس وحده؛ وإنما تقاس بمقدار ما توجد في عالم النفس، وبالمكانة التي تملؤها من المشاعر والخواطر والأفكار والسلوك على سواء! فهل تحسّ -يا أخي- بالحبّ للرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! هل تحسّ بالحبّ الإيجابي الممتلئ بالحيويّة؟! هل تحسّ بالحبّ الإيجابي الذي يدفعك دفعاً إلى السير قدماً في الطريق لا تتردّد ولا تتلفّت، ولا تتحيّز لنفسك، ولكن تبلغ دعوة الله، حتى يرى بعضنا بعضاً، في دائرة الحبّ الإيجابي الخالص لله ولرسوله ولمن آمن بالله ورسوله؟! وسيظل الحبّ هو الروح الساري اللطيف، وستظل الدنيا خاشعة خاضعة أمام عطاء هذا الحب وعظمة الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! ستظل خاشعة خاضعة أمام هذه العلاقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها! ستظل خاشعة خاضعة أمام تلك العظمة التي تعجز الكلمات عن تصويرها! وسيظل التاريخ يذكر أن تلك المعالم حين وجدت اهتزّ إيوان كسرى، وترنّح قصر قيصر، وتمرّغ الباطل في الرغام! وإذا الحفاة الذين لم يكن لهم شأن أمام الفرس والروم قد هزموا الباطل ..

وورثوا عرش هذا وتاج ذاك .. واندفعوا بهذا (الدّين القيّم)، حتى بلغوا أسوار الصين، وانطلقوا حتى وصلوا إلى ساحل المحيط الأطلسي .. وأقاموا دولة إسلاميّة في إسبانيا، ووصلوا إلى فيينا! وكان ذلك ما شهدته الدنيا، وسجّله التاريخ! وهنا تحضرني قصة عجيبة حدثت منذ أكثر من ألف عام في أرض فارس، على يد ابن سينا، حين قال غلامُه: لستُ أدري بأي شيء يفضلك محمد - صلى الله عليه وسلم -: كلمة غليظة كبيرة، بيد أن ابن سينا قال: (يا بنيّ، سأخبرك غداً عن هذا الأمر، وكان الوقت شتاء، والجو في شدة من البرودة لا يكاد يتحمّلها الإنسان، وفي منتصف الليل طلب ابن سينا من كلامه أن يحضر له الماء الدافئ للوضوء، فإذا بالغلام يقول له: دعني بعض الوقت فإنني متعب، ولو انتظرت قليلاً لقمتُ، وغلب النوم على ذلك الغلام، ومضت نصف ساعة ثم ساعة، وابن سينا يكرّر القول على الغلام، حتى نبّهه مؤذّن الفجر، وإذا بهم يستمعون من فوق المئذنة إلى كلمات المؤذن: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، واستمر إلى آخر الأذان، وهنا قال ابن سينا: يا بنيّ، هذا وقت تعليمك، قم الآن واستمع إلي ما أقول: إننا الآن في أرض فارس، وبيننا وبين العرب حيث قام الإسلام وظهر النبي عليه الصلاة والسلام مسافة ضخمة، وبيننا وبينهم قرون متطاولة، وهو نبي عربي، والذي فوق المئذنة رجل من فارس، بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام من الناحية الزمانيّة قرون، ومن الناحيّة المكانية أميال، وبينهما عجمة في لسان هذا،

وفصاحة في لسان النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه جاء في الليل الشديد البرد، على رغم هذا كله، وصعد فوق أعلى مكان في المدينة، وفي أبرد الأوقات في جوف الليل ليقول: أشهد أن محمداً رسول الله، وأنا معلمّك أعلمك وأربّيك، وأطلب منك وأنت في الدار أن تعدّ لي شيئاً من الماء لوضوئي فتؤخرني نصف ساعة، ثم ساعة بعدها! هذا هو الفرق بين مقام الأنبياء ومقام العلماء) (¬1)! وهنا نبصر جانباً كبيراً عملياً من عمق التأثير في الأجيال المتعاقبة من المسلمين، إحساساً عميقاً بمكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجلال مقامه! وحسبنا أن نبصر معالم هذا الحبّ في أعمق الأعماق، وفي مشاعر المسلمين، وفي الإحساس العميق الذي يدفع الصادقين دفعاً إلى أن تختلج المشاعر، وتتحرك الخواطر، ونبصر روحاً نورانيّة، مما يضفي على الحياة بهجتها وسعادتها! بيد أنا نبصر عند الكثيرين صوراً غير متحرّكة، وغير مجلوّة، وغير فاعلة .. نبصر حبًّا سلبيًّا لا صدى له في واقع الحياة والسلوك! ونبصر فصاماً نكداً! ولا شك أن هذا الواقع قد حال بيننا كمجتمع إسلامي وبين أن نسعد بمثل ما سعد به سلفنا الصالح الذي لم تكن علاقته بالرسول - صلى الله عليه وسلم - منعزلة في وجدانه عن واقع حياته! وكيف لا! وصورة العلاقة الإيجابيّة المتحرّكة الحيّة، في القول والعمل، والعبادة والسلوك، شاخصة في وجدان المسلمين، حيّة في نفوسهم، فقد ¬

_ (¬1) مكتبة الإمام: 2: 33 الأوقاف - مصر.

أحسّوا إحساساً عميقاً بأنها ملء قلوبهم، وإن غابت عنهم ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عالم الحسّ والمشاهدة، فإن رسالته حيّة نابضة في معالم حياتهم وواقع سلوكهم! ولم تنحسر تلك العلاقة شيئاً فشيئاً إلا حين أحكمت الحلقات، وانفرجت الشقّة، ولم تتكامل تلك العزلة الموحشة إلا حين تتم الفصل نصًّا ومفهوماً، وفقهاً وروحاً، وحياة وسلوكاً، بين واقع المسلمين وتلك العلاقة الإيجابيّة: يا حسرة على العباد! كيف جاز لهم أن يصنعوا ذلك؟! وكيف جاز لهؤلاء أن يعيشوا في دائرة العزلة؟! كيف، وأبرز خصائص الإسلام أنه دين القول والعمل، والظاهر والباطن، والحياة والسلوك؟! إن صورة العلاقة الإيجابيّة يجب أن تتضح في عالم الضمير وعالم الروح حيّة شاخصة، ممتلئة بالحيويّة والعاطفة، والواقعيّة والسلوك، حتى نرى النور الصافي يشرق من جديد، وينفذ إلى الأعماق .. ومن ثم تطمئن النفس، وترفرف الروح، وينشرح الصدر، وينسكب هذا في الحنايا والجوانح، ويظهر في السلوك والجوارح! -أي سكينة ينشئها هذا الإدراك؟! - وأي طمأنينة يفيضها على القلب؟! - وأي سعادة يضفيها على الروح؟! - وأي قوة يسكبها في الضمير؟!

إننا نسمع كلمات الأذان، ونردّد ما يقول المؤذن، وهنا تسيطر علينا روحانيّة عالية، وتهون الدنيا كلها، ونحسّ أنها تحت أقدامنا، ونستعلي على المادة، ولا نكاد نقف في الصلاة حتى تزول الحجب، وتنقشع الغيوم، وتأخذنا الصلاة بكل أنوارها التي يضيق المقام عن ذكرها، ونجد ركناً من أركانها، وهو التشهد، ونقرأ من بين كلماته: (السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..)! لك أن تتصور هذه الصلة الدائمة المستمرّة المستقرّة، وما عليك إلا أن تفتح قلبك لما تقول، فماذا أنت واجد؟! لا شك أن الكلمات تعجز عن تصوّر ما تجد، ولا شك أن هذا الإحساس يدفعنا إلى أن نسير في طريق الحق لا نخاف ولا نخشى باطلاً ولا ظالماً؛ لأن هذه العلاقة الإيجابيّة تضع يدنا على معالم السلوك الإيجابي العملي الذي ربّى جيلاً مثاليًّا فذًّا في التاريخ البشري! إن هذه العلاقة ليست هُياماً ولا خيالاً ولا كلاماً .. ولكنها أسوة ومحبّة، وعقيدة وسلوك .. وإن أمتنا التي تقف اليوم على عتبة انطلاقة جديدة، يجدر بها أن تتحسّس مواقعها، وتمتحن طاقاتها، وتقوّم مقدار إحساسها بهذه العلاقة العمليّة، ومقدار علاقتها برسالة الرسول الذي أضاء ليل الظلام الداجي يوم كان العالم يتخبّط في متاهات الحيرة والضلال، ويئنّ من وطأة الظلم والظالمين .. يوم كان نهباً لأولئك الذين استطاعوا ببغيهم وعدوانهم، وجحود هم وكنودهم، وفسوقهم وعقوقهم، أن يستعبدوا مَن دونهم من البشر، بلا هوادة ولا رحمة!

وإننا حين يظلّنا هذا الجو الطهور في تلك العلاقة الإيجابية، نبصر مواقع خطونا, ولا نرى من حولنا شيئاً من معاني السمو والجلال، والرفعة والكمال، يتحرّك إلا بين يدي الرسالة والرسول! إن هذه العلاقة الإيجابيّة تجعلنا ننهل من معين الوحي، وندرك أفق التجليات المباركات، ونبصر شفافية الروح، ولا نلبث أن نتقدّم إلى حيث نقبس من النور الوضاء، الذي ينير حوالك الدجى، وييسّر مسالك الهدى! وهنا نذكر ما رواه مسلم وغيره عن أنس قال: قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: انطلق بنا إِلى أم أيمن نزورها، ميتاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها، فلما انتهينا إِليها بكت، فقالا لها: ما يُبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها (¬1)! أرأيت منشأ هذا البكاء؟! أرأيت بكاء الصديق والفاروق مع أم أيمن؟! أرأيت هذه القطرات التي تكونت وتجمعت وتساقطت؟! فهل تحس -أخي في الله- بمثل ذلك؟! إنها الصلة الوثيقة .. وهنا نرى الفجر يرمقنا من بعيد، ويشرق في الكون فجر جديد، وطوبى لنا في عالم الخلود! إن الحبّ هو الجناح الذي يطير به الإنسان إلى حيث السمو والعلو .. وإذا لم ¬

_ (¬1) مسلم: 44 - فضائل الصحابة (2454)، وابن ماجه (1635).

تستطع أن تكون محبوباً ففي مقدورك أن تكون مُحبًّا .. وإننا نعيش في عصر مادي .. ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى هذا اليقين الذي يجري من صاحبه مجرى الدم، إن وُضع في محله، وصادف أهله! وهنا تأنس الروح في رحلة الحياة الشاقة في هذه الأرض، ونبصر نوراً يضيء حجوانب الحياة، وهذا يثير في النفس عالماً من المشاعر والخواطر، تسبح الروح في جنباته، ويجول الفكر في جولاته، وتعب النفس من فيضه بقدر ما ترتوي أو تُطيق، وترفرف الروح! ومن ثم نصبح في محراب أشواق وأنس! وتتبدى للروح آفاق تسبيح وقدس! وسيظل الأمل في تكوين الشخصيّة الإسلاميّة كامناً في دراسة سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفق هذا المنهج الأمثل الذي ذكرنا معالمه! وسيظل التأسي كامناً في ذلك حتى نبصر خلفاً صالحاً لسلف صالح من أتباع خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، ونحيا حياة مباركة طيبة، وتعود إلينا سيرتنا الأولى، وتهبّ نفحات الجنة، ويولد للإسلام عالم جديد، يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين!

بشارات النبوة وميثاق النبيين

الجامع الصحيح للسيرة النبوية [2] «بشارات النبوة وميثاق النبيين» تأليف الدكتور سعد المرصفي

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م مكتبة ابْن كثير ص. ب: 1106 حَولي 32012 الكويت تليفون: 22631298 - فاكس: 22657046

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف]! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]!

(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! الزهري (كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)! زين العابدين علي بن الحسين (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا, ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)! إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

مقدمة

مقدمة في عالم ادلهمت خطوبه، وعظمت ارتكاساته في أرجاس الوثنية المقيتة، والجاهلية الضالة، والشرك الأعمى، يبزغ فجر جديد ببشارات نبوة خاتمة، هادية مسترشدة، ورسالة بيضاء نقية غراء غالبة، قد لاحظتها عيون العناية وصنعتها على عين الله جل وعلا، لنشر هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل ليكون قضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد! وها نحن في هذا الكتاب نتنفس أجواء هذه البشارات، ونتتبع إرهاصات نبوة خير نبي لخير أمة أخرجت للناس (الأمة الوسط الخيرة)، بدينها الذي ارتضاه لها الله (ذلك الدين القيم). والله أسأل: التوفيق والسداد! والعون والرشاد! إنه سميع مجيب! الكويت في: 7 من رجب 1428 هـ 10 من يوليو 2008 م راجي عفو ربه سعد محمد محمد الشيخ (المرصفي) أستاذ الحديث وعلومه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت. سابقاً

العصر الجاهلي

العصر الجاهلي

العصر الجاهلي 1 - أحط أدوار التاريخ 2 - الصحف السماوية في ميزان العلم والتاريخ 3 - العهد القديم: شواهد اليهودية 4 - العهد الجديد: شهادة إيتين دينيه (ناصر الدين) - شواهد داخلية 5 - الإمبراطورية الرومانية الشرقية 6 - الإمبراطورية الإيرانية 7 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} 8 - الجزيرة العربية 9 - أوروبا 10 - ظلام مطبق ويأس قاتل 11 - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 12 - الحاجة إلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

1 - أحط أدوار التاريخ

العصر الجاهلي الحديث عن العصر الجاهلي له جوانب عديدة، وحسبنا أن نبصر معالمه فيما يلي: 1 - أحط أدوار التاريخ: كان القرن السادس الميلادي أحط أدوار التاريخ بلا خلاف (¬1)، وكانت قافلة الحياة جائرة السبيل، حائرة الدليل، خائرة العزيمة، وكانت في الهيكل المنحل للعالم الإنساني عوامل البلى من وثبة توبق الروح، وجاهليّة توثق العقل، وماديّة ترهق الجسد، وكانت الإنسانيّة متدلّية متدنّية منحدرة، منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها، وتمنعها من التردّي، وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها، وشدّة في إسفافها، فقد نسي الإنسان خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، وقد خفقت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، وما بقي منها فهو ضئيل لا ينير إلا في بعض القلوب، فضلاً عن البيوت، فضلاً عن البلاد، وأصبحت الصحف والشرائع التي مثلت في أزمان مختلفة دورها الخاص في مجال الدّين والخلق والعلم، فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرّفين والمخرّفين، وعرضة الحوادث الدامية، والخطوب الجسيمة، حتى فقدت روحها وشكلها! ¬

_ (¬1) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: أبو الحسن الندوي: 37 وما بعدها، دار القلم، ط. تاسعة 1393 هـ - 1973 م.

2 - الصحف السماوية في ميزان العلم والتاريخ

2 - الصحف السماويّة في ميزان العلم والتاريخ: وما زالت الصحف السماويّة عرضة للتحريف والتخريف، والتبديل والضياع (¬1)، فلم يتكفّل الله -عَزَّ وَجَلَّ- بحفظها وبقائها، بل أسند ذلك إلى علمائها وحملتها, ولم تحتَج إليها الأمم التي خوطبت بها إلا لفترة من الزمان: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة]! 3 - العهد القديم: وقد ثبت ذلك تاريخيًّا، وتواتر، وأقرَّت به الأمم والطوائف التي نزلت فيها هذه الصحف، وقد استهدفت صحف العهد القديم للتلف والإحراق والإبادة بصورة واضحة، وباتفاق المؤرخين اليهود ثلاث مرات في التاريخ: المرة الأولى: حين قضى (نبوخذ نصر) (605) Nabuchodonosor (ملك بابل) على (اليهود) سنة 586 ق. م.، وأشعل النيران في (بيت المقدس) الذي حفظ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - سليمان عليه السلام ألواح التوراة، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وأخذ من سَلمَ من القتل من اليهود أسيراً إلى بابل، حيث مكثوا فيه خمسين سنة، وقد أعَاد (عزرا) الصحف الخمس الأولى التي تسمى (تورة) بحفظه، وقيد الحوادث في أسلوب تاريخي، ثم ضم إليها (نحميا) السلسلة الثانية من الكتب، مضيفاً إليها (زبور داود)! ¬

_ (¬1) النبوة والأنبياء: أبو الحسن الندوي: 198 وما بعدها بتصرف، دار القلم، دمشق، ط. خامسة 1400 هـ - 1980 م.

والمرة الثانية

والمرة الثانية: حين كرّ (أنطيوخوس) (Antiochus) الرابع، الملقب (أبيقانس)، (ملك أنطاكلية) اليوناني، على (بيت المقدس) سنة 168 ق. م.، وأحرق الصحف المقدسة، ومنع من تلاوة (التوراة)، وممارسة الشعائر اليهودية رسمياً، ونشط يهودا المكابي في جمع الصحف المقدسة وترتيبها، وضم إليها السلسلة الثالثة من (صحف العهد القديم)! والمرة الثالثة: حين هجم (تيطس) (titus) الإمبراطور الروماني 40 - 81 على (بيت المقدس) في 7 من سبتمبر سنة 70 م ودمره بما فيه (هيكل سليمان)، وحوله إلى أنقاض وخرائب، واستولى على الصحف المقدّسة، ونقلها إلى بلاطه في روما، تذكاراً للفتح، وأجلى اليهود من القدس، واستعمر غيرهم حول الدينة (¬1)! شواهد من دائرة المعارف اليهوديّة: وقد جاء في دائرة المعارف اليهوديّة ما يلي: (إن الأخبار اليهوديّة، وإن كانت تلح على أن صحف العهد القديم من تأليف الأبطال، أو الشخصيات التي تتحدث عنها هذه الصحف، وذلك لا يبعد عن الصواب، ولكنهم لا يتحرجون في الإقرار بأن بعض هذه الصحف تناولها التعديل والزيادة في العهود المتأخرة) (¬2)! وجاء فيها -أيضاً- ما معناه: (إن الكتب الخمسة الأولى من الكتاب ¬

_ (¬1) راجع دائرة المعارف اليهوديّة، وقد وردت إشارات إلى هذه الصحف في سفر نحميا وسفر المكابين وغيرها. (¬2) Vellentis's one volume jewish Encyclopaecia london P. 93 .

المقدس (العهد القديم) كما تقول الأخبار اليهوديّة القديمة، من تأليف النبي موسى، باستثناء ثماني آيات أخيرة، جاء فيها الحديث عن موت موسى، وما زال الربيون يعنون بتناقضات واختلافات وردت في هذه الصحف، وما زالوا يصلحونها بحكمتهم ولباقتهم) (¬1)! وتزيد هذه الموسوعة: إن (اسفينوزا) (Spiniza) يقول: (إن الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم ليست من تأليف موسى؛ بل هي من تأليف عزرا، وإن آخر ما توصل إليه البحث العلمي، هو أن هذه الكتب (الخمسة الأولى) ترجع إلى ثمانية وعشرين مصدراً (¬2)، استقيت واستفيدت منها هذه الكتب)! وجاء فيها ما معناه: (إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان يدل على أن عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائيليّين، ولم تستأصل شأفتها إلى يوم رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد قبلوا معتقدات خرافية مشركة، إن التلمود -أيضاً- يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود) (¬3)! ويدل تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه، وقد يفضلونه على التوراة، وكان متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي، وما زخر به من نماذج غريبة من خفة العقل، وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث ¬

_ (¬1) Jewis Encyclopaedia V. 9 .p. 589 . (¬2) المرجع السابق. (¬3) السيرة النبويّة: الندوي: 20 نقلاً عن: Jewis Encyclopaedia vol 11 و 11 × ص 7 و 77

بالحقائق، والتلاعب بالدين والعقل، على ما وصل إليه المجتمع اليهودي في هذا القرن من الانحطاط العقلي، وفساد الذوق الديني (¬1)! وقد أورد الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - خلاصة مفيدة عن مكانة (عزرا) عند اليهود، وعلق عليها كذلك تعليقاً مفيداً، ننقل منه هنا ما يفيدنا في موضوعنا، قال (¬2): جاء في دائرة المعارف اليهوديّة الإِنجليزيّة ط 1903 م: (إن عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملّي لليهوديّة، الذي تفتحت فيه أزهاره، وعبق شذا ورده، وإنه جدير بأن يكون هو ناشر الشريعة (وفي الأصل عربة أو مركبة الشريعة) لو لم يكن جاء بها موسى (التلمود 21 ب) فقد كانت نسيت، ولكن عزرا أعادها أو أحياها, ولولا خطايا بني إسرائيل لاستطاعوا رؤية الآيات (المعجزات) كما رأوها في عصر موسى)! وذكر فيها أنه كتب الشريعة بالحروف الأشورية -وكان يضع علامات على الكلمات التي يشك فيها- وأن مبدأ التاريخ اليهودي يرجع إلى عهده! وقال الدكتور (جورج يوسف) في (قاموس الكتاب المقدس): عزرا (عون) كاهن يهودي، وكاتب شهير، سكن بابل، مدة ملك (أرتحششتا) الطويل الباع، وفي السنة السابعة لملكه أباح لعزرا بأن يأخذ عدداً وافراً من الشعب إلى أورشليم نحو سنة 457 ق. م. (عزرا ص 7) وكانت مدة السفر أربعة أشهر! ¬

_ (¬1) اقرأ (الكنز المرصود في قواعد التلمود) للدكتور يوسف حنا نصر الله. (¬2) تفسير المنار: 10: 322 وما بعدها بتصرف، دار المعرفة، بيروت، ط. ثانية.

ثم قال: (وفي تقليد اليهود يشغل عزرا موضعاً مُهماً يقابل بموضع موسى وإيليا، ويقولون: إنه أسس المجمع الكبير، وإنه جمع أسفار الكتاب المقدس، وأدخل الأحرف الكلدانية عوض العبرانية القديمة، وإنه ألف أسفار الأيام وعزرا ونحميا)! ثم قال: (ولغة سفر عزرا من ص 4: 8 - 6: 19 كلدانية، وكذلك ص 7: 1 - 27 وكان الشعب بعد رجوعهم من السبي يفهمون الكلدانية أكثر من العبرانية)! وأقول (¬1): إن المشهور عند مؤرخي الأمم، حتى أهل الكتاب منهم، أن التوراة التي كتبها -موسى عليه السلام- ووضعها في تابوت العهد أو بجانبه (تث 31: 25، 26) قد فقدت قبل عهد سليمان -عليه السلام- فإنه لما فتح التابوت في عهده لم يجد فيه غير اللوحين اللذين كتب فيهما الوصايا العشر، كما تراه في سفر الملوك الأول، وأن (عزرا) هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد النبي بالحروف الكلدانية، واللغة الكلدانية الممزوجة ببقايا اللغة العبرية التي نسي اليهود معظمها، ويقول أهل الكتاب: إن (عزرا) كتبها كما كانت بوحي أو بإلهام من الله، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، وعليه اعتراضات كثيرة مذكورة في مواضعها من الكتب الخاصة بهذا الشأن، حتى من تآليفهم، كذخيرة الألباب للكاثوليك، وأصله فرنسي، وقد عقد الفصلين: الحادي عشر، والثاني عشر، لذكر بعض الاعتراضات على كون الأسفار الخمسة لموسى. ومنها قوله: (7 - جاء في سفر عزرا (4 ف 14 عدد 21) أن جميع الأسفار المقدسة ¬

_ (¬1) المرجع السابق.

حرقت بالنار في عهد (نبوخذ نصر)، حيث قال: (إن النار أبطلت شريعتك، فلم يعد سبيل لأي امرئ أن يعرف ما صنعت ويزاد على ذلك أن عزرا أباح بوحي الروح المقدس تأليف الأسفار المقدسة التي أبادتها النار، وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون، ولذلك ترى (ثرثوليانوس) والقديس (إيريناوس) والقديس (إيرونيموس) والقديس (يوحنا الذهبي) والقديس (باسيليوس) وغيرهم، يدعون عزرا مرمم الأسفار المقدسة المعروفة عند اليهود! نكتفي بهذا البيان هنا, ولنا فيه غرضان: أحدهما: أن جميع أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم، وأصل كتبهم المقدسة عندهم! وثانيهما: أن هذا المستند واهي البيان، متداعي الأركان، وهذا هو الذي حققه علماء أوروبا الأحرار، فقد جاء في ترجمته من دائرة المعارف البريطانية بعد ذكر ما سفر (نحميا) من كتابته للشريعة: (إنه جاء في روايات أخرى متأخرة عنها، أنه لم يعد إليهم الشريعة التي أحرقت فقط، بل أعاد جميع الأسفار العبرية التي كانت أتلفت، وأعاد سبعين سفراً غير قانونية (أبو كريف) ثم قال كاتب الترجمة فيها: وإذا كانت الأسطورة الخاصة بعزرا هذا قد كتبها من كتبها من المؤرخين بأقلامهم، من تلقاء أنفسهم، ولم يستندوا في شيء منها إلى كتاب آخر، فكتّاب هذا العصر يرون أن أسطورة عزرا قد اختلقها أولئك الرواة اختلافاً)! (انظر ص 14 جـ 9 من الطبعة الرابعة عشر سنة 1929 م)!

4 - العهد الجديد

وجملة القول: أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون (عزرا) هذا، حتى إن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن الله) (¬1)! 4 - العهد الجديد: أما أمر الأناجيل التي تسمى (العهد الجديد) (¬2)، فأمرها أغرب من صحف العهد القديم، فإنه يكتنف تدوينها ومؤلفيها الشيء الكثير من الغموض والالتباس والاضطراب، وبينها وبن المسيح -عليه السلام- هوة عميقة واسعة، ليس في إمكان باحث أو مؤرخ ردمها أو إقامة جسر عليها، وقد تعرضت للتحوبر والتطوير، والتعديل والتحسين، في مجامع دينية، وفترات زمانية عديدة، فضلاً عن أن هذه الصحف التي بأيدينا اليوم ليست باللغة التي كان لمجلم بها المسيح -عليه السلام- وقومه، بل نقلت من لغة إلى أخرى، وتناولتها أيدي المترجمين الناقلين حتى وصلت إلينا! شهادة إيتين دينيه (ناصر الدين) (¬3): وإليك شهادة إيتين دينيه (ناصر الدين) الذي ولد في باريس سنة 1861 م والذي نشأ مسيحيًّا، وشبّ وترعرع على عقيدة التثليث والصلب، والفداء والغفران، بيد أنه قد استولى عليه شعور بالقلق والحيرة من الناحية الدينيّة، ¬

_ (¬1) انظر ما تثبته النصارى بخلاف نص التوراة وتكذيبهم لنصوصها التي بأيدي اليهود، في: الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2: 7 - 10: ابن حزم، وبهامشه: الملل والنحل: الشهرستاني، دار الفكر: 1400 هـ - 1980 م. (¬2) النبوة والأنبياء: الندوي 201. (¬3) انظر مقدمة الدكتور عبد الحليم محمود -يرحمه الله- لكتاب: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 37 وما بعدها، دار الكتاب اللبناني.

وأداه بحثه في الأناجيل، وقيمتها التاريخية إلى قوله

وأخذ يبحث عن معالم الدّين الحق، فتأمل وأطال التفكير في الكون، والنصوص والعقائد التي يدين بها، وأعاد قراءة الأناجيل من جديد، محاولاً جهده أن يراها تتسم بسمة الحق، فيؤمن بابن الله، وبالكاثوليكيّة، فرأى فيها ما يتنافى مع الصورة المثلى للإنسان الكامل، فضلاً عن الصورة التي تريد المسيحيّة أن توحي بها (¬1)! وأداه بحثه في الأناجيل، وقيمتها التاريخيّة إلى قوله: (لا شك أن الله أوحى الإنجيل إلى عيسى بلغته ولغة قومه، ولا شك -أيضاً- أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر، ولم يبق له أثر، أو أنه باد، أو أنه قد أُبيد، ولهذا قد جعلوا مكانة (توليفات) أربعاً، مشكوكاً في صحتها، وفي نسبتها التاريخيّة، كما أنها مكتوبة باللغة اليونانيّة، وهي لغة لا تتفق طبيعتها مع لغة عيسى الأصليّة التي هي لغة سامية، لذلك كانت صلة السماء بهذه الأناجيل اليونانيّة أضعف بكثير من صلتها بتوراة اليهود) (¬2)! ورأى في النهاية في وضوح: (أن الديانة الكاثوليكيّة لا تتحمل البحث والمناقشة؛ فقد أظهرت الأدلة العديدة -سواء أكانت أخلاقيّة أم تاريخيّة أم علميّة أم لغويّة، أم سيكولوجيّة، أم دينيّة- أن الكاثوليكيّة ملأى بالأغلاط الواضحة)! ولم يمكنه أن يقول ما قال (أوغسظين) مما يعتبر شعار كل مسيحي: (إنني أؤمن بذلك؛ لأن ذلك غير معقول) (¬3)! ¬

_ (¬1) انظر مقدمة المرجع السابق: 10. (¬2) المرجع السابق: 11 نقلاً عن: أشعة خاصة بنور الإسلام. (¬3) المرجع السابق.

وثار شعوره الديني على أوضاع مبهمة، وألفاظ غامضة، ومشكلات لا تحل، وانتهى به المطاف، بعد بحث وجدل ومناظرات وتأملات، إلى رفض المسيحيّة، وبلغت حيرته حينئذ أشدها, ولكن اليأس لم يتطرق إلى نفسه قط، وإذا لم يجد الهداية في المسيحيّة، فليس معنى ذلك أنه لم يجدها مطلقاً، فالحقيقة عزيزة المجال، ولكنها موجودة! ورأى (دينيه) أن يتجه إلى العقل، يستمد منه الهداية إلى الطريق المستقيم، ولكنه انتهى إلى أن العقل عاجز في ميدان ما وراء الطبيعة، وفي الواقع: (يسعى كثير من ذوي العقول المستنيرة -بعد أن أفاقوا من غفلتهم، وبعد أن رأوا إخفاق مذهب استقلال العقل بالمعرفة- لتعرف طريق الهداية، وأن مذهب الحس الذي يتهافتون عليه خلف حامل لوائه المسيو (برجسون) الشهير، هو عبارة عن رد فعل واضح لمذهب استقلال العقل بالمعرفة، أو هو -وهو الأصح- رد فعل لعجز هذا المذهب)! فقد جدّد هذا المفكر -في قلوب الناس النَهمين إلى الإيمان- آمالاً كان يظهر أنها ضاعت ضياعاً نهائيًّا، فهو يأذن لهم بأن يأملوا في خلود الروح، ويقول لهم: (إن الدنيا ليست مشتبكاً عظيماً لقوى عمياء، وإن العقل ليس هو الطريقة الوحيدة للمعرفة) (¬1)! أخفقت المسيحيّة في إرضاء ضميره الديني، وأخفق العقل في قيادته إلى النور، وتلفت حوله ونظر: ماذا فعل أمثاله ممن شكّوا في المسيحيّة، وشكّوا في العقل، وهداه الله لـ (الدّين القيّم) (¬2)! ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 12. (¬2) انظر المرجع السابق: 12 وما بعدها.

شواهد داخلية

شواهد داخلية: وهناك شواهد داخليّة (¬1)، من أغلاط تاريخيّة صريحة، وتناقضات واضحة، وأمور مستحيلة، ينكرها العقل، ونسبة أشياء إلى الله لا تليق بجلاله وكماله، ولا تتفق مع صفاته التي اتفقت عليها الشرائع السماويّة، والعقول السليمة، ومطاعن في أنبياء الله المكرمين، واتهامهم بأفعال وأخلاق يترفع عنها أواسط الناس، إلى غير ذلك من الشواهد الجليّة، الكثيرة العدد، التي تدل على الدس والإلحاق والتغيير في كتب العهدين: القديم والجديد، التي تسمى مجموعاً (Bible) أو (الكتاب المقدس) (¬2)! ويتحدث كاتب مسيحي عن مدى تغلغل عقيدة التثليث في المجتمع المسيحي، منذ أواخر القرن الرابع الميلادي، فيقول: (تغلغل الاعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلالة أقانيم، في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسميّة مسلمة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي) (¬3)! ويتحدث مؤرخ مسيحي معاصر عن ظهور الوثنيّة في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة، وألوان شتى، وتفنّن المسيحيّين في اقتباس الشعائر والعادات ¬

_ (¬1) النبوة والأنبياء: 204 وما بعدها بتصرف. (¬2) انظر كتاب (إظهار الحق) رحمة الله الهندي، المتوفى سنة 1308 هـ. (¬3) السيرة النبويّة: الندوي 21 - 22 نقلاً عن ملخص ما جاء في دائرة العارف الكاثوليكية الجديدة، مقال التثليث المقدس: 14: 295.

والأعياد والأبطال الوثنيّة، من أمم عريقة في الشرك، بحكم التقليد، أو الإعجاب، أو الجهل، فقد جاء في (تاريخ المسيحيّة في ضوء العلم المعاصر): (لنقد انتهت الوثنيّة، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس، واستمر كل شيء فيها باسم المسيحيّة، وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم، وتخلوا عنها، أخذوا شهيداً من شهدائهم، ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالاً، وهكذا انتقل هذا الشرك، وعبادة الأصنام، إلى هؤلاء الشهداء المحليّين، ولم ينته هذا القرن حتى عمّت فيهم عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهيّة، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقاً وسطاً بين الله والإنسان، يحمل صفة الألوهيّة، على أساس عقائد الأريسيّين، وأصبحوا رمزاً لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنيّة بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح) (¬1)! وجاء القرن السادس المسيحي، والحرب قائمة على قدم وساق، بين نصارى الشام والعراق من جهة، ونصارى مصر من جهة أخرى مقابلة، حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت المدارس والكنائس والبيوت، معسكرات متنافسة، يكفّر بعضها بعضاً، ويقتل بضعها بعضاً، كأنها حرب بين دينين متنافسين، أو أمتين متحاربتين (¬2)، فأصبح العالم المسيحي في شغل بنفسه ¬

_ (¬1) Rev, James Houston Baxter in the History of Christianity in the light of Modernknwledge. (Glasgow, 1929) P 40 z. (¬2) راجع (فتح العرب لمصر): (الفرد بتلر) تعريب محمد فريد أبو حديد: 37، 38، 47.

5 - الإمبراطورية الرومانية الشرقية

عن محاربة الفساد، وإصلاح الحال، ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح للإنسانيّة (¬1)! 5 - الإمبراطوريّة الرومانية الشرقية: وهي المعروفة بالإمبراطوريّة البيزنطيّة، ويعرفها العرب بالروم، وكانت تحكم في العصر الذي نتحدث عنه، دول: يونان، وبلقان، وآسيا الصغرى، وسوريا، وفلسطين، وحوض البحر الأبيض المتوسط بأسره، ومصر، وكل أفريقيا الشماليّة، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكان ابتداء الإمبراطوريّة المذكورة سنة 395 م، وانتهاؤها بغلبة العثمانيّين على القسطنطينيّة سنة 1453 م (¬2)! وقد ازدادت فيها الإتاوات، وتضاعفت الضرائب، حتى أصبح أهل البلاد يفضلون على حكومتهم كل حكومة أجنبيّة، وحدثت اضطرابات إثر اضطرابات وثورات إثر ثورات، وقد هلك عام 532 م في اضطراب واحد في عهد (جيستن الأول) (Justini) ثلاثون ألف شخص في القسطنطينيّة (¬3) -عاصمة المملكة- وأصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه، ثم إنفاقه في التطرف، وقد أمعنوا في طرق التسلية، حتى وصلوا فيها إلى الوحشية (¬4)! ¬

_ (¬1) انظر مناقضات الأناجيل الأربعة وما فيها من الكذب، والكلام في الحواريّين، وذكر بعض ما في كتبهم غير الآناجيل من الكذب، في: الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2 - 11 - 78: ابن حزم، وبهامشه: الملل والنحل: الشهرستاني، دار الفكر: 1400 هـ - 1980 م. (¬2) السيرة النبويّة: الندوي: 29 وما بعدها بتصرف. (¬3) انظر (تاريخ العالم) للمؤرخين Historian's of the World. Vol. Vilp. 73 . (¬4) اقرأ كتاب (سقوط دولة روما وانحطاطها) أيدوار ديجيبون: 3 - 5.

وجاء في كتاب (الحضارة ماضيها وحاضرها) تصوير لما كان عليه المجتمع البيزنطي من التناقض والاضطراب، والهيام بالتمتّع والتسلية، وإن وصلت إلى حد القسوة والهمجيّة: (كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعيّة للبيزنطيّن، فقد رسخت النزعة الدينيّة في أذهانهم، وعمت الرهبانيّة، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل الاعتيادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينيّة العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة الاعتيادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء -في جانب آخر- حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف؛ فقد كانت هناك ميادين رياضيّة واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحياناً، وبين الرجال والسباع أحياناً أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق! ولون أخضر! وكانوا يحبون الجمال، ويعشقون العنف والهمجيّة، وكانت ألعابهم دمويّة ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوباتهم فظيعة، تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجنون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيّئة) (¬1)! أما مصر -إحدى ولايات الدولة البيزنطيّة- فكانت عرضة لاضطهاد ديني ¬

_ (¬1) M. Taylor: Girvilisation. Past and Present. T. Walter. Wallbank and Alastain.

6 - الإمبراطورية الإيرانية

فظيع، واستبداد سياسي شنيع، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر، التي كانت مصدراً كبيراً لرخاء الدولة وغناها، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يحسنون حلبها، ويسيئون علفها (¬1)! أما سورية -ولاية الإمبراطوريّة البيزنطيّة الأخرى- فكانت مطيّة المطامع الرومانيّة، وكان الحكم حكم الغرباء الذي لا يعتمد إلا على القوة ولا يشعر بشيء من العطف على الشعب المحكوم، وكثيراً ما كان السوريّون يَبيعُون أبناءهم ليوفروا ما عليهم من ديون، وقد كثرت المظالم وكثر الرقيق (¬2)! 6 - الإمبراطوريّة الإيرانيّة: وقد كانت أعظم من الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة، بعد انشقاقها عن الإمبراطوريّة الرومانيّة الكبرى مساحة وأبهة وثروة، وقد تأسست على يد (أردشير) في سنة 224 م، وكانت تحكم حين بلغت أوجها: أسبرية، وخوزستان، وميديه، وفارس، وأذربيجان، وطبرستان، وسرخس، وجوزجان، وكرمان، ومرو، وبلخ، وسفد، وسيستان، وهرات، وخراسان، وخوارزم، والعراق، واليمن، وقد دخلت بعض ولايات الهند، مثل: كجه، وكاتهياوار، ومالوه، في حكمها في بعض الفترات، وقد اتسعت هذه الإمبراطوريّة اتساعاً كبيراً في القرن الرابع المسيحي، وأوغلت في الشمال والشرق، وبلغت إلى أقصى حدودهما! وكانت طيسيفون (المداين) عاصمة الإمبراطورية، ومقر الإمبراطور ¬

_ (¬1) انظر: (فتح العرب لمصر): (الفرد بتلر)، وتاريخ العالم للمؤرخين: جـ 7. (¬2) انظر: (خطط الشام): كرد علي: 1: 101.

الإيراني، وكانت مجموع مداين كما يبدو من اسمها العربي، وبلغت أوجها في الرقي والمدنية والبذخ، في القرن الخامس إلى ما بعد (¬1)! وكانت الزرادشتية -وهي التي خلفت المزدكية- دين إيران القديمة، ومن المرجح أن (زرادشت) قد ظهر في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت مؤسسة منذ أول يومها على الحرب القائمة بين النور والظلام، وبين روح الخير وروح الشر، أو بين إله الخير وإله الشر! وجاء (ماني) في أوائل القرن الثالث المسيحي مجدداً لهذه العقيدة، مضيفاً إليها (¬2)، وتبعه (شاه بور) الذي خلف (أردشير) (241 م) مؤسس الدولة الساسانيّة، واحتضن دعوته ثم أصبح معارضاً له، فقد كان (ماني) يدعو إلى حياة العزوبة، لحسم مادة الفساد والشر من العالم، ويعلن أن امتزاج النور بالظلمة شر، يجب الخلاص منه، فحرم النكاح استعجالاً للفناء، وانتصاراً للنور على الظلمة، بقطع النسل، وقضى أعواماً في النفي، ثم عاد إلى إيران، وقتل في عهد (بهرام الأول) ولكن تعاليمه لم تمت، بل بقيت تؤثر في التفكير الإيراني، والمجتمع الإيراني، مدة طويلة! وظهر (مزدك) في أوائل القرن الخامس المسيحي، فدعا إلى إباحة الأموال والنساء، وجعل النساء شركاء فيها، وقويت دعوته، وكان الناس يدخلون الرجل في داره، فيغلبونه على منزله وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم، وقد جاء في وثيقة إيرانيّة تاريخيّة، تعرف بـ (نامه تنسر) تصوير لذلك العصر الذي انتشرت فيه الدعوة المزدكية، وكانت لها السيطرة والنفوذ: ¬

_ (¬1) راجع (إيران في عهد الساسانيين): البروفيسور آرتهر كرستن سين. (¬2) انظر تعليمات (ماني) ودعوته وفلسفته: المرجع السابق: الباب الرابع: النبي ماني وديانته: 233 - 269.

(وانتهكت الأعراض، وعم خلع العذار، لقد نشأ جيل لا كرامة فيه ولا عمل، ولم يكن له رصيد، ولا ماض مجيد، وليس لهم هم لمصير الشعب، ولا إشفاق عليه، ولا يتصف بكمال ومهارة، كانت تسيطر عليهم اللامبالاة والبطالة، وكانوا بارعين في النميمة، والخبث، والافتراء، والبهتان، وقد اتخذوا ذلك وسيلة لكسب القوت، والوصول إلى الثروة والجاه) (¬1)! ويقول (أرتهركرستن سين): (كانت النتيجة أن انتشرت ثورات الفلاحين، وكان النهابون يدخلون إلى قصور الأغنياء، وينهبون ما يجدون فيها من أموال وأثاث، ويلقون القبض على النساء، ويستولون على الأملاك والعقارات، فأصبحت الأراضي والمزارع مقفرة خربة؛ لأن هؤلاء الملاك الجدد لم يكن لهم عهد ولا معرفة بالفلاحة) (¬2)! ظهر من ذلك أنه كان في إيران القديمة استعداد عجيب دائماً لقبول الدعوات المتطرفة الغالية، وكانت دائماً تحت تأثير ردود فعل عنيفة، وكانت تتأرجح بين (أبيقورية) (¬3) جامعة، وتنسك مغال حيناً، وبن احتكار سلالي، أو طبقي، أو ديني، وشيوعية متطرفة، وفوضوية مطلقة حيناً آخر، أفقدها هذا التاريخ الاتزان والاقتصاد والهدوء! وكانت الأحول سيئة جداً في هذه الإمبراطوريّة الساسانية، في القرن السادس المسيحي، فكانت تحت رحمة الملوك الذين كانوا يحكمون بالوراثة، ويرون أنفسهم فوق الناس، وفوق بني آدم، وكانوا يخاطبون بكلمة (الإله)، ¬

_ (¬1) انظر (نامه تنسر) ط. مينوي: 13. (¬2) إيران في عهد الساسانيين: 447. (¬3) مذهب (أبيقور) الفيلسوف الإغريقي الذي قال بأن المتعة هي الخير الأسمى.

وتضاف إليهم كلمة الألوهيّة بطريق مكشوف، وكان الإمبراطور (الإنسان الأول) وكان لا يسمى باسمه عند الخطاب، وكان يعتبر من نسل الآلهة (¬1)! وكانت موارد البلاد كلها ملكاً لهؤلاء الملوك، وقد تطرفوا في اكتناز الأموال، وادخار الطُّرَف، والأشياء الغالية، والتأنق في المعيشة، والتمتع بالحياة، وقد وصل الولوع بالتلذذ، وترفيه الحياة، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة، إلى حد الخيال والشعر، لا يتصوره إلا من توسع في تاريخ إيران القديمة، وشعرها وأدبها (¬2)، واطلع على تفاصيل مدينة (طيسيفون) وإيوان كسرى، وبهار كسرى (¬3) (بساط الربيع)، وتاج كسرى، وما كان يختص بملوكهم من خدم وحشم، وزوجات وجوار، وغلمان وطهاة، وما كان للطيور والسباع، وأوان وقنص، التفاصيل الأسطورية التي يدهش لها الإنسان (¬4)، وقد بلغ ذلك إلى حد أن (يزدجرد) آخر ملوك إيران لما خرج من عاصمته (المداين) هارباً ينجو بنفسه من الفتح الإسلامي، أخذ معه -وهو في حالة الفرار- ألف طاه، وألف مغنٍّ، وألف قيم للنمور، وألف قيم للبزاة، وحاشية أخرى، وكان يستقل هذا العدد، ويعتبر نفسه لاجئاً فقيراً، ويتصور أنه في حالة يرثى لها من قلة الحاشية، وفقدان أسباب الترفيه والتسلية (¬5)! هذا بجانب ما كان يعانيه الشعب من بؤس وشقاء، وتعب وعناء، وتذمر وبكاء، فكان أفراد هذا الشعب في جهد من العيش للحصول على ما يسد ¬

_ (¬1) إيران في عهد الساسانيين: 339. (¬2) اقرأ المرجع السابق: 161 - 162. (¬3) راجع تاريخ الطبري: 4: 178. (¬4) راجع تاريخ إيران: شاهين مكاريوس: 90 ط. 1898 م. (¬5) راجع إيران في عهد الساسانيين: 681.

7 - {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله}

رمقهم، ويستر عورتهم، يرزحون تحت أثقال الضرائب والإتاوات، ويرسفون في القيود والأغلال، ويعيشون عيش البهائم، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم، أو دخلوا الأديرة فراراً من الضرائب، والخدمة العسكريّة (¬1)، وكانوا وقوداً حقيراً في حروب طاحنة مدمرة، قامت في فترات من التاريخ, ودامت سنين طوالاً بين المملكة الشرقيّة الساسانيّة والمملكة الغربيّة البيزنطيّة، لا مصلحة للشعب فيها ولا رغبة (¬2)! ولا نتحدث عن المجوسيّة، والبوذيّة، والهندكيّة، وغير ذلك مما كان منتشراً في هذا العصر الجاهلي، حتى لا يطول بنا الحديث! وحسبنا ما ذكرنا من الحديث عن الإمبراطوريّة الإيرانيّة كنموذج؛ لأنها كانت الإمبراطوريّة المقابلة للإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة! 7 - {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}: قال تَعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة]! وفي هذا بيان ضلال عقيدة أهل الكتاب، وأنها تضاهئ عقيدة المشركين من العرب، والوثنيّين من قدامى الرومان وغيرهم، وأنهم لم يستقيموا على ¬

_ (¬1) راجع المصدر السابق. (¬2) راجع المصدر السابق: مملكة الشرق ومملكة الغرب: 269 - 333.

العقيدة الصحيحة التي جاءت بها كتبهم، فلا عبرة إذن بأنهم أهل كتاب، وهم يخالفون في الاعتقاد والأصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم! ومن قرأ كتب اليهود والنصارى رأى فيها لقب (ابن الله) قد أطلق (¬1) على آدم (انظر إنجيل لوقا: 3: 38) وعلى يعقوب، وداود، مع لقب البكر (انظر سفر الخروج: 4: 22، 23، والمزمور: 98: 26، 27) وكذلك على أفرام (انظر نبوة أرمياء: 31: 9)، وعلى المسيح، ولكن مع لقب الحبيب، وأطلق مجموعاً على الملائكة، وعلى المؤمنين الصالحين، وهذا الاستعمال كثير في العهد الجديد، ومنه ما حكاه متى في وعظ المسيح على الجبل (5: 9 طوبى لصانعي السلام؛ لأنهم أبناء الله يدعون)! وقال بولس في رسالته إلى أهل رومية: (8: 14 لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله)! وجاء في سياق المناظرة بين المسيح واليهود من إنجيل يوحنا ما نصه: (8: 41 أنتم تعلمون أعمال أبيكم، فقالوا له: إننا لم نولد من زنى، لنا أب واحد، وهو الله: 42 فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبوني -إلى أن قال-: 44 أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا)! وفي هذا المعنى ما جاء في الرسالة الأولى من رسالتي يوحنا: (3: 9 كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيئة؛ لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ؛ لأنه مولود من الله 10 بهذا أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس)! وقال جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس (¬2): (الله) اسم خالق ¬

_ (¬1) تفسير المنار: 6: 314. (¬2) المرجع السابق: 10: 332 وما بعدها بتصرف.

جميع الكائنات، والحاكم الأعظم، على جميع العوالم، والمعطي كل المواهب الحسنة، و (الله) "روح غير محدود، أزلي غير متغير في وجوده وحكمته وقدرته وقداسته وعدله، وجودته وحقه" وهو يظهر لنا بطرق متنوعة، وأحوال مختلفة، في أعماله وتدبير عنايته (رو: 1: 20) ولا سيما في الكتب المقدسة، حيث يتجلى غاية التجلي في شخصيّته وأعمال ابنه الوحيد المخلص يسوع المسيح .. ثم قال: "طبيعة الله" عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر (مت 28: 19، 2 كو 13: 14) الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن (مز 33: 6، وكو 1: 16، وعب: 201) وإلى الابن الفدى، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهيّة على السواء، أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم، كما هي في العهد الجديد، وقد أشير إلى هذا الأمر في تك ص 1 حيث ذكر (الله) و (روح الله) (قابل مز 33: 6، ويو: 1: 1، 3) والحكمة الإلهيّة المشخصة (أم ص 8) تقابل (الحكمة) في (يو ص 1) وربما تشير إلى الأقنوم الثاني. وتطلق نعوت القدير على كل أقنوم من هذه الأقانيم على حدته .. ثم قال: وهذا اللقب يدل على طبيعة المسيح الإلهيّة، كما أن القول بأنه (ابن الإنسان) يدل على طبيعته البشريّة، والمسيح هو ابن الله الأزلي، والابن الوحيد (قابل يو 1801 , 5: 19 - 26 , و 9: 35: 38، ومت 11: 27، 16، 21: 37 وآيات أخرى غير هذه في الرسائل) ومع أن المسيح يأمرنا بأن ندعو الله (أبانا) فهو لا يدعوه كذلك، إنما يدعوه (أبي) وذلك إيماء لما هنالك من الألفة العظيمة، والعلاقة الشديدة الكائنة بينهما، مما تفوق علاقته كل علاقة بشريّة،

وإشارة إلى أننا نحن أولاده ليس على سبيل البنوة التي للمسيح ربنا، من قبيل البنوة التي أنعم علينا بها بواسطة التبني والتجديد) ا. هـ بحروفه! وقد ناقش صاحب المنار - رحمه الله - هذه الأقوال وفندها (¬1)! وقال (¬2): والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي، وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيّين، والغنوسطيّين، فإن (ثيوفيلوس) أسقف أنطاقية في القرن الثاني استعمل كلمة (ثرياس) باليونانيّة، ثم كان (ترتليانوس) أول من استعمل كلمة (ترينيتاس) باليونانيّة، ثم كان (ترتليانوس) أول من استعمل كلمة (ترينيتاس) المرادفة لها، ومعناها (الثالوث)! وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم، وعلى الخصوص في الشرق، وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها (أراتيكيّة) (¬3)، ومن جملتها (آراء الأبيونيّين) الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض، و (السابيليّن) الذين كانوا يعتقدون أن الآب، والابن، والروح القدس إنما هي صور مختلفة، أعلن بها الله نفسه للناس، و (الآريوسيّين) الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزليًّا كالأب؛ بل هو مخلوق منه قبل العالم، ولذلك هو دون الأب، وخاضع له، و (المكدونيّين) الذين كون الروح القدس أقنوما! ¬

_ (¬1) انظر تفسير المنار: 10: 334 وما بعدها. (¬2) المرجع السابق: 329 وما بعدها بتصرف. (¬3) المراد بالأراتيكية: المبتدعة، من الأرتقة، والأشهر: الهرتقة، وبعضهم يقول: هرطقة، بقلب التاء طاء، وأصله تفخيمها.

وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينيّة سنة 381 وقد حكما بأن الابن، والروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضاً، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم، قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون، حاسبة ذلك بدعة! وعبارة (ومن الابن أيضاً) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانيّة والكاثوليكيّة، وكتب اللوثريّين والكنائس المصلحة أبقت تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيّين، وعدة طوائف جديدة، كـ (السوسينيانيّين)، و (الجرمانيّن)، و (العموميّين)، وغيرهم .. حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق (سويدنبرغ الثالوث) على أقنوم المسيح، معلماً بثالوث، ولكن لا ثالوث الأقانيم، بل ثالوث الأقنوم، وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهبي العقليين في الكنائس اللوثيريّة، والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيّين الجرمانيّين! وقد ذهب (كنت) إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على صفات أساسية في اللاهوت، وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عليا، وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من (هيجين) و (شلنغ) أن يجعلا

لتعليم الثالوث أساساً تخيلياً، وقد اقتدى بهما اللاهوتيون الجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة عن تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية، وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق، كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة لعضد أراء السابيليين على الخصوص. اهـ! من هذا العرض المجمل المفيد، نرى أن هؤلاء لا يدينون دين الحق! ونرى التعقيب القرآني، الذي بدأنا به حديثنا على قول {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وقول النصارى {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} يثبت أنهم في هذا يماثلون قول الذين كفروا من قبلي ومعتقداتهم وتصوراتهم: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}! فهو أولا يثبت (¬1) أن هذا القول صادر منهم، وليس مقولاً عنهم، ومن ثم يذكر (أفواههم) لاستحضار الصورة الحسيّة الواقعيّة -على طريقة القرآن في التصوير- إذ إنه مفهوم أن قولهم يكون بأفواههم، فهذه الزيادة ليست لغواً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وليست إطناباً زائداً، إنما هي طريقة التعبير القرآنية التصويرية، فهي التي تستحضر صورة القول، وتحيلها واقعية، وكأنها مسموعة مرئية! وذلك فضلاً على ما تؤديه من معنى بياني آخر -إلى جانب إحياء الصورة وإثباتها-، وهو أن القول لا حقيقة له في عالم الواقع، إنما هو مجرد قول بالأفواه ليس وراءه موضوع ولا حقيقة! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1640 بتصرف.

وهو ثانياً يثبت جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، يدل على مصدره الرباني، ذلك قوله جل شأنه: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}! ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية: إن المقصود بها أن قولتهم بنبوة أحد لله، تماثل قول المشركين العرب بنبوة الملائكة لله، وهذا صحيح، ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى، ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثاً، بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند، ومصر القديمة، والإغريق. . مما اتضح مع أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب -وبخاصة النصارى- وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم (بولس) أولاً، ثم إلى تعليم المجامع أخيراً! إن الثالوث المصري المؤلف من (أوزوريس)، و (إيزيس)، و (حورس) هو قاعدة الوثنية الفرعونية، و (أوزوريس) يمثل الأب، و (حورس) يمثل الابن في هذا الثالوث! وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة (الكلمة هي الإله الثاني) ويدعى أيضاً (ابن الله البكر)! والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم، أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله (برهما) في حالة الخلق والتكوين، و (فشنو) في حالة الحفظ والقوامة، و (سيفا) في حالة الإهلاك والإبادة .. وفي هذه العقيدة، أن (فشنو) هو (الابن) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في (برهما)! وكان الأشوريّون يؤمنون بالكلمة، ويسمونها (مردوخ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر!

8 - الجزيرة العربية

وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم، وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصبع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات، إشارة إلى التثليث، وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية، وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل! ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى -التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن- مع هذا النص القرآني: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ}! كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح تبين كذلك جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، بالدلالة على مصدره، وأنه من لدن عليم خبير! وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك بقول الله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)}! قاتلهم الله! كيف يصرفون عن الحق الواضح البسيط، إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدي عقل أو ضمير؟! 8 - الجزيرة العربية: أما العرب فساءت أخلاقهم، وأولعوا بالخمر والقمار (¬1)، وبلغت بهم القساوة والحمية المزعومة إلى أن وأد بعضهم البنات، وشاعت فيهم الغارة وقطع الطريق على القوافل، وسقطت منزلة المرأة، فكانت تورث كما يورث ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: الندوى: 40 وما بعدها بتصرف.

9 - أوروبا

المتاع أو الدابة، ومن المأكولات ما هو خاص للذكور محرم على الإناث، وكان يسوغ للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء من غير تحديد، ومنهم من كان يقتل أولاده خشية الإنفاق، وخوف الفقر والإنفاق! وكانت العصبية القبلية والدموية شديدة جامحة، وأغرموا بالحرب حتى صارت مسلاة لهم وملهى، وهانت عليهم إراقة الدماء فتثيرها حادثة تافهة، وتدوم أربعين سنة، ويقتل فيها ألوف من الناس! 9 - أوروبا: أما الأمم الأوروبية -المتوغلة في الشمال والغرب- فكانت تعيش في ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية، وكانت بعيدة عن جادة قافلة الحياة الإنسانية، والعلوم والآداب، لا شأن للعالم بها ولا شأن لها بالعالم! كانت أجسامهم قذرة، ورؤوسهم مملوءة بالأوهام، وكانوا يزهدون في النظافة واستعمال الماء، ويغالي الرهبان منهم في تعذيب الأجسام، والفرار من الإنسان (¬1)، وكانوا يبحثون في المرأة أهي حيوان أم إنسان؟ ولها روح خالدة أم ليست لها روح خالدة، وأن لها حق الملكية، والبيع والشراء، أم ليس لها شيء من ذلك؟! يقول Robert Briffault : (لقد أطبق على أوروبا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً، وقد كانت همجية ذلك العهد أشد ¬

_ (¬1) انظر كتاب: (تاريخ الأخلاق الأوروبية): 2: باب: (من قسطنطين إلى شارلمان): لمؤلفه Lecky.

10 - ظلام مطبق وليل دامس

هولاً، وأفظع من همجيّة العهد القديم لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت، وقد انطمست معالم هذه الحضارة، وقُضي عليها بالزوال، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي، كإيطاليا، وفرنسا، فريسة الدمار والفوضى والخراب) (¬1)! 10 - ظلام مطبق وليل دامس: كان عالماً متداعياً قد شارف النهاية (¬2)، خلاصة ما يقال فيه: إنه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام، فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر! طمأنينة الباطن قد تنشأ من الركون إلى قوة في الغيب، تبسط العدل، وتحمي الضعيف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور! وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخيف المبطلين! بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل العقيم الذي أصبح بعد ذلك علماً عليها، وتضاءلت سطوتها في البر والبحر، حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها! وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس، وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات! والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الماديّة تارة، ومن الهمجيّة تارة، وبين ما هو ضرب من عبادة الأوثان، ثم هي بعد هذا التشويه ليست بذات ¬

_ (¬1) The Making of Humanity, P. 164 (¬2) عبقرية محمد: العقاد: 12 بتصرف، دار الشعب.

رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ, فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات! كان عالماً يتطلع إلى غير حاله، يتهيّأ للتبديل أو الهدم، ثم للبناء! كان القرن السادس المسيحي من أحط أدوار التاريخ, ومن أشدها ظلاماً ويأساً، من مستقبل الإنسانيّة وصلاحيتها للبقاء والازدهار! وقد أحسن المؤلف الإنجليزي (هـ. ج. ولس H.G. Wells) تصوير هذا العصر فقال وهو يبحث الظروف السائدة في عهد الحكومتين: الساسانيّة، والبيزنطيّة، في القرن السادس للميلاد: (كانت العلوم والفلسفة والسياسة في حالة احتضار في عهد هذين النظامين المتحاربين، والمتجهين إلى الانحطاط، فقد كان الجيل الأخير من فلاسفة أثينا عاضاً على المؤلفات الأدبيّة العتيقة بالنواجذ، بكل احترام وحب، ولو بدون فهم لها، فلما انقرض هذا الجيل، لم تبق طبقة ولا أفراد أحرار شجعان، يتزعمون حريّة الفكر، وحريّة التعبير، ولا الذي يحتفظون -على الأقل -بتراث فكر حر، وبحث نزيه جدي، على دأب القدماء والسابقين لهم، وبجانب ما كان للفوضى السياسيّة والاجتماعيّة من دور كبير على مثل هذه الطبقة، كان من العوامل التي ساعدت على شلل الفكر الإنساني، وتجمد القرائح البشريّة، أن هذا العصر كان عصر العصبية وعدم التسامح في ظلام الحكومتين: الإيرانيّة، والبيزنطيّة، فقد كانت هاتان الحكومتان دينيتين نوعاً ما، وكانتا قد فرضتا قيوداً على العقل البشري)! وبعدما قص الكاتب قصة زحف الإمبراطوريّة الإيرانيّة على الإمبراطوريّة البيزنطيّة، ثم انتصار البيزنطيّين على الإيرانيّين، في شيء من التوسع، عاد

إلى وصف التدهور الاجتماعي والخلقي السائد في أواخر القرن السادس المسيحي، فقال: (كان يسوغ لمتتبع -غير محنك ناضج الفكر- للأوضاع السائدة في أوائل القرن السابع المسيحي، أن يتنبأ بسهولة وثقة أن أوروبّا وآسيا ستقعان تحت رحمة المغول الوحوش في غضون بضعة قرون قادمة، فلم تكن في أوروبّا الغربيّة أمارات للأمن والنظام وحكم القانون، وقد كانت المملكتان: البيزنطيّة، والإيرانيّة مشغولتين في حرب إبادة وتدمير، بينما كانت الهند في حالة توزعّ ويؤس) (¬1)! وبالجملة فقد كانت الإنسانية حينئذ في طريق الانتحار (¬2)، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وفقد قوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، وكان الناس في شغل شاغل، وفكر ذاهل، لا يرفعون إلى الدّين والآخرة رأساً، ولا يفكرون في الروح والقلب، والسعادة الأخروية وخدمة الإنسانية، وإصلاح الحال لحظة! وهنا نبصر القرآن الكريم يكشف عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم، ويبين أن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها براً وبحراً بهذا الفساد، ويجعله مسيطراً على أقدارها، غالباً عليها: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} [الروم]! فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثاً، ولا يقع مصادفة (¬3)! ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: الندوي: 42 - 43 نقلاً عن: A short History of the world (London, 1924) P. 140 - 41 , 144 . (¬2) المرجع السابق: 44. (¬3) انظر: في ظلال القرآن: 5: 2773.

11 - {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}

11 - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}: وإذا كانت الصحف السابقة لم يتكفّل الله بحفظها -كما عرفنا- وأنه قد ثبت التحريف تاريخيًّا وتواتر، وأقرت به الأمم والطوائف انتي نزلت فيها هذه الصحف، وأن هناك شواهد كثيرة على ذلك، فإن منهجيّة البحث تدفعنا إلى بيان السر في ذلك، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد تكفل بحفظ القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر]! والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد (¬1)، وأن هذا القرآن الكريم جيء به مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليها، فكان جامعاً لما فيها من الحقائق الثابتة، زائداً عليها بما شاء الله زيادته، وسادًّا مسدّها, ولم يكن شيء منها ليسدَّ مسدّه، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمراً يسر له أسبابه، وهو العليم الحكيم! وهنا نبصر القرآن الكريم يختلف كل الاختلاف عن جميع الكتب السماوية، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت]! ونبصر الحديث عن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم (¬2)، ولا يذكر ماذا هم، ولا ماذا سيقع لهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ}! ¬

_ (¬1) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: دكتور محمد عبد الله دراز: 13 ط. ثانية، 1390 هـ 1970 م. (¬2) في ظلال القرآن: 5: 3126 بتصرف.

كأنما ليقال: إن فعلتهم لا يوجد وصف ينطبق عليها ويكافئها لشدة بشاعتها! لذلك يترك النص خبر (إن) لا يأتي به، ويمضي في ذكر الذكر، وهو القرآن الذي كفروا به، لتفظيع الفعلة وتبشيعها: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}! وأنى للباطل أن يدخل على هذا الكتاب، وهو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- الذي تكفل بحفظه، يصدع بالحق، ويتصل بالحق الذي تقوم عليه السموات والأرض؟ وأنى يأتيه الباطل وهو عزيز محفوظ بأمر الله الذي تكفل بحفظه، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}! والمتدبّر لهذا القرآن يجد فيه ذلك الحق الذي نزل به، والذي نزل ليقره .. يجده في روحه، ويجده في نصه .. يجده في بساطة ويسر، حقاً مطمئناً فطرياً، يخاطب أعماق الفطرة، ويؤثر فيها التأثير العجيب! إنه عزيز منيع محمي بحماية الله تعالى، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتطرق إليه ولا يجد إليه سبيلاً من جهة من الجهات، حتى يصل إليه، ويتعلق به، ولا يخدعنك طعن الطاعنين وتأوُّلُ المبطلين؛ فإن الله قد حفظه بأن قيض قوماً عارضوهم بإبطال تأوليهم، وإفساد أقاويلهم، ومن ثم لا يخلو طعن طاعن إلا ممحوقاً، وقول مبطل إلا مضمحلاً (¬1)! وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}! ¬

_ (¬1) تفسير الكشاف: 3: 393 بتصرف.

والحكمة ظاهرة في بنائه، وفي توجيهه، وفي طريقة نزوله، وفي علاجه للقلب البشري من أقصر طريق، والله الذي نزله خليق بالحمد .. وفي القرآن ما يستجيش القلب لحمده الكثير! وننظر اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر (¬1)، فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانيّة هذا الكتاب -إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة- ونرى الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون، ما كان يمكن أن تتركه مصوناً محفوظاً لا تتبدل فيه كلمة، ولا تُحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف! لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق، وكثر فيه النزاع، وطمت فيه الفتن، وتماوجت فيه الأحداث، وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن، وفي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من أهل الكتاب -خاصة- ثم من القوميّين دعاة القوميّة الذين عرفوا بالشعوبيّين! ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما احتاج إلى جهد الكثيرين من أئمة السنة وعلمائها, لمعرفة المقبول من المردود! كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤوّل المعاني، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات، ولكن كان لها بالمرصاد حماة هذا الدين! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2127 بتصرف.

بيد أنها عجزت -وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطراباً- أن تحدث حديثاً واحداً في نصوص هذا الكتاب المحفوظ، وبقيت نصوصه كما أنزلها الله، حجة باقية على كل محرّف وكل مخرّف وكل مؤول، وحجة باقية كذلك على ربانيّة هذا الذكر المحفوظ! ثم جاء على المسلمين زمان -ما نزال نعانيه- ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم، وعن حماية عقيدتهم، وعن حماية نظامهم، وعن حماية أرضهم، وعن حماية أعراضهم وأخلاقهم، وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم .. كل منكر من العقائد والتصورات، ومن القيم والموازين، ومن الأخلاق والعادات، ومن الأنظمة والقوانين .. وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص (الإنسان) وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان، وأحياناً إلى حياة دون حياة الحيوان .. ووضعوا لهم الشر كله تحت عناوين براقة من (التقدم)، و (التجديد) إلى آخر تلك الشعارات والعناوين، وأصبح البعض غثاء كغثاء السيل، لا يمنع ولا يدفع، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقوداً للنار، وهو وقود هزيل! ولكن أعداء هذا الدين -بعد هذا كله- لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها, ولم يكونوا في هذا من الزاهدين، فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان في مقدورهم، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تُنال! ولقد بذل أعداء هذا الدين -وفي مقدمتهم اليهود- رصيدهم من تجارب أربعمائة وألف سنة أو تزيد في الكيد لهذا الدين، وقدروا على أشياء كثيرة ..

قدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع الإسلامي، ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون .. وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين .. وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد، ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلاميّة على مدار القرون، وبخاصة في العصر الحديث! ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد -والظروف الظاهرية كلها مهيّأة- لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه، وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا ينفع ولا يدفع ولا يمنع .. فدل هذا مرة أخرى على ربانيّة هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقًّا تنزيل من حكيم حميد! لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هكذا .. أما اليوم -من وراء كل تلك الأحداث الضخام، ومن وراء تلك القرون الطوال- فهو المعجزة الشاهدة بربانيّة هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول! وإذا كنا قد عرفنا أن الكتب السماويّة قد أصابها التحريف والتزييف، والتبديل والتخريف، فإن الانحطاط قد بلغ غايته في العالم يومئذ: في الدولة الرومية الشرقية، وفي مصر ذات النيل السعيد، والخصب المزيد! والحبشة التي لم تكن بذات روح ولا طموح! والأمم الأوروبيّة المتوغلة في الشمال والغرب، التي كانت تتسكع في ظلام الجهل والخرافة، والأميّة الفاشية، والحروب الدامية، ولم ينبثق فيها فجر الحياة بعد، ولم تظهر على مسرحها الأندلس الإسلاميّة، لتؤدي رسالتها في العلم

والمدنيّة، وكانت بمعزل عن جادة قافلة الحضارة الإنسانية بعيدة عنها، وأطبق عليها ليل حالك، وازداد هذا الليل ظلاماً وسواداً! ولم يكن اليهود عاملاً من عوامل الدين يؤثر في غيرهم، بل قُضي عليهم منذ قرون طويلة أن يكونوا مصدر بلاءً وشقاء، وقد أورثهم تاريخهم وما تفردوا به من أمم الأرض من العنصريّة والجشع، والأنانيّة والطمع، نفسيّة غريبة، لم توجد في أمة من الأمم، وانفردوا بخصائص خلقيّة كانت لهم شعاراً على تعاقب الأحوال والأجيال، منها الخنوع عند الضعف، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة، وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله! ونجد فارس التي شاطرت الروم في حكم العالم آنذاك، ونبصر أخلافاً هدّهم الغلول والطمع، والانحراف والجشع، ونرى أساس الأخلاق مضطرباً مائجاً منذ عهد عريق في القدم، لدرجة أن (يزدجرد الثاني) الذي حكم في أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بنته ثم قتلها، وأن (بهرام جويين) الذي تملك في القرن السادس كان متزوجاً بأخته (¬1)، وكان تقديس الأكاسرة مظهراً من المظاهر العامة؛ لأنهم كانوا يدّعون أن دماً إلهيًّا يجري في عروقهم! أما الهند فقد اتفقت كلمة المؤرخين في تاريخها على أن أحط أدوارها عقيدة وخلقاً واجتماعاً ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، فقد ساهمت الهند جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي، الذي شمل الكرة الأرضيّة في هذه الحقبة من الزمن، وأخذت نصيباً غير منقوص من ¬

_ (¬1) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 47 وما بعدها، وتاريخ الطبري: 3: 138.

هذا الظلام الذي مد رواقه على المعمورة، وامتازت عنها في ظواهر وخلال يمكن تلخيصها في ثلاث: الأولى: كثرة المعبودات والآلهة كثرة فاحشة! الثانية: الشهوات الجنسيّة الجامحة! الثالثة: التفاوت الطبقي المجحف، والامتياز الاجتماعي الجائر! وقد بلغت الوثنيّة أوجها في هذا القرن، كما بلغ الفساد الأخلاقي مبلغه، حيث كانوا يعبدون آلة التناسل لمعبودهم (مهاديو) وكانوا يعبدون النساء العاريات، والنساء يعبدن الرجال العراة، وكان كهنة المعابد الخونة والفساق يرزؤون الراهبات والزائرات، وإذا كان هذا شأن البيوت التي أقيمت للعبادة فما ظنك ببلاط الملوك وقصور الأغنياء؟! أما العرب فقد عرفت عنهم الوثنية الجاهليّة، والأدواء الخلقيّة، والعصبيّة القبليّة، وكانوا يعيشون في جاهليّة جهلاء، وفوضى عمياء! أرأيت كيف كانت الإنسانيّة في الاحتضار؟! أرأيت عالماً قد خيّم عليه الجحود والكنود، والفسوق والعقوق، كهذا العالم الذي طفنا حوله في هذه العُجالة؟! حقًّا، إنه عالم يضطرب في رق المادة، وعبوديّة الشهوة، وسلطان البطش، ليس للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسمو معنى في نفسه، كان حيوانيًّا شهوته الغلب، ماديًّا غايته الجشع، أنانيًّا شريعته الطمع، شيطانيًّا سبيله الهوى، ومآله الردى!

12 - الحاجة إلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

12 - الحاجة إلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وقد كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليه الإنسان في منتصف القرن السادس الميلادي (¬1)، أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون من أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر! ولكن القضيّة كانت قضيّة إزالة أنقاض جاهليّة، ووثنيّة تخريبيّة، تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلّمين، وإقامة بناء شامخ مشيّد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويُؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام]! وهنا نبصر تصوير طبيعة الهدى وطبيعة الإيمان في تعبير قرآني معجز عن حقيقة واقعيّة، وما يبدو فيها من تشبيه ومجاز إنما هو لتجسيم هذه الحقيقة في الصورة الموحية المؤثرة (¬2)! إن نوع الحقيقة هنا هو الذي يقتضي هذه الإيقاعات التصويريّة، فهي حقيقة، نعم. ولكنها حقيقة روحيّة فكريّة، حقيقة تُذاق بالتجربة، ولا تملك ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: الندوي: 64. (¬2) في ظلال القرآن: 3: 1200 بتصرف.

العبارة إلا أن تستحضر مذاق التجربة، ولكن لن ذاقها فعلاً! إن هذه العقيدة تنشئ في القلب حياة بعد الموت .. وتطلق فيه نوراً بعد الظلمات .. حياة يعيد بها تذوق كل شيء، وتصور كل شيء، وتقدير كل شيء بحسّ آخر لم يكن يعرفه قبل هذه الحياة .. ونوراً يبدو كل شيء تحت أشعّته وفي مجاله جديداً، كما لم يبد من قبل قط لذلك القلب الذي نوّره الإيمان! هذه التجربة لا تنقلها الألفاظ، يعرفها فقط من ذاقها، والعبارة القرآنيّة هي أقوى عبارة تحمل حقيقة هذه التجربة؛ لأنها تصورها بألوان من جنسها ومن طبيعتها! إن الكفر انقطاع عن الحياة الأزليّة الأبديّة، التي لا تفنى ولا تغيض ولا تغيب! هو موت .. وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الوجود كله .. هو موت .. وانطماس في أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية .. هو موت! والإيمان اتصال، واستمداد، واستجابة .. فهو حياة! إن الكفر حجاب للروح عن الاستشراف والاطلاع .. فهو ظلمة .. وختم على الجوارح والمشاعر .. فهو ظلمة .. وتيه في التيه والضلال .. فهو ظلمة! وإن الإيمان تفتّح ورؤية، وإدراك واستقامة .. فهو نور بكل مقومات النور! إن الكفر انكماش وتحجر .. فهو ضيق .. وشرود عن الطريق الفطري الميسر .. فهو عسر .. وحرمان من الاطمئنان إلى الكنف الآمن .. فهو قلق! وإن الإيمان انشراح وشر وطمأنينة وظل ممدود!

وما الكافر؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها في تربة هذا الوجود ولا جذور .. إن هو إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود، لا تربطه به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود .. في أضيق الحدود. في الحدود التي تعيش فيها البهيمة .. حدود الحسّ وما يدركه الحسّ من ظاهر هذا الوجود! إن الصله بالله، والصلة في الله، لتصل الفرد الفاني بالأزل القديم والأبد الخالد .. ثم تصله بالكون الحادث والحياة الظاهرة .. ثم تصله بموكب الإيمان والأمة الواحدة الضاربة في جذور الزمان .. الموصولة على مدار الزمان .. فهو في ثراء من الوشائج، وفي ثراء من الروابط، وفي ثراء من الوجود الزاخر الممتد اللاحب، الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق هذا الدين، ويتكشف له منهجه في العمل والحركة، تكشفاً عجيباً! إنه مشهد رائع باهر، هذا الذي يجده الإنسان في قلبه حين يجد هذا النور .. مشهد التناسق الشامل العجيب في طبيعة هذا الدين وحقائقه .. ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته! إن هذه الرسالة التي حملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبصرنا بأن هذا (الدّين القيّم) يبدو تصميماً واحداً متراكباً متناسقاً .. يبدو حيًّا يتجاوب مع الفطرة، وتتجاوب معه في ألفة عميقة وفي صداقة وثيقة، وفي حب ودود! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق الوجود، وحقائق الحياة، وحقائق الناس، وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون، وتجري في عالم الناس .. تتكشف له في مشهد كذلك رائع باهر .. مشهد السنة

الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم، ولكنه فطري ميسر .. ومشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل، وهي من ورائها محيطة طليقة .. ومشهد الناس والأحداث، وهم في نطاق النواميس، وهي في هذا النطاق أيضاً! ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، حين يبصر معالم الرسالة وعظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيجد الوضوح في كل شأن، وفي كل أمر، وفي كل حدث! يجد الوضوح في نفسه، وفي نواياه وخواطره وخطئه وحركته! ويجد الوضوح فيما يجري حوله، سواء من سنة الله النافذة، أو من أعمال الناس ونواياهم، وخططهم المستترة والظاهرة! ويجد تفسير الأحداث والتاريخ, في نفسه وعقله، وفي الواقع من حوله، كأنه يقرأ من كتاب! ويجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه! ويجد الراحة في باله وحاله ومآله! ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها، وفي استقبال الأحداث واستدبارها! ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين! وهكذا يصور القرآن الكريم تلك الحقيقة بإيقاعاته الموحية: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}! وهنا نبصر قضية اقتلاع جرثومة الفساد، واستئصال شأفة الوثنيّة،

واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخاً، لا تصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية، وانتصار للحق، يتغلّب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف بكل مقاومة .. وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانيّة المنتحرة التي استجمعت قواها للتوثب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق، أولُها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون، وآخرها جنة الخلد الذي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قول الله تعالى في معرض المن ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -! {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران]! كذلك كانوا قبل هذه الرسالة، قبل أن يُرسل الله خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن ينفخ الإيمان في قلوبهم فيُحييها، ويطلق فيها هذه الطاقة الضخمة من الحيويّة والحركة والتطلع والاستشراف! كانت قلوبهم مواتاً! وكانت أرواحهم ظلاماً! ثم إذا قلوبهم تتفتّح للإيمان فتهتز، وإذا أرواحهم يشرق فيها النور فتضيء، ويفيض منها النور فتمشي به في الناس، تهدي الضال، وتلتقط الشارد، وتطمئن الخائف، وتحرر المستعبد، وتكشف معالم الطريق للبشر، وتعلن في الأرض ميلاد الإنسان الجديد .. الإنسان المتحرر المستنير، الإنسان الذي خرج بعبوديته لله من عبودية العبيد!

أفمن نفخ الإيمان في روحه الحياة، وأفاض الحق على قلبه النور، كمن حاله في الظلمات، لا مخرج له منها؟! إنهما عالمان مختلفان، شتان بينهما شتان! حقًّا، إنه لم يعرف في تاريخ البشريّة كله عمل أدق وأعقد، ومسؤوليّة أعظم وأضخم، من مسؤوليّة محمد - صلى الله عليه وسلم - كنبي مرسل، كما أنه لم يعرف غرس أثمر مثل غرسه، وسعي تكلّل بالنجاح مثل سعيه! وهكذا قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -! وقالت حقائق التاريخ: لقد كان خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - هو صاحب تلك الرسالة! ولا كلمة لقائل بعد شهادة حوادث الكون، وحقائق التاريخ, ونزول الوحي!

بشارات النبوة

بشارات النبوّة

بشارات النبوّة 1 - البشارة الأولى: عشرة أوجه 2 - البشارة الثانية 3 - البشارة الثالثة 4 - البشارة الرابعة 5 - البشارة الخامسة 6 - رواية البخاري وغيره لصفات النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة 7 - أشهر أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - 8 - أسماؤه في الشعر 9 - ميثاق النبيين 10 - القرآن يسجّل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

تمهيد

بشارات النبوّة تمهيد: قال الماوردي (¬1): (إن لله تعالى عوناً على أوامره، وإغناء عن نواهيه، فكان أنبياء الله تعالى معانين على تأسيس النبوّة بما تقدّمه من بشائرها، وتُبديه من أعلامها وشعائرها, ليكون السابق مبشّراً ونذيراً، واللاحق مصدّقاً وظهيراً، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدّمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، مما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه تعالى على غيبه، ليكون عوناً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحثاً على القبول)! ثم سرد الماوردي البشائر من نصوص كتبهم: وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه (¬2)! (إن نبينا - عليه الصلاة والسلام - قد بشرت به الأنبياء السالفون، وشهدوا بصدق نبوّته، ووصفوه وصفاً رفع كل احتمال، حيث صرّحت باسمه وبلده، وجنسه وحليته وأطواره وسمته، غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه -يعني من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعاً، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملّة، وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمّى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف، لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات، ليبعد صدقها على النبي - عليه ¬

_ (¬1) أعلام النبوة: 129. (¬2) تفسير القاسمي: 7: 2873.

1 - البشارة الأولى

الصلاة والسلام - فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع اختلافاً لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصده به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم، لانتشار النسخ بالطبع، وتيسر المقابلة بينها)! وجاء في (إظهار الحق) ما نصه (¬1): (إن الإخبارات الواقعة في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - توجد كثيرة إلى الآن أيضاً، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولاً طريق إخبار النبيّ المتقدم عن النبيّ المتأخّر، على ما عرفت في الأمر الثاني -يعني في كلامه- ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلها الإنجيليّون في حق عيسى - عليه السلام - جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة)! وقد نقل صاحب المنار البشارات التالية، وعلق عليها (¬2)! 1 - البشارة الأولى: في الباب الثامن عشر من سفر الاستثناء (التثنية) هكذا: (17 فقال الرب لي نعم جميع ما قالوا 18 وسوف أقيم لهم نبيًّا مثلك من بين إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه، ويكلمهم بكل شيء آمره به 19 ومن لم يطع كلامه الذي يتكلّم به باسمي فأكون أنا المنتقم من ذلك 20 فأما النبيّ الذي يجترئ بالكبرياء ويتكلم في اسمي ما لم آمره بأنه يقوله أم باسم آلهة غيري فليقتل 21 فإن أجبت وقلت في قلبك كيف أستطيع أن أميز الكلام الذي لم يتكلم به الرب 22 فهذه تكون لك آية أن ما قاله ذلك النبي في اسم الرب ولم ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) تفسير المنار: 9: 251 وما بعدها بتصرف.

يحدث فالرب لم يكن تكلم به، بل ذلك النبي صورته في عظم نفسه، ولذلك لا تخشاه)! عشرة أوجه: وهذه البشارة ليست بشارة بيوشع، كما يزعم الآن أحبار اليهود، ولا بشارة بعيسى - عليه السلام - كما زعم علماء بروتستانت، بل هي بشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لعشرة أوجه: الوجه الأول: قد عرفت في الأمر الثالث -أي الذي سبق ذكره في تفسير المنار (¬1) - أن اليهود المعاصرين لعيسى - عليه السلام - كانوا ينتظرون نبيًّا آخر مبشراً به في هذا الباب، وكان هذا المبشّر به عندهم غير المسيح، فلا يكون هذا المبشّر به يوشع، ولا عيسى! الوجه الثاني: أنه وقع في هذه البشارة لفظ مثلك، ويوشع، وعيسى لا يصح أن يكونا مثل موسى عليه السلام! أما أولاً: فلأنهما من بني إسرائيل، ولا يجوز أن يقوم أحد من بني إسرائيل مثل موسى، كما تدل عليه الآية العاشرة من الباب الرابع والثلاثين من سفر الاستثناء (التثنية) وهي هكذا: (10 ولم يقم بعد ذلك نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه) إلخ! وأما ثانياً: فلأنه لا مماثلة بين يوشع وبين موسى؛ لأن موسى - عليه السلام - صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهي، ويوشع ليس كذلك، بل هو متبع لشريعته! ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 235 - 236.

وكذا لا توجد المماثلة التامة بين موسى، وعيسى عليهما السلام؛ لأن عيسى - عليه السلام - كان إلهاً ورباً على زعم النصارى، وموسى - عليه السلام - كان عبد إله، وأن عيسى - عليه السلام - على زعمهم صار ملعوناً لشفاعة الخلق، كما صرح به بولس في الباب الثالث من رسالته إلى (أهل غلاطية)، وموسى - عليه السلام - ما صار ملعوناً لشفاعتهم، وأن عيسى - عليه السلام - دخل الجحيم بعد موته كما هو مصرح به في عقائد أهل التثليث، وموسى - عليه السلام - ما دخل الجحيم، وأن عيسى - عليه السلام - صلب على زعم النصارى ليكون كفارة لأمته، وموسى - عليه السلام - ما صار كفارة لأمته بالصلب، وأن شريعة موسى مشتملة على الحدود والتعزيرات وأحكام الغسل والطهارات والمحرمات من المأكولات والمشروبات، بخلاف شريعة عيسى - عليه السلام - فإنها فارغة منها على ما يشهد به هذا الإنجيل المتداول بينهم، وأن موسى - عليه السلام - كان رئيساً مطاعاً في قومه نفاذاً لأوامره ونواهيه، وعيسى - عليه السلام - لم يكن كذلك! الوجه الثالث: أنه وقع في هذه البشارة لفظ: (من بين إخوتهم) ولا شك أن الأسباط الاثني عشر كانوا موجودين في ذلك الوقت مع موسى - عليه السلام - حاضرين عنده، فلو كان المقصود كون النبي المبشر به منهم لقال منهم لا (من بين إخوتهم)؛ لأن الاستعمال الحقيقي لهذا اللفظ أن لا يكون المبشر به له علاقة الصلبيّة والبطنية ببني إسرائيل، كما جاء لفظ الإخوة بهذا الاستعمال الحقيقي في وعد الله هاجر في حق إسماعيل - عليه السلام - في الآية الثانية عشرة من الباب السادس عشر من سفر التكوين، وعبارتها في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 م هكذا:

(وقبله جميع إخوته بنصب المضارب) وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 م هكذا: (بحضرة جميع إخوته يسكن)! وجاء بهذا الاستعمال أيضاً في الآية الثامنة عشرة من الباب الخامس والعشرين من سفر التكوين في حق إسماعيل في الترجمة العربيّة سنة 1844 م، هكذا: (منتهى إخوته جميعهم سكن)! وفي الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1811 م، هكذا: (أقام بحضرة جميع إخوته)! والمراد بالإخوة هاهنا بنو عيسى، وإسحاق وغيرهم من أبناء إبراهيم - عليه السلام -! وفي الآية الرابعة عشرة من الباب العشرين من سفر العدد هكذا: (ثم أرسل موسى رسلاً من قادس إلى ملك الروم قائلاً: هكذا يقول أخوك إسرائيل إنك قد علمت كل البلاء الذي أصابنا)! وفي الباب الثاني من سفر (التثنية) هكذا: (2 وقال لي الرب 4 ثم أوصى الشعب أنكم ستجوزون في تخوم إخوتكم بني عيسو الذي في ساعير وسيخشونكم 8 فلما جزنا إخوتنا بني عيسو الذين يسكنون ساعير) إلخ! والمراد بإخوة بني إسرائيل بنو عيسو، ولا شك أن استعمال لفظ إخوة بني إسرائيل في بعض منهم كما جاء في بعض المواضع من التوراة استعمال

مجازي، ولا تترك الحقيقة ولا يصار إلى المجاز ما لم يمنع من الحمل على المعنى الحقيقي مانع قوي، ويوشع، وعيسى كانا من بني إسرائيل فلا تصدق هذه البشارة عليهما! الوجه الرابع: أنه قد وقع في هذه البشارة لفظ (سوف أقيم)، ويوشع كان حاضراً عند موسى - عليه السلام - داخلاً في بني إسرائيل نجيًّا في ذلك الوقت -كما يقولون-، فكيف يصدق عليه هذا اللفظ؟! الوجه الخامس: أنه وقع في هذه البشارة: (أجعل كلامي في فمه)، وهو إشارة إلى أن ذلك النبيّ ينزل عليه الكتاب، وإلى أنه يكون أمياً حافظاً للكلام، وهذا لا يصدق على يوشع؛ لانتفاء كلا الأمرين فيه! الوجه السادس: أنه وقع في هذه البشارة: (ومن لم يطع كلامه الذي يتكلم به فأنا أكون المنتقم منه)! فهذا الأمر لما ذكر لتعظيم هذا النبيّ المبشر به، فلابد أن يمتاز ذلك المبشر به بهذا الأمر عن غيره من الأنبياء، فلا يجوز أن يراد بالانتقام من المنكر العذاب الأخروي الكائن في جهنم، أو المحن والعقوبات الدنيوية التي تلحق المنكرين من الغيب؛ لأن هذا الانتقام لا يختص بإنكار نبي دون نبي، بل يعم الجميع، فحينئذ يراد بالانتقام الانتقام التشريعي! فظهر منه أن هذا النبي يكون مأموراً من جانب الله بالانتقام من منكره، فلا يصدق على عيسى - عليه السلام - لأن شريعته خالية عن أحكام الحدود والقصاص والتعزير والجهاد! الوجه السابع: في الباب الثالث من كتاب الأعمال في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 م هكذا:

(19 فتوبوا وارجعوا كي تمحى خطاياكم 20 حتى إذا تأتي أزمنة الراحة من قدام وجه الرب، ويرسل المنادي به لكم وهو يسوع المسيح 21 الذي إياه ينبغي للسماء أن تقبله إلى الزمان الذي يسترد فيه كل شيء تكلم به الله على أفواه أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 أن موسى قال: إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيًّا من إخوتكم مثلي له تسمعون في كل ما يكلمكم به 13 ويكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تهلك من الشعب)! وفي الترجمة الفارسيّة .. (حذفنا النص الفارسي استغناء عنه بما يذكره من مضمونه وهو قوله): فهذه العبارة سيما بحسب التراجم الفارسيّة تدل صراحة على أن هذا النبي غير المسيح - عليه السلام -وأن المسيح لا بد أن تقبله السماء إلى زمان ظهور هذا النبي، ومن ترك التعصب الباطل من المسيحيّين- وتأمّل في عبارة بطرس ظهر له أن هذا القول من بطرس لإبطال ادعاء علماء بروتستانت أن هذه البشارة في حق عيسى عليه السلام! وهذه الوجوه السبعة التي ذكرتها تصدق في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل صدق؛ لأنه غير المسيح، ويماثل موسى - عليه السلام - في أمور كثيرة: 1 - كونه عبد الله ورسوله! 2 - كونه ذا الدين! 3 - كونه ذا نكاح وأولاد! 4 - كون شريعته مشتملة على السياسات المدنيّة! 5 - كونه مأموراً بالجهاد!

6 - اشتراط الطهارة وقت العبادة في شريعته! 7 - وجوب الغسل للجنب والحائض والنفساء في شريعته! 8 - اشتراط طهارة الثوب من البول والبراز فيها! 9 - حرمة غير المذبوح وقرابين الأوثان فيها! 10 - كون شريعته مشتملة على العبادات البدنية والرياضات الجسمانية! 11 - أمره بحد الزنى! 12 - تعيين الحدود والتعزيرات والقصاص! 13 - كونه قادراً على تنفيذها! 14 - تحريم الربا! 15 - أمره بإنكار من يدعو إلى غير الله! 16 - أمره بالتوحيد الخالص! 17 - أمره الأمة بأن يقولوا عبد الله ورسوله، لا ابن الله أو الله، والعياذ بالله! 18 - موته على الفراش! 19 - كونه مدفوناً كموسى! 20 - عدم كونه ملعوناً لأجل أمته! وهكذا أمور أخر تظهر إذا تؤمل في شريعتهما, ولذلك قال الله تعالى في كلامه المجيد: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)} [المزمل]!

وكان من إخوة بني إسرائيل؛ لأنه من بني إسماعيل، وأنزل عليه الكتاب، وكان أميًّا جعل كلام الله في فمه، وكان ينطق بالوحي، كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]! وكان مأموراً بالجهاد، وقد انتقم الله لأجله من صناديد قريش، والأكاسرة والقياصرة وغيرهم، وظهر قبل نزول المسيح من السماء، وكان للسماء أن تقبل المسيح - عليه السلام - إلى ظهوره، ليرد كل شيء إلى أصله، ويمحق الشرك والتثليث وعبادة الأوثان .. ثم قال: الوجه الثامن: أنه صرح في هذه البشارة بأن النبي الذي ينسب إلى الله ما لم يأمره يقتل، فلو لم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً حقًّا لكان قتل، وقد قال الله في القرآن المجيد أيضاً: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)} [الحاقة]! وما قتل، بل قال الله في حقه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]! وأوفى وعده ولم يقدر على قتله أحد، حتى لقي - صلى الله عليه وسلم - الرفيق الأعلى، وعيسى - عليه السلام - قتل وصلب على زعم أهل الكتاب، فلو كانت هذه البشارة في حقه لزم أن يكون نبيًّا كاذباً كما يزعمه اليهود. والعياذ بالله! الوجه التاسع: أن الله بيّن علامة النبي الكاذب، وهي أن إخباره عن الغيب المستقبل لا يخرج صادقاً، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن الأمور الكثيرة المستقبلة كما علمت في المسلك الأول، وظهر صدقه فيها (¬1)، فيكون نبيًّا صادقاً لا كاذباً! ¬

_ (¬1) ظهر صدق بعضها في زمنه كانتصاره على المشركين، ودخوله المسجد الحرام مع المؤمنين =

الوجه العاشر: أن علماء اليهود سلموا كونه مبشراً به في التوراة، لكن بعضهم أسلم، وبعضهم بقي في الكفر! ثم قال: فتلك عشرة كاملة! فإن قيل: إن إخوة بني إسرائيل لا تنحصر في بني إسماعيل؛ لأن بني عيسى وبني أبناء قطورا زوجة إبراهيم عليهما السلام من إخوتهم أيضاً! قلت: نعم هؤلاء أيضاً من إخوة بني إسرائيل، لكنهم لم يظهر أحد منهم يكون موصوفاً بالأمور المذكورة، ولم يكن وعد الله في حقهم أيضاً، بخلاف بني إسماعيل، فإنهم كان وعد الله في حقهم لإبراهيم ولهاجر عليهما السلام، مع أنه لا يصح أن يكون مصداق هذا الخبر بني عيسو على ما هو مقتضى دعاء إسحاق عليه السلام المصرح به في الباب السابع والعشرين من سفر التكوين! ولعلماء بروتستانت اعتراضان نقلهما صاحب الميزان في كتابه المسمى بـ (حل الإشكال في جواب الاستفسار): الأول: أنه وقع في الآية 15 من الباب 18 من سفر الاستثناء (التثنية) هكذا (فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين إخوتك) إلخ! ¬

_ = محلقين رؤوسهم ومقصّرين، وغلب الروم للفرس، وبعضها لأصحابه كفتح مصر وبلاد كسرى وقيصر، وقتل الفئة الباغية لعمار، ولا يزال يظهر الكثير منها عصراً بعد عصر، ومن أغربها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من سيرة كذا وكذا"! مسلم 37 - اللباس (2128) وأحمد: 2: 355 - 356، 440، وأيضاً (8650) تحقيق أحمد محمد شاكر، والبيهقي: 2: 234.

فلفظ من بينك يدل دلالة ظاهرة على أن هذا النبي يكون من بني إسرائيل، لا من بني إسماعيل! والثاني: أن عيسى عليه السلام نسب هذه البشارة إلى نفسه فقال في الآية 46 من الباب الخامس من إنجيل يوحنا: إن موسى كتب في حقي! أقول: آية (التثنية) على وفق التراجم الفارسية وتراجم أردو هكذا (فإن الرب إلهك يقيم من بينك من بين إخوتك نبياً مثلي فاسمع منه)! والقسيس أيضاً نقلها هكذا! والجواب أن اللفظ المذكور لا ينافي مقصودنا؛ لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة، وبها تكامل أمره، قد كان حوله أماكن وجود اليهود كخيبر، وبني قينقاع، والنضير، وغيرهم، فقد قام من بينهم، ولأنه إذا كان من إخوتهم فقد قام من بينهم؛ ولأن قوله من بين إخوتك، بدل من قوله من بينك بدل اشتمال، على رأي ابن الحاجب ومتبعيه القائلين بكفاية علاقة الملابسة غير الكلية والجزئية في تحقق هذا البدل، نحو جاءني زيد أخوه، وجاءني زيد غلامه، وبدل إضراب على رأي ابن مالك، والمبدل منه على كلا التقديرين غير مقصود، يدل على كونه غير مقصود أن موسى - عليه السلام - لما أعاد هذا الوعد من كلام الله في الآية الثامنة عشرة لم يوجد فيه لفظ من بينك، ونقل بطرس الحواري أيضاً هذا القول، ولم يوجد فيه هذا اللفظ كما علمت في الوجه السابع، وكذا نقله استفانوس أيضاً، ولم يوجد في نقله أيضاً هذا اللفظ، كما صرح به في الباب السابع من كتاب الأعمال، وعبارته هكذا (هذا هو موسى الذي قال لبني إسرائيل نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون) فسقوطه في هذه المواضع دليل على كونه غير مقصود، فاحتمال البدل قوي جداً!

وقال صاحب الاستفسار: إن لفظ (من بينك) إلحاقي زِيد تحريفاً، ويدل عليه ثلاثة أمور: الأول: أن المخاطبين في هذا الموضوع كانوا بني إسرائيل كلهم لا البعض، فقوله: من بينك خطاب لجميع القوم، فصار لفظ من إخوتك لغواً محضاً لا معنى له، لكن لفظ من إخوتك جاء في الموضع الآخر أيضاً فيكون صحيحاً، ولفظ (من بينك) إلحاقياً زيد تحريفاً! الثاني: أن موسى عليه السلام لما نقل كلام الله لإثبات قوله لم يوجد فيه هذا اللفظ، ولا يجوز أن يكون ما قال موسى مخالفاً لما قال الله! الثالث: إن الحواريّين كلما نقلوا هذا الكلام لم يوجد فيه لفظ (من بينك)، وإن قلتم إن المحرف إذا حرف فلِمَ لمْ يحرف الكلام كله؟ قلت: نحن نرى في محاكم العدالة دائماً أن القبالجات المحرفة يثبت تحريف الألفاظ المحرفة فيها من مواضع أخرى منها غالباً (¬1)، وأن شهود الزور يؤخذ ببعض بياناتهم، فالوجه الوجيه على أن عادة الله جارية بأنه لا يهدي كيد الخائنين، وبأنه يظهر خيانة خائن الدين بمقتضى رحمته، فبمقتضى هذه العادة يصدر عن الخائن شيء ما تظهر به خيانته، على أنه لا توجد ملة يكون أهلها كلهم خائنين، فالخائنون الذين حرفوا كتب العهدين كان لهم لحاظ ما (¬2)، من جانب بعض المتدينين، فلذلك بدلوا الكل! أقول: هذا الجواب بالنسبة إلى عادة أهل الكتاب كما عرفت في الأمر السابع! ¬

_ (¬1) لعل معنى القبالجات الوثائق والمستندات، ومعنى الجملة أنها على وجود التحريف فيها يحتج ببعض عباراتها على إثبات التحريف فيها و (كذا على غيره). (¬2) لعله أراد أن يقول: كان عليهم عيون ورقباء.

2 - البشارة الثانية

وأقول في الجواب عن الاعتراض الثاني: إن آية الإنجيل هكذا (لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني) وليس فيها تصريح بأن موسى - عليه السلام - كتب في حقه في الموضع الفلاني، بل المفهوم منه أن موسى كتب في حقه (مطلقاً) وهذا يصدق إذا وجد في موضع من التوراة إشارة إليه، ونحن نسلم هذا الأمر كما ستعرف في ذيل بيان البشارة الثالثة، لكننا ننكر أن يكون قوله إشارة إلى هذه البشارة للوجوه التي عرفتها، وقد ادعى هذا المعترض في الفصل الثالث من الباب الثاني من الميزان أن الآية الخامسة عشرة من الباب الثالث من سفر التكوين إشارة إليه! فهذا القدر يكفي لتصحيح قول عيسى - عليه السلام -. نعم لو قال عيسى عليه السلام إن موسى - عليه السلام - ما أشار في أسفاره إلى نبي من الأنبياء إلا إليّ لكان لهذا التوهم مجال في هذه الحال! 2 - البشارة الثانية: الآية 21 من الباب 32 من سفر الاستثناء (التثنية) هكذا (هم أغاروني بغير إله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا أيضاً أغيرهم بغير شعب وبشعب جاهل أغضبهم)! والمراد بشعب جاهل: العرب لأنهم كانوا في غاية الجهل والضلال، وما كان عندهم علم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية، وما كانوا يعرفون سوى عبادة الأوثان والأصنام، وكانوا محقرين عند اليهود، لكونهم من هاجر .. ، فمقصود الآية أن بني إسرائيل أغاروني بعبادة المعبودات الباطلة، فأغيرهم باصطفاء الذين هم عندهم محقرون وجاهلون، فأوفى بما وعد،

فبعث من العربي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهداهم إلى الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة]! وليس المراد بالشعب الجاهل اليونانيّين، كما يفهم من ظاهر كلام مقدّسهم بولس في الباب العاشر من الرسالة الروميّة؛ لأن اليونانيّين قبل ظهور عيسى - عليه السلام - بأزيد من ثلثمائة سنة كانوا فائقين على أهل العالم كلهم في العلوم والفنون، وكان منهم جميع الحكماء المشهورين، مثل سقراط، وبقراط، وفيثاغورس، وأفلاطون، وأرسطو طاليس، وأرشميدس، وبليناس، وأقليدس، وجالينوس، وغيرهم، الذين كانوا أئمة الإلهيّات والرياضيّات والطبيعيّات وفروعها قبل عيسى - عليه السلام - وكان اليونانيون في عهده على غاية درجة الكمال في فنونهم، وكانوا واقفين على أحكام التوراة وقصصها، وعلى سائر كتب العهد العتيق أيضاً بواسطة ترجمة (سبتوجنت) التي ظهرت باللسان اليوناني قبل المسيح بمقدار مائتين وستة وثمانين سنة، لكنهم ما كانوا معتقدين للملة الموسويّة، وكانوا متفحصين عن الأشياء الحكمية الجديدة، كما قال مقدسهم هذا في الباب الأول من الرسالة الأولى إلى أهل قورنيثوس هكذا (22 لأن اليهود يسألون آية واليونانيّين يطلبون حكمة 23 ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونيين جهالة) فلا يجوز أن يكون المراد بالشعب الجاهل اليونايّين، فكلام مقدسهم في الرسالة الروميّة إما مؤول أو مردود -وقد عرفت في الأمر الثامن أن قوله ساقط عن الاعتبار عندنا!

3 - البشارة الثالثة

3 - البشارة الثالثة: في الباب الثاني والثلاثين (¬1)، من سفر (التثنية) في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 م هكذا (2 وقال: جاء الرب من سينا، وأشرق لنا من ساعير (¬2)، واستعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار) (¬3)! فمجيئه من سينا إعطاؤه التوراة لموسى - عليه السلام - وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى - عليه السلام - واستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن؛ لأن فاران جبل من جبال مكة، فقد جاء في بيان حال إسماعيل - عليه السلام - من سفر التكوين (21: 20 وكان الله معه، ونما وسكن في البريّة, وصار شاباً يرمي بالسهام 21 وسكن بريّة فاران، وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر)! ولا شك أن إسماعيل - عليه السلام - كانت سكناه بمكة، ولا يصح أن يراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير ومن فاران أيضاً، فانتشرت في هذه المواضع؛ لأن الله لو خلق ناراً في موضع لا يقال جاء الله من ذلك الموضع إلا إذا اتبع تلك الواقعة وحين نزل في ذلك الموضع أو عقوبة أو ما أشبه ذلك. وقد اعترفوا بأن الوحي أَتبع تلك (النار التي رآها موسى) في طور سيناء فكذا لابد أن يكون في ساعير وفاران! ¬

_ (¬1) هذا الباب هو الأخير من سافر (التثنية)، وفي الآية الأولى منه أن هذه البشارة قالها موسى قبل موته مباركاً بها بني إسرائيل. (¬2) في التراجم الأخيرة سعير، بالكسر، والمراد بها واحد، وفيها زيادة "وأتى من". (¬3) المراد بالسنة الشريعة، وترجمة الجزويت "عن يمينه قبس شريعة لهم" ربوات القدس، وليس فيها ألوف الأطهار.

4 - البشارة الرابعة

4 - البشارة الرابعة: في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين وعد الله في حق إسماعيل عليه السلام إبراهيم - عليه السلام - في الترجمة العربيّة المطبوعة سنة 1844 م، هكذا (وعلى إسماعيل أستجيب لك، هو ذا أباركه وأكبره وأكثره جداً، فسيلد اثني عشر رئيساً، واجعله لشعب كبير)! قوله: أجعله لشعب كبير يشير إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره، وقد قال الله تعالى حاكياً دعاء إبراهيم وإسماعيل في حقه عليهم السلام في كلامه المجيد أيضاً: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة]! وقال الإمام القرطبي في الفصل الأول من القسم الثاني من كتابه: وقد تفطن بعض النبهاء ممن نشأ على لسان اليهود وقرأ بعض كتبهم فقال: يخرج مما ذكر من عبارة التوراة في موضعين اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - بالعدد على ما يستعمله اليهود فيما بينهم! الأول: قوله جدًّا جدًّا بتلك اللغة (بماد ماد) وعدد هذه الحروف اثنان وتسعون؛ لأن الباء اثنان، والميم أربعون، والألف واحد، والدال أربعة، والميم الثانية أربعون، والألف واحد، والدال أربعة، وكذلك الميم من محمد أربعون، والحاء ثمانية، والميم أربعون، والدال أربعة (¬1)! ¬

_ (¬1) يؤيد هذا ما روي عن أحبار اليهود المجاورين للمدينة في زمن البعثة من ظنهم أن الحروف المقطعة في أوائل بعض السور لبيان أجل الأمة الإسلاميّة!

والثاني: قوله لشعب كبير بتلك اللغة (لغوي غدول) فاللام عندهم ثلاثون، والغين ثلاثة -لأنه عندهم في مقام الجيم، إذ ليس في لغتهم جيم ولا صاد- والواو ستة، والياء عشرة، والغين أيضاً ثلاثة، والدال أربعة، والواو ستة، واللام ثلاثون، فمجموع هذه أيضاً اثنان وتسعون، انتهى كلامه بتلخيص ما! وعبد السلام كان من أحبار اليهود، ثم أسلم في عهد السلطان المرحود بايزيد خان، وصنف رسالة صغيرة أسماها بالرسالة الهادية فقال فيها: (إن أكثر أدلة أحبار اليهود بحرف الجُمَّل الكبير، وهو حرف أبجد، فإن أحبار اليهود حين بني سليمان عليه السلام بيت المقدس اجتمعوا وقالوا: يبقى هذا البناء أربعمائة وعشر سنين، ثم يعرض له الخراب؛ لأنهم حسبوا لفظة "بزأت" ثم قال: (واعترضوا على هذا الدليل بأن الباء في "بمادماد" ليست نفس الكلمة، بل هي أداة وحرف جيء به للصلة، فلو أخرج منه لاحتاج اسم محمد إلى باء ثانية ويقال: ببمادماد")! قلنا: من المشهور عندهم إذا اجتمع الباءان: أحدهما: أداة، والآخر: من نفس الكلمة، تحذف الأداة، وتبقى التي هي من نفس الكلمة، وهذا شائع عندهم في مواضع غير معدودة، فلا حاجة إلى إيرادها" انتهى كلامه بلفظه! أقول: قد صرح العلماء بأن من أسمائه - صلى الله عليه وسلم - (مادماد) كما في شفاء القاضي عياض!

5 - البشارة الخامسة

5 - البشارة الخامسة: جاء في ترجمات سنة 1722 م وسنة 1831 م وسنة 1844 م العربيّة من سفر التكوين: (49: 10 فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبر من فخذه، حتى يجيء الذي له الكل، وإياه تنتظر الأمم)! وفي ترجمة سنة 1811 م (فلا يزول القضيب من يهوذا والراسم من تحت أمره إلى أن يجيء الذي هو له، وإليه تجتمع الشعوب)! ولفظ الذي له الكل أو الذي هو له ترجمة لفظ (شيلوه)! وفي ترجمة هذا اللفظ اختلاف كثير فيما بينهم، كما عرفت في الأمر السابع أيضاً! وقال عبد السلام في الرسالة الهادية هكذا: (لا يزول الحاكم من يهوذا، ولا راسم من بين رجيله، حتى يجيء الذي له وإليه تجتمع الشعوب)! (وفي هذه الآية دلالة على مجيء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد تمام حكم موسى، وعيسى؛ لأن المراد من الحاكم هو موسى؛ لأنه بعد يعقوب ما جاء صاحب شريعة إلى زمان موسى إلا موسى، والمراد من الراسم هو عيسى؛ لأنه بعد موسى إلى زمان عيسى ما جاء صاحب شريعة إلا عيسى، وبعدهما ما جاء صاحب شريعة إلا محمد، فعلم أن المراد من قول يعقوب في آخر الأيام هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه في آخر الزمان بعد مضي حكم الحاكم والراسم ما جاء إلا سيدنا محمد - عليه السلام - ويدل عليه أيضاً قوله: (حتى يجيء الذي له) أي الحكم، بدلالة مساق الآية وسباقها، وأما قوله: (وإليه تجتمع الشعوب). فهي علامة صريحة ودلالة واضحة على أن المراد منها هو سيدنا (محمد) لأنه ما

اجتمعت الشعوب إلا إليه، وإنما لم يذكر الزبور؛ لأنه لا أحكام فيه، وداود النبي تابع لموسى، والمراد من خبر يعقوب هو صاحب الأحكام) انتهى كلامه بلفظه! أقول: إنما أراد من الحاكم موسى - عليه السلام - لأن شريعته جبريّة انتقاميّة، ومن الراسم عيسى - عليه السلام - لأن شريعته ليست بجبريّة ولا انتقاميّة. وإن أريد من القضيب السلطة الدنيويّة، ومن المدبّر الحاكم الدنيوي -كما يفهم من رسائل القسّيسين من فرقة بروتستانت ومن بعض تراجمهم -فلا يصح أن يراد (بشيلوه) مسيح اليهود كما هو مزعومهم، ولا عيسى - عليه السلام - كما هو مزعوم النصارى! أما الأول: فظاهر؛ لأن السلطة الدنيويّة والحاكم الدنيوي زالا من آل يهوذا من مدة هي أزيد من ألفي سنة من عهد بخت نصر، ولم يسمع إلى الآن حسيس مسيح اليهود! وأما الثاني: فلأنهما زالا من آل يهوذا أيضاً قبل ظهور عيسى - عليه السلام - بمقدار ستمائة سنة من عهد بختنصر، وهو أجلى بني يهوذا إلى بابل، وكانوا في الجلاء ثلاثاً وستين سنة لا سبعين، كما يقول بعض علماء بروتستانت تغليظاً للعوام -كما عرفت في الفصل الثالث من الباب الأول- ثم وقع عليهم في عهد (أنتيوكس) ما وقع؛ فإنه عزل (أونياس) حبر اليهود وباع منصبه لأخيه (ياسون)، بثلثمائة وستين وزنة ذهب يقدمها له خراجاً كل سنة، ثم عزله وباع ذلك لأخيه (مينالاوس) بستمائة وستين وزنة، ثم شاع خبر موته فطلب (ياسون) أن يسترد لنفسه الكهنوت، ودخل (أورشليم) بألوف من الجنود، فقتل كل من كان يظنه عدواً له - وهذا الخبر كان كاذباً- فهجم (أنتيوكس) على أورشليم وامتلكها ثانية في سنة 170 قبل الميلاد قبل ميلاد المسيح وقتل من أهلها أربعين ألفاً، وباع مثل ذلك عبيداً!

وفي الفصل العشرين من الجزء الثاني من مرشد الطالبين في بيان الجدول التاريخي في الصفحة 481 من النسخة المطبوعة سنة 1852 من الميلاد (أنه نهب أورشليم وقتل ثمانين ألفاً) انتهى. وسلب ما كان في الهيكل من الأمتعة النفيسة التي كانت قيمتها ثمانمائة وزنة ذهب، وقرب خنزيرة وقوداً على المذبح للإهانة، ثم رجع إلى (أنطاكية) وأقام (فيلبس) أحد الأرذال حاكما على اليهوديّة! وفي رحلته الرابعة إلى مصر أرسل (أبولوينوس) بعشرين ألفاً من جنوده، وأمرهم أن يخربوا (أورشليم) ويقتلوا كل من كان فيها من الرجال، ويسبوا النساء، والصبيان، فانطلقوا إلى هناك، وبينما كان الناس في المدينة مجتمعين للصلاة يوم السبت هجموا عليهم على غفلة، فقتلوا الكل، إلا من أفلت إلى الجبال أو اختفى في المغاور، ونهبوا أموال المدينة وأحرقوها، وهدموا أسوارها، وخربوا منازلها، ثم ابتنوا لهم من بسائط ذلك الهدم قلعة حصينة على جبل (أكرا)، وكانت العساكر تشرف منها على جميع نواحي الهيكل، ومن دنا منهم يقتلونه، ثم أرسل (أنتيوكس أثانيوس) ليعلم اليهود طقوس عبادة الأصنام اليونانية، ويقتل كل من لا يمتثل ذلك الأمر، فجاء أثانيوس إلى أورشليم، وساعده على ذلك بعض اليهود الكافرين، وأبطل الذبيحة اليومية، ونسخ كل طاعة للدين اليهودي عموماً وخصوصاً، وأحرق كل ما وجده مخالفاً أمر (أنتيوكس)، ونجا (متاثياس) الكاهن مع أبنائه الخمسة في هذه الداهية، وفروا إلى وطنهم (مودين) في (سبط دان)، فانتقم من هؤلاء الكفار انتقاماً ما قدروا عليه على استطاعته، كما هو مصرح به في التواريخ، فكيف يصدق هذا الخبر على عيسى - عليه السلام -؟! وإن قالوا إن المراد ببقاء السلطة امتياز القوم كما يقول بعضهم الآن، قلنا:

6 - رواية البخاري وغيره لصفات النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة

هذا الأمر كان باقياً إلى ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا في أقطار العرب ذوي حصون وأملاك غير مطيعين لأحد، مثل يهود خيبر، وغيرهم، كما تشهد به التواريخ، وبعد ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وصاروا في كل إقليم مطيعين للغير - فالأليق أن يكون المراد بـ (شيلوه) النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مسيح اليهود ولا عيسى - عليه السلام -! وقد أطال صاحب المنار في النقل من الزبور والأناجيل مع التعليق (¬1)! فليرجع إليه من شاء! 6 - رواية البخاري وغيره لصفات النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة: هذا، وقد روى البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)} [الأحزاب]! قال في التوراة: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميّين، أنت عبدي ورسولي، سميّتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يدفع السيّئة بالسيّئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً (¬2)! ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق: 265 - 300. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4838)، وانظر: الأدب المفرد (246 - 247)، والدارمي: 1: 4 وما بعدها، والطبري في التفسير: 9: 83. ووقع فيه: عبد العزيز بن سلمة، وهو خطأ ناسخ أو طابع؛ لأنه عبد العزيز بن أبي سلمة، وأحمد 10: 114 - 116 (6622) تحقيق أحمد شاكر، وابن كثير في التفسير: 3: 496 - 497 وزاد نسبته لابن أبي حاتم، والسيوطي =

7 - أشهر أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -

وفي رواية للدارمي، قال كعب: (نجده مكتوباً محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمادون، يكبرون الله -عَزَّ وَجَلَّ- على كل نجد، ويحمدونه في كل منزلة، ويتأزرون على أنصافهم، ويتوضؤون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دوي كدوي النحل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام) (¬1)! قال ابن حجر (¬2): والملة العوجاء: أي ملة العرب، ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام، والمراد بإقامتها: أن يخرج أهلها من الكفر إلى الإيمان! والأميون: هم العرب (¬3)! 7 - أشهر أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -: وحسبنا بعد ذلك أن نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ ¬

_ = في الدر المنثور: 3: 131، والبيهقي في "الدلائل": 1: 373 وما بعدها، وانظر: ابن سعد: الطبقات: 1: 360، والأصبهاني في "الدلائل" (128). (¬1) الدارمي: 1: 4 - 5. (¬2) فتح الباري: 4: 343 ط. الرياض. (¬3) المرجع السابق: 8: 586.

يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} [الصف]! وإيذاء بني إسرائيل لموسى -وهو منقذهم من فرعون وملئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم- إيذاء وتطاول، ومتعدد الأولوان (¬1)، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق! وهناك صور شتى متنوعة من صور هذا الإيذاء وذلك العناء، حيث كانوا يتسخّطون على موسى - عليه السلام - وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم، ويتعرض لبطشه وجبروته، وهم آمنون بِذِلَّتهم لهّ فكانوا يقولون له لائمين متبرمين: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]! كأنهم لا يرون في رسالته خيراً، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير! وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون، حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} الأعراف: 138)! وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل، ليتلقى الألواح، حتى أضلهم السامري: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)} [طه]! ثم جعلوا يتسخّطون على طعامهم في الصحراء: المن والسلوى، فقالوا: ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3555 بتصرف.

{يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة: 61]! وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم، وهم يقولون: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68]! {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69]! {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70]! {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)} [البقرة]! وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعِّرون خدهم في الوقت ذاته لموسى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)} [المائدة]! فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجّحوا وكفروا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة]! ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد، مما يطول الحديث فيه! وتذكر الآيات التي بدأنا بها هاهنا قول موسى لهم في عتاب ومودة: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}!

وهم يعلمون عن يقين، إنما هي لهجة العتاب والتذكير! وكانت النهاية أنهم زاغوا بعد ما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة! {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}! وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال! ثم جاء عيسى ابن مريم .. جاء ليقول لبني إسرائيل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}! في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة يسلم بعضها إلى بعض .. وهي متماسكة في حقيقتها، واحدة في اتجاهها، ممتدة من السماء إلى الأرض، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة، وهي الصورة اللائقة بمنهج الحق، فهو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره .. وفق استعداد البشريّة وحاجاتها وطاقاتها .. ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة، حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملة شاملة، تخاطب العقل الراشد، في ضوء تلك التجارب، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده، داخل نطاق المنهج المرسوم للإنسان في جملته، المتفق مع طاقاته واستعداداته: وتطالعنا البشارة: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}! يروي الشيخان وغيرهما عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي

الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب" (¬1)! وفي رواية لمسلم وغيره عن أبي عبيدة، عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي لنا نفسه بأسماء. فقال (¬2): "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة"! قال ابن القيّم: الفرق بين محمد وأحمد من وجهين: (أحدهما: أن (محمداً) هو المحمود حمداً بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه. و (أحمد) أفعل تفضيل من الحمد، يدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره! فمحمد زيادة في حمد في الكميّة، وأحمد زيادة في الكيفيّة، فيحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر! والوجه الثاني: أن (محمداً) هو المحمود حمداً متكرّراً -كما تقدم- ¬

_ (¬1) البخاري: 61 - المناقب (3532)، وانظر (4896)، ومسلم (2354)، وأحمد: 4: 80، 84، والطيالسي (924)، وعبد الرزاق (19657)، والحميدي (555)، وابن سعد: 1: 105، وابن أبي شيبة: 11: 457، والترمذي (2840)، والشمائل (360)، وأبو يعلى (7395)، والطحاوي: شرح المشكل (1150)، والطبراني: الكبير (1520 - 1530)، والآجري: الشريعة: 462، وأبو نعيم: "الدلائل" (19)، والبيهقي: "الدلائل": 1: 152 - 154، والبغوي (3629، 3630)، وابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني (473)، وابن عبد البر: التمهيد: 9: 153، والفاكهي: أخبار مكة (1871)، وابن حبان (6313). (¬2) مسلم: 43 - الفضائل (2355)، والبيهقي: 1: 156 - 157، وابن أبي شيبة: 11: 457، وابن سعد: 1: 104 - 105، وأحمد: 4: 395، 404، 407، والطحاوي: شرح مشكل الآثار: 2: 51، والطبراني: الصغير (217)، والحاكم: 2: 604، وابن حبان (6314).

و (أحمد) الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره. فدل أحد الاسمين -وهو (أحمد) - على كونه محموداً. ودل الاسم الثاني -وهو (أحمد) - على كونه أحمد الحامدين لربه. وهذا هو القياس؛ فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من فعل الفاعل، لا من فعل المفعول، ذهاباً إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي، ونازعهم آخرون وجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول، لقول العرب: (ما أشغله بالشيء)! إلى أن قال: والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - سُمِّي (محمَّداً) و (أحمد)؛ لأنه يحمد أكثر مما يحمد غيره، وأفضل مما يحمد غيره، فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار. وذلك أبلغ في مدحه، وأتم معنى. ولو أريد به اسم الفاعل لسمي (الحماد) وهو كثير الحمد، كما سمي (محمداً)، وهو المحمود كثيراً، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر الخلق حمداً لربه. فلو كان اسمه باعتبار الفاعل، لكان الأولى أن يسمى (حمادًا)، كما أن اسم أمته (الحمادون). وأيضاً فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى (محمّداً) و (أحمد)، فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السموات والأرض. فلكثرة خصائله التي تفوت عد العادين سمي باسمن من أسماء الحمد، يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة) (¬1)! تلك أشهر أسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، جمعها الحافظان: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم بن عساكر، وأفرد الناس في ¬

_ (¬1) تفسير القاسمي: 16: 5789 - 5790.

8 - أسماؤه في الشعر

ذلك مؤلفات، حتى رام بعضهم أن يجمع له - صلى الله عليه وسلم - ألف اسم، وأما الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي بكتابه (عارضة الأحوذي) فإنه ذكر من ذلك أربعة وستين اسماً (¬1)! 8 - أسماؤه في الشعر: وقال المرحوم عبد الحميد الخطيب في أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -: إِن رمت تعلم من عنيت فإِنه ... هو أحمد المكتوب في التوراة ومحمد من نص في الإِنجيل عنه ... بأنه سيجئ بالخيرات ماحي صنوف الكفر عاقب من تقد ... مه من الداعين بالآيات الحاشر الأقوام للمولى على ... قدميه يوم البعث في الميقات وهو المقفّى والبشير برحمة الـ ... ـولي النذير بأعظم الويلات وهو المبشّر خاتم متوكل ... ونبيّ ملحمة مع التوبات ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 183 - 184، وانظر زاد المعاد: 1: 86 وما بعدها.

9 - ميثاق النبيين

الشاهد الداعي إِلى الرحمن ... بالتوحيد يمحو حالك الظلمات المرسل الأمي قثم الخير مَن ... قد كان يعطي المال بالكثرات وهو الأمين وفاتح الأبواب مَن ... سُمي نبي الله والرحمات (¬1) 9 - ميثاق النبيّين: وإذا كنا قد أبصرنا بعض البشائر بالنبوة، وعلمنا أن صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التوراة قد ذكرها البخاري وغيره، فإننا نبصر حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات، على عهد من الله وميثاق، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات، وخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - وعلى إخوانه من الرسل .. ونبصر شذوذ من يتولى عن ذلك، عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق، ونحن نقرأ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} [آل عمران]! ¬

_ (¬1) تائية الخطيب: 38.

لقد أخذ الله -عَزَّ وَجَلَّ- موثقاً رهيباً جليلاً على كل رسول (¬1)، أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة، ثم جاء رسول مصدق لما معه، أن يؤمن به وينصره، ويتبع دينه، وجعل هذا عهداً بينه وبين كل رسول! والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل، ويجمعهم كلهم في مشهد، والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة: هل أقروا هذا الميثاق، وأخذوا عليه عهد الله؟: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}! وهم يجيبون: {قَالُوا أَقْرَرْنَا}! وتأتي الشهادة على هذا الميثاق: {قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}! هذا المشهد الهائل الجليل، يرسمه التعبير القرآني، فيهتز له الجَنان في الإنسان، وهو يتمثل المشهد .. ومن ثم يبدو هذا الموكب الكريم متصلاً متسانداً، مستسلماً للتوجيه العلوي، ممثلاً للحقيقة الواحدة التي شاء الحق تبارك وتعالى أن تقوم عليها البشريّة، ولا تنحرف، ولا تتعدد، ولا تتعارض، ولا تتصادم، إنما يُصطفى لها المختار من عباد الله، ثم يسلمها إلى المختار بعده، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به، فما للنبي في نفسه من شيء، وما له في هذه المهمة من أَرب شخصي، ولا مسجد ذاتي، إنما هو عبد مُصطفَى، ومبلغ مختار، والحق -تبارك وتعالى- هو الذي ينقل خطأ هذه الدعوة بين أجيال البشر، ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 420 بتصرف.

ويخلص دين الله -بهذا العهد وبهذا التصوّر- من العصبية الذاتية .. عصبية الرسول لشخصه، وعصبيّته لقومه، وعصبيّة أتباعه لنحلتهم، وعصبيّتهم لأنفسهم، وعصبيّتهم لقوميّتهم .. ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد، الذي تتابع به وتوالى كل ذلك الموكب السنيّ الكريم! وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخففون من أهل الكتاب عن الإيمان بخاتم النبيّين محمد - صلى الله عليه وسلم - ومناصرته وتأييده -تمسكاً بعقيدتهم كما يزعمون، لا بحقيقتها؛ لأن حقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته- يبدون متعصبين لأنفسهم في صورة التعصّب لعقيدتهم! مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الرسالات قد قطعوا على أنفسهم عهداً ثقيلاً غليظاً مع ربّهم في مشهد مرهوب جليل! في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذين يتخلفون من أهل الكتاب فسقة عن تعاليم أنبيائهم، فسقة عن عهد الله معهم، فسقة كذلك عن نظام الكون كله، المستسلم لبارئه، الخاضع لناموسه: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}! إنه لا يتولّى عن اتباع خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - إلا فاسق، ولا يتولى عن دين الله إلا شاذ .. شاذ في هذا الوجود الكبير .. ناشز في وسط الكون الطائع المستسلم المستجيب! إن دين الله واحد، بعث به الرسل جميعاً، وتعاقدت عليه الرسالات جميعاً، وإن عهد الله واحد، أخذه على كل رسول، والإيمان بهذا الدين واتباع رسوله، ونصرة منهجه على كل منهج، هو الوفاء بهذا العهد، فمن تولّى عن

الإسلام فقد تولّى عن دين الله كله، وقد خان عهد الله كله. كما فعل يهود ومن على شاكلتهم! والإسلام -الذي يتحقق في إقامة منهج الله في الأرض واتباعه والخلوص له- هو ناموس هذا الوجود، وهو دين كل حي في هذا الوجود! إنها صورة شاملة عميقة للإسلام والاستسلام .. صورة كونيّة تأخذ بالمشاعر، وترتجف لها الضمائر .. صورة الناموس القاهر الحاكم، الذي يرد الأشياء والأحياء إلى سنن واحد، ومصير واحد: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}! فلا مناص لهم في نهاية المطاف من الرجوع إلى الحاكم المسيطر المدبّر الجليل! ولا مناص للإنسان حين يبتغي سعادته وراحته وطمأنينة باله وصلاح حاله، من الرجوع إلى منهج الله في ذات نفسه، وفي نظام حياته، وفي منهج مجتمعه، ليتناسق مع النظام الكوني كله. فلا ينفرد بمنهج من صنع نفسه، لا يتناسق مع ذلك النظام الكوني من صنع بارئه .. في حين أنه مضطر أن يعيش في إطار هذا الكون، وأن يتعامل بجملته مع النظام الكوني، والتناسق بين نظامه هو في تصوره وشعوره، وفي واقعه وارتباطاته، وفي عمله ونشاطه، مع النظام الكوني .. هو وحده الذي يكفل له التعاون مع القوى الكونية الهائلة بدلاً من التصادم معها .. وهو حين يصطدم بها يتمزق وينسحق، أو لا يؤدي -على كل حال- وظيفة الخلافة في الأرض كما وهبها الله له، وحين يتناسق ويتفاهم مع نواميس الكون التي تحكمه وتحكم سائر الأحياء فيه، يملك معرفة أسرارها وتسخيرها، ويملك الانتفاع بها على وجه يحقق له السعادة والراحة والطمأنينة، ويعفيه من الخوف والقلق والتناحر .. الانتفاع بها, لا ليحترق بنار الكون، ولكن لينتفع بها ويستضيء!

والفطرة البشريّة في أصلها متناسقة مع ناموس الكون، مسلمة لربها إسلام كل شيء وكل حي، فحين يخرج الإنسان بنظام حياته عن ذلك الناموس لا يصطدم مع الكون فحسب، إنما يصطدم أولاً بفطرته التي بين جنبيه، فيشقى ويتمزّق، ويحتار ويقلق، ويحيا كما تحيا البشريّة الضالة النكدة اليوم في عذاب من هذا الجانب .. على الرغم من جميع الانتصارات العلميّة، وجميع التسهيلات الحضاريّة الماديّة! وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم! إن البشريّة اليوم تعاني من الخواء المرير .. خواء الروح من الحقيقة التي لا تطيق فطرتها أن تصبر عليها .. حقيقة الإيمان, وخواء الحياة من المنهج الإلهي .. هذا المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون الذي تعيش فيه! إنها تعاني من الهجير المحرق الذي تعيش فيه بعيداً بعيداً عن ذلك الظل الوارف الندي، ومن الفساد المقلق الذي تتمرغ فيه بعيداً بعيداً عن ذلك الخط القويم والطريق المأنوس المطروق! وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم! ومن ثم تجد الشقاء والحيرة والاضطراب، وتحسّس الخواء والجوع والحرمان، وتهرب من واقعها هذا بالمسكرات، على اختلاف أنواعها، وبالسرعة المجنونة والمغامرات الحمقاء، والشذوذ في كل شيء! وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم! وذلك على الرغم من الرخاء المادي، والإنتاج الوفير، والحياة الميسورة، والفراغ الكثير .. لا، بل إن تلك الآلام تتزايد كلما تزايد الرخاء المادي، والإنتاج الحضاري، واليسر في كل وسائل الحياة ومرافقها!

10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

إن هذا الخواء المرير ليطارد البشريّة كالشبح المخيف .. يطاردها فتهرب منه، ولكنها تنتهي كذلك إلى الخواء المرير! وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم! وما من أحد يزور البلاد الغنيّة الثريّة في الأرض حتى يكون الانطباع الأول في حسه أن هؤلاء قوم هاربون! هاربون من أشباح تطاردهم! هاربون من ذوات أنفسهم! وسرعان ما يكتشف الرخاء المادي والحسي الذي يصل إلى حد التمرغ في الوحل والطين، عن الأمراض العصبية والنفسيّة، والشذوذ والقلق، والمرض والجنون، والمسكرات والمخدرات والجريمة، وفراغ الحياة من كل تصور كريم! وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم! إنهم لا يجدون سعادتهم؛ لأنهم لا يجدون المنهج الإلهي الذي ينسق بين حركتهم وحركة الكون، وبين نظامهم وناموس الوجود! إنهم لا يجدون طمأنينتهم؛ لأنهم لا يعرفون الله الذي إليه يرجعون! وكل ذلك من صنع (يهود) ومن على شاكلتهم! 10 - القرآن يسجل على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وقد سجل القرآن الكريم على أهل الكتاب يقينهم بمعرفة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, لوجود نعوته في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي

التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف]! وهنا نبصر نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء .. بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه، والذي لا يدرك البشر مداه .. فيا لها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله (¬1)! وإنه لنبأ عظيم، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي - صلى الله عليه وسلم -، منذ أمد بعيد، على يدي نبيهم موسى، ونبيهم عيسى - عليهما السلام -! جاءهم الخبر اليقن ببعثته، وبصفاته، وبمنهج رسالته، وخصائص ملته، فهو (النبي الأميّ) وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي كانت عليهم، فيرفعها عنهم النبي الأميّ حين يؤمنون به، وأتباع هذا النبي يتقون ربهم، ويخرجون زكاة أموالهم، ويؤمنون بآيات الله! وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي، ويعظمونه، ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1378 بتصرف.

ويوقرونه، وينصرونه، ويؤيدونه، ويتبعون النور الهادي، الذي معه {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}! وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل على يد نبيهم موسى - عليه السلام - كشف الحق -جل شأنه- عن مستقبل دينه، وعن حامل رايته، وعن طريق أتباعه، وعن مستقر رحمته؛ فلم يبق عذر لهؤلاء ومن على شاكلتهم بعد ذلك البلاع المبكر بالخبر اليقين! وهذا الخبر اليقين من ربّ العالمين لموسى - عليه السلام - وهو السبعون المختارون من قومه لميقات ربّه. يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي وللدّين الذي جاء به، وفي التخفيف عنهم والتيسير، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين! إنها الجريمة عن علم، وعن بينة! الجريمة التي لم يألوا فيها جهداً، فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلقٍ وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به، اليهود أولاً، ومن على شاكلتهم أخيراً، وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ورسالته والمؤمنين كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية، وأنهم أصرّوا عليها ودأبوا، وما زالوا يصرّون ويدأبون! والذي يراجع -فقط- ما سجله القرآن من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين، يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - في عناد لئيم! والذي يراجع التاريخ بعد ذلك، منذ اليوم الأول الذي استعلن فيه هذا

الدّين، وقامت له دولة في المدينة، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدّين وإرادة محوه من الوجود! ولقد استخدمت الصهيونيّة ومن على شاكلتها في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية كلها! وهي في هذه الفترة -خاصة- تعالج إزالة هذا الدّين بجملته، وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة؛ لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جرّبتها في القرون الماضية كلها، بالإضافة إلى ما استحدثته منها، جملة واحدة! ذلك في الوقت الذي يقوم ناس ممن ينتسبون إلى الإسلام، يدعون في سذاجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل الكتاب للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد! ومن ثم أبصرنا الدعوة إلى مؤتمرات الأديان ومجتمع المسجد، ودور العبادة عند أهل الكتاب! أهل الكتاب الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان، ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب التي سجلها التاريخ, وسجلتها محاكم التفتيش في الأندلس! سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا، وأفريقيا، أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها في البلاد -وما أكثرها! - لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانيّة! تنكر الغيبيّة، وتطوّر الأخلاق لتصبح حيوانيّة كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض في حريّة -كما يزعمون- وتقيم مؤتمرات المستشرقين للتطوّر في كل شيء!

إنها المعركة الوحشيّة الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا (الدّين القيم)، الذي بشّروا به وبنبيّه منذ ذلك الأمد البعيد، ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد! وقبل أن يمضي السياق إلى مشهد جديد، يقف عند هذا البلاغ المبكر، يوجه الخطاب إلى خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، يأمره بإعلان الدعوة إلى الناس جميعاً، تصديقاً لوعد الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}! إنها الرسالة الأخيرة، فهي الرسالة الشاملة، التي لا تختص بقوم دون قوم، ولا أرض دون أرض، ولا جيل دون جيل، ولا قبيل دون قبيل! ولقد كانت الرسالات قبلها رسالات محليّة قوميّة محدودة بفترة من الزمان -ما بين عهدي رسولين- وكانت البشرية تخطو على هدي هذه الرسالات خطوات محدودة، تأهيلاً للرسالة الأخيرة، وكانت كل رسالة تتضمن ما يناسب تدرج الشريعة، حتى إذا جاءت الرسالة الأخيرة جاءت كاملة في أصولها، قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعاً، في كل جيل وفي كل قبيل، وفي كل عصر، وفي كل مصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان .. وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً، ومن ثم حملها النبي الأمي الذي لم يدخل على فطرته الصافية -كما خرجت من يد الحق- إلا تعليم الله، فلم تَشُبْ هذه الفطرة شائبة من تعاليم الأرض ومن أفكار الناس! ليحمل رسالة الفطرة إلى فطرة الناس جميعاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}!

وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواجه برسالته الناس جميعاً، هي آية مكيّة في سورة مكيّة، وهي تُجبه المزوّرين من أهل الكتاب، الذين يزعمون أن خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفكّر وهو في مكة أن يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنه إنما بدأ يفكّر في أن يتجاوز بها قريشًا، ثم يتجاوز بها العرب إلى دعوة أهل الكتاب، ثم يجاوز بها الجزيرة العربيّة إلى ما وراءها، كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف! وإن هي إلا فرية من ذيول الحرب التي شنّوها قديماً على هذا الدّين وأهله، وما يزالون ماضين فيها! وليست البليّة في أن يرصد أهل الكتاب كيدهم لهذا الدّين وأهله، وأن يكون المستشرقون الذين يكتبون مثل هذا الكذب هم طليعة الهجوم على هذا الدّين وأهله، إنما البليّة الكبرى أن كثيراً من السذج الأغرار من أبناء جلدتنا، الذين يتكلمون بألسنتنا، يتخذون من هؤلاء المزوّرين على أنبيائهم، المحاربين لعقيدتهم، أساتذة لهم، يتلقون عنهم في هذا الدّين نفسه، ويستشهدون بما يكتبونه عن تاريخ هذا الدّين وحقائقه، ثم يزعم هؤلاء السذّج الأغرار لأنفسهم أنهم مثقفون! ونعود إلى السياق القرآني بعد تكليف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن رسالته للناس جميعاً، فنجد بقيّة التكليف في تعريف الناس بربّهم الحق - جل شأنه -: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}! إنه - صلى الله عليه وسلم - رسول للناس جميعاً من ربّهم الذي يملك هذا الوجود كله، وهم من هذا الوجود، والذي يتفرّد بالألوهية وحده، فالكل له عبيد، والذي تتجلّى قدرته وألوهيّته في أنه الذي يحيي ويميت!

والذي يملك الوجود كله، والذي له الألوهيّة على الخلائق وحده، والذي يملك الحياة والموت للناس جميعاً .. هو الذي يستحق أن يدين الناس بدينه، الذي يبلغه إليهم رسوله، فهو تعريف للناس بربّهم، لتقوم على هذا التعريف عبوديّتهم له، وطاعتهم لرسوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}! وهذا النداء الأخير في هذا التعقيب يتضمن لفتات دقيقة ينبغى أن نقف أمامها لحظات: إنه يتضمن ابتداءً ذلك الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، في صورة أخرى من صور هذا المضمون الذي لا يقوم بدونه إيمان ولا إسلام، ذلك أن هذا الأمر بالإيمان بالله سبقه في الآية التعريف بصفاته تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}! فالأمر بالإيمان هو أمر الإيمان بالله الذي هذه صفاته الحقة، كما سبقه التعريف برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس جميعاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}! ثم يتضمن ثانية أن النبي الأمي- صلوات الله وسلامه عليه- يؤمن بالله وكلماته .. ومع أن هذه بديهيّة، إلا أن هذه اللفتة لها مكانها ولها قيمتها، فالدعوة لا بد أن يسبقها إيمان الداعي بحقيقة ما يدعو إليه، ووضوحه في نفسه، ويقينه منه، لذلك يجيء وصف النبي المرسل إلى الناس جميعاً بأنه: {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ}!

وهو نفس ما يدعو إليه! ثم يتضمن أخيراً لفتة إلى مقتضى هذا الإيمان الذي يدعوهم إليه، وهو اتباعه فيما يأمر به ويدعو إليه ويحث عليه، واتباعه كذلك فيما يبيّنه، وهو ما يقرره قول الحق سبحانه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}! فليس هناك رجاء في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه فيه. ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم! إن هذا (الدّين القيّم) يعلن عن حقيقته في كل مناسبة .. إنه ليس مجرد عقيدة تستكنّ في الضمير .. كما أنه كذلك ليس مجرد شعائر تؤدى وطقوس، إنما هو الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه، وفيما يبيّنه ويسنه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب، ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبديّة فحسب، ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله وفعله .. ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا، فهذا هو دين الله، وليس لهذا الدّين من صورة أخرى إلا هذه الصورة التي تشير إليها هذه اللفتة: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}! بعد الإيمان بالله ورسوله، ولو كان الأمر في هذا الدّين أمر اعتقاد وكفى، لكان في قوله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الكفاية!

خصائص الجزيرة العربية

خصائص الجزيرة العربيّة

خصائص الجزيرة العربيّة 1 - البيت الحرام 2 - دعوة إبراهيم عليه السلام 3 - أنبياء في الجزيرة 4 - صفات العرب 5 - وحدة اللغة 6 - الموقع الجغرافي 7 - حرم الإسلام

تمهيد

خصائص الجزيرة العربيّة تمهيد: اقتضت حكمة الله أن تطلع شمس الهداية التي تبدد الظلام، وتملأ الدنيا نوراً وهداية، من أفق جزيرة العرب! والجزيرة من حيث الاسم -كما نرى- مضافة إلى العرب لا غير، ويطلق عليها (جزيرة العرب)، و (أرض العرب)، و (بلاد العرب)، و (ديار العرب)، ويقال الآن (الجزيرة العربيّة)، و (شبه جزيرة العرب)، و (شبه الجزيرة العربيّة) (¬1)! ونذكر خصائصها فيما يلي: 1 - البيت الحرام: أول ما يطالعنا من خصائص الجزيرة: البيت الحرام، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران]! وهنا نبصر تقرير أن البيت الحرام أول بيت وضع في الأرض للعبادة وخصص لها، وجعله الله مباركاً وهدى للعالمين، يجدون عنده الهدى، وفيه آيات بيّنات على أنه مقام إبراهيم، وأنه مثابة الأمن لكل خائف، وليس هذا لمكان آخر في الأرض! ¬

_ (¬1) انظر حدودها في: خصائص جريرة العرب: الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: 15 وما بعدها، دار ابن الجوزي، السعودية، ط. أولى 1412 هـ - 1992 م.

ونبصر البيئة الطبيعيّة للرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - هي الجزيرة العربيّة بوجه عام (¬1)، سماؤها، وأرضها، شمالها وجنوبها، جبالها ووديانها، نجودها وتهائمها، وبوجه خاص شمال تلك الجزيرة المعروف بأرض الحجاز، وبوجه أخص (مكة المكرمة) من أرض الحجاز! والتاريخ الطبيعي عرف للجزيرة العربيّة في جملتها خصائص شاملة تشترك فيها جميع أجزائها .. وعرف بعد ذلك خصائص فَصلَت الجنوب عن الشمال .. كما عرف خصائص امتازت بها أرض الحجاز، وخصائص امتازت بها (مكة المكرمة) في موقعها من أرض الحجاز! عاصرت تلك الخصائص الجزيرة العربيّة مفرّقة بين شمالها وجنوبها آماداً طويلةً، وأحقاباً متعدّدةً، تدخل مع التاريخ في أعماقه البعيدة، حتى تقف معه عند مجاهد العصور التي لم تتبيّن له معالمها, ولم تزل تمخّضها الحوادث، وتدافعها الأحداث، وتمرّ مع الزمن في أطوار طبيعية، حتى تبلورت إلى صورة واحدة مشت بالجنوب إلى الشمال، فمزجته به في خصائصه، حتى صار كأنه هو، جدباً وشظف عيش، وقسوة طبيعيّة، وجفوةَ حياة، وعبوس جو، ولفح سموم، وكثرة تقلّبات، وقلق إقامة، وتطلعاً إلى السماء، رجاء غيث، وتوثّباً في أرجاء الأرض، طلباً لمرعى أو قطرة ماء! وهي بعد ذلك بيئةٌ تَدَّرِعُ الليل، وتأنس بالوحش، وتستضيء بالنجوم، وتطرب لصوت الرعد، يكتنفها فضاء لا نهاية له، وتظلّها سماء لا تستقر على حال، تصفو مرّة فتلمحُ بالليل نجومها، وتَضْحى بالنهار شمسها، وتَغيم مرّة فيسودّ أديمها، وتتوارى كواكبها، وتحتجب شمسها، ويكفهرّ أفقها، ويتجهّم ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 40 وما بعدها بتصرف.

منظرها، أكنافُها الجبال، ومسارحها الوديان، لا صناعة تشذِّب من مظاهرها، ولا زراعة ترفِّه من جوّها، وكل الأمل المرجوّ منها مرعى تجود به الطبيعة، لتحيا عليه قطعان من إبل وشاء، عليها قوام تلك البيئة القاسية! وقد اشتهر ذلك عن الجزيرة العربيّة، حتى عرفه جيرانهم من الفرس والرومان، فزهدوا فيها مع طغيان روح الاستغلال الاستعماري في الدولتين! هذه الخصائص الطبيعيّة كانت خلاصة ما انتهت إليه الأحداث الضخمة، والحوادث الهائلة، التي انتابت الجزيرة العربيّة في مدى الأحقاب المتوغّلة في مجاهد التاريخ, تجمعت من أرجائها كلها، وتلاقت في شمالها من أرض الحجاز، فكانت -فوق أنها خصائص الجزيرة منذ بدأ انسياح القبائل الجنوبيّة إلى الشمال طلباً للعيش عقب انهيار سد مأرب وتخريب عمران اليمن- هي في الوقت ذاته خصائص بلاد الحجاز منذ عرفها التاريخ! أما (مكة المكرمة) بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبيئته اللصيقة به، فسمّها قرية أو مدينة أو ما شئت من أسماء الأمكنة التي كانت موئلاً لاستقرار قبيل من الناس، يضطربون فيه طلباً لوسائل الحياة والعيش، فيتسع لهم ويعطيهم ما تسمح به طبيعته، ويظهر أن أمر هذه التسمية يرجع إلى العرف ومصطلح الناس، وقد يختلف باختلاف الأزمنة والعصور، والقرآن الكريم أطلق عليها (بلداً)، وسماها مرة (قرية)، ومرة أخرى سماها (أم القرى)، وأصول الاجتماع لا تأبى عليها اسم (المدينة)! ومهما يكن من أمر ذلك كله، فإنها منذ كانت عاصمة الحجاز من غير منازعة ولا مزاحمة، وإطلاق اسم المدينة عليها أقرب إلى تسمية القرآن لها (أم القرى) وأدنى ما عُرف لها من مكانة واحترام قبل البعثة المحمدية، وأشبه ما صارت إليه في الإسلام من منزلة دينيّة واجتماعيّة!

يقول ابن القيم - رحمه الله (¬1) - عند تفسير قول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]! ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه، من القرب والبعد، من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين، كاشفي رؤوسهم، متجردين من لباس أهل الدنيا! وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)} [التين]! وقال جل شأنه: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد]! وليس على وجه الأرض بقعة يجب على كل قادر السعي إليها، والطواف بالبيت الذي فيها غيرها, وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه، وتحط الخطايا والأوزار فيه، غير الحجر الأسود، والركن اليماني! يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو واقف على راحلته بالحزورة من مكة يقول: "والله! إِنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إِلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" (¬2)! ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 1: 46 وما بعدها بتصرف. (¬2) أحمد: 4: 305، وابن عبد البر: التمهيد: 2: 288، والاستذكار: 26: 15 - 16، ويعقوب بن سفيان: المعرفة والتاريخ: 1: 244، والبيهقي: الدلائل: 2: 517 - 518، والترمذي (3925)، وابن ماجه (3108)، والحاكم: 3: 7، 431، وابن حبان (3708).

تلك المدينة التي كانت مسقط رأس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وموطن أسرته، ووطن قبيلته، وصفها القرآن الكريم على لسان خليل الله إبراهيم - عليه السلام - في قوله جل شأنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [ابراهيم: 37]! وهذا أصدق وصف (¬1)، وأجمع كلمة لخصائصها الطبيعيّة، فكلمة (واد) تصورأتم تصوير وضعها على الأرض، فهي منخفض تحيط به الجبال، وكلمة {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} تعطيك أن هذا الوادي له طبيعة شحيحة أشد الشح بالماء، فهي لا تكاد تجود به نبعاً، وإذا جادت به غيثاً تفرّق في غير كبير فائدة، وتعطيك نتيجة لذلك جدوبة الأرض، وتعطيك صرامة الجو، ولفح السموم، وهو وصف في جملته يُدْخل على النفس يأساً، قلما أن تجد وسيلة من العيش الرغيد، أو سبباً من أسباب الكسب الربيح، في هذا البلد السجين بين شاهقات الجبال! بيد أن (مكة المكرمة) بلد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تستسلم للطبيعة تحبسها في واديها الأجرد، بين جبالها السود المكفهرّة القاسية، بل تداركتها العناية الإلهيّة، فأهدت إليها (الكعبة) بيت الله الحرام، فصارت بها (مكة المكرمة) بلد الله الحرام، وكان الذي أقام الكعبة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وإبراهيم جد العرب الذي تنتهي إليه مفاخرهم، وإسماعيل أبوهم، وقد تعرّب منذ كان، فلم يعرف غير العرب شعباً، ولا غير الجزيرة وطناً، ولا غير (مكة المكرمة) بلداً، فحفظ الأبناء تراث الآباء، ووعى الأحفاد ذخيرة الأجداد! وعظّم العرب (الكعبة البيت الحرام) وعظّموا لتعظيمها (مكة المكرمة) ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 42 بتصرف.

واتخذوها حرماً آمناً يقدّسونه، ويتحاملون فيه المآثم، وينزهونه عن وقوع المظالم، ويؤمنون فيه الخائف، ويجبرون الكسير، وينصرون المظلوم، ويخافون الظلم فيه .. يحجون إليها، ويجتمعون في مواسمها، يتعبدون ويتجرون، ويجلبون إليها الأرزاق والسلع، ويتبادلون ذلك فيما بينهم، فيصدر عنها من وردها بغير ما ورد، ويردها من صدر عنها بغير ما صدر، ثم اتخذوها مناراً لإذاعة مفاخرهم، ومحكمة لتحاكمهم، وملجأ لضعفائهم، وملاذاً يلوذ به أصحاب التبعات والجرائر منهم، ومصدراً لمحالفاتهم وتعهداتهم، ووضعوا لذلك سنناً متبعة لا يحيدون عنها، ونظاماً مأثوراً يأثره الخلف عن السلف، من غيره أو انتهك حرمته فقد جاء بإحدى الكبر! وهكذا أصبحت (مكة المكرمة) شيئاً آخر، غير كونها وادياً محصوراً بين الجبال، فقد أصبحت متعبد العرب قاطبة، تهفو إليها قلوبهم، تحنثاً فيها وتعبداً بالطواف حول بيتها المحرم، يقدسونها تقديساً لا يفوقه تقديس، ويفدون بيتها المعظم بالمهج والأرواح! قال الشاعر: محاسنه هولي كل حسن ... ومغناطيس أفئدة الرجال قال ابن القيم (¬1): أخبر سبحانه أنه مثابة للناس، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة]! ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 1: 5 أو ما بعدها بتصرف.

أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً، بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا اشتياقاً! لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها ... حتى يعود إِليها الطرف مشتاقا فللَّه كم لها من قتيل وسليب وجريح، وكم أنفق في حبّها من الأموال والأرواح، ورضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل، والأحباب والأوطان، مقدّماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف، والمعاطف والمشاق، وهو يستلذّ ذلك كله ويستطيبه، ويراه -لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيب من نعم المتحلية وترفهم ولذاتهم! وليس محباً من يَعُدُّ شقاءه ... عذاباً إِذا ما كان يَرضَى حبيبُه وهذا كله سرّ إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]! فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته، كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك، وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم، فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه، فله من المزيّة والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء، ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلاً آخر، وتخصيصاً وجلاله زائداً على ما كان له قبل الإضافة!

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (¬1): كذلك ما خص به الكعبة الحرام من حين بناه إبراهيم، وإلى هذا الوقت من تعظيمه وتوقيره وانجذاب القلوب إليه .. ومن المعلوم أن الملوك وغيرهم يبنون الحصون والمدائن والقصور بالآلات العظيمة البناء المحكم، ثم لا يلبث أن ينهدم ويهان، والكعبة بيت مبني من حجارة سود بواد غير ذي زرع، ليس عنده ما تشتهيه النفوس من البساتين والمياه وغيرها, ولا عنده عسكر يحميه من الأعداء، ولا في طريقه من الشهوات ما تشتهيه الأنفس؛ بل كثيراً ما يكون في طريقه من الخوف والتعب والعطش والجوع ما لا يعلمه إلا الله، ومع هذا فقد جعل الله من أفئدة الناس التي تهوي إليه ما لا يعلمه إلا الله! وقد جعل للبيت من العز والشرف والعظمة ما أذل به رقاب أهل الأرض، حتى تقصده عظماء الملوك ورؤساء الجبابرة، فيكون هؤلاء هناك في الذل والمسكنة كآحاد الناس! وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه خارج عن قدرة البشر، وقوى نفوسهم وأبدانهم، والذي بناه قد مات من ألوف السنين! وإذا كان العرب لم ينسوا الله في وثنيّتهم، وأنهم قد أشركوا، فإن السبب يرجع إلى أن الأصل عندهم هو التوحيد، كما تلقوه عن إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - والذي كان بقيّة مما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب - عليهم السلام -! وإذا كانت الإنسانيّة قد عاشت حياتها في حمأة الوثنيّة الهابطة (¬2)، وإذا ¬

_ (¬1) خصائص جزيرة العرب: 47 نقلاً عن الصفدية: 1: 220 - 221. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 22 وما بعدها بتصرف.

كان عند كل أمة من أمم الجاهليّة الأولى آلهة شتى تُعبد من دون الله، فإن التاريخ قد استيقظ من غمرات غفلاته، وحزم تراثه وحمله على مناكبه، وسار به في سرعة خاطفة، ميمّماً مشرق الشمس، حتى إذا بلغ (الربوة الحمراء) في فيافي الجزيرة العربيّة، ألقى عن كاهله أثقاله! والجزيرة العربيّة يومئذ في عزلة موحشة، ونسيان شرود، ولكن ضربات المخاض القاسية التي كانت أناتها بانفراجها عن الحدث الجليل ذكّرت التاريخ بها، فذهب إليها وهو يلهث مكدوداً، وألقى بثقله في أحضانها، على ربوتها في أرض أم القرى، وغطّ في نوم قلق مليء بالرؤى وأضغاث الأحلام، رجعاً لصدى ماضيه السحيق! وعلى صوت حفيف أقدام خافت في رمال الصحراء تيقّظ من غفوته، وانتبه من غفلته، فانبعث من مرقده متكاسلاً يتمطى ويمسح عن عينيه رماص الكبر, وإذا به مع نفسه وحيداً إلا من طفل في مهده يضغُو من شدة العطش، وإلى جانبه أم رصينة، لهفانة، لا تستقر نظرتها على شيء، حتى على طفلها المتضاغي في مهده، كأنها تخاف أن تنظر إليه .. بيد أنها كانت تنوء تحت وطأة الآلام تعصر قلبها، وتحرق كبدها، كلما حرك الطفل قدميه يفحص بهما رمال الصحراء، كأنه يطلب شيئاً أودعه له فيها حفيظ أمن! وانفجرت الرمال عن الوديعة، فإذا هي (زمزم) عين لا تغيض!، وصدق إلهام (هاجر) حين قالت لإبراهيم الذي جاء بابنه مع أمّه إلى هذا الوادي الأجرد اليابس، فيما رواه البخاري عن ابن عباس: "آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إِذن لا يضيعنا"! وحين كانت زمزم عيناً معيناً، شربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك:

"لا تخافوا الضيعة، فإِن هاهنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإِن الله لا يضيِّع أهله" (¬1)! وعلينا أن نتصور هاجر ومعها طفلها, ولا أنيس ولا جليس، ونتصور نفس الكلمات التي قالتها، حين أراد إبراهيم أن يرجع، ويتركها وطفلها في هذا الوادي، وقد علمت أن ذلك بأمر الله تعالى .. ومن ثم فإن شدة الموقف التي تعجز الكلمات عن تصويرها لا وجود لها ما دام الأمر من الله، والله لا يضيع أهله! أجل، يا أم إسماعيل: لن يضيّعكما الله، وفي صلب وليدك وديعة الوجود، وهداية السماء إلى الحياة بمن فيها وما فيها! أجل، يا أم إسماعيل: إن الله تعالى سيجدّد بوليدك صادق الوعد ديباجة الحياة، وسيخلع عليها من جلابيب الفيض السماوي ما يحوّل ظلامها نوراً، وجبالها مآذن، وهضابها منابر للهداية، ووديانها مساجد يتعبّد في محاريبها الموّحدون، وآفاقها مراتع للحريّة الإنسانيّة، يرتفع في مسارحها المؤمنون بقداسة الحياة، وتتفلّق صخورها عن سر الأسرار في هذا الوجود .. عن النور المخبوء في مشكاة كنز الغيب، عن كلمة الحق وأمانته! صبراً يا أم إسماعيل، إن إبراهيم - عليه السلام - خليل الله، وله مع ربّه مناجاة، وفي المناجاة أسرار وأسرار، وفي المصافاة أضواء وأنوار، سوف تتفجّر عنها رمال الحياة، كما انفجرت عن زمزم رمال الصحراء! أجل، يا أم إسماعيل، لقد جيء بك وبوليدك إلى هنا لتؤديا أمانة الله إلى ¬

_ (¬1) البخاري: 60 - الأنبياء (3364).

الحياة، في هذا الوادي (الصَّدْيان) لتكون الآية الإلهية أضخم من تراث التاريخ كله، في فلسفته وعلومه ومعارفه، وتجاربه وأنظمته، منذ وعى التاريخ حقيقة الحياة! وافترّ ثغر (هاجر) عن ابتسامة الرضى، وهي ترى هذا الوادي الأجرد المقفر يجذب إليها لثاماً من الناس، كانوا يقرون به من قبل، فلا يجدون فيه أثراً للحياة! وشبّ إسماعيل وترعرع بين أطفال (جرهم) وشبابها عربيًّا خالصاً، ولما استوت رجوليّته أصهر فيهم إلى سيّدهم، وجاء إبراهيم خليل الله زائراً ولده، ولقي إسماعيل أباه، وتحدثا حديث حنان الأبوة، ووَلَه البنوة، وأفضى خليل الله إلى ابنه إسماعيل بسرّ الحياة في رمال الصحراء التيَ كان قد أودعه فيها مع أمّه في هذا الوادي الأجرد، ليؤديّا أمانة الله إلى الحياة! ونبأه بأمر الله في بناء بيته، وقد بوأه الله مكانه من الربوة الحمراء، وبنى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - (الكعبة المشرفة) بيتاً لله تعالى، ليكون رمزاً إلى الحقيقة الكبرى في الوجود .. حقيقة التوحيد في توحيد التوجه إلى الله الواحد الأحد، وتضرّع خليل الله ودعا، وأمّن إسماعيل، أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إلى ذريته في جوار هذا البيت الحرام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} [إبراهيم]! وهذه ضراعة داعية تنساب من قلب خليل الله إبراهيم، لجوءاً إلى أرحم الراحمين، أن يجعل من هذا الوادي الأفْيَح المقفر اليابس، بلداً عامراً بذريّة

هذا الوليد الذي جاء به إلى هنا وحيداً إلا من أمّه الراضية الوالهة، استجابة لأمر الله تعالى .. ولمّا يعلم الخليل ما كتبه قلم القدر الحكيم في لوح الكون من أسرار تحجبها رمال الصحراء في هذا الوادي .. ولكن إلهام (الخُلّة) في وحي النبوة ألْقَى إليه كلمة الله في رسالة التوحيد .. تلك الرسالة التي حاف عليها تاريخ المجتمع البشري، فلم تجد له في تراثه إلا سمَّ الخياط منفذاً تَنْسرب منه، متسلّلة في مسارب الحياة! وكانت هذه الضراعة الداعية دعوة عامة، تستهدف الاستقرار والأمن, وجلب الرزق لذرية إسماعيل، وتبرز ما استسر وراء سجُف الغيب من تجليّات وأحداث تجعل من إسماعيل دوحةً تُلقي بظلال أفنانها على جنبات الوادي الأجرد، فتُحيله حياة حيّة خالدة، تهوي إليه الأفئدة من أطراف الأرض، هائمة وَالهةً بحب الحقيقة الكبرى في رمزها العظيم (الكعبة المشرفة)! {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)} [الحج]! واستجاب إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - لأمر الله، وطهّرا بيت ربّهما الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً! {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} [البقرة]! طهّراه من رجس الوثنيّة التي أثقلت كاهل التاريخ على طول مسيرته في حياة المجتمع البشري، ونادى إبراهيم في الناس بالحج إلى بيت الله، وأبلغ الله

النداء إلى أهله في عالَمي الغيب والشهود، وأتَوْا من كل فجٍّ عميق، وأوب سحيق، ملبِّين دعوة ربّهم على لسان خليله إبراهيم، يتداولون عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل، تحقيقاً لوعد الله بقبول دعاء إبراهيم وإسماعيل! {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)} [البقرة]! ونبصر التعبير هنا يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربّهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود (¬1)، يرسمه مشهوداً كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن! ونبصره يبدأ بصيغة الخبر: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}! وبينما نحن في انتظار بقيّة الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويُرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين .. إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}! إنه طلب القبول، هذه هي الغاية، فهو عمل خالص لله، الاتجاه في قنوت وخشوع إلى الله، والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضا والقبول، والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء، عليم بما وراءه من النية والشعور! ونبصر جو الدعاء، كأنما الدعاء يقع اللحظة حاضراً شاخصاً متحركاً .. ونبصو رد المشهد الغائب الذاهب حاضراً يُسمع ويُرى، ويتحرك وتفيض منه الحياة، ونبصر تضامن الأجيال في العقيدة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 114 بتصرف.

وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)} [البقرة]! وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود .. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمّقه في قلوبهم ومشاعرهم! إنه رجاء العون من ربّهما في الهداية إلى الإسلام، والشعور بأن قلبيهما بين أصبعن من أصابع الرحمن، وأن الهدى هداه، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهما يتجهان ويرغبان، والله المستعان! ثم هو طابع الأمة المسلمة، التضامن، تضامن الأجيال في العقيدة: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}! وهي دعوة تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن، فأمر العقيدة هو الشغل الشاغل، وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما، نعمة الإيمان, تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام، لقد دَعَوَا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات، ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان, وأن يريهم جميعاً مناسكهم، ويبيّن لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم بما أنه هو التواب الرحيم! وتزاحفت القرون والعصور متواثبة، وهي تطوي بساط التاريخ, وتسوق

2 - دعوة إبراهيم عليه السلام

الأجيال، جيلاً إثر جيل، وبلغت دعوة إبراهيم العامة مداها في الانتشار، وتكاثر ولد إسماعيل، حتى كانوا غمرة العرب وجمهرتهم، وسادوا وتسيّدوا، وتشعبوا وتفرعوا، ملؤوا السهل والجبل، ونزلوا الوديان، وتسنموا المكانة الرفيعة! بيد أنهم إذ كثر عددهم، نسوا دعوة أبيهم إبراهيم - عليه السلام - وهم في غمرة الحياة الجاهلة، وجهلوا منها الحقيقة الكبرى, حقيقة التوحيد، وأوغلوا في وثنيّة بليدة، وكانت الوثنيّة الأولى يضاهئون بها وثنيّة فجور من قبلهم في أمم الفلسفة الضالة! 2 - دعوة إبراهيم عليه السلام: وثاني ما يطالعنا: دعوة إبراهيم عليه السلام، فقد تنفّس الغيب، وبدت إشراقة الفجر الجديد، ترسل أشعتها من أفق (الربوة الحمراء) وتعالى صوت الحق في ترنيمة الرسالة العظمى، رسالة التوحيد والعلم والطُّهر، علم الكتاب والحكمة، لا علم الهلوسة والفلسفة الضالة .. ورتّل القدر مرة أخرى ضراعة أخرى للخليل في دعوته الخاصة، بعد أن حقق الله له دعوته العامة، وكانت هذه الدعوة الخاصة هي ميراث الحياة في خُلّة الخليل، والعنوان المشرق في ملّته الحنيفيّة، والكلمة الباقية من نبوته ورسالته، وجاءت هذه الدعوة متوافقة تمام التوافق مع نَفَس الغيب في إشراقة الفجر، وكان الإلهام سر الوجود في ضراعة خاصة، يطلب فيها إظهار مكنون الغيب حين يحين الحين: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} [البقرة]!

وكانت الاستجابة هي بعثة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - بعد قرون وعمرون (¬1) .. بعثة رسول من ذريّة إبراهيم وإسماعيل يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويطهرهم من الأرجاس والأدناس .. ولهذا الدعاء دلالته ووزنه فيما كان شجر بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة من نزاع عنيف متعدد الأطراف، فإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - قالا وهما يرفعان قواعد البيت باللسان الصريح: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}! وهما بهذا يقرران وراثة الأمة المسلمة لإمامة إبراهيم .. ووراثتهما للبيت الحرام سواء! يروي الحاكم وغيره بسند صحيح عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك؟ فقال: "دعوة أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى، وبصرى من أرض الشام" (¬2)! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 115. (¬2) الحاكم: 2: 600 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، والطبري: 1: 556 ط. ثالثة، الحلبي 1388 هـ - 1968 م، وابن كثير: البداية: 2: 275 قال: قال ابن إسحاق: ثنا ثور ابن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك؟ قال: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى - عليهما السلام -، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج نها نور أضاءت له قصور الشام، واسترفعت في بني يعد بن بكر ... " الحديث. ثم قال: وهذا إسناد جيد قوي، وابن إسحاق قال: وحدثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم، ولا أحسب إلا خالد بن معدان الكلاعي، أن نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك؟ قال: "نعم ... " الحديث: السيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 219 - 220 مكتبة المنار، الأردن، ط. أولى 1409 هـ - 1988 م، وأحمد عن أبي أمامة قال: قلت: يا =

3 - أنبياء في الجزيرة

3 - أنبياء في الجزيرة: وثالث ما يطالعنا: أنها كانت مكاناً لكثير من الرسالات، ومن ثم فبعثة خاتم النبيّين في الجزيرة لم تكن وحيدة، فهذا هود - عليه السلام - أقدم من إبراهيم - عليه السلام - كان من قوم عاد، وكان موطنها الأحقاف، والحِقْف: ما استطال واعوج من الرمل (¬1)، وكانت منازل عاد على المرتفعات المتَفرقة في جنوب الجزيرة: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)} [الأحقاف]! وقد قالوا إنه كان أول نبي بعد نوح عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} [الأعراف]! وهذا النص يومئ كما يقول الشيخ أبو زهرة - رحمه الله - (¬2): إلى أن هوداً جاء من بعد نوح، وأن قومه كانوا خلفاء من بعد نوح، ويُشير من جهة أخرى إلى أن قوم نوح كانوا في أرض العرب، كما كان خلفاؤهم! ¬

_ = نبي الله! ما كان أول بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهم ... " الحديث: 5: 262، وابن سعد: 1: 102، وإسناده حسن، كما قال الهيثمي، وله شواهد تقوية: مجمع الزوائد: 8: 222، وانظر الطيالسي: منحة المعبود: 2: 86، وفي سنده فرج بن فضالة، والطبراني في الكبير: 8: 175 (7729)، والأصبهاني في دلائل النبوة: 1: 239. (¬1) المعجم الوسيط (حقف). (¬2) خاتم النبيّين: 1: 47.

وإن عاداً كانوا من أقوى قبائل العرب منعة، وأقواها شكيمة، ولكن كانوا أشد غروراً، كما قال الله تعالى عنهم: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت]! وكذلك صالح نبي ثمود، وكانوا عرباً يسكنون الحجر، الذي بين الحجاز وتبوك! كان يدعوهم نبيّهم إلى التوحيد، وكانت بيّنتُه ناقة لا يمسوها بسوء، وإلا كانوا خاسرين: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [الأعراف]! ولقد كان قوم صالح من بعد عاد وقوم هود، إذ كانوا خلفاءهم، وكانوا أقوى قوة، وأكثر عدداً: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)} [الأعراف]! ولكن ثمود بعدت عن أمر ربها، واعتدوا على صالح، فنزل عليهم عذاب واصب أبادهم! وقد كانت ديارهم أطلالاً هامدة، وآثاراً باقية، تذكّر بغضب الله على من كذبوا رسله، وتعجلوا عقابه، وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لما مرّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين

ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إِلا أن تكونوا باكين"، ثم قَنَّع رأسه، وأسرع السير، حتى أجازَ الوادي! وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب الحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين، إِلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم" (¬1)! ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعث على التفكير والاعتبار، عند المرور بقبور الظالمين، وبما أصابهم، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتحذير من الغفلة عن ذلك، حتى المياه التي كانت في آبار هؤلاء نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن استعمالها، وحتى لا يغفل المسلمون عن مواطن العظة، وألا يستهينوا بما خلا قبلهم من مَثُلات! وجاء شعيب بعد إبراهيم وبعد لوط، وقيل إنه بعد يوسف -عليهم السلام - ومن المؤكد أنه جاء بعد لوط؛ لأنه جعل من إنذاره لقومه أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)} [هود]! وهذا يدل على أمرين: الأول: أن مبعث شعيب - عليه السلام - كان بعد مبعث هود وصالح ولوط، فقد جعل في بيانه ما حدث لأقوام هؤلاء من عذاب دنيوي ماحق، كان موضع إنذار لهم! ¬

_ (¬1) البخاري: 64 - المغازي (4419، 4420)، وانظر (433، 3380، 3381، 4702)، ومسلم (2980)، وأحمد: 2: 9، 72، 74، 92، 113، 137، والبيهقي: 2: 451، والدلائل: 5: 233، والبغوي (4166)، والحميدي (653)، والنسائي: الكبرى (11274)، والتفسير (294)، وابن حبان (6200 - 6201).

الثاني: أنه يدل على أن قوم لوط كانوا في العرب، ولذلك قال: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)}! فهم كانوا على مقربة منهم، وكانوا مثلهم في أطراف أرض العرب من ناحية الشام! وهنا نذكر أمرين: الأول: أنه بعث لمدين، وهم أهل الأيكة، فقد كانوا يعبدون شجرة عظيمة هي الأيكة، وهم أصحاب يوم الظلة، أي سحابة ظللتهم، فلما اجتمعوا تحتها التهبت عليهم ناراً وأحرقتهم (¬1)! كما أصابتهم الرجفة والصيحة! وهي عقوبات متتالية، أرهقتهم الذلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتى فروا من أماكنهم، فجاءتهم الغمامة فرجوا أن يستظلوا، أو أن يجدوا فيها الرحمة، فكانت الصيحة العنيفة، وكانت الرجفة التي أصابتهم! وقد استحقوا هذه الأنواع من العقوبات، والأصناف من المثلات، والأشكال من البليّات، لما اتصفوا به من قبيح الصفات، حيث سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عنيفة أخمدت الأصوات، وظلّة أرسل منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات! الثاني: أن أهل مدين جمعوا مع عبادة الشجرة فساد الأخلاق وسوء المعاملات، حيث كانوا يطفّفون في الكيل والميزان, وقُطّاع طريق! ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري: 19: 109 وما بعدها، وابن كثير: 3: 346 - 347.

هذا، وقد اختصت الجزيرة العربيّة بالرسالات الأولى، رسالة إدريس، ونوح، وهود، وصالح، وكان لإبراهيم رفع القواعد من البيت وإسماعيل -كما أسلفنا-، وكان شعيب قد بعث في مدين، وانبعث منها نور رسالة موسى! كما كانت مهجر اليهود عندما نزل بهم الأذى، ولجأت النصرانية إلى أرض نجران، فراراً من حكم القياصرة! وقد يسأل سائل: لماذا كانت الجزيرة مهجر المضطهدين عندما نزل بهم الأذى، وحل سوء العذاب؟ والجواب على ذلك بأمور ثلاثة (¬1): أولها: أن البلاد العربيّة ليست بلاداً متوحّشة، كما يتوهّم الذين يحكمون بغير بيّنات، أو الذين يرمون الكلام على عواهنه، أو الذين يتجنون على الحقائق مغرضين غير منصفين، إنما هي بلاد فيها ذكاء ونفوس صافية كصفاء سمائها، وقوةُ الاستجابة فيها متكافئة مع قوة المقاومة! الأمر الثاني: أن الجزيرة مع ذكاء أهلها لهم في عقولهم معتصم، حتى وهم يعبدون الأوثان التي أغرموا بها إغراماً شديداً، وصارت جزءًا من مداركهم وعقولهم، وأصبحوا يستنصرون بالأحجار، ويظنّون أنها تجيب على سؤالهم، حتى وهم على هذا الحال لم ينسوا الله في وثنيّتهم، وكانوا كما قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} [الزخرف]! ¬

_ (¬1) خاتم النبيّين: 1: 61 وما بعدها بتصرف.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61]! {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]! وهنا تفترق الوثنيّة الرومانيّة واليونانيّة عن وثنيّة العرب؛ لأن العرب كانوا يشركون مع الله غيره، أما الآخرون فقد كانت نظريّة الحلول تسري فيهم، ولا يجيء في وثنيّتهم ذكر الله تعالى قط! وبيداء الجزيرة وقراها وبرها، فيها حصون ليست في غيرها لمنع الاعتداء الوحشي من الأمم التي اشتدت إغارتها في الماضي، وإن كان النبيون قد قوِوموا في إقناعهم ابتداء، فلأنهم في حصنين منيعين: حصن من الأرض المانعة لكل وافد من أن يقتطعها! وحصن من النفوس التي إذا آمنت قاومت واعتزت بإيمانها! وإن قوة النفوس هي التي تتميز بها أخلاق الأمم؛ فإن العقول إذا انحرفت قد تقوم وتستقيم، والقلوب إذا غشيتها غاشيات الضلال في نفوس ملتوية غير مستقيمة، فالحق لا يصل إليها إلا من رحم الله! واعتبر بحال العرب بين دولتن قويّتين من الدول التي لاصقتها، فإنهما لم يتجاوزا في سلطانهما أطرافها, ولم تتمكن إحداهما أن تنتقل من الأطراف إلى داخلها، فإنهما عندئذ تجدان قلوباً صلدة قواها ضوء الشمس الساطع، وقوة الحياة فيها، والتعرض لأوابد الحيوان ليلًا ونهاراً! الأمر الثالث: قوة الشكيمة، وقوة الخلُق العربي، وما امتاز به العربي من

4 - صفات العرب

جود وسماحة، وحسن تأت، إذا وُجدت القيادة الحكيمة، فإن العربي أنف إلا إذا رأى القائد الحكيم الذي يقوده، ولعل أحسن تصوير للنفس العربيّة ما قاله أمير المؤمنين عمر الفاروق عندما تولى الإمارة، فقد قال - رضي الله عنه -: مثل العرب كمثل جمل أنف، فليعلم قائده أين يقوده! وبذلك يلتقي في العرب عناصر ثلاثة تجعلهم في أهلية الاختيار لموطن الرسالة في المكان اللائق، وفي المقدمة: العنصر الأول: قوة في النفس تقاوم، ولا تستسلم، واعتبر ذلك في أتباع المسيح الذين لم يغيّروا ولم يبدّلوا, ولَما حاول تبّع أن يغيرهم ووضعهم في الأخدود، ما نال مأرباً، ولا وصل إلى مبتغى! العنصر الثاني: صفاء نفسي، وقوةُ مدارك، احتفظوا بها حتى في جاهليتهم، وصدق النفس، والصدق في القول، والعمل الذي يُوَجَّهون إليه! العنصر الثالث: الأنفة، وألا يطيعوا في ذلة، بل يتبعون في هداية ورشد مختارين، غير مجبرين، ولقد جاءت بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فبدت هذه السجايا، وشقت طريق النور في وسط الظلمات! 4 - صفات العرب: ورابع ما يطالعنا: صفات العرب، الذين اختارهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ليتلقوا هذه الدعوة أولاً (¬1)، ثم يبلغوها إلى الناس؛ لأن ألواح قلوبهم كانت صافية، لم تكتب عليها كتابات دقيقة عميقة، يصعب محوها وإزالتها، شأن الروم، ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: الندوي: 44 وما بعدها بتصرف.

والفرس، وأهل الهند، الذين كانوا يتيهون ويزهون بعلومهم وفلسفاتهم، فكانت عندهم عقد نفسية وفكرية لم يكن من السهل حلّها، أما العرب فلم تكن على ألواح قلوبهم إلا كتابات بسيطة خطّتها يد الجهل والبداوة، ومن السهل الميسور محوها وغسلها، ورسم غيرها مكانها! وبالتعبير العلمي المعاصر كانوا أصحاب (الجهل البسيط) الذي تسهل مداواته، بينما كانت الأمم الأخرى تمثل (الجهل المركب) الذي تصعب مداواته وإزالته! وكانوا على الفطرة، وأصحاب إرادة قوية، إذا التوى عليهم فهم الحق حاربوه، وإذا انكشف الغطاء عن عيونهم أحبوه واحتضنوه، واستماتوا في سبيله! يعبّر عن هذه النفسيّة العربيّة خير تعبير، ما قاله سهيل بن عمرو فيما رواه البخاري، حين سمع ما جاء في كتاب الصلح في الحديبيّة -كما سيأتي- من حديث المسور ومروان: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله: (والله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك) (¬1)! وما رواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سريّة عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- فانطلقوا، حتى إِذا كان بين عُسفان ومكة، ذُكروا لحيّ من هذيل، يقال لهم: بنو لحِيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، ¬

_ (¬1) البخاري: 54 - الروم (2731 - 2732).

فاقتصّوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا معهم نوى تمر تزوّدوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصمٌ وأصحابه، لجؤوا إِلى فَدْ فَدٍ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق إِن نزلتم إِلينا ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمّة كافر، اللهم! أخبر عنا نبيّك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنّبل، وبقي خُبَيبْ وزيد ورجل، فأعطَوْهُم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إِليهم، فلما استمكنوا منهم حلّوا أوتار قِسِيّهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجروه وعالجُوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخُبيب وزيد، حتى باعوهما بمكة، فاشترى خُبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خُبيب هو قَتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً، حتى إِذا أجمعوا على قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها، فأعارته، قالت: فغفلت عن صبيّ لي، فدرج إِليه، حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرفَ ذلك منّي، وفي يده الموسى، فقال: أتخشينَ أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إِن شاء الله!. وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خُبيب. لقد رأيته يأكل قِطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإِنه لموثق في الحديد، وما كان إِلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إِليهم فقال: لولا أن تروْا أن ما بي جزع من الموت لزِدت، فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو، ثم قال: اللهم! أحصهم عدداً، ثم قال:

ما أن أبالي حين أُقتل مُسلماً ... على أي شِقٍّ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإِله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلْوٍ ممزّع ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليُؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلة من الدَّبْر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء (¬1)! وقد قال عكرمة بن أبي جهل حين حمي الوطيس في معركة اليرموك، واشتد عليه الضغط: (قاتلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل موطن، وأفرّ منكم اليوم؟ ثم نادى من يبايع على الموت؟ فبايعه من بايعه، ثم لم يزل يقاتل حتى أثبت جراحاً، وقتل شهيداً) (¬2)! وكانوا واقعيّين جادّين، أصحاب صراحة وصرامة، لا يخدعون غيرهم ولا أنفسهم، اعتادوا القول السديد، والعزم الأكيد، يدل على ذلك دلالة واضحة ما رواه أحمد وغيره بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين، يتَّبع الناس في منازلهم بعكاظ ومَجَنّة وفي المواسم بمنى يقول: "مَن يُؤويني، مَن ينصرني، حتى أبلِّغ رسالة ربي، وله الجنة"! ¬

_ (¬1) البخاري: 64 - المغازي (4086). (¬2) السيرة النبويّة: الندوي 45 - 46، وانظر: تاريخ الطبري: 4: 36.

حتى إِن الرجل ليخرج من اليمن أو مُضر، فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتِنْك، ويمشي بين رجالهم، وهم يُشيرون إِليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إِليه من يَثْرب، فآويناه وصدّقناه، فيخرج الرجل منّا فيؤمنُ به ويقرئُه القرآن، فينقلبُ إِلى أهله، فيسْلِمون بإِسلامه، حتى لم يبق دُورٌ من الأنصار إِلا وفيها رهطٌ من المسلمين، يظهرون الإسلام، ثم ائْتَمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نتركُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُطرد في جبال مكة ويُخافَ، فرحل إِليه منا سبعون رجلاً، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله! نبايعك، قال: "تبايعوني على السّمع والطّاعة، في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومةَ لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إِذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة"! قال: فقمنا إِليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعدُ بن زُرارة، وهو من أصغرهم، فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإِنا لم نضرب أكبادَ الإِبل إِلا ونحن نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإِن إِخراجه اليوم مفارقةُ (¬1) العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعضَّكم السيوف، فإِما أنكم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإِما أنكم تخافون من أنفسكم جُبَيْنةً (¬2)، فبيّنوا ذلك، فهو أعْذر ¬

_ (¬1) أي معاداتهم جميعاً، وربما قامت بينكم وبينهم حرب فيقتلون خياركم، وتعمل فيكم سيوفهم. (¬2) أي جبنا.

لكم عند الله. قالوا: أمِط عنّا يا أسعد (¬1)، فوالله! لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً (¬2)، قال: فقمنا إِليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط يعطينا على ذلك الجنة (¬3)! رضي الله عنهم أجمعين! وقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وبايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وقد تجلّى هذا الصدق في العزم، والجد في العمل، وروح الامتثال للحق! أما اليونان والرومان (¬4)، وأهل إيران، فقد اعتادوا مجاراة الأوضاع، ومسايرة الزمان، ولا يهيجهم ظلم، ولا يستهويهم حق، ولا تملكهم فكرة ودعوة، ولا تستحوذ عليهم استحواذاً يتناسون فيه أنفسهم، ويجازفون فيه بحياتهم ولذاتهم! وكان العرب بمعزل عن أدواء المدنيّة والترف، التي يصعب علاجها، والتي تحول دون التحمّس للعقيدة والتفاني في سبيلها! وكانوا أصحاب صدق وأمانة وشجاعة، ليس النفاق والمؤامرة من طبيعتهم، وكانوا مغاوير حرب، وأحلاس خيل، وأصحاب جلادة وتقشّف في الحياة، وكانت الفروسيّة هي الخُلق البارز الذي لا بد أن تتصف به أمة ¬

_ (¬1) معناه: أمط عنا يدك، أي: نحّها وأبعدها عنا. (¬2) أي لا نرفضها ولا نتركها. (¬3) أحمد: 3: 322 - 323، والفتح الرباني: 2: 269 - 270، والبزار (1756) كشف الأستار، والبيهقي،: 8: 146، والدلائل: 2: 441 - 443، والحاكم: 2: 625 - 626 وقال: صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في تاريخه: هذا إسناد جيد على شرط مسلم، وابن حبان (6274، 7012)، وانظر؛ "المجمع: 6: 46. (¬4) السيرة النبويّة: الندوي: 47 وما بعدها بتصرف.

تضطلع بعمل جليل؛ لأن العصر كان عصر الحروب والمغامرات، والفتوة والبطولة! وكانت قواهم العمليّة والفكريّة، ومواهبهم الفطريّة، مذخورة فيهم، لم تُستهلك في فلسفات خياليّة، وجدال عقيم (بيزنطي)، ومذاهب كلاميّة دقيقة، وحروب إقليميّة سياسيّة، فكانت أمة بكراً، دافقة بالحياة والنشاط، والعزم والحماس! وكانوا أمة نشأت على الهيام بالحريّة والمساواة، وحب الطبيعة والسذاجة، لم تخضع لحكومة أجنبيّة، ولم تألف الرق والعبوديّة، واستعباد الإنسان للإنسان، ولم تتمرّس الغطرسة الملوكيّة الإيرانية أو الرومانيّة، واحتقارها للإنسان والإنسانيّة، فكان الملوك في إيران -المملكة المجاورة للجزيرة- فوق مستوى الإنسان والإنسانيّة، فكان الملك إذا احتجم، أو فصد له، أو تناول دواء، كان ينادى في الناس ألا يمارس إنسان من رجال البلاط، أو سكان العاصمة عملاً، ويكفوا عن كل صناعة أو ممارسة لنشاط (¬1)، وإذا عطس فلا يسوغ لأحد من رعاياه أن يدعو له، وإذا دعا أن يؤمّن عليه؛ لأنه فوق مستوى البشر، وإذا زار أحداً من وزرائه أو أمرائه في بيته كان يوماً مشهوداً خالداً، يؤرخ به في رسائله، ويصبح تقويماً جديداً، ويعفى من الضريبة إلى مدّة معيّنة، ويتمتّع باستثناءات أو مسامحات وتكريمات؛ لأن الملك شرفه بالزيارة (¬2)! هذا فضلاً عن الآداب الكثيرة التي يتقيّد بها رجال البلاط، وأركان الدولة، وأفراد الشعب، ويحافظون عليها محافظة دقيقة من الوقوف بحضرته، ¬

_ (¬1) إيران في عهد الساسانيين: 535 - 536. (¬2) المرجع السابق: 543.

والتكفير له (¬1)، وقيام كقيام العباد أمام الرب في الصلوات، وهو تصوير حال كانت عليه إيران الساسانية في عهد أفضل ملوكها بالإطلاق، وهو (كسرى الأول المعروف بأنوشروان العادل 531 - 579) فكيف في عهد الملوك الذين اشتهروا في التاريخ بالظلم والعسف والجبروت؟! وقد كانت حريّة إبداء الرأي والملاحظة فضلاً عن النقد مفقودة تقريباً في المملكة الإيرانيّة الواسعة، وقد حكى الطبري حكايته طريفة عن عهد أفضل ملوكها وأعدلهم (كسرى أنوشروان العادل) تدل كل الدلالة على مدى ما وصل إليه الحكم الإيراني من الاستبداد والحظر على إبداء الرأي الحر، والتعليق الجريء، في البلاد الإيراني، يقول الطبري: (أمر الملك قباذ بن فيروز في آخر ملكه بمسح الأرض سهلها وجبلها, ليضع الخراج عليها، فمسحت، غير أن قباذ هلك قبل أن يستحكم له أمر تلك المساحة، حتى إذا ملك ابنه كسرى أمر باستتمامها وإحصاء النخل والزيتون والجماجم، ثم أمر كتابه فاستخرجوا جعل ذلك، وأذن للناس إذناً عاماً، وأمر كاتب خراجه أن يقرأ عليه الجعل التي استخرجت من أصناف غلات الأرض وعدد النخيل والزيتون والجماجم، فقرأ ذلك عليهم، ثم قال لهم كسرى: إنا ¬

_ (¬1) كفر له: خضع، بأن يضع يده على صدره، ويطأطئ رأسه ويتطامن تعظيماً، وكانت عادة متبعة في إيران، ومن هنا شاع هذا التعبير، ودخل في لغة العرب، جاء في لسان العرب (كفر): والكفر: تعظيم الفارسي لملكه: والتكفير لأهل الكتاب: أن يطأطئ أحدهم رأسه لصاحبه، كالتسليم عندنا، وقال في شرح قول جرير: وإِذا سمعت بحرب قيس بعدها ... فضعوا السلاح وكفروا تكفيراً يقول: ضعوا سلاحكم فلستم قادرين على حرب قيس، لعجزكم عن قتالهم، فكفّروا لهم كما يكفّر العبد لمولاه، وكما يكفَر العلج للدهقان، يضع يده على صدره، ويتطامن له، واخضعوا وانقادوا.

قد رأينا أن نضع على ما أحصي من جريان هذه الساحة من النخل والزيتون والجماجم وصنائع، ونأمر بإنجامها في السنة في ثلاثة أنجم، ونجمع في بيوت أموالنا من الأموال، ما لو أتانا من ثغر من ثغورنا أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه، واحتجنا إلى تداركه أو حسمه، ببذله فيه مالاً كانت الأموال عندنا معدة موجودة، ولم نرد استئناف اجتبائها على تلك الحال، فما ترون فيما رأينا من ذلك، وأجمعنا عليه؟ فلم يشر عليه أحد منهم بمشورة، ولم ينبس بكلمة، فكرر كسرى هذا القول عليهم ثلاث مرات، فقام رجل من عرضهم وقال لكسرى: أتضع أيها الملك -عمرك الله- الخالد من هذا الخراج على الفاني من كرم يموت، وزرع يهيج، ونهر يفور، وعين أو قنا ينقطع ماؤها؟ فقال له كسرى: يا ذا الكلفة المشؤوم! من أي طبقات الناس أنت؟ قال: أنا رجل من الكتاب، فقال كسرى: اضربوه بالدّويّ حتى يموت، فضربه به الكتَّاب خاصة، تبرؤوا إلى كسرى من رأيه وما جاء منه، حتى قتلوه، وقال الناس: نحن راضون (¬1)! ولم يكن الرومان يختلفون عن الإيرانيّين كثيراً، وإن لم يبلغوا شأوهم في الوقاحة وامتهان الإنسانيّة وإهدار كرامتها، فقد روى المؤرخ الأوروبي: ...... في كتابه (العالم الروماني) ما ترجمته: (كانت القياصرة آلهة، ولم يكن ذلك عن طريق الوراثة، بل كان كل من تملك زمام البلاد كان إلهاً، وإن لم تكن هناك أمارة تدل على وصوله إلى هذه الدرجة، ولم يكن لقب (أغسطس) الملوكي المفخم ينتقل من إمبراطور إلى إمبراطور بموجب دستور أو قانون، ولكن لم يكن من شغل مجلس الشيوخ ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري: 2: 121 - 122، وانظر: إيران في عهد الساسانيين.

الروماني إلا أن يؤكد صحة كل حكم يصدر بحكم السيف، ولم تكن هذه الإمبراطوريّة إلا صورة دكتاتورية عسكرية) (¬1)! ولم يكن السجود للملوك نادراً، فقد حكى أبو سفيان بن حرب في القصة التي رواها هرقل قيصر الروم حين بلغه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الإسلام وفي آخره: (فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردّوهم عليّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل) (¬2)! أما الهند فقد بلغ فيها إهدار كرامة الإنسان وازدراء الطبقات التي اعتبرها الشعب الآري المحتل للبلاد، والقانون المدني الذي وضعه مشرعوه مخلوقاً خسيساً، لا يتميز عن الحيوان الداجن إلا بأنه يمشي على اثنين، ويحمل صورة الآدمي، وإن كانوا سكان البلاد الأصلين .. بلغوا مبلغاً يصعب تصوره، فقد نص هذا القانون على أنه: (إذا مد أحد من المنبوذين إلى برهمي يداً أو عصا، ليبطش به، قطعت يده، وإذا رفسه في غضب فرعت رجله (¬3)، وإذا ادعى أنه يعلمه سقي زيتاً فائراً (¬4)، وكفارة قتل الكلب، والقطة، والضفدع، والوزغ، والغراب، والبومة، ورجل من الطبقة المنبوذة سواء) (¬5)! ¬

_ (¬1) The Roman world, (London. 1928) P. 418 . (¬2) انظر: البخاري: 1 - بدء الوحي (7)، وكتابنا: (دفاع عن حديث فضائل أبي سفيان - رضي الله عنه -). (¬3) "منوشا ستر" الباب العاشر. (¬4) المرجع السابق. (¬5) D. C. Dutt Ancientindia, P. 324 , 343 .

إذا قورن هذا بما اعتاده العرب من الحريّة، وعزة النفس، والاقتصاد في التعظيم والأدب قبل ظهور الإسلام، ظهر فرق هائل بين طبيعة الأمتين: ووضع المجتمعين: العجمي، والعربي، فكانوا يخاطبون ملوكهم بقولهم: (أبيت اللعن) و (عم صباحاً)، وقد بلغت هذه الحريّة وبلغ ذلك الاحتفاظ بالكرامة بالعرب إلى أنهم كانوا يمتنعون في بعض الأحيان عن الخضوع لمطالب بعض الملوك والأمراء (¬1)! ولما دخل المغيرة بن شعبة رسول المسلمين على رستم، وهو في أبّهته وسلطانه، جلس معه -على عادة العرب- على سريره ووسادته، فوثبوا عليه، وأنزلوه، فقال: (كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، ولم آتكم، ولكن دعوتموني) (¬2)! ومن ثم كانت الجزيرة العربيّة مهد النبوات -كما أسلفنا-، وكانت مهجر المضطهدين الذين حلّ بهم الأذى، ونزل بهم سوء العذاب! ومعلوم أن الرسالة أمرها هائل خطير -كما عرفنا-، أمر كوني تتصل فيه الإرادة الأزليّة الأبديّة بحركة عبد مصطفى، ويتصل فيه الملأ الأعلى بعالم الإنسان المحدود، وتتصل فيه السماء بالأرض، والدنيا بالآخرة، ويتمثل فيه الحق الكلي، في قلب البشر، وفي واقع الحياة! ¬

_ (¬1) انظر: كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة: 36. (¬2) الطبري: 4: 108.

والله -عَزَّ وَجَلَّ- هو وحده الذي يختار مكان الرسالة، والذين يحملون الرسالة، والذين ينزل عليهم الوحي: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]! وقد اختار أرض العرب؛ لأن فيها العرب، والمثلات، والآثار التي تدعو إلى الاعتبار! وإن كانت في العرب عيوب، فإن الجزيرة لم يجر فيها الذل الذي يفرضه الملوك الذين يفسدون النفوس، ويجعلون أعزة أهلها أذلة، كما قال القرآن حكايته عن ملكة سبأ: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)} [النمل]! ومن ثم كانت نفوس أولئك الذين لم يعيشوا تحت حكم الملوك في جاهليّتهم، هي التي حملت رسالة العزة والكرامة إلى بقاع الأرض .. وإذا كانوا هكذا فإنهم قد قوّضوا عروش هؤلاء الملوك؛ لأنهم أعداء التحكم الفردي، ومن ثم قوّضوا قصورهم، بعد أن أشربوا حبّ (الدين القيّم)، وحملوا لواءه شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً! ولو كان لنا اختيار في قوم آخرين، وأرض أخرى، لأعيانا الاختيار؛ لأن هؤلاء العرب أهل عزّة وكرامة، ولأن أرض العرب لا ذلة فيها، وهي أرض الحريّة، وأرض الشجاعة، ولا يحمل دين العزة والإقدام، والعمل الصالح إلا الأحرار الذين يتأبَّون الدنيّة، ويتسابقون في البذل، ويتحمّلون الشدائد، وليس ذلك إلا في العرب، وأرض العرب، ولذلك ما إن انطلقوا بالإِسلام رأيناهم يهدون إليه في غير مواناة، ولا فرار، ولا يأس! ترى، لو تصورنا أرضاً للنبوة في غير أرض العرب، أتكون أرض

القياصرة، حيث تطامَن العامة لحكم قيصر، وديّثوا له بالصغار نفوسهم، حتى حسبوه من طينة غير طينتهم، وحيث يختلفون في كل شيء، وحيث لا يحكم بينهم إلا الهوى، وحيث العنصريّة الجاثمة على الرؤوس، وحيث رق النفوس لهوى الحكام، والخروج على كل منطق للمساواة الإنسانية! وإذا لم يكن الرومان، أفتكون أرض الفرس أرض النبوة، وكسرى وقد فرض عليهم المذلة والهوان، وتوزّعتهم سيادة الأشراف، حتى إذا بعدوا عن ذل كسرى، وجدوا ذل الحاشية، ووجدوا أنفسهم يتنقلون في الذل والهوان، وقد لانت نفوسهم، وخنعوا وهانوا أمام الملوك، وهل هؤلاء في ذلتهم هم الذين يحملون دعوة الإسلام إلى العزة؟! وهل هؤلاء في رقّهم النفسي هم الذين يدعون إلى الكرامة الإنسانيّة التي سجلها القرآن في قوله تعالت حكمته؟: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء]! لا يمكن أن تكون دعوة الحق ممن تمرّسوا بالظلم، حتى أمات نخوتهم، أو ممن ألفوا الذلة والخضوع، والهوان والخنوع، حتى لا يستطيعوا الابتعاد عنه، والخروج منه، ولا ممن قنعوا بالحياة الدون، ورضوا بالهون! ولو تركنا الشرق الأدنى إلى الهند لوجدنا الطبقات قد قَتلت النخوة، ودفعت شعبها إلى الاستسلام للذل! وهكذا .. شأن الناس، وشأن الأرض في كل القارات! وعليه؛ فليس لدعوة الحق والعزة والحرية إلا العرب!

ومع هذا، فالوثنيّة العربيّة تزيّن باطلها بطلاء من الحق (¬1)، ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة، حيث تزعم الإيمان بإله خلق السموات والأرض، وفي الوقت نفسه تشرك معه آلهة أخرى، هي مزدلف إليه ووسيلة .. ولما كان خلق السموات والأرض بعيداً عن مرأى الأعين، فقد أنس العبّاد المشركون بالآلهة المزعومة القريبة من أيديهم، والتي يتردّدون عليها صباحاً ومساءً، حتى صارت صلتهم بها هي الصلة الوثيقة، وأصبح ذكر هذا الإله المتوسّل إليه بغيره لا يَرد -كما أسلفنا- إلا في معرض الجدال والاعتذار: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61]! {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]! غير أن هذا التعصب لهذا السخف جاوز الحدود، فأما العامة فهم بُهم، أحلاس ما توارثوا، ما داموا قد فقدوا نعمة العقل المدرك، وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون! وأما الذين أوتوا حظًّا من التفكير، فإن تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا! وقليل من الناس من يتجرأ على التقاليد المستحكمة، ويجهر بالحق! وقد وجد قبل البعثة من نظر إلى وثنيّة العرب نظرة استهزاء، وعرف أن قومه يلتقون على أباطيل مفتراة، ولكنه لم يجد الطريق أو الطاقة على كفهم! ¬

_ (¬1) فقه السيرة: الغزالي: 81 بتصرف.

يروي البخاري عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيَ زيدَ بن عمرو بن نُفَيل بأسفل أبطح، قبل أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي، فُقدِّمت إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سُفْرَةٌ، فأبَى أن يأكل منها! ثم قال زيد: إِني لست آكل مما تذبحون على أصنامكم، ولا آكل إِلا مما ذكر اسمُ الله عليه، وإِن زيد بن عمرو كان يَعيبُ على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إِنكاراً لذلك وإِعظاماً له! قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله -ولا أعلمه إلا تحدث به عن ابن عمر- أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إِلى الشام، يسأل عن الدِّين ويتّبِعُه، فلقيَ عالمِاً من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إِنِّي لعلّي أن أدينَ دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكونُ على ديننا، حتى تأخذَ بنصيبك من غضب الله! قال زيد: ما أفِرُّ إلا مِن غضب الله، ولا أحملُ من غضب الله شيئاً أبداً، وأنى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إِلا حنيفاً! قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دينُ إِبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إِلا الله! فخرج زيدٌ، فلقيَ عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا، حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفِرُّ إِلا مِن لعنة الله، ولا أحملُ من لعنة الله ولا من غضبه شيئاً أبداً، وأنّي أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إِلا أن يكون حنيفاً! قال: وما الحنيف؟ قال: دين إِبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إِلا الله! فلما رأى زيد قولهم في إِبراهيم عليه السلام خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللهم! إِني أشهدك أني على دين إِبراهيم!

وقال الليث: كتب إليّ هشام عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: رأيتُ زيد بن عمرو بن نفيل قائماً مسنداً ظهره إِلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والله ما منكم على دين إِبراهيم غيري، وكان يُحيي الموءودة، يقول للرجل إِذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتُلها، أنا أكفيك مُؤْنتها، فيأخذُها فإِذا ترعرعت قال لأبيها: إِن شئت دفعتها إِليك، وإِن شئت كفيتك مؤنتها (¬1)! و (زيد بن عمرو بن نفيل) هو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، ووالد سعيد بن زيد، أحد العشرة، وكان ممن طلب التوحيد، وخلع الأوثان، وجانب الشرك، لكنه مات قبل البعثة (¬2)! وهذا يبيّن مقدار الحيرة التي سادت الدنيا (¬3)، وغطّت بضبابها الكثيف على الرسالات الظاهرة! اليهود يشعرون بأنهم مطاردون في الأرض، منبوذون من أقطارها، فعلى الداخل في دينهم أن يحمل وزراً من المقت المكتوب عليهم! والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب رعيب في طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمه، مع الإله الكبير -كما يزعمون- وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرقاً يلعن بعضهم بعضاً! وكان نصارى الشام الذين سألهم زيد (يعاقبة) يخالفون المذهب الرسمي لكنيسة الرومان، فلا غرابة إذا أشعروا زيداً بما يقع عليه من عذاب لو دخل في ¬

_ (¬1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3826 - 3828). (¬2) انظر: فتح الباري: 7: 177. (¬3) فقه السيرة - الغزالي: 83 بتصرف.

عقيدتهم، أو لعل هذه اللعنة المرهوبة هي تبعات الخطيئة التي اقترفها آدم واستحقها من بعده بنوه كما يدعي ذلك النصارى، وهم يبررون صلب المسيح! ومن حق زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم - عليه السلام - يبحث عن أصوله وفروعه! وإن زيداً من المفكرين القلائل، الذين سخطوا ما عليه الجاهليّة من نكر، وإنه ليشكر على تحريه الحق، ولا يغمط هو ولا غيره المكان اللائق بين قومهم .. ومن شعره في التوحيد، ما حكاه محمد بن إسحاق والزُّبيرُ بن بكار وغيرهما (¬1): وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخراً ثِقالاً دَحَاها فلما استوت شَدَّهَا ... سواءً وأرْسَى عليها الجِبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المُزْنُ تحمل عذباً زَلالا إِذا هيَ سِيقَت إِلى بلدةٍ ... أطاعتْ فصبّت عليها سِجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الريح تَصرِفُ حالاً فحالا * * * ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 162 وما بعدها.

وروى ابن إسحاق أيضاً: أربًّا واحداً أم ألفَ ربٍّ ... أَدين إِذا تقسّمت الأمور عزلتُ اللَّات والعُزَّى جميعاً ... كذلك يفعل الجلْدُ الصبور فلا العُرى أَدينُ ولا ابْنَتَيْهَا ... ولا صَنَمي بَني عمرو أزور ولا هُبلاً (¬1) أَدينُ وكان ربًّا ... لنا في الدهر إِذ حُلْمي يسير عجبْتُ وفي الليالي معجباتٌ ... وفي الأيام يعرفها البصير بأن الله قد أفْنَى رجالاً ... كثيراً كان شأنَهم الفُجور وأبقَى آخرينَ بِبِرّ قومٍ ... فَيَرْبُل منهم الطفل الصغير وبينا المرءُ يعثُر ثاب يوماً ... كما يتَرَوَّحُ الغُصن النضير ¬

_ (¬1) الروض الأنف: 1: 257 وفي المرجع السابق: (ولا غنما).

ولكن أعبدُ الرحمن ربِّي ... ليغفر ذنبي الربُّ الغفور فتقوى الله ربكمُ احفظوها ... جمَتَى ما تحفظوها لا تَبوروا ترى الأبرارَ دارُهم جِنانٌ ... وللكفار حاميةٌ سعير وخِزيٌ في الحياة وإِن يَمُوتوا ... يُلاقوا ما تضيق به الصدور وقالت أسماء بنت أبي بكر: قال ورقة لزيد بن عمرو: رَشَدْتَ وأنعمت ابن عمرو وإِنما ... تَجَنَّبْتَ تنوراً من النار حاميا بدينك ربا ليس رب كمثله ... وترك جنان الخبال كما هيا تقول إِذا جاورت أرضاً مخوفة ... حنانيك لا تظهر عليّ الأعاديا حنانيك إِن الجن كانت رجاؤهم ... وأنت إِلهي ربَّنا ورجائيا

5 - وحدة اللغة

أدين لرب يستجيب لخلقه ... ولا أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا أقول إِذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرتُ باسمك داعيا (¬1) لكن القدر كان يتخير رجلاً يبصر الحق، ويملك من الطاقة ما يدفع إلى آفاق العالمين، في وجه مقاومة تسترخص النفس والنفيس للإبقاء على الضلال، والإمساك بليله البارد الثقيل! وإذا كان هذا الإلحاد المغرق الطامس -كما أسلفنا- قد غزا النفوس بالقلق البالغ، فإلى أين تصير القلة الحائرة؟ وإلى أين يمكن أن يصير عدد هؤلاء الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر؟ وإلى أي مدى يكون تأثيرهم؟ أما من بصيص نور خلال هذا الظلام المخيّم؟ لقد كان القدر المعد لهذه الرسالة الضخمة هو خير خلق الله، وخاتم رسله - صلى الله عليه وسلم - ليواجه الإلحاد الذي شاع وذاع! 5 - وحدة اللغة: وخامس ما يطالعنا: وحدة اللغة، حيث كانت هذه الجزيرة، التي تكاد ¬

_ (¬1) انظر: دلائل النبوة للأصبهاني: 2: 693 - 697 تحقيق مساعد بن سليمان الراشد الحميد، دار العاصمة، السعودية، ط. أولى 1412 هـ، وهو حسن، وانظر: الطبراني في المعجم الكبير: 24: 82 (216)، والمجمع: 9: 418، وتغليق التعليق: 4: 83 - 84.

تكون شبه قارة، خليقة أن تتعدّد فيها اللغات (¬1)، وتتنوّع، لبعد المسافة بين مواطن القبائل وبن جنوبي الجزيرة وشماليها، وقلة اتصال أهل الجنوب بأهل الشمال، وأهل الشرق بأهل الغرب، وبحكم العصبيّة القبليّة والسلاليّة السائدة عليهم، وتأثر القبائل المتاخمة للروم والفرس بلغاتهم، وقد كثر عدد اللغات في أوروبا الوسطى، وفي شبه القارة الهنديّة، كثرة هائلة، ولا يزال عدد اللغات المعترف بها في دستور الهند يبلغ (15) لغة إقليميّة، تختلف فيما بينها اختلاف لغات مستقلة، قائمة بذاتها، حتى يحتاج أبناؤها للتفاهم إلى ترجمات، أو لغة أجنبية كالإِنجليزيّة! بيد أن الجزيرة العربيّة قد امتازت على سعتها، وترامي أطرافها، وتشتّت قبائلها، بوحدة اللغة، التي كانت ولا تزال أداة تفاهم والتقاء لجميع أبناء هذه الجزيرة، حضرهم وبدوهم، القحطاني منهم والعدناني، وهي اللغة العربيّة على اختلاف لهجاتها وفروقها الإقليميّة التي تقتضيها طبيعة اللغات وفلسفتها، وطبيعة الأقاليم والأجواء، وطبيعة الانعزال والانطواء، فاللغات تختلف في لهجاتها بمسافات، قد تطول وقد تقصر، وكانت هذه الوحدة اللغويّة التي امتازت بها هذه الجزيرة من أهم أسباب تيسير مهمة الدعوة الإسلاميّة، وسرعة انتشار الإسلام فيها، ومخاطبة الوحدات العربيّة المنتشرة، في لغة واحدة هي اللغة العربيّة الفصحى، وبكتاب واحد هو القرآن العربي المبين! ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: الندوي: 73 بتصرف.

6 - الموقع الجغرافي

6 - الموقع الجغرافي: وسادس ما يطالعنا: الموقع الجغرافي الذي يجعل الجزيرة جديرة بأن تكون مركزاً لدعوة عالميّة تخاطب الشعوب كلها! وقد أعلن الأخ الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين - رحمه الله - رئيس قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة جامعة الرياض، في حديث صحفي نشر في الأهرام المصرية في 15/ 1 / 1397 هـ - 5/ 1 / 1977 م العدد 3398 - السنة 103: أنه توصل إلى ما يشبه النظريّة الجغرافيّة التي تؤكد أن (مكة المكرمة) في مركز اليابس في الكرة الأرضيّة، أي مركز الأرض، وقد بدأ بحثه برسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على الأرض عن مدينة (مكة المكرمة) - وذلك لتصميم جهاز عملي رخيص يساعد على تحديد القبلة -فجأة اكتشف على الخريطة أن مكة تقع في وسط العالم! ومن خلال بحثه هذا توصل إلى معرفة الحكمة الإلهيّة في اختيار (مكة المكرمة) لتكون مقراً لبيت الله الحرام، ومنطلقاً للرسالة العالميّة (¬1)! وهي مع كونها جزءاً من قارة آسيا تقع بمقربة من قارة أفريقيا، ثم قارة أوروبّا، وكل منها مركز الحضارات، والثقافاات الواسعة، والفلسفات الكثيرة، وتمر بها القوافل التجارية التي تصل بين بلاد مختلافة، وقد تصل بين قارات تحمل من بلد ما يستطرف وينتج فيه إلى بلد يفتقر إليه! ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: (الكعبة مركز العالم)، الذي ترجم إلى الإنجليزية وغيرها، وأيضاً: (الإعجار العلمي في إثبات الوسطيَّة في المكان)، وهو في طريقه إلى الترجمة!

7 - حرم الإسلام

وتقع الجزيرة بين قوتين متنافستين: قوة المسيحيّة وقوة المجوسيّة! قوة الغرب وقوة الشرق! وقد ظلت رغم ذلك كله محتفظة بحريتها وشخصيتها، ولم تخضع لإحدى الدولتين، إلا في بعض أطرافها، وفي قليل من قبائلها، وكانت في خير موقع لتكون مركزاً لدعوة إنسانيّة عالميّة، تقوم على الصعيد العالمي، وتتحدث عن مستوى عال، بعيدة عن كل نفوذ سياسي وأجنبي (¬1)! 7 - حرم الإسلام: وسابع ما يطالعنا من خصائص الجزيرة: أنها الأرض المباركة، التي قدّر الله عَزَّ وَجَلَّ أن تكون حرم الإسلام، ومعلمه الأول، وداره الأولى، وأن الشيطان قد يئس أن يعبده المسلمون فيها، يروي مسلم وغيره عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" (¬2)! وهي وقف في الإسلام على أهل الإسلام، يروي مسلم وغيره عن عمر ابن الحطاب، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: الندوي: 59 - 60 بتصرف. (¬2) مسلم: 50 - صفات المنافقين (2812)، وأحمد: 3: 313، 334، 366، والترمذي (1937)، وأبو يعلى (2095، 2154، 2294)، والبيهقي: الدلائل: 6: 363، والبغوي (3525)، والفسوي: المعرفة: 2: 332، وابن أبي عاصم: السنة (8)، والطبراني: مسند الشاميين (1015)، وابن حبان (5941).

جزيرة العرب، حتى لا أدع إِلا مسلماً" (¬1)! و (الدين القيّم) حين يضطهد خارج الجزيرة ينحاز إليها، يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن الإِيمان ليأرز إِلى المدينة، كما تأرز الحيّة إِلى جحرها" (¬2)! * * * ¬

_ (¬1) مسلم: 32 - الجهاد (1767)، وأحمد: 1: 29، 32، 345، وعبد الرزاق (9985، 19365)، وأبو داود (3030، 3031)، والترمذي (1606، 1607)، والحاكم: 4: 274، والبيهقي: 9: 207، والبزار (229، 230، 234)، والبغوي (2756)، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (2756، 2757)، وابن حبان (7353). (¬2) البخاري: 29 - فضائل المدينة (1876)، ومسلم (147)، وأحمد: 2: 286، 422، 496، وابن أبي شيبة: 12: 181، وابن ماجه (3111)، وابن حبان (3728، 3729).

أصحاب الفيل

أصحاب الفيل

أصحاب الفيل 1 - {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} 2 - موقف الإيمان وموقف العقل 3 - رواج قصة الحصبة والجدري وردها 4 - دوافع المدرسة العقلية 5 - دروس وعبر 6 - مكانة العقل 7 - دور الرسالات في قيادة العقل 8 - سطوة الغرائز 9 - الدور الأول للرسالات 10 - الدور الثاني للرسالات

تمهيد

أصحاب الفيل تمهيد: الحديث عن قصة أصحاب الفيل له معالم متنوعة، نبصرها فيما يلي: 1 - {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}!: أول ما يطالعنا: أن حادثاً عظيماً لم يحدث مثله في تاريخ العرب (¬1)، كان دليلاً على ظهور حادث أكبر، وعلى أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يريد بالعرب خيراً، وأن للكعبة شأناً ليس لغيرها من بيوت الدنيا، ومراكز العبادة، وقد نيطت بها رسالة ونيط بها دور في تاريخ الإنسانيّة، لا بد أن تؤديه: وأن تقوم به! أرادوا بالفيل أن يسير متجهاً إلى البيت الحرام، فوقف ولم يسر إليه، وحبسه الله تعالى عنه، فوجهوه إلى الجهات الأخرى فاتجه، ثم أرادوا أن يوجهوه إلى البيت فامتنع! ولو أن (أبرهة) اعتبر واعتزم العودة إلى حيث جاء لرجع من الغنيمة بالإياب، ولكنه اعتزم تنفيذ نيّته، فلم يبق إلا أن يأخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [سورة الفيل]! وإنما أضيف أمر القصة إلى الفيل، واشتهرت به (¬2)، لاصطحابهم الفيل ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: الندوي: 89 بتصرف. (¬2) تفسير القاسمي: 17: 6265 وما بعدها بتصرف.

معهم للبطش والتخريب؛ فإنه لو تم لقائديه كيدهم، لكان الفيل يدهم العاملة وسهمهم النافذ، وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام. فإذا غضبوا على محارب وأسروه، أو وزير وأوثقوه، أو بلد ونازلوا حصنه، أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه، وقواعد البنيان فيهدمها؛ فيكون أمضى من معاول وفؤوس، وأعظم رعباً ورهبة في النفوس، وربما ألقوا المسخوط بين يديه، فأعمل فيه نابه، ولف عليه خرطومه وحمله ومثّل به تمثيلاً، كان أشد بطشاً وتنكيلاً! قال القاشاني: قصة أصحاب الفيل مشهورة، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه، وإلهامُ الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان، لكون نفوسهم ساذجة، وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها, ليس بمستنكر! وقال الماوردي (¬1): آيات الملك باهرة، وشواهد النبوات قاهرة، تشهد مباديها بالعواقب، فلا يُلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بمحق، ويحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها! ولما دنا مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأناً، وأظهرها برهاناً، وأشهرها عياناً وبياناً، أصحاب الفيل، أنفذهم النجاشي من أرض الحبشة، في جمهور جيش إلى مكة، لقتل رجالها، وسبي ذراريها، وهدم الكعبة .. ثم قال: ¬

_ (¬1) أعلام النبوة: 185 وما بعدها بتصرف.

وآية الرسول من قصة الفيل أنه كان في زمانه حملاً في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل .. ثم قال: فكانت آيته في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملاً ووليداً! والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقّون رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا بين عابد صنم، أو متديّن وثن، أو قائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيساً للنبوة، وتعظيماً للكعبة، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكاً للحج! فإن قيل: فكيف منع الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكاً، ولم يمنع الحجاج ميت هدمها، وقد صارت قبلة ومنسكاً، حتى أحرقها، ونصب المنجنيق عليها؟ قيل: فعلُ الحجاج كان بعد استقرار الدِّين، فاستغنَى عن آيات تأسيسه، وأصحابُ الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجُعل المنعُ منها آية، لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أنْذَر بهدمها، فصار الهدم آية، فلذلك اختلف حكمها في الحالين، والله تعالى أعلم! ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل تهيّبوا الحرم وأعظموه، وزادت حرمته في النفوس، ودانت لقريش بالطاعة، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم، وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفاً وتعظيماً، وقامت قريش لهم بـ (الرفادة) و (السدانة) و (السقاية)، والرفادة مال تخرجه قريش في

كل عام من أموالهم، يصنعون به طعاماً للناس أيام مني، فصاروا أئمة ديّانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين .. ثم قال: وكان شأن الفيل رادعاً لكل باغ، ودافعاً لكل طاغ، وقد عاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زمن نبوّته وبعد هجرته جماعةٌ شاهدوا الفيل، وطير الأبابيل، منهم حكيم بن حزام، وحاطب بن عبد العزى، ونوفل بن معاوية؛ لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة، منها ستّين سنة في الجاهلية، وستين في الإسلام! وقد ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة ما يشير إلى نبأ الفيل .. منها ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة، قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إِن الله حبس عن مكة الفيل .. " الحديث (¬1)! ونقف أمام مفتتح سورة الفيل، ونقرأ: {أَلَمْ تَرَ} في مقام ألم تعلم، كما قال مجاهد وغيره (¬2)، وقال الفراء: ألم تخبر عن الحبشة والفيل، وإنما قال ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدرك قصة أصحاب الفيل؛ لأنه ولد في تلك السنة! وفي خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مفتتح السورة بهذا الأسلوب التقريري التعجيبي (¬3)، وانصباب الاستفهام على الرؤية، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من شهود ¬

_ (¬1) البخاري: 45 - اللقطة (2434)، ومسلم: 15 - الحج 447 (1355)، وأحمد: 2: 238، وأبو داود (4505)، والترمذي (1405، 2667)، والنسائي في الكبرى كما في التحفة: 11: 71، وفي المجتبى: 8: 38، وابن ماجه (2624)، والبيهقي في السنن: 5: 177، 8: 53، و"الدلائل": 5: 84، وابن حبان: الإحسان (3715). (¬2) فتح الباري: 8: 601. (¬3) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 88 وما بعدها بتصرف.

الحادث عند وقوعه، دليل على أن هذا الحادث كان معروفاً متعالماً مشهوراً بشهوده وآثاره، لدى الخاصة والعامة، حتى كان الحديث عنه ممن شهدوه إلى من لم يشهدوه حديث رؤية، وعلم يقين، يستوي مع المشاهدة والعيان، وفي انصباب الاستفهام على رؤية كَيفية فعل الله بهؤلاء الطغاة دون انصبابه على ذات الفعل أو أثره، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}! ولم يقل: ألم تر ما فعل، أو آثار ما فعل ربّك، وفي هذا إشارة إلى تهويل الحادث، وإيذان بوقوعه على كيفيّة وحالة، هي فوق مستوى ما عهده الناس، وجرت به عادة فيما بينهم من طرائق وقوع الأحداث! وإضافة الفعل المعجِّب عن طريقة وقوعه إلى الله بعنوان الربوبيّة المختصّة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على ما تقتضيه الإضافة إلى ضمير الخطاب له خاصة، دون ضمير غيره، أو دون مشاركة معه، هذه الإضافة رمزٌ إلى مزيد اختصاص هذا الحادث به، وأنه كان من أجله، ومن أجل رسالته! وإبهام ما فعل الله بهم في صدر الكلام، ثم توضيحه وتفصيله، في صورة الاستفهام التعجيبي، والتعبير عن مقاصدهم الفاجرة، بالكيد الدال على خفي التدبير، وسيء المكر، وامتنان الله بجعل ذلك هباءً مضيعاً، لا يحظى منه صاحبه بطائل، دليل على شدة قهر الله لهم، وبطشه بهم، وعلى فظاعة ما كانوا يستهدفون، من هدم بيت الله وتخريبه، والعبث بحرمه، وهتك حرمات أهله، وفي العناية بالتنصيص على طريقة إهلاكهم، وذكر ما أُهلكوا به، بعنوان متعارف، في صورة لم تجر بها عادة، ولا تعارفها الناس فيما بينهم، في الحروب والغزوات كافة، وتجمعات الجيوش، آية على أن هذه النهاية السريعة

2 - موقف الإيمان وموقف العقل

الخاطفة، والصورة البشعة الهائلة، التي انتهى بها هذا الحادث، ليست من سنن الحياة المألوفة المكررة، ولكنها من سنن الوجود المدخرة، لأحيانها ومناسباتها، فهو محجزة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، مقدمة عليها، إرهاصاً لها وتأسيساً بوقوعها، أعلم الله به نبيه ممتناً بها عليه عند تشريفه بدواعيها! وإلا فمتى كان في معهود الناس، ومتعارف الأحداث، أن طيراً -بهذا العنوان الذي له صورة خاصة لدى من يسمعه- تَفِدُ جماعات في إثر جماعات، تحمل معها حجارة من طين يابس متحجر، حتى كأنه طُبخ بالنار، ثم تعمد هذه الجماعات من الطير إلى جماعات من الناس مخصوصة، لا تتعداهم إلى غيرهم، فترميهم بما حملت من الحجارة، فتصيب مقاتلهم، إلا قليلاً ممن نجا سقيماً، ليكون عنواناً على هول ما أنزل الله بهم من نقمة في هذا الحادث الجسيم! 2 - موقف الإيمان وموقف العقل: وثاني ما يطالعنا: أن هذا هو الذي قال الله تعالى، وقصه علينا في صراحة لا تحتمل لبساً ولا تأويلاً، وقد آمن بهذا المؤمنون، وعلموا أن سنن الكون أجل من أن يحيط بها علمنا، وأخطر من أن تكون حبيسة في دائرة عقولنا المحدودة، وأن منها سنناً عامة معهودة متعارفة، وأن منها سنناً خاصة تقع عندما تتهيّأ لها دواعيها، وخوارق العادات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه ورسله من سنن الكون الخاصة التي جعلها الله عنواناً على صدقهم وتكريمهم! أما الذين وقفت بهم عقولهم عند مألوف الناس، واحتكموا في الحادث إلى العادات الجارية المتكررة، وأرادوا أن يخضعوا سنن الله في الكون، وإرادته

3 - رواج قصة الحصبة والجدري وردها

في خلقه، وسلطان قدرته عليهم، إلى ما جرت به العادة، وتعارفه الناس، فقد فظع بهم أن يؤمنوا بهذا، كما آمن المؤمنون بجلال الله، وواسع قدرته، ومحكم إرادته، وعظيم سلطانه، وأبوا إلا تحريف كلام الله عن مواضعه، وتأويل آياته الصريحة الصادقة، والتمسوا في الأمور الاعتيادية ملجأ للتأويل! والطير في لغة العرب عامة معروف المعنى، والحجارة كذلك معروفة المعنى، والقرآن إذ عبّر بهما أراد إلى هذا المعنى المكشوف البين المتبادر إلى فهم السامع! وإذا كان وزر المتزيّدين في الروايات أنهم تزيدوا وأغرقوا، وقبلوا كل تافه وغثاء، فوزر المتأولين أنهم أجحفوا، وتنقصوا وظلموا الحقيقة، وردوا ظاهر القرآن لغير ضرورة ملجئة! وإذا جاء التأويل في شيء من موضوعات القرآن الكريم، وصرف ألفاظه عن معانيها الظاهرة المتبادرة، لاعتياصها على بعض الأفهام، فالقصص القرآني أبعد ما يكون عن ذلك؛ لأن ألفاظ هذا القصص من الوضوح والبيان بمكان رفيع؛ لأن المقصود الأول من القصص في القرآن هو العظة والعبرة والتأسي، وذلك لا يتحقق إلا بألفاظ بيّنة المعاني، واضحة الدلالة على مقصودها! 3 - رواج قصة الحصبة والجدري وردها: وثالث ما يطالعنا: رواج قصة الحصبة والجدري، فقد روى الطبري عن عكرمة قال: كانت ترميهم بحجارة معها، قال: فإذا أصاب أحدهم خرج به الجدري، قال: كان أول يوم رُؤي فيه الجدري، قال: لم يُر قبل ذلك

اليوم ولا بعده! وروى -أيضاً- عن يعقوب في عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أنه حدّث، أن أول ما رُؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام (¬1)! وقد قال بعض الكتّاب: إنهم أصيبوا بالجدري قَرَّحَ أجسامهم، ولعل جرثومة ذلك الداء الوبيل كانت من الأحجار التي رمتها الطيور التي جاءتهم وباء وبلاء وإهلاكاً، وقد كادوا من الشر كيدهم، ودبروا بالفساد أمرهم! قال الشيخ أبو زهرة - رحمه الله -: وليس عندي ما يمنع أن يكونوا قد أصيبوا بالجدري بما رماهم الله تعالى به .. إذا قلنا إن الحجارة كانت تحمل معها جرثومة هذه الأمراض الفتاكة، ولكن ما لا يقبل هو القول بأن الطير هي جراثيم ذلك المرض؛ لأن هذا يكون مخالفاً لنص الآية الكريمة الذي يفيد أن الطير رمتهم بحجارة قوية شديدة (¬2)! وقال الشيخ محمد عبده - رحمه الله - (¬3): وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة .. وذكر الروايتين السابقتين عن عكرمة ويعقوب .. وقال: وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذُعر الجيش وصاحبه، وولوا هاربين، وأصيب قائد الجيش، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة، وأنملة أنملة، حتى انصدع صدره، ومات في صنعاء! ¬

_ (¬1) تفسير الطبري: 30: 298، 303، وانظر: تفسير القرطبي: 20: 198. (¬2) خاتم النبيين: 1: 133 بتصرف. (¬3) تفسير جزء عم: سورة الفيل، بتصرف، وانظر كتابنا: السنة بين أنصارها وخصومها: 1: 411 وما بعدها.

قال: هذا ما اتفقت عليه الروايات، ويصح الاعتقاد به. وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، بواسطة فرق عظيمة من الطير، مما يرسله الله مع الريح! فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم الأمراض، وأن تكون هذه الحجارة من الظن المسموم اليابس الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذه الحيوانات، فإذا اتصل بجسده دخل في مسامه، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، وأن كثيراً من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر، وأن هذا الحيوان الصغير -الذي يسمونه الآن بالميكروب- لا يخرج عنها، وهو فرق وجماعات لا يُحصي عددها إلا بارئها .. ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به، ولا على مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها .. فلله جند من كل شيء: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته .. فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه، قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه -على وثنيّتهم- حفظاً لبيته، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه! وقال: هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة، وما عدا ذلك فهو مما

لا يصح قبوله إلا بتأويل، إن صحت روايته .. ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل -وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسماً- ويهلك، بحيوان صغير لا يظهر للنظر، ولا يدرك بالبصر، حيث ساقه القدر. لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر! وهذا الرأي الذي ذهب إليه الشيخ الإمام ليس أولى بتفسير الحادث من ظاهر النصوص -كما أسلفنا-، وبالتالي لا يصح الاعتماد عليه، ذلك أن ابن الأثير علّق على رواية الطبري عن يعقوب بن عتبة التي أوردها الطبري -كما سبق- بقوله: وهذا مما لا ينبغي أن يعرج عليه، فإن هذه الأمراض قبل الفيل منذ خلق الله العالم (¬1). وأن الماوردي نقل قول أبي صالح: رأيت في دار أم هانئ نحو قفيز من الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل مخططة بحمرة، كأنها الجزع. وقال ابن مسعود: ولما رمت الطير بالحجارة بعث الله ريحاً فزادتها شدة، وكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة (¬2)! ولذلك يتبيّن لنا مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض الذين قالوا (¬3): إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يريد بالطير الرياح المتجمعة، وبالحجارة ذرات التراب التي حملت ميكروب الجدري، كما ذهب الدكتور (هيكل) وغيره! فإنه لم يعهد في لغة العرب أن يقال عن الرياح: إنها طير أبابيل، ولا ينبغي ¬

_ (¬1) انظر: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1:، 97. (¬2) تفسير الماوردي: 4: 521. (¬3) القول المبين في سيرة سيد المرسلين: 16 - 17، وانظر قول الدكتور هيكل في (حياة محمد): 102.

أن يقال ذلك، ولا يصح أن يلجأ إلى مثل هذا المجاز ما دامت الحقيقة غير مستحيلة على قدرة الله! وإذا كانت الريح قد حملت ميكروب الجدري فلماذا هلك الأحباش وحدهم، ولِمَ لم يهلك معهم العرب؟! وإذا كان حادث الفيل قد وقع عام ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمن الثابت -كما أسلفنا- أن سورة الفيل قد نزلت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا الحادث بأعينهم، وبعضهم من أعداء الرسالة والرسول، فلو لم تكن الطيور طيوراً حقيقة، والحجارة حجارة حقيقيّة، لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب حادث الفيل بهذه الصورة في تلك السورة، ويعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، وينتهزها فرصة في الكيد للرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! ولكن الواقع أن سورة الفيل قد نزلت تقرّر حقيقة واقعة معروفة عند العرب، لا شك فيها, ولا يجرؤ أحد على إنكارها! ثم إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه (¬1)، وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفاً يسيراً يكشفه الله لهم بمقدار ما يُطيقون، وبمقدار ما يتهيّؤون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل، فهذه الخوارق-كما يسمّونها- هي من سنّة الله، ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه! ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة متردّدين ولا مؤوّلين لها -متى صحت الرواية- أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3977 وما بعدها بتصرف.

خارقة، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم. في الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعاً ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف، فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر! إن طلوع الشمس وغروبها خارقة -وهي معهودة كل يوم- وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة - وإلا فليجرّب من شاء أن يجرّب! وإن تسليط طير -كائناً ما كان- يحمل حجارة مسحوقة ملوّثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقاءها في هذه الأرض، في هذا الأوان، وإحداث هذا الوباء في الجيش، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت .. إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة، بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير .. وليست أقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيراً خاصاً يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلاً خاصاً في اللحظة المقررة .. هذه من تلك .. هذه خارقة، وتلك خارقة، على السواء! فأما في هذا الحادث خاصة، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة، وأن الله أرسل طيراً أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفاً مثيراً، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشير بأن عنصر المبالغة والتهويل مضافاً إليها! - تحمل حجارة غير معهودة، تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود! نحن أميل إلى هذا الاعتبار؛ لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة، ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فقد كان الله سبحانه يريد بهذا البيت أمراً .. يريد أن يحفظه ليكون مثابةً للناس وأمناً، وليكون نقطة تجمع للعقيدة تزحف منه حرة طليقة، في أرض حرة طليقة، لا

يهيمن عليها أحد من خارجها, ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها .. ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال، حتى ليمتنّ بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة، ويضربها مثلاً لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها .. فممّا يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود، بكل مقوماته وبكل أجزائه .. ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو ذاته وبملابساته مفرد فذ! وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده، فقد روى ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يُهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيراً أنشئت من البحر، أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار مجزّعة، حجرين في رجليه، وحجراً في منقاره، قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إِلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إِلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحاً شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة، فأهلكوا جميعاً (¬1)! ومنهم من هلك سريعاً، ومنهم من جعل يتساقط عضواً عضواً وهم هاربون، كما قال عطاء وغيره (¬2)! والجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضواً عضواً! ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 4: 551، وانظر: تفسير الطبري: 30: 303. (¬2) تفسير ابن كثير: 4: 551.

4 - دوافع المدرسة العقلية

وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} إيماءً مباشراً قريباً! 4 - دوافع المدرسة العقليّة: ورابع ما يطالعنا: دوافع المدرسة العقليّة، التي كان الأستاذ الإمام محمد عبده، رحمه الله، على رأسها في تلك الحقبة .. ونحن ندرك ونقدّر دوافع المدرسة العقلية إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيّات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ, ومحاولة ردّها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونيّة .. فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافيّة الشائعة التي تسيطر على العقليّة العامة في تلك الفترة، كما تواجه سير الأساطير والإسرائيليّات التي حشيت بها الكتب، في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها، وموجة الشك في مقولات الدّين إلى قمتها، فقامت هذه المدرسة تحاول أن تردّ إلى الدين اعتباره، على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل، ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير، كما تحاول أن تنشئ عقليّة دينيّة تفقه السنن الكونيّة، وتدرك ثباتها واطرادها، وترد الحركات الإنسانيّة، كما ترد الحركات الكونيّة في الأجرام والأجسام! والقرآن يردّ الناس إلى سنن الله الكونيّة، باعتبارها القاعدة الثابتة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة! ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة، وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى، تركت آثارها في تلك المدرسة من المبالغة في الاحتياط، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونيّة هو القاعدة الكليّة لسنة الله، فشاع في هذا التفسير

الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه (المعقول) وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيّات! ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئيّة الدافعة لمثل هذا الاتجاه، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل، وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها -سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف- هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير، ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر، بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه-كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة! هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله، إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون، وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير! وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور! إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنيّة، لعل هنا مكان تقديرها .. إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنيّة بمقررات عقليّة سابقة، لا مقررات عامة، ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص .. بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا .. فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانيّة .. ومنها نكوّن قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعاً، فإذا قررت لنا أمراً فهو المقرر كما قررته!

ذلك أن ما نسميه (العقل) ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونيّة والتاريخية والإنسانيّة والغيبيّة هو إفراز واقعنا البشري المحدود، وتجاربنا البشريّة المحدودة! وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيّد بمفردات التجارب والوقائع، بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري .. وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله، والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا، ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها، ومن ثم لا يصلح أن يقال: إن مدلول هذا البحر يصطدم مع العقل فلابد من تأويله -كما يرد كثيراً في مقررات أصحاب هذه المدرسة- وليس معنى هذا هو الاستسلام للخرافة، ولكن معناه أن (العقل) ليس هو الحكم في مقررات القرآن، ومتى كانت المدلولات التعبيريّة مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا، وكيف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى! فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بيّنه في صورة وصفية رائعة: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}! ومعنى أبابيل كما قال مجاهد: شتّى متتابعة، ومعنى سجيل كما قال ابن عباس: طين وحجارة (¬1)، والعصف المأكول كما قال سعيد بن جبير: التبن الذي تسميه العامة هبّور، والمعنى كما قال ابن كثير: أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمّرهم وردّهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيراً، وأهلك عامتهم، ولم ¬

_ (¬1) فتح الباري: 8: 601.

5 - دروس وعبر

يرجع منهم مخبر إلا وهو جريح، كما جرى لمهلكهم أبرهة، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء وأخبرهم بما جرى لهم ثم مات (¬1)! إنها صورة حسيّة للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير .. ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصوير لحال إهلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة! 5 - دروس وعبر: وخامس ما يطالعنا: العبر المستفادة من التذكير به، وهي كثيرة: وأول ما توحي به أن الله سبحانه لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين، ولو أنهم يعتزون بهذا البيت، ويحمونه ويحتمون به، فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له، وغيرته عليه، ترك المشركين يُهزمون أمام القوة المعتدية، وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام، حتى لا تكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته، بحميّتهم الجاهليّة، ولعل هذه الملابسة تُرجِّح ترجيحاً قويًّا أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة -لا السنة المألوفة المعهودة- فهذا أنسب وأقرب! ولقد كان من مقتضى هذا التدخل من القدرة الإلهيّة لحماية البيت الحرام أن تبادر قريشر ويبادر العرب، إلى الدخول في دين الله، حينما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنيّة هو المانع لهم من الإسلام! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 552 بتصرف.

وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم، والتعجّب من موقفهم العنيد! كذلك توحي دلالة الحادث بأن الله لم يقدّر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطّموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدّسة، حتى والشرك يدنّسه، والمشركون هم سدنته. ليبقى هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلّطين، مصوناً من كيد الكائدين، وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية، ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد، ويقود البشريّة ولا يُقاد، وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - قد ولد في هذا العام! ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبيّة والصهيونيّة، ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب، وسدنَتُهُ مشركون، سيحفظه إن شاء الله، ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين! والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض، بل لم يكن لهم كيان قبل الإسلام .. كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة، وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحياناً تقوم تحت حماية الفرس .. وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم، إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربيّة تحت حماية الرومان! ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه .. ولكنه ظل في حالة

بداوة، أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية .. وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة -كما أسلفنا- ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة، وما حدث في عام الفيل كان مقياساً لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي! وتحت راية الإسلام، ولأول مرة في تاريخ العرب، أصبح لهم دور عالمي يؤدّونه، وأصبحت لهم قوّة دوليّة يحسب لها حساب .. قوة غالبة تكتسح الممالك، وتحطم العروش، وتتولى قيادة البشرية، بعد أن تزيح القيادات الجاهليّة المزيّفة الضالة! وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخهم نسوا نعرة الجنس، وعصبيّة العنصر، وذكروا أنهم مسلمون .. ومسلمون فقط، ورفعوا راية الإسلام، وراية الإسلام وحدها، وحملوا عقيدة ضخمة قويّة يُهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بالبشريّة .. ولم يَحملوا قوميّة ولا عنصريّة ولا عصبيّة .. حملوا عقيدة يُعَلِّمون الناس بها, لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه، وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده، ولم يخرجوا ليؤسّسوا إمبراطوريّة عربيّة ينعمون ويرتعون في ظلها، ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها، ويُخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب، وإلى حكم أنفسهم! إنما قاموا ليُخرجوا الناس من عبادة العباد جميعاً إلى عبادة الله وحده! عندئذ فقط كان للعرب وجود، وكانت لهم قوة، وكانت لهم قيادة .. ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله، وقد ظلت لهم قوتهم، وظلت لهم

6 - مكانة العقل

قيادتهم ما استقاموا على الطريقة، حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم، وتركوا راية الحق ليرفعوا راية العصبيّة نبذتهم الأرض وداستهم الأمم! وما العرب بغير الإسلام؟! ما الفكرة التي قدموها للبشريّة أو يملكون تقديمها، إذا هم تخلوا عن هذه العقيدة؟! وما قيمة أمة لا تقدم للبشريّة هذه العقيدة؟! إن كل أمة قادت البشريّة في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة .. والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانيّة لم يستطيعوا الحياة طويلاً، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها، والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشريّة كانت هي العقيدة الإِسلاميّة .. العقيدة التي رفعتهم إلى مكان القيادة والريادة، فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة، ولم يعد لهم في التاريخ دور، وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً، إذا هم أرادوا الحياة، وأرادوا القوة، وأرادوا القيادة والريادة، والله الهادي من الضلال! 6 - مكانة العقل: وسادس ما يطالعنا: أن (العقل) هو المرشد للإنسان (¬1)، يهديه إلى سواء الطريق، وينير له ظلمات الوجود، ويفتح له مغاليق الكون، ويسدده في مسيره ضارباً في بيداء الزمن، حتى يقضي ما قدِّر له من بقاء! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 29 وما بعدها بتصرف.

وعلى قدر استعداده الفطري يكون كسبه من تجارب الحياة .. وعلى قدر ما يكسبه من تلك التجارب تكون فائدته .. وعلى قدر هذه الفائدة تكون مكانةُ الفرد في الجماعة ومكانته منها .. ومن ثم يتدخل (العقل) بوساطة الفرد في إرشاد الجماعة وهدايتها وتسديدها، والسمو بها صعداً في مدارج الرقي والكمال! وإذا كانت الحياة لم تعرف حداً لرقيّ الفرد في الجماعة البشريّة تنتهي إليه، فلا يكون للجماعة نفسها هذا الحد، تقف عنده في رقيّها .. فالحياة متجددة، والمعارف الإنسانيّة متزايدة، و (العقل) البشري دائب العمل، وخزائن الكون لا تزال مغلقة، وأسراره ما برحت محجّبة، وحقائقه ما فتئت مجهولة! وكيف يقف رقيّ الفرد أو الجماعة عند حد، ومهمّة (العقل) في الحياة هي كشف تلك الأسرار الكونيّة، ومعرفة حقائق الوجود واستخدامها في إفادة الإنسانيّة؟! ومن الغرور العقلي أن يزعم إنسان أنه وصل إلى درجة من المعارف والعلم بحقائق الكون وأسرار الوجود، تقربه من الكمال المقدور للبشريّة، فالمجهول من تلك الأسرار، وهذه الحقائق، لا يزال أعظم بكثير جداً مما عُرف، والذي عُرف لا يزال الكثير منه مستخدماً في الحياة على غير جهته التي تفيد منها الحياة، فالجهاد أمام (العقل) واسع المدى، فسيح الجنبات! بيد أن هذه المعارف العقليّة التي لا تنتهي عند حد في الأفراد والجماعات، هي في الواقع المشهود محدودة المنزع، لا تتعدى مشاهد الوجود ومظاهر الكون!

7 - دور الرسالات في قيادة العقل

7 - دور الرسالات في قيادة العقل: وسابع ما يطالعنا: دور الرسالات الإلهية في قيادة (العقل) إلى مجاهد الطبيعة ومطبوعها ومداخل الوجود، وبواطن الحياة .. بل إلى ما وراء الطبيعة وإلى ما فوقها .. إلى الخالق جل شأنه، وإلى عظيم قدرته، وباسط سلطانه، وبالغ حكمته، وواسع علمه، وهيمنة إرادته .. وإلى الكون وما فيه من أسرار وآيات ودلائل، تدل بما اشتملت عليه من نظام متماسك، وقوى مترابطة، وسن متوافقة، ومنافع متتابعة، على فضل الله ورحمته، ولطفه وإحسانه، وجوده وقهره، وكبريائه ولطائف تدبيره! وهذا مجال تنبيه وإرشاد، تتجه فيه الرسالات الإلهيّة إلى مخاطبة (العقل)، لتوجيهه إلى تعرّف جلال الكون، وعظمة الوجود، وخطر الحياة، ليقف منها على وشائج التكوين والإبداع التي تصل الخلوق بالخالق، وتربط بي أجزاء الوجود، وتكشف عما طوي فيها من منافع واستجابات لرغبات الإنسان المادية والروحية! وكلما اتسعت معارف (العقل) عن حقائق الكون ازدادت استجابات الحياة له، وقوي سلطانه في تسخير قوى الطبيعة فيما يفيد النوع الإنساني، ويرقّي عناصره، ويدعم قواه، ويهيئ أمامه الفُرص للتغلب على احتمال أعباء الحياة في ثقة واطمئنان! وليس (العقل) بمعصوم من الزلل والخطأ، بل ربما كان من الحق أن يقال إنه كثير الخطأ والزلل، ولا سيما إذا ضعف أمام الغرائز والقوى الحيوانيّة، واستجاب لدواعيها، وخضع لسلطانها، فإنه حينئذ يصبح أداة طيّعة لهوى

8 - سطوة الغرائز

تلك الغرائز، وعبداً لشهواتها، تتحكّم فيه، وتوجّهه في طريق أغراضها، وتصبح معارفه وسيلة من وسائلها في تلوين الحياة، كما تشتهي وتريد! 8 - سطوة الغرائز: وثامن ما يطالعنا: أن تاريخ الحياة والأحياء يدل على أن سلطان الغريزة كان أقوى في الأفراد والجماعات من سلطان (العقل)، كما يدل على أن الحياة أسرع استجابة لنداء الغريزة من منطق (العقل)، وأساس قيادة في يد الغرائز منها في يد (العقل)، والغرائز في الإنسان شبيه بعضها ببعض في مطالبها وغاياتها، ولكنها تختلف في الأفراد قوةً وضعفاً، وظهوراً وكموناً، وليس (العقل) الإنساني على هذا الغرار في أفراد الإنسان، فهو مختلف فيهم أشد الاختلاف، وقلما يتفق (عقل) و (عقل)، فاتفاق الغرائز في الغايات يكسبها قوة في مطالبها وتنفيذ أغراضها، واختلاف (العقول) يوهن من سلطان (العقل) على الغرائز، والغرائز منافذ للقوى الماديّة تتنفس منها، ومن ثم نراها تشتطّ في تنفيذ رغائب الجسد، وتحاول أن توجّه قوى الحياة -حتى العليا منها- إلى مقاصد ماديّة، لا وزن عندها للقيم الخلقيّة من العدل والرحمة والإيثار، إلا إذا كانت وسيلة لنفع مادي، وقضاء شهوة جسديّة، فالظلم والقسوة والأثرة في لغة الغرائز ومنطق المادة الصماء تساوي العدل والرحمة والإيثار في كثير من الأحايين والأوقات! والغرائز إذا انطلقت على سجاياها، وتغلّبت على (العقل)، كيّفت أعمال الأفراد والجماعات، على حساب ميولها وهواها، وخلعت على تصرفات الأشخاص والأشياء نعوتاً من لغتها، حتى تصبح القوة الغاشمة هي

9 - الدور الأول للرسالات

الميزان الأعلى في شرعة الحياة، ولا فرق بين أن يكون هذا الميزان منصوباً على حشائش الأحراش والأدغال وعلى أبواب الكهوف والغيران، أو موضوعاً على بساط من سندس الحضارة الزائفة الملوثة بدماء الضعفاء, وهذا هو المنبع الذي نبعت منه المذاهب الماديّة الملحدة منذ قامت الحياة! وهنا يأتي دورآخر للرسالات الإلهيّة، هو دور إيقاظ (العقل) من ظهور سطوة الغرائز، وإفساح المجال أمامه لتنظيم رغائبها، في صورة تخضعها لموازين الأخلاق، وإعطاء الفضائل قيمتها في الحياة، ووضع الرذائل في مواضعها منها، حتى تقاس كل فضيلة أو رذيلة في أعمال الأفراد والجماعات بمقياسها العادل الذي لا يعرف الغش والخداع! 9 - الدور الأول للرسالات: وتاسع ما يطالعنا: أن الدور الأول للرسالات الإلهيّة دور قيادة وتعليم، ومجالها في هذا الدور هو الحقائق الكليّة، والمعارف العليا، فهي التي تنبئ عن الغيب، وتكشف عن حقائق كليّة في صور واقعيّة، وأمثال تقربها إلى الواقع المشهود، حتى تكون دانية إلى مجال (العقل) ومدركاته، وهي التي تتحدّث عن الخالق ونعوت كماله، وعن فيض الحياة من خزائن رحمته، وعن عوالم السماء والأرواح، وعن الوحي والنبوة، وعن نظام الكون وقوانين ترابطه، وعن الحياة الأخرى وما فيها من ثواب وعقاب! ولا سبيل لـ (العقل) وحده إلى إدراك هذه الحقائق إدراكاً يتجاوب صداه مع الواقع الغيبي في هذا المجال؛ لأن الغيب محجوب عن الحس، والحس بأدواته المادية هو المشكاة التي يستضيء بمصباحها (العقل)، فيهتدي إلى

10 - الدور الثاني للرسالات

أوليّات من الحقائق، يحمل عليها مثيلاتها بضرب من القياس والتشبيه، ومن هذه الحقائق تتولد القضايا العقلية المنتزعة من الوجود المشهود انتزاعاً مباشراً أو غير مباشر! و (العقل) الإنساني في هذا الدور العجيب يجب أن يكون خاضعاً للرسالات الإلهيّة، آخذاً عنها، فهي التي تمده وترشده وتهديه، فإذا استجاب لها أمن العشار والزلل، وإذا تأبّى عليها وقع في أغلال الغرائز، وانقلب عمله إلى استجابات ماديّة تصب المعارف العليا في قوالب وثنيّة تعتمد على التشبيه والتصوير .. وتاريخُ الفلسفات والأديان مليء بالشواهد الصادقة على ذلك! 10 - الدور الثاني للرسالات: وعاشر ما يطالعنا: أن الدور الثاني للرسالات دور مؤاخاة (العقل) ومظاهرته، حتى يتغلّب على جموح الغرائز ويكفكف من حدّتها، ويطامِنَ مِنْ غرورها، ويقلل من اندفاعها، ويوجّهها وجهة صالحة، دون كبت يميتها أو انطلاق يفسدها! ومجال هذا الدور هو الحياة الواقعيّة التي يحياها الأفراد والجماعات، وتحديد علاقة الفرد بالفرد، وعلاقة الجماعة بالجماعة، بل علاقة الفرد والجماعة بالحياة والأحياء، وتنظيم هذه العلاقات على أسس من العدل، تعطي كل ذي حق حقه، وتشيع بين الأحياء الثقة والاطمئنان والتعاطف، والتواسي والمحبّة والإخاء! و (العقل) الإنساني في هذا الدور يجب أن يكون هو المسيطر على الغرائز

يقودها بحكمته، ويوجهها بسياسته، والرسالات الإلهيّة هي المرشد العليم، والمستشار الأمين, والناصح الحكيم، وعلى ضوء إرشادها ونصحها ومشورتها يسير (العقل) في طريقه مؤدياً واجبه على أكمل وجه في الحياة! ولقد مرت الإنسانيّة بأطوار متعددة، اختلفت عليها في تلك الأطوار الرسالات الإلهيّة، فكانت فيها معالم للتاريخ على تلك الأطوار، وكانت كل رسالة بداية لطور ونهاية لآِخر .. وقد احتفظت تلك الرسالات بخصائص ومميّزات، هي في الواقع -خصائص ومميزات الأطوار التي سايرتها، ومن تلك الخصائص يُعرف نصيب (العقل) في تلك الأطوار، فهو مولود مع الإنسانيّة، وخاضع لما تخضع له من حكم التدرج في طريق الاكتمال! وكما مرّت الإنسانيّة في مرحلة الطفوليّة الغريزيّة بالغرائز المنطلقة، مرّ معها (العقل) الإنساني في هذه المرحلة، منطلقاً مع الغرائز، يفتح لها أبواب المادية المجنونة الجائعة، وجاءت الرسالات الإلهيّة في هذا الطور تومئ إلى الحقائق العليا ولا تُفصح، وتَرمز ولا تُصرِّح، تمشياً مع طاقة الإنسانيّة الساذجة وحالة الطفولة التي يمر (العقل) بها في مرحلتها في هذا الطور من أطوار التاريخ البشري! واستعراض الصور الجدليّة التي يقصها التاريخ, وتحدثنا بها كتب الرسالات الإلهيّة عن أوائل الأنبياء والرسل ومتقدميهم في الزمن، كنوح، وإبراهيم، وهود، وصالح، وشعيب مع أممهم، قد لنا على أن (العقل) البشري وقتئذ كان مدثّراً في مهاد الطفولية، محاطاً بالغرائز تهدهده، حتى يظل نائماً لصيقاً بالأرض محجوباً عن السماء!

وقد يكون هذا هو السبب فيما يقع من الوهم في صلاحية (العقل) وحده لإدراك الحقائق العليا إدراكاً مباشراً، دون اعتماد على الحس، ولعل هذا الوهم يستند إلى تاريخ الفلسفات القديمة التي أطلقت لـ (العقل) أعنة السبح فيما وراء الطبيعة: في الخالق ونعوته، وفي عوالم الأرواح والملائكة والأفلاك والسموات، وفي الحياة وطريقة صدورها عن الخالق. ولاشك أن هذه حقائق عليا، لا سبيل لتدخل الحس فيها، بل استقل (العقل) في خوض بحارها، فغرق في أعماقها، ثم طفا وفي يديه قضايا ومعارف آمن بها، وأقام عليها صرح أعرق فلسفاته القديمة، وهي الفلسفة الإغريقية التي فُتن بها كثيرون، وها هو ذا العلم التجريبي وفلسفات (العقل) المتوسب وقد زعزعا أركان تلك الفلسفات القديمة! والرسل الكرام -عليهم صلوات الله وتسليماته- يضيقون ذرعاً بهذه البلادة العقليّة، وذلك التعبّد الذليل للغرائز العمياء التي تستلهم المادة، وتستهدي بها في أغراضها، وتستوحي الأرض في تحقيق مطالبها، وتتصامّ عن سماع صوت السماء، حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أن منافذ الأمل قد سدّت، وأبواب الرجاء في تخليص (العقل) من سلطان الغرائز وسيطرتها قد أُوصدت، لم يبق لهم إلا التطلُّع إلى طور إنساني جديد، يتجدد به ميلاد الإنسانيّة بـ (عقل) يشبّ عن الطوق، وتتهيّأ له وسائل التغلب للتفلّت من أغلال الغرائز، مستعداً لفهم لغة فوق لغة الحس، تتحدث عن عوالم الغيب وموازين الأخلاق! ولقد كان لـ (العقل) الإنساني ومضات في هذا الطور من أطوار الحياة، إذا نبَّهته الرسالات الإلهيّة تنبّه، وأشرقت آفاقه بنور الحق في سرعة خاطفة .. أما

إذا غلبَت عليه كثافة الغرائز المتحكّمة فإنه سرعان ما ينكص على عقبيه، وعاد كأنه لم يبصر من الحق والهُدى شيئاً! وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة الأنبياء في قصة إبراهيم رسول الله وخليله -عليه الصلاة والسلام-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} [الأنبياء]! وهذا تصوير بارع لمغالبة الطبيعة الماديّة القائمة في جبلة هؤلاء الوثنين الملحدين لي (العقل) الحبيس في أتون الغرائز، مع قارعات الحجج الإلهية، وداويات النذر، فلم يبق إلا الأسف الحزين على إهدار كرامة (العقل) الذي بدأ يشب على رقدة المهد: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} [الأنبياء]!

لقد سمى إبراهيم الأحجار باسمها {هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} (¬1)، واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة، وكلمة {عَاكِفُونَ} تفيد الانكباب المستمر .. وهذا يفيد تعلقهم بها .. وجاء الجواب ليدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة، في مقابل حريّة الإيمان, وانطلاقه للنظر والتدبر، وتقويم الأشياء والأوضاع بقيمها الحقيقيّة لا التقليديّة، والوراثات المتحجرة التي لا يقوم عليها دليل! {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)}! وما كانت عبادة الآباء لتكسب هذه التماثيل قيمة ليست لها, ولا لتخلع عليها قداسة لا تستحقها .. فالقيم لا تنبع من تقليد الآباء وتقديسهم؛ إنما تنبع من التقويم المتحرر الطليق! وعندما واجههم إبراهيم - عليه السلام - بهذه الطلاقة في التقدير، وبهذه الصراحة في الحكم، راحوا يسألون: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)}؟! وهو سؤال المزعزع العقيدة، الذي لايطمئن إلى ما هو عليه؛ لأنه لم يتدبّره ولم يتحقّق منه، ولكنه كذلك معطّل الفكر والروح بتأثير الوهم والتقليد، فهو لا يدري أيّ الأقوال حق، والعبادة تقوم على اليقين لا على الوهم المزعزع الذي لا يستند إلى دليل! وهذا هو التّيه الذي يخبط فيه من لا يدينون بعقيدة التوحيد الناصعة الواضحة المستقيم في (العقل والضمير)! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2385 وما بعدها بتصرف.

فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو مستيقن واثق عارف بربّه، متمثل له في خاطره وفكره، يقولها كلمة المؤمن المطمئن لإيمانه: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}! فهو ربّ واحد، ربّ الناس وربّ السموات والأرض .. ربوبيّته ناشئة عن كونه الخالق، فهما صفتان لا تنفكان .. وهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة، لا كما يعتقد المشركون أن الآلهة أرباب، في الوقت الذي يقرون أنها لا تخلق، وأن الخالق هو الله .. ثم هم يعبدون تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً وهم يعلمون! وإبراهيم عليه السلام لم يشهد خلق السموات والأرض، ولم يشهد خلق نفسه ولا قومه .. ولكن الأمر من الوضوح والثبوت إلى حدّ أن يشهد المؤمنون عليه واثقين .. إن كل ما في الكون لينطق بوحدة الخالق المدبّر .. وإن كل ما في كيان الإنسان ليهتف به إلى الإقرار بوحدانية الخالق المدبّر، وبوحدة الناموس الذي يدبّر الكون ويصرّفه! ثم يعلن إبراهيم عليه السلام لمن كان يواجههم من قومه بهذا الحوار، أنه قد اعتزم في شأن آلهتهم أمراً لا رجعة فيه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}! ويترك ما اعتزمه من الكيد للأصنام مبهماً لا يفصح عنه .. ولا يذكر السياق كيف ردوا عليه. ولعلهم كانوا مطمئنين إلى أنه لن يستطيع لآلهتهم كيداً فتركوه! {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}!

وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشّمة .. إلا كبير الأصنام فقد تركه لعلهم يرجعون إليه فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة؟! ولعلهم حينئذ يراجعون القضيّة كلها، فيرجعون إلى صوابهم، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت! وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذاً إلا ذلك الكبير, ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه، ولا إلى أنفسهم يسألونها: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع، دون أن تدفع عن أنفسها شيئاً، وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال؛ لأن الخرافة قد غطّت عقولهم عن التفكير، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمّل والتدبّر .. فإذا هم يدعون هذا السؤال الطبيعي لينقموا على من حطّم آلهتهم، وصنع بها هذا الصنيع: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)}! فهم ما يزالون يصرّون على أنها آلهة، وهي هكذا مهشمة! فأما إبراهيم - عليه السلام - فهو يتهكم بهم، ويسخر منهم، وهو فرد وحده وهم كثير .. ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل، فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)}!

والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر! إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها، فهي جماد لا إدراك له أصلاً، وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل! ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزّهم هزًّا، وردّهم إلى شيء من التدبّر والتفكّر: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)}! وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم، وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة، فيتدبّروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون! ولكنها لم تكن إلا ومضة واحدة أعقبها الظلام، وإلا خفقة واحدة عادت بعدها قلوبهم إلى الخمود: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)}! وحقاً، لقد كانت الأولى رجعة إلى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس، كما يقول التعبير القرآني المصور العجيب! كانت الأولى حركة في النفس للنّظر والتدبّر! أما الثانية فكانت انقلاباً على الرأس فلا عقل ولا تفكير، وإلا فإن قولهم هذا الأخير هو الحجة عليهم، وأية حجة لإبراهيم أقوى من أن هؤلاء لا ينطقون؟! ومن ثم يجبههم بعنف وضيق على غير عادته، وهو الصبور الحليم؛ لأن السخف هنا يجاوز صبر الحليم: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)}!

وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدر، وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مألوف! عندئذ أخذتهم العزة بالإثم، كما تأخذ الطغاة البغاة العتاة دائماً، حين يفقدون الحجة، ويعوزهم الدليل، فيلجؤون إلى القوة الغاشمة، والعذاب الغليظ: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء]! فيا لها من آلهة ينصرها عبّادها، وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تحاول لها ولا لعبّادها نصراً! قالوا: {حَرِّقُوهُ} ولكن كلمة أخرى قد قيلت .. فأبطلت كل قول، وأحبطت كل قيد .. ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} [الأنبياء]! فكانت برداً وسلاماً على إبراهيم - عليه السلام -! كيف؟! ولماذا نسأل عن هذه وحدها، و {كُونِي} هذه الكلمة التي تكوّن بها أكوان، وتنشأ بها عوالم، وتخلق بها نواميس: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس]! يكون هذا الشئ سماءً أو أرضاً .. يكون ناراً أو غيرها (¬1) .. هذا وذاك سواء أمام الكلمة .. كن .. فيكون! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 2978.

ليس هناك صعب ولا سهل .. وليس هناك قريب ولا بعيد .. فتوجه الإرادة لخلق الشيء كاف وحده لوجوده، كائناً ما يكون .. إنما يقرّب الله للبشر الأمور ليدركوها بمقياسهم البشري المحدود! فلا نسأل: كيف لم تحرق النار إبراهيم -عليه السلام-!، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحيّة؟ فالذي قال للنار: كوني حارقة، هو الذي قال لها: كوني برداً وسلاماً .. كوني (مكيّفاً) بلغة العصر .. لأنها لو كانت برداً دون أن تكون سلاماً لكان لها شأن آخر يؤذي ولا ينفع، وربما كانت قاتلة .. وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها، كيفما كان هذا المدلول، مألوفاً للبشر أو غير مألوف! إن الذين يقيسون أعمال الحق إلى أعمال البشر هم الذين يسألون: كيف كان هذا؟ وكيف أمكن أن يكون؟ فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين، واختلاف الأداتين، فإنهم لا يسألون أصلاً، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلاً .. علميًّا أو غير علمي، فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلاً، ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين ومقاييس البشر، وكل منهج في تصوّر مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه؛ لأن أعمال الحق غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود! إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان؛ لأن صانعه يملك أن يكون، أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار؟

11 - المعجزة الكبرى

فذلك ما سكت عنه النص القرآني؛ لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود. وليس لنا سوى النص القرآني من دليل، فتلك معجزة! 11 - المعجزة الكبرى: وآخر ما يطالعنا: أن (العقل) وقف وحده في مكانه من الحياة، يتطلّع مشدوهاً في رجاء وأمل إلى السماء يستهديها الرشد، ويسترشدها الهداية، ويسألها في ضراعة أن تمدّه بمددها في رسالة إلهيّة كاملة شاملة، توائم نضجه ورشده، تعرف الحق والعدل، وتتخذهما أساساً لبناء حياة الإخاء الإنساني، وتعرف قبل هذا وذاك فطريّة العقيدة التي تعتمد في معرفة خالق السموات والأرض على دراسة الكون في غير غموض ولا تلبيس، ولا تغمض عين (العقل) على قذى فلسفات جوفاء، ولا تقبل عليه وصاية من خارج تفكيره، بل تمنحه حريّة الانطلاق الكامل في كل ما تملك قوته العمل في مجاله، وتحجزه حفاظاً عليه من متاهات الاسترسال فيما لا يستطيع ولا يطيق من عوالم الغيب التي لا تخضع لسنن البحث والتفكير بعيداً عن الوحي، وإن كان الإيمان المطلق بهذا يعتمد على مقدّمات تخضع للبحث الذي يجعل من نتائجها قضايا يطمئن (العقل) إلى الإيمان بها، كإيمانه بأي قضية بحث من قضاياه! ومن هنا كان القرآن الكريم تبياناً لكل شيء، وهو المعجزة الكبرى لخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وقد أبان فيه مكانة العلم والمعرفة، وجعل لـ (العقل) قيادهما، ومن هنا كان العلم بأوسع معانيه هو المعجزة الخالدة لهذه الرسالة الخاتمة!

وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "ما من الأنبياء نبي إِلا أُعطيَ من الآيات ما مِثْلُهُ آمن عليه البشر، وإِنما كان الذي أُوتيته وحياً أوحاه الله إِليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" (¬1)! * * * ¬

_ (¬1) البخاري: 96 - فضائل القرآن (4981)، وانظر (7274)، ومسلم (239)، وأحمد: 2: 341، 451، والبيهقي: 9: 4، والبغوي (3651)، والنسائي: الكبرى (7977)، وأبو نعيم: الحلية: 10: 233.

من الميلاد إلى البعث

من الميلاد إلى البعث

من الميلاد إلى البعث 1 - النسب الشريف 2 - التربية الإلهيّة 3 - المسؤوليّة والإيجابيّة 4 - التكامل المحمّدي 5 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء

تمهيد

من الميلاد إلى البعث تمهيد: الحديث عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الميلاد إلى البعث متنوع المعالم، غزير العوالم، واسع الآفاق .. وحسبنا أن نبصر معالمه فيما يلي: 1 - النسب الشريف: أول ما يطالعنا: النسب الشريف، وطيب الأصل المنيف، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، ولنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه -كما أسلفنا- كانوا يشهدون له بذلك! وهو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مُدْرِكة بن إِلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان! وينتهي نسب عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام! إلى هنا معلوم الصحة، متّفق عليه بين النسّابين، ولا خلاف فيه البتّة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن عدنان من ولد إسماعيل - عليه السلام - وإسماعيل: هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم (¬1)! ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 1: 71، وعيون الأثر: 1: 21 وما بعدها، والسيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 183 وما بعدها، والطبقات الكبرى: ابن سعد: 1: 55 وما بعدها، والسيرة النبويّة: الندوي: 112، والسيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 33 وما بعدها، وشرح المواهب اللدنية: 1: 71 وما بعدها.

تعريض الدكتور طه حسين

وأمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب بن فهو بن مالك بن النضر! وأمها: برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهو بن مالك بن النضر! وأم برّة: أم حبيب بنت عبد الأسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهو بن مالك بن النضر! وأم أم حبيب: برّة بنت عوف بن عبيد بن عُويج بن عدي بن كعب بن لؤي ابن غالب بن فهو بن مالك بن النضر! قال ابن هشام: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرف ولد آدم حسباً، وأفضلهم نسباً، مِنْ قِبَل أبيه وأمه - صلى الله عليه وسلم - (¬1)! ومع هذا فهناك مستغربون بهرهم ما عند أعداء الإسلام من مناهج الفكر المنحرف، ووقعوا في الطعن في النسب الشريف! تعريض الدكتور طه حسين: ومعلوم أن الدكتور طه حسين قد ساير ركب المستشرقين -كما أسلفنا- وذكر أن علينا أن نسير سيرة الأوربيّين، ونسلك طريقهم .. وقال في مجال فصل الدّين عن الدولة والسياسة (¬2): ¬

_ (¬1) الروض الأنف: 1: 133. (¬2) انظر: (مستقل الثقافة): 15، 45، 49، 50 دار المعارف 1954 م، وكتابنا: (السنة بين أنصارها وخصومها): 2: 751 وما بعدها، ففيه تكذيبه القرآن، وتعريضه بالقراءات وبالرواية في صدر الإسلام، وإنكاره بعض الأحاديث الصحيحة .. وطعونه في الصحابة رضي الله عنهم!

(من المحقق أن تطوير الحياة الإنسانيّة قد قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدّين، ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسيّة، ولا قواماً لتكوين الدول)! وقد ضمّن كتابه (في الشعر الجاهلي) ما يثبت تلك المسايرة لركب المستشرقين، وردّ عليه الكثيرون! وكتابه (على هامش السيرة) مثل واضح على ذلك (¬1) .. وحسبنا أن نذكر تعريضه بنسب النبي، حتى لا يطول بنا الحديث!، قال: (ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليّين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش؛ فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانيّة كلها، وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية، ما يتصل منه بأسرة النبي خاصة، فيضيفون إلى عبد الله، وعبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف، وقصي، من الأخبار ما يرفع شأنهم، ويعلي مكانتهم). (¬2) وفي هذا تعريض بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحقير من قدره، وتعبير خال من كل احترام! ¬

_ (¬1) انظر: (إسلاميّات طه حسين): (على هامش السيرة): 173 - 563 دار العلم للملايين، بيروت، و (محاكمة طه حسين): 60 نقلاً عن كتاب (في الشعر الجاهلي) 72! (¬2) (في الشعر الجاهلي): 72 - 73 دار الكتب المصرية، ط. أولى 1344 هـ - 1926 م.

تعريض المستشرقين

وفي نص قرار الاتهام ضد طه حسين سنة 1927 م حول ما جاء في كتابه: (في الشعر الجاهلي) الذي نقلنا منه هذا النص، والذي رد عليه الكثيرون بالمقالات والكتب والمحاضرات في حين صدوره، نذكر منهم: (محاضرات): (للشيخ محمد الخضري)! وكتاب: (الشهاب الراصد): (للأستاذ محمد لطفي جمعة)! وكتاب: (نقد كتاب في الشعر الجاهلي): (للشيخ الإمام شيخ الجامع الأزهر محمد الخضر حسين)! ثم انتقلت القضيّة إلى النيابة العامة .. وجاء في قول رئيس النيابة في 30 مارس سنة 1927 م: (إنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام، بل وبشكل تهكمي غير لائق) (¬1)! تعريض المستشرقين: ولقد نظر المستشرقون إلى شجرة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، القريب منها والبعيد، على أنها مأثورات دينيّة إسلاميّة، قد صُنعت بعد الإسلام، ومن الغريب ألا يخطر ببالهم حين أثاروا هذه الشبهات، أو أرادوا أن يثيروها أن العرب لو عرفوا مغمزاً في نسب النبي لوجّهوه إليه، ولذكره القرآن في معرض الرد، كما ذكر ¬

_ (¬1) (محاكمة طه حسين): 61 - 62 تحقيق وتعليق خيري شلبي، المؤسسة العامة للدراسات والنشر، بيروت 1972 م. (¬2) سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: صور مقتبسة من القرآن الكريم: 1: 9 بتصرف، وانظر: البحث الطويل في الجزء الأول من كتاب كايتاني -ترجمة تركية- في نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

أسرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

التهم والمغامز التي وجهوها إليه، ومن الغريب كذلك ألا يخطر ببالهم، أن ينعموا النظر، أو لعلهم عجزوا عن إنعام النظر، في الآيات القرآنية، والأحاديث النبويّة، ليكفُوا أنفسهم مؤونة هذه الحيرة أو هذا التشكيك، والتحويم الذي يحلو لهم حول كثير مما ورد في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -! أسرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: وهذا يدعونا إلى أن نبصر النبعة التي انشقت عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ونعرف ماذا كان لها في شخصيته من أثر وراثي، أو أثر اجتماعي! عبد مناف وزهرة: وننظر إلى الفرعين الفارعين، والغصنين الزاكيين: (عبد مناف)، و (زهرة) اللذين انفرجا عن محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عبد مناف غصن من الدوحة القرشيّة، زكا وأينع، فأثمر لسيدها عبد المطلب ابنه (عبد الله) وزهرة غصنها الذي زها ونما، فأثمر لوهب سيدها ابنته (آمنة)! وهاتان الثمرتان ضمّهما القدر المغلّف بأسرار الغيب على وساد من الحب الشفيف، واللقاء الشريف، في سنة فطرية للزواج بين كرام العرب معروفة، وشرعة إلهيّة -منذ كان الناس- مقدورة، فكان منهما محمد رسول الرحمة للعالمين! وكان فرع عبد مناف أمجد أغصان دوحة قصي، وأعلاهم كعباً في السيادة والشرف، وقد شرف في زمان أبيه (¬2)، وذهب كل مذهب، وقد اجتمعت ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 54 وما بعدها بتصرف. (¬2) انظر: تاريخ الطبري: 1: 505.

قريش على عبد مناف، وصيّرته أمجاده دوحة في نساب المكارم، فكان أصلاً انتهى إليه محور القربى في تحديدها الإسلامي (¬1)، وعليه كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان القرابة في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}! فقد روى مسلم عن قبيصة بن المخارق، وزهير بن عمرو، قالا: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}! قال: انطلق نبيّ الله إِلى رَضْمَةٍ (¬2) من جبل، فعلا أعلاها حجراً. ثم نادى: "يا بني عبد منافاه! إِني نذير. إِنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ (¬3) أهله. فخشي أن يسبقوه. فجعل يهتف: يا صباحاه" (¬4)! وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}! قال: "يا معشر قريش! -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -! سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً"! ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى: 1: 74. (¬2) الرضمة: حجارة مجتمعة ليست بثابتة في الأرض، كأنها منثورة. (¬3) يربأ: يحفظهم ويتطلع لهم، ويقال لفاعل ذلك: ربيئة، وهو العين والطليعة الذي ينظر للقوم، لئلا يدهمهم العدو، ولا يكون في الغالب إلا على جبل أو شرف أو شيء مرتفع، لينظر إلى بُعد. (¬4) مسلم: 1 - الإيمان (207).

وفي رواية: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً فاجتمعوا، فعمّ وخص، فقال: "يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد الطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار. فإِني لا أملك لكم من الله شيئاً. غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها (¬1) "! وهذا يكفي سنداً لوقوفنا عند (عبد مناف) في تطلّب الأصل القريب، الذي ترجع إليه شخصيّة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - بالوراثة، في بعض الخلائق والسجايا (¬2)، فأنت ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مقام بيان القرابة التي لها المقدمة في الإنذار، حسماً للأطماع، والتي أوثرت من قبل الله العلي الأعلى بالسبق، لتعتمد على وشائج القربى في حميّتها, لحماية دعوته وحمايته، لتجاوب ما بينه وبينهم من المشاركة في خصائص تنزع إلى عرق واحد - قد سلك مسلك التدرجّ في التخصيص، حتى إذا بلغ مجتمعها الحافل، رآها سويّةً في (عبد مناف)، فأخبرهم أنهم أخصّ من يجتمع به في عرق من قريش! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4771)، ومسلم: 1: الإيمان (204، 206)، وأحمد: 2: 233، 360، 361، 519، والترمذي (3184، 3185)، والنسائي: 6: 248، 249، والبيهقي: 6: 280، والبغوي في شرح السنة (3744)، وابن حبان: الإحسان (646). (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 56 وما بعدها بتصرف.

ولهذا التدرّج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأعمّ إلى الأخصّ حكمة لطيفة، تبيّن أن الخصائص المشتركة بين فروع الأصل الواحد موزّعة على الفروع كلها بنسب متفاوتة! ولكنها قد تنتهي مجتمعة عند فرع ينزل منها منزلة القلب من الشجرة، وذلك الفرع هو الذي يسقي الأغصان المتفرّعة عنه يجمع مواد الخصائص السابقة واللاحقة! وهذا التفسير العملي للقرابة -في هذا المقام- يوحي بأن (عبد مناف) هو الفرع القرشي الذي تحدرت إليه جداول الخلائق الموروثة من أعراق آبائه! وهو الذي تقاطر فيه غيث (قصي) وأمجاده، وانتهت إليه خصائصه، فنبل وساد ومجد في حياة أبيه، على رغم صغر سنه، وعلى رغم وصية أبيه لأخيه أكبر (عبد الدار) بكر (قصي)، بما كان لـ (قصي) من مناصب السيادة والشرف، وترك (عبد مناف) لهمته وفواضله! روى ابن الأثير قال: لما كبر (قصي) ورقّ، وكان ولده (عبد الدار) أكبر ولده، وكان ضعيفاً، وكان (عبد مناف) قد ساد في حياة أبيه، وكذلك إخوته، فقال (قصي) لـ (عبد الدار): والله! لألحقنك بهم، فأعطاه دار الندوة، والحجابة -وهي حجابة الكعبة- واللواء، فهو كان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية كان يسقي الحجيج، والرفادة وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى (قصي) بن كلاب، فيصنع منه طعاماً للحجاج، يأكله الفقراء! لكن بني (عبد مناف) لم يرضهم أن تذهب منهم مكرمتا الجود والبذل،

والسقاية، والرفادة، فانتزعوها من بني (عبد الدار)، وتركوا لهم من شارات المجد ما سواهما، حتى جاء الإسلام، فأقرّ حجابة الكعبة في بني (عبد الدار) (¬1)! وهو يشير بذلك إلى أن اللواء صار في الإسلام مرتبة من مراتب المسلمين عامة، ولم يعد منصباً من مناصب أمجاد (قريش)، بل ولا عامة العرب، فانتزعه منهم، وجعله لعامة المسلمين، وأقرّ السقاية والرفادة في بني (عبد مناف) يتوارثها الخلف منهم عن السلف، حتى أدركت أبا جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس، وتعاقبها الخلفاء من بعده! أما (زُهرة) الجدُّ الأعلى للسيدة (آمنة) أم خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، فهو الأخ الأكبر لـ (قصي) والد (عبد مناف)، وقد أقام (زُهرة) بمكة حياته كلها, لم يفارقها ولم يرحل عنها! ولما رجع (قصي) من بلاد قضاعة تعرف إليه فعرفه وأدناه، ولم يزل ولده مع ولده لا يفارقونهم، يدخلون معهم في كل حلف، ويشاركونهم فيما يقومون به من عمل! وكان (بنو زُهرة) شركاء (بني عبد مناف) في نصيبهم عند تجزئة الكعبة لبنائها! وهذا الترابط الذي كان بين (زهرة) و (عبد مناف) هو الذي يوحي بجعل فرعيهما في قريش ملتقى ما تنقله الوراثة من الخصائص الإنسانيّة المنسابة مع تيار التوالد في الأشخاص! بيد أن هناك فرقاً بين فرعي (عبد مناف)، و (زهرة)، في مقدار ما عند كل ¬

_ (¬1) انظر: ابن الأثير: 2: 10.

هاشم

منهما من الجاذبيّة للخصائص والطباع، والتاريخ يذكر لـ (بني عبد مناف) خلائق القوة والصلابة والتمجد بالمكان، وحب الشرف، والسيادة والبذل، ودقة الشعور، وسرعة البداهة، وهي خصائص كانت كلها متوافرة في جدهم الأعلى، فأخذها منه وراثة ابنه (عبد مناف)، وأورثها (عبد مناف) بنيه من بعده! ويذكر التاريخ -أيضاً- لـ (بني زهرة) الأناة والهدوء، ورقة الحاشية .. وهي خصائص كانت طبعاً لأبيهم (زهرة)، ومنه تحدرت إلى ولده، موزعة عليهم، على حسب ما فيهم من استعداد مفطور .. والناظر إلى سيرة النسل المتجدّد من (عبد مناف)، ولا سيما الفرع الذي انتهى إثماره إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، يجد صدق هذا في طباعهم وأحلامهم! والناظر في (بني زهرة) يجد -كذلك- خصائص أبيهم ممثلة في طبائعهم! هاشم: وكان (هاشم) على خلق أبيه، في التمجّد بالكرم والبذل، يقوم بالرفادة، وإطعام الحاج في الموسم كله، وكان رجلاً موسراً، فإذا حضر الحج قام في قومه فقال: (يا معشر قريش، إنكم جيران الله (¬1)، وأهل بيته، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله، يعظمون حرمة بيته، فهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه وزوّاره، يأتون شُعثاً غُبراً، من كل بلد، فأقروهم واسقوهم)، وكانت قريش ترافد على ذلك، حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير على قَدْرهم، وكان (هاشم) يُخرج في كل عام مالاً كثيراً ويقول: (لو أن مالي يسع ذَلك ما كلفتكم شيئاً)! ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى: 1: 77: 78.

الرفادة والسقاية

الرفادة والسقاية: وكان لهذه المكرمات والمناقب أثر خطير في مكانة (عبد مناف) وأبنائه عند جميع العرب، فعرفوا لهم فضلهم، وقدروهم قدرهم، ونظروا إليهم نظرة فيها قداسة واحتشام، لم ينظروها لغيرهم ممن يساميهم من أبناء عمومتهم، مع ما كان في أيديهم من مراتب المجد والشرف، وشارات السيادة والتقدم مثلهم، لكن بني (عبد مناف) امتازوا بالصنائع والمكارم، يسدونها إلى قومهم، واختيارهم من بين مراتب الشرف مرتبتي الرفادة والسقاية -وهما مظهر الجود والبذل- وهو الذي زاد في مكانتهم، ورفعهم في نظر العرب قاطبة، وهو الذي عقد لهم وشيجة المحبة والإعظام في قلوبهم! عبد المطلب: أما (عبد المطلب) جد محمد الأدنى فكان أشبه بجده الأعلى (قصي)، في شرفه وتساميه وطموحه إلى عوالي الأمور، ومن غرائب هذا التشابه أن كلاً منهما نشأ بعيداً عن قومه وبلده، في حضن أمه، حتى اشتد ساعده، وبلغ مبلغ الرجال، وعرف أنه فرع الدوحة القرشيّة، وابن هامتها، فتحمل إلى قومه وبلده، فاستقبله الشرف والمجد، ودانت له السيادة! ورحل (قصي) إلى مكة (¬1)، فوجد أمرها بيد خزاعة وبني بكر، وليس لقريش منه شيء، فانتزعه منهما انتزاعاً، وأخذه غلاباً، فساد على أهل مكة، وملّكه قومُه عليهم، فلا يصدرون إلا عن رأيه! ¬

_ (¬1) انظر: السيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 96 وما بعدها.

والد النبي

و (عبد المطلب) نشأ في أخواله بني عدي بن النجار، مع أمه سلمى بنت عمرو النجاريّة الخزرجيّة، وكان أبوه (هاشم) رآها وهو في طريقه على المدينة (¬1)، فرأى امرأة حازمة جلدة، فأعجبته وعرف نسبها، وكانت لشرفها لا تنكح الرجال، حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، فتزوجها (هاشم)، وشرطت الإقامة في قومها، فلما بني بها حملت ب (عبد المطلب)، وسمته (شيبة) لبياض في شعر رأسه، وكان (هاشم) ارتحل في تجارته إلى الشام، فمات بغزّة، وشب (عبد المطلب) بين لداته وأقرانه من فتيان يثرب، حتى كان يوماً مع غلمان من أخواله ينتضلون، فجعل كلما أصاب الهدف صاح مفتخراً: أنا ابن عمرو العلا، أنا ابن سيد البطحاء، فسمعه ثابت بن المنذر أبو حسان بن ثابت الشاعر وكان خليلاً لعمه المطلب - فلما قدم ثابت مكة معتمراً لقي المطلب، فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا، لرأيت جمالاً وهيبة وشرفا! لقد نظرتُ إليه وهو يناضل فتياناً من أخواله، فَيُدْخل مَرْماتيه (أي سهميه) جميعاً في مثل راحَتي هذه، ويقول كلما خَسَق (أيَ أصاب الهدف) أنا ابن عمرو العلا، فشغُف بإحضاره إلى قومه وبلده، فأحضره ووقفه على ملك أبيه وسلّمه إليه! والد النبيّ: وجاء (عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) .. جاء وقد شرف في قومه شرفاً عظيماً .. وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزوميّة، من صميم البيت القرشي وقد ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى: 1: 78 - 79.

حفر زمزم

أنجبت لـ (عبد المطلب): أبا طالب، والزبير، وعبد الله، وأم حكيم البيضاء، توأمة عبد الله، وعاتكة، وبرة، وأميمة، وأروى (¬1)! وجدة (عبد الله) لأبيه (سلمى) بنت عمرو النجارية، التي كانت -كما سبق- لا تنكح الرجال لشرفها في قومها، حتى يشترطوا لها أمرها بيدها، إذا كرهت رجلاً فارقته! وجدته لأمه (تخمر) بنت عبد بن قصي القرشية .. وتفرض علينا منهجية البحث أن نذكر حفر بئر زمزم، ونذر (عبد المطلب)، للصلة المباشرة بـ (عبد الله) والد النبي! حفر زمزم: روى ابن إسحاق وغيره بسند حسن ذكر حفر زمزم، قال: وكان أول ما ابتدئ به (عبد المطلب) من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، يحدث حديث زمزم، حين أُمر (عبد المطلب) بحفرها، قال: قال (عبد المطلب): إني لنائم في الحِجر، إذ أتاني آتٍ فقال: احفر طِيبة، قال: قلت: وما طِيبة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني آت فقال: احفر بَرّة. قال: فقلتُ: وما برّة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني ¬

_ (¬1) أم النبي: دكتورة بنت الشاطئ: 77 نقلاً عن: جمهرة الأنساب: 12 نسب قريش، وتحرف فيها اسم (برة) بمرة، ثم جاء على صواب: 18.

فقال: احفر المضنونة (¬1)، قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف (¬2) أبدًا، ولا تُذَم (¬3)، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث (¬4) والدم، عند نقرة الغراب الأعصم (¬5)، عند قرية النمل (¬6)! قال ابن إسحاق: فلما بُيّن له شأنها، ودُلّ على موضعها، وعرف أنه قد صُدِق، غدا بمعوله، ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لـ (عبد المطلب) الطّي (¬7)، كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا (عبد المطلب)، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصِصْتُ به دونكم، وأُعطيته من بينكم، فقالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم، أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد هُذَيم، قال: نعم. قال: وكانت بأشراف الشام (¬8)، فركب (عبد المطلب) ومعه نفر من بني (عبد مناف)، وركب من ¬

_ (¬1) المضنونة: أي الغالية النفيسة التي يضنّ بمثلها. (¬2) لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها, ولا يلحق قعرها. (¬3) ولا تذم: أي لا توجد قليلة الماء، تقول: أذممت البئر: إذا وجدتها ذَميّة، وهي القليلة الماء. (¬4) الفرث: ما يكون في كرش ذي الكرش. (¬5) الغراب الأعصم: الذي في ساقه بياض، وهو ضرب من الغربان، والأعصم أيضاً: الوعل في غير هذا الموضع، قيل سمي بذلك لبياض في ذراعيه، وقيل لاعتصامه في الجبال. (¬6) قرية النمل: الموضع الذي يجتمع فيه النمل. (¬7) الطيّ: يعني طيّ البئر. (¬8) المراد: ما ارتفع من أرض الشام.

كل قبيلة من قريش نفر قال: والأرض إذ ذاك مفاوز قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز (¬1)، بين الحجاز والشام، فني ماء (عبد المطلب) وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا الهلكة، فاستَسْقَوْا من معهم من قبائل قريش، فأبَوْا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فلما رأى (عبد المطلب) ما صنع القوم، وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأيُنا إلا تَبعٌ لرأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه، بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروْه، حتى يكون آخركم رجلاً واحداً، فضيْعَةُ رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعاً، قالوا: نِعْم ما أمرت به، فقام كل واحد منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن (عبد المطلب) قال لأصحابه: والله! إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا، لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد .. ارتحلوا، فارتحلوا، حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش، ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم (عبد المطلب) إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عينٌ من ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب، وشرب أصحابه، واستقَوْا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلمّ إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا، فجاءوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله! قُضيَ لك علينا يا (عبد المطلب)، والله! لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا ¬

_ (¬1) المفاوز: واحدتها: مفازة، وسميت بذلك على سبيل التفاؤل، وقيل: هي مشتقة من فوّز الرجل: إذا هلك.

الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى ساقيتك راشداً، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبينها (¬1)! وكان لحادث حفر بئر زمزم أثر خطير في ازدياد مكانة (عبد المطلب) رفعة وعلواً بين قومه، وفي بلده، بل بين العرب أجمعين (¬2)، حيث يَسَّرَ الماء -وهو أعز شيء في وجود مكة ومنزلتها- على أهل الحرم، وعلى الحجيج كله، وعلى (عبد المطلب) نفسه، وهو صاحب مرتبتي الرفادة والسيادة، من مراتب السؤدد والشرف في قريش! وكان (عبد المطلب) وقريش على يقين أن بالحرم إلى جوار البيت بئر أبيهم إسماعيل، وأنها عين ثرَّارَةٌ، لا تنزف أبداً، ولكن أين مكانها بالتحديد، هذا ما حيّرهم وصدّهم عن التفكير فيها طول مدة التاريخ الغابرة، وهم يتهيبون أن يجعلوا من ساحة المسجد منطقة تفتيش وتنقيب عن شيء، مهما بلغ عندهم من العزة، فإن عزّة البيت وحرمته فوق عزّته، وما أدراهم، إن هم أقدموا على البحث ألا يتعرضوا للهلاك، بل ما يدريهم ألا تضار جدران البيت من أثر البحث، بيد أن (عبد المطلب) كان أكثرهم شغلاً وتفكيراً في ذلك؛ لأنه صاحب السقاية، مكرمته ومكرمة أبيه من قبله، وآبار مكة التي يستقي منها الماء للناس في الموسم الأعظم متناثرة متباعدة، وليست كلها غزيرة الماء، مما يجعله ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن هاشم: 1: 193 - 196 تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد، ومحمد عبد الله أبو صعيليك، المنار، الأردن ط. أولى 1409 هـ 1988 م، وقال فيه الفاسي: رجاله ثقات: انظر شفاء الغرام: 1: 246، والبيهقي في الدلائل: 1: 93 من طريق ابن إسحاق، والأزرقي: 2: 44 - 46 من طريق ابن إسحاق أيضاً، وعبد الرزاق في مصنفه: 5: 313 - 316 مرسلاً عن الزهري، وابن سعد عن الواقدي: 1: 83 - 84. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 62 وما بعدها بتصرف.

نذر عبد المطلب

يطمئن إلى كفاية الحجيج منها، وهو وحيد وليس معه إلا الحارث، وينو عبد شمس، وبنو عبد الدار، منافسوه في الشرف، يتربّصون به، وهنا تذكر الرواية التي معنا أن عبد المطلب أُريَ مكان زمزم مناماً، وهي رواية -كما قلنا- سندها حسن، وكلمة التاريخ في مصادره العربيّة متفقة على أن إسماعيل ابن إبراهيم عليهما السلام، كانت له عين ماء إلى جوار مكان البيت الحرام، أغيث بها ليشرب هو وأمه! وسبق أن عرفنا في حديثنا عن الخصيصة الأولى من خصائص الجزيرة، كيف أن هذه الجريرة كانت في عزلة موحشة، ونسيان شرود، وأن الرمال قد انفجرت عن زمزم، بعد أن قالت هاجر لإبراهيم حين أراد أن يتركها وإسماعيل، فيما رواه البخاري عن ابن عباس: (آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إِذن لا يضيعنا .. وكانت زمزم عيناً معيناً)! وكذلك اتفقت كلمة التاريخ على أن هذه العين طمّت، وأن قريشاً لما سكنت مكة وعمرتها، ودانت لها بسلطانها الديني تقاسمت مراتب الشرف في بيوتاتها، فكانت سقاية الحجيج في بني (عبد مناف) يتوارثونها، حتى انتهت إلى (عبد المطلب بن هاشم)، وهو أحوج في هذا الموقف إلى الماء الغزير القريب! نَذْر عبد المطلب: ومر أبو جعفر الطبري على قصة حفر زمزم مروراً عابراً، فلم يحفل برواياتها، واكتفى بقوله في صدد الحديث عن مكانة (عبد المطلب)! وهو الذي كشف عن زمزم، بئر إسماعيل بن إبراهيم (¬1)! ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري: 1: 305.

مع أنه روى قبل ذلك بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: وقد كان (عبد المطلب) بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط، أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم. أيهم ينحر؟ فطارت القرعة على (عبد الله) بن عبد المطلب، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال (عبد المطلب): اللهم هو أو مائة من الإبل؟ ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المائة من الإبل (¬1)! يقول الدكتور العمري (¬2): ولم تحدد رواية صحيحة تاريخ عزم (عبد المطلب) على الوفاء بنذره بنحو عبد الله ابنه، لكن رواية ضعيفة من طريق الواقدي تذكر أن ذلك قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين (¬3)، ولعل هذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة عن الصحابي حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي -ابن أخي خديجة- قال: ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، وأنا أعقل حين أراد (عبد المطلب) أن يذبح ابنه (عبد الله) (¬4)! والحادث يوحي بما خطه القدر الإلهي من ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أبيه عبد الله ابن عبد المطلب! ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 497، وابن أبي شيبة: المصنف: 4: 1: 55، وانظر الطبقات: 1: 84 - 85، ومصنف عبد الرزاق: 5: 316 - 317، والبيهقي في "الدلائل": 1: 87، والسيرة النبويّة الصحيحة: 1: 93. (¬2) السيرة النبويّة الصحيحة: 1: 93. (¬3) المستدرك: 3: 482 - 483، وتفسير الطبري: 23: 85 ط. ثالثة، الحلبي. (¬4) الإصابة: 2: 112.

قصيدة أبي طالب

الزواج المبارك: ونجد أنفسنا أمام الزواج المبارك، زواج عبد الله بآمنة .. هذا عن النسب الشريف من الناحية التاريخية الثابتة التي لا خيال فيها ولا غرابة! قصيدة أبي طالب: قال أبو طالب (¬1): إِذا اجتمعت يوماً قريشٌ لمَفْخَرٍ ... فعبدُ مناف سِرُّها وصميمُها فإِن حُصِّلَت أشرافُ عبدِ مَنَافِها ... ففي هاشم أشرافُها وقديمُها وإِن فخرت يوماً فإِن مُحمَّداً ... هو المصطفى من سرِّها وكريمُها تداعت قريشٌ غَثُّها وسمينُها ... علينا فلَمْ تَظفر وطاشتْ حلُومُها وكنّا قديماً لا نُقِرُّ ظلامةً ... إِذا ما ثَنوا صُعْرَ الخدود نُقيمُها ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 194 - 195.

قصيدة العباس

ونحمي حِماها كُل يومٍ كريهة ... ونضربُ عن أحجارها من يرومُها بنا انْتعشَ العُودُ الذَّواء وإِنما ... بأكنافنا تَنْدى وتنمي أرُومُها قصيدة العباس: وقال العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: مِنْ قبلها طِبت في الظلال وفي ... مُستودعٍ حيثُ يُخصْفُ الوَرَقُ ثم هبطت البلاد لا بشَرٌ أنْـ ... ـتَ ولا مُضْغةٌ ولا عَلَقُ بل نُطفةٌ تركب السَّفينَ وقد ... ألجمَ نسراً وأهله الغرقُ تُنْقلُ من صُلب إِلى رحمٍ ... إِذا مضى عالمٌ بدَا طبقُ حتى احتوى بيتك المُهيمن مِنْ ... خِنْدفَ علياءَ تحتها النُّطقُ وأنت لما ولِدت أشرقت الأرْ ... ضُ وضاءت بنورِكَ الأفقُ

قصيدة الناشئ

فنحن في ذلك الضياء وفي الـ ... نُور وسُبُل الرشادِ نَخْتَرِقُ قصيدة الناشئ: يقول الحافظ ابن كثير: وما أحسن ما نَظم النسبَ النبويّ أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ، في قصيدته المشهورة المنسوبة إليه، وهي قوله (¬1): مدحتُ رسول الله أبغي بمدحه ... وُفور حُظوظي من كريم المآربِ مدحت امرءاً فاق المديحَ مُوحداً ... بأوصافه عن مُبعد ومُقاربِ نبيًّا تسامى في المشارق نورُهُ ... فلاحت هَوَاديه لأهل المغاربِ أتتْنا به الأنباء قبل مجيئه ... وشاعت به الأخبارُ في كل جانبِ وأصبحت الكُهَّانُ تهتف باسمِه ... وتَنْفي به رجْم الظُّنون الكواذبِ ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 1: 77 - 81.

وأُنطقت الأصنامُ نُطقاً تبرّأت ... إِلى الله فيه من مقال الأكاذبِ وقالت لأهل الكفر قولاً مُبيَّناً: ... أتاكم نبيٌّ من لؤيِّ بن غالبِ وذكر بعض المعجزات .. ثم قال: تأبّى بعبد الله أكرم والدٍ ... تبلَج منه عن كريم المناسبِ وشيبةَ ذي الحمد الذي فَخَرَتْ بِهِ ... قريشٌ على أهل العُلا والمناصبِ ومَنْ كان يُستسقى الغمام بوجهه ... ويُصدرُ عن آرائه في النوائبِ وهاشم الباني مشيد افتخاره ... بغُرّ المساعي وامتنان المواهبِ وعبدِ مناف وهو عَلَّم قومه اشْـ ... تِطاطَ الأماني واحتكام الرَّغائِبِ وذكر النسب الشريف إلى إسماعيل .. ثم قال: هم نسل إِسماعيل صادق وعْده ... فما بعده في الفجر مسْعًى لذاهبِ

قصيدة الخطيب

وكان خليل الله أكرم مَنْ عَنَتْ ... له الأرضُ من ماش عليها وراكبِ ومضى في ذكر النسب بعد ذلك .. إلى أن قال: وكان رسول الله أكرم مُنجبٍ ... جرى في ظُهور الطيبين المناجبِ مقابلةٌ آباؤه أُمَّهاته ... مُبرأةٌ من فاضحات المثالبِ عليك سلامُ الله في كل شارق ... ألاح لنا ضوءًا أو في كل غاربِ قصيدة الخطيب: وقال عبد الحميد الخطيب (¬1): وهو الذي حفظ الإِله من السفا ... ح أصوله من مبدأ الخلقاتِ من آدم وإِلى أبيه وأمه ... فغدا بحق صفوة الصفواتِ فهو (ابن عبد الله) من في وجهه ... لاحت نبوة سيد السادات ¬

_ (¬1) تائية الخطيب: 42.

(وأبوه) حقاً (عبد مطلب بن ها ... شم من إِليه يمت بالكنياتِ وهو (ابن عبد مناف بن قصي) من ... سمي بذاك لكثرة الغرباتِ (وحكيم والده) الذي يدعى كلا ... ب وابن مرة) صادق الكلماتِ (كعب لؤي ثم غالب ثم فهر ... ثم مالك) طيب العتراتِ (والنضر) ثم (كنانة) و (خزيمة) ... وكذاك (مدركة) من النخباتِ (إِلياس) من (مضر) (نزار) من "معـ ... ـدٍ" وهو من (عدنان) في الحقباتِ هو من (لإِسماعيل) حقاً قد نمى ... وإِلى (خليل الله) بالنسباتِ فأبوه (عبد الله) من نسل الذبيـ ... ـح وأمه من هذه الدوحاتِ إِذ إِنها من نسله ومن (الحكيم) ... تفرعا في غابر السنواتِ

شرف نسب النبي

هي بنت وهب واسمها قد كان ... (آمنة) وكانت أشرف الفتياتِ ولقد تزوجها أبوه وعندما ... حملت به في أشرف البقعاتِ قد سار نحو الشام ثم بيثرب ... حول القضاء فكان من أمواتِ ولقد توارى في ثراها والرسو ... ل ببطن آمنة من المضغاتِ شرف نسب النبي: أما عن الأحاديث الواردة في شرف نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكثيرة .. وحسبنا أن نذكر ما رواه مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِن الله اصطفى كنانة من ولد إِسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬1)! وفي رواية لأحمد بسند حسن عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس: بلغه - صلى الله عليه وسلم - بعض ما يقول الناس، قال: فصعد المنبر فقال: "من أنا"؟ قالوا: أنت رسول الله! فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إِن الله خلق الخلق، فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلني في ¬

_ (¬1) مسلم: 43 - الفضائل (2276)، والترمذي (3605، 3606)، وأحمد: 4: 107، وابن حبان: الإحسان (6242، 6333، 6475)، والطبراني في الكبير: 22: 66 - 67 (161).

خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً" (¬1)! وفي رواية لمسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفّع" (¬2)! وفي رواية للترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فَمن سواه، إِلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر" (¬3)! قال النووي: قال الهروي: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الذي يُفزع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم! وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوم القيامة" مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فبسبب التقييد أنه في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقي منازع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا، فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين، وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} [غافر]! ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 210، والبيهقي: 1: 169 - 170، والدلائل: 1: 167 - 168، وأبو نعيم: "الدلائل" (16)، ويعقوب بن سفيان: المعرفة والتاريخ: 1: 497، 499، والترمذي (3607). (¬2) مسلم: 43 - الفضائل 3 (2278)، وأبو داود (4645) عون المعبود، وليس فيه (يوم القيامة). (¬3) الترمذي (3615) وفي الحديث قصة: وقال: وهذا حديث حسن صحيح.

ولد الهدى

مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك، أو من يضاف إليه مجازاً، فانقطع كل ذلك في الآخرة! قال العلماء في قوله: "ولا فخر": وإنما قاله لوجهين: أحدهما: امتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى]! والثاني: أنه من البيان الذي يجب تبليغه إلى أمته، ليعرفوه ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه - صلى الله عليه وسلم -، بما تضي مرتبته، كما أمرهم تعالى! وهذا الحديث دليل لتفضيله - صلى الله عليه وسلم - على الخلق كلهم؛ لأن مذهب أهل السنة أن الآدمين أفضل من الملائكة، وهو - صلى الله عليه وسلم - أفضل الآدمين وغيرهم (¬1)! ترى، هل يقبل بعد ذلك تعريض الدكتور طه حسين بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحقيره من قدره، بعبارة خالية من كل احترام -على حد تعبير رئيس النيابة كما سبق- وبشكل تهكمي غير لائق؟! وهل تقبل شبهات المستشرقين والمستغربين في ذلك؟! وُلد الهُدى: وسبقت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوجود بركاته (¬2)، وولد عام الفيل (¬3)! والمعروف المشهور أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولد يتيم الأب. ¬

_ (¬1) مسلم بشرح النووي: 15: 37، وانظر: عون المعبود: 12: 427. (¬2) انظر: السيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 198، والروض الأنف: 1: 181 وما بعدها، وعيون الأثر: 1: 26 وما بعدها. (¬3) انظر: الحاكم: 2: 653، وابن هشام: 1: 211، وأحمد: 4: 251.

قال ابن كثير: وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه (¬1)! وقد صحت الرواية بذلك في صحيح مسلم من حديث طويل. قال ابن شهاب: (وكان من شأن أم أيمن، أم أسامة بن زيد، أنها كانت وصيفةً لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد ما توفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه، حتى كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقها) (¬2)! ومكان ولادته - صلى الله عليه وسلم - معروف بمكة مشهور .. وإن وقوع حوادث كونيّة تخفى على العقول أسبابها في حينها، وعواملها المنشئة، وهو ما نسميه بالأعاجيب، ويُسمّى في مشهور عرف العلماء بالإرهاصات إن وقع قبل النبوة، وبالمعجزات إن وقع في زمان النبوة (¬3)، أمر قامت على جوازه ووقوعه الدلائل من النصوص القطعية في الكتب السماوية، والنقول التاريخية التي بلغت في جملتها مبلغ التواتر القاطع، ومن البراهين العقليّة التي تقرّر هذه السنن الخاصة، وقيّوميّة الخالق عز شأنه، وإطلاق قدرته من قيود القوانين، والعادات المعلومة، في حدود مدارك العقول الإنسانيّة، إلى سنن كونيّة، وقوانين للوجود، فوق آمال تلك العقول، تحدث على وفقها تلك الأحداث الكونيّة، والأعاجيب الإعجازيّة، إذا تطلبتها أسابها، وحانت مناسباتها، والله فعّال لما يريد! ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: 1: 206. (¬2) مسلم: 32 - الجهاد (1771)، وانظر الأقوال في حادثة وفاة عبد الله في: مصنف عبد الرزاق: 5: 317، والحاكم: 2: 605، وابن سعد: 1: 99 - 100، والروض الأنف: 1: 180. (¬3) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 107 وما بعدها بتصرف.

والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قصّ علينا في قصص الأنبياء بعض آياتهم المعجزة من الأحداث الكونيّة التي وقعت على أيديهم مما جرى مجرى التشريف والتكريم، ومما تحدّوا به أقوامهم، مما لا يمكن أن يدخل تحت سنّة من سن الحياة المعروفة للعقول، والمعهودة في عادات الناس ومألوفهم .. وقد سمى القرآن بعض تلك الآيات الكونيّة المتحديّة براهين، فانقلاب عصى موسى حيّة تسعى، وإخراج يده بيضاء من غير سوء، وانفلاق البحر له ولقومه، ونتق الجبل فوقهم كالظلة! وإحياء عيسى للموتى، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإنباؤه قومه بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم .. وخلقه من غير أب، وإيتاء أمه مريم -عليه السلام- رزقاً دون حركة آليّة، أو تسبب، مما بعث كافلها زكريا -عليه السلام- على التعجب! ونقل عرش بلقيس من المسافة البعيدة في أسرع من لمح البصر! وما وقع لأصحاب الكهف! وعدم إحراق النار إبراهيم -عليه السلام! وسائر آيات الأنبياء في قصصهم التي لا تحتمل تمحّلاً ولا تأويلاً .. كل ذلك من الأعاجيب المعجزة، والخوارق التي وقعت فعلاً، وشاهدها الوجود واستفاضت بها روايات التاريخ بنقل الأجيال عن الأجيال، منذ كانت النبوة لبني الإنسان إلى يوم الناس، استفاضة تدفع بمنكريها إلى محابس الممرورين، وذوي العته العقلي، ونقص التكوين الإدراكي! وإذا ثبت وقوع الأعاجيب المعجزة، والحوادث الكونيّة الخارقة لمعروف

2 - التربية الإلهية

العقول في سنن الحياة، فالنظر فيما يُروَى منها جُملة في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوّته أو في زمنها يجري على سنن تلك الآيات وقوانينها، ويبقى على الباحث النظر في إثبات أفراد تلك الحوادث والجزئيّات التي سجلتها السيرة النبويّة، فما ثبت بطريق صحيح السند، صادق الرواية، وجب قبوله والإذعان بوقوعه؛ لأن رده أو التشكيك فيه بعد ثبوته بهذه الطريقة التي لا طريق للإثبات التاريخي فوقها، والتي التزمناها في هذه الدراسات، ردٌّ لبرهان العقل القاطع، وردٌّ للنصوص القطعيّة في إثبات الآيات المعجزة، ولا فرق بين آية وآية، وردُّ البرهان العقلي والدلائل القطعية، إلحاد في الدين، أو جهل بسنن الله، أو تشكيك في قدرة الله! 2 - التربية الإلهيّة: وثاني ما يطالعنا: التربيّة الإلهية .. ونبصر معالمها فيما يلي: شق الصدر: كان لموت عبد الله بن عبد المطلب، وهو في مقتبل شبابه، أثر من الحزن الفادح، والألم الممض على نفس أبيه الشيخ، الذي أفنت السنون جلده وناء بأثقالها، فلما بشر بميلاد حفيده محمد - صلى الله عليه وسلم - صب به صبابته بأبيه من قبله، وقد كان أحب أبناء عبد المطلب إليه، وحظي محمد - صلى الله عليه وسلم - عند جده حظوة لم تكن لأحد من ولده، فأخذه من مهده بين يديه، وطاف به حول الكعبة يباركه ويدعو له، ويستعذب النظر إليه، في حنان الأبوة الثاكلة، ثم رده إلى أمه، وأخذ يفكر ويقدر، ويطلب له المراضع، وقد كان ذلك من عادة أشراف قريش، اتقاء لوخامة المدن، ووضر الحواضر، وتخريجاً في التعرب

موقف عجيب

والتفاصح، وانتجاعاً لجو البادية صحة، وانطلاقاً مع مظاهر الطبيعة في الأرض والسماء (¬1)! وكانت المرضعات يردن مكة في المواسم تطلباً للرضع الذين يؤملن فيهم جِدَة وسعة من العطاء، وكان في قبائل العرب وبيوتاتهم بيوت وقبائل عرفت بخصب الدر، ونقاء الجو، وصفاء الطبيعة، وفصاحة اللهجة، ونصاعة البيان، ونقاء المربي، منهم بنو سعد بن بكر، من قبيلة هوازن المعروفة بتعربها وفصاحتها، فأقبلن على غيره، وأعرضن عنه؛ لأنه يتيم، وكن يرتجين وسيع المطايا، وغامر المنح من آباء الأطفال، وكان في نساء بني سعد حليمة بنت عبد الله بن الحارث! ورضاع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني سعد من قبل حليمة السعديّة ثابت من طرق سيأتي ذكرها! وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره - كما سبق في ردنا على الدكتور هيكل في موقفه من حديث شق الصدر- أن ذلك قد وقع للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو صغير مسترضع في بادية بني سعد! موقف عجيب: بيد أن الشيخ (محمد أبو زهرة) -رحمه الله- ذكر ما رواه مسلم وغيره عن أنس بن مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 131 أو ما بعدها بتصرف.

السنن العامة والخاصة

زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إِلى أمِّه (يعني ظئره) فقالوا: إِن محمداً قد قتل: فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (¬1)! وقال: وإننا نلاحظ في ذلك الخبر أمرين (¬2): أولهما: أن الخبر فيه أنه غسل بماء من زمزم، ويلاحظ أن الواقعة إن صحّت كانت في البادية، في مكان ناء عن زمزم، وإذا كان من ماء مع جبريل، فمن أين علم أنه من زمزم؟! وثانيهما: أنه ذكر أنه كان يرى أثر المخيط في صدره -عليه السلام- وإذا صحت الواقعة فإن المعقول أنه عمل ملك، والملك لا يكون لعمله أثر محسوس! ونحن نرى أن الأخبار بالنسبة للشق لا تخلو من اضطراب! وعلى فرض أنها صحيحة، لا نقول إنها غير مقبولة، بل إنا نقبلها إن صحت، ولكن الاضطراب في خبرها يجعلنا نقف غير رادّين ولا مصدقين! وهذا موقف عجيب، فالرواية صحيحة، ولا وجه لما ذهب إليه بحال! السنن العامة والخاصة: وشق الصدر من الإنسان حسيًّا، وإخراج قلبه المحسّ المعروف في التكوين الجسمي للإنسان بأنه لحمة صنوبريّة الشكل داخل القفص الصدري (¬3)، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) خاتم النبين: 1: 154. (¬3) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 137 وما بعدها بتصرف.

وسطه مائلاً إلى الجهة اليسرى قليلاً في الأعم الغالب، وتتصل به مفاتيح الحركة الدمويّة، ومغاليقها، وقنواتها .. ثم فتح هذا القلب فتحاً ماديًّا حسيًّا، وإخراج علقة دمويّة منه، وغسله بالماء ثم إعادته إلى مكانه بعد خياطته، وخياطة الصدر، والتئامه مع بقاء الحياة الإنسانيّة بعد ذلك .. كانت أموراً تأباها قوانين الحياة العامة، وتنكرها معارف العقول، وتردها أبسط قضايا العلم، وبداءة المنطق في تاريخ الحياة، ما دام الإنسان لم يؤمن بالله وبقدرة الله! فإذا وقعت وشهدتها الحياة الوجوديّة، كانت من غير شك جارية على غير ما ألفته العقول من سنن الحياة، وعلى غير ما عرفه العلم التجريبي في قوانين الحياة، بل تكون جارية على سنن خاصة خارقة لمتعارف العقول، متخطية قضايا العلم في تجاربه الحسيّة! وهذه السنن الخاصة لا ينكرها العقل؛ لأنه دائب البحث في أسرار الكون وسنن الله فيه، ولا يزال يكشف عن كثير من هذه الأسرار والسنن بما كان يجهله! ولم يقف هذا العقل عند هذه القضايا العلميّة المعروفة له باعتبارها نهايات لمدركاته، ولم يؤمن بأنها هي الغاية لجولاته في الكون المحجّب بسحائب الغيب؛ بل هو مؤمن أشدّ الإيمان أن وراء ما وصل إليه من حقائق أموراً كثيرة لم تُكتشف له، وهو دائب العمل في سبيل إدراك المجهول من حقائق الكون، وسنن الله المنظمة لوجود هذا الكون العظيم! والراسخون من علماء الكونيّات يرون أن ما وصلوا إليه في الكشف عن

آيات الله

بعض أسرار الحياة إنما هو قطرة من محيط العجائب الكونيّة والسنن الإلهيّة، ولم يدّع أحد منهم أن العقل يستطيع أن يصل إلى مجهول الأسرار جميعها في هذا الكون العظيم! آيات الله: وجيلنا اليوم -وهو في أول القرن الخامس عشر الهجري- يشهد أعمالاً في طبّ الجراحة وزرع الأعضاء الداخليّة والخارجيّة في جسم الإنسان وسائر الحيوان، كانت في الماضي من المحاولات في نظر العقل والعلم، ولا نذكر هذا لنفسر به المعجزات الإلهيّة التي يُجريها الله تعالى على مقتضى سنن إلهيّة خاصة، تختلف في أسلوبها وحقائقها مع أسلوب وحقائق السنن الإلهيّة العامة، وكلها من عند الله! ومن ثم كان وقوع هذا الحدث الخطير للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعجب الأعاجيب الكونيّة، وأعظم خوارق السنن العامة، وأضخم الآيات الحسيّة التي تحيلها عادات الناس ومألوفاتهم، وتستبعدها عقول غير المؤمنين بالنظر لمعارفها من سنن الحياة العامة المتكررة، وبالنظر إلى قضايا العلم التجريبي! ومجرد إحالة العادة المألوفة للناس في مجرى حياتهم العامة، ومجرد استبعاد العقول المقيِّدة بأغلال الحسّ والحواسّ، وسنن الحياة العامة المكررة، لا يكفي كل ذلك للحكم بعدم الوقوع، وتبقى المسألة في دائرة الإمكان، مستندة إلى سلطان القدرة الإلهية، والإرادة الربانيّة، التي لا تتقيّد بسنن الحياة العامة، ومعروف العقل القاصر، وقضايا العلم المادي؛ لأن الله تعالى الذي خلق هذه السنن العامة لنظام الحياة، وأوصل العقول إلى معارفها، وهداها إلى قضايا العلم، هو الذي يخلق سنناً لأحداث يُجريها في أوقاتها ومناسباتها!

وهنا يتساءل العقل الإنساني

فليس من العدل العلمي، ولا من الإنصاف العقلي، تحكيم متعارف العقول، وقضايا العلم المادي، ومألوف الناس في عاداتهم وتجاربهم في سنن الله، وتقييدها بما عُرف من قضايا تجريبيّة أو معارف عقليّة! ولو حُكّم متعارف عقول غير المؤمنين، ومألوف العادات في فهم سنن الله تحكيماً مطلقاً، لبطلت أصول الرسالات السماوية؛ لأن العادات، ومتعارف هذه العقول، وقوانين المنطق المادي، لا تُدرك حقيقة النبوة، فتُحيلها بصورتها الدينيّة؛ لأن النبوة قائمة على الوحي، وهو معنى لم تحدد حقيقته بغير الاتصال البشري بالملأ الأعلى الذي هو غيب مطلق في حقيقته، وطريق الاتصال به من قبل البشر، واتصاله بالبشر، وكل ما يعرفه العلم الديني عن الوحي أنه يتم باتصال فرد من البشر يصطفيه الله لنبوته، بروح علوي، تسميه الشرائع السماويّة (مَلكاً) وهو أمر يجهل العقل الإنساني حقيقته، وفي هذا الاتصال تتلقى الشخصيّة البشرية عن هذا الروح العلوي أموراً من قِبل الحق، هي شرائعه التي يتعبّد الله بها خلقه، وينظم بها حياتهم، ليقوم الناس بالقسط! وهنا يتساءل العقل الإنساني: كيف يتصل فرد من البشر بما فيه من خصائص البشريّة بـ (ملَك) بما له من خصائص الملكوتيّة؟ وكيف يتلقّى عنه ما يبلغه عن الله تعالى؟ ثم يتساءل العقل مرة أخرى: كيف يتلّقى الملَك عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يؤديه إلى آحاد البشر؟ ولا ريب أن العقل سيقف أمام هذا التساؤل في جانبيه حائراً، لا يحير جواباً

يطمئن إليه في حدود معارفه، وقضايا علمه، وأقيسة منطقه، ولا يُخرجه من هذه الحَيْرة إلا التسليم والإقرار بأنه ليس من حقه أن يرفض جميع ما لم يعلم، ولا جميع ما لم يفهم؛ لأنه أمام نفسه يعلم أنه لم يُحط خُبراً بكل ما يمكن أن يُعلم، وأن الذي يجهله من سنن الكون أكثر بكثير مما علمه! وإذا انتهى العقل إلى هذا الموقف وجب عليه أن يسلّم بقوة القدرة الإلهيّة على الخلق والإبداع، واتساع سنن الله تعالى في الكون بما يستطيع أن يصل إليه من البراهين القاطعة على قهر القدرة الإلهيّة لقوانين الطبيعة، وما وصل إليه العلم والعقل من سنن الحياة في الكون، وأن يسلّم بمطلق تصرفاتها ليسهل عليه الإيمان بما صح الإخبار به من أحداث لم تجر على مقتضى معروف من العلم، وإنما جرت على مقتضى نمط خاص في سنن الله تعالى! فالتقيّد بحكم العادة المتكررة، ومجرد متعارف العقول، وقضايا العلم المادي، هادم لقضايا أصول الشرائع السماويّة، فالذين يتشبّثون بهذا التقييد في فهم حقائق الأحداث الكونية يجعلون من معارف العقل وقضايا العلم حواجز أمام فهم سنن الله تعالى في الكون، وهم عندئذ بين أمرين: إما إيمان ينتهي بهم إلى التسليم بالعجز عن إدراك بعض الحقائق الكونيّة التي جاءت بها الرسالات السماويّة بأخبار ثابتة الصحة عن طريق الرواية والدراية! وإما إلحاد ينكر جاحداً أصل الرسالات الإلهيّة، فلا يبقى -في نظرهم- بين الحقائق الوجوديّة نبوة ولا رسالة من الله إلى الخلق، وهذا ما انتهى إليه ملاحدة الماديّين من كل مَنْ حكَّم الحسّ، وأنزل العقل عن منزلته إلى هاوية الحسّ المادي!

منهج القرآن

وجميع المؤمنين بالرسالات السماويّة -عامتهم وخاصتهم- يطمئنون إلى أن هذا اللون من العجز هو محض الإيمان الذي يأخذ بيد صاحبه إلى ساحة رضا الله تعالى، وهو في حقيقته تكريم للعلم وللعقل! منهج القرآن: ورد ما يعتاص فهمه على العقول من الأحداث لعدم جريه على مقتضى معارف العقل، وقضايا العلم، إلى سلطان القدرة الإلهيّة في الخلق والإبداع، وإلى الإيمان بأن الله تعالى يفعل في ملكه ما يشاء كما يشاء، هو نهج القرآن الكريم! قصة زكريا: وفي قصة زكريا -عليه السلام- حينما بُشِّر بأن الله تعالى سيرزقه غلاماً، وكان قد بلغ من الكبر سن اليأس والجفاف الذي لا يكون معه ولادة وإنجاب، وكانت امرأته عقيماً لا تلد، فتعجّب من أمر نفسه، أن يخرج منه ومن زوجه ولد، وهما على حالهما التي لا يظهر فيها سبب قريب أو بعيد لإخراج الولد منهما، وعبّر عن تعجّبه بما حكاه القرآن عنه في قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} (آل عمران: 40)! فجذبه الحق من دائرة الأسباب والتقيّد بالسنن العامة، إلى حظيرة الإطلاق والسنن الخاصة، فقال له في نفس الآية: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)}! أي شأنُ الله في الإيجاد والإبداع فوق الأسباب ومتعارف العقول

مريم وعيسى

والعادات، وكيف تقيّده الأسباب والسنن وهو خالقها ومبدعها، فقدرته تعالى على إبراز الأحداث من الغيب إلى الوجود العيني لا تتقيد بأسباب جرت بها السنن العامة في نظام الكون؛ لأن وراء هذه الأسباب والسنن العامة أسباباً وسنناً خاصة، يفعل بها ما يشاء كما يشاء، متى شاء، ولذلك زاد نبيّه زكريا تلطّفاً في جذبه إلى حظيرة الإطلاق، عندما سجّل القرآن الكريم قصّته أيضاً في قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)} (مريم)! فنبّهه إلى ما هو أعظم من الجاد الولد منه ومن زوجه، وهما على حالهما من البعد عن الإنجاب، فقال له عقب هذه الآية مباشرة: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)} (مريم)! مريم وعيسى: وفي قصة مريم -عليها السلام- حينما بُشِّرت بالولد من غير أب، عجبت من أمر نفسها أن تأتي بولد وليس لها زوج، يكون منه الولد، في مجرى العادة، ومتعارف العقول، وعبّرت عن عجبها بما حكى القرآن عنها: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}! فنبّهها الله تعالى إلى مطالع جلاله، وعظيم قدرته، حتى لا تقف مع الأسباب والسنن العامة، ومتعارف العقول، ومجريات العادة، فقال لها في نفس الآية: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}! أي أن شأن الله تعالى ألا تتقيّد قدرته في إيجاد ما يشاء بما تعرفه العقول، وتعهده العادات من أسباب، وإنما مرد أمره في الخلق والإبداع إلى قضائه، فإذا

إبراهيم وسارة

قضى الأمر كان ما قضاه بكلمته وحكمته، كما جاء في ختام نفس الآية: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)} (آل عمران)! إبراهيم وسارة: وفي قصة إبراهيم -عليه السلام- وزوجه أم إسحاق -عليه السلام- لمَّا بُشِّر بالولد من زوجه العجوز العقيم، وهو شيخ كبير عتا عن الإنجاب، عجبت امرأته من أمرها وأمر زوجها فرحة ضاحكة من شدة سرورها بالبشرى، وقالت معبرة لوقوفها آنذاك مع الأسباب والسنن العامة: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)} (هود)! فنبّهها الملائكة المبشرون إلى أن هذا الإنعام من أمر الله الذي لا يتقيّد بظواهر الأسباب، ولا ينبغي التعجّب من أمر الله؛ لأن أمره جل شأنه فوق الأسباب والسنن العامة، ومتعارف العقول، ومجاري العادات في الكون؛ لأن الله تعالى يفعل من الأسباب والمسببات ما يريد! العقل والعلم: وعلى الذين يؤلّهون العقل، ويتعبّدون لمعارفه، ويجمدون مع متكرّر العادات أن يكفكفوا من غوائلهم في تفسير الأحداث الكونيّة في الإنسان وفي غيره من سائر الموجودات، فما اتضح لهم تفسيره واطمأنوا إليه قبلوه -بحمد الله- وإن لم يتضّح لهم تفسير بعض الأحداث لاذوا بالتواضع العلمي، ووضعوا نصب أعينهم هذا القانون الإلهي المعبّر عن أصدق ما وصل إليه العقل والعلم، وما يمكن أن يصلا إليه:

وجوب التسليم

{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (الإسراء)! وهم يعلمون أن العقل والعلم عجزا عن تفسير كثير من الحقائق الكونيّة، وهما دائبان على البحث وراءهما، عساهما يصلان إلى شيء مما عجزا عنه! وحسب الباحثين أن يقفوا مع العقل والعلم في أوج توثّباتهما الفكريّة والتجريبيّة، ليعلموا -إن كان هناك وسيلة للعلم- ما شأن الحياة بأعم معانيها في الكون؟ وماذا بلغ العقل والعلم من الكشف عن حقيقتها، ما هي؟ وما كنهها؟ والحياة بها كل شيء في الوجود، أو هي كل شيء، فإذا كان العقل والعلم لم يصلا إلى معرفة حقيقتها في عمومها، ولم يصلا إلى حقيقتها في الإنسان خاصة، فكيف يعطى العقل والعلم حق التحكم في تفسير الأحداث الدينيّة التي تستند إلى أمور غيبيّة لا تزال محجوبة عنها؟ إن العلم والعقل لهما مكانتهما التي لا تجحد، وبهما تتقّدم الحياة نحو الكشف عن المجهول، وعلى المعتصمين بالعلم والعقل أن يسيروا معهما في حدود مبلغ أمرهما، دون أن يتجاوزوا بهما طبيعتهما في تفسير الأحداث! وجوب التسليم: وإن الفيصل في قبول ما يروى من أحداث كونيّة، وأعاجيب خارقة لنواميس السنن العامة في الكون، مما جرى على أيدي أنبياء الله ورسله، هو صحة الرواية صحة لا تتعرض لطعن في النقل أو تجريح في السند، ثم بعد ذلك وجوب التسليم بما صح الإخبار به، وردّ إبداعه إلى الله تعالى، وعظيم قدرته، وبالغ حكمته!

حقائق التاريخ

وقصة شق الصدر سبيلها هذه الأحداث الكونيّة الدينيّة .. وقد سبق ذكر الروايات الصحيحة! حقائق التاريخ: وقد تكلم العلماء فأوسعوا في شرح ألفاظ القصة، وذكروا حكمتها، وحكمة كل فعل روي فيها، من الغسل بماء زمزم أو غيره، ونزع العلقة، وذرّ السَّكينة، وإدخال الإيمان والحكمة والرأفة والرحمة، بما لا يدع مجالاً لمؤمن في التوقف عن قبول القصة، والإيمان بها .. ولا عبرة بعدم اطمئنان المستشرقين وجماعة المستغربين من الباحثين المعاصرين إلى القصة ووقوعها! وأما غمز القصة بطفوليّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واستعظام ما حدث به على سنه في الرواية، فهذا من قبيل الإيهام المضلل! وقصد شق الصدر سبيلها سبيل هذه الأحداث الكونيّة الدينيّة، فما شأن الروايات التي تحدثت بها؟ وقد سبق أن ذكرنا رواية مسلم في ذلك! والحديث مع هؤلاء في وقع القصة، لا في زمانها ومكانها؛ لأن ذلك تحقيق تاريخي، لا يضير البحث ألا يؤمنوا به! وكيف يستعظم تحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سنه، والأمر كله من قبيل الإعجاز؟ على أن تحدثه - صلى الله عليه وسلم - كان وهو نبيّ رسول، إذ سئل من بعض أصحابه، كما روى أحمد وغيره بسند حسن من طريق بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد السلمي، أنه

حدثهم أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بَهم (¬1) لنا، ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي، اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي، ومكثت عند البَهم، فأقبل طائران أبيضان، كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهُوَ هُوَ؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني إِلى القفا فشقّا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقّاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه - قال يزيد في حديثه: ائتني بماء ثلج - فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء بَرَد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذرّاها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: حُصه (¬2)، فحاصه، وختم عليه بخاتم النبوة،- وقال حيوة في حديثه: خصه فخمه واختم عليه بخاتم النبوّة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفّة واجعل ألفاً من أمته في كفّة، فإِذا أنا انظر إِلى الألف فوقي، أُشفق أن يخر عليّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرِقت فرَقاً شديداً، ثم انطلقت إِلى أمي، فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقتْ عليّ أن يكون أُلْبِسَ بي، قالت: أعيذك بالله! فرحلت بعيراً لها فجعلتني -وقال يزيد: فحملتني- على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا إِلى أمي، فقالت: أو أدّيت أمانتي وذمّتي؟ ¬

_ (¬1) بهم -بفتح الموحدة وسكون الهاء- جمع بهمة، وهي ولد الضأن، الذكر والأنثى، والمراد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرعى الغنم مع أخيه من الرضاع: الفتح الرباني: 2 - : 191. (¬2) حُصه -بضم الحاء المهملة- أي خطه، يقال حاص الثوب يحصه حوصاً: إذا خاطه: المرجع السابق!

وحدّثَتْهَا بالذي لقيت، فلم يَرُعْها ذلك، فقالت: إِني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام" (¬1)! وهكذا يتضح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سئل وهو نبي رسول، فأجاب بما جاء في هذه الرواية! والذي يعني البحث أن قصة شق الصدر حادث كوني، ومعجزة عجيبة، وقعت للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجاءت بها الروايات الصحيحة الثابتة، ولا يردها تشكيك مستشرق ولا مستغرب ولا متعوقل ولا متعالم، ولم يتخذ منها النبي - صلى الله عليه وسلم - آية للتحدي والبرهنة على صدق رسالته، كغيرها من المعجزات الكونيّة، والخوارق العجيبة قبل البعثة أو بعدها! ونحن نعلم أن هذا اللون من الآيات المعجزة لو لم يذكر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يُنقص من جلالها شيئاً، وأن معجزته العظمى الخالدة التي حملت بين طواياها التحدي بها هي (القرآن العظيم)، ولكن حقائق التاريخ يجب أن يرتفع بها البحث إلى قدس الحق، بعيداً عن التعصّب الحقود، والتقليد الأبله، والتأثر بالنزعات المجافية لحقيقة الدين والإيمان به! وعلى الذين يؤرخون لحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويكتبون في سيرته الطاهرة، أن يجعلوا نصب أعينهم أنه نبيّ من أنبياء الله، ورسول من رسل الله، وأن عظمته في نبوّته ورسالته، مع اتصافه بكل صفات الكمال المثالي، فهو بالنبوة والرسالة ¬

_ (¬1) أحمد: 4: 184 - 195، والدارمي: 1: 8 - 9، والحاكم: 2: 616 - 617، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي في "الدلائل": 2: 7 - 8، وأورده في المجمع: 8: 222، وقال: رواه أحمد، وإسناده حسن، وله شواهد تقويه، ورواه الطبراني: الكبير: 17 (323)، والشامين (1181)، وانظر: أحمد: 3: 121 عن أنس، وسنده صحيح، وابن سعد: 1: 150، وعبد بن حميد (1308).

قد سما على العبقريّة والبطولة، ونبصر فضله على إخوانه الأنبياء والمرسلين بما منحه الله تعالى من فضل في شريعته التي ختم الله الشرائع بها، وجعلها جامعة لجميع ما جاءت به الشرائع المتقدمة، من خير وإصلاح وتهذيب مع زيادة ما يقتضيه تقدم الإنسانيّة في تفكيرها وعقلها وروحها وضميرها! ولعل هذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم بعد أن ذكر أولي العزم من الرسل في آية: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (الأنعام: 83)! فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)! فهُدى الجميع هُدى للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو الجامع لما تفرّق في جميع الأنبياء والمرسلين من الفضائل، والمحامد، وإليه ينتهي خيرهم، وفي شريعته تنطوي شرائعهم، فهي خاتمة الشرائع، وهو خاتم النبيّين وإمام المرسلين! ولعل التصور المقارب للواقع التاريخي (¬1)، يستطيع أن يسعف العقل ليرسم صورة موجزة مقاربة لمطلع حياة طفوليّة نهدت في لفائف اليتم، لأكرم من ضمه مهد في حياة البشريّة، حتى يستشف البحث من وراء ذلك حقائق الوجود الواقعي في مشهد الحياة لهذه الشخصيّة الكريمة، التي غيّرت معالم الحياة في تاريخ البشريّة! تولى الله أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ أول لحظة حظي فيها الوجود بإشراق طلعته، فنشّأه تنشئة جمع له فيها خصائص الفطرة الإنسانيّة في أعلى مراتبها وأرفع درجاتها، فلم يكله إلى أب يكفله ويربّيه، وللأبوّة أثرها على الطفولة وتوجيهها في الحياة! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 152 وما بعدها بتصرف.

عاطفة الأمومة

ولم يعرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن شمائل أبيه وأخلاقه وعاداته ووسائله في عيشه إلا ما حدّثته به أمّه عنه في طفوليته، وهي كسيرة القلب، حزينة الفؤاد، لفراق ذلك الزوج الحبيب والأب الكريم! والرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أن عقل هذا الحديث وتصور منه صورة أبيه، كان قد أخذ سمتاً في الحياة لا تغيّره الأحاديث، ولا تؤثّر فيه الصور الذهنيّة المركبة من مجموعة قصص عمن كان وما كان، إلا كما يؤثر بريق التاريخ اللامع في توجيه أمّة تكنفها عناصر الحياة بدوافعها الحيّة المتدفقة، وأي أثر لهذا البريق غير الإعجاب بالماضي الذي ذهب ولن يعود؟! عاطفة الأمومة: ولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتيماً -كما أسلفنا- ولم يستشعر عطف الأبوّة يفيض به قلب والد فطره الله على لون من الحنان، لم يعطه الله غير قلوب الوالدين، وللطفولة إلهام تقرأ آياته في نظراتها الحالمة، وبسماتها الساهمة، وفي هذا الإلهام ضرب من الإدراك الخافت الذي يلمس به الطفل حنان الأبوّة وعطفها، فترسم على فمه بسمة صادقة، وعلى عينيه نظرة صافية صفاء الفطرة الخالية من الرسوم والأصداء! ولقد ارتسمت على فم الرسول - صلى الله عليه وسلم - البسمة الصادقة، وطافته بعينيه تلك النظرة الشافعية، ونظرت إليه أمّه آمنة بنت وهب -وكانت قريبة عهد بفراق زوجها الحبيب- فجدّد نظرها إليه في نفسها حزناً مبرحاً وألماً عظيماً، فرأت على ثغره ابتسامة متوهّجة، وأبصرت في عينيه تطلعاً إلى السماء، ولعل خيالها المصور أسعفها فأراها في وجه وليدها المحبوب وجه والده الحبيب، وتنازعتها عاطفتان:

انفعال الخواطر

عاطفة الوالدة، وقد أشرق عليها وجه وليدها وقرة عينها! وعاطفة الزوجة، فَقَدتْ زوجها الحبيب؛ ولكنها تتمثله وترى وجهه في وجه هذا الوليد الحبيب! وتغلّبت عاطفة الأمومة الحانية على عاطفة الزوجيّة الودود، وضمت آمنة وليدها إلى صدرها، واختلطت عليها الأحاسيس، واستنار وجهها! حتى أهلّ على مكة موسم المراضع، فقدم السعديات إليها يطلبن الرُّضّع، وفيهن حليمة فكان الرسول نصيبها، وكانت هي من حظه، وحملته وارتحلت به إلى باديتها، وكان الصدر الذي يضمه ليس صدر آمنة أمّه، ولكن صدر حليمة ظئره، وفرق كبير بين العاطفتين: عاطفة الأمومة الوالدة! وعاطفة الأمومة المرضعة! فحُرم حنان أمه بعد أن مضى القدر فحُرم عطف أبيه! وذلك لون من اليتم الجديد، قضت به العادات المتوارثة فيما بين العرب، فهو قد حُرم عاطفة الأبوّة المُشفقة، وبُوعد عن عاطفة الأمومة الحانية، ونشأ بعيداً عن بَلده وقومه، وبلده حاضرة البلادَ العربيّة، لها من طبيعة الحواضر ما يَسمُها بوسم اللين والدعة، وقومه أهل شرف وسيادة في بلده، وللشرف والسيادة آثارهما على الأخلاق والتطبّع وتوجيه الغرائز والسلوك! انفعال الخواطر: لقد نشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بادية بين قوم من العرب عُرفوا بصفاء البيان، وفصاحة اللسان، وقد ضاق عيشهم، وعصفتهم السنون، يعيشون في بادية

ضاحية الأديم، تصهرها الشمس إذا أسفرت، وتتلألأ في سماء لياليها النجوم الزواهر، ويضيئها القمر المنير، ويزمجر في أرجائها الرعد، ويلمع في آفاقها البرق، وتَهْدر في وديانها العواصف، وتطبعها الحياة بطابع قاس متقلب، تنتشر على صفحتها هنا وهناك خيام يأوي إليها فئام من الناس إذا هجع الليل، أو هجّر النهار، يسرحون بالبُهم يرتادون لها المراعي وظلال الشجر ومجتمع الأنهار والغُدُر، ومساقط الغيث ومنابت الكلأ، وذلك هو كل ما يشغل أهل هذه البيئة، وفيما سواه فراغ لا يملؤه من العمل كثير ولا قليل، فهي بيئة تدعو إلى التأمل والتفكر، وتقليب النظر في ملكوت الله تعالى ومظاهر الوجود! ماذا وراء هذا الفضاء الكبير الأفْيَح؟ وما هذه القبّة الزرقاء المتعاظمة في سعة آفاقها؟ وما هذه السابحات المتلألئات في أديمها؟ وما هذا الجرم الفضي الذي يبعث على هذه الأرض بأنواره المظلة بنسائم الأسحار؟ وما هذا اللهب المنبعث مع خيوط الضياء الوهاج، من الجرم النهاري السابح في آفاق السماء؟ وما الذي يمسك ذلك ويديره على هذا النظام المحكم البديع؟ وما هذا الصوت الهائل المزعج الذي يصحب دائماً الغيث مبشّراً أو نذيراً؟ وما هذا الضوء الخاطف بلمعانه في أطراف السماء؟ وما هذه العواصف المزمجرة؟ وما الذي يهيجها ويحرّكها؟ وما هذه النباتات والأشجار في أشكالها وألوانها وروائحها وطعومها؟ من أين جاءت، وكيف نبتت؟

حياة الصحراء

ثم ما أنا؟ ومن أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟ ثم ما هذه الحياة؟ وما هذا الوجود؟ وما مبدؤه؟ وما غايته؟ وهل فوقه قوة تدبّره؟ وإرادة قاهرة تحركه؟ وما حقيقة تلك القوة المدبرة الحكيمة، وأنى لنا بمعرفتها وأسلوب حكمتها وتدبيرها؟ كل هذه أسئلة لا بد أن تمر على خاطر من يقيم في بيئة مثل البيئة التي كانت مهداً للرسول - صلى الله عليه وسلم - في بادية بني سعد بن بكر .. ولابد أن تنفعل لها الخواطر التي تمر بها، وتتأثر بها الفطر المصقولة التي جعل الله لها قابليّة الانطباع لما يمرّ عليها! أما النفوس الصدئة والفطر الكثيفة فليس لها من ذلك الانفعال شيء، فكم من نفوس شهدت جلال الصحراء وجمالها كما شهدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طفولته، ولكن قليل جدًّا هم الذين تأثروا بذلك الجلال الوجودي والكمال الكوني، وانفعلت له فطرهم كما تأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو طفل لم يجاوز الخامسة من عمره، وحتى هذا القليل لم يكتب له طرف مما كتب التاريخ من تسبيحات الفكر في محاريب الوجود، بل ضلوا وضل ذكرهم في متاهات الصحراء، وبقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده على ربوة الوجود يجاذبه هذا الجلال ترانيم التقديس في صور من التأملات والتفكير! حياة الصحراء: رجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بادية بني سعد إلى مكة، بعد أن بلغ من عمره سنوات هي سن تبلغ فيها النفس أول مراحل النشاط والقوة والتطلع إلى معرفة كل مجهول! وأي شيء في حياة الصحراء مجهول؟

أليست الحياة فيها مكشوفة عريانة؟ الأرض وما عليها من جبال ووديان وحيوان ونبات، والجو بعواصفه وأمطاره ورعوده وبروقه .. كلها أمور مرئيّة مشهودة، ولكن ما مبلغ علم الناس بها .. لا شيء سوى هذه الظواهر المكرورة في كل وقت وحين، أما ما وراء ذلك فهو محجب مغلق! فأي شيء إذن في حياة الصحراء معلوم؟! هذه الحيرة الفكريّة هي الآية الأولى التي قرأها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الوجود على صفحة الصحراء .. وهي التي رجع بها إلى مكة السادرة في غي وثنيّتها، السكرى بخمر أصنامها، المحجوبة عن التفكير في جمال الكون بتجارتها وأسواقها ومواسمها وأعيادها وعاداتها، فنظرت إليه ونظر إليها! نظرت إليه بمنظار وثنيتها فلم تره يمشي إلى أصنامها لاهياً، كما يمشي أطفالها .. بل رأت فيه طفلاً كأنه يحمل من هموم الدنيا وأحزانها ما صرفه عن اللهو واللعب! وارحمتا لهذا الصبي؛ إنه يتيم، يرى لداته من الأطفال يرتمون في أحضان آبائهم، فيضمّونهم إلى صدورهم، فيملؤه الحزن ألاّ يرى له أباً بين هؤلاء الآباء، كذلك فكرت مكة في نظرتها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صمته وعزلته عن معابثها وملاهيها! ونظر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خلال حيرته الفكريّة، فرأى صوراً هزليّة، ورأى مسخاً للكرامة الإنسانيّة! ما هذه الأحجار المنحوتة؟ وما هذا الدوار بها؟

وما هذه القرابين؟ ولمن يتقرّب بها؟ وفيم هذه الدماء المسفوكة؟ والمساكين غرقى؟، والفقراء جوعى، لا يصلون إلى شيء، ولا يصل إليهم شيء! ولكن ما حيلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو طفل في هذه الهامات الضخمة، واللحى المسترسلة، والرقاب الغليظة، والأصوات المفزعة، والمجد الزائف، والشرف المؤثل؟! - فهي التي تطوف بهذه الأحجار، وهي التي تدور وتتقرّب، وهي التي تهذل وتمسخ! لو كان يسمع له لقال وتكلّم، ولعلّه أن يكون! وفي حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الخاصة ما يشغله عن صخب مكة ولهوها العابث حول أحجارها وأوثانها، فليذهب إلى أمّه ليسكن إلى ضمة صدرها وحنان قلبها، وقد كان يزورها مع ظئره، فتخطف له الحديث خطفاً عن أبيه وأسرته وقومه وبلده! ولسان الحال يقول: أنت محمد بن عبد الله، الكريم بن الكريم، أبوك أنضر فتيان مكة وأشبّها شباباً، وأعلاها ذكراً، فأين هو؟ وتختنق آمنة العبرة، فلا تستطيع أن تمضي في الحديث، فينظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا العبرات المكتومة المتبادلة! ويلتف إلى من يملأ حوله الملأ من صناديد قريش، فإذا هو شيبة الحمد عبد المطلب بن هاشم شريف مكة وكبير قريش، وهؤلاء الفتيان البهاليل المساميح

صلة الرحم

حول هذا الشيخ في وقفة الإجلال، هم الأعمام، وهؤلاء الصيد الأماجد، يملؤون السمع والبصر يغدون في طرقات مكة ويروحون في استعلاء، فم قريش، وهذا البلد الأمين مكة! ووسط كل هذا لا ينسى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يتيم، وأن أباه ليس له أوبة، وأنه قد مضى إلى حيث لا يعود! وفيم يطيب الحديث بين الحبيب والحبيب إلا عن ذلك الراحل الحبيب! صلة الرحم: وكانت آمنة مثالاً للمرأة الكاملة (¬1)، وهي بعد لم تتجاوز العشرين إلا بقليل، فقد رأت أن تزور يثرب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - معها، وأم أيمن حاضنته، لأمرين: أولهما: أن تزور مع ولدها قبر أبيه، وفي ذلك أجل الوفاء وأكرمه! وثانيهما: أن تعرّفه بقرابته من ذوي الأرحام، وهم بنو النجار، إذ تزوج منهم جده هاشم -كما أسلفنا- وينتهي نسب هذا الزواج إلى عدي من بني النجار، وكان بالمدينة ذا شرف ومال! وقد تحقق لها ما أرادت! ولعل هناك باعثاً آخر، وهو أنها كانت تخشى على وليدها العزيز جو مكة ووباءه، فأرادت أن تخرج به من ذلك الجو المزدحم الآهل بالسكان، وقد كانت حليمة تأخذه من وقت لآخر، إلى جوّ البادية، حيث يكون متصلاً بالكون، لا يحجبه عنه حاجب، ولا يحول دونه باب! ¬

_ (¬1) المرجع السابق، وخاتم النبيّين: 1: 156 وما بعدها بتصرف.

يتم يلاحقه يتم

سافرت به أمه لتزور قبر أبيه الحبيب الثاوي هناك، وأن يتعرّف -في الوقت نفسه، إلى أخوال أبيه المقيمن بيثرب آنذاك .. وعادت الأطياف ينطق بها لسان الحال أمام القبر، وإذا العبرات تنهمر، والأرواح تتناجى على مشهد من الغلام الذي عرف قبر أبيه، وأدرك محبّته من خلال الفطرة وعبرات أمه، فكان منظراً مطبوعاً في نفسه، وهمساً مسّ قلبه ومشاعره! وقد رسمت تلك الرحلة صوراً متتابعة كانت لها آثارها فيما بعد! يُتم يلاحقه يتم: وأقامت آمنة بدار بني النجار ما طابت لها الإقامة، ولم تُرد الاستمرار بعيدة عن بني هاشم، وعن عبد المطلب، فكان لابدّ من العودة، ومن ثم أخذت في السير إلى مكة، وهنا أدركها الموت بـ (الأبواء)! وشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في هذه السنن وفاة أمه كما شهد دفنها! وإذا كان قد فقد أباه من قبل، فقد كان ذلك وهو في الغيب المكنون، وقد عوضه جده عطف الأب! أما الأم فقد فقدها وهو في وعي، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وبعد أن عرف أنه لا شيء يعوّض عطف الأمّ الرؤوم، وهو فوق ذلك حرمان من شيء موجود شعر به، وأصابته له لوعة، علّمته الصبر وعوده أخضر! وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، أن الموت في حال الغربة لكل منهما، وليس لهما إلا الصحراء، وشقة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألم الغربة، وألم الفقد، وألم الانقطاع، وصار الركب في رعاية الله، ليحسّ مع الصبر واحتمال الآلام كريم الرعاية الإلهيّة، والعناية الربانيّة، ويكون له من هذا زاد

أم أيمن

نفسي يذكره عندما يلاقي الشدائد في الدعوة إلى الحق، ومناوأة الباطل، وتكاتف المشركين عليه، وتعرضه للأذى، والتجائه إلى الله! أم أيمن: وإن الذي حمله، وحل محل أمه في حضانته أم أيمن، وإذا كانت لم تعطه حنان الأم، وعزة العطف، فقد كلأته وحمته! وإن ارتباط حياته الطاهرة بأم أيمن تزويد من الله تعالى به بزاد إنساني، ليشعره بأن الناس كلهم لآدم، وأن كل الفضل فيمن يُحسن في عمله، لا فيمن يفاخر بنسبه وكفى، وإنها لحكمة عالية أن تكون الحاضنة التي لا يستغني عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حبشيّة؛ لأنه تربية ربانيّة على المساواة الإنسانيّة، وأنه لا شرف إلا بالعمل والعاطفة، لذلك لم يكن غريباً أن تعطيه حب الأمومة، وإن كان دون حب أمّه آمنة، وأن تصل به إلى جده محوطاً بعناية الله ثم بعطفها! وهكذا كان قدر الله رصداً لوفاة عبد الله قبل مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -! ووفاة آمنة وهي في طريق عودتها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك الزيارة إلى (مكة) البلد الحرام! وهكذا كان الرسول يتيم الأبوين، ليستخلصه الله بالتربية، ويصطنعه بالتأديب، حتى تكون نشأته ربانيّة خالصة، ويكون تأديبه إلهيًّا خالصاً، فتتم له النعمة، وتعظم من الله عليه المنّة! وأي يتم أبلغ في النفس أثراً وأعمق في القلب ألماً من يتم يتلاحق فيه الأبوان قبل أن تشتد لصروف الحياة قناة اليد؟!

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)}: وهنا نبصر رحمة الله بخاتم رسله في آيات متعبّدة متلوة آناء الليل وأطراف النهار: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} (الضحى)! وماذا عسى أن يفعله عبد الله لابنه لو بقي حياً؟ (¬1)! أكان يربّيه ليهب له النبوة؟ ما كان له ذلك؛ لأن الأب عنصر واحد من عناصر شتى، تتحكّم في مستقبل الطفل، وتحفر له في الحياة مجراه! ولو كانت النبوة بالاكتساب ما قرّبتها حياة الوالد شبراً، فكيف وهي اصطفاء؟! كان يعقوب حيًّا يرزق، له شيخوخته وتجربته وحكمته، بل له نبوّته، وقد نظر يوماً فلم يجد يوسف قريباً منه، إنه فقده في أخطر فترات العمر، فترة الصبا اللدن واليفاعة الغضة، ومع فساد البيئات التي احتوت يوسف فقد كان باطنه ينضح بالتقى والعفاف، كما يتقد المصباح في أعماء الليل المدلهم، فلما التقى الابن بوالده بعد لأي، رأى يعقوب ابنه نبيًّا صدّيقاً .. لقد ولّى عبد الله، وترك ابنه يتيماً، وكذلك آمنة، وكان اليتم الذي تلاحق -كما أسلفنا- بيد أن هذا اليتم المتلاحق كان يعد من اللحظة الأولى لأمر جلل، أمر يصبح به الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيّين وإمام المصطفين الأخيار، وما الأب والجد، ما ¬

_ (¬1) فقه السيرة: الغزالي: 59 بتصرف.

كفالة عبد المطلب

الأقربون والأبعدون، ما الأرض والسماء إلا وسائل مسخّرة لإتمام قدر الله، وإبلاغ نعمة الله من اصطنعه الله! كفالة عبد المطلب: وعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، ومعه حاضنته وأمّه بعد أمّه السيدة البرّة أم أيمن (¬1)، وقلبه ينفطر أسى وحزناً لفقد أمّه التي كان يجد في أحضانها وأحاديثها ومناغاتها غذاء لطفولته، ونشوةً لشبابه، وتلقّاه جده عبد المطلب، فقرأ على صفحات وجهه أبلغ الحزن، وأمْضَى الأسى، فكان يحرص على رعايته حرصاً شديداً، ويتلطف معه ويدنيه منه، والتقت فيه محبتان (¬2): الأولى: محبة أبيه الذي اهتصره الموت، وعوده أخضر! والثانية: محبة الغلام الطاهر في ذاته، المحبوب لذاته! وإذا كان اليتم بطبيعتة يوجد انفراداً نفسيًّا واعتزالاً، فإن الجدّ خشي أن يكون لذلك أثره في قلب هذا الغلام المحبوب، فكان يبالغ في تقريبه، حتى يأنس به دائماً .. وكان ينسبه مباشرة؛ ليستأنس به ويؤنسه، ويمنع عنه الإحساس بغربته بين أولاده! وإن أخشى ما يخشاه القوّامون على اليتامى أن يشعروا بانفراد، فلا يألفوا الناس، ومن ثم كان عبد المطلب يوليه عناية خاصة! وبقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كفالة جده عبد المطلب، يرعاه الله برعايته، ويكلؤه بكلاءته، ويحفظه بعنايته، ما يقارب سنتين؛ لأن وفاة أمه كانت ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 16 أو ما بعدها بتصرف. (¬2) خاتم النبيين: 1: 163 بتصرف.

كفالة أبي طالب

وهو في السادسة من عمره على أرجح الروايات، فلما بلغ الثامنة كان جده قد فارق الحياة! كفالة أبي طالب: وتأسّى أبو طالب بأبيه عبد المطلب في حفاوته وحبه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو ابن أخيه الشقيق عبد الله، ومن ثم كان يحبّه حبًّا شديداً لا يحبّه لولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، وكان يخصّه بما لم يحظ به أولاده، تمشيًّا مع ما طُبع عليه أبو طالب من جهة، ومراعاة لصلة القربى من جهة ثانية، والتزاماً بوصية عبد المطلب، بمزيد العناية والرعاية، عندما أحسّ بالموت من جهة ثالثة! ومن هنا قام أبو طالب بما قام به .. وكان يرعاه حقّ الرعاية، ويصاحبه ما أمكنت الصحبة، فالرسول هنا في سن تحتاج إلى الصحبة والملازمة .. مع مراعاة اليُمن الذي كان يلازم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أينما حل وحيثما ذهب! ونلمح أثر التربية الإلهيّة ونحن نبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في هذه السن أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، وما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله له من الأمور الصالحة فيه (¬1)! ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى: 1: 121، وابن هشام: 1: 240، ودلائل النبوة لأبي نعيم: 1: 216.

3 - المسؤولية والإيجابية

3 - المسؤوليّة والإيجابيّة: وثالث ما يطالعنا: المسؤوليّة والإيجابيّة، فيما يلي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرعى الغنم: اتجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى رعي الغنم، وهو عمل يستدعي رفقاً منه ورعاية، وفيه ثلاث مزايا (¬1): الأولى: أن فيه سياسة لحيوان ضعيف، يقتضي عطفاً ورفقاً في سياسته! الثانية: أنه يعاشر فيه الضعفاء من الغلمان الذين ليس فيهم استعلاء أهل الجاهليّة الأولى، الذين كانوا يستعلون عن مزاولة مثل هذا العمل! الثالثة: أن فيه كسباً ماديًّا من عمل اليد، وأفضل الكسب ما كان من عمل اليد! يروي البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بعث الله نبيًّا إِلا رعى الغنم" فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم. كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (¬2)! قال العلماء (¬3): الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرّن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع ¬

_ (¬1) خاتم النبيين: 1: 168 بتصرف. (¬2) البخاري: 37 - الإجارة (2262)، وابن ماجه (2149)، والموطأ بلاغاً: 2: 971. (¬3) فتح الباري: 4: 516 دار الريان، ط. ثانية 1409 هـ - 1988 م.

قصة بحيرى الراهب

وغيره، كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحمُّلهم لمشقة ذلك أسهل، مما لو كلّفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك، برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك، لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرّق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها، وفي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، بعد أن علم أنه أكرم الخلق على الله، ما كان عليه من عظيم التواضع لربّه، والتصريح بمنّته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء! وهذا لون من الحياة اختاره الله -جل شأنه- لكل من اصطفاهم لرسالته في سياسة الخلق، وتعليمهم شرائع الحياة الصالحة، وأدب العبوديّة، ومعرفة الخالق، ودلائل قدرته في صنائعه! وإنما جعل الله هذا في الأنبياء تقدمة لهم؛ ليكونوا رعاة الخلق؛ ولتكون أممهم رعايا لهم في عصورهم؛ ولتكون خير أمة أخرجت للناس في مكان القيادة والريادة للإنسانيّة كافة! قصة بحيرى الراهب: وجاء الوقت الذي تهيّأ فيه أبو طالب للرحيل في تجارته إلى الشام، فتعلق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليأخذه معه، فرق له أبو طالب واصطحبه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة من عمره، على اختلاف الروايات! روى الترمذي قال: حدثنا الفضل بن سهل، أبو العباس الأعرج البغدادي،

حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، أو نوح، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إِلى الشام، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلّوا رحالهم، فخرج إِليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرّون به، فلا يخرج إِليهم، ولا يلتفت! قال: فهم يَحُلّون رحالهم، فجعل يتخلّلهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربّ العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين! فقال له أشياخ من قريش: ما علْمُك، فقال: إِنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إِلا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إِلا لنبي، وإِني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة! ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان هو في رِعْيَةِ الإِبل، قال: أرسلوا إِليه! فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إِلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إِلى فيء الشجرة مال عليه! قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إِلى الروم، فإِن الروم إِذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه! فالتفت فإِذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إِلا بُعِثَ إِليه بأناس، وإِنا قد أخبرنا خبره، بُعِتْنا إِلى طريقك هذا! فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إِنما اخترنا خِيرةً لك لطريقك هذا! قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟! قالوا: لا. قال: فبايَعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله! أيّكم وليّه؟! قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده

حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت! قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إِلا من خلال هذا الوجه (¬1)! هذا هو أقوى طريق في هذه القصة! وقال الجزري: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، أو أحدهما، وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، وعده أئمتنا وهماً، وهو كذلك، فإن سن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، وأبو بكر أصغر منه بسنتين، وبلال لعله لم يكن ولد في ذلك الوقت (¬2)! ورواه ابن أبي شيبة (¬3)، والطبري (¬4)، وأبو نعيم (¬5)، والحاكم (¬6)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وليس كذلك؛ لأن قراداً من رجال البخاري فقط، ويونس من رجال مسلم فقط. وقال الذهبي في تعليقه على الحاكم: أظنه موضوعاً، فبعضه باطل، ¬

_ (¬1) الترمذي: (3620) الحلبي ط. ثانية 1395 هـ 1975 م، و (3863) تحفة الأحوذي، دار الكتب العلمية، ط. أولى 1410 هـ 1990 م، وانظر: عيون الأثر: 1: 40، والسيرة النبوية: ابن كثير: 1: 243، والطبقات الكبرى: 1: 150، والروض الأنف: 1: 206، وشرح المواهب: 1: 193، والإصابة: 1: 183، وأبو نعيم في "الدلائل": 1: 217 (109) المكتبة العربية، حلب 1390، والأصبهاني في "الدلائل": 2: 24 والسيرة النبوية: ابن هشام: 1: 236 ط. أولى، المنار 1409 هـ - 1988 م. (¬2) تحفة الأحوذي: 10: 66. (¬3) المصنف: 11: 479، 14: 286. (¬4) تاريخ الطبري: 1: 519 - 520. (¬5) الدلائل: 129. (¬6) الحاكم: 2: 615 - 616.

وبين اعتراضاته على سند الرواية ومتنها ووصفها بالنكارة، بل يفهم من كلامه شكه في الرواية كلها (¬1)! فأما انتقاده للسند فقد قال عن عبد الرحمن بن غزوان -راويها- (له مناكير) ثم قال: أنكر ما له حديثه عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، في سفر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام، ومما يدل على أنه باطل قوله: ورده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وبلال لم يكن خلق بعد، وأبو بكر كان صبياً (¬2)! وصححه السيوطي لشواهده (¬3). وقال الحافظ (¬4): رجاله رجال ثقات، وزاد فيها لفظة منكرة، وهي قوله: وأتبعه أبو بكر بلالاً، وقال بعد أن نقل توثيق النقاد لقراد: وله عند الترمذي حديث من رواية أبي موسى الأشعري فيه ألفاظ منكرة (¬5)، وقال في التعقيب على ذكر أبي بكر وبلال: وسبب نكارتها أن أبا بكر لم يكن متأهلاً، ولا اشترى يومئذ بلالاً، إلا أن يحمل أن هذه الجملة الأخيرة منقطعة من حديث آخر، درجت في هذا الحديث، وفي الجملة، هي وهم من أحد رواته (¬6)، وقال ابن القيم (¬7): وهو من الغلط الواضح! وذكر الألباني تصحيح الجزري للإسناد، وقد سبق ذكره في مقدمة هذا ¬

_ (¬1) انظر: السيرة النبوية: 28، والسيرة النبوية الصحيحة: 1: 107. (¬2) ميزان الاعتدال: 2: 581 (4934). (¬3) الخصائص: 1: 142 دار الكتب العلمية ط. أولى 1405 هـ 1985 م. (¬4) الإصابة: 1: 183 (791). (¬5) هدي الساري: 418، ط. الخيرية، القاهرة، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 109. (¬6) الإصابة: 1: 183 - 184. (¬7) زاد المعاد: 1: 76.

التخريج، وعقب بذكر ما ورد في رواية البزار (وأرسل معه عمه رجلاً) مما يجعل التصحيف في عبارة حديث الترمذي قوياً بين (رجلاً) و (بلالاً) (¬1)، وقال: بل هي صحيحة (¬2)! وعلى كل فإن وجود النكارة في الفقرة الأخيرة لا يعني ضعف سائر الرواية، وأما توسع الذهبي في الرد لمجرد احتمالات قابلة للنقاش، ولا تصلح أدلة للطعن في سائر الرواية فلا مبرر له! ويمكن أن تطمئن النفس إلى إثبات سفره - صلى الله عليه وسلم - مع عمه إلى (بصرى) (¬3)، وتحذير الراهب لعمه من يهود الروم، بالاعتماد على رواية الترمذي -التي ذكرناها- والاستئناس بالروايات الضعيفة الأخرى! أما بالنسبة لمعلوماتنا عن بحيرى، فإن المصادر لا تكاد تتفق على شيء بشأنه، بل هل متضاربة في اسمه، فمرة (جرجيس)، وأخرى (جرجس) وثالثة (سرجيس)، ورابعة (سرجس) (¬4)، ومرة أنه مشتق من الآرامية، معناه المنتخب، وأخرى من السريانية، معناه العالم المتبحر (¬5)، ومرة لقبيلة عبد القيس، فهو عبقسي، ومرة هو نصراني (¬6)، وأخرى يهودي (¬7)! ¬

_ (¬1) انظر: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: 66: 67 منشورات مؤسسة ومكتبة الخافقين، دمشق. (¬2) فقه السيرة: الغزالي: 66 دار القلم، ط. ثانية 1405 هـ 1985 م، وانظر: صحيح سنن الترمذي للألباني: 3: 191 (2862 - 3881) مكتبة التربية العربي لدول الخليج، ط. أولى 1408 هـ 1988 م. (¬3) السيرة النبوية الصحيحة: 1: 109. (¬4) انظر: شرح المواهب: 194، والروض الأنف: 1: 118، ومروج الذهب: 2: 75، ودائرة المعارف الإِسلامية: 2: 397. (¬5) انظر: دائرة المعارف الإِسلامية: 2: 397، ودائرة المعارف للبساني: 5: 218. (¬6) انظر: مروج الذهبي: 1: 75. (¬7) انظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 111.

أثر هذه الرحلة

أثر هذه الرحلة: ولم يكن من المعهود في حياة الناس (¬1)، ولا سيما الذين أوتوا عقولاً لمّاحة، وقلوباً يقظة واعية، وأرواحاً مشرقة مضيئة، أن تمر بهم أحداث في طريقهم -وهم بعيدون عن الجو الطبيعي والاجتماعي الذي عاشوا في جنباته- ولا يكون لهذه الأحداث أثر في أنفسهم، خصوصاً إذا كانت الأحداث تمسّهم من قريب أو بعيد، فلابد أن سفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام كان ذا أثر في نفسه، فهو قد رأى قوماً غير قومه، وعادات غير عاداتهم، وتفكيراً غير تفكيرهم، وعقائد غير عقائدهم، ومتعبّدات غير متعبّداتهم، وأخلاقاً غير أخلاقهم، ومعيشة غير معيشتهم، وجوًّا غير جوّهم، وبلاداً غير بلدهم، وجرت أحاديث وأحداث كان هو محورها وقطبَ دائرتها! وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الذكاء والفطانة، ولقانة القلب، ولطف الخُلق، وإشراق الروح، وضياء العقل، وثُقُوب الذهن، ورجاحة التفكير، بالمكان الأرفع، فلا يمكن أن تمر هذه الصور ثم لا تترك أثراً في نفسه يرجع به إلى بلده، ويأخذ حيّزاً من حياته وتفكيره .. ولكنه الأثر الذي تتسع له حياة طفل في هذه السن، نشأ نشأة صقلها اليتم -كما أسلفنا- وهذّبها كرم النحيزة، وشرف الأصل، وطهارة الأعراق، وعزة المنبت، مع رعاية الله وحفظه عن التدنس بدنس البيئة الجاهلية وأوضارها! وعاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة من رحلته، وقد علم ما تحدّث به الرهبان عنه، مما دعا عمه إلى الإسراع به خوفاً عليه من غوائل اليهود! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 175 - 176 بتصرف.

تهافت المستشرقين

فأي صورة ارتسمت في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأحاديث التي تتحدث عن النبوة والوحي، وعن هذا الغلام اليتيم الأمّي الذي سيكون نبي هذه الأمة! فما النبوة؟ وما الوحي؟ ومتى؟ وكيف؟ هذه أسئلة من الممكن القريب أن تكون دارت في تفكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو عائد إلى مكة، وهو يرى أهلها يسبحون في عمياء الوثنيّة الجاهليّة البليدة، وهو يعتزلهم في أعيادهم ومواسمهم، وينأى بجانبه كارهاً مبغضاً لأصنامهم، رائياً لأحوالهم، متعجّباً من ضلال عقولهم! ولكن هل حظي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من داخل نفسه أو ما يحيط به من عوامل وعوالم بجواب عن هذه الأسئلة؟ ليس في حياته - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوقت ما يشعر بشيء، سوى أنه وجه إلى لون من الحياة يملؤها الإحساس بعظمة الكون وعظمة مدبّره جل شأنه، والشعور بسلطان قدرته المبسوط على الوجود! تهافت المستشرقين: وانتهز المستشرقون والمغرضون هذه الفرصة (¬1)، فصنعوا من الحبّة قبّة، وأسسّوا عليها بناءً متهاوياً، حيث زعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تلقى رسالة التوحيد النقيّة، من عالم نصراني، وأغرب من هذا أن أحدهم ألف كتاباً في هذا ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: الندوي: 118 وما بعدها بتصرف.

الموضوع، أسماه (مؤلف القرآن)!، حاول أن يثبت أن بحيرى قد لقّن الرسول القرآن كله في هذا الوقت القصير! وفاته أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بعث! وهذا لا يقوله عاقل رزق من سلامة العقل والإنصاف ذرة، فكيف يُعقل أن غلاماً لم يُبعث بعد، قد تلقى وهو في هذه السن من شيخ لا يعرف لغته، ولم يجلس إليه إلا ما يستغرقه وقت الجلوس العابر، المسائل الدقيقة، والتفاصيل العميقة، في نقد عقيدة الشرك، والمسيحيّة الممسوخة في هذا القرن السادس المسيحي، التي لم يهتد إليها كبار النقاد في المذهب البروتستانتي، وكبار المصلحين في العالم المسيحي، والتمييز الدقيق بين عقائد الفرق المسيحيّة وأقوالها، وقد تعرض القرآن الكريم لحوادث لم تحدث إلا بعد ثلاثين أو أربعين سنة، حيث أصبحت عظام بحيرى نخرة .. كاندحار الروم أمام الفرس في الأعوام الأولى من القرن السابع المسيحي (602 - 616) إلى آخر نقطة من تراجع الجيوش، وتقلّص الحكومات، حتى كادت الإمبراطوريّة البيزنطيّة تلفظ نفسها الأخير، وتصبح مستعمرة ساسانيّة حقيرة، وانقطع كل أمل في نهوض الدولة البيزنطية وعودتها إلى أوجها الأول، ثم انتصار الروم البيزنطيّين الرائع، النافي لكل تقدير وتخمين، على الفرس الظافرين المنتصرين، حتى أوغلت الجيوش الروميّة في إيران، وغرزت أعلام الفتح في قلب البلاد، وأثخنت الشعب الإيراني قتلاً وجرحاً، وأهانت المعابد والمقدسات الدينية، وعادت من أسوار العاصمة ظافرة مرفوعة الرأس، وذلك كله في ظرف تسع سنين (¬1)، وهذا ما أعلنه القرآن بقوله: ¬

_ (¬1) انظر: نبوة تتحدى ومعجزة تتحقق: للندوي: مجلة البعث الإِسلامي: عدد 4 جزء 15 رمضان 1390 هـ نوفمبر 1970 م.

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} (الروم). وهي نبوة لا يقدر عليها إلا العلم القدير الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي! ولم يكن شيء أغرب خيالاً، وأبعد منالاً، من هذه النبوة التي أعلنها القرآن عند فرح قريش المشركين بانتصار المجوس المشركين على أهل الكتاب المسيحيّن، وشماتتهم بهزيمة الروم المنكرة، فقال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ}! والبضع هو ما دون العشر، واستبعدته قريش كل الاستبعاد، حتى قامروا على ذلك استبعاداً له، يقول المؤرخ الإنكليزي (جبون): (إن محمداً تَنبَّأ حين بلغت فتوح الإيرانيّين أوجها وقمتها، أن الرايات الروميّة سترتفع بالفتح والانتصار في بضع سنين، ولم يكن شيء أبعد عن القياس من هذه النبوة التي أعلنها محمد؛ لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكم هرقل كانت تعلن بتمزق الإمبراطوريّة الرومانيّة، ونهايتها القريبة) (¬1)! ولكن تحققت هذه النبوة بشكل غريب خارق للعادة، وذلك في سنة 625 م -العام الثاني من الهجرة النبويّة عند غزوة بدر- يقول (جبون): ¬

_ (¬1) انظر. تاريخ انحطاط روما وسقوطها: 3: 302 - 303 ط. 1890 م.

حماية الله للنبي

(كما أن ضباب الصبح والأصيل ينقشع ويتبدد بنور الشمس البازغة الوهّاج، كذلك تحوّل الأمير الرقيق المترف الذي لم يكن يعرف إلا الشباب والهوى، والذي كان قد قَدم (أركاديوس) في عصره (¬1)، فارساً منتصراً، يقول الجيوش، ويفتح البلاد (كسيزر) (¬2)، لقد أنقذت كرامة هرقل وروما بطريقة غريبة رائعة، وعاد إليهما اعتبارهما وقيمتهما)! هذا إلى نبوات أخرى، وإعلانات بعيدة! ولا يصنع من هذه الحبّة قبّة إلا من أعماه التعصّب المديني، والاسترسال في الخيال، والإمعان في الافتراض والتخمين (¬3)! وسنعرض لإبطال هذا التهافت بشيء من التفصيل عند الحديث عن الوحي! حماية الله للنبي: وشب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظاً من الله تعالى، بعيداً عن أقذار الجاهليّة وعاداتها، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خُلقاً، وأشد هم حياءً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش والبذاءة، حتى عُرف بين قومه بـ (الأمين)! وقد عصمه الله تعالى من أن يتورط فيما لا يليق بشأنه، من عادات الجاهليّة، ولا مما لا يرون به بأساً، ولا يرفعون له رأساً، وكان واصلاً ¬

_ (¬1) الملك الرومي الخليع المستهتر الذي أصبح مثلاً في تاريخ أوروبا للتمتع المسرف والترف الفاحش. (¬2) الإمبراطور الرومي الذي اشتهر بفتوحه وامتداد ملكه. (¬3) انظر تفصيل القول في رد هذا التهافت في مدخل إلى القرآن الكريم: دكتور محمد عبد الله دراز: 135 وما بعدها، دار القلم، الكويت 1400 هـ 1980 م.

للرحم، حاملاً لما يثقل كواهل الناس، مكرماً للضيوف، عوناً على البر -كما سيأتي من شهادة خديجة -رضي الله عنها- حين رجع من حراء، وكان يأكل من نتيجة عمله، ويقنع بالقوت! ولقد كانت طبيعة العمل في رعي الغنم (¬1) -كما أسلفنا- تدعو إلى الاختلاط بصبيان من طبقات مختلفة، أكثرهم طبقات الفقراء والخدم والعبيد .. أولئك الذين كانوا يؤجرون لهذا العمل الذي لا يعد من معالي الأعمال، بل يعد من صغارها، ومع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان معهم، لم تنزل نفسه عن عزتها من غير استعلاء، فكان يجذبه إلى العلا شرف نسبه، وطيب محتده، وما يراه في أسرته من سمو وعلو وسيادة، وما يكمن في طبعه الكريم من حب لمكارم الأخلاق، من غير غطرسة، ولا كبرياء، ولا استهانة أو استصغار للضعفاء، ويجذبه إلى التطامن والرضا بالقليل صغر العمل في ذاته، من غير نظر إلى ثمراته وأثره في تربية النفس على حسن المعاملة، والرفق بالناس! وكان الأحداث منهم، خصوصاً الذين انغمس ذووهم أو أولياؤهم في الشهوات يستولي على قلوبهم حب اللهو البريء وغير البريء، ومنهم من ينزع إلى الشر من بعد، ويكون عنصر فساد في المجتمع إذا بلغ أشده! وإذا كان الضعف يثير الرحمة، ويدفع إلى الحب الخالص البريء، فهؤلاء يدفعون إلى المجون، والمجون يهدي إلى سيطرة الهوى، وسيطرة الهوى تهدي إلى الفساد، والصحبة تجعل السقيم يعدي البريء! وهكذا كانت حماية الله -عَزَّ وَجَلَّ- لعبده ومصطفاه، وكانت العصمة والتربية الإلهية! ¬

_ (¬1) خاتم النبيين: 1: 170 بتصرف.

يروي ابن إسحاق وغيره بسند حسن عن علي بن أبي طالب عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهليّة يهمّون به من النساء، إِلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة، ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة، فأسمر بها، كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إِذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، قلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان وفلانة، فجلست انظر، وضرب الله على أذني، فوالله! ما أيقظني إِلا مسّ الشمس، فرجعت إِلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً، ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي، حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله! ما أيقظني إِلا مسّ الشمس، فرجعت إِلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله! ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك، حتى أكرمني الله بنبوّته"! قال ابن حجر: إسناده حسن متصل، ورجاله ثقات (¬1)! ¬

_ (¬1) الخصائص الكبرى: السيوطي: 1: 149 - 150 دار الكتب العلمية، ط. أولى 1405 هـ 1985 م، والبخاري في التاريخ الكبير: 1: 130 (389)، والبيهقي: "الدلائل": 2: 33، والحاكم: 4: 245، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأبو نعيم: "الدلائل": 2: 33، وابن حبان: الإحسان (6272)، وذ كره الهيثمي في المجمع: 8: 226، وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد حلف الفضول (المطيبين)

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد حلف الفضول (المطيّبين): وعاش الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مطلع حياته مع قومه، يشاركهم وجدانهم في الخير، ويتجنب الشر ولا ينغمس فيه، فهو يعقل ما يتفق مع الفطرة المستقيمة التي فطره الله عليها، والمنهاج القويم الذي هداه الله تعالى إليه، وأدبه بأدبه! ومن ذلك حلف الفضول (المطيّبين) الذي قال فيه ابن كثير: أكرم حلف سُمِع به، وأشرفُه في العرب (¬1)! وقد كان ذلك الحلف والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ العشرين (¬2)، وقالوا: إنه كان بعد حرب الفجَار بأربعة أشهر، وأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة (¬3)! وكاَن سببه أن رجلاً من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً، وجمحاً، وسهماً، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص ابن وائل، وزبروه -أي انتهروه- فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا آل فِهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر وَمُحْرِمٍ أشعثٍ لم يَقضِ عُمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجَر ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: 1: 259. (¬2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة: 1: 112، والسيرة النبوية: الذهبي: 30. (¬3) السيرة النبوية: ابن كثير: 1: 258 وما بعدها.

إِن الحرام لمَنْ تَّمت كرامتُه ... ولا حَرَام لثوبِ الفاجِر الغَدِر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مَتْرك! فاجتمعت هاشم، وزهرة، وتيم بن مُرَّة، في دار عبد الله بن جُدعان فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يُؤَدَّى إليه حقه ما بَلّ بَحْرٌ صوفةً، وما رسَا ثَبيرٌ وحِراء مكانهما، وعلى التآسي في المعاش! فسمّت قريش ذلك الحلف (حلف الفضول)، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فَضْل من الأمر. ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزَّبيدِي، فدفعوها إليه! وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك: حَلَفْتُ لنَعقدنْ حِلفاً عليهم ... وإِن كنا جميعاً أهلَ دارِ نُسمِّيه الفضول إِذا عَقَدنا ... يعز به الغريبُ لذي الجوارِ ويعلمُ مَنْ حوالي البيت أنَّا ... أباةُ الضيم نمنع كل عارِ وقال الزبير أيضاً:

إِن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالمُ أمرٌ عليه تعاقدوا وتواثقوا ... فالجارُ والْمُعْتَرُ فيهم سالمُ وقد شهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحلف، وأثنى عليه حين ذكره في الإِسلام! يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "شهدت حلف المطيّبين، مع عمومتي، وأنا غلام، فما أحب أن لي حمْر النعم، وإني أنكثه" (¬1)! والمطيّبون: هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم، وهو تحالف على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، ورد الفضول إلى أصحابها .. (¬2)! وأمثال العاصي في ميدان التجارة والسياسة وأكل أموال الناس كثير .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بخصومتهم .. وأولى الناس بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعان عليهم! ترى، هل فقه أتباع خاتم النبيّين ذلك في عصرنا الحاضر؟! اللهم! وفق! ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 190، والبخاري: الأدب المفرد (567)، والحاكم: 2: 220، والبيهقي: 6: 366، والدلائل: 2: 37، 38، وابن حبان (4373)، وانظر: المجمع: 8: 172، وابن عدي: الكامل: 4: 1610، وأبو نعيم: معرفة الصحابة (495)، والبزار (1000)، وأبو يعلى (845، 844). (¬2) انظر: أحمد (1655) تحقيق أحمد شاكر، والنهاية: 1: 449 - 450، والمعجم الوسيط (طيب)، والطبقات: 1: 128 - 129، وعيون الأثر: 1: 46 - 47.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتزوج خديجة

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتزوج خديجة: وتشير روايات كثيرة إلى تفاصيل تتعلق بزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أم المؤمنين خديجة التي كانت ثريّة تضارب بأموالها، وتحدد هذه الروايات بداية التعارف عن طريق عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تجارة خديجة! ولا حاجة بنا إلى تحقيق القول في تلك الروايات (¬1)، فالثابت يقيناً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تزوج من أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يقول ابن حجر (¬2): تجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها -إلا أم حبيبة- وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زوجه إياها أبوها خويلد، ذكره البيهقي في حديث الزهري، بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن أسد، ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد، ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبي هالة بن النباش بن زرارة التميمي، حليف بني عبد الدار، واختلف في اسم أبي هالة، فقيل: مالك، قاله الزبير، وقيل: زرارة، حكاه ابن منده، وقيل: هند، جزم به العسكري، وقيل: اسمه النباش، جزم به أبو عبيد، وابنه هند روى عنه الحسن بن علي فقال: "حدثني خالي" لأنه أخو فاطمة لأمها، ولهند هذا ولد اسمه هند، ذكره الدولابي وغيره، فعلى قول العسكري هو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، ومات أبو هالة في الجاهلية! ¬

_ (¬1) انظر: عيون الأثر: 1: 47 وما بعدها، وشرح المواهب: 1: 200، والطبقات: 1: 131 وما بعدها، ومصنف عبد الرزاق: 5: 319 - 321. (¬2) فتح الباري: 7: 167، الريان ط. ثانية 1409 هـ - 1988 م.

وكانت خديجة قبله عند عتيق بن عائذ الرومي! وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضاً إلى الشام! قال الزبير: وكانت خديجة تدعى في الجاهليّة (الطاهرة)، وماتت على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، وقيل بثمان، وقيل بسبع، فأقامت معه - صلى الله عليه وسلم - خمساً وعشرين سنة على الصحيح، وقال ابن عبد البر، أربعاً وعشرين، وأربعة أشهر! وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج خديجة -رضي الله عنها - بعد أن بلغ الخامسة والعشرين، فإنه لم يعرف عنه أنه فكر في الزواج من قبل هذه السن (¬1)؛ لأنه كان عفًّا كريماً، لم يقع منه في طفولته، ما يشين الكرامة .. وهو ليس حصوراً، كما دلت على ذلك حياته من بعد، وما كان خاملاً في قومه، بل هو الذي إذا خطب لا تُرَدُّ خطبته، وكان فيه خُلُق قويم يجعل القلوب تهفو إليه، وفيه جمال يجعل الأنَظار تتعلق به، وتشرئب الأعناق إليه! نعم، إنه لم يكن غنيًّا، ولكنه تعود منذ نعومة أظفاره أن يكون عاملاً، فرعى الغنم، ثم اتّجر، وإذا كان الاتجار لم يأت بمال موفور يرفعه إلى الثراء، فقد كان فيه الاكتفاء، فلماذا إذن تأخر في الزواج؟ إن الذي نلمسه من تاريخ حياته في ابتدائها، حتى صار شابًّا ممتلئ الشباب أنه ما كان يعير شهوات البدن اهتماماً، فليس للنساء موضع في تفكيره .. وما كان محمد في أي دور من أدوار حياته يهتم بما يهتم به الشباب في هذه الفترة من حياتهم، لا عن ضعف في النفس، ولكن عن قوة فيها، وهمة عالية تتجه ¬

_ (¬1) خاتم النبيّين: 1: 188 بتصرف.

إلى معالي الأمور، وعزيمة صادقة، وإرادة قوية، لا تجعل للهوى سلطاناً عليها، بل تجعل كل العواطف تحت سلطانها والغايات العليا هي التي تجذبها! وهنا نبصر بسط الرزق والزواج المبارك، بعد حياة رعي الغنم والعمل في التجارة، وكيف كانت المنحة بعد المحنة، وكيف كان التوافق، فهي امرأة شريفة، ذات ثراء، وهو رجل كامل عامل قوي أمين، أغناها بأمانته، وكفلها برجولته، ووجه مالها إلى الخير، بحسن نيّته، وطيب طويّته! وقد كان يعمل لها في المال من قبل بأجر، تطيب به نفسها، ويكسب مالها على يديه أضعاف أضعاف ما عند الآخرين .. ولو استمر يعمل في مالها ومال غيرها، لأدرّ عليه الكثير الكثير .. ولو كان يبتغي المال وأعراض هذه الدنيا، لنال الشباب والمال معاً! ولكنه - صلى الله عليه وسلم - رأى أن يعمل في مالها بغير أجر، وأن يضاعفه بغير ثمن، وأن تكون أم ولده، لطيب عرفها، وشرف نسبها، وقد تخيّر لنطفته، فاختار أكمل امرأة في قريش، وأعلاها في المكرمات كعباً، وقد اختارها الله تعالى لتكون له ردءاً في شدائده، تواسيه بالكلمة والعطف والحنان، في وقت اشتد فيه البلاء، وعظم الابتلاء، فأعنته المخالفون، وكان عزيزاً عليه أن يُعنتهم، فكان في حاجة ماسّة إلى من يأوي إليه، كما هو في حاجة ماسة إلى من يذود عنه! وإذا كانت امرأة نوح وامرأة لوط قد تخاذلتا عن معاونة النبيّيْن الصالحيْن، فإن خديجة أعلت شأن النساء قاطبة، فكانت الزوج الملهمة المواسية، الودود العطوف الولود، حين يلقى قريشاً وصدودها، وعداوتها وجفوتها، يجد في بيتها برداً وسلاماً!

أغنى الله اليتيم

وإذا كان قد فقد عطف الأم الرؤوم في صدر حياته في وقت الحاجة، فقد عوضه الله تعالى في خديجة زوجاً ورفيقة حياة مباركة طيّبة! ولنا حديث خاص عن ذلك نفصل القول فيه بعون الله وتوفيقه! أغنى الله اليتيم: ويطالعنا قول الحق تبارك وتعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} (الضحى) فهل طغى واستعلى؟! وهل عبث وتلهّى؟! وهل اتخذ الحياة لعباً ولهواً؟ وهل أخذ في التكاثر والمكاثرة؟! لا شيء من ذلك، إنما يفعل ذلك من اتخذ المال غاية، ولم يتخذه سبيلاً للخير، وعون الإنسان لأخيه الإنسان! والرسول - صلى الله عليه وسلم - ما اتخذ المال بغية يبتغيها، ولا غاية يتطلع إليها، وما أراد التكاثر، وما عرفه في أي دور من أدوار حياته! إنما اتخذه وسيلة للمكرمات يقوم عليها، وللخير يسديه، فكان يطعم الكَلّ، ويعين على نوائب الدهر، ولا يجد ذا حاجة إلى العون إلا أعانه، ولا ذا خصاصة إلا سدها، ولا ذا مسغبة إلا أشبعه، ولا ذا متربة إلا رفعه .. كان - صلى الله عليه وسلم - يبحث عن مواضع الحاجة فيرأب ثلمتها! وكل من حوله كانوا ممدودين بعونه وفضله وخُلُقه، ومن هنا كان الخير في حياته - صلى الله عليه وسلم - عميماً، والفضل كثيراً!

الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعمل في بناء الكعبة

وهنا نبصر الحياة في سرائها وضرائها، في كريهتها ومنشطها، في ضيقها ورخائها .. ونبصر من عاش مع الضعفاء شاعراً بضعفهم وبإحساسهم، لا يسير وراء الأماني والأحلام! ثم جاء المال، فكان الشاكر الذي يفيض بالخير على غيره، ويعلم حق المال في مورده ومصرفه معاً، فلا يكسب إلا من طيب، ولا ينفق إلا في طيب، وهو في كسبه وإنفاقه لا يكون إلا نافعاً، فكسبه طيّب، وصرفه طيّب! وهكذا نبصر في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة أنه ضرب للناس أعلى مثل للعامل الصابر، والغني الشاكر الذي عاش كالضعفاء في غناه، فكان غني النفس في الحالتين! الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعمل في بناء الكعبة: والناظر إلى موضع الكعبة المشرفة من مكة المكرمة، يراها في مطمئن من الأرض (¬1)، تحيط بها الجبال من كل جانب، مما جعلها في الأزمنة الغابرة قبل أن يعمر ما حواليها بالبيوت والمساكن، ومشيد البنيان، عرضة لجوارف السيل، وقد خافت قريش عواقب ذلك على البيت أن تهدمه السيول، فأقامت ردماً من حوله جعلوه مطلاً على البيت لحمايته، فكانت السيول تأتي من فوق هذا الردم حتى كادت تزيله، وكانت تعلوه حتى تدخل البيت، فتصدع وخافوا أن ينهدم، وكانت أبواب البيت لاطئة بالأرض، فسرقت خزائنه وهداياه التي كانت تهدى إليه، فتلقى في بئر داخله، فاجتمعت قريش وقالوا: لو بنينا بيت ربنا، وكان البيت شرفهم وعزهم، فقسموه أرباعاً واقترعوا عليه! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 187 وما بعدها بتصرف.

ولما أجمعوا أمرهم على بناء الكعبة وبنيانها، قام فيهم أبو وهب ابن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم -كما قال ابن إسحاق- (¬1) فقال لهم: (يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس)! وعند موسى بن عقبة: أن الذي أشار عليهم بذلك هو الوليد بن المغيرة المخزومي، وأنه قال فيهم: (لا تجعلوا فيه مالاً أُخذ غصباً، ولا قطعت فيه رحم، ولا انتهكت فيه ذمة) (¬2)! ثم أخذوا في البناء على مواضعهم، وقد شارك النبي - صلى الله عليه وسلم - في البناء (¬3)، فلما انتهوا إلى حيث يوضع الركن الأسود من البيت قالت كل قبيلة: (نحن أحق بوضعه، واختلفوا حتى خافوا القتال، ثم جعلوا بينهم حكماً أول من يدخل من باب بني شيبة، فيكون هو الذي يقضي بينهم، فكان أول داخل عليهم من ذلك الباب محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أحمد من حديث السائب بن عبد الله بسند حسن، وفيه: فقال بطن من قريش: نحن نضعه، وقال آخرون: نحن نضعه، فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً، قالوا: أول رجل يطلع علينا من الفج، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه، فوضعه هو - صلى الله عليه وسلم -) (¬4)! ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن كثير: 1: 277. (¬2) فتح الباري: 7: 181 دار الريان، ط. ثانية 1409 هـ 1988 م. (¬3) انظر: البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3829)، ومسلم: 3 - الحيض (340)، وعبد الرزاق: 5: 102 - 104، والسيرة: الذهبي: 30. (¬4) أحمد: 3: 425، وانظر: الفتح الرباني: 20: 250 - 201، والسيرة النبوية: ابن كثير: 1: 281، ومنحة المعبود: 2: 86 (2316).

4 - التكامل المحمدي

4 - التكامل المحمدي: ورابع ما يطالعنا: التكامل المحمدي، وذلك أن الظاهرة الاجتماعيّة التي كانت تسم البيئة العربيّة بميسمها (¬1)، وتعنون الحياة فيها بعنوانها، شظف العيش، وخلو اليد من حطام الدنيا، فقد ولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- يتيماً، راعياً للغنم، عاملاً، ولهذا أثره العميق في تمحيص خصيصة الإنسانيّة العليا في الأفراد الذين تلزمهم أيام شبابهم، وهي أيام اجتماع قوى الاندفاع، وعناصر الهوى النفسي، ونزغات المراهقات، ومنافذ الغرائز الماديّة النهمة، ومسارب استطالة الشباب وطموحه .. وهو تمحيص سياق أشد المشقة، ولا تبصر له إلا نفس قوية التركيب البنائي في تكوينها، ومن ثم كانت مثله التاريخية آحادًا من الأفذاذ في القرون والحقب .. ومن عجائبه أنه يتجاوب في يسر مع النزعات الدينيّة الداعية إلى الإيمان بالغيب، فتكثر نسبيًّا أمثلته من النماذج الحيّة في أوقات تسود فيها الروحانيّة .. فإذا عاشت شخصيّة الممحّص، وخرجت منه كما خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - في شبابه، أكمل الناس إنسانيّة، وأعظمهم خلقاً، وأضخمهم أمانة، وأبعدهم عما يشين مروءة الرجال، حتى ما يستطيع عدو بَلْه ولياً أن يقول فيه، لو، ولا، وليت، ومن ثم كانت شخصيّة محمد خاتم النبيّن - صلى الله عليه وسلم - هي النموذج الأعلى لكمال خصيصة الإنسانيّة العليا في فرد من بني الإنسان! تكافؤ الخلق: وهنا نبصر ظاهرة التكافؤ الخلقي في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونعني بالتكافؤ ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 209 وما بعدها بتصرف.

الخلقي أن أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تنبع من فطرته بنسب متفقة، فصبره مثل شجاعته، وشجاعته مثل كرمه، وكرمه مثل حلمه، وحلمه مثل رحمته، ورحمته مثل مروءته .. وهكذا لا تجد له خُلقاً في موضعه من الحياة يزيد أو ينقص على خلق آخر في موضعه منها، ومن هنا كان جماع أمره عند قومه (الأمين)، وهذا يمثل التكافؤ الخلقي، أصدق تمثيل! هذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي، في شخصيّة محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - يوشك أن يكون معجزة الحياة في الإنسان .. لأن التاريخ لم يذكر من النماذج العليا للبشريّة من كان هذا التكافؤ الخلقي خليقته العامة سوى محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! وإذا ذكر غيره من النماذج العليا ذكره عنواناً لتبرير جزئي في بعض الأخلاق والفضائل، فهذا مثل مضروب في الصبر، وذاك في الحلم، وثالث في الكرم، ورابع في الشجاعة .. وهكذا تتفرق النهايات في الأخلاق والفضائل في نماذج متعددة .. ولكنها تجتمع متكافئة في شخصية محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو سر الإعجاز الإنساني في حياته - صلى الله عليه وسلم -! وهذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي في شباب الرسول - صلى الله عليه وسلم - معجزة الإنسان في الحياة؛ لأن الشباب معترك الغرائز، وهي مختلفة الأغراض والغايات، فالتكافؤ الخلقي في الشباب ضرب من المحالات في متعارف الحياة، فإذا حققه الوجود الواقعي في شباب محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - كان وجوده معجزة الإنسان في الحياة! وهذا التكافؤ الخلقي في وجوده الواقعي في شباب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ملازمة الظاهرة الاجتماعيّة الأولى لحياته في شبابه من شظف العيش -كما أسلفنا-

ضرب آخر من الإعجاز الإنساني في الحياة؛ لأن تلك الظاهرة الاجتماعيّة كانت قمينة أن تدعو الشباب إلى طيش الغرائز، فتنقلب به الفضائل إلى رذائل جامحة، فوجود ضابط نفسي يعصم الإنسان من الانزلاق وراء تيّارات الغرائز في إبان قوتها العارمة هو الآية الكبرى على أن التكافؤ الخلقي الذي ينبع منه ذلك الضابط النفسي ليس من صنع الإنسان! والتكافؤ الخلقي بهذا المقياس لم تعرفه الحياة الواقعيّة لإنسان غير محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وهو في ذاته مفطور مجبول، لم يصنعه علم ولا تثقيف؛ لأن بيئته في شبابه لم تكن بيئة علم وثقافة! ومن الطبيعي أن تكون ثمرات هذا التكافؤ الخلقي محدودة بحدود البيئة التي عاش فيها .. حتى إذا أتيح له أن يمتد ويتسع مع الرسالة العامة الخالدة امتد واتسع، فكان هو العنوان الذي رسم به القرآن الكريم الفضيلة العليا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال في معرض الرد عنه مدافعاً ومادحاً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} (القلم). وهذا التعبير في موضعه يكافئ تعبير الفطرة الملقى على ألسنة قومه في تسميته (الأمين) فكما مثل (الأمين) التكافؤ الخلقي هناك أصدق تمثيل مثّله هنا في دور الرسالة العامة الخالدة (الخلق العظيم) أصدق تمثيل! والفرق بين التعبيرين هو الفرق بين (محمد المرسل رحمة للعالمين)، و (محمد الشاب الأمين)! وفي تعبير القرآن الكريم، إشارة إلى عمل في التكافؤ فوق عمل الفطرة والجبلة، وهو أثر النبوة والرسالة! والخلق الأصيل النابع من الفطرة لا تملك المؤثرات الطارئة أن تغيّره، فهو

يستطيع أن يتغلب على الظواهر الاجتماعيّة ويوجهها في طريق الفضيلة، حتى تصبح تلك الظواهر عند صاحب هذا الخلق الأصيل النابع من الفطرة فضيلة من فضائله! هكذا يصور التاريخ الواقعي شخصية محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - في شبابه، حتى تزوج خديجة -رضي الله عنها - وهي امرأة حسيبة شريفة كثيرة المال، عرفت محمداً - صلى الله عليه وسلم - في شظف عيشه وقلة ذات يده، وعرفته في تكافئه الخلقي، فرغبت فيه لهذه المعرفة، وتزوجته بعد هذه المعرفة! ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظل بعد هذا الزواج كما كان منذ وُلد ونهد وشب، يعيش في شظف عيشه، لا من قلة المال في يده؛ بل لأن خصّيصة التكافؤ الخلقي عنده طبعته على الزهادة في الحياة الماديّة المترهلة التي كانت تحياها مكة وتعيش فيها قريش، وطبعته على التسامي بنفسه عن المطامع التي تتحلّب لها أشداق الماديّين إذا هبط عليهم الثراء من غير كدّ ولا تعب! فعمل التكافؤ الخلقي هنا أبلغ من عمله هناك؛ لأن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قبل زواجه خديجة -رضي الله تعالى عنها - كانت حياة تقلل من الدنيا؛ لأنها كانت في يده قليلة، أو لأنه لم يكن في يده منها شيء، فالفضيلة فيها في قوة الصبر على عدم التطلع إليها، وتطلبها بما يميل بميزان التكافؤ الخلقي فيبطل عمله، وحياته بعد زواجه حياة تقلل من الدنيا وهي ملء يده، فالفضيلة فيها في قوة الصبر معها على الانزلاق في غمرات المادية التي تدفع إلى الانزلاق فيها البيئة ومؤثراتها! ومضى محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - في حياته الجديدة أميناً مع نفسه، أميناً مع قومه، أميناً مع زوجه، أميناً لماضيه، أميناً لمستقبله .. وبقي يعيش في

خصال الكمال

ظاهرتيه من شظف العيش والتكافؤ الخلقي، حتى كأن آخر حياة شبابه منها صورة من أولها! ولنا حديث خاص عن ذلك نفصل القول فيه بعون الله وتوفيقه! خصال الكمال: وخصال الجمال والكمال في البشر -كما قال القاضي عياض- نوعان (¬1): (ضروري دنيوي، اقتضته الجبلّة، وضرورة الحياة الدنيا! ومكتسب ديني، وهو ما يحمد فاعله، ويقرّب إلى الله تعالى زلفى! ثم هي على فئتين أيضاً: منها ما يتخلص لأحد الوصفين! وما يتمازج ويتداخل! فأما الضروري المحض، فما ليس للمرء فيه اختيار، ولا اكتساب، مثل ما كان في جبلته -عليه الصلاة والسلام- من كمال خِلْقته، وجمال صورته، وقوة عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وقوة حَواسه وأعضائه، واعتدال حركاته، وشرف نسبه، وعزة قومه، وكرم أرضه، ويلحق به ما تدعوه ضرورة حياته إليه من غذائه ونومه، وملبسه ومسكنه، ومنكحه وماله وجاهه! وأما المكتسبة الأخرويّة، فسائر الأخلاق العليّة، والفضائل الشرعيّة، من الدين والعلم والحلم، والصبر والشكر، والعدل والزهد، والصمت والتؤدة، والوقار والرَّحمة، وحسن الخُلق والمعاشرة وأخواتها، وهي التي جماعها حسن الخلق)! ¬

_ (¬1) خاتم النبيّين: 1: 219 بتصرف.

يقول الشيخ أبو زهرة

يقول الشيخ أبو زهرة: ونرى من هذا أن القاضي عياض قد قسّم الأوصاف التي تحلّى بها النبي -عليه الصلاة والسلام - إلى قسمين: أحدهما: كان بالفطرة الإنسانيّة، وهي كمال الفطرة، ويلحق بها أوصافه الجسمية - صلى الله عليه وسلم -! وثانيهما: ما اكتسبه بمقتضى التعاليم الشرعيّة، وذكر منها التواضع والحلم، والصبر والشكر، وحسن المعاملة، وبشكل عام ما يتعلق بحسن الأخلاق الذي هو جماع الفضائل الإنسانية، ويذكر أن من هذه الصفات المكتسبة بحكم الشرع الشريف والوحي إليه، مما تلتقي فيه الفطرة المستقيمة مع الوحي، فالجود والتواضع، والصبر، والفصاحة، والتأني، وحسن التأتي للأمور، والرفق في القول والعمل، ولين الجانب من غير ضعف، والقول الحق من غير عنف، كل هذه الصفات كانت في محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت فيه بفطرته المستقيمة وبتهيئة الله تعالى قبل الرسالة، إعداداً لهذا المنصب الخطير، وهو رسالة الله تعالى إلى خلقه! العقل المحمدي: ولم يتوافر العقل الإنساني كما توافر في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم ينزل عليه الوحي ويخاطب من السماء لكان عقله وحده كافياً لأن ينشئ دولة، ويقيم مجتمعاً طيّباً فاضلاً، ولكن أتمّ الله عليه نعمته، فجعله نبياً مرسلاً، فاجتمع له الكسب الذاتي بالإدراك بالفطرة الإنسانية العالية المكتملة بالتكوين الإنساني، والرسالة الإلهيّة الهادية المرشدة، وكانت الأولى مقدمة للثانية، وما كانت إحداهما لتغني عن الأخرى!

فما كانت الرسالة تجيء لغير عقل كامل، وفكر مدرك، وشخصيّة كريمة اختارها الله تعالى لموضع رسالته وحمل أمانته! وما كانت الكفاية العقليّة في أسمى علوها بمغنية عن الرسالة؛ لأن العقل لا يمكن أن يكون وحده كافياً في تدبير الحاضر والقابل إلى يوم الدين، إنما العقل يدبّر ما يحيط به، وهو من غير هداية الوحي لا يفكر إلا فيما بين يديه، ولا يخترق الحجُب والأستار إلى ما وراء ما لديه، فلابد من علم الله يمده بعلم القابل، وهو عالم الغيب والشهادة، فمهما تكن قوة العقل، فإنه لا يستطيع أن يصلح غير زمانه، وكل شيء عند ربك بمقدار! ومنذ نشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعقل المكتمل حليته العليا التي سما بها على الغلمان أترابه، ومنذ استوى غلاماً والعقل يزينه، ولقد بدا ذلك واضحاً لكل من عرفه، وسبق أن ذكرنا طرفاً من ذلك! ونحن حين نتكلم على قوته العقلية النافذة إلى الحقائق، لا إلى المظاهر وحدها، نتعرض لنفوره من التقليد من غير دليل، حيث نفر من عادات الجاهليّة التي كانت تحرم وتحلل من غير بيّنة، ولا علم قائم على الحقائق المقررة الثابتة، ومن ثم لم يسجد لصنم قط؛ لأن حكم العقل يتقاضاه ألا يسجد لمن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ويكره ذكر الأصنام وعبادتها! وحسبنا أن قريشاً قد علمت بكمال عقله، وقوة إدراكه، فرضيت به حكماً، ساعة أن احتدم الجدل، وكادت المعارك أن تنصب -كما عرفنا- في شأن وضع الحجر! وحسبنا -أيضاً- أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخض مع الخائضين في العصبيّة الجاهليّة، فلم ينطق بها، ولم يجادل حولها، وأنه كان يحب الوئام والسلام!

قال القاضي عياض

قال القاضي عياض: (وأما وفور عقله، وذكاء لبّه، وقوة حواسه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحسن شمائله، فلا مرية أنه كان أعقل الناس وأذكاهم، ومن تأمل تدبيره أمر بواطن الخلْق وظواهرهم، وسياسة العامة والخاصة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلاً عما أفاضه من العلم وقرره من الشرع، دون تعلم سابق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب منه، لم يمتر في رجحان عقله، وثقوب فهمه، لأول بديهة، وهذا مما لا يحتاج إلى تقريره لتحققه)! ولقد قال وهب بن منبه: (قرأت في إحدى وسبعين كتاباً، فوجدت في جميعها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجحُ الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، وفي رواية أخرى: فوجدت في جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله - صلى الله عليه وسلم - إلا كحبة رمل من بين رمال الدنيا) (¬1)! وقال ابن كثير: (معلوم لكل ذي لب أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - من أعقل خلق الله، بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاق في نفس الأمر) (¬2)! وقد بدت مظاهر عقله واضحة بعد البعثة في سياسة رعيته، وهكذا كان وفور العقل قبل البعثة وبعدها! ¬

_ (¬1) المرجع السابق، نقلاً عن: الشفاء: 1: 43 ط. الحلبي. (¬2) البداية والنهاية: 6: 65.

بلاغة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

بلاغة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وأما عن بلاغته - صلى الله عليه وسلم -، فحسبنا أن فصاحته من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق -كما يقول الرافعي- (¬1) فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذقوه، وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلف يستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغويّة فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعاً مقدراً، على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، وإطناب في موضع إيجاز، ومن كلمة غيرُها أليق، ومعنى غيره أردُّ، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قلّ ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام، وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها. يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع به! بيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أفصح العرب؛ على أنه لا يتكلّف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقَط ولا استكراه، ولا تستزله الفجاءة وما يبده من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد الناظر إلى كلامه طريقاً يتصفح منه صاعداً أو منحدراً، ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقدار إنساني من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية! ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: 281 وما بعدها بتصرف.

وإن كان كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكما قال الجاحظ: (هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف .. استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجرَ الغريب الوحشيّ، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا (¬1) عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله تعالى المحبة عليه، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حُسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، هو مع استغنائه عن إعاداته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلّت له قدم، ولا بارتْ له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذّ (¬2) الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفلَج (¬3) إلا بالحق، ولا يستعن بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لساناً لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه - صلى الله عليه وسلم -)! (ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له - صلى الله عليه وسلم - إلا توفيقاً من الله وتوقيفاً، إذ ابتعثه للعرب، وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في ¬

_ (¬1) في المرجع السابق بدون (إلا) وهي في: خاتم النبيّين: 1: 227 ونقلنا منه زيادات في بعض الألفاظ. (¬2) في خاتم النبيّين: (بل يبدأ) انظر: المرجع السابق. (¬3) الفلج: الظّفَر، يقال: فلك بحاجته وبحجته: أحسن الإدلاء بها فغلب خصمه: المعجم الوسيط (فلج).

البيان والفصاحة، ثم هم مختلفون في ذلك، على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات، وعلى اختلاف مواطنهم، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهم فيها غيرهم من العرب، إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ)! (فكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم كل ذلك على حقه، كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها وتبادره بحقائقها، فيخاطب كل قوم بلحنهم وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطاباً، وأسدّهم لفظاً، وأبينهم عبارة، ولم يُعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عُرف لقد كانوا نقلوه وتحدّثوا به واستفاض فيهم)! (ومثل هذا لا يكون لرجل من العرب إلا عن تعليم أو تلقين أو رواية عن أحياء العرب حيًّا بعد حي، وقبيلاً بعد قبيل، حتى يَفْلى (¬1) لغاتهم، وبتتبع مناطقهم، مستفرغاً في ذلك متوفّراً عليه، وقد علمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتهيّأ له شيء مما وصفنا، ولا تهيأ لأحد من سائر قومه على ذلك الوجه، علماً ليس بالظن، ويقيناً لا مساغ للشبهة فيه، إذا ترادفت به طرق الأخبار المتواترة، وكان مصداقه من أحوال العرب أنفسهم، فما عُرف أن أحداً منهم تقصص اللغات، وحفظ ما بينها من فروق الأوضاع، واختلاف الصيغ، وأنواع الأبنية، واستقصى لذلك يستظهر به عليهم، أو ينتحله فيهم، بل كانت هذه الأسباب مقطوعة منهم؛ لا تجد في الطبيعة ما يمتد بها أو ينمّيها، أو يجعل لها عندهم شأناً، أو يبغيها حاجة من الحاجات الباعثة عليها، فليس إلا أن يكون ما خص به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قد ¬

_ (¬1) يقال: فلى الأمر: تدبره، والقضية: أطال التأمل فيها والنظر: المرجع السابق.

كان توفيقاً وإلهاماً من الله، أو ما هذه سبيله، مما لا ننفذ في أسبابه، ولا نقضي فيه بالظن، فقد علمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم، حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه، ولا يحصر إن سألوه، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم، لتكون الحجة به أظهر، والبرهان على رسالته أوضح، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البيِّنة، كما يفي بهم في خصال أخرى كثيرة .. فهذه واحدة! وأما الثانية فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اللغة القرشيّة التي هي أفصح اللغات وألينها، بالمنزلة التي لا يدافع عليها، ولا ينافس فيها، وكان من ذلك في أقصى النهاية، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها، مع صفاء الحس ونفاذ البصيرة، واستقامة الأمر كله، بحيث يصرف اللغة تصريفاً، ويديرها على أوضاعها، ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه؛ لأن القوة على الوضع والكفاية في تشقيق اللغة وتصاريف الكلام، لا تكون في أهل الفطرة مزاولةً ومعاناةً، ولا بعد نظر فيها وارتياض لها، إنما هي إلهام بمقدار، تهيئ له الفطرة القوية، وتعين عليه النفس المجتمعة، والذهن الحاد، والبصر النفاذ، فعلى حسب ما يكون للعربي في هذه المعاني تكون كفايته ومقدار تسديده في باب الوضع)! (وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات، وأعطاه الخالص منها، وخصه بجملتها، وأسلس له مآخذها، وأخلص له أسبابها، كالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو اصطنعه لوحيه، ونصَبه لبيانه، وخصه بكتابه، واصطفاه لرسالته، وماذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام، وجمال الطبيعة، وصفاء

الحاسة، وثقوب الذهن، واجتماع النفس، وقوة الفطرة، ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض)! (ولا يذهبن عنك أن للنشأة اللغويّة في هذا الأمر ما بعدها، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها، فإنما هذه سبيله: يأتي من ورائها، وهي الأسباب إليه، وقد نشأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتقلّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً، وأعذبها بياناً، فكان مولده -كلما أسلفنا- في بني هاشم، وأخواله في بني زهرة، ورضاعه في سعد بن بكر، ومنشؤه في قريش، ومتزوجه في بني أسد، ومهاجرته إلى بني عمرو، وهم الأوس والخزرج من الأنصار، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة، ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة)! (والفصاحة أكبر أمر العرب -كما عرفنا-، والكلام سيد عملهم، فما دخلتهم له حمية، ولا تعاظمهم ولا ردوه، ولا غضّوا منه، ولا وجدوا إلى نقضه سبيلاً، ولا أصابوا للتهمة عليه طريقاً، ولو كان فيهم أفصح منه لعارضوه به، ولأقاموه في وزنه، ولجعلوا من ذلك سبباً لنقض دعوته، والإنكار عليه، غير أنهم عرفوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الفصاحة على أتم وجوهها، وأشرف مذاهبها، ورأوا له في أسبابها ما ليس لهم، ولا يتعلقون به ولا يطيقونه، وأدنى ذلك أن يكون قوي العارضة، مستجيب الفطرة، ملهم الضمير، متصرف اللسان، يضعه من الكلام حيث شاء، لا يستكره في بيانه معنى، ولا يندُّ في لسانه لفظ، ولا تغيب عنه لغة، ولا تضرب له عبارة، ولا ينقطع له نظم، ولا يشوبه تكلف، ولا يشق عليه مَنْزْعٌ، ولا يعتريه مما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما

ليس منه، والتحيّف لمعنى آخر بالنقض فيه، والعلو في موضع والنزول في موضع، إلى أمثال أخرى، لا نرى العرب قد أقروا له بالفصاحة إلا وقد نزه -صلى الله عليه وسلم- عن جميعها، وسلم كلامه منها، وخرج سبكه خالصاً ينبض تحت أصابعه، ولو هم اطّلعوا منه على غير ذلك، أو ترامى كلامه إلى شيء من أضداد هذه المعاني، لقد كانوا أطالوا في رد فصاحته وعرّضوا، ولكان ذلك مأثوراً عنهم، دائراً على ألسنتهم، مستفيضاً في مجالسهم ومناقلاتهم، ثم لردّوا عليه القرآن، ولم يستطع أن يقوم لهم في تلاوته وتبيينه، ثم لكان فيهم من يعيب عليه في مجلسه حديثه ومحاضرة أصحابه، أو ينتقص أمره ويغض من شأنه، فإن القوم خُلَّص، لا يستجيبون إلا لأفصحهم لساناً، وأبينهم بياناً، وخاصة في أول النبوة، وحدثان العهد بالرسالة، فلما لم يعترضه شيء من ذلك، وهو لم يخرج من بين أظهرهم، ولا جلا عن أرضهم، ورأينا هذا الأمر قد استمر على سنته، واطّرد إلى غايته، وقام عليه الشاهد القاطع من أخبارهم .. علمنا قطعاً وضرورة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أفصح العرب، وافياً بغيره، كافياً من سواه، وأنه في ذلك آية من آيات الله لأولئك القوم)! لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- من فصاحة اللسان وبلاغة القول -كما يقول القاضي عياض- (¬1) بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يُجهل، سلامة طبع، وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانٍ، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثيراً من أصحابه يسألونه في موطن عن شرح كلامه، وتفسير قوله! ¬

_ (¬1) خاتم النبيين: 1: 229 وما بعدها بتصرف.

يقول الشيخ أبو زهرة: وإن هذا يدل على أنه عليه السلام كان يعلم كل لهجات العرب، وقد أتاه ذلك من إقامته بمكة التي كان يلتقي فيها بقبائل العرب، في موسم الحج، مع حرص على تعرفها، وذكاء مدرك لها، وتحصيل واعٍ لكل ما يسمع، وحفظ لكل ما يجري حوله! وإن تعلمه لهجات العرب، وفوارق لغاتهم، يدل على أن الله تعالى كان يعده لهذه الرسالة الإلهية العامة! وساق القاضي عياض شواهد من كتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ثم قال: وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة، وحكمه المأثورة، فقد ألّفت فيها الكتاب، ومنها ما لا يُوازى فصاحة، ولا يبارى بلاغة .. وذكر بعض الأحاديث .. وبعض العبارات التي لم يسبق بها (¬1)! وإننا إن تركنا أقوال الذين شاهدوا وعاينوا من صحابته، والذين رأوا المنقول في سيرته، وعمدنا إلى الأحاديث المدونة الصادقة النسبة، والتي رواها العدول طبقة بعد طبقة، وأردنا أن نتعرف نسق بيانها عن عباراتها، ومحكم معانيها من ألفاظها! فإننا نجد أن اللفظ يجيء سهلاً، وفيه الجمال الطبيعي، والألفاظ المتناسقة، مع الإيجاز، وإحكام المعاني، والاتجاه إلى مقصد القول وتصوره أحياناً، بالحقيقة وبكون لها جمال كجمال الطبيعة! ونجد من خصائص البلاغة النبويّة أنها لا تعلو على العقول الفطريّة، فهي تدركها في أيسر كلفة، مع جلال المعنى وعمقه وقوة نفوذه في النفوس، والخاصة يجدون فيه علم ما لم يعلموا! ¬

_ (¬1) انظر: الشفاء: 1: 46.

ونجد أن كلامه -عليه الصلاة والسلام- من جوامع الكلم، التي تجمع بين الحكم الكثيرة والألفاظ القليلة والمعاني الجديدة التي لم تكن معروفة! ونجد من الظواهر العامة أنه يخاطب العقل والوجدان، من غير استكراه للألفاظ، أو تكلف في المعاني، وأن قوله يجري سهلاً طيباً قيّماً! ونجد أن كلامه بديع في ذاته من غير صناعة، وجميل في نسق محكم .. ولهذا أثره البالغ في الدعوة! حقاً، إن بلاغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صنع الله، وما كان من صنع الله تضيق موازين الإنسان عن وزنه، وتقصر مقاييسه عن قياسه، فنحن لا ندرك كنهه، وإنما ندرك أثره، ونحن لا نعلم إنشاءه، وإنما تعلم خبره! وهل يدرك المرء من آثار الشمس غير الضوء والحرارة؟! وهل يُعلم من أسرار الروض غير العطر والنضارة؟! وهل يجد في نفسه (¬1) من أغوار البحر غير الشعور بالجلالة والروعة؟! إن البلاغة النبوية هي المثل الأعلى للبلاغة العربيّة، وإذا كان كلام الله كتاب البيان المعجز، فإن كلام الرسول سنة هذا البيان، وإذا كان البلاغ صفة كل رسول، فإن البلاغة صفة خاتم النبيين، حيث تجمعت فيه - صلى الله عليه وسلم - خصائص البلاغة بالفطرة، وتهيأت له أسباب الفصاحة بالضرورة -كما أسلفنا- وإن أخص ما يميز الأسلوب النبوي الأصالة والإيجاز! فالأصالة وهي خصوصية اللفظ وطرافة العبارة تتجلى فيما كان ينهجه الرسول من المذاهب البيانيّة، ويرتجله من الأوضاع التركيبيّة، ويضعه من الألفاظ الاصطلاحيّة! ¬

_ (¬1) وحي الرسالة: 3: 105 وما بعدها بتصرف.

الخلق الكامل

ولتمكن الأصالة فيه كان يقتضب ويتجوز ويشتق ويبتدع، فيصبح ما أمضاه من ذلك حسنة من حسنات البيان، وسراً من أسرار اللسان، يزيد في ميراث اللغة، ويرفع من قدر الأدب! والإيجاز وهو تأدية المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، غالب على أسلوب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الإيجاز قوة في التعبير، وامتلاء في اللفظ، وشدة في التماسك، وهذه صفات تلازم قوة العقل، وقوة الروح، وقوة الشعور، وقوة الذهن، وهذه القوى كلها، على أكمل ما تكون في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا شاعت جوامع الكلم في خطبه وأحاديثه، حتى عدّت من خصائصه! على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي لكل حالة ما يناسبها .. ومن ثم فإن كلامه يتسم بالإلهام والإبداع والعبقريّة الفذّة، ويمتاز بالجزالة والجلالة والسبك! وتلك هي بلاغة الإلهام والفيض، تكشف الحجب بنور الحق، وترسل الكلمة من فيض الخاطر، وعفو البديهة، فتكون حكمة الحاضر ونبوة المستقبل! الخلق الكامل: والخلق الكامل يشمل الفضيلة (¬1)، والتمسك بها، والالتزام بحقها، ويشمل حسن العشرة ولطف المودة، ويشمل صلة الرحم والإحسان إلى الجار القريب والبعيد، ويشمل حب الناس والرفق بهم، ويشمل التواضع، ويشمل الأناة والحلم، ومنع الجفوة، ويشمل كظم النفس واجتناب الغيظ، ويشمل الحياء، وإقراء السلام على من عرف ومن لم يعرف، ويشمل الجود بما عنده، ¬

_ (¬1) خاتم النبيّين: 1: 238 وما بعدها بتصرف.

وصف هند بن أبا هالة

والزهد فيما ليس عنده، ويمنع الغلظ والفظاظة، ويشمل العفو عن المسيء، وإقالة عثرته، ويشمل الرد على المسيء بالإحسان، ويشمل تخليص القلب من الإحن، ويشمل الإعراض عن الجاهليّة، وترك المهاترة، والمماراة والمجادلة، ويشمل التيسير وترك التعسير، ويشمل التبشير دون التنفير! وفي الجملة يشمل تهذيب النفس، وتربية الوجدان، والتآلف مع الناس، والقرب إليهم، والتواضع والرفق بالضعفاء، والقرب منهم، والألم لآلامهم، والسرور لسرورهم، والاندماج فيهم من غير تأثر، ولا تجانف لإثم! وكل هذا يؤثر في الدعوة إلى الحق، بما لا تؤثر البراهين وضروب الأقيسة! لقد هيأ الله تعالى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليكون الهادي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فوهبه الخلق الكامل، الذي يؤلف القلوب، ويجمع النفوس، إلا من طغى واستكبر، وآثر الهوى على الحق .. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة يحب العشير، ويقرب الصديق، ولا يعنت أحداً بعداوة، بل كان يعفّ عن قول الخنا وفعله، ويبتعد عن الهوى وجموحه، لا يعادي، ولا يصخب، ولا يفحش في قول أو عمل، وهو الصادق، وهو الأمين وهو الذي يعين الكلّ، ويغيث الضعيف، ويعين على نوائب الدهر! وصف هند بن أبا هالة: ونقبس من حديث هند بن أبي هالة، وهو ابن أم المؤمنين خديجة -من غير النبي- ما يتصل بخلق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كل قوم ويولّيه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير

أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خُلقه (¬1)، يتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسّنَ الحسن ويقوّيه، ويقبّح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عَتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلُونه من الناس خيارهم، أفضلُهم عنده أعمُّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة! وقال: وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، يُعطي كل جُلسائه نصيبَه، لا يحسب جليسُه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه بسطُه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن (¬2) فيه الحُرم، ولا تُنْثَى (¬3) فلتاته، متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب! وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخّاب، ولا فحّاش ولا عيّاب، ولا مدّاح (¬4)، يتغافل عمّا لا يشتهي، ولا يؤِيس منه، ولا يخيِّب فيه (¬5)، قد ترك نفسه ¬

_ (¬1) شمائل الرسول: ابن كثير: 53 تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد. دار المعرفة، بيروت. (¬2) تؤبن: تنتهك أو تعاب. (¬3) تنثى: تشاع أو تذاع. والفلتات: جمع فلتة. وهي الزلة. أراد أنه لم يكن لمجلسه فلتات فتثنى: النهاية: 2: 133. (¬4) في البداية: 6: 33 "ولا مزاح". (¬5) في البداية: 6: 33 ولا يؤيس منه (راجيه) وفي الهامش: هذه الزيادة من الشمائل، وفي =

من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده (¬1)، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه يستجلبونه (¬2) في المنطق، ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه (¬3)، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ (¬4)، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز فيقطعه بانتهاء (¬5)، أو قيام! ويقول: كان سكوته على أربع: الحلم! والحذر! والتقدير! والتفكر! فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس! وأما تذكّره، أو قال تفكّره ففيما يبقى ويفنى! وجمع له - صلى الله عليه وسلم - الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء، ولا يستفزه! ¬

_ = شمائل الرسول لابن كثير: 54 في الشمائل للترمذي: 2: 145 "ولا يجيبه"، وقد ذكر شارحها الرواية المذكورة، وقال: والظاهر أنه سهو؛ لأن الخيبة مصدر اللازم، ولا يظهر معناه في هذا المقام. (¬1) في شمائل الترمذي: لا يتنازعون عنده الحديث. (¬2) في المرجع السابق: يستجلبونهم، والمعنى يأتون بهم إلى مجلسه ليستفيدوا من أسئلتهم. وفي التيمورية: يستحلونه: البداية: 6: 33 هامش. (¬3) ارفدوه: أي أعينوه بالعطاء والصلة أو بالشفاعة. (¬4) المكافئ: المقتصد في ثنائه المقارب في مدحه، أو المكافئ بالثناء على نعمة أنعمها عليه، لا المبتدئ بالثناء. (¬5) كذا، والرواية في الشمائل: بنهي، ومعنى يجوز: يجاوز الحق.

وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى، والقيام لهم فيما جمع لهم الدنيا والآخرة - صلى الله عليه وسلم -) (¬1)! ويقول الشيخ أبو زهرة (¬2): ولنقف وقفة في تجزئة ذلك القول البليغ، ودلالته على ما رواءه، مما ينبغي أن تكون عليه أخلاق الداعي إلى الحق، وصاحب الرسالة، وأثر ذلك في الإجابة! لقد قال بعض الكتاب معدداً الخوارق التي صاحبت الدعوة المحمديّة، فقال: إن أعظم الخوارق التي كانت لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الأخلاق، فكانت في ذاتها أمراً خارقاً للعادة بين بني الإنسان، فهي أعلى من أخلاق الملائكة؛ لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} (التحريم)! وليس فيه روحانيّة عيسى -عليه السلام- المجردة، بل كانت فيه الروحانيّة الإنسانيّة، بما في الإنسان من مطالب الجسم، وتجرد الروح، فحمد - صلى الله عليه وسلم - بين الناس الإنسان الذي تتجلى فيه الإنسانيّة الكاملة، وفي طبعه روحانيّة إراديّة، فكل ما فيه من أخلاق للتربية والإرادة دخل في تكوينه، فهو ليس حصوراً، ولكنه عفيف لم يتدل إلى خنا قط، ففضيلته كف للشر، وتجنب له، والعفة من حصور ليست كالعفة ممن له شهوات تغالبه، وأهواء تعاوده، وبمعركة بين القوتين تكون النصرة للعفة، والغلبة للفضيلة، وما يكون الوصول إليه بغلاب يكون أعلى وأنفس، مما يجيء رخيصاً سهلاً! ¬

_ (¬1) الحديث رواه الترمذي في الشمائل، والبيهقي في "الدلائل": انظر: شمائل الرسول: ابن كثير: 54 وما بعدها. (¬2) خاتم النبيين: 1: 242 وما بعدها بتصرف.

الصفة الأولى

الصفة الأولى: وإن من أول صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي ذكرها ربيبه هند -كما أسلفنا-: أنه كان يخزن لسانه، أي يكون لسانه كأنه في خزانة قد ستر، لا يظهر إلا لخير يرتجيه، فلا يشجع على نفرة؛ بل إنه لا ينطلق إلا فيما يعني الذين يخاطبهم ويفيدهم، ويكون فيه تأليف لقلوبهم، وتقريب لنفوسهم، وتأنيس غريبتهم، ويأمر بإعطاء ذي الحق، ولا يتكلم في مراء، ولا يذم أحداً، ولا يُكثر في قول، خشية سقوط اللسان، لا يعيب الحرمات، ولا يقطع على أحد حديثه، فإذا تكلم هو كان كلامه فصلاً، وكان قوله حكماً! وجملة القول في ذلك أنه قد استولى على لسانه، فلا يتكلم إلا إذا لزم الكلام لرفع حق، أو خفض باطل، أو تأليف، أو زرع مودة، أو إسداء معروف، فلسانه ليس خارجاً على إرادته، ولكنه مكملها، ويسير تحت سلطانها، وإرادته للحق! الصفة الثانية: والصفة الثانية من أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتلف مع أصحابه، ويمتزج إحساسه الفاضل بإحساسهم، لينساب إلى نفوسهم، يكرم كريمهم، ويرفع خسيسة صغيرهم، حتى يحسّ بأنه منه، ويوزع محبته بينهم، ويعطي نفسه لكل واحد منهم، لدرجة أن كل واحد منهم يشعر أنه موضع الرعاية منه، وإذا رأى أمراً حسناً أعلن حسنه، وإن رأى أمراً قبيحاً نبه إليه في رفق الهادي الأمين الذي يجمع ولا يفرق، ثم هو لا يسكت عن باطل! وهو بينهم اليقظ الذي لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لا يطوي نفسه

الصفة الثالثة

لأحد على شر، وينقذهم، وكان حريصاً يحذر من يتوهّم منه شراً، ويحترس منه، من غير تقطيب وجه، أو غلظ في قول، بل هو في كل أحواله الأليف المألوف، يفتح قلبه لهم، ليقول خيارهم ما تنطوي عليه نفوسهم، ويستحي غيرهم من أن يظهر خبيئة نفسه، بل يبقى حبيساً لا يظهر، وربما خبا فيزول، ويستقيم أمره .. ! الصفة الثالثة: والصفة الثالثة التواضع الكريم الذي لا ضعة فيه ولا ذلة، فهو إذا دخل على جماعة جلس حيث ينتهي المجلس، وحث أصحابه على ذلك، ويتطامن لهم في المجلس، ويمسهم بجناح الرحمة، ويسوّي بينهم، ويغض الطرف عما لا يحسن، إلا أن يكون في السكوت ترك لواجب الإرشاد، وإن أرشد ففي رفق يكتفي بالإشارة، وبعد ذلك التعريض، ثم التنبيه في تعميم، فإذا رأى من يسيء كان يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا" وفي هذا أدب رفيع وخلق كامل، ولا يمزح إلا قليلاً، وإن كان ولابد فبعبارة فيها حكمة! الصفة الرابعة: والصفة الرابعة بعده عن الغلظة والجفوة، ليس بفظ ولا غليظ ولا عيّاب، ولا متتبّع للعورات، ولا صخاب ولا فحاش، فلا يفحش في القول وإن كان صدقاً، فإن النطق بهجر القول، ولو كان وصفاً صادقاً لمن يرمى به، لا يصح إلا إذا ترتب عليه ضياع حق أو نصر باطل، فإنه يذكر موضوعه!

الصفة الخامسة

الصفة الخامسة: واصفة الخامسة الامتناع عن الذم امتناعاً مطلقاً، إلا في حال الاضطرار، فإنه يتكلم بالكناية، ولا يرتضي العبارة ستراً، وإبعاداً عن الفحش، فلا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وما يجلب خيراً للناس! الصفة السادسة: والصفة السادسة التي يدل عليها هذا الكلام من ذكر أخلاقه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يلتزم السكوت -كما أشرنا- ولكنه كان سكوت من يفكر في القول قبل أن ينطق، ومن ثم يكون سكوته حلماً وعقلاً، وإغضاء، وإعفاء عمن يكون في قوله سوء! الصفة السابعة: والصفة السابعة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يغضب لشيء يتصل بذاته، ولا يستفزه شيء يتعلق به، بل لا يغضب إلا لله أن تُنتهك حرماتُه، فإذا كان ذلك لا يسكت حتى يقام حد الله! ويطول بنا الحديث لو حاولنا الوقوف أمام ما وصفه به الواصفون، وأنه - صلى الله عليه وسلم - مع هذا التواضع الكريم غير الذليل، ومع هذا الخلق الكريم، كانت هيبته في القلوب أشد ما تكون هيبة من اختاره الله تعالى رحمة للعالمين .. إلى غير ذلك من معالم الخلق الكامل، فقد هيأه الله تعالى قبل البعثة، ليكون العفوّ عن هفوات الناس، المتجاوز عن أخطائهم، وإن العفو والسماحة لا يسكنان إلا قلباً خالياً من الأحقاد والأضغان، ومن يعمل ليقود الخلق إلى الحق لا بد أن

الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء

يكون نظره إلى ما هو أمامه، ولا ينظر إلى الوراء والأحقاد والأضغان، ولم يُعلم في تاريخ حياته أنه شغل نفسه بأحقاد الجاهليّة وما كانت تبث من عداوات! الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء: وخامس ما يطالعنا: غار حراء، بعد أن عرفنا دلائل الاصطفاء في النسب الشريف، وشق الصدر، ومرارة اليتم، والتربية الإلهيّة، وكيف قبس الصلابة والاستقلال والقدرة والتحمل، والإرادة النافذة، والتحدي الذي لا تنكسر له قناة، حيث نشأ ونما بعيداً عن ترف الغنى، وميوعة الدلال، واتكاليّة الواجدين، وكيف فتح بصره ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنيّة التي تضطرب نشاطاً وقلقاً، والجماعات العربيّة التي فصلتها عن شقيقاتها في الصحراء الأم سلطات أجنبيّة أحكمت قبضتها على الأعناق .. وكيف كان مسؤولاً عن تجارة أيضاً (¬1)! وكل هذا أعطاه تجارب عمليّة حية معاشة، وقد عمق في حسه معطيات كثيرة، وزاده إدراكاً أكثر لما يحدث في أطراف العالم العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب، وزاده إفادة أغنى من كل ما يتعلمه الذين يرحلون من مكان إلى مكان، فيتعلمون من رحيلهم طبائع الجماعات والشعوب، وكنه العلاقات بينها، واختلاف البيئات والأوضاع، وزاده قدرة على التعامل المنفتح الذي لا ينقطع له خيط مع شتى الطبائع، وفهماً لما يتطلبه الإنسان في عصر من العصور بعد اطلاع مباشر على نماذج من أحوال الإنسان في سعادته أو تعاسته! وفوق هذا وذاك، فقد أُتيح للرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة في هذا الترحال امتحان ¬

_ (¬1) دراسة في السيرة: 47 بتصرف.

البعد الأخلاقي

وتنمية قدراته الخاصة التي عرفها أيام الرعي صبيًّا، وتدرج في تحمل المسؤوليّة إلى أن يدير تجارة، ويصمد إزاء إغراء الذهب والفضة أميناً لا تلحق أمانته ذرة من غبار .. قديراً على الارتفاع فوق مستويات الإغراء إلى آخر لحظة! وجاء إسهامه في القضايا الكبرى التي عاشتها مكة آنذاك -كما عرفنا- جاء متنوعاً شاملاً مغطياً شتى مساحات العمل البشري الجماعي، وكأنما أُريد له أن يجرب كل شيء، وأن يسهم عاملاً في كل اتجاه، وأن يتبنى عبر إسهامه في القضايا الكبرى شخصيّة قادرة على التصدي لكل مشكلة .. والإسهام الإيجابي الفعال في كل ما من شأنه يعين حقاً أو يقيم عدلاً، وأعرب عن بداهته المثيرة للإعجاب في حل المشكلات التي تقوم فيها المعتقدات والقيم بدور كبير، وتأتي كبرى التجارب في الحياة، وتقف السيدة التي شاء الله أن تكون سنداً قوياً في السنين الصعبة الطويلة التي تطيش معها ألباب الثائرين! هكذا تبدو حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة .. سلسلة مترابطة الحلقات والتجارب والخبرات في شتى الجهات: عائليّة ونفسيّة! واقتصاديّة وحركيّة! وسياسيّة واجتماعيّة! ودينيّة وفكريّة! البعد الأخلاقي: أما البعد الأخلاقي في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المديدة هذه، فيتمثل واضحاً نقيًّا في انسلاخه الحاسم عن كل ممارسات الجاهليّين الباطلة، التي كانت تعج بها

الحياة العربيّة .. بمارسات شتى لا يحصيها العد .. كانت تجري على مسرح الجزيرة العربيّة، ومثلتها مكة ليل نهار .. ويغدو من تعاقبها وتكرارها أن تصبح إلفاً وعادة، ثم تتجاوز هذا إلى أن تصبح مفاخر ومكرمات، يتبارى العرب في الإتيان بالمزيد منها! والرسول - صلى الله عليه وسلم - بعيد عن هذا كله، منسلخ منه، خارج عليه، ولقد منحه موقفه النبيل هذا -كما أسلفنا- نظافة وطهراً لم يعرفهما إنسان قط، وعلمه في الوقت نفسه كيف يكون الرفض الحاسم للباطل في شتى صوره وأشكاله، مهما حمل هذا الباطل من تبريرات انتقلت به من كونه إثماً وفسوقاً وفجوراً إلى مرتبة الإلف والعادة، ثم إلى مصاف القيم والمفاخر والمعتقدات! ولم يبق ثمة إلا البعد الروحي الفكري، وهو أشد الأبعاد ثقلاً وخطراً في حياة الإنسان .. والروايات التي تحدثنا عن انقطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعيداً عن صخب الباطل وضجيجه، حيناً بعد حين، إلى الصحراء وحيداً فريداً، باحثاً مفكراً، الليالي ذوات العدد، كما سنعرف في حديثنا عن أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي .. هذه الروايات تكفي لالتقاط الإشارة الأخيرة الحاسمة المتممة للصورة التي يجب أن نعرفها عن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه! وإذا ما كان الانسلاخ الحاسم عن كل ممارسات الجاهليّة، قد أعطى القدرة العمليّة على الرفض الحاسم لكل ممارسات الجاهليّن الباطلة، فإن البعد الروحي قد أعطى امتداداً نفسيًّا متمماً لا يمكن أن يؤدي دوره الحاسم الكبير بدونه! إنه امتداد باتجاه الاندماج والاتصال، بمواجهة رفض الجاهليّة وقيادتها وأعرافها وسلطانها .. اندماج بالكون على انفساحه بالعالم الجديد الذي جاء

لكي ينقل البشر إليه بالناموس الذي سيأتي عما قريب لجعل الإنسان في كل زمان ومكان موقناً به، مستمسكاً بمنهجه، مغادراً مواضعه المنحرفة الخاطئة التي ساقته إليها زعامات جائرة، وسلطات مستبدة، وأعراف مليئة بالدنس والرجس، والوحل والخطيئة! أرأيت كيف كان طريق البناء النفسي، والتكوين العملي بمثابة إرهاص حركيّ حيّ؟! أرأيت كيف كان الانقطاع، عكساً إزاء طغيان الجاهليّة، وطرداً تجاه يوم الوحي، بمثابة الإرهاص الأكبر، إلى أن هذه الشخصيّة التي ربّتها عناية الله في مدى أربعين سنة، قد غدت على استعداد تام للتلقي؟! وإزاء هذا الهيكل المرئي من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، يقف عدد من الإشارات والأحداث، لافتاً الأنظار في ذلك الحين، وفي كل حين، إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد اصطفاه الله .. وإلى أن تدفق الخير على مضارب القبيلة التي احتضنت محمداً، بعد أيام العسر والجفاف، يوحي فيما يوحي إلى أن مجاعة العالم كله، وجفاف الروح الإنسانيّة، وعسر الحضارة البشريّة في تمخضها الدائم، تنتظر من يعيد توجيهها وصياغتها من جديد فيحيل الجوع شبعاً وريًّا، وجفاف الروح امتلاء وانطلاقاً، وعسر الحركة الحضارية تدفقاً وإبداعاً .. وبشارةً وإنذاراً! بشارة لكل الذين بعدوا عن دنس الجاهليّة ورجسها، واستعلوا على كل صور الضلال، وآلوا على أنفسهم أن يتحملوا المسؤوليّة، وأن يسيروا في طريق الحق، وأن يسيروا بالناس من عبادة العباد إلى عبادة الله!

وإنذاراً إلى أن هذا العفن الذي يغمر العالم إنما هو من صنع الناس أنفسهم، وأنهم يغرقون إلى أذقانهم بما صنعوا! وقد يسأل سائل: أتنقدح المعارف المتصلة بالكون وما وراءه، والناس وما يفيضون فيه، في نفوس المرسلين فجأة، دون إعداد سابق أو تهيئة حكيمة؟ والجواب، كلا، فالأنبياء، وإن لم يتعلموا بالطرق والقوانين التي يتعلم بها أمثالنا (¬1)، لهم من سلامة فكرهم واستقامة نظرهم ما يجعلهم في الطليعة وإن لم يتعلموا بما نعهد من أساليب! ما العلم الذي تربَّى به النفس؟! أهو حفظ الدروس واستيعاب القواعد والقوانين؟ إن هناك ببغاوات كثيرة تردد ما تسمع دون وعي، ولقد نرى أطفالاً يلقون - بإتقان وتمثيل- خطباً دقيقة لأشهر الساسة والقادة! فلا الأطفال -بما استحفظوا من كلام هؤلاء- أصبحوا رجالاً، ولا الببغاوات تحولت بشراً .. وقد تجد من يحفظ، ويجادل ويغلب، ولكن العلم في نفسه كعروق الذهب في الصخور المهملة، لا يبعث على خير، ولا يزجر عن شر! وشبه القرآن اليهود الذين يحملون التوراة ولا يتأدبون بها بالحمير! {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} (الجمعة)! إنهم حمّلوا التوراة (¬2) وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة! ¬

_ (¬1) فقه السيرة: 70 وما بعدها بتصرف. (¬2) في ظلال القرآن: 6: 3567 بتصرف.

{ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}! وحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع، ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم، وكما هي في حقيقتها، لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها، ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام! صورة زرية بائسة، ومثل سيء شائن، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة! والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء وشهادات، ولا يعملون عمل المسلمين، وبخاصة أولئك الذين يقرؤون ولا ينهضون، أولئك مثلهم كهؤلاء، وهم كثيرون! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس، إنما هي مسألة فقه وعمل! وهذه الطبائع التي تحمل العلم بهذه الصورة المزرية البائسة، لا تصلح به، إنما تسيء! وهناك من آتاه الله آياته، ولكنه انسلخ منها، وتعرّى عنها، ولصق بالأرض، واتبع الهوى، فأمسى مطروداً من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن، نبصر مثله في مشهد حيّ متحرّك، عنيف الحركة، شاخص السمات، بارز الملامح، واضح الانفعالات، يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعيّة، إلى جانب العبارة الموحية (¬1)، ونحن نقرأ قوله الله تعالى: ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 3: 1396 بتصرف.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف)! إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة العربيّة من التصوّرات والتصديقات .. إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع .. ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً .. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبّس بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقة، انسلاخ الحيّ من أديمه اللاصق بالكيان؟! ها هو ذا ينسلخ من آيات الله، ويتجرّد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم، فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه! ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد .. إذا نحن بهذا الخلوق لاصقاً بالأرض، ملوّثاً بالطين .. ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد! كل هذه المشاهد المتحرّكة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثّر .. فإذا انتهى إلى المشهد الأخير منها .. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع .. سمع التعليق المرهوب الموحي، على المشهد كله:

{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}! ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبّسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم .. ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً .. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان الإنسان إلى مكان الكلب الذي يتمرّغ في الظن .. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى عليّين، وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون منها إلى أسفل سافلين! {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً؟! وهل أسوأ من الانسلاخ والتعرّي من الهدى؟! وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟! وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟! من يعرّيها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق، اللاهث لهاث الكلب أبداً!! وهل يبلغ قول قائل في وصف هذه الحالة وتصويرها على هذا النحو العجيب الفريد، إلا هذا القرآن الكريم؟! وهناك الأمثال التي يضيق المقام عن ذكرها، في آيات هذا الكتاب! وهناك الخرافيّون الذين يغالطون في هذه الحقائق أنفسهم، كأن عقولهم

مراتب التعليم

ميزان ثقلت إحدى كفتيه -لغير سبب- ينبسطون للمستحيلات ويقبلونها، ويتهجمون للوقائع ويرفضونها! ونحن موقنون من مطالعة سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه طراز رفيع من الفكر الصائب، والنظر السديد، وأنه -قبل رعي الغنم وبعده، وقبل احتراف التجارة وبعدها- كان يعيش الحياة في أعماق الصحراء، صاحياً بين السكارى والغافلين! وجو الجزيرة العربيّة يزيد خمول الخامل وحدة اليقظان، كالشعاع الذي ينمي الأشواك والورد معاً .. وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستعين بصمته الطويل، صمته الموصول بالليل والنهار .. صمته المطبق على الرمال الممتدة، والعمران القليل! كان يستعين بهذا الصمت الطويل الموصول المطبق على طول التأمل، وإدمان الفكر، واستنكاه الحق! ودرجة الارتقاء النفسي التي بلغها من النظر الدائم أرجح يقيناً من حفظ لا فهم فيه، أو فهم لا أدب معه، ومثله في احترام حقائق الكون والحياة أولى بالتقديم من أولئك الذين اعتنقوا الأوهام وعاشوا بها ولها! ولاشك أن الله حاطه بما يحفظ عليه هذا الاتجاه الفذ! مراتب التعليم: إن مراتب التعليم المختلفة هي مراحل جهاد متصل لتهذيب العقل وتقوية ملكاته، وتصويب نظرته إلى الكون والحياة والأحياء، فكل تعليم يقصر بأصحابه عن هذا الشأو لا يؤبه له، مهما وسم بالشهادات والإجازات!

وأحق منه بالحفاوة، وأسبق إلى الغاية المنشودة، أن ينال المرء حظاً وافراً من حسن الفطرة وأصالة الفكرة، وسداد الوسيلة والهدف! وقد أشار القرآن الكريم إلى نصيب إبراهيم -عليه السلام- من هذه الخصال عندما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} (الأَنبياء)! ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا كجده إبراهيم، إنه لم يتلق علماً على راهب أو كاهن أو فيلسوف ممن ظهروا في عهده، ولكنه بعقله الخصب، وفطرته الصافية، طالع صحائف الحياة، وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف منها ما عرف من خرافة ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجده حسناً شارك فيه بقدر -كما عرفنا- وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، يتابع النظر الدائم في ملكوت السموات والأرض، وذلك أجدى عليه من علوم هي بالجهل المركب أشبه، ومن مجتمع فقد الهداة من قرون، فهو يضم ضلالاً جديداً إلى الضلال القديم كلما مر عليه ليل وجاء صباح! إن الوثنيّة تزيّن باطلها بطلاء من التمويه، ليسهل على النفوس ازدراد ما فيها من مرارة! وإن العامة بهم أحلاس ما توارثوا، ففقدوا نعمة العقل المدرك، وعاشوا يهرفون بما لا يعرفون! وأما الذين أوتوا حظاً من التفكير، فإن تفكيرهم يرتطم بحدود شهواتهم، وربما كتموا ما عرفوا، بل ربما حاربوا ما عرفوا، وقليل من الناس من يتجرأ على التقاليد الباطلة المستحكمة ويجهر بالحق، وأقل من ذلك من يعيش له ويضحي في سبيله!

وهيأ الله للبشرية رجلاً يبصر الحق، ويملك من الطاقة ما يدفعه إلى آفاق العالمين! وفي الغار المهيب المحجّب، كانت نفس كبيرة تطل من عليائها على ما تموج به الدنيا من فتن ومغارم واعتداء وانحدار، ثم تتألم حسرة وحيرة؛ لأنها لا تدري من ذلك مخرجاً! في هذا الغار النائي المهيب المحجّب كانت عين نافذة محصية تستعرض تراث الهداة الأولين من رسل الله، فتجده كالمنجم العتم لا يستخلص منه المعدن النفيس إلا بعد جهد جهيد، وقد يختلط التراب بالتبر فما يستطيع بشر فصله عنه! في غار حراء المهيب المحجّب كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعبّد، حتى وصل من الصفاء إلى مرتبة عالية انعكست فيها أشعة الغيوب على صفحته المجلوة، فأصبح لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح -كما سيأتي- ومن قبله شهد بطن الصحراء أخاً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يخرج من مصر ويجتاز القفار متلمساً الأمن والسكينة والهدى، لنفسه وقومه، فبرقت له من شاطئ الوادي الأيمن نار مؤنسة، فلما تيممها إذا النداء الأقدس يغمر مسامعه ويتخلل مشاعره: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} (طه)! إن شعلة من هذه النار اجتازت القرون لتتقد مرة أخرى في جوانب الغار المهيب المحجّب الذي حوى خير الخلق يتعبّد، نائياً بجسمه وروحه عن أرجاس الجاهليّة ومساوئها وأدناسها، لكن الشعلة لم تكن ناراً تستدرج الناظر، بل

هذا حراء

كانت نوراً ينبسط بين يدي وحي مبارك يسطع على القلب العاني بالإلهام والهداية والتثبيت والعناية! هذا حراء: وصدق الشاعر (¬1): هذا حراء سائلوه يجيبكم ... فلعله سفر من الأسفارِ واستلهموه مواقف الوحي التي ... شعّ الهدى منها على الأقطارِ وسلوه: ماذا قد أقل من البطو ... لة والحجا؟ أعظم به من غارِ أخلق بغار حراء أن يزهو على الـ ... أهرام والإِيوان والآثارِ كم بين صاحبه وبين بناتها ... من فارق أربى على الأقدارِ شتان بين محرر الأقوام والـ ... مس تعبدين سلائل الأحرارِ ¬

_ (¬1) القول المبين في سيرة سيد المرسلين: 83.

معالم على الطريق

معالم على الطريق: وبهذا نكون قد ألقينا الضوء على معالم الطريق إلى النبوة .. وهي تزداد إيحاء ووضوحاً، وعرفنا كيف أعطى الانسلاخ الحاسم عن كل ممارسات الجاهليّة القدرة العمليّة على الرفض لكل ممارسات الجاهليّين الباطلة، وكيف كان البعد الروحي والإمداد النفسي باتجاه الاندماج والاتصال، ومواجهة رفض الجاهلية وقياداتها وأعرافها وسلطاتها، بمثابة إرهاص حيّ حركيّ، فكريّ عمليّ، إلى أن هذه الشخصية التي ربتها عناية الله في مدى أربعين سنة قد غدت على استعداد تام للتلقي! ونبصر خلوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. ونبصر انعزاله عن مجرى الحياة المكية الصاخب، وهو يقترب من الأربعين .. حيث أعده الله سبحانه لأول لقاء مع وحيه الأمين، ليخرج الناس من ظلمات الجاهليّة ودنسها إلى نور الإِسلام ونقائه، فكان يغادر مكة بين الحين والحين، مجتازاً أسوارها الجبليّة، منقلاً خطواته الثابتة الواسعة عبر رمال الصحراء المترامية حتى تحجب به حياة الجاهليّة، وتستقبله شعاب مكة، وبطون أوديتها، ثم يلج بعيداً إلى (جبل النور)، حيث ينتهي به المطاف إلى (غار حراء)، فيمكث فيه ما شاء الله أن يمكث! واستغرق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تفكير عميق، كان يشغله أمداً طويلاً .. تفكير عميق في أحوال قومه، وفي أوضاعهم، وفي الكون والحياة، ومصير الإنسان، والموت وما بعد الموت، وفيما شاكل ذلك من أمور تطوف برأس المفكر المتبصر في هذه الحياة فتصرفه إلى النظر فيها، وتبعده عن التفكير في غيرها، مما يكون في هذه السن على المعتاد! إنه يريد الوصول إلى الحقيقة!

وأخذت ملامح الطريق إلى النبوة تزداد إيحاءً ووضوحاً، وتقترب بالرسول - صلى الله عليه وسلم - يوماً بعد يوم! والذي يلفت النظر (¬1)، ويدعو إلى التأمل، أن تتضافر روايات التاريخ بالحديث عن ورقة بن نوفل وتنصّره، وزيد بن عمرو وتحنّفه، وقس ابن ساعدة وترهّبه، وأميّة بن أبي الصلت وتطلعه .. ولكنها تسكت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة من شبابه، فلا تذكر عنه إلَّا أنه كان يخلو بغار حراء يتعبّد فيه الليالي ذوات العدد! ومن هنا تعددت الأقاويل في تعبّده على أي نهج كان (¬2)؟! ولم يأت تصريح -كما قال الزرقاني (¬3) - بصفة تعبّده بحراء، فيحتمل أنه أطلق على الخلوة بمجردها تعبداً، فإن الانعزال عن الناس ولا سيما من كان على باطل عبادة، وعن ابن المرابط وغيره: كان يتعبّد بالفكر، وهذا على قول الجمهور! وعلى كل فإن العقل في منطقه بمعزل عن إدراك شرعيّة هذا التعبّد، ما دام لم يأت نص قاطع في ذلك، فهو إذن تعبّد على ملة إبراهيم -كما سيأتي في حديث بدء الوحي- وهو إذن مطلع الوحي، بحقائقه ودلالاته! لقد تكرم الحق -تبارك وتعالى- فكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها، اصطفاه ليكون ملتقى النور الإلهي، ومهبط الوحي، وخاتم النبيّين، وخير الخلق أجمعين! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 216 وما بعدها بتصرف. (¬2) انظر: البداية: 3: 6، وشرح الزرقاني: 1: 210. (¬3) شرح الزرقاني: 1: 210.

وتتكشف جوانب من عظمة هذه الحقيقة حين نتصوّر جهد الطاقة حقيقة الاصطفاء، ونتصور في ظلها حقيقة العبوديّة، بما نعرف وبما لا سبيل إلى معرفته .. ثم نستشعر وقع هذا التكريم وتلك العناية بنا، ونتذوق حلاوة المعرفة والفهم، وحقيقة التكريم والعناية، ونتلّقى هذا الشعور بالشكر والخشوع، والابتهال والخضوع .. ثم لا نلبث أن نجد أنفسنا نحلّق في سماء الحمد، ونتصور جنبات الوجود، وهي تتجاوب مع هذا التكريم وتلك العناية! لقد بدأت آثار مطلع الوحي منذ اللحظة الأولى في تحويل خط التاريخ البشري كله .. منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني .. منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان، ويتلقى عنها تصوراته وموازينه! وهنا شعر السلف الصالح الذين استقرت في أرواحهم ومشاعرهم وأحاسيسهم هذه الحقيقة بأنهم في كنف الله -عَزَّ وَجَلَّ- ورعايته، ورحمته وعنايته! ومن ثم ظهرت آثار هذه الحقيقة في صلتهم المباشرة بالحق .. فهم قد تحولوا إلى الإيمان الكامل في الفكر والسلوك .. اتصلوا بالحق في كل أحوالهم، كبيرها وصغيرها، يبيتون ويصبحون، وهم في صلة كاملة بالحق، واستمرت هذه الفترة مدة نزول الوحي مباركة طيّبة، لا يتصور حقيقتها كما يجب أن يكون التصور إلا الذين عاشوها وذاقوا حلاوة الاتصال! لقد ولد الإنسان من جديد، ولقد تحول خط التاريخ .. ولقد قام في الضمير الإنساني التصور المثالي للوجود وللحياة .. ولقد استقرت هذه التصورات بمعالمها في واقع الحياة!

بين ميلادين

بين ميلادين: وهنا نجد أنفسنا أمام ميلادين: ميلاد بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وميلاد رسالته، ونبصر هذا حين نتصور الجو الذي بدأت فيه نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأشرقت في أفقه رسالته (¬1)، بكل ما حوى من بيئة على حالها التي كانت عليها من طبيعة جبليّة صحراوية جافة قاسية، يعيش فيها مجتمع بشري بأخلاقه وعاداته، وجهالاته، وبؤس عيشه، وضيق الحياة في وجهه، وتمزق وشائجه الاجتماعيّة، وتفاهة تفكيره، وبلادة حسّه، وجمود مشاعره العقليّة، وانغماسه في حمأة وثنيّات مزرية .. وانصرافه عن النظر في العلم والمعرفة، وإخلاده إلى الأرض، يتعبد لأحجارها، ويهيم في جنبات وديانها ومفاوزها، ويتوثّب ذرا جبالها تطلعاً إلى أقصى آماله، وأعظم أمانيه، إلى نبع ماء أو منبت كلأ، لا يجاوز نظره مواطئ أقدامه، ولا يحس بأحداث الحياة بعيدة عن أرضه ومضارب خيامه، ولا يشعر بتقلبات التطور في الأمم والشعوب من حوله .. تشغله الحروب الداخليّة المتواصلة، تسفك فيها الدماء، وتنهب الأموال، وترمل النساء سبايا، وتيتم الأطفال حيارى .. وتتفانى القبائل، وتعيش فيها بقية السيف متربصة للآثار، ويفقد الأمن مع فقد الاستقرار! هذا الجو هو الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أربعين سنة من بعثته نبيًّا ورسولاً، من أبوين في أعز أرومة قرشيّة، بكل ما لهذا الجو من خصائص طبيعيّة واجتماعية وفكريّة وخلقيّة في جماعاته وأفراده، في مجموعه وجميعه! هذا الجو الذي يضطرب في رقّ المادة، وعبوديّة الشهوة، وسلطان ¬

_ (¬1) انظر: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 238 وما بعدها.

البطش، ليس للمثل الأعلى وجود في ذهنه، ولا للغرض النبيل أثر في سعيه، ولا للشعور الإنساني مجرى في حسه، ولا للسموّ معنى في نفسه! كان هذا الجو حيوانيًّا شهوته الغلب، ماديًّا غايته الجشع، أنانيًّا شريعته الطمع، شيطانيًّا سبيله الهوى، ومآله الردى، والنالس عدا هؤلاء أوزاع شتى، بين الوان كسرى، وبلاط قيصر! هذا الجو الذي ولد فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث انبثق النور في أرض مكة، فتصدع لمولده الإيوان، وتطامن لأشعته القصر، وهتف من الغيب هاتف: اليوم ينتهي تاريخ، ويبتدئ تاريخ، ليس بعد اليوم سادة وعبيد، إنما الناس سواء، والعبادة لله، والقيادة لخاتم رسل الله، والأمر كله لله! وبين عرش قيصر وعرش كسرى قام منبر الحق، فتضاءل لجلاله عرش، وتقوض لدعائه عرش، وانبثق النور! هنالك بدت طوالع الوحدانيّة على الوثنيّة، والإنسانيّة على العصبيّة، وظهرت معالم ومعالم .. ووجَدت قافلة الحياة طريقها المقاصد، وأبصرت الإنسانيّة نوراً سرى في الكون، وروحاً سرت في الهيكل المنحل، والجسد المعتل، فنفخت فيه سر الحياة، حتى شعر أن له أسباباً إلى الحق رثت على طول غفلته، وأن له حياة مباركة طيبة، خيراً من هذه الحياة استسر علمها في جهالته، فتشوف إلى الأفق البعيد، واستنار بالضوء الجديد، وأدرك بعث الحرية من قبرها، وإطلاق العقول من أسارها!

قبس من الإيمان

قبس من الإيمان: وصدق القائل: قبسٌ من الإِيمان لاح فلم يدع ... لألاؤه فوق البسيطة موضعا ما كان ميلاد الرسول المصطفى ... إِلا الربيع نضارة وتضوّعا يوم أغر كفاك منه أنه ... يوم كأن الدهر فيه تجمّعا ويكاد غابر كل يوم قبله ... يثني إِليه بجيده متطلِّعا فلو استطاع لكر من أحقابه ... وثباً على هام السنين ليرجعا ويكاد مقبل كل يوم بعده ... ينسل من خلف الزمان ليشرعا فلو استطاع لجاد قبل أوانه ... وانساب يخترق السنين وأتلعا تتنافس الأيام في الشرف الذي ... ملأ الوجود فلم يغادر إِصبعا

خير أفاض الله منه على الورى ... أنى جرى ترك الجنان المرعا وسنا جلاه لتعمر الدنيا به ... من بعدها كانت خرابا بلقعا (¬1) هذا الجو الذي كانت قافلة الحياة فيه جائرة السبيل، حائرة الدليل، خائرة العزيمة، وكانت الدنيا تئن وتشكو، وجراحها تشجب دماً، والشيطان يعيث في الأرض فساداً! هو الجو الذي نبصر فيه الدنيا جاثية بين يدي الرسالة والرسول، ونحس الفضائل كلها مجتمعة تروح وتغدو لتعيش الحقيقة في رحاب النور، ولا نكاد نرى من حولنا شيئاً من معاني السمو والجلال، والعظمة والجمال، والرفعة والكمال، يتحرك إلا بين يدي الرسالة والرسول، وقد خلع بسماته ومعالمه ومظاهر الحياة فيه على ميلاد النبي الكثير من الروايات التي سبق أن ذكرنا ما صح منها رواية ودراية، ففيما صح غنية عما سواه .. وهذا هو منهجنا في هذه الدراسات -كما سبق- والرسول - صلى الله عليه وسلم -، أكمل البشريّة إنسانيّة، وأرفعهم في فضائلها فضيلة، وأشرفهم في أمجادها مجداً وشرفاً، وأزكاهم نفساً، وأطهرهم قلباً، وأصفاهم روحاً، وأعلاهم في المكارم كعباً! ووحدة الجو (¬2) بكل ما حوى من خصائص في زمن ميلاد بشريّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وزمن ميلاد رسالته، وبدء نبوّته، أضفى على ميلاد رسالته، وأحداث بدء ¬

_ (¬1) الرسالة: السنة الخامسة: العدد 203 ص 868 بتصرف. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 238 وما بعدها بتصرف.

الوحي بنبوّته أموراً شبيهة بما أضفاه على ميلاد بشريّته، ومن ثم فقد التزمنا بما صح رواية ودراية من هذه الروايات! وأحداث ميلاد الرسالة وبدء الوحي أساس النبوّة ودعائم الرسالة .. والنبوّة هي الحقيقة الكبرى في ميلاد جديد للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ميلاد روحاني يصور -أساساً- شخصية النبي بوصفه الجديد، ويصور حياته مع ربّه الذي اختاره لتلقّي كلماته والوحي، ويصور حياته مع نفسه التي اصطفاها الله لتكون منزل أمره ونهيه! والرسالة هي الحقيقة العظمى في ميلاد جديد للرسول، فوق ميلاد روحانيّة النبي، يصور شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمظهر ولادته الجديدة، ويصوّر حياته مع ربّه الذي اختاره رسولاً بينه وبين من شاء من عباده، يبلّغهم عنه ضروب هدايته، ويصوّر حياته مع نفسه رسولاً، يخرج الناس من ظلمات الجهل والضلالة، إلى نور العلم والهداية، ويصوّر حياته مع الناس في طرائق دعوتهم إلى الله، ودعوتهم إلى الحق والخير! وإشراق الوجود البشري كان ميلاداً لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، في مهد أمّه آمنة بنت وهب .. وإشراق الوجود النبوي ببدء الوحي كان ميلاداً لمحمد رسول الله خاتم النبيّين! وبن الميلادين في الفضل والشرف ما بين طفل خرج إلى الدنيا كما يولد أيّ طفل -في أشرف وأكرم بيت من بيوتات أعزّ قبيلة في العرب- ثكل أباه قبل أن يتشرّف الوجود بطلعته، وكان هذا الثكل جرحاً في قلب جده عبد المطلب، فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلسماً لجرح الثكل في قلب هذا الجد الذي أخذت منه السنون، فلم تبق له إلا قلباً يعمره حب بنيه الذين عزّ بهم!

وقد استقبل عبد المطلب حفيده- الذي ملأ فراغ قلبه من مكان أبيه إذ بشر به، ومعه بنوه بالحب والبهجة، فاغتبط بميلاده شاكراً! وبين ميلاد رسالة عامة خالدة، اختار الله تعالى رسولها بعلمه وحكمته، وخلعَ عليه رداء تعظيمه، فجعله خير رسول لـ (خير أمّة أخرجت للناس)، وختم به نبوّته، وعمّم برسالته شرائع وحيه، وخلّد بدعوته الدعوة إلى وحدانيّته، وشرف به ملكه وملكوته، وأفاض عليه من خواص غيبه في أخلاقه وخلائقه ما تعجز الأقلام والألسن عن الإحاطة بشيء من فضله، والله ذو الفضل العظيم! * * *

معالم بدء الوحي في ضوء الكتاب والسنة

الجامع الصحيح للسيرة النبوية [3] «معالم بدء الوحي في ضوء الكتاب والسنة» تأليف الدكتور سعد المرصفي

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م مكتبة ابْن كثير ص. ب: 1106 حَولي 32012 الكويت تليفون: 22631298 - فاكس: 22657046

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (الأعراف)! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب)!

(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! الزهري (كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)! زين العابدين علي بن الحسين (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)! إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

مقدمة

مقدمة ونتابع السيرة النبوية في أطوارها التاريخية لنقف وقفة المتأمّل، عند (حديث بدء الوحي)، ونلقي الضوء على الملابسات المحيطة بهذا الأمر الإلهي العظيم، ونبصر أصداء هذا الحديث في سيرة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -! ومن ثمَّ نقف على أعتاب بداية الدعوة المباركة التي عمَّت الكون بخيريّتها ونقائها وصفائها! ولقد جاء بدء هذا الوحي بـ (لا إله إلا الله) خالصة من كل رواسب الجاهليّة ليعلن على الملأ خيريّتها، ويشع نورها الحق إلى الناس جميعاً! والله أسأل: التوفيق والسداد! والعون والرشاد! إنه سميع مجيب! الكويت في: 18 من رجب 1428 هـ 21 من يوليو 2008 م راجي عفو ربه سعد محمد محمد الشيخ (المرصفي) أستاذ الحديث وعلومه كلية الشريعة والدراسات الإِسلامية جامعة الكويت - سابقاً

حديث بدء الوحي في الميزان

حديث بدء الوحي في الميزان

حديث بدء الوحي في الميزان 1 - الحديث 2 - مفهوم الوحي 3 - ملك الوحي 4 - مراتب الوحي 5 - فلق الصبح 6 - حُبِّب إليه الخلاء 7 - غار حراء 8 - التحنّث 9 - الليالى ذوات العدد 10 - جاءه الحق 11 - (ما أنا بقارئ) 12 - فغطّني حتى بلغ مني الجهد 13 - يرجف فؤاده 14 - زمّلوني زمّلوني 15 - الرَوع 16 - كلاّ 17 - ما يخزيك الله أبداً 18 - وتحمل الكَلّ 19 - وتكسب المعدوم 20 - وتعين على نوائب الحق 21 - فانطلقت به 22 - ابن عمّ خديجة 23 - الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية 24 - يا ابن عم 25 - اسمع من ابن أخيك 26 - الناموس الذي نزل الله على موسى 27 - يا ليتنى فيها جذعاً 28 - إذ يخرجك قومك 29 - (أو مخرجيّ هم؟) 30 - نعم لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي 31 - وإن يدركني قومك أنصرك نصراً مؤزراً 32 - لم ينشب ورقة أن توفي 33 - وفتر الوحي 34 - أضواء على الأقوال في المراد بالخشية 35 - الخشية عند رؤية التباشير 36 - جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون 37 - رواية في الميزان 38 - ردّ قول الحافظ الإسماعيلي 39 - وهم للزرقاني 40 - قول القاضي عياض 41 - قول النووي 42 - ردّ بلاغ التردّي من رؤوس شواهق الجبال 43 - البلاغ في الميزان 44 - ردّ قول الحافظ الإسماعيلي 45 - البلاغ في كتب كثيرة

1 - الحديث

حديث بدء الوحي في الميزان 1 - الحديث: ويطالعنا حديث بدء الوحي فيما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة أمّ المؤمنين أنها قالت: أوّل ما بُدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إِلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إِليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه -وهو التعبّد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزِعَ إِلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إِلى خديجة، فيتزوّد لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني فغطّني، حتّى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطّني الثانية، حتّى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني" فقال: اقرأ، فقلت: "ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطّني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} (العلق)! فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يَرْجفُ فؤاده، فدخل على خديجة بنت خُوَيْلد -رضي الله عنها - فقال: "زمّلوني زمّلوني"، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي"! فقالت خديجة: كلاّ والله! ما يُخْزيك الله أبداً، إِنك لتصل الرحم، وتَحْملُ الكَلَّ وتُكْسِبُ المعدُوم، وتَقْري الضّيف، وتُعينُ على نوائب الحق! فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزّى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العِبْراني، فيكتب من

الإِنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي! فقالت له خديجة: يابن عمّ، اسْمَعْ من ابن أخيك! فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى! فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذَعاً، ليتني أكون حيًّا إِذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَمُخْرجيَّ هُمْ؟ " قال: نعم، لم يأت رجلٌ قطّ بمثل ما جئت به إِلا عودي، وإِن يُدركني يومُك أنْصُرك نَصْراً مُؤَزراً، ثم لم يَنْشَبْ ورقَةُ أن توُفي، وفتر الوحي (¬1)! قال النووي: هذا الحديث من مراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- فإن عائشة -رضي الله عنها - لم تدرك هذه القصة، فتكون قد سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من الصحابي (¬2)! قال ابن حجر: وتعقبه من لم يفهم مراده فقال: إذا كان يجوز أنها سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يجزم بأنها من المراسيل (¬3)! والجواب أن مرسل الصحابي ما يرويه من الأمور التي لم يدرك زمانها، ¬

_ (¬1) البخاري: 1 - بدء الوحي (3)، وانظر (3392، 4953، 4955، 4956، 4957، 6982)، ومسلم (160)، وأحمد: 6: 233، وعبد الرزاق (9719)، والبيهقي: الدلائل: 2: 135 - 136، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 275 - 277، والآجري: الشريعة: 439 - 440، والطيالسي (1467)، والطبري: التفسير: 30: 161 - 162، وأبو عوانة: 1: 110، 113، والبغوي: شرح السنة (3735)، وابن أبي عاصم: الأوائل (99)، والطبراني: الأوائل: 42، وابن منده: الإيمان (683) واللالكائي: أصول الاعتقاد (1408، 1409)، وابن حبان (33). (¬2) مسلم بشرح النووي: 2: 197. (¬3) انظر ترجمة عائشة -رضي الله عنها- في كتابنا: حديث بدء الوحي في الميزان: 12.

بخلاف الأمور التي يدرك زمانها، فإنها لا يقال إنها مرسلة، بل يحمل على أنه سمعها أو حضرها، ولو لم يصرح بذلك، ولا يختص هذا بمرسل الصحابي، بل مرسل التابعي إذا ذكر قصة لم يحضرها سميت مرسلة، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون سمعها من الصحابي الذي وقعت له تلك القصة، وأما الأمور التي يدركها فتحمل على أنه سمعها أو حضرها، لكن بشرط أن يكون سالماً من التدليس! ويؤيد أنها سمعت ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قولها في أثناء هذا الحديث: فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني .. " إلى آخره! قال الطيبي (¬1): الظاهر أنها سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقولها: قال: "فأخذني فغطني". فيكون قولها: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حكايته ما تلفظ به صلوات الله عليه! وهذا كما قال ابن حجر: ظاهر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرها بذلك، فتُحمل بقيّة الحديث عليه (¬2)! ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 31. (¬2) فتح الباري: 8: 716، وانظر: عمدة القاري: 1: 209، وإرشاد الساري: 1: 61، وشرح الزرقاني: 1: 209، ويطول بنا الحديث لو حاولنا ذكر الأقوال في حجية مرسل الصحابي، وحسبنا ما جاء في علوم الحديث لابن الصلاح: 56، والتقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح للعراقي: 80، والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر: 2: 570 - 571، وتوجيه النظر: 2: 561، وتدريب الراوي: 1: 207 وما بعدها، وقواعد التحديث: 148، وهدي الساري: 350، وجامع التحصيل: 36 وما بعدها.

2 - مفهوم الوحي

2 - مفهوم الوحي: أصل الوحي (¬1): الإعلام في خفاء، وأيضاً: الكتابة، والمكتوب، والبعث، والإلهام، والأمر، والإيماء، والإشارة، والتصويت شيئاً بعد شيء، وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام، أو كتابة، أو رسالة، أو إشارة، فهو وحي! والقول الجامع في معنى الوحي اللغوي (¬2): أنه الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه، بحيث يخفى على غيره، ومنه الإلهام الغريزي، كالوحي إلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ...} (النحل)! وإلهام الخواطر بما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة، كالوحي إلى أم موسى، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} (القصص)! ومنه ضده، وهو وسوسة الشيطان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ ¬

_ (¬1) اللسان، والصحاح، ومعجم مقاييس اللغة، ومجمل اللغة، وأساس البلاغة، والنهاية، والفائق، ومعجم ألفاظ القرآن الكريم، (وحي)، وفتح الباري: 1: 9 ط الرياض، وعمدة القاري: 1: 14، وإرشاد الساري: 1: 48، والكليات: 173، 691، 918، 936، وطرح التثريب: 4: 180. (¬2) الوحي المحمدي: 44 بتصرف.

قال القاضي عياض

نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (الأنعام: 112)! وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} (الأنعام)! ووحي الله تعالى إلى أنبيائه قد روعي فيه المعنيان الأصليان لهذه المادة، وهما: الخفاء والسرعة، فهذا معنى المصدر، وقد يطلق على متعلقه، وهو ما وقع به الوحي، أي اسم المفعول! قال القاضي عياض (¬1): وفي صدر كتاب مسلم عن الحارث الأعور، فيما انتقد عليه: تعلمت القرآن في ثلاث سنين، والوحي في سنتين، وقوله: القرآن هيّن، والوحي أشد، فظاهر تأويل منكريه عليه أنه أراد به سوءاً، لما علموا من غلوه في التشيع، وادعائهم علم سر الشريعة لعليّ، وتحزبهم من ذلك بما أنكره عليّ، وكذبهم فيه، والظاهر أنه لم يرد هذا، وإنما أراد الكتابة، وأن القرآن كان يحفظ عندهم تلقائياً، فكان أهون من تعلم الكتابة والخط، وبهذا فسره الخطابي! قلت: جاء في مقدمة صحيح مسلم بسنده عن مغيرة قال (¬2): سمعت الشعبي يقول: حدثني الحارث الأعور، وهو يشهد أنه أحد الكاذبين! وعن إبراهيم قال: قال علقمة: قرأت القرآن في سنتين، فقال الحارث: القرآن هيّن، الوحي أشد! ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار (وحي). (¬2) مقدمة صحيح مسلم: 19.

وعن الأعمش

وعن الأعمش عن إبراهيم، أن الحارث قال: تعلمت القرآن في ثلاث سنين، والوحي في سنتين، أو قال: الوحي في ثلاث سنين، والقرآن في سنتين! وعن منصور والمغيرة، عن إبراهيم: أن الحارث اتهم! قال النووي (¬1): ذكره مسلم في جملة ما أنكر على الحارث، وجرح به، وأخذ عليه من قبيح مذهبه، وغلوه في التشيع وكذبه! قال القاضي عياض -رحمه الله: وأرجو أن هذا من أخف أقواله، لاحتماله الصواب، فقد فسره بعضهم بأن الوحي هنا الكتابة ومعرفة الخط، قاله الخطابي (¬2)، يقال: أَوْحَى ووَحَى: إذا كتب، وعلى هذا ليس على الحارث في هذا درك، وعليه الدرك في غيره! وفي اصطلاح الشرع (¬3): إعلام الله تعالى أنبياءه، إما بكتاب، أو برسالة ملك، أو منام، أو إلهام! ومن هنا نعلم أن مفهوم الوحي صلة (¬4) بين الله تعالى، ومن يصطفيه من ¬

_ (¬1) مسلم شرح النووي: 1: 98 - 99، وانظر: إكمال إكمال المعلم: 1: 29، ومقدمة إكمال المعلم بفوائد مسلم: 252 - 254، وترجمة الحارث في: تاريخ البخاري الكبير (2437)، والصغير: 1: 149، 155، 156، 204، والمعرفة ليعقوب: 1: 216، 217، 2: 534، 557، 617، 624، 3: 117، وسير أعلام النبلاء: 4: 152 - 155، وميزان الاعتدال: 1: 435 - 437، والتقريب: 146، والتهذيب: 2: 145 - 147، وابن سعد: 6: 168، وتهذيب الكمال: 5: 244 - 233 (1025)، والضعفاء للنسائي: 77، والضعفاء الكبير: 1: 208، والضعفاء لابن الجوزي: 1: 181. (¬2) انظر: غريب الحديث للخطابي: 3: 11، 12، والفائق: 3: 185، والنهاية (وحا). (¬3) إرشاد الساري: 1: 48. (¬4) الرسول والوحي: 237.

وقد عبر ابن خلدون عن هذا المفهوم بقوله

خلقه، ويصحب هذه الصلة علم ضروري بمصدرها، ويصاحبها ظواهر نفسية وبدنية للمصطفى، ويتبعها آثار توجيهية يعلنها المصطفى للناس! وقد عبّر ابن خلدون عن هذا المفهوم بقوله: استغراق في لقاء الملك الروحاني بإدراك الأنبياء المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر بالكلية، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية .. كل ذلك في لحظة واحدة، بل في أقرب من لمح البصر (¬1)! يعني ابن خلدون أن الوحي يملك على النبي - صلى الله عليه وسلم - قلبه وقالبه، ويستجمع الشعور كله، ويوجهه نحو هذا اللقاء الفريد بين الإنسان المصطفى، والملك الروحاني. ويكون للنبي في هذه الحال إدراك خاص، ووسيلة معرفة، غير ما ألفه البشر من الحواس والعقل، ثم تحصل مرحلة عبور للوحي من حالته الروحية إلى حالة حسية وعقلية، يدركها المصطفى، ويبلغها للبشر، في صورة أمر، أو نهي، أو خبر .. إلى آخره! ولعل ابن خلدون يعبر عن نوع مهم وشائع من أنواع الوحي، وهو لقاء الملك، وإلا فالوحي على صور، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} (الشورى)! فالتلقي عن الله تعالى يكون على أنواع: الأول: {إِلَّا وَحْيًا}، والمقصود هو الإلقاء في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام خفي يدرك بسرعة، ويعلم على جهة اليقين مصدره الإلهي! ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: تحقيق د. علي عبد الواحد وافي.

3 - ملك الوحي

وهذا الإلقاء -على جهة العموم- يقع يقظة ونوماً، مثال ذلك الإلهام إلى أم موسى -كما سبق- وما جاء في القرآن عن إبراهيم عليه السلام قوله: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (الصافات: 102) وهذا النوع ليس خاصاً بالأنبياء، بل قد يقع لغيرهم، فأم موسى لم تكن من الأنبياء، والرؤيا -كذلك- تحصل لكثيرين، وقد حصلت لملك مصر- على عهد يوسف -عليه السلام- ولم يكن نبيًّا ولا وليًّا! الثاني: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، والمعنى أن كلام الله تعالى يصل مسموعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون رؤية للمولى عَزَّ وَجَلَّ، فالنبي يسمع مباشرة دون واسطة، كما حدث لموسى -عليه السلام- فقد كلمه الله، ولكن منعه الرؤية حين طلبها، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} (الأعراف: 143)! وقد اختلف العلماء في حقيقة كلام الله تعالى، وذهبوا مذاهب شتى، جمعها الشيخ ابن أبي العز الدمشقي في تسعة أقوال (¬1)! الثالث: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}، والرسول هو ملك الوحي المخصص للتبليغ عن الله، والسفارة بينه وبين رسله وأنبيائه، وهو جبريل -عليه السلام! 3 - ملك الوحي: وقد عبّر القرآن المجيد عن ملك الوحي بتعبيرات متعددة، فذكره بالاسم ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 179 ط المكتب الإِسلامي 1399 هـ.

قال ابن جرير

العلم في بعضها، وذكره بأوصاف تليق بمهمته المقدسة في البعض الآخر، قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} (البقرة)! وذلك في سياق الرد على اليهود، وبيان زيف اعتقادهم، ومزاعمهم الفاسدة حول الله والملائكة ورسله! قال ابن جرير: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً على أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل؛ إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل وليّ لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك (¬1)! وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)} (النحل)! قال ابن جرير (¬2): يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد للقائلين لك: إنما أنت مفتر فيما تتلو عليهم من آي كتابنا، أنزله روح القدس يقول: قل جاء به جبريل من عند ربي بالحق! ¬

_ (¬1) تفسير الطبري: 1: 143، وانظر: تفسير ابن كثير: 1: 129، وتفسير القرطبي: 2: 36، وتفسير الألوسي: 1: 331، وتفسير القاسمي: 2: 198 وما بعدها، وتفسير الشوكاني: 1: 180 وما بعدها، وتفسير المنار: 1: 391 وما بعدها وتفسير الفخر الرازي: 3: 194 وما بعدها، وتفسير ابن الجوزي: 1: 117، والبخاري: 65 - التفسير (4480)، وأحمد: 1: 78، وأيضاً (2483، 2514)، ومرويات الإِمام أحمد في التفسير: 1: 81 - 83، والطبراني: 12: 190 - 191 (13012)، ومجمع الزاوئد: 8: 242، والترمذي (3117)، وصحيح الترمذي (4292)، وتحفة الأشراف: 4: 394. (¬2) تفسير الطبري: 14: 177، وانظر: 1: 405.

وقال الراغب

وقال الراغب (¬1): يعني به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله، أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن، والحكمة، والفيض الإلهي! قال الشوكاني (¬2): والقدس: التطهير، والمعنى: نزله الروح المطهر من أدناس البشرية، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة! وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)} (مريم) قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، واتخذت من دونهم حجاباً: جبريل، وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال أهل التأويل (¬3)! وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (الشعراء)! قال ابن كثير (¬4): يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - {وَإِنَّهُ} أي القرآن العظيم .. {لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي أنزله الله عليك، وأوحاه إليك {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} وهو جبريل عليه السلام قاله غير واحد من السلف: ابن عباس، ومحمد بن كعب، وقتادة، وعطية العوفي، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج، وهذا مما لا نزاع فيه! وهنا نلحظ وصف جبريل -عليه السلام- بالحسنيين، فهو طاهر في ذاته مبرأ من كل دنس وإثم، وفي الوقت ذاته أمين على ما نزل به، حفيظ عليه! ¬

_ (¬1) المفردات (قدس). (¬2) تفسير الشوكاني: 3: 198. (¬3) تفسير الطبري: 16: 60. (¬4) تفسير ابن كثير: 3: 347.

4 - مراتب الوحي

4 - مراتب الوحي: ونجد أنفسنا أمام ضرورة الحديث عن مراتب الوحي (¬1)، فيما يلي: الأولى: (الرؤيا الصالحة): سبق أن ذكرنا أن الرؤيا تقع لغير الأنبياء، وهذا معلوم، بيد أن الرؤية الواردة في الحديث مقيدة بالصالحة، وفي رواية للبخاري ومسلم (الرؤيا الصادقة) (¬2)! قال الكرماني (¬3): وهما هنا بمعنى، والصالحة إما صفة موضحة للرؤيا؛ لأن غير الصالحة تسمى بالحُلم، كما ورد فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سلمة قال: سمعت أبا قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان" (¬4)! وإما مخصصة، أي الرؤيا الصالحة لا الرؤيا السيئة، أو لا الكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، والصلاح إما باعتبار صورتها، وإما باعتبار تعبيرها. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون معنى الرؤيا الصالحة والحسنة حسن ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 1: 78، وانظر: الروض الأنف: 1: 269 وما بعدها، وطرح التثريب: 4: 181 - 182، وشرح الزرقاني: 1: 225 وما بعدها. (¬2) البخاري: 91 - التعبير (6982)، ومسلم: 1 - الإيمان (160). (¬3) الكواكب الدراري: 1: 31. (¬4) البخاري: 91 - التعبير (6984، 6995، 7005)، ومسلم (2261)، ومالك: 2: 957، وأحمد: 5: 303، 305، والحميدي (419 - 420)، والدارمي: 2: 124، والبغوي (3274، 3275)، وابن حبان: الإحسان (6059)، وابن أبي شيبة: 7: 239، وأبو داود (5021)، والترمذي (2277)، والنسائي في اليوم والليلة (897، 900، 901)، والكبرى كما في التحفة: 9: 270، وابن ماجه (3909).

قال القسطلاني

ظاهرها، ويحتمل أن المراد صحتها، قال: ورؤيا السوء تحتمل الوجهين أيضاً، سوء الظاهر، وسوء التأويل! قال القسطلاني: وذكر النوم بعد الرؤيا المخصوصة به لزيادة الإيضاح والبيان، أو لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين، فهو صفة موضحة؛ أو لأن غيرها يسمى حُلماً، أو تخصيص دون السيئة والكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، وأهل المعاني يسمونها صفة فارقة (¬1)! الثانية (¬2): ما كان يلقيه المَلَك في روعه وقلبه، من غير أن يراه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِن روح القدس نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .. " الحديث صحيح بشواهده (¬3)! ¬

_ (¬1) إرشاد الساري: 1: 61. (¬2) زاد المعاد: 1: 78 وما بعدها. (¬3) في فقه السيرة: 91 قال الألباني: حديث صحيح جاء من طرق: الأول عن ابن مسعود، أخرجه الحاكم: 2: 4، والثاني عن أبي أمامة، أخرجه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم: الحلية: 10: 27، والثالث عن حذيفة، أخرجه البزار، كما في الترغيب: 3: 7، والهيثمي: مجمع الزوائد: 4: 71، قال: وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة .. وبقية رجاله ثقات، قلت: وفي البحر الزخار: مسند البزار: 7: 314 - 315 (2914) وفيه قدامة قال: حدثني أبي عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، وقال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، قال محققه: أورده الهيثمي في كشف الأستار: 2: 81 - 82 (1253)، وابن حجر في مختصر زوائد البزار: 1: 506 (874)، وقال الأرنؤوط في: زاد المعاد: 1: 79 بعد أن أشار إلى بعض ما سبق من الشواهد، وآخر من حديث جابر عند ابن ماجه (2144)، وابن حبان (1084، 1085)، وقال: فيصح الحديث بها، وانظر: شرح السنة للبغوي: 13: 325، وفتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر: 1: 67 - 68، وقال ابن حجر: أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود: فتح الباري: 1: 20.

الثالثة: أنه كان يتمثل له الملك رجلا،

الثالثة: أنه كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقوله له، وفي هذه المرحلة كان يراه الصحابة أحياناً، فقد روى مسلم وغيره من حديث طويل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر رضي الله عنه في آخر الحديث: " .. يا عمر! أتدري من السائل؟ "قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإِنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (¬1)! الرابعة: أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبّس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصّد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضّها! يروي الشيخان وغيرهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث ابن هشام رضي الله عنه، سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"! قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإِن جبينه ليتفصّد عرقاً (¬2)! ¬

_ (¬1) مسلم: 1: الإيمان (8)، وأحمد: 1: 27، 51 - 52، 53؛ وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، والنسائي: 8: 97؛ وابن ماجه (63)؛ والطيالسي: 24 وابن حبان: "الإحسان (168، 173)، وابن منده في الإيمان (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 185، 186)، والبغوي في شرح السنة (2). (¬2) البخاري: 1 - بدء الوحي (2)، واللفظ له، و 59 - بدء الوحي (3215)، وخلق أفعال العباد: 136 - 137 (421)، ومسلم (2333)، والترمذي (3634، 3638)، والموطأ: =

الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها

ويروي الحاكم بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إِذا أوحي إِليه، وهو على ناقته، وضعت جرانها، فلم تستطع أن تتحرك، وتلت قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} (المزمل)! وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (¬1)! ويروي البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه (¬2): {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النساء: 95)! فجاءه ابن أم مكتوم، وهو يُمليها عليّ. قال: يا رسول الله! والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفخذه على فخذي، فثقُلت علي، حتى خفتُ أن تُرضّ فخذي، ثم سُرِّي عنه، فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}! الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين! ¬

_ = 15 - القرآن (7)، وأحمد: 6: 158، 256 - 257، وابن سعد: 1: 198، والنسائي: 2: 146 - 147، وفي التفسير من "الكبرى" كما في "التحفة": 12: 194، وابن حبان: الإحسان (38)، والبغوي (3737)، والبيهقي: الأسماء والصفات: 204، والدلائل: 7: 52 - 53، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 279، والحميدي (256)، وانظر: فتح البر في الترتيب الفقهي لتمهيد ابن عبد البر: 1: 60. (¬1) المستدرك: 2: 505، وانظر: أحمد: 6: 118، 455، والجران: باطن العنق: النهاية (جرن). (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4592)، وأبو داود (2507)، والترمذي (3033)، والنسائي: 6: 9 - 10، وأحمد: 5: 84، وسعيد بن منصور (2314)، والبيهقي: 9: 23 - 24، وابن الجارود (1034)، والطبراني (4814 - 4816)، والبغوي (3739).

السادسة: ما أوحاه الله

يروي مسلم من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال (¬1): " .. لم أره -يعني جبريل- على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء .. ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض .. " الحديث. وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة (¬2): لم يره في صورته إِلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد، له ستمائة جناح قد سد الأفق! السادسة: ما أوحاه الله، وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها (¬3)! السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلّم الله موسى ابن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا - صلى الله عليه وسلم - هو في حديث الإسراء (¬4)! الثامنة (¬5): قال العراقي: وهي تكليم الله له كفاحاً بغير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه تبارك وتعالى (¬6)! ذكرها ابن القيّم بقوله (¬7): وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة! ¬

_ (¬1) مسلم: 1 - الإيمان (177). (¬2) الترمذي (3278). (¬3) انظر: أضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: 14 وما بعدها. (¬4) انظر: المرجع السابق. (¬5) طرح التثريب: 4: 182. (¬6) انظر: أضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: 61 - 71. (¬7) زاد المعاد: 1: 80.

قال العراقي

قال العراقي (¬1): ويحتمل أن ابن قيّم الجوزية أراد بالمرتبة السادسة، وحي جبريل عليه السلام، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الإيحاء، أي كونه فوق السموات، بخلاف ما تقدم، فإنه كان في الأرض، ولا يقال: يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحي باعتبار البقعة التي جاء فيها جبريل إلى النبي -عليهما الصلاة والسلام- وهو غير ممكن؛ لأنا نقول: غاير الوحي الحاصل في السماء غيره، باعتبار ما في رؤية تلك المشاهد من الغيب، فهو نوع غير الأرض، على اختلاف بقاعها، وفيه نظر! وقد أشار ابن حجر إلى المراتب إجمالاً (¬2)، وقسمها إلى ما هو من صفات الوحي، وما هو من صفات حامل الوحي! بيد أنه ذكر من صفات الوحي مجيئه كدويّ النحل، وقال: وأما فكون الوحي كدويّ النحل لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- (يسمع عنده دويّ كدويّ النحل) (¬3)، ¬

_ (¬1) طرح التثريب: 4: 182. (¬2) فتح الباري: 1: 19 - 20. (¬3) رواه أحمد (223) تحقيق أحمد شاكر، قال: وإسناده صحيح، نقله ابن كثير في التفسير: 3: 237 عن المسند، ثم قال: ورواه الترمذي في تفسيره، والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به، وقال الترمذي: منكر، لا نعرف أحداً رواه غير يونس بن سليم، ويونس لا نعرفه، كذا قال، ولم أجده في سنن النسائي، وهو في الترمذي: 48 - تفسير القرآن (3173) من طريق عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النحل ..) ثم رواه عن طريق عبد الرزاق أيضاً عن يونس بن سليم، عن يونس بن يزيد، عن الزهري بهذا الإسناد نحوه بمعناه. قال أبو عيسى: هذا أصح من الحديث الأول، سمعت إسحاق بن منصور يقول: روى أحمد =

وأما النفث في الروع،

كالصلصلة بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشبهه عمر بدويّ النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه! وأما النفث في الروع، فيحتمل أنه يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ في روعه! وأما الإلهام، فلم يقع السؤال عنه؛ لأن السوال وقع في صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذلك التكليم ليلة الإسراء! وأما الرؤية الصالحة، فقال ابن بطال: لا ترد؛ لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس؛ لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره! والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً، وليس كذلك! ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى ¬

_ = ابن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن يونس بن سليم، عن يونس بن يزيد، عن الزهري هذا الحديث، قال أبو عيسى: ومن سمع من عبد الرزاق قديماً فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد، ومن ذكر فيه يونس بن يزيد فهو أصح، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد، وربما لم يذكره، وإذا لم يذكر فيه يونس فهو مرسل، قال الشيخ أحمد شاكر: ولم يقل غير هذا، فالظاهر أن نسبة ابن كثير للترمذي سهو منه، وأنه كلام النسائي، انظر: تحقيق أحمد شاكر، والمستدرك: 1: 333 فقد رواه الحاكم بإسنادين: أحدهما عن طريق المسند، وصححه، ووافقه الذهبي، قلت: وفي المستدرك: 2: 392 تعقبه الذهبي بقوله: قلت: سئل عبد الرزاق عن شيخه ذا، فقال: أظنه لا شيء، قال الألباني: وفي الميزان أقر النسائي على قوله: هذا حديث منكر، وتوثيق ابن حبان لابن سليم هذا مما لا يعتد به، لا سيما وتلميذه عبد الرزاق أدرى به من ابن حبان: فقه السيرة: 91.

على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له - صلى الله عليه وسلم - في المنام أيضاً على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني، وفيه نظر! وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعاً -فذكرها - وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذُكر! وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، كما روى الشيخان وغيرهما عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}! قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما -فحرك شفتيه- فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} (القيامة)! قال: جمعه لك في صدرك، وتقرؤه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} (القيامة)! قال فاستمع له وأنصت: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة)! فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه (¬1)! ¬

_ (¬1) البخاري: 1 - بدء الوحي (5) واللفظ له، وأيضاً: 65 - التفسير (4927، 4928، 4929)، و 66 - فضائل القرآن (5044)، و 97 - التوحيد (7524)، ومسلم (448)، والنسائي: 2: 149، وأحمد: 1: 343، والبيهقي: الأسماء والصفات: 198، والطيالسي (2628)، وابن حبان: الإحسان (39)، وابن سعد: 1: 198، والحميدي (257)، والترمذي (3329)، والطبراني (12297).

5 - فلق الصبح

5 - فلق الصبح: قال الكرماني (¬1): فلق الصبح ضياؤه، وإنما يقال هذا في الشيء البيّن الواضح، قيل: هو مصدر كالانفلاق، والصحيح أنه بمعنى المفلوق، وهو اسم للصبح، وأضيف أحدهما إلى الآخر لاختلاف اللفظين، وقد جاء الفلق منفرداً عن الصبح، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} (الفلق)! وقيل: الفلق: الصبح؛ لكنه لما كان مستعملاً في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه للتخصيص والبيان، إضافة العام إلى الخاص! قال العيني (¬2): تنصيصه -أي الكرماني- على الصحيح غير صحيح، بل الصحيح أنه إما اسم للصبح، وجوزت الإضافة فيه لاختلاف اللفظين، وإما مصدر بمعنى الانفلاق، وهو الانشقاق، من فلقت الشيء أفلِقه -بالكسر- فلقاً: إذا شققته! وقال ابن حجر (¬3): أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي جاءت مجيئاً مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه! وقال القسطلاني (¬4): وعبر بفلق الصبح؛ لأن شمس النبوة قد كانت مبادي أنوارها الرؤيا، إلى أن ظهرت أشعتها، وتم نورها! ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 31. (¬2) عمدة القاري: 1: 48. (¬3) فتح الباري: 1: 23 ط الرياض. (¬4) إرشاد الساري: 1: 61، وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية: 1: 210.

قال القاضي عياض وغيره

قال القاضي عياض وغيره (¬1): إنما ابتدئ -عليه الصلاة والسلام - بالرؤيا، لئلا يفجؤه الملك، ويأتيه صريح النبوة بغتة، فلا تحتملها قوى البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة، وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا .. وسلام الحجر عليه بالنبوة! يروي مسلم وغيره عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): "إِني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث، إِني لأعرفه الآن"! 6 - حُبِّب إليه الخلاء: قال القسطلاني (¬3): عبّر بحُبِّب المبني لما لم يسم فاعله، لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كلٌّ من عند الله، أو تنبيهاً على أنه لم يكن من باعث البشر، وإنما حبب إليه الخلوة؛ لأن معها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق، ليجد الوحي منه متمكناً! وفيه تنبيه على فضل العزلة؛ لأنها تريح القلب من أشغال الدنيا، وتفرغه لله تعالى، فتتفجر منه ينابيع الحكمة. والخلوة أن يخلو عن غيره، بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يكون خليقاً بأن يكون قالبه ممراً لواردات علوم الغيب، ¬

_ (¬1) طرح التثريب: 4: 184 بتصرف. (¬2) مسلم: 43 - الفضائل (2277)، والدارمي: 1: 12، وأحمد: 5: 89، 95، 105، وابن أبي شيبة: 7: 424، والبيهقي: الدلائل: 2: 153، وأبو نعيم: الدلائل: 300، 301، والبغوي (3709)، والطيالسي (1907)، والترمذي (3624)، والطبراني في الكبير (1907، 1961، 2028)، وفي الأوسط (2033)، وفي الصغير (167)، وابن حبان: الإحسان (6482). (¬3) إرشاد الساري: 1: 62.

والخلاء

وقلبه مقراً لها، وخلوته - صلى الله عليه وسلم - كانت لأجل التقرب، لا على أن النبوة مكتسبة! والخلاء (¬1): الخلوة، قاله النووي، ويحتمل أن يراد به المكان الخالي الذي ليس فيه أحد، والمعنيان متقاربان، لكنهما متغايران! قال الخطابي (¬2): حُبِّبت العزلة إليه؛ لأن فيها فراغ القلب، وهي معينة على التعبد، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويخشع قلبه، وهي من جملة المقدمات التي أرهصت لنبوته، وجعلت مبادئ لظهورها! 7 - غار حراء: قال العيني (¬3): الغار - بالغين المعجمة: فسره جميع شراح البخاري بأنه النقب في الجبل، وهو قريب من معنى الكهف! وقال: الغار هو الكهف، وفي العباب: الغار كالكهف في الجبل، ويجمع على غيران، ويصغّر على غوير، فتصغيره يدل على أنه واوي، فلذلك ذكره في العباب في (غور)، وحراء -بكسر الحاء وتخفيف الراء بالمد -وهو مصروف على الصحيح، ومنهم من منع صرفه، ويذكر على الصحيح أيضاً، ومنهم من أنثه، ومنهم من قصره أيضاً، فهذه ست لغات! قال القاضي عياض: يمد ويقصر، ويذكر ويؤنث، ويصرف ولا يصرف، والتذكير أكثر، فمن ذكّره صرفه، ومن أنّثه لم يصرفه، يعني على إرادة البقعة أو الجهة التي فيها الجبل، وضبطه الأُصيلي بفتح الحاء والقصر، وهو غريب! ¬

_ (¬1) طرح التثريب: 4: 184. (¬2) الكواكب الدراري: 1: 32. (¬3) عمدة القاري: 1: 48 - 49.

قال الخطابي

قال الخطابي (¬1): العوام يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة! وقال التيمي: العامة لحنت في ثلاثة مواضع: فتح الحاء، وقصر الألف، وترك صرفه، وهو مصروف في الاختيار؛ لأنه اسم جبل! وقال الكرماني (¬2): إذا جمعنا بين كلاميهما يلزم اللحن في أربعة مواضع، وهو من الغرائب؛ إذ بعدد كل حرف لحن، ولقائل أن يقول: كسر الراء ليس بلحن؛ لأنه بطريق الإمالة! وهو جبل (¬3) بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال، على يسار الذاهب إلى (مِنى)! وقد ذكر القسطلاني في المواهب ناقلاً عن ابن أبي جمرة (¬4) حكمة اختصاص تحبيب الله تعالى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - الخلاء في غار حراء دون غيره من الأماكن التي تصلح للخلوة، وهي كثيرة في جبال مكة ووديانها، ما يأتي بتصرف للبيان (¬5)! أولاً: إن غار حراء منزوٍ في انعطاف وميل عن طرق مرور الناس عليه، وهذا الوضع يزيد في تمكن المختلي فيه من البُعد عن الناس، وضوضاء الحياة، ويساعد على عدم مخالطتهم والتفرغ للتعبّد، وهي أمور كان يقصد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلائه وتعبّده بالتفكّر في مصنوعات الله وبدائع ملكوته! ¬

_ (¬1) انظر: طرح التثريب: 4: 185، والكواكب الدراري: 1: 32. (¬2) الكواكب الدراري: 1: 32. (¬3) المراجع السابقة، وشرح الزرقاني: 1: 210. (¬4) انظر: بهجة النفوس: 1: 9 وما بعدها. (¬5) شرح الزرقاني: 1: 222 وما بعدها، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 470 - 472 بتصرف.

8 - التحنث

ولا شك أن البعد عن الناس وحركاتهم في تقلباتهم لطلب مصالحهم ومعاشهم أجمع للفكر وخواطر القلب، وأبلغ من عمق التفكر والتأمل، وأقرب إلى التهدي! ثانياً: إن هذا الغار يقع في موقع يبصر منه المعتكف فيه بيت الله المحرّم (الكعبة المشرّفة)، والنظر إلى البيت الحرام عبادة، تذكر بأعظم متعبّد بقي على تقلبات الحياة وصروفها، وقد طاول الزمن وغالبه، فاستطال عليه وغلبه؛ لأنه الأثر الثابت تاريخيًّا من تراث أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهما جدّا محمد - صلى الله عليه وسلم - الأعليان، إليهما يرتفع نسبه الشريف المحقق! وقد بقي التعبد بتعظيم هذا البيت، والطواف حوله سنة متبعة من سنن الرسالات الإلهية التي أحيت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - معالمها الأصيلة، فجعلت من الطواف حول هذا البيت وتعظيمه أحد أركانها، وشرعة في منهاج تعبداتها! وبالتأمل فيما ذكرنا يتبين أن الخلاء في غار حراء يجمع ثلاث عبادات، كانت كلها محققة ومقصودة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خلائه به: الأولى: الخلوة التامة! الثانية: التحنّث! الثالثة: النظر إلى بيت الله الحرام! 8 - التحنّث: قال الكرماني (¬1): التحنّث -بالحاء المهملة والنون ثم الثاء المثلثة: التعبّد، ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 32، وانظر: عمدة القاري: 1: 49.

قال الخطابي

وحقيقته: التجنّب عن الحنث، وهو الإثم، فكأن المتعبّد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة! قال الخطابي: ونظيره في الكلام، التحوّب والتأثّم: أي ألقى الحوب والإثم عن نفسه، قالوا: وليس في كلامهم تفعّل بهذا المعنى غير هذه! وأقول: هذه شهادة نفي، وكيف وقد ثبت في الكتب الصرفية أن باب تفعّل يجيء للتجنّب كثيراً، نحو تحرّج وتخوّن، أي اجتنب الحرج والخيانة، وغير ذلك! قال التيمي: هذا من المشكلات، ولا يهتدي إليه سوى الحذّاق، وسئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنّث، فقال: لا أعرفه، وسألت أبا عمرو الشيباني فقال: لا أعرف يتحنّث، إنما هو يتحنّف من الحنفية! قلت: جاء في رواية للبخاري من طريق يونس قال: أخبرني ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إِلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إِليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، قال: والتحنّث: التعبّد .. الحديث (¬1)! قال ابن حجر (¬2): هذا ظاهر في الإدراج، إذ لو كان من بقيّة كلام عائشة لجاء فيه: قالت، وهو يحتمل أن يكون من كلام عروة أو من دونه! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4953). (¬2) فتح الباري: 8: 588 ط الريان.

وقال ابن الأثير

وقال: وهو من تفسير الزهري، كما جزم به الطيبي، ولم يذكر دليله (¬1)! وقال ابن الأثير: يقال: فلان يتحنّث: أي يفعل فعلاً يخرج به من الإثم والحرج، كما تقول: يتأثّم ويتحرّج: إذا فعل ما يخرج به من الإثم والحرج! قال عياض: ومعناه يطرح الإثم عن نفسه، ويفعل ما يخرجه عنه (¬2)! وقال ابن هشام (¬3): تقول العرب: التحنّث والتحنّف: يريدون الحنفية، فيبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدث وجدف، يريدون القبر! قلت: ولا حاجة فيه إلى الإبدال، فمعناه واضح -كما سبق -وهو من الأفعال التي معناها السلب -كما قال القسطلاني-: أي اجتناب فاعلها لمصدرها (¬4)! وفي حديث ابن إسحاق: والتحنّث: التبرّر (¬5)! قال السهيلي: تفعّل من البر، وتفعّل: يقتضي الدخول في الفعل، وهو الأكثر فيها، مثل تفقّه وتعبّد وتنسّك، وقد جاءت في ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء وإطراحه، كالتأثم والتحرّج (¬6)! ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 1: 23 ط الرياض. (¬2) النهاية، ومشارق الأنوار (حنث). (¬3) السيرة النبوّية: 1: 299. (¬4) إرشاد الساري: 1: 62. (¬5) السيرة النبويّة: 1: 298 - 299 من حديث عبيد بن عمير، صرح ابن إسحاق بالسماع، وسنده متصل، ورواه الطيالسي من غير طريق ابن إسحاق، وسنده منقطع، لجهالة الراوي عن عائشة: منحة المعبود: 2: 187، والطبري في تاريخه: 2: 300 من طريق ابن إسحاق، وبه يكون الحديث صحيحاً من طريقه. (¬6) الروض الأنف: 1: 267.

9 - الليالي ذوات العدد

9 - الليالي ذوات العدد: قال الكرماني (¬1): ذوات منصوب على الظرف، والعامل فيه يتحنّث، لا التعبّد، وإلا فسد المعنى، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي، بل هو مطلق التعبّد! وقال القسطلاني (¬2): أبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله! وعند ابن إسحاق: شهر رمضان (¬3)! وقد اختلف العلماء في كيفية تلك العبادة (¬4)! وقال ابن حجر (¬5): إذا علم أنه كان يجاور في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور، اقتضى ذلك أنه نُبئ في شهر رمضان، ويعكر على قول ابن إسحاق أنه بعث على رأس الأربعين (¬6)، مع قوله إنه في شهر رمضان ولد، ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أولاً في شهر رمضان، وحينئذ نبئ، وأنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (العلق: 1)! ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 32. (¬2) إرشاد الساري: 1: 62. (¬3) السيرة النبوية: 1: 300. (¬4) انظر: الكواكب الدراري: 1: 32 - 33، وطرح التثريب: 4: 185 - 186، والبداية: 3: 6 - 7. (¬5) فتح الباري: 8: 717 - 718 ط الرياض، وانظر: مسلم (1162)، وأحمد: 5: 297، 299، والسنن الكبرى للبيهقي: 4: 293. (¬6) انظر: السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 296 - 298، وشرح المواهب: 1: 206 - 207، والسيرة النبويّة: ابن كثير: 1: 385، والروض الأنف: 1: 265، وعيون الأثر: 1: 81.

قال ابن حجر

ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار، وأنزلت عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (المدثر)! فيحمل قول ابن إسحاق "على رأس الأربعين" أي عند المجيء بالرسالة! وأخرج أحمد بسند حسن عن واثلة بن الأسقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنزلت صحف إِبراهيم -عليه السلام- في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإِنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان" (¬1)! قال ابن حجر (¬2): وهذا كله مطابق لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185)! 10 - جاءه الحق: قال ابن حجر (¬3): أي الأمر الحق، وفي التفسير (¬4): حتى فَجِئه -بكسر الجيم- وتفتح كما في الدِّيباج (¬5)، أي بغتة .. وسمي حقاً؛ لأنه وحي من الله تعالى. قال الكرماني (¬6): أي جبريل عليه السلام، فإن قلت: مجيء الملك ليس ¬

_ (¬1) أحمد: 4: 107، والفتح الرباني: 18: 46 وسنده حسن، وانظر: فتح الباري: 9: 5. (¬2) فتح الباري: 9: 5. (¬3) المرجع السابق: 1: 23. (¬4) البخاري: 65 - التفسير (4953). (¬5) انظر: شرح الزرقاني: 1: 211. (¬6) الكواكب الدراري: 1: 33.

قال ابن حجر

بعد مجيء الوحي، بل هو نفسه؛ إذ المراد بمجيء الوحي مجيء حامل الوحي، أي فما معنى الفاء التعقيبية؟ قلت: هذه الفاء تسمى بالفاء التفسيرية، نحو قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: 54)! إذ القتل نفس التوبة على أحد التفاسير، وتسمى بالفاء التفصيلية أيضاً؛ لأن مجيء الملك .. إلى آخره تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق، ولاشك أن المفصل هو نفس المجمل، وفي رواية لمسلم (¬1): (حتى فجئه الحق) بكسر الجيم، من الفجأة، أي جاءه الحق بغتة ومفاجأة، فإنه لم يكن متوقعاً للوحي، وقال الطيبي: معنى حتى جاءه الحق: جاء أمر الحق، وهو الوحي، ورسول الحق، وهو جبريل -عليه الصلاة والسلام! قال ابن حجر (¬2): هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية؛ لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي، حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل! 11 - " ما أنا بقارئ" ثلاثاً: قال ابن حجر (¬3): (ما) نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وان حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة! ¬

_ (¬1) مسلم: 1 - الإيمان (160). (¬2) فتح الباري: 1: 23 - 24 ط الرياض. (¬3) المرجع السابق: 24.

قال القسطلاني

قال القسطلاني (¬1): وأجيب بأنها استفهامية، بدليل رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: (كيف أقرأ؟)، وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق (ماذا أقرأ؟) دلتا على أنها استفهامية، وقد جوز الأخفش دخول الباء على الخبر المثبت، وجزم به ابن مالك في (بحسبك زيد) فجعل الخبر حسبك، والباء زائدة! قال ابن حجر (¬2): فإن قيل لم كرر ذلك ثلاثاً؟ أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أولاً (ما أنا بقارئ) على الامتناع، وثانياً على الإخبار بالنفي المحض، وثالثاً على الاستفهام! ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: (كيف أقرأ؟)، وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق (ماذا أقرأ؟)، وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي (كيف أقرأ؟)، وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية! قلت: أرجح أنها في المرة الأولى نافية، لعدم المعرفة بالقراءة، وفي الثانية استفهامية، يراد بها استبانة ما يقرؤه، والمعنى أخبرني أي شيء أقرأ؟، وذلك لمجيء العبارة بصيغة الاستفهام (ماذا أقرأ؟)، وفي الثالثة استفهامية -أيضاً- بمعنى كيف، فهي استخبار عن الحالة التي يكون بها قارئاً، وهو الأمي الذي لم يباشر القراءة قط في حياته، وذلك لمجيء العبارة بالاستفهام الصريح (كيف أقرأ؟)، وبهذا يتم الجمع بين الروايات والأقوال! ¬

_ (¬1) شرح الزرقاني: 1: 211، وإرشاد الساري: 1: 63. (¬2) فتح الباري: 1: 24.

12 - " فغطني حتى بلغ مني الجهد"

12 - " فغطّني حتى بلغ مني الجهد": فغطّني -بالغين المعجمة والطاء المهملة- وفي رواية الطبري: فغتّني (¬1) - أي بتاء مثناة من فوق. قال ابن الأثير (¬2): هما سواء، كأنه أراد عصرني عصراً شديداً، حتى وجدت منه المشقة! قال ابن حجر (¬3): كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط: حبس النفس، ومنه غطه في الماء، أو أراد غمني، ومنه الخنق، ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن (فأخذ بحلقي)! قال النووي (¬4): قال العلماء: والحكمة في الغط شغله من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له، وكرره ثلاثاً، مبالغة في التنبيه! والجُهدُ -بفتح الجيم وضمها ونصب الدال ورفعها- قال الكرماني (¬5): ومعناه: الطاقة والغاية والمشقة، فعلى الرفع معناه بلغ الجهد مبلغه، فحذف مبلغه، وعلى النصب معناه بلغ الملك مني الجهد، والحكمة في الغط شغله عن الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقول له، وكرره ثلاثاً مبالغة في التثبّت، وفيه أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم والإحضار بمجامع قلبه! قال التوربشتي: لا أرى الذي يروي بنصب الدال إلا قد وهم فيه، أو جوّزه بطريق الاحتمال؛ فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري: 1: 532. (¬2) النهاية (غَتت، وغطط). (¬3) فتح الباري: 1: 24. (¬4) مسلم بشرح النووي: 2: 199. (¬5) الكواكب الدراري: 1: 34.

وقال الطيبي

استفرغ قوته في ضغطته، وجهده جهده، بحيث لم يبق فيه مزيد، وهذا قول غير سديد؛ فإن البنية البشريّة لا تستدعي استنفاد القوة الملكية، لا سيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك، وتداخله الرعب! وقال الطيبي: لا شك أن جبريل في حالة الضغط لم يكن على صورته الحقيقيّة التي تجلى بها عند سدرة المنتهى، وعندما رآه مستوياً على الكرسي، فيكون استفراغ جهده لا بحسب صورته التي تجلى له بها وغطه، وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد! قلت: لم يذكر الجهد في الرواية التي معناها في المرة الثالثة، لكنه ورد عند البخاري في التفسير (¬1)! قال العراقي (¬2): يجوز في الدال النصب والرفع، فالأول على أن فاعل (بلغ) ضمير يعود على جبريل، أي بلغ جبريل مني الجهد، والثاني على أن الجهد فاعل، أي بلغ الجهد مني مبلغه وغايته! قال النووي (¬3): وممن ذكر الوجهين في نصب الدال ورفعها صاحب التحرير وغيره! 13 - يرجف فؤاده: قال العيني: أي يخفق ويضطرب، والرجفان: شدة الحركة والاضطراب، وفي المحكم: رجف الشيء يرجف رجفاً، ورجفاناً، ورجيفاً، وأرجف: ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4935). (¬2) طرح التثريب: 4: 188. (¬3) مسلم بشرح النووي: 2: 199.

وقال القسطلاني

خفق واضطرب اضطراباً شديداً، والفؤاد: هو القلب، وقيل: إنه عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب، وسمي القلب قلباً لتقلبه (¬1)! وقال القسطلاني: فؤاده: قلبه أو باطنه أو غشاؤه، لما فجأه من الأمر المخالف للعادة والمألوف، فنفر طبعه البشري وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشريّة كلها (¬2)! وفي رواية (ترجف بَوادره) (¬3) -بفتح الباء الموحدة وكسر الدال بعدها راء مهملة-: جمع بادرة، وهي اللحمة بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، قاله أبو عبيد وسائر أهل اللغة والغريب! قال العراقي (¬4): ولا تنافي بين الروايتين، فكأن الرجفان في البوادر والفؤاد، ولعل رجفان الفؤاد ملازم لرجفان البوادر! قال النووي: وعلم خديجة برجفان فؤاده، والظاهر أنها رأته حقيقة، ويجوز أنها لم تره وعلمته بقرائن وصور الحال! 14 - " زمِّلوني زمِّلوني": التزميل: التلفيف، والتزمل: الاشتمال والتلفف، ومنه التدثر، ويقال لكل ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار، وأصل المزمّل والمدّثر المتزمّل ¬

_ (¬1) عمدة القاري: 1: 50. (¬2) إرشاد الساري: 1: 64. (¬3) البخاري (4953)، ومسلم (160). (¬4) طرح التثريب: 4: 190.

15 - الروع

والمتدثر، أدغمت التاء فيما بعدها (¬1)، قال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر، والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفيف (¬2)! 15 - الرَّوع: الرَّوع -بفتح الراء-: الفزع، وفي المحكم: الروع والرواع والتروع: الفزع، وقال الهروي: هو بالضم موضع الفزع من القلب (¬3)! 16 - كلاّ: كلاّ -بفتح الكاف وتشديد اللام مقصور-: نفي وإبعاد، أي لا تقل ذلك، أو لا خوف عليك (¬4)، والمراد ها هنا التنزيه عنه، وهو أحد معانيها، وقد تأتي بمعنى حقاً، أو بمعنى ألا التي للتنبيه، يستفتح بها الكلام، وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن ثلاثاً وثلاثين مرة، في خمس عشرة سورة، ليس في النصف الأول من ذلك شيء! قال العماني: وحكمة ذلك أن نصف القرآن الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبابرة، فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول، وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلّتهم وضعفهم! ¬

_ (¬1) عمدة القاري: 1: 50. (¬2) شرح الزرقاني: 1: 212. (¬3) عمدة القاري: 1: 50. (¬4) فتح الباري: 1: 24، وإرشاد الساري: 1: 64، وشرح الزرقاني: 1: 212، والكواكب الدراري: 1: 36، ومسلم بشرح النووي: 2: 201، وطرح التثريب: 4: 191.

17 - ما يخزيك الله أبدا

وقد اهتم العلماء والنحويون بها قديماً، وأكثروا فيها القول، وتعددت مذاهبهم، وقد جاءت على أقسام جمعها ابن الأنباري في باب من كتاب الوقف والابتداء له، وهي مركبة عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية، قال: وإنما شددت لامها لتقوية المعنى، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره هي بسيطة، وعند سيبويه، والخليل، والمبرد، والزجاج، وأكثر البصريين: حرف معناه الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك .. قالوا: وقد تكون حرف جواب بمنزلة أي ونعم (¬1)! 17 - ما يخزيك الله أبداً: ما يُخزيك -بضم الياء وبالخاء المعجمة-: من الخزي، وهو الفضيحة والهوان! قال النووي: وقال معمر في رواية (يُحزنك) بالحاء المهملة والنون، ويجوز فتح الياء في أوله وضمها، وكلاهما صحيح، من الحزن، حزنه وأحزنه ثلاثي ورباعي، يقال: حزنه وأحزنه: أوقعه في بلية، وأبداً منصوب على الظرف! قال ابن حجر: ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبداً بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب، أو إلى الأجانب، وإما بالبدن، أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره، أو من لا يستقل وذلك كله مجموع فيما وصفته به (¬2)! ¬

_ (¬1) عمدة القاري: 1: 50، ومناهل العرفان في علوم القرآن: 1: 196 - 197، وانظر: شرح كلاّ، وبلى، ونعم: 7: وما بعدها. (¬2) الكواكب الدراري: 1: 36، ومسلم بشرح النووي: 2: 201، وطرح التثريب: 4: 191 - 192، وفتح الباري: 1: 24، وإرشاد الساري: 1: 64، وشرح الزرقاني: 1: 212.

18 - وتحمل الكل

18 - وتحمل الكَلّ: الكَلّ -بفتح الكاف وتشديد اللام-: الثقل، وهو من الكلال الذي هو الإعياء (¬1)، أي يرفع الثقل، أي يعين الضعيف المنقطع به، والكَلُّ: من لا يستقل بأمره، قال الله: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} (النحل: 76)! 19 - وتكسب المعدوم: تُكسب -بفتح التاء-: هو المشهور، وروي بضمها، والمعنى بضم التاء تكسب غيركَ المال المعدوم، أي تعطيه المال المعدوم، فحذف أحد المفعولين، وقيل: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخرق، وأما بفتح التاء فقيل معناه كمعنى المضموم، يقال: كسبت الرجل مالاً، وأكسبته مالاً، واتفقوا على أن أكسبته مالاً أفصح، وقيل: معناه تكسب المال المعدوم، وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة محظوظاً في التجارة، وقال النووي: هذا ضعيف؛ لأنه لا معنى لهذا القول في هذا الموطن، إلا أن يصحح بأن يضم إليه زيادة، وهو أنه كان يجود به، وينفقه في وجوه المكرمات، وقيل: المعدوم: عبارة عن الرجل المعدوم العاجز عن الكسب، وسماه معدوماً لكونه كالمعدوم الميت، حيث لم يتصرف في المعيشة، أي تسعى في طلب عاجز لتعيشه، والكسب: هو الاستفادة، فكما يرغب غيرك أن يستفيد مالاً ترغب أنت أن تستفيد عاجزاً تعاونه .. وقال الخطابي: صوابه المعدم ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 36، وطرح التثريب: 4: 192، وفتح الباري: 1: 24، وانظر: مشارق الأنوار (كلل).

20 - وتعين على نوائب الحق

بحذف الواو؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الانفعال، تريد أنك تعطي المال الفقير الذي لا يجد المال (¬1)! 20 - وتعين على نوائب الحق: النوائب: جمع نائبة: وهي الحادثة خيراً أو شراً، وتكون في الحق والباطل، ولذلك أضافتها إلى الحق، وفي هذا إشارة إلى فضل خديجة -رضي الله عنها - وجزالة رأيها، وهذه الخصلة جامعة لأفراد ما سبق وغيره (¬2)! 21 - فانطلقت به: أي انطلقا إلى ورقة (¬3)؛ لأن الفعل اللازم إذا عدّي بالباء يلزم فيه المصاحبة، فيلزم ذهابهما، بخلاف ما عدي بالهمزة، نحو أذهبته؛ فإنه لا يلزم ذلك. 22 - ابن عم خديجة: قال النووي: هو بنصب (ابنَ) ويكتب بالألف، على أنه بدل من ورقة، فإنه ابن عم خديجة؛ لأنها بنت خويلد بن أسد، وهو ورقة بن نوفل بن أسد، ولا يجوز جر ابن ولا كتابته بغير الألف؛ لأنه يصير صفة لعبد العزّى، فيكون عبد العزّى بن عم خديجة، وهو باطل، قال الكرماني: وأقول: كتابة الألف وعدمه لا يتعلق بكونه متعلقاً بورقة أو بعبد العزّي، بل علة إثبات الألف عدم ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 36 - 37، وانظر: مسلم بشرح النووي: 2: 201، وعمدة القاري: 1: 51، وفتح الباري: 1: 24 - 25، وإرشاد الساري: 1: 64. (¬2) إرشاد الساري: 1: 65، وشرح الزرقاني: 1: 213. (¬3) الكواكب الدراري: 1: 37، وانظر: فتح الباري: 1: 25، وإرشاد الساري: 1: 65.

23 - الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية

وقوعه بين علمين؛ لأن العم ليس علماً، ثم الحكم بكونه بدلاً غير لازم؛ لجواز أن يكون صفة أو بياناً له (¬1)! 23 - الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة: وفي رواية للشيخين: وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإِنجيل بالعربيّة ما شاء الله أن يكتب (¬2)! وقد رجح الزركشي رواية الشيخين لاتفاقهما (¬3)، وجمع النووي فقال: وكلاهما صحيح: وحاصلهما أنه تمكن من معرفة دين النصارى، بحيث إنه صار يتصرف في الإنجيل فيكتب أي موضع شاء منه، بالعبرانية إن شاء، وبالعربيّة إن شاء (¬4)! ونقله ابن حجر وقال: قال الداودي: كتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية هذا الكتاب الذي هو بالعربي (¬5)! وقال: لأن ورقة تعلم اللسان العبراني، والكتابة العبرانيّة، فكان يكتب الكتاب العبراني، كما يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين (¬6)! ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 37 - 38، وانظر: فتح الباري: 1: 25، وإرشاد الساري: 1: 65. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4953)، ومسلم (160). (¬3) شرح الزرقاني: 1: 214. (¬4) مسلم بشرح النووي: 2: 203. (¬5) فتح الباري: 8: 720 ط الرياض. (¬6) المرجع السابق: 1: 25.

وقال الكرماني بعد أن ذكر قول النووي

وقال الكرماني بعد أن ذكر قول النووي: ويفهم منه أنه الإنجيل ليس عبرانياً، وهو المشهور (¬1)! قال ابن حجر: وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسراً كتيسر حفظ القرآن الذي خُصت به هذه الأمة (¬2)! 24 - يابن عم: قال ابن حجر: قولهما (يا ابن عم) هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم (يا عم)، وهو وهم!؛ لأنه وإن كان صحيحاً لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد، ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعيّن العمل على الحقيقة (¬3)! قلت: بل جاء في رواية للبخاري: (يا عم) (¬4)، ولمسلم: (أي عم) (¬5)! وكلاهما صحيح، أما الأول: فلأنه ابن عمها حقيقة -كما سبق-، وأما الثاني: فقد قال النووي (¬6): سمته عماً مجازاً للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصغير الكبير بـ: "يا عم" احتراماً له، ورفعاً لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: (يا بن عم)! قال العراقي (¬7): فعلى هذا تكون تكلمت باللفظين! ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 38، وانظر: عمدة القاري: 1: 51 - 52. (¬2) فتح الباري: 1: 25. (¬3) المرجع السابق. (¬4) البخاري: 65 - التفسير (4953). (¬5) مسلم: 1 - الإيمان (160). (¬6) مسلم بشرح النووي: 2: 203. (¬7) طرح التثريب: 4: 194.

25 - اسمع من ابن أخيك

25 - اسمع من ابن أخيك: تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأب الثالث لورقة، وهو عبد العزى، هو الأخ للأب الرابع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عبد مناف، كأنها قالت: من ابن أخي جدك، فهو مجاز بالحذف، قال الحافظ: لأن والده عبد الله بن عبد المطلب، وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب، الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه، وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة -رضي الله عنها- أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أبلغ في التعظيم (¬1)! 26 - الناموس الذي نزّل الله على موسى: قال البخاري: الناموس: صاحب السر الذي يطلعه بما يستره عن غيره (¬2)! قال ابن حجر (¬3): وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والأول الصحيح الذي عليه الجمهور، وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب (¬4)! ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 1: 38، وشرح الزرقاني: 1: 214، وإرشاد الساري: 1: 65، وفتح الباري: 1: 25 في الأصل (أبلغ في التعليم) وفي الهامش (في التعظيم). (¬2) البخاري: 60 - أحاديث الأنبياء (3392). (¬3) فتح الباري: 1: 26. (¬4) انظر: عمدة القاري: 1: 52 - 53 ففيه تفصيل.

والمراد بالناموس: هنا جبريل عليه السلام! وقوله: (على موسى)، ولم يقل على عيسى، مع كونه نصرانيًّا؛ لأن كتاب موسى -عليه السلام- مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -! أو لأن موسى بُعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرعون هذه الأمة، وهو أبو جهل بن هشام ومن معه بـ (بدر)! أو قاله تحقيقاً للرسالة؛ لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيراً من اليهود ينكرون نبوته! وأما ما تمحّل له السهيلي (¬1) من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال لا يعرّج عليه في حق ورقة وأشباهه، ممن لم يدخل في التبديل، ولم يأخذ عمن بدل، على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف! نعم، في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة أن خديجة أولاً أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: (لئن كنت صدقتني إِنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلّمه بنو إِسرائيل أبناءهم) فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى، وتارةً: ناموس موسى. فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من ¬

_ (¬1) انظر: الروض الأنف: 1: 273.

27 - يا ليتني فيها جذعا

النصرانيّة، وعند إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - له قال له: ناموس موسى، للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح (¬1)! 27 - يا ليتني فيها جذعاً: لابن مالك كلام في (يا) التي تليها (ليت) أقرب ما يكون إلى الدراسة النحوية، فليراجعه من شاء (¬2)، حتى لا نخرج عن موضوع حديثنا! قال القسطلاني: (يا ليتني فيها) أي في مدة النبوة، أو الدعوة، وجعل أبو البقاء المنادى محذوفاً، أي يا محمد: وتعقّب بأن قائل (ليتني) قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى، كقول مريم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (مريم: 23)! وأجيب بأنه قد يجوز أن يجرد من نفسه نفساً فيخاطبها، كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني مت! وتقديره هنا: ليتني أكون في أيام الدعوة! و (جذعاً) -بفتح الجيم والمعجمة وبالنصب-: خبر كان مقدرة عند الكوفيين، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وخبر ليت قوله (فيها)، أي ليتني كائن فيها حال الشبيبة والقوة لأنصرك، أو على أن ليت تنصب الجزأين، أو بفعل محذوف، أي جعلت فيها جذعاً! ¬

_ (¬1) انظر: الكواكب الدراري: 1: 38 - 39، وإرشاد الساري: 1: 65، وشرح الزرقاني: 1: 214 - 215، ومسلم بشرح النووي: 2: 203، وطرح التثريب: 4: 194. (¬2) انظر: شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح: 4 وما بعدها، وعمدة القاري: 1: 58.

28 - إذ يخرجك قومك

وللأصيلي ولأبي ذر عن الحموي (جذعٌ) بالرفع، خبر ليت، وحينئذ فالجار يتعلق بما فيه من معنى الفعل، كأنه قال: يا ليتني شاب فيها، والرواية الأولى أكثر وأشهر! والجذع هو الصغير من البهائم، واستعير للإنسان، أي يا ليتني كنت شاباً عند ظهور نبوتك، حتى أقوى على المبالغة في نصرتك (¬1)! قال ابن حجر: كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإِسلام شاباً ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيراً أعمى! وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير؛ لأن ورقة تمنى أن يعود شاباً، وهو مستحيل عادة، ويظهر لي أن التمني ليس مقصوداً على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به (¬2)! 28 - إذ يخرجك قومك: قال ابن مالك (¬3): فيه استعمال إذ في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} (مريم: 39)! قال ابن حجر: هكذا ذكره ابن مالك، وأقره عليه غير واحد، وتعقبه ¬

_ (¬1) إرشاد الساري: 1: 65 - 66، وانظر: شرح الزرقاني: 1: 215، ومسلم بشرح النووي: 2: 203 - 204. (¬2) فتح الباري: 1: 26. (¬3) انظر: شواهد التوضيح والتصحيح: 9 وما بعدها.

29 - " أو مخرجي هم؟ "

شيخنا شيخ الإِسلام بأن النحاة لم يغفلوه، بل منعوا وروده، وأوّلوا ما ظاهره ذلك، وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري (حين يخرجك قومك) (¬1)، وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقاً لوقوعه، أو استحضاراً للصورة الآتية في هذه دون تلك، مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود وروداً محمولاً على حقيقة الحال، لا على تأويل الاستقبال (¬2)! 29 - " أو مُخرجيّ هم؟ ": بتشديد الياء المفتوحة، قال القسطلاني (¬3): لأن أصله مخرجوني، جمع مخرج، من الإخراج، فحذفت نون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فاجتمعت ياء المتكلم وواو علامة الرفع، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت، ثم أبدلت الضمة التي كانت سابقة الواو كسرة، وفتحت ياء مخرجيّ تخفيفاً، وهم مبتدأ خبره مخرجيّ مقدماً، ولا يجوز العكس؛ لأنه يلزم منه الإخبار بالمعرفة عن النكرة؛ لأن إضافة مخرجيّ غير محضة؛ لأنها لفظية؛ لأنه اسم فاعل بمعنى الاستقبال، والهمزة للاستفهام الإنكاري؛ لأنه ¬

_ (¬1) البخاري: 91 - التعبير (6982). (¬2) فتح الباري: 1: 26. (¬3) إرشاد الساري: 1: 66، وانظر: الكواكب الدراري: 1: 39 - 40، وشرح الزرقاني: 1: 215، وفتح الباري: 1: 26، وطرح التثريب: 4: 196، وعمدة القاري: 1: 29، ومسلم بشرح النووي: 2: 204، وشواهد التوضيح والتصحيح: 13.

استبعد إخراجه عن الوطن، لا سيما حرم الله، وبلد أبيه إسماعيل، من غير سبب يقتضي ذلك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان جامعاً لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه، وإنزاله منهم محل الروح من الجسد! فإن قلت: الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف، نحو: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)} (الأنعام)! وحينئذ ينبغي أن يقول هنا (وأمخرجي) لأن العاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف! أجيب بأن الهمزة خصت بتقديمها على العاطف تنبيهاً على أصالتها في أدوات الاستفهام، وهو له الصدر، نحو: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} (الأعراف: 185) {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} (غافر: 82)! هذا مذهب سيبويه والجمهور، وقال جار الله وجماعة: إن الهمزة في محلها الأصلي، وإن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، والتقدير (أمعاديّ هم ومخرجيّ هم)، وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر! فإن قلت: كيف عطف قوله: (أو مخرجي هم؟) وهو إنشاء، على قول ورقة (إِذ يخرجك قومك) وهو خبر، وعطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، وأيضاً فهو عطف جملة على جملة، والمتكلم مختلف؟ أجيب بأن القول بأن عطف الإنشاء على الخبر لا يجوز، إنما هو رأي أهل البيان، والأصح عند أهل العربيّة جوازه، وأما أهل البيان فيقدرون في مثل ذلك جملة بين الهمزة والواو، وهي المعطوف عليها، فالتركيب سائغ عند الفريقين، أما المجوزون لعطف الإنشاء على الخبر فواضح، وأما المانعون فعلى

30 - نعم لم يأت رجل قط بمثل مما جئت به إلا عودي

التقدير المذكور، وقال بعضهم: يصح أن تكون جملة الاستفهام معطوفة على جملة التمني في قوله: (ليتني أكون حياً إِذ يخرجك قومك) بل هذا هو الظاهر، فيكون المعطوف عليه أول الجملة لا آخرها الذي هو ظرف متعلق بها، والتمنيّ إنشاء، فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء، وأما العطف على جملة في كلام الغير فسائغ معروف في القرآن العظيم، والكلام الفضيح، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (البقرة: 124)! 30 - نعم لم يأت رجل قطّ بمثل مما جئت به إلا عودي: قال العراقي: قول ورقة: (نعم) يحتمل أن يكون علمه من كتب أهل الكتاب وعلمائهم فقاله بنقل، ويحتمل أن يكون قاله باستقراء وتجربة! فعلى الأول قوله: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إِلا عودي) خرج مخرج التسلية له، وأن هذا شأن الأنبياء قبلك، أذى قومهم لهم، وصبرهم على ذلك! وعلى الثاني يكون هذا الكلام خرج مخرج الدليل والاستشهاد بصحة ما قاله (¬1)! و (قط) -بفتح القاف وشد الطاء مضمومة- في أفصح اللغات ظرف لاستغراق الماضي فتختص بالنفي بما، وفي رواية للبخاري (إِلا أوذي) (¬2)، فذكر ورقة أن علة ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم؛ ولأنه علم من الكتب ¬

_ (¬1) طرح التثريب: 4: 196. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4953).

31 - وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا

أنهم لا يجيبونه، وأنه يلزم ذلك منابذتهم ومعاندتهم، فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام (¬1)! 31 - وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً: (وإِن يدركني) بالجزم بإن الشرطية، و (يومك) فاعل، أي يوم انتشار نبوتك، وفي رواية للبخاري (وإِن يدركني يومك حياً) (¬2)، و (أنصرك) جواب الشرط، و (نصراً) بالنصب على المصدرية، و (مؤزراً) بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهملة مهموزاً -أي قوياً بليغاً، وهو صفة لـ (نصراً)، وإنكار القزاز الهمز لغةً رُد بقول الجوهري: أزرت فلاناً: عاونته، والعامة تقول: وازرته، وقال أبو شامة: يحتمل أنه من الإزار، إشارة إلى تشميره في نصرته (¬3)! ولما كان ورقة سابقاً واليوم متأخراً أسند الإدراك لليوم؛ لأن المتأخر هو الذي يدرك السابق، وهذا ظاهره أنه أقر بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه مات قبل الدعوة إلى الإِسلام، فيكون مثل بحيرى (¬4)، وفي إثبات الصحبة له نظر (¬5)! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 1: 26، وشرح الزرقاني: 1: 215. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4953). (¬3) إرشاد الساري: 1: 67، وشرح الزرقاني: 1: 215 - 216، وانظر: فتح الباري: 1: 27 ومشارق الأنوار (أزر). (¬4) انظر قصة بحيرى في الترمذي (3620)، وتحفة الأحوذي (3863)، وعيون الأثر: 1: 40، والسيرة النبوية: ابن كثير: 1: 243، والطبقات الكبرى: 1: 150، والروض الأنف: 1: 206، وشرح المواهب: 1: 193، والإصابة: 1: 183، والدلائل: أبو نعيم: 1: 217، (109)، والدلائل: الأصبهاني: 2: 24، والسيرة النبوية: ابن هشام: 1: 236، والجامع الصحيح للسيرة النبوية: 1: 371 وما بعدها. (¬5) إرشاد الساري: 1: 67، وشرح الزرقاني: 1: 215 - 216، وفتح الباري: 8: 721، والإصابة: 6: 317 - 318 (9132).

32 - لم ينشب ورقة أن توفي

32 - لم ينشب ورقة أن توفّي: ينشَب -بفتح الشين- قال عياض: أي لم يمكث ولم يحدث شيئاً، حتى كان ما ذكر، وأصله من الحبس، وقال ابن الأثير: لم ينشب، أي لم يلبث (¬1)! قال ابن حجر: وأصل النشوب: التعلق، أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات (¬2)! 33 - وفتر الوحي: قال عياض: معناه: سكن وأغب نزوله وتتابعه! وقال ابن حجر: فتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان - صلى الله عليه وسلم - وجده من الشروع، وليحصل له التشوق إلى العود (¬3)! وقد اختلف العلماء في مدة الفترة التي انقطع فيها، قال ابن حجر (¬4): وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده، وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول {اقْرَأْ}، و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط! ¬

_ (¬1) مشارق الأنوار، والنهاية (نشب). (¬2) فتح الباري: 1: 27، وانظر: شرح الزرقاني: 1: 216. (¬3) مشارق الأنوار (فترة)، وفتح الباري: 1: 27. (¬4) فتح الباري: 1: 27.

ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإِمام أحمد، ولفظه من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة، وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إِسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة! وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إِسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل! فعلى هذا فيحسن -بهذا المرسل إن ثبت- الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة! وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل! وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة، وقال: لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل! ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي، إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم! وأخذ السهيلي هذه الرواية، فجمع بها المختلف في مكثه - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإنه قال (¬1): جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف، وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال ثلاث عشرة أضافهما! ¬

_ (¬1) انظر: الروض الأنف: 1: 281.

34 - أضواء على الأقوال في المراد بالخشية

وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً (¬1)! وجاء في شرح المواهب: قول الشعبي معارض بما روي عن ابن عباس أن الفترة المذكورة كانت أياماً، فلا يحتج بمرسله، لا سيما مع ما عارضه، فلم تكن الفترة إلا أياماً، وفي تفسير ابن عباس أنها كانت أربعين يوماً، وفي تفسير ابن الجوزي، ومعاني الزجاج خمسة عشر، وفي تفسير مقاتل ثلاثة أيام، ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه، لا ما ذكره السهيلي وجنح لصحته (¬2)! قال ابن حجر: والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياماً، وهذه لم تكن إلا ليلتي أو ثلاثاً فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك على ما بينته (¬3)! 34 - أضواء على الأقوال في المراد بالخشية: سبق أن عرفنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد خشيت على نفسي"! من غير ذكر سبب لخشيته -صلى الله عليه وسلم- على نفسه، ودواعي تلك الخشية! وهو - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحال، قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها - مستلهمة سلامة فطرتها، ورجاحة عقلها، ومعرفتها بسنن وقائع الحياة، وما هو عليه - صلى الله عليه وسلم - منذ عرف الحياة، وعرفه الناس، من رصيد المكارم - تلك الكلمات ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: 12: 360 ط. الرياض، والطبقات الكبرى: 1: 196. (¬2) شرح المواهب: 1: 236، 237. (¬3) فتح الباري: 8: 710.

الأقوال في المراد بالخشية

النورانية الواردة في الحديث، والتي هي عنوان التكامل المحمدي الذي ينبع من فطرته، والذي هو معجزة الحياة في سلوك الإنسان! الأقوال في المراد بالخشية: جاء في رواية لأبي ذر عن الحموي، والمستملي (خشيت عليّ) بتشديد ياء عليّ (¬1)! وهذا -كما يقول الشيخ عرجون (¬2): يكاد يوجب اتجاه الفهم إلى أن هذا خطاب استفهامي، حذف منه حرف الاستفهام، يوجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السيدة خديجة، إنكاراً تعجبياً لحالها في قلقها ولهفتها على أوبته في موعده الذي ألفت عودته فيه في أوباته كلها من جواره إلى بيته وأهله، ليتزود لعودته إلى جواره! فإنه لم يعهد في أساليب العربيّة أن يقول الإنسان معبراً عما حدث له، وما يخشاه على نفسه، وهو يخاطب غيره (خشيتُ عليّ) وإنما المعهود في أساليب الفصحى أن التعبير يكون في أسلوب الاستفهام عما في نفس الخاطب، بالنسبة للمتكلم بعبارة (خَشيتِ عليّ) بحذف همزة الاستفهام، وهو حذف سائغ كثير الورود في أصح النصوص العربيّة الفصيحة! قلت: ومع ذلك فالرواية التي معنا صريحة في عدم تشديد الياء، ومن ثم تدفعنا منهجيّة البحث إلى ذكر أقوال العلماء في المراد بالخشية! ¬

_ (¬1) إرشاد الساري: 10: 120، وفتح الباري: 12: 375 ط. الريان، وشرح الزرقاني: 1: 212، وانظر: صحيح البخاري: 9: 38 تقديم أحمد شاكر. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 372.

قال ابن حجر: والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولاً! أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحاً به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي، وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حضور العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك، وأنه من عند الله تعالى! ثانيها: الهاجس، وهو باطل أيضاً؛ لأنه لا يستقر، وهذا استقر، وحصلت بينهما المراجعة! ثالثها: الموت من شدة الرعب! رابعها: المرض، وقد جزم به ابن أبي جمرة (¬1)! خامسها: دوام المرض! سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة! سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب! ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه! تاسعها: أن يقتلوه! عاشرها: مفارقة الوطن! حادي عشرها: تكذيبهم إياه! ثاني عشرها: تعييرهم إياه! ¬

_ (¬1) انظر: بهجة النفوس: 1: 18.

أضواء على الأقوال

وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب: الثالث، واللذان بعده، وما عداها فهو معترض (¬1)! أضواء على الأقوال: وهنا لابد من وقفة لإبطال ما ينبغي إبطاله من تلك الأقوال: إبطال القول الأول: أما عن القول الأول، وهو الجنون؛ فإنه صريح في أنه جعل الجنون والكهانة أمراً واحداً وقولاً واحداً، وهما في الواقع أمران، فالجنون لا يجتمع مع الكهانة في شخص واحد، في زمن واحد، وبيان ذلك فيما يلي: الجنون: الجنون مصدر جُنّ -بالبناء للمجهول- فهو مجنون: أي زال عقله أو فسد، أو دخلته الجن، وجنّ الشيء عليه: ستره، ويطلق على اختلال القوة بين الأمور الحسنة والقبيحة، المدركة للعواقب بأن لا يظهر أثرها وتتعطل أفعالها، إما بالنقصان الذي جبل عليه الدماغ في أصل الخلقة، وإما بخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال، بسبب خلط أو آفة، وإما لاستيلاء الشيطان عليه، وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه، بحيث يفزع من غير ما يصلح سبباً، كما يطلق على اختلال العقل بحيث يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهجه إلا نادراً، واختلال القوة التي بها إدراك الكليات (¬2)! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 1: 24. (¬2) اللسان، والصحاح (جنن)، والتعريفات (جنون)، والكليات: 349، وكشاف اصطلاحات الفنون: 1: 380، ط 1382 هـ، وابن عابدين: 1: 426.

الكهانة

الكهانة: والكهانة تعاطي الخبر عن الكائنات في المستقبل، وادعاء معرفة الأسرار! والفرق بين الكاهن والعرّاف: أن الكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيّبات في المستقبل، بخلاف العرّاف فإنه الذي يخبر عن المغيّبات الواقعة، أي في الماضي! وقيل: الكاهن أعم من العرّاف؛ لأن العرّاف يخبر عن الماضي، والكاهن يخبر عن الماضي والمستقبل (¬1)! وعليه فالجنون ذهاب العقل، واضطراب وتخليط في الفكر والعمل، والكهانة ليست من قبيل الجنون بحال، ومعلوم أن الكهّان كانوا في الجاهليّة محكّمين في أمور الناس وحياتهم! بيد أن الحافظ ابن حجر ذكر أن القول مصرحاً به في عدة طرق، وأبطله ابن العربي، وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك، وأنه من عند الله تعالى! ولم يذكر الحافظ ابن حجر مكانة تلك الطرق التي جاءت مصرحة بهذا القول! 35 - الخشية عند رؤية التباشير: وتدفعنا منهجيّة البحث إلى ذكر ما جاء في الخشية عند رؤية التباشير: فقد روى أحمد قال: حدثنا أبو كامل، وحسن بن موسى، قالا: حدثنا ¬

_ (¬1) لسان العرب، والمصباح المنير، والنهاية (كهن)، وابن عابدين: 1: 31، وشرح روض الطالب: 4: 82.

حماد، قال أخبرنا عمار بن أبي عمار، قال حسن: عن عمار، قال حماد: وأظنه عن ابن عباس، ولم يشك فيه حسن، قال: قال ابن عباس: (قاله عبد الله بن أحمد): قال أبي: وحدثنا عفان، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، مرسل، ليس فيه (ابن عباس)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: فذكر عفان الحديث، وقال أبو كامل وحسن في حديثهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: "إِني أرى ضوءاً، وأسمع صوتاً، وإِني أخشى أن يكون بي جنن، قالت: لم يكن الله ليفعل ذلك بك يا ابن عبد الله! ثم أتت ورقة ابن نوفل، فذكرت ذلك له، فقال: إِن يك صادقاً فإِن هذا ناموس موسى، فإِن بعث وأنا حيّ فسأعززه وأنصره وأومن به"! رواه الطبراني بنحوه، وزاد (وأعينه)، وابن سعد، قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح (¬1)! وروى ابن سعد قال: أخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا خديجة، إِني أرى ضوءاً، وأسمع صوتاً، لقد خشيت أن أكون كاهناً" فقالت: إِن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله، إِنك تصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم) (¬2)! هذان الحديثان صريحان في أن الخشية التي شعر بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر بها خديجة -رضي الله عنها- كانت عند رؤية التباشير والإرهاصات، قبل أن ¬

_ (¬1) أحمد (2846)، والفتح الرباني: 20: 257، قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، والطبراني في الكبير: 23: 15 - 16 (26)، والطبقات الكبرى: 1: 195، ومجمع الزوائد: 8: 255. (¬2) الطبقات الكبرى: 1: 195.

36 - جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون

يوحى إليه بالرؤيا الصالحة الصادقة، وهي أول مراتب وحي النبوة -كما أسلفنا- وحيث لم تكن النبوة، فلا مانع أن يخشى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على نفسه من تلك الأمور الغريبة التي يراها ويسمعها، ولا يرى مصادرها، وذلك أمر طبيعي بمقتضى الطبيعة البشريّة التي كان يعيش بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته إنساناً مع الناس، يخالطهم، وفي الوقت ذاته يحوطه الله تعالى بحفظه، ويتولاه برعايته (¬1)! أما بعد أن نزل عليه الوحي -كما عرفنا- فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقد خشيت على نفسي) هكذا مطلقة، دون بيان لهذه الخشية! مع أننا نلحظ هنا -كما أسلفنا- شدة ما كابد من عناء المفاجأة، وما احتف بها من الغط المجاهد المجهد، الذي هزّ بشريته هزاً بالغ الأثر في بدنه، وتكرار ذلك بأقصى ما تحتمله طاقته البشرية! وهذا يدعونا إلى تأييد قول الحافظ ابن حجر في هذا القول، وأبطله أبو بكر ابن العربي، وحق له أن يبطل؛ لكن لا نؤيد ما ذهب إليه الإسماعيلي، كما سيأتي: 36 - جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون: وجميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون، وقد سجل القرآن الكريم عن قوم نوح عليه السلام أنهم اتهموه بالجنون، فقالوا بعد قولهم إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)} (المؤمنون) ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 383 بتصرف.

وعن فرعون -لعنه الله- في موسى عليه السلام: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)} (الشعراء)! وبيّن جل شأنه أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رسلهم، قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} (الذاريات)! وقد تعلق الملاحدة وأعداء الإِسلام بهذا القول، ونبذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بألقاب السوء، وقالوا: مجنون يصرع، وتقوّلوا عليه، ليشككوا في نبوته ورسالته، مما أوحت به إليهم شياطينهم، من الكذب، وقول الزور، افتراء على الله ورسوله (¬1)، وقد رد القرآن الكريم عليهم فريتهم وأكاذيبهم، بعد أن حكاها عنهم في مواضع متعددة .. قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} (الحجر)! وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)} (الصافات)، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} (القلم)!، وقال جل شأنه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} (الأعراف)! ففي هذه الآية الكريمة تصوير لتجني هؤلاء الفجرة من طغاة الكفرة (¬2)، وجهالتهم الضالة، وأنهم قوم بُهْت، لا يصدر منهم القول عن نظر وتدبر، ¬

_ (¬1) انظر: الوحي المحمدي: 87 وما بعدها. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 288 - 290 بتصرف، وانظر: تفسير الطبري: 9: 136، وتفسير ابن كثير: 2: 270، وتفسير الشوكاني: 2: 285 - 286، وتفسير الألوسي: 5: 118 - 119، وتفسير القرطبي: 7: 330، وتفسير المنار: 9: 453 وما بعدها.

ليعرفوا الحق من الباطل، وليست لهم بصائر يتفكرون بها في مبادئ الأمور وعواقبها، وقد أبرزت الآية الكريمة ذلك في أسلوب إنكاري مفعم بالتقريع والتوبيخ لمَّا أهدروه من مدارك عقولهم، ولدمغهم بالكذب والبهتان، والتسجيل عليهم أنهم قالوا قولاً باطلاً، لو تفكروا فيه، وتدبروا مداخله ومخارجه، لعلموا بطلانه بداهة! ذلك أن من به مسّ من الجنون يصرعه ويتخبطه، لا يمكن أن يصدر عنه كلام في أرفع درجات البلاغة البيانية، باعتراف غطارفة الفصاحة فيهم، وهو مع ذلك يحمل في عباراته أجلّ المعاني الإنسانيّة، وأسمى الحقائق الكونيّة، وأدق النظم الاجتماعيّة، وأصدق القضايا العقديّة، وأزكى الآداب الخلقيّة، وأفضل الشرائع التعبديّة، ثم يبقى دهره كله على أرفع سنن الاستقامة، وزكانة الرأي، وجودة التفكير، لا يخالف قوله فعلُه، ولا تختلف آدابه وأخلاقه، يعرف له أعداؤه أمانته وصدق حديثه، وبره ووفاءه، وشجاعته ومكارم أخلاقه! وها هو ذا القرآن الحكيم، الكتاب الذي نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله، قائم بين أظهركم، وفي متناول أيديكم وعقولكم، فاقرؤوه وتعمقوا فهمه، وحاولوا بكل ما أوتيتم من قوة، وادعوا معكم شهداءكم من شياطين الإنس والجن، لتستخرجوا معنى متهافتاً يشعر بأن من أتى به بعيد عن استقامة المدارك العقليّة، وقد تحدّاهم القرآن بآياته، فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} (محمد)! والتدبّر: طلب المعنى بالقلب والعقل، وذلك هو ما يسميه منطق الفلسفة بالنظر والتعقّل، ونتيجته هي العلم واليقين. وها هو ذا تاريخ محمد - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه وسنته وآدابه وأخلاقه وشريعته تحت

أنظاركم، فانظروا وتفكروا في جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه -ولن تستطيعوا- ما يقيم عوج دعاواكم، وأود أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله تعالى ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد، وينذر الذين لووا رؤوسهم عن قبول الحق بعذاب الله وبأسه، والذين ينغضون اليوم رؤوسهم جحوداً وعصبية عمياء ببطش الله وعقابه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (النمل)! ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} (سبأ)! وهذه الآية الكريمة تجري في مَهْيع الآية السابقة: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} (الأعراف)! وتبدأ ببيان مهمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في رسالته التي أمر بتحقيقها في الحياة، فهو مرسل ليعظ الناس أن يقوموا لله الواحد الأحد على قدم العبوديّة، بإفراده بالتعبد له وحده، لا يشركون به شيئاً، جماعات وأفراداً، وهذه قضية فطريّة من بدائه العقول، لا تحتاج إلا إلى موقف تذكير وكلمة واعظة، تحرك القلب إلى اليقظة، والعقل إلى التنبيه، فإذا استيقظ القلب، وتنبه العقل، وعادت الفطرة إلى استقامتها في توحيد الله فانظروا حينئذ في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، نظر تدبّر وتفكّر، لتصلوا بهذا التدبّر إلى العلم الذي لا يداخله شك، ويتجلّى لكم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أصح الناس عقلاً، وأصدقهم حديثاً، وأهداهم هدى، وأرشدهم رشداً، أليس بين أيديكم ما جاء به من شرائع وآداب، ونظم وأخلاق؟!

يقول الفخر الرازي

فهل تجدون فيها ما يدل من قريب أو بعيد على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - نزل عن ذروة الكمال العقلي، والآداب الاجتماعيّة التي عرفتها البشريّة منذ كانت للكَمَلة من المصطفين لرسالات الله تعالى؟! ولكنه - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله نذيراً بين يدي عذاب شديد لمن أعرض عن النظر في آيات الله، ولم يؤمن بربه، وهو يرى ما بثه في الكون من دلائل وحدانيته، وقهر قدرته، وبالغ حكمته! يقول الفخر الرازي (¬1): كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي تغشاه حالة عجيبة، فيتغيّر وجهه، ويصفرّ لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، فالجهّال كانوا يقولون: إنه جنون، فالله تعالى بيّن في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوهم إلى الله، ويقيم الدلائل القاطعة، والبينات الباهرة، بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الخلق، طيب العشرة، مرضي الطريقة، نقي السيرة، مواظباً على أعمال حسنة صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون، وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين، أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين! ومن لطائف القرآن الكريم هنا أنه ذكر محمداً - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام بعنوان (الصحبة) ليذكرهم بأنهم أعرف الناس به، وأنه لم يفارقهم، ولم يفارقوه، بل صحبهم وصحبوه، ولازمهم ولازموه، فهل عرفوا عنه طول حياته بينهم شيئاً يخدش إدراكاته العقليّة وإحساساته ومشاعره الإنسانيّة؟! ¬

_ (¬1) تفسير الفخر الرازي: 8: 76.

ويقول الشوكاني

لقد صدق الله تعالى إذ يقول: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33} (الأنعام)! ونبصر الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليظل في دعوته لا يثنيه سوء أدبهم معه، وسوء اتهامهم له، ونحن نقرأ قول الله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)} (الطور)! يقول الزمخشري: فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم: (كاهن أو مجنون)، ولا تبال به، فإنه قول باطل متناقض؛ لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله، وما أنت - بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوة ورجاحة العقل- أحد هذين (¬1)! ويقول الشوكاني: أي اثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير، والباء في قوله {بِنِعْمَتِ} متعلقة بمحذوف هو حال، أي ما أنت -متلبساً بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوة- بكاهن ولا مجنون، وقيل: متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام، أي ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، وقيل الباء سببيّة متعلقة بمضمون الجملة المنفية، والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، كما تقول: ما أنا بمعسر بحمد الله، وقيل: الباء للقسم متوسطة بين اسم (مَا) وخبرها، والتقدير: ما أنت -ونعمة الله- بكاهن ولا مجنون، والكاهن: هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي، أي ليس ما تقوله كهانة، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغه، والمقصود من الآية رد ما كان يقوله المشركون: إنه كاهن أو مجنون (¬2)! ¬

_ (¬1) تفسير الكشاف: 4: 35. (¬2) تفسير الشوكاني: 5: 99، وانظر: تفسير الألوسي: 14: 26.

37 - رواية في الميزان

37 - رواية في الميزان: وقد روى ابن سعد في ذكر نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن محمد ابن عمر (الواقدي) بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وهو بأجياد، إذ رأى ملكاً واضعاً إِحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء يصيح: يا محمد: أنا جبريل، يا محمد، أنا جبريل، فذُعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وجعل يراه كلما رفع رأسه إِلى السماء، فرجع سريعاً إِلى خديجة، فأخبرها خبره، وقال: يا خديجة، والله! ما أبغضت بُغض هذه الأصنام شيئاً قط، ولا الكهّان، وإني لأخشى أن أكون كاهناً، قالت: كلا يا ابن عم لا تقل ذلك، فإِن الله لا يفعل ذلك بك أبداً، إِنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإِن خلقك لكريم، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهي أول مرة أتته، فأخبرته ما أخبرها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال ورقة: والله! إِن ابن عمك لصادق، وإِن هذا لبدء نبوة، وإِنه ليأتيه الناموس الأكبر، فمريه أن لا يجعل في نفسه إِلا خيراً" (¬1)! قال البخاري: الواقدي مديني سكن بغداد، متروك الحديث، تركه أحمد، وابن نمير، وابن المبارك، وإسماعيل بن زكريا! وقال في موضع آخر: كذّبه أحمد! وقال معاوية بن صالح: قال لي أحمد بن حنبل: هو كذّاب (¬2)! ¬

_ (¬1) الطبقات الكبرى: 1: 194 - 195. (¬2) تهذيب الكمال: 26: 180 - 194 (5501)، وانظر: المغني في الضعفاء: 2: 619 (5861)، وتهذيب التهذيب: 9: 363 - 368 (604)، والتقريب: 2: 194، والميزان (7993)، وسير أعلام النبلاء: 9: 454 - 469 (172).

38 - رد قول الحافظ الإسماعيلي

قلت: لعل هذه الرواية ومثيلاتها، هي التي قصدها الحافظ ابن حجر بقوله: جاء مصرحاً به في عدة طرق، بيد أنه قال: وأبطله ابن العربي وحق أن يبطل! وهذا البغض -كما أسلفنا- كان واقعاً راسخاً في خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مركوزاً في فطرته التي فطره الله عليها، وفي التكامل المحمدي منذ طفولته إلى بدء نزول الوحي! بيد أن البغض في تلك الرواية جاوز موضعه من فطرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، واتخذ وضعاً مريباً واهناً في لحظة تاريخيّة من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -! وكيف والرواية نفسها يصيح فيها ملك الوحي جبريل (يا محمد، أنا جبريل، يا محمد، أنا جبريل)؟! وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبغض الكهّان والكهانة بغضه للأصنام، وهو بغض لم يبغضه شيئاً قط، وهذا واقعه - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فكيف يخشى على نفسه في هذه اللحظة التاريخيّة من حياته أن يكون كاهناً؟! فضلاً عن أن هذه الرواية بهذا السند قد خالفت الرواية التي معنا، وقد رواها الشيخان وغيرهما -كما سبق- حيث فسرت الخشية بالكهانة، وفي الوقت ذاته ذكرت بغضه - صلى الله عليه وسلم - للأصنام والكهان! 38 - رد قول الحافظ الإسماعيلي: ولو وقف الحافظ ابن حجر عند نقده لهذا القول، وتأييده لقول أبي بكر ابن العربي في قطع الحكم ببطلانه، لكان الأمر لا يحتاج إلى نظر جديد، بيد أنه ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 378 بتصرف.

-كما أسلفنا- قال: لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك، وأنه من عند الله تعالى! وحسبنا في بيان مكانة الإسماعيلي، أنه -كما قال الذهبي: الإِمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإِسلام، أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن العباس، الجرجاني، الإسماعيلي، الشافعي، صاحب (الصحيح)، وشيخ الشافعيّة! وقال: من جلالة الإسماعيلي أن عرف قدر (صحيح البخاري) وتقيد به! وقال الحاكم: كان الإسماعيلي واحد عصره، وشيخ المحدّثين والفقهاء، وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء، ولا خلاف بين العلماء من الفريقين وعقلائهم في أبي بكر (¬1)! وقال ابن كثير: الحافظ الكبير -الرحال الجوال، سمع الكثير، وحدّث، وخرّج، وصنف فأجاد، وأحسن الانتقاد والاعتقاد (¬2)! وذكره السخاوي فيمن حمل لواء علم الحديث في جرجان (¬3)، وقال: الحافظ الفقيه الإِمام النظار (¬4)! ومع ذلك أقول: كان على الحافظ ابن حجر أن يقف عند تأييده لقول أبي ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء: 16: 292 - 296 (208)، وتذكرة الحفاظ: 3: 948 - 949، والأنساب: السمعاني: 1: 250، والوافي: الصفدي: 6: 13، والمعجم في آسامي شيوخ أبي بكر الإسماعيلي: 1: 156. (¬2) البداية: 11: 298. (¬3) انظر: الإعلان بالتوبيخ: 141. (¬4) انظر: فتح المغيث: 1: 30.

بكر بن العربي، وقوله (وحق له أن يبطل)، ولا يذكر حمل الحافظ الإسماعيلي الذي ذكره؛ لأنه مردود بما عرفنا، ولأن الحافظ ابن حجر لم يرفع للطرق الواردة في هذا القول المردود رأساً، ولم يعبأ بها بحثاً، وهو في ذلك من هو في ميدان البحث العلمي في هذا المجال! إبطال القول الثاني: أما عن القول الثاني، وهو الهاجس، فقد أبطله الحافظ ابن حجر -كما أسلفنا-، وهو كما قال! إبطال الثالث والرابع والخامس: أما عن القول الثالث: وهو الموت من شدة الرعب، فقد جعله الحافظ ابن حجر أولى الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب، واللذين بعده، وهما: الرابع: وهو المرض (¬1)، وقد جزم به ابن أبي جمرة، والخامس: وهو دوام المرض! فقد رد الشيخ عرجون ترجيح الحافظ بعبارة لا نوافقه عليها، حيث قال (¬2): وهذه الأقوال التي رجحها الحافظ ابن حجر من أضعف الأقوال الأثني عشر التي ذكرها! وقال الإمام الصالحي الشامي (¬3): والخشية المذكورة اختُلف في المراد بها على اثني عشر قولاً: أولاها بالصواب: الموت من شدة الرعب -وهو الثالث- وقيل: المرض -وهو الرابع- وقيل: دوامه -وهو الخامس- وقيل: تعييرهم إياه - وهو الثاني عشر- كما سبق! ¬

_ (¬1) انظر: الكواكب الدراري: 24: 95 - 96 بيد أنه أضاف إليه: أو عارضاً من الجن! (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 344. (¬3) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: 2: 241.

السادس والسابع والثامن: أما عن القول السادس: وهو العجز عن حمل أعباء النبوة، والسابع: وهو العجز عن النظر إلى الملك من الرعب، والثامن: وهو عدم الصبر على أذى قومه، فإنا نرجح القول السادس، قال الكرماني (¬1): وقالوا: الأولى (خشيت) أي لا أقوى على تحمل أعباء الوحي ومقاومته! ولأن الروايات بمنطوقها ومفهومها وجو الأحداث، تمثّل هذه الأعباء، وما حفّ بها من شدائد، وما لابد من التعرض له في سبيل قيامه بحق دعوته من عداوة هؤلاء الذين جعلوا من الشرور والمفاسد عدّتهم وعتادهم، وهل يستطيع أن يصبر على ما يلقى من أذى، وهو يبلغ رسالة ربه، وهو يعلم ما عليه قومه من جاهليّة جهلاء، وما عليه غيرهم حين ذهب مع عمه أبي طالب في تجارته إلى الشام، وقصة بحيرى (¬2)، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الذكاء والفطانة، وإشراق الروح، وضياء العقل، وثقوب الذهن، ورجاحة التفكير، بالمكان الأرفع، ومنذ اللحظة التي جاءه الحق وهو في غار حراء، وما قد حفّ بهذه المفاجأة من شدائد هذا اللقاء التي لا تطيقها طبيعة بشريّة مهما كانت قوتها، كل أمر منها بمفرده حريّ أن يفزع ويرعب أقوى القوى البشريّة، وهي قد اجتمعت على محمد - صلى الله عليه وسلم - في مفاجآت متتاليات متتابعات، عرف منها أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- اصطفاه رسولاً، ليخرج الناس من ظلمات حياتهم المتراكمة إلى نور الهداية والرشاد. وفي غمرة ذلك (¬3)، وقد تيقّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اصطفاءه للرسالة، واستوعبت ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 24: 96. (¬2) انظر: الجامع الصحيح للسيرة النبويّة: 1: 371 وما بعدها. (¬3) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 304.

39 - وهم للزرقاني

مداركه وإحساساته ومشاعره تصور أعباء القيام بحق ما اختير له رسولاً .. خشي ألا يقوى على القيام بحق تبليغ رسالته، وخشي أن يشغله ما سيقع بينه وبين الناس حين يدعوهم إلى الله، وإلى هديه -وهم على ما هم عليه من ضلالة ضالة- عن مطالعات تجليات شهود جلال الله، والاستغراق في كماله العلي، بعد ما تذوّق بروحانيته الخاصة الوليدة في جو المفاجآت، بميلاد رسالته حلاوة هذا الشهود .. كل أولئك يرجح القول السادس، ويليه الثامن، ثم السابع! 39 - وهم للزرقاني: وجاء في شرح الزرقاني ذكر القول في بيان المراد بالخشية (¬1): ثالثها: خشي الموت من شدة الرعب! رابعها: تعييرهم إياه! قال: قال الحافظ: وهذان أولى الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب! قلت: وهذا خلاف ما صرح به الحافظ ابن حجر -كما سبق- وقد نقلنا قوله! التاسع: وأما عن القول التاسع، وهو أن يقتله قومه إذا بلغهم رسالة ربه، وإن كان عالماً بأن ما جاء به من ربه -فلا غرو- وإن كان سيد أهل اليقين؛ لأن ذلك مما يرجع للطبع -كما جاء في شرح الزرقاني- فإنه بشر يخشى من القتل والأذية كما يخشى البشر، ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية، ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة، قاله في الروض (¬2)! ¬

_ (¬1) شرح الزرقاني: 1: 217، وانظر: إكمال إكمال المعلم: 1: 284 - 285. (¬2) شرح الزرقاني: 1: 217، والروض الأنف: 1: 275.

العاشر: وأما عن القول العاشر: وهو مفارقة الوطن (¬1)، فهذا مما يمكن أن يكون قد دار في خلد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وألم بخاطره، فإن مجيئه لقومه بما يخالف ما هم عاكفون عليه، منغمسون في حمأته من وثنية، وعادات فاسدة، وأخلاق مرذولة، ونظم ظالمة، يجعلهم يضيقون به وبوجوده بينهم، ليغير حياتهم الجاهليّة، وينقلهم إلى حياة مباركة طيبة، تباعد بينهم وبين هذا الفساد الذي ألفوه وارتضوه لحياتهم وعاشوا به فلا أقل من محاولة التخلص بإبعاده عنهم، وإخراجه من بلده، وذلك من أشق ما يكون على النفس، بدليل ما جاء في الحديث من قول ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيًّا إِذ يخرجك قومك)! واستبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفنا- أن يخرجوه؛ لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق، فقال متعجباً: "أو مخرجيّ هم؟ "! الحادي عشر: وأما عن القول الحادي عشر، وهو تكذيبهم إياه، فهذا أمر طبيعي الوقوع! الثاني عشر: وأما عن القول الأخير: وهو تعييرهم إياه، فهو لا محصل له؛ لأن خشية التعيير لا تكون إذا كان بأمر معيب، يسوء الإنسان في أخلاقه وسلوكه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أتى قومه، وأتى العالمين برسالة خالدة كاملة، فبم يعيّرونه حتى يخشى هذا التعيير؟! ولا يمكن أن يقع ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا كان على معنى مجرد مخالفتهم لما كانوا عليه من سوء العقيدة ورذائل العادات التي ألفوها، وأصبح من العسير عليهم خروجهم منها! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 342 - 343 بتصرف.

40 - قول القاضي عياض

40 - قول القاضي عياض: وفي معنى الخشية قال القاضي عياض (¬1): ليس معناه الشك في أن ما أتاه من الله تعالى؛ لكنه كأنه خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يطيق حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه لشدة ما لقيه أولاً عند لقاء الملك، قال: أو يكون هذا أول ما رأى التباشير في النوم واليقظة، وسماع الصوت قبل لقاء الملك، وتحققه رسالة ربه تعالى، فيكون خاف أن يكون من الشيطان، فأما بعد أن جاءه الملك برسالة ربه -سبحانه وتعالى- فلا يجوز الشك عليه، ولا يخشى تسلط الشيطان! 41 - قول النووي: وقال النووي بعد أن ذكر قول القاضي عياض (¬2): وهذا الاحتمال الثاني ضعيف؛ لأنه خلاف تصريح الحديث؛ لأن هذا كان بعد غط الملك، وإتيانه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} (العلق)! قلت: وهو الراجح (¬3)! ¬

_ (¬1) شروح البخاري: 52 دار الكتب العلميّة، بيروت. (¬2) مسلم بشرح النووي: 2: 200. (¬3) انظر: محمد رسول الله: 1: 382 ففيه القول بأن تضعيف النووي هو الضعيف المردود، وأن قول القاضي عياض هو القول الحق!

42 - رد بلاغ التردي من رؤوس شواهق الجبال

42 - رد بلاغ التردي من رؤوس شواهق الجبال: بلاغ التردي: جاء في رواية للبخاري وغيره في حديث بدء الوحي: (.. وفتر الوحي فترة، حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما بلغنا، حزناً غدا منه مراراً، كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل، لكي يلقي منه نفسه، تبدّى له جبريل فقال: يا محمد، إِنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه، فيرجع، فإِذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإِذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل، فقال له مثل ذلك) (¬1)! 43 - البلاغ في الميزان: قال ابن حجر (¬2): قوله (وفتر الوحي فترة، حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا)، هذا وما بعده من زيادة معمر على رواية عقيل ويونس، وصنيع المؤلف -أي البخاري- يوهم أنه داخل في رواية عقيل، وقد جرى على ذلك الحميدي في جمعه، فساق الحديث إلى قوله (وفتر الوحي)، ثم قال: انتهى حديث عقيل المفرد عن ابن شهاب إلى حيث ذكرنا، وزاد عنه البخاري في حديثه المقترن بمعمر عن الزهري، فقال: (وفتر الوحي فترة حتى حزن ..) فساقه إلى آخره! ¬

_ (¬1) البخاري: 91 - التعبير (6982)، وأحمد: 6: 232 - 233، والفتح الرباني: 20: 207 - 209، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 275 - 277، والبيهقي: الدلائل: 2: 135 - 136، وعبد الرزاق (9719)، وابن حبان: الإحسان (33)، وانظر: الطبقات الكبرى: 1: 196، وسبل الهدى والرشاد: 1: 271. (¬2) فتح الباري: 12: 359.

وقال الكرماني

والذي عندي أن هذه الزيادة خاصة برواية معمر، فقد أخرج طريق عقيل أبو نعيم في مستخرجه من طريق أبي زرعة الرازي، عن يحيى بن بكير شيخ البخاري فيه في أول الكتاب بدونها، وأخرجه مقروناً هنا برواية معمر، وبيّن أن اللفظ لمعمر، وكذلك صرح الإسماعيلي أن الزيادة في رواية معمر! وأخرجه أحمد، ومسلم، والإسماعيلي، وغيرهم، وأبو نعيم أيضاً من طريق أصحاب الليث عن الليث بدونها! ثم إن القائل (فيما بلغنا) هو الزهري! ومعنى الكلام أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة، وهو من بلاغات الزهري، وليس موصولاً! وقال الكرماني (¬1): (فيما بلغنا) أي في جملة ما بلغ إلينا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن قلت: من ها هنا إلى آخر الحديث يثبت بهذا الإسناد أم لا؟ قلت: لفظه أعم من الثبوت به أو بغيره، لكن الظاهر من السياق أنه بغيره! قال ابن حجر (¬2): ووقع عند ابن مردويه في التفسير من طريق محمد ابن كثير عن معمر بإسقاط قوله (فيما بلغنا)، ولفظه (فترة حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها حزناً غدا منه) إلى آخره، فصار كله مدرجاً على رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة، والأول هو المعتمد! وذكر القسطلاني قول ابن حجر مجملاً، ثم ذكر قول عياض، وقال (¬3): وحاصله أنه ذكر أنه غير قادح من وجهين: ¬

_ (¬1) الكواكب الدراري: 24: 97. (¬2) فتح الباري: 12: 359 - 360. (¬3) إرشاد الساري: 10: 122، وانظر: 7: 427، وشرح الزرقاني: 1: 216.

أحدهما: فيما يتعلق بالمتن من جهة قوله (فيما بلغنا) حيث لم يسنده، وأنه لا يعلم ذلك إلا من جهة المنقول عنه! والثاني: أنه أول الأمر، أو أنه فعل ذلك لما أخرجه من تكذيب قومه، وفيه بحث؛ إذ عدم إسناده لا يوجب قدحاً في الصحة، بل الغالب على الظن أنه بلغه من الثقات؛ لأنه ثقة، لا سيما ولم ينفرد بذلك .. وروينا أيضاً من طريق الدولابي مما في سيرة ابن سيد الناس، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس ابن يزيد، عن الزهري، عن عائشة: الحديث، وفيه: (ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا) إلى آخره (¬1)، فاعتضدت كل رواية بالأخرى، وكل من الزهري ومعمر ثقة، وعلى تقدير الصحة لا يكون قادحاً كما ذكره عياض، لكن بالنسبة إلى أنه في أول الأمر، لاستقرار الحال فيه مدة، بل بالنسبة إلى ما أخرجه من التكذيب، إذ لا شيء فيه قطعاً، بدليل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)} (الكهف)! أي قاتل نفسك أسفاً! قلت: هو مجرد احتمال، يرده صريح قوله: (فيما بلغنا) كما يرده حذفه؛ لأنه يكون مدرجاً كما قال ابن حجر! وقال الدكتور أبو شهبة (¬2): هذه الرواية ليست على شرط الصحيح؛ لأنها ¬

_ (¬1) عيون الأثر: 1: 85. (¬2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 265 - 266 بتصرف، وقد ذكر في بيان أن هذه الرواية موهمة أحاديث لم تسلم أسانيدها من الضعف، لم نذكرها حتى لا نخرج عن موضوع حديثنا!

من البلاغات، وهي من قبيل المنقطع، والمنقطع من أنواع الضعيف، والبخاري لا يخرج إلا الأحاديث المسندة المتصلة برواية العدول الضابطين، ولعل البخاري ذكرها لينبهنا إلى مخالفتها لما صح عنده من حديث بدء الوحي الذي لم تذكر فيه هذه الزيادة! وقال: وأيضاً فإن ما استفاض من سيرته - صلى الله عليه وسلم - يرد ذلك، فقد حدثت له حالات أثناء الدعوة إلى ربه أشد وأقسى من هذه الحالة، فما فكر في الانتحار بأن يلقي نفسه من شاهق جبل أو يبخع نفسه! وقال: ونحن لا ننكر أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حصلت له حالة أسى وحزن عميقين على انقطاع الوحي، خشية أن يكون ذلك عدم رضا من الله، وهو الذي كان يهون عليه كل شيء من لأواء الحياة وشدائدها ما دام في سبيل الله، وفيه رضا الله! وقال: وليس أدل على ضعف هذه الزيادة وتهافتها من أن جبريل كان يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أوفى بذروة جبل: (يا محمد، إِنك رسول الله حقاً) وأنه كرر ذلك مراراً، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرفه عما حدّثته به نفسه كما زعموا! وقال الدكتور موسى شاهين (¬1): هذه الرواية تتعارض مع ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان الكامل، واليقين المطلق الذي لا تزعزعه الكوارث، والذي يستبعد معه التفكير في الانتحار، مهما كانت أسبابه ودواعيه .. ثم قال: والذي أستريح إليه أن هذه الزيادة من رواية معمر، وأن هذا التصور من بلاغات الزهري، وليس موصولاً، فلا نثبت ما يتنافى والطبع السليم! ¬

_ (¬1) فتح المنعم: 2: 2: 337.

44 - رد قول الحافظ الإسماعيلي

وقال الألباني (¬1): إن لهذه الزيادة علتين: الأولى: تفرد معمر بها دون يونس وعقيل، فهي شاذة! والأخرى: أنها مرسلة معضلة، فإن القائل (فيما بلغنا) إنما هو الزهري، كما هو ظاهر من السياق، وبذلك جزم الحافظ في الفتح، وقال: وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً! وقال: وهذه الزيادة لم تأت من طريق موصولة يحتج بها! وإذا عرفت عدم ثبوت هذه الزيادة فلنا الحق أن نقول: إنها زيادة منكرة، من حيث المعنى؛ لأنه لا يليق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المعصوم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل مهما كان الدافع على ذلك، وهو القائل: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم، يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً .. " الحديث، رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه (¬2)! 44 - رد قول الحافظ الإسماعيلي: ومع ذلك، قال ابن حجر: قال الإسماعيلي (¬3): موه بعض الطاعنين على المحدّثين فقال: كيف يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرتاب في نبوته، حتى يرجع إلى ورقة، ويشكو لخديجة ما يخشاه، وحتى يوفي بذروة جبل ليلقي منها نفسه، على ما جاء في رواية معمر؟! ¬

_ (¬1) دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: 41 - 42. (¬2) البخاري: 76 - الطب (5778)، ومسلم (109)، وأبو داود (3872)، وصحيح أبي داود (3280)، والترمذي (2044، 2045)، وصحيح الترمذي (1665 - 2132)، والنسائي: 4: 66، 67، وصحيح النسائي (1856). (¬3) فتح الباري: 12: 360 - 361.

قال: ولئن جاز أن يرتاب مع معاينة النازل عليه من ربه، فكيف ينكر على من ارتاب فيما جاءه به مع عدم المعاينة؟! قال: والجواب أن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قُضي بإيصاله إلى الخلق أن يقدمه ترشيح وتأسيس، فكان ما يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرؤيا الصادقة، ومحبة الخلوة، والتعبد، من ذلك، فلما فجئه الملك فجئه بغتة أمر خالف العادة والمألوف، فنفر طبعه البشري منه، وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه، حتى إذا تدرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له، فهونت عليه خشيته بما عرفته من أخلاقه الكريمة، وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة، لمعرفتها بصدقه، ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف به! ثم كان من مقدمات تأسيس النبوة فترة الوحي، ليتدرج فيه، ويمرن عليه، فشق عليه فتوره؛ إذ لم يكن خوطب عن الله بعد إنك رسول من الله ومبعوث إلى عباده، فأشفق أن يكون ذلك أمراً بدئ به، ثم لم يرد استفهامه، فحزن لذلك، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح الله له من أمره بما فتح! قال: ومثال ما وقع له في أول ما خوطب به ولم يتحقق الحال على جليتها مثل رجل سمع آخر يقول: (الحمد لله) فلم يتحقق أنه يقرأ، حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ!

وكذا لو سمع قائلاً يقول: (خلت الديار) لم يتحقق أنه ينشد شعراً حتى يقول: (محلها ومقامها) انتهى ملخصاً! ثم أشار إلى أن الحكمة في ذكره - صلى الله عليه وسلم - ما اتفق له في هذه القصة أن يكون سبباً في انتشار خبره في بطانته، ومن يستمع لقوله، ويصغي إليه، وطريقاً في معرفتهم مباينة من سواه في أحواله، لينبهوا على محله! قال: وأما إرادته إلقاء نفسه من رؤوس الجبال بعد ما نبّئ فلضعف قوته عن تحمل ما حمله من أعباء النبوة، وخوفاً مما يحصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعاً، كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه، ولو أفضى إلى إهلاك نفسه عاجلاً، حتى إذا تفكر فيما فيه صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر واستقرت نفسه! والناظر في هذا الكلام، وتصويره لطعن الطاعنين الذي سماه الحافظ الإسماعيلي تمويهاً على المحدّثين، يرى بشيء من التأمل المحكم المنصف أن هذا الكلام مردود على قائله! وسبق أن عرفنا الرد على تخرصات تفسير (الخشية)، وبيان ما يقبل منها! ترى، هل كان كلام ورقة -كما عرفنا- أعظم أثراً في إيجاد الإيقان، وتحصيله للرسول - صلى الله عليه وسلم -، واعترافه بالحق، من وحي النبوة بالرؤيا الصالحة الصادقة، وما صحبها وتتابع بعدها .. ومراتب الوحي، ونزول القرآن؟! ثم إن هذا التصوير يقتضي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حزن لفتور الوحي حزناً ملأه يأساً كظيماً مغلقاً (¬1)، دفعه إلى أن يغدو مراراً إلى رؤوس شواهق الجبال، لكي ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 421 وما بعدها بتصرف.

يتردى من فوق ذراها، فيتبدّى له جبريل قائلاً: يا محمد، إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه .. ويتكرر ذلك! ترى، كم مرة غدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبدّى له جبريل عليه السلام؟! وأين ذهب الإيقان والاعتراف بالحق الذي حصل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عقب سماع كلام ورقة الذي لم ينشب -كما عرفنا- أن توفي، كما يدل الحديث على ذلك؟! وإن إجابة الحافظ الإسماعيلي عن مطاعن الطاعنين على المحدّثين بأن عادة الله جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى بإيصاله إلى الخلق يقدمه ترشيح وتأسيس .. مسلّمة في جملتها، ضعيفة في تعليلها ودعامتها! ذلك أن الرسالة إذا ثبتت لمن يصطفيه الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثم جاءه من عند الله ما ليس مألوفاً لبشريّته قبل أن يكون رسولاً، فلا مانع أن يفزع ويرعب فزعاً ورعباً تقتضيه دواعي بشريّته؛ لكنه لا يمكن أن يصل إلى درجة تخطي عصمة النبوة والرسالة! وإذا كانت النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها -كما قال الحافظ الإسماعيلي- فذلك حق لا يجادل فيه، بيد أنها تخلص الروح من أعظم علائقها الماديّة المعوقة للاتصال بالملأ الأعلى في شيء من المجانسة الروحانيّة ليحصل التناسب الروحاني عند بدء الرسالة، ونزول القرآن الكريم! ثم كيف تكون مدة فترة الوحي من مقدمات تأسيس النبوة، وهي متأخرة قطعاً عن مجيء النبوة وتأسيسها؛ لأنها كانت باليقن القاطع بعد مفاجأة الغار، ونزول أوائل سورة (اقرأ) وقبل نزول سورة (المدثر)؟! وما قيمة التمثيل الذي جاء به الحافظ الإسماعيلي ليبين عدم تمكن النبي - صلى الله عليه وسلم -

من تحقق حاله، وأي محصل له، وهو تمثيل عجيب غريب، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كأي رجل يطلب الراحة من غم ناله، فأراد أن يتخلص منه ويرتاح، ولو بإهلاك نفسه؟! قال ابن حجر (¬1): وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل، وأشار إلى رواية الطبري (¬2)! قلت: هذا يؤكد رد ذلك القول، فضلاً عن اختلاف الرواية، والتعارض مع الرواية التي أوردناها، وكان على الحافظ ابن حجر أن يشير إلى ذلك، وهو الذي ذكرناه بقوله في رد ذلك البلاغ! وبهذا نتبين أن فترة الوحي أبعد ما تكون زمناً ووضعاً وموضوعاً من أن تكون من مقدمات تأسيس النبوة؛ لأن فترة الوحي -كما عرفنا- متأخرة في زمن وقوعها ووضعها في إطار الرسالة بزمن، والمتأخر زمناً لا يصلح بداهة أن يكون تأسيساً للمتقدم! وأبعد ما تكون في موضوعها وحكمتها عن التدرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في الوحي ليمرن عليه؛ لأن كل ما يتصل بالوحي ليس من الشؤون الكسبية التي يتدرج الإنسان في مراتبها ودرجاتها حتى يمرن عليها؛ ولأن التدرج والمران يقتضيان تعدد فترات الوحي، حتى يتحقق المقصود منهما، وفترة الوحي قبل نزول سورة (الضحى) فترة من نوع آخر، كان سببها على الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاتاً، وذلك فيما رواه الشيخان وغيرهما عن جندب بن ¬

_ (¬1) فتح الباري: 12: 361. (¬2) انظر: تاريخ الطبري: 1: 53.

سفيان رضي الله عنه قال (¬1): اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إِني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} (الضحى)! وهذه المرأة هي أم جميل العوراء، بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وامرأة أبي لهب (¬2)! وسبق أن ذكرنا قول الحافظ ابن حجر: الحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياماً، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثاً، فاختلطتا على بعض الرواة، وتحرير الأمر في ذلك ما بينته (¬3)! وعرفنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خوطب قبل فترة الوحي، وقبل أن يأتي إلى أهله في عودته من مفاجأة الغار وتكرار الغط، وبعد أن أقرئ أوائل سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}! وقد أطال الشيخ عرجون في رده لكلام الحافظ الإسماعيلي بما يتفق وقواعد التحديث أحياناً وما يختلف أخرى (¬4)! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4950)، ومسلم (1797)، وأحمد: 4: 312، ومرويات الإمام أحمد في التفسير: 4: 362 (679)، وابن جرير: التفسير: 3: 231، والطبراني (1709 - 1712)، والترمذي (3345)، وانظر: فتح القدير: 5: 454. (¬2) فتح الباري: 3: 9، وانظر: المستدرك: 2: 526 - 527. (¬3) المرجع السابق: 8: 710. (¬4) انظر: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 417 - 458.

45 - البلاغ في كتب كثيرة

وحسبنا ما سبق في بيان الأقوال في قوله (فيما بلغنا) وفي حذفه؛ لأنه يكون مدرجاً، كما قال الحافظ ابن حجر! 45 - البلاغ في كتب كثيرة: ومع هذا نجد ذلك البلاغ في كتب كثيرة -غير ما سبق- لها مكانتها، فقد ذكره الحافظ ابن كثير، وسكت عنه (¬1)، والحافظ ابن الجوزي، وقال: أخرجاه، وسكت عنه محققه (¬2)، والإمام محمد بن عبد الوهاب، وذكر أنه في الصحيحين (¬3)، والإمام محمد عبده (¬4)، والدكتور مصطفى السباعي (¬5)، والشيخ صفي الرحمن المباركفوري (¬6)، والشيخ حامد محمود (¬7)، والدكتور البوطي، وعلق عليه بقوله: لقد قضت الحكمة الإلهيَّة أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء مدة طويلة، وأن يستبد به القلق من أجل ذلك، ثم يتحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ قد قلاه بعد أن أراد أن يشرفه بالوحي والرسالة، لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت نفسه تحدثه، ¬

_ (¬1) البداية: 3: 3، والسيرة النبويّة: 1: 412. (¬2) الوفا بأحوال المصطفى: 1: 163. (¬3) مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: 71 - 72. (¬4) انظر: تفسير جزء عم: سورة الضحى. (¬5) السيرة النبويّة: 46. (¬6) الرحيق المختوم: 80، وهو البحث الفائز بالجائزة الأولى لمسابقة السيرة النبويّة التي نظمتها رابطة العالم الإِسلامي، شعبان 1398 هـ، ط. دار الوفاء، المنصورة 1411 هـ 1991 م. (¬7) منتقى النقول: 175، وهو البحث الفائز بالجائزة الرابعة لمسابقة السيرة النبويّة التي نظمتها رابطة العالم الإِسلامي، ربيع الأول 1399 هـ، ط. أولى 1402 هـ 1982 م.

كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها! .. إلى أن رأى ذات يوم الملك الذي رآه .. (¬1)! وهو كلام يجب طرحه من كتب السيرة النبويّة! ويطول بنا الحديث لو حاولنا ذكر الكتب التي نقلت هذا البلاغ وسكتت عنه، أو أعجبت به! ¬

_ (¬1) فقه السيرة: 70 ط. سابعة.

معالم حديث بدء الوحي

معالم حديث بدء الوحي

معالم حديث بدء الوحي 1 - مكانة العلم في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - 2 - أوّل مراتب النبوة 3 - كمال البشرية وميلاد الرسالة 4 - خصيصة النبوة الخاتمة 5 - تهافت الملاحدة 6 - إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم - 7 - أم المؤمنين خديجة أعرف بقدر محمد - صلى الله عليه وسلم - 8 - صدق الحديث 9 - صلة الرحم 10 - وتحمل الكلّ 11 - وتكسب المعدوم 12 - وتقري الضيف 13 - الإعانة على نوائب الحق 14 - أداء الأمانة 15 - فراسة الإلهام 16 - العلم سرّ الرسالة 17 - أهداف الدعوة 18 - فترة الوحي 19 - موقف الإمام محمد عبده 20 - بناء صرح الرسالة الخالدة

1 - مكانة العلم في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -

معالم حديث بدء الوحي وتطالعنا معالم حديث بدء الوحي فيما يلي: 1 - مكانة العلم في رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: بدأت رسالة خاتم النبيّين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بأوّل وأعظم عنوان للعلم والمعرفة كُتب في قدر الله على أبرز لوحات التاريخ (¬1)، يوم أن قالت السماء لنموذج الرسالات الإلهيّة الأعلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {اقْرَأْ}! هكذا مطلقة، بصيغة الأمر المطلق الذي لا يتقيّد بمقروء معيّن من علوم البشر ومعارفهم وفنونهم وأفكارهم .. ولا تتقيّد بقراءة من كتاب مكتوب بما عرف الناس من طرائق الكتابة، وأساليب تقييد العلم والمعارف الإنسانية .. ولا تتقيد بزمن تقع فيه القراءة .. ولا تتقيّد بمكان معين تجري القراءة بين جنباته! فهو طلب قراءة فحسب .. والحقائق المطلقة لا يمكن أن تتحقّق في واقع الحياة والوجود الحسّي إلا في صورة من صور جزئياتها .. وليس هناك مقروء معيّن يتحقّق به طلب القراءة في جزئيّة منها! فهذا الطلب المطلق بهذه الصيغة: {اقْرَأْ}! على ما احتفّ به من أحوال مفاجأة الوحي وجوّها، صريح في تسجيل العنوان الأوّل لرسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في لوحة الحياة بأخصّ خصائص خلودها، وشمولها شمولًا كاملًا، لا يفوته جيل من الناس، ولا زمن من الأزمان، ولا مكان من الأمكنة، ولا يندّ عنه علم من العلوم التي عرفها البشر في مدارج ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 1: 241 وما بعدها بتصرف.

(التطوّر) الإنساني، أو التي سيُفتح إلى معرفتها سبلٌ لا عهد للعقل الإنسانيّ بها فيما مضى من السنين والأحقاب، ولا تذهب عنه معرفة من المعارف التي كانت في ماضي الحياة، أو التي ستكون في مستقبلها! ومعناه: (كن قارئًا)! فالمقروء في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - تحت عنوانها الأوّل: {اقْرَأْ}! مقروء لا يقرؤه الناس، ولكنهم يقرؤون عنه، وعلم لا يعلمونه تعلّمًا، ولكنهم يعلمون عنه، ومعرفة ليست في متعارف معارف الناس، ولكنهم يتطلّعون إليها! هو علم حقائق الموجودات المكتوب في كتاب (الكون) وسفر الحياة، وهو معرفة عناصر الكائنات مسطورة في صحف الطبيعة! وقد تكرّر هذا الأمر المطلق -في أوّل لقاء يقظي بأمين الوحي جبريل عليه السلام -كما أسلفنا- وهو اللقاء الذي بدأت به الرسالة- ثلاث مرات، بصورة واحدة! ولمّا جاء في المرّة الرابعة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}! مقرونًا بما يقرأ، لم يجيء مطلقًا بطلب القراءة، على أنه هو المطلوب تحقيق قراءته بالأمر بطلبها؛ وإنما جاء مؤكّدًا لإطلاق الأمر، وتحقيق القراءة في ذاتها على المعنى الذي ذكرناه! فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ردّه على هذا الطلب الغريب على حياته وطبيعة بشريّته

الخاصّة نفى عن نفسه أنه يعرف القراءة، لا طبيعة وجبلّةً، ولا تعلّمًا وكسبًا، فهو أميّ لم يسبق له قط أن قرأ ولا تعلّم القراءة، ولا خطّ بيمينه كتابًا، ثم استبان من مخاطبه أمين الوحي (ماذا يقرأ)؟ و (كيف يقرأ)؟! وليس وراء الأمر بالقراءة في أوّل وأبرز عنوان في إطار رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يستعين -على تحقيق ما لم يعرف، ولا هو في طوقه- باسم ربّه، وقد أبرز الاسم الكريم متعلّقًا تعلّقًا مباشرًا بفعل الأمر المطلق بالقراءة، مضافًا إضافة تكريم وتشريف خاصة بخطاب مَن طلب منه أن يقرأ ما لم يخطه قلم بيمين إنسان، فقيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}! وفي هذه الإضافة التكريميّة لون من الحفاوة السابغة، تبثّ الطمأنينة، ويقين الإيمان في قلب القارئ العظيم الذي سبقت له العناية، فتولّته رعاية الربوبيّة، وتعهّدته بتربيتها الخاصّة، وهو لا يعلم أنه المقصود بتعليمه وتأديبه، تعليمًا إلهيًّا، وأدبًا ربّانيًّا، لم يثافن معلّمًا قط، وهيّأته لا يراد به، وما يراد منه، وهو لا يعلم أنه الرسول خاتم النبيّين، فلا نبيّ بعده: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52، 53] وعموم المشيئة في الآية الكريمة مخصوص به - صلى الله عليه وسلم -،ولكنها جاءت كما في الآية لتمثل إطلاق الألوهيّة في كمال إرادتها: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]! ولُباب المعنى: كن قارئًا إعجازًا، ولو لم تكن من القارئين تعلّمًا .. اقرأ

مستعينًا باسم ربّك الذي أعدّك بتربيته معلّما للدنيا، ولا تلتفتنَّ إلى الأسباب، واذكر بقلبك وروحك وعقلك مَن خلقها وسبّبها .. فأنت معلَّم بعلم من عندنا، عليم بعلم غير مكتوب في كتاب، كما يكتب العلماء المعلَّمون .. وأنت قارئ كتابنا الذي كتبناه بقلم كلمتنا الخالقة المبدعة، في صحفنا التي خطّها قلم قدرتنا في لوح الأزل، لتكون هذه القراءة خصيصتك إلى الأبد: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}! والخلق من الله تعالى إبداع ما لم يشهد الوجود، وإيجاد ما لم يكن له قبل ذلك شهود! وهذا العموم في المنفعل بالخلق يجعل فعل الخلق المطلق عن التقيّد بذكر مفعوله متشوّفًا لمتعلّقه، لتحقيق معناه، وهو صالح لكل مخلوق، وليس منها فرد جنس أو فرد نوع، أو فرد شخص، بأولى أن يكون متعلّقا لفعل الخلق المطلق -لفظًا- من غيره دون سائر المخلوقات، أجناسًا وأنواعًا وأفرادًا، فهي كلها كالمذكورة في تعلق فعل الخلق بها، وهذا الإطلاق مغاير للإطلاق في فعل طلب القراءة الذي بدأت به الرسالة الخالدة لأنّ فعل القراءة هناك لا يتطلّب التقييد ولا يقبله، وفعل الخلق هنا يستدعيه عامًّا شاملًا مضمرًا كالمذكور! والمنفعل بالخلق والإبداع عامًّا عمومًا شموليًّا هو (الكون) كله، على إطلاقه وشموله في عناصر تكوينه وإبداعه، فهو بالنسبة لفعل الخلق مفعوله الذي يتحقّق به، وبالنسبة لفعل القراءة مقروؤه الذي لا يتوقّف عليه تحقّقه، ولكن جوّ الأحداث يفرضه! وهذه إشارة معيّنة تشهد -بمقتضى إطلاق فعل القراءة عن متعلّق معيّن- أن المأمور بقراءته المستعان عليه باسم {رَبِّكَ} في اختصاصك بتربية النبوّة

2 - أول مراتب النبوة

الخاتمة، وفي تخصيصك بالإضافة التكريميّة مع عموم واقع التربية لكل كائن- إنما هو كتاب الخلق والإبداع، وليس ذلك سوى حقائق الوجود مسطورة في كتاب (الكون) البديع! 2 - أوّل مراتب النبوّة: وهنا نتصوّر أوّل مراتب النبوّة (¬1) في الرؤيا الصالحة الصادقة .. وكأنما كانت هي الباعث المباشر على حبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - للخلوة -كما أسلفنا- واعتزال ضوضاء المجتمع، والأنس بالوحدة، لاستجماع الفكر والسبح في ملكوت الله، وجلال بدائع صنعه، ولهذا جاءت بحرف الترتيب الرتبي المتعاقب في ريث ومهل: ثم حبّب إليه الخلاء! أي بعد اصطفائه بالنبوّة، وبدء معالمها بالرؤيا الصالحة الصادقة حبّب الله تعالى إلى نفسه الطاهرة المطهّرة الخلوة، ليتفرغّ قلبه وعقله وروحه إلى ما سيلقى إليه من أعلام النبوّة! وقد اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من (غار حراء) مختلى له ومتعبّدًا -كما عرفنا- لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، استجماعًا لقواه الفكريّة، ومشاعره الروحيّة، وإحساساته النفسيّة، ومداركه العقلية .. تفرّغا لمناجاة مبدع الكون، وخالق الوجود؛ وتمكينًا لأنوار النبوّة من قلبه بالتأمل في مظاهر ملكوت الله! وقد تحقّق للرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الخلوة من أنوار شهود جلال الله، وجمال ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 254 وما بعدها بتصرف.

قدسه ما كشف عن روحه العلية أغطية الكثافة البشريّة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يرى الضوء، ويسمع الصوت، ويكلَّم، ويبشَّر، حتى بلغت به الأنوار القدسيّة آفاق الكمال النبوي، ووقف بها على الدرج الأعلى من مراتب النبوّة، وأتمّ الله تعالى عليه وله نعمة الاستعداد الأسمى لتلقّي رسالة الخلود! وجاء الملك جبريل أمين الوحي مفاجئًا دون تمهيد لهذا اللقاء الذي لا يماثله لقاء قط بين متلاقيين من المخلوقات! فهو لقاء بين طبيعتين مختلفتين في التكوين أشدّ الاختلاف .. بين طبيعة مزدوجة الإبداع والخلق، فهي بشريّة روحانيّة هي طبيعة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وطبيعة موّحدة الإبداع في أعلى درجات الروحانيّة والاختصاص العلويّ، هي طبيعة أمين الوحي جبريل -عليه السلام! وليس بين إنسان من البشر بكل ما فيه من كمال البشريّة وطبيعتها، وملك بكل ما في طبيعته من روحانيّة لها اختصاصها القدسي في الملأ الأعلى، تناسبٌ يقع به اللقاء لتلقّي كلمات الله المنزلة من غيب عزّه وجلاله، إلا إذا تغلّب الجانب الروحاني من الطبيعة المزدوجة على الجانب البشري منها، تحقيقًا للتناسب والمشاكلة! ومن ثم كان تحبيب الخلوة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بدء النبوّة بوحي الرؤيا الصادقة -كما أسلفنا- أشبه بحضانة لميلاد الرسالة في عهد الإعداد لطور الانتقال إلى تحمّل أعبائها، والقيام بحق تبليغها عامة شاملة للإنسانيّة في مشارق الأرض ومغاربها، بما يختلف عليها من أجيال متتابعة، لا ينقطع توالدها البشري متواردة على مرّ الزمن!

ومن هنا يتجلّى وجه المفاجأة في مجيء الحق، ولقاء الملك، وطلب القراءة ممن لم يكن قارئًا، واستفراغ بشريّته بالغطّ الملائكي المتكرّر مع كل طلب للقراءة التي لم تكن بمفهومها المعهود ممكنة الحصول! وكأن هذا الغطّ بصورته البليغة البالغة هو في حقيقته إذابة لروابط العناصر الطبيعيّة البشريّة عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون إفنائها إفناء يفقدها وجودها، وإنما هو تفتيت لترابط عناصرها، حتى يخفّ وزنها، إلى جانب الطبيعة الروحانيّة، لتشبعها بأنوار الجلال الإلهي، حتى تنفرد بالحركة الوجوديّة في تلقّي الوحي اليقظي، وأخذ كلمات الله من حاملها الأمين! وبقاء الطبيعة البشريّة بحقيقتها الأصيلة وراء مشهد تلقّي الوحي اليقظي ضرورة لتبليغ الرسالة، استجابة للتناسب بين الرسول والأمّة؛ لأنّ كل جنس يأنس بجنسه، والجنس إلى الجنس أميل، وإلى ذلك يشير القرآن الحكيم في قول الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9]! وفي قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [الإسراء: 95]! وإنما أقدر الله -عزّ شأنه- أنبياءه على رؤية الملك لتلقّي الوحي عنه، بخلقه قدرة خاصّة فيهم، مكّنهم بها من ذلك، معجزة لهم لإبلاغهم رسالات الله، ليبلغوها إلى أممهم، وتلك القدرة نبصرها في تغليب جانب الطبيعة الروحانيّة على جانب الطبيعة البشريّة، وإذابة روابط عناصرها، وتفتيت وشائجها الفرزيّة، لتنفرد الطبيعة الروحانيّة بقوة الوجود الخاصّ الذي يتحقّق به تلقّي الوحي عن الملك المرسل به من عند الله العزيز الحكيم!

وحديث بدء الوحي -كما عرفنا- بدأ في جوّ المفاجأة بلا مهل، فطلب الملك من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ، دون أن يذكر له مقروءًا يقرؤه؛ لأنه لم يزد على قوله: {اقْرَأْ}! هكذا أمر من فعل القراءة، مطلق عن التقيّد بمقروء، أيّ مقروء، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم-كما تقضي به البداهة في جوّ المفاجأة التي لم يسبقها في هذا اللقاء تمهيد مؤنس- ينفي معرفته للقراءة؛ لأنه أميّ لا يقرأ، فضمّه الملك إليه ضمّةً شديدة، بالغة الشدّة، عصره بها عصرًا بلغ منه منتهى جهده، وطاقة احتماله البشري .. ثم أرسله الملك، وقال له مرّة ثانية: {اقْرَأْ}! هكذا فعل أمر من القراءة، مطلق عن التقيّد بمقروء -أيّ مقروء- فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المرّة مستفهمًا .. وبعد ذلك -أيضًا- فكان استفهامًا عن الحالة التي يصير بها قارئًا، وهو الأمي الذي لم يعرف القراءة قط، فأخذه الملك وضمّه إليه ضمّةً بالغة الشدّة، استفرغت منه جهده وطاقته، ثم أرسله وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)}! و (ما) في قوله - صلى الله عليه وسلم - في المرّة الأولى: "ما أنا بقارئ"! نافية ومعنى الجواب حينئذ الإخبار بعدم معرفته القراءة، بيانًا لطبيعة أميّته التي وُلد بها، ونشأ عليها، أي ما أنا بعارف للقراءة ولا باشرتها قط؛ لأني أميّ، لم أكن قارئًا قط، ولا تعلّمت قراءة حرف قط، كما جاء صريحًا في بعض الروايات! و (ما) في المرة الثانية: "ما أنا بقارئ"! استفهامة

3 - كمال البشرية وميلاد الرسالة

يراد بها استبانة ما يقرؤه، والمعنى أيّ شيء أقرأ؟ كما يوضحه مجيء العبارة بصيغة الاستفهام الصريح، استخبارًا عما يريد منه أن يقرأه في مرسل ابن عمير: "ماذا أقرأ"؟! و (ما) في المرّة الثالثة: "ما أنا بقارئ" استفهاميّة بمعنى كيف، فهي استخبار عن الحالة التي يكون بها النبي -صلى الله عليه وسلم- قارئًا، وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي: "كيف أقرأ"؟! (¬1) لأنّ تحقيق القراءة منه بعيد جدًا عن حالته التي وُلد عليها، ونشأ بها! وجاء الرد بالآيات استجابة لطلب القراءة المطلق: كن قارئًا إعجازًا، وحقّق القراءة، وأنت على أميّتك، مستعينًا باسم ربّك الذي ربّاك، وأعدّك لرسالتك الخالدة، وليست قراءتك المطلوبة منك أن تقرأ كما يقرأ غيرك تعلّمًا، وإنما أن تقرأ كما يعلّمك الله بعلمه الذي ربّاك في أحضان كرمه، وهو -جلَّ جلاله- كما علّم الإنسان بقلم البيان تعلّمًا سيعلّمك بقلم الفضل والإحسان، لتكون معلّم الدنيا برسالتك الخاتمة لرسالات السماء! وكان هذا أوّل لقاء يقظي بوحي قرآني بين خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - والروح الأمين جبريل -عليه السلام- وهو لقاء محجّب بستور الغيب! 3 - كمال البشريّة وميلاد الرسالة: وقد كان كمال بشريّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ممهدًا لميلاد رسالته .. ذلك أن طبيعة بشريّته التي وُلد بها ميلادًا بشريًّا، ونشأ عليها نشأة إنسانيّة -كما أسلفنا- هي ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: 1: 24.

التي عاش بها إنسانًا مع الناس في حياتهم (¬1)، يعاشرهم، ويتبادل معهم مطالب الحياة التي تقتضيها طبيعة البشر في دائرة أفضل الكمالات التي يمكن أن يكون عليها إنسان في حياته مع الناس! وهذه الكمالات الإنسانيّة هي التي نشأ عليها، وعُرفت له في قومه وبلده، فتزوّج ووُلد له، وقام على رعاية أولاده وزوجه، وأصهر إلى أكرم قومه، وتعاون في أمور العيش وتكاليف الحياة وأعبائها مع أهله وجيرانه، وسائر قومه، يواسي قرابته، ويحسن إلى خدمه، ويكرم ضيفه، ويبرّ إخوانه وأصدقاءه، ويأكل ويشرب .. وينام ويصحو، ويغضب ويرضى، ويعطي ويأخذ، ويسافر ويحضر، ويثيب على ما يقدم إليه من خير أفضل منه، ودود كريم، حييّ حليم، يصدق الحديث، ويؤدّي الأمانة، وفيّ بالعهد، سليم الصدر، يعين الضعفاء، أغنى الناس بالقناعة، وأجودهم بالعطاء، يألف ويؤلف، عزوف عن الدنيا، لا يزاحم عليها، ولا يخاصم في شيء منها، يلجأ إليه قومه، ويشاركهم في أعمال الشرف والمروءة! وهو - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كله من مآثر طبيعته البشريّة لا بدّ أن يكون دائبًا على تبليغ رسالة ربّه، يدعو إلى الله تعالى، ويرغب في الخير، ويعظّم في أنفسهم نعم الله عليهم، ويجاهد أعداء الله، ويقيم موازين العدل! وهكذا كان يقوم في ظل طبيعته البشريّة بكل ما تتطلبه حياة الناس بما كان لهم من أعراف عادلة، وعادات فاضلة، وأخلاق عالية، وخلائق نبيلة، في حدود كمالاته الإنسانيّة التي نشأ عليها جبلّة وتخلّقًا، مع عظيم قيامه بحق تبليغ رسالته، فلم يقع منه في حياته البشريّة ما يفسد الفطرة الأصيلة ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 281 وما بعدها بتصرف.

النقيّة الطاهرة .. لم يقع ما يغمط حق العقل الإنساني في إدراكاته ومعارفه، ولم يقع منه قط ما يخدش وجه الفضيلة، فهو - صلى الله عليه وسلم - كما أسلفنا- أكمل البشر خَلْقًا وخُلُقًا، وأعدلهم عملًا، أرسله الله رحمة للعالمين بالهدى ودين الحق! وهذه الطبيعة البشريّة تعني شخصيّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، التي عرفه الناس عليها، وعرفته الحياة كلها بها، وعرفه التاريخ بخصائصها إنسانًا من الناس، اصطفاه الله نبيًّا ورسولًا، بلّغ الناس رسالة ربّه، فهدى الله به من شاء من عباده، ويهدي لرسالته من يشاء من خلقه! فهي أحد جانبي طبيعته الزدوجة من عناصر البشريّة وخصائصها الماديّة والروحيّة العامة، التي لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بتكامل تلك الخصائص الإنسانيّة بشقّيها المادي والروحي العام! وبهذا التصوير يتبيّن وجه اعتبارها جانبًا من جانبي الطبيعة المزدوجة لشخصيّة (محمَّد رسول - صلى الله عليه وسلم -)، وبالفواصل الخصائصيّة بينها وبين الجانب الروحاني يتبيّن وجه اعتبارها طبيعة مستقلة بالنسبة إلى خصائص الجانب الروحاني الذي اعتبرناه -بالنظر إلى خصائصه- طبيعة مستقلة، ولكن الوشائج التي تربط بين الجانبين أو الطبيعتين أقوى من الفواصل الخصائصيّة بينهما! ومن ثم نبصر ميلادًا جديدًا للحياة جدّد معالمها، يوم أن تمّ أول لقاء بملك الوحي يقظة في (غار حراء) .. ذلك الميلاد هو ميلاد الرسالة بخصائصها في أكمل الكمالات الروحانية، وأعظم إشراقاتها العقليّة، وأنوارها العليّة، وتناسباتها الملائكيّة! هذه الطبيعة الروحانيّة هي الميلاد الجديد، ميلاد (رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -) الذي كان في الحقيقة ميلادًا للحياة، تجدّدت به معالمها، وتغيّرت به طرائقها،

واستقامت على سننه هدايتها، وقامت على دعائمه موازينها، واستنارت بنوره مسالكها، متدرّجة في مراحل نموّها الحضاري والفكري! هذه الطبيعة الروحانيّة هي التي تلقّى ويتلقّى بها (محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) عن الله تعالى ما يلقيه إليه الملك في وحي اليقظة والمواجهة، وهو - صلى الله عليه وسلم - على أكمل مراتب إحساساته، وأتمّ درجات شعوره ويقظة مشاعره، وأعلى إدراكات عقله، وأضوأ إشراقات روحه، وأقرب منازل قربه! وبهذه الطبيعة الروحانيّة كان يَلْقَى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمين الوحي جبريل -عليه السلام- في صور وتشكلات ملائكيّة مختلفة المظهر -كما أسلفنا- تجلّ عن مدارك العقول؛ فلا يُستطاع تحديدها بصورة معيّنة، أو بشكل خاص، يلتزمها في جميع لقاءاته بالرسول - صلى الله عليه وسلم -! ويهذه الطبيعة كان - صلى الله عليه وسلم - يتقبّل ما يُلقى إليه من ضروب الوحي في رسالته، ليبلّغه إلى الناس هدايةً ورحمةً، ونورًا وبرًا، وعدلًا ومحبّة، وإخاءً ومساواةً وإيثارًا ومواساةً! وهذه الطبيعة الروحانيّة باستعلائها على الطبيعة البشريّة تُذيب خصائص البشريّة الماديّة عند الرسول - صلى الله عليه وسلم -، اتقاء لاستحواذها عليه، وتغلّب الخصائص الروحانيّة لتكون كاملة التجلّي الباطن، مشرقة الشفافية، ليتحقّق بها التناسب بين طبيعة الملك التي يلقاه عليها الروح الأمين في أكثر حالات وحي اليقظة، وبين طبيعة البشر التي تبقى للنبي -صلى الله عليه وسلم- مظاهرها كاملة في تلقي وحي المشافهة، إبقاء على مرتبة التناسب البشري في التبليغ!

4 - خصيصة النبوة الخاتمة

4 - خصيصة النبوّة الخاتمة: هذه المزاوجة بين الطبيعة البشريّة والطبيعة الروحانيّة خصيصة النبوّة الخاتمة، والرسالة الخالدة، رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم-، فلا تحجب قوّة الإشراق الروحاني عنده منافذ الحسّ البشري من شخصيّته، بل يبقى لكل طبيعة خصائصها عند التبليغ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المزاوجة بين الطبيعتين بشريّ المظهر، ملائكيّ المخبر، فهو مع الناس ببشريّته الكاملة، وهو مع الملأ الأعلى بروحانيّته الكاملة! وهذه الطبيعة الروحانيّة مع أنها تذيب خصائص البشريّة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتغلِّب عليها الخصائص الروحانيّة كاملة التجلّي الباطني، والإدراك العقلي، والإشراق الروحي -لا تفقد بها بشريّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عناصر الإدراك الحسّي، والإحساس الشعوري، ولا تتأثّر منافذ التصوّر بها؛ بل إن هذه المنافذ تكتسب قوة تكون بها في أكمل حالات التنبّه، وأعلى مراتب الوعي -كما سبق في الحديث: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثّل لي الملك رجلًا فيكلّمني فأعي ما يقول"! قالت عائشة -رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقًا! وهذه الحالة التي تمثّلها الطبيعة الروحانيّة عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أشبه في صورتها العكسيّة بحالة الملك، حين يتمثّل رجلًا، فيكلّم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما يكلّم الرجل الرجل، فيعي عنه ما يقول!

وتمثُّل جبريل عليه السلام في صورة رجل اختيار لشكل بشري تتغلّب فيه مظاهر الطبيعة البشريّة على مظاهر الطبيعة الملائكيّة التي هي باقية كامنة كاملة، كما بقيت طبيعة البشريّة كامنة كاملة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حين تلقّى وحي اليقظة والمواجهة، وهذا التمثّل يقع تأنيسًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-! وتغلّب مظاهر البشريّة في حالة تمثّل الملك رجلًا لا يقتضي تحوّل روحانيّة الملك إلى طبيعة بشريّة بعناصرها الماديّة، ونوافذ إدراكاتها الحسيّة، ولا يقتضي فناء الحقيقة الملائكيّة، بل إن طبيعة الملك الروحانيّة باقية حال التمثّل في صورة بشريّة على أكمل حالاتها التي لها في الملأ الأعلى، لكنها تكون حين التمثّل مقيّدة بالصورة التي تشكّل فيها عند مجيئه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليبلّغه عن الله ما أمر بتبليغه، ولا سيّما إذا كان هذا التبليغ، يتعلّق بتعليم الناس أمر دينهم، وينتهي تقيّدها بالصورة التي تمثّلت في إهابها بانتهاء التبليغ والتعليم، كما ثبت في حديث تمثّل جبريل -عليه السلام- فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يومًا بارزًا للناس، إِذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله!، ما الإِيمان؟ قال: "الإِيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر" قال: ما الإِسلام؟ قال: "الإِسلام أن تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان"! قال: يا رسول الله! ما الإِحسان؟ قال: "الإِحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك" قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن ساحدّثك عن أشراطها: إِذا ولدت الأمة ربّتها فذاك من أشراطها، وإِذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك

من أشراطها، في خمس لا يعلمهن إِلا الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] ثم انصرف الرجل، فقال: رُدُّوا عليّ، فأخذوا ليّردُّوا فلم يروْا شيئًا، فقال: "هذا جبريل جاء ليعلّم الناس دينهم" (¬1)! وقد كانت حالة تغلّب الطبيعة الروحانيّة عند النبي -صلى الله عليه وسلم- على الطبيعة البشريّة أشدّ ما كان يلقاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حالات الوحي، وهي التي عُبِّر عنها بصلصلة الجرس، ودويّ النحل -كما أسلفنا- وهي لا تكون إلا في وحي اليقظة! وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)} [القيامة: 16]! قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعالج من التنزيل شدّة، وكان مما يحرّك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحرّكهما لكم، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحرّكهما! وقال سعيد: أنا أحرّكهما كما رأيت ابن عباس يحرّكهما -فحرك شفتيه- فأنزل الله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}! قال: جَمْعُه لك في صدرك وتقرؤه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمِع له وأنصِتْ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4777)، وانظر (50)، وخلق أفعال العباد (26)، ومسلم (8)، والطيالسي (2)، وابن أبي شيبة: 11: 44، 45، وأحمد: 1: 27، 28، 51، 52، وأبو داود (4695، 4696، 4697)، والترمذي (2610)، والنسائي: 8: 97، وابن ماجه (63)، وابن خزيمة (1: 2504، 3065)، وابن منده: الإيمان (1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 185، 186)، والبيهقيُّ: الشعب (393)، والبغويُّ (2)، وابن حبّان (168، 173).

5 - تهافت الملاحدة

(القيامة)! ثم إِن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إِذا أتاه جبريل استَمع، فإِذا انطلق جبريل قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قرأه (¬1)! 5 - تهافت الملاحدة: وقد تعلّق بهذه الشدّة التي كان يلقاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، عند نزول الوحي عليه في يقظته، ومواجهة الملك -كما أسلفنا- قوم من أحلاس الشرك والنفاق وعبيد الإلحاد والكفر والاستشراق، قديمًا وحديثًا، فنبزوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بألقاب السوء، وتقوّلوا عليه، ليشكّكوا في نبوّته ورسالته، مما أوحت به إليهم شياطينهم، من الكذب وقول الزور افتراءً على الله ورسوله! وقد ردّ الله تعالى عليهم فريتهم وأكاذيبهم، بعد أن حكاها عنهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} [الأعراف: 184]! وهنا نبصر تصويرًا لتجنّي هؤلاء الفجرة من طغاة الكفر وجهالتهم الضالة، وأنهم قوم بُهت، لا يصدر منهم القول عن نظر وتدبّر، ليعرفوا الحق من الباطل، وليست لهم بصائر يتفكّرون بها في مبادئ الأمور وعواقبها، وقد ¬

_ (¬1) البخاري: 1 - بدء الوحي (5)، وانظر (4927، 4928، 4929، 5044، 7524)، وخلق أفعال العباد: 45، 46، ومسلم (448)، والطيالسي (2628)، والحميدي (527)، وابن سعد: 1: 198، وأحمد: 1: 220، 343، والترمذي (3329)، والنسائيُّ: 2: 149، والكبرى (917، 7978، 11634، 11635)، وفضائل القرآن (3)، والتفسير (654، 655، 656)، والطبري: التفسير: 29: 187، والبيهقي: الأسماء والصفات: 1: 321، والدلائل: 7: 56، والبغوي: التفسير: 4: 423، والطبراني: الكبير (12297)، وابن حبّان (39). (¬2) محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 1: 288 وما بعدها بتصرف.

أبرزت الآية الكريمة ذلك في أسلوب إنكاري مفعم بالتقريع والتوبيخ لما أهدروه من مدارك عقولهم، ولِدَمغهم بالكذب والبهتان، والتسجيل عليهم أنهم قالوا قولًا باطلًا، لو تفكّروا فيه، وتدبّروا مداخله ومخارجه لعلموا بطلانه بداهةً! ذلك أن مَنْ به مسّ من الجنون يصرعه ويتخبّطه لا يمكن أن يصدر عنه كلام في أعلى درجات البراءة البيانيّة باعتراف غطارفة الفصاحة فيهم -كما سيأتي- وهو مع ذلك يحمل في عباراته أجلّ المعاني الإنسانيّة، وأسمى الحقائق الكونيّة، وأدق النظم الاجتماعيّة، وأصدق القضايا العقديّة، وأزكى الآداب الخلقيّة، وأفضل الشرائع التعبديَّة، ثم يبقى دهره كله على أرفع سنن الاستقامة، وزكانة الرأي، وجودة التفكير، لا يخالف قوله فعلُه، ولا تختلف آدابه وأخلاقه، يعرف أعداءه -كما أسلفنا- أمانته وصدق حديثه، وبرّه ووفاءه، وشجاعته ومكارم أخلاقه! وها هو القرآن الحكيم، قائم بين أظهركم، وفي متناول أيديكم وعقولكم، فاقرؤوه وتعمّقوا فهمه، وحاولوا بكل ما أوتيتم من قوّة، وادعوا معكم شهداءكم من شياطين الإنس والجن لتستخرجوا معنى متهافتًا يشعر بأن من أتى به بعيد عن استقامة المدارك العقليّة، وقد تحدّاهم القرآن بآياته، فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24]! والتدبّر طلب المعنى بالقلب والعقل، وذلك هو ما يسمّيه منطق الفلسفة بالنظر والتعقّل، ونتيجته هي العلم اليقين! وها هو تاريخ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. وتلك أحاديثه وسننه وآدابه وأخلاقه وشريعته، بين أنظاركم، فانظروا وتفكّروا في جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه -ولن تستطيعوا- ما يقيم عوج دعاواكم، وأود أباطيلكم، ولكنكم علمتم

أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله ليقوّض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد، وينذر الذين لوّوا رؤوسهم عن قبول الحق بعذاب الله وبأسه، والذين ينغضون اليوم رؤوسهمِ جحودًا وعصبيّة عمياء ببطش الله وعقابه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل: 13، 14]! والآيات كثيرة العدد، كاشفة عن الحق، حتى ليبصره كل من له عينان .. وهي مبصرة تقود إلى الهُدى، ومع هذا: {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}! قالوا ذلك لا عن اقتناع بما قالوا، ولا عن شبهة، إنما قالوا: {ظُلْمًا وَعُلُوًّا}! وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}! لأنهم لا يريدون الإيمان (¬1)، ولا يطلبون البرهان، استعلاء على الحق، وظلمًا له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم! وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن، ويستيقنون أنه الحق، ولكنهم يجحدونه، ويجحدون دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيّاهم إلى الله الواحد! وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون؛ لأنهم لا يعرفونه، بل لأنهم يعرفونه، ويجحدونه، وقد استيقنت ذلك نفوسهم؛ لأنهم يحسّون الخطر فيه على أوضاعهم الباطلة ومغانمهم الدنيا الهابطة، فيقفون في وجهه مكابرين، وهو واضح مبين: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 2630 بتصرف.

وعاقبة فرعون وقومه معروفة .. كشف عنها القرآن في مواضع أخرى .. وهنا يشير إليها هذه الإشارة، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه، قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين! ويطالعنا قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)} [سبأ: 46]! وهنا نبصر دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق (¬1)، ومعرفة الافتراء من الصدق، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل! نبصر دعوة إلى القيام لله -عَزَّ وَجَلَّ- بعيدًا عن الهوى، بعيدًا عن ملابسات الأرض، بعيدًا عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب، فتبعد به عن الله، بعيدًا عن التأثّر بالتيارات السائدة في البيئة، والمؤثّرات الشائعة في الجماعة! نبصر دعوة إلى التعامل مع الواقع الواضح، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة، ولا مع العبارات المطاطة، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة الواضحة! نبصر دعوة إلى منطق الفطرة الهادئ الصافي، بعيدًا عن الضجيج والخلط واللبس، والرؤية المضطربة، والقبس الذي يحجب صفاء الحقيقة! وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة .. منهج ميسّر يعتمد على التجرّد من الرواسب والغواشي والمؤثّرات، وعلى مراقبة الله تعالى وتقواه! ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 2914 بتصرف.

وهي (واحدة) .. إن تحقّقت صحّ المنهج، واستقام الطريق .. القيام لله .. لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة .. التجرّد .. الخلوص .. ثم التفكّر والتدبّر بلا مؤثّر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجرّدون! {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}! مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي، من غير تأثّر بعقليّة الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجّة في هدوء .. وفرادى مع النفس وجهًا لوجه في تمحيص هادئ عميق! {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}! فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبّر والرزانة، وما يقول شيئًا يدعو إلى التظنّن بعقله ورشده، إن هو إلا القول المحكم القويّ المبين! {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}! لمسة تصوّر العذاب الشديد وشيكًا أن يقع، وقد سبقه النذير بخطوة، لينقذ من يستمع، كالهاتف المحذّر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفرّ من الحريق، وهو تصوير فوق أنه صادق، بارع موح مثير! وتمضي الآيات في الدعوة إلى التفكّر الهادئ البريء .. وسؤال أنفسهم عما يدعو إلى القيام بإنذارهم بين يدي عذاب شديد .. ما مصلحته؟ ما بواعثه؟ ماذا يعود عليه؟ ويأمره أن يلمس منطقهم، ويوقظ وجدانهم إلى هذه الحقيقة في صورة موحية! {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ

شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} [سبأ: 47 - 50]! {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}! خذوا أنتم الأجر الذي طلبته منكم! وهو أسلوب فيه تهكّم، وفيه توجيه، وفيه تنبيه! {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}! هو الذي كلّفني، وهو الذي يأجرني، وأجره هو الذي أتطلّع إليه، ومن يتطلّع إلى ما عند الله فكل ما عند الناس هيّن عنده هزيل زهيد، لا يستحق التفكير! {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}! يعلم ويرى ولا يخفى عليه شيء .. فيما أفعل وفيما أنوي وفيما أقول! ويشتدّ الإيقاع الثالث، وتقصر خطاه! {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)}! وهذا الذي جئتكم به هو الحق القوي الذي يقذف به الله، فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به الله؟! إنه تعبير مصوّر مجسّم متحرّك، وكأنما القدر قذيفة تصدع وتخرق وتنفذ، ولا يقف لها أحد في طريق! يقذف بها الله {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}!

فهو يقذف بها عن علم، ويوجّهها على علم، ولا يخفى عليه هدف، ولا تغيب عنه غاية، ولا يقف للحق الذي يقذف به معترض ولا سدّ يعوق، فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور .. ويتلوه الإيقاع الرابع في مثل عنفه وسرعته! {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} جاء هذا الحق في صورة من صوره، في الرسالة، وفي قرآنها، وفي منهجها المستقيم .. جاء الحق بقوّته وبدفعته وباستعلائه وسيطرته! {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}! فقد انتهى أمره، وما عادت له حياة، وما عاد له مجال، وقد تقرر مصيره، وعرف أنه إلى زوال! إنه الإيقاع المزلزل، الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال .. وإنه لكذلك! فمنذ بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - استقرّ منهج الحق واتضح، ولم يعد الباطل إلا مماحكة ومماحلة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم! ومهما يقع من غلبة ماديّة للباطل في بعض الأحوال والظروف، إلا أنها ليست غلبة على الحق؛ إنما هي غلبة الناس لا المبادئ، وهذه موقوتة ثم تزول .. أما الحق فواضح بيّن صريح! والإيقاع الأخير! {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}!

6 - إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم -

فلا عليكم إذن إن ضللت، فإنما أضلّ على نفسي، وإن كنت مهتديًا فإن الله هو الذي هداني بوحيه؛ لا أملك لنفسي منه شيئًا إلا بإذنه، وأنا تحت مشيئته أسير فضله! {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}! ونعود إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}! نعود لنبصر أنهم أعرف الناس بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لم يفارقهم ولم يفارقوه، بل صحبهم وصحبوه، ولازمهم ولازموه، فهل عرفوا عنه طول حياته بينهم شيئًا يخدش إدراكاته العقليّة، وإحساساته ومشاعره الإنسانيّة؟! لقد صدق الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33]! 6 - إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم -: وتلقّي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الله -جلَّ شأنه- برسالته، وتقديره لعظمتها، وعرفانه بأثقال أعبائها هو الأساس الذي يقوم على دعائمه بناء رسالته الخالدة .. وهو القوّة التي أمدّ الله تعالى بها خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - منذ ميلاد رسالته، في أول لقاء يقظي لجبريل أمين الوحي في غار حراء .. ومن ثم حملها مؤمنًا بها أشدّ وأقوى ما يكون إيمان، مغتبطًا بفضلها أعظم ما يكون اغتباط، وقام بأعبائها صبورًا شكورًا، صفوحًا كريمًا، وفيًا بعهدها وما يجب لها، دؤوبًا على تبليغها ونشر هدايتها!

7 - أم المؤمنين خديجة أعرف بقدر محمد - صلى الله عليه وسلم -

وإيمان النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أنزل الله من ربّه هو إيمان التلقّي المباشر .. تلقّي القلب النقيّ للوحي العليّ، واتصاله المباشر بالحقيقة المباشرة .. الحقيقة التي تتمثّل في كيانه بذاتها من غير كدّ ولا محاولة، وبلا أداة أو واسطة .. وهي درجة من الإيمان لا مجال لوصفها، فلا يصفها إلا من ذاقها، ولا يدركها من الوصف -على حقيقتها- إلا من ذاقها كذلك! وقد أوتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قوّة الاحتمال والصبر على فوادح الشدائد ما لم يؤته أحد من البشر! واستحضار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعباء ما كلّفه، وأثقال ما ينتظره في تبليغ رسالته إلى الخلق، حريّ أن يضيء معالم الطريق! 7 - أم المؤمنين خديجة أعرف بقدر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: ونجد أنفسنا أمام قول أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها: (كلاّ والله! ما يخزيك الله أبدًا، إِنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق)! هذه الكلمات المشرقة بنور الإيمان الفطري (¬1)، النابعة من ضمير الغيب، إلهامًا من وحي اليقين بمخايل الحقيقة الكبرى في تصوّر مستقبل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، تضيف إلى يقين النبي -صلى الله عليه وسلم- وثباته أمام الأحداث، ورباطة جأشه في ملاقاتها، تثبيتًا يزيده قوّة إلى قوّته، ويسرّي عنه ما ألمّ بخياله، ويمسح عن خواطره ما عسى أن يكون طاف بها من تخوّف العقبات في سبيل انطلاقه برسالته؛ بل إن خديجة - رضي الله عنها - تريه بهذه الكلمات المشرقة أنها تستبعد كل الاستبعاد ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 1: 307 وما بعدها بتصرف.

أن تضعف قواه البشريّة عن تحمّل أثقال ما حُمّل من أعباء الرسالة، وحرصًا منه - صلى الله عليه وسلم - على تمكّنه من تبليغ رسالة ربّه، وتخطي ما تصوره من العقبات في سبيل ذلك التبليغ! وتضيف هذه الكلمات المشرقة إلى ما تحلّى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قوّة اليقين والصبر ضرويًا من المصابرة، تزيد في شحنة عزيمته على المضيّ قدمًا في طريق أداء واجبه نحو هذه الإنسانيّة المعذّبة في الأرض، ليخرجها من ظلمات العبوديّة الوثنيّة بصورها وأشكالها الكافرة بتوحيد الله تعالى، وإفراده بالتعبد له وحده، إلى نور التحرّر والمساواة الإنسانيّة في الحقوق والواجبات! وكانت كلمات الإيمان الفطري -من الزوجة الأمينة الوفيّة، وزيرة الصدق، ومأنس القلب والروح، أعقل نساء العالمين -تستشرف أفق مستقبل محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أطوار رسالته بأمل فسيح أفيح، موصول بأخصّ عناصر حياته الخُلُقية، وأفضل فضائل الإنسانيّة النبيلة، مجموعة في طبيعة إنسان، وُلد بها، وشبّ واكتهل عليها، فكانت -كما أسلفنا- معالم لشخصيّته - صلى الله عليه وسلم - بين قومه، يعرفونه بها عَلَمًا مفردًا في اكتمالها فيه، وكماله فيها، ولم يعرف فيهم أحد اجتمعت له هذه الخصال دون أن يشوبها إفراط يخرج بها عن مقاييس الفضائل، أو يلحقها تفريط يقصّر بها عن مدى محاسن الشمائل! والماضي -أبدًا- في حياة المصطفين المخلصين صفحة تكتب فيها الحياة بقلم الغيب المكنون أنباء معالم مستقبلهم في رسالاتهم، الأصفياء هم القادرون على قراءة ما كتب قلم الغيب في صحيفة المصطفين ليقرؤوا في ضوئها معالم مستقبلهم وهم أندرُ في وجودهم من وجود العقل الشفيف الذي يستشفّ بخاصة إدراكه ما وراء الحجب، فيلمح خيط القدر الحكيم، وهو يربط ماضي

من اختير لحمل أعباء الرسالة الإلهيّة بمستقبله بنور المدد الإلهي، ولن تظهر لهذا العقل الشفيف في استشفافه نقط المحن وفوادح النوازل على رقعة حياة هؤلاء المخلصين؛ لأنّ أشعة العزائم المنبعثة من آفاق رسالاتهم، وقوّة الحق الممدّدة لأرواحهم تغطي بظلالها النورانيّة نقط المحن ونوازل البلاء، فلا يراها الناظرون إلا ريثما يتحفّز المخلصون إلى وثبات الإقدام في طريق عزائمهم المؤيّدة بقوى الحق والخير، المستضيئة بنور الهُدى والرشاد! ويتفاضل المخلصون في ذلك بتفاضل رسالاتهم، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]! وقال جلّ شأنه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]! وكل صاحب رسالة يُعطى من الفضل وقوّة الصبر والمجاهدة على قدر رسالته، وما جعل الله فيها من عموم الخير والإصلاح والهداية .. وعموم رسالة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - تشريعًا وزمانًا ومكانًا وأجيالًا وإصلاحًا، جعلها الله أفضل الرسالات الإلهيّة، وجعل رسولها أفضل الرسل، وجعل أمّته أفضل الأمم، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]! وذلك لما أعطيت من فضيلة الوراثة في التبليغ ضمانًا لخصيصة العموم والخلود في رسالة خاتم النبيّن محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وكان للرسول -صلى الله عليه وسلم- من فضل قوّة الاحتمال ما تميّز به - صلى الله عليه وسلم - في مستقبل دعوته! ومن ثم قال ربّه تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]!

فهو - صلى الله عليه وسلم - مكلّف أن يجمع إلى صبره صبر جميع أولي العزم من المرسلين، وإلى عزيمته في القيام بحق رسالته قُوى عزائمهم في قيامهم بحق رسالاتهم! ومن هنا قيل له بعد ذكر الأكابر من المرسلين في معرض الثناء عليهم، والحفاوة بهم، وأن الله آتاهم الكتاب والحكمة والنبوّة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]! فخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - مأمور من ربّه أن يجمع إلى هداه هدى أولئك الأكابر من المصطفين المخلصين! فالسيدة خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - كانت صفوة الندرة في إلهامها قراءة ما كتب قلم الغيب في صحيفة ماضي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من أنباء معالم مستقبله في رسالته، فترجمت بكلماتها النورانيّة عنوانات تلك المعالم في مستقبله نبيًّا ورسولًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا! ولهذا كانت - رضي الله عنها - في سجل الرسالة المحمديّة نفحة من نفحات المدد الإلهي لم تتكرّر ولن تتكرّر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم! وقد قالت خديجة - رضي الله عنها - وهي تردّ على تساؤله الذي بدا فيه من الإشفاق على مستقبل دعوته التي كُلِّف تبليغها، تستبعد ما عسى أن يكون قد خطر في خواطره: كلاّ، والله! ما يُخزيك الله أبدًا! كلاّ، يا أكمل الكملة، لن يقع لك ما تتخوّفه على نفسك الزكيّة العليّة من ضعف عن تحمّل أعباء ما شرّفك الله به من رسالة الخلود، ولن تعجز عن القيام بموجبات تبليغها؛ لأنّ الله تعالى هو الذي اختارك لها، وهو أعلم حيث

8 - صدق الحديث

يجعل رسالته، وقد فطرك على أفضل ما فطر عليه أحدًا من خلقه، فلن يخزيك أبدًا، ولن يحزن قلبك العظيم بوقوع شيء مما تشفق منه وتخافه على نفسك، لأنّ فيك من خصال الجبلّة الكماليّة، ومحاسن الأخلاق الرضيّة، وفضائل الشيم المرضيّة، وأشرف الشمائل العليّة، وأكمل النحائز الإنسانيّة ما يضمن لك الفوز، ويحقّق لك النُّجح والفلاح، وستظفر بطلبتك، وتؤدّي رسالتك، ويخلد ذكرك! 8 - صدق الحديث: فأنت الصدوق المصدّق، وأنت الصادق الأمين تصدق الحديث سجيّة، فلا يرد لك قول بشبهة مجانبة الحقيقة والواقع، فإذا قلت قالت الدنيا من حولك: صدقت، فما جرّب عليك أحد كذبًا، فلا يماريك أو يجادلك فيما تقول ممارٍ أو مجادل! كيف وقد عرف لك ذلك قومك على صلفهم وعنجهيّتهم، وخلافك عليهم في عوائدهم ووثنيّتهم، فدعوك بينهم (الأمين) لا يعرفون لك لقبًا غيره، وقد جهروا علانية في جمعهم معترفين له بهذه الخصلة النبيلة، خصلة الصدق في الحديث، شاهدين على أنفسهم له بها، حينما جمعهم لينذرهم، قيامًا بأمر الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]! فقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (¬1): لمّا ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4770)، وانظر (4971)، ومسلم (208)، والطبري: جامع البيان: 19: 121، وابن منده: الإيمان (949، 950)، والبيهقيُّ: الدلائل: 2: 181 - 182، والبغويّ: شرح السنة (3742)، ومعالم التنزيل: 3: 400 - 401.

نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}! صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عديّ" -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إِذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: "أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصَدِّقيّ؟ " قالوا: نعم، ما جرّبنا عليك إِلا صدقًا، قال: "فإِني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؛ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد 1: 2]! وقد اعترف له بها أبو سفيان بن حرب قبل أن يسلم -كما عرفنا- وسبق أن ذكرنا طرفًا من ذلك! وصدق الحديث ينزل من الفضائل الإنسانيّة التي تتخذها الحياة معبرًا إلى إدراك الغايات للنفوس السامية، المتسامية بسموّها عن مطالب الأرض، وصغار الأماني، منزلة العنوان من الكتاب، يستسرع الناظر إليه تعرّف ما طوي عليه الكتاب من حقائق الفكر في متقلّبات الحياة، تجذب إليها أنظار المتطلّعين الذين يستشرفون أنوار الكمال من آفاق الحياة! وإذا كان الصدق سجيّة في حياة إنسان كان صدقه الذي لا تشتبه معالمه آية من آيات الله على أنه إنسان اكتملت خصائصه، واتسقت عناصر إنسانيّته، فلا تميله الأهواء، ولا يخدعه غرور الحياة. فكلمته فصل، وقوله فرقان مبين! وهكذا كانت سجيّة صدق الحديث في حياة محمَّد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعيش بين أحضان مجتمعه إنسانًا كغيره من رجالات قومه، لا يميزه عن آحادهم في عيشه وكدّه في سعيه ثراء مالي، ولا بطش بدني، ولا تسلّط

9 - صلة الرحم

فكري، وإنما كان امتيازه بينهم أنه المثل الأعلى لمعالي المكارم، ومكارم المعالي، يعرفونه بـ (الصادق الأمين) أكثر مما يعرفه باسمه، لا يمسهم في محافل رذائلهم، ولا يقرب من أندية وثنيّاتهم، ولا ينزل من علياء استقامته إلى مباءات مفاسدهم وشرورهم، تسامى بنفسه -وهو بينهم كأحدهم- عن كل ما يخدش سيرته، أو يقتحم عليه سريرته، عاشرهم في شوارف حياتهم، وخالطهم فيما يأثرون من مفاخر الفضائل الإنسانية فيهم! فكانت سجيّة صدق الحديث فيه عنوانًا على ما طوى الغيب في كتاب مستقبله في رسالته الخالدة، وكشفت إشراقات إيمان أمّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- عن مضامن ما طواه العنوان من جميل صنع الله في أفضاله عليه بإحسانه إليه، وإسباغه أجلّ نعمه عليه إذ أرسله رحمةً للعالمين! وطارت خديجة -رضي الله عنها- بأجنحة الإيمان، وصدق اليقين، ويقين التوسم إلى ربض علّيّين، حيث أعدّ الله لها ما أعده للصّديقين، والله يهدي من يشاء من عباده بفضله، وهو العزيز الحكيم! 9 - صلة الرحم: وصلة الرحم فضيلة إنسانيّة من أفضل وأشرف الفضائل الاجتماعيّة التي تربط الأفراد والأسر بوشائج الودّ والإخاء، تقرّب البعيد، وتُدني القصيّ، وتردّ الشارد، وتغسل الأحقاد، وتزرع المودّات! وتتجلّى هذه الفضيلة الإنسانيّة في حسن المعاملة، وإحسان العشرة، ومشاركة البرّ، ومواساة الإحسان، وإيثار الفضل في المنافع، مع نقاء السريرة وبهجة العلانية، ومعاونة المحتاج، وتبادل الخيرات، والعفو عن الزلات!

وهي أقدر الفضائل على توثيق عرى المحبّة بين ذوي القربى، تجمع القلوب على الصفاء، وتشدّ أواصر التآخي، تجمع حول من يتحلّى بها، ويبذل في سبيلها الجود والرحمة، ينفق مما ملكت يمينه، ويبذل في غير منٍّ ولا رياء، لذوي رحمه وقرابته، بالتعاطف والتراحم، وسماحة المكارم، فيحبّونه، ويحبّون الخير عنده، يدافعون عنه إذا حاول أحد النيل منه، يبادلونه المنافع في غير أثرة ولا طمع، يخلصون له الودّ، ويشاركونه بأساءه، ويقاسمونه سرّاءه، يفرحون لفرحه، ويألمون لألمه، إن أحزنه شيء تعرّفوا مصادره فدرؤوها عنه إن استطاعوا، فإن لم يستطيعوا كانوا معه في أحزانه حتى يسرّى عنه! كذلك كانت هذه الفضيلة الاجتماعيّة مغروسةً في خلائق محمَّد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، تجلّت آثارها واضحة في حياته - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوّته، فأحبّه من أحبّه منهم .. واستجاب من استجاب لدواعي هذه الفضيلة من محاسن شمائله، فدخلوا معه في حصار الشّعب -كما سيأتي- من آمن منهم بدعوته، ومن لم يؤمن، وصبروا على بلاء هذا الحصار الظلوم الجهول الغشوم وجهده، واحتملوا فيه ما حُملوا من الإجاعة والقطيعة وجهد البلاء، لا لمجرّد العصبيّة القبليّة، والنخوة العنصريّة، فقد أبى أن يشارك في هذه المحنة القاسية كثيرون، وهم أشدّ العرب حميّة وتعصّبًا قبليًّا، ولكن الذين قبلوا أن يستظلّوا بلوائه في الترابط الرحمي إنما صنعوا ذلك تحقيقًا لمقتضيات التواصل مع من عرفوه أوصل الخليقة للرحم، وأبرّ الناس بذوي القربى، محمَّد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - الصادق في ودّه ووصله، الأمين في حفاظه لوشائج القربى والرحم! وسبق أن ذكرنا ما رواه الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أنزل الله -عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214] قال: "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتَرُوا لأنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفيّة عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئًا"! وفي رواية لأحمد وغيره بسند صحيح عنه - رضي الله عنه -: جعل يدعو بطون قريش بطنًا بطنًا: "يا بني فلان، أنقذوا أنفسكم من النار"! حتى انتهى إِلى فاطمة فقال: "يا فاطمةُ بنتَ محمَّد، أنقذي نفسك من النار، لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها ببلالها" (¬1)! ومعنى ذلك أن كفركم وعدم قبولكم لدعوتي، والإيمان برسالتي، لا يمنعني من صلة رحمكم في الدنيا، ولا أغني عنكم في الآخرة من الله شيئًا؛ لأنّ صلة الرحم ومودّة ذوي القربى من أصول المكارم الإنسانيّة التي لا يحول دونها في شرعة الفضائل -كفر ولا عصيان! ولأمر ما جاء التنويه بشأن هذه المكرمة من أصول مكارم الأخلاق لموضعها من سجايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القرآن الكريم، قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]! ¬

_ (¬1) البخاري: 55 - الوصايا (2753)، وانظر (3527، 4771)، والأدب المفرد (48)، ومسلم (206)، وأحمد 2: 333، 360، 519، والترمذي (3184)، والنسائيّ: 6: 248، 249، والتفسير (397)، والطبري: التفسير: 19: 120، وأبو عوانة: 1: 94، والطحاوي: شرح المعاني: 4: 387، والطبراني: الأوسط (8506)، والبيهقيُّ: 6: 280، والدلائل: 2: 177، وابن حبّان: (646، 6549).

فقد جعلت الآية الكريمة المودّة في القربى وصلة الرحم أقصى ما يطلبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجرًا ومكافأة من قومه على ما جاءهم به من هُدى وخير، فهو لا يسألهم مالًا يرزؤهم به، ولكنه يطلب إليهم أن يوادّوه ويصلوا رحمه بأرحامهم! والمعنى كما قال ابن كثير: قل يا محمَّد لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ، والنصح لكم مالًا تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شرّكم عنّي، وتذروني أبلغ رسالات ربّي، إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة (¬1)! وروى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}! فقال سعيد بن جُبير: قُربى آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عباس: عجلتَ، إِن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن بطنٌ من قريش إِلا كان له فيهم قرابة، فقال: "إِلا أن تصِلُوا ما بيني وبينكم من القرابة" (¬2)! وفي رواية للحاكم عن الشعبي قال: "أكثر الناس علينا في هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}! فكتبنا إِلى ابن عباس نسأله عن ذلك، فكتب ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أوسط بيت في قريش، ليس بطنٌ من بطونهم إِلا قد ولده، فقال الله -عزّ وجل: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}! ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 4: 111 - 112. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4818)، وأحمد: 1: 229، 286، والترمذي (3251)، والنسائيّ: التفسير (494)، والبغويُّ: معالم التنزيل: 4: 124، وابن جرير: 25: 15، وابن حبّان (6262).

إِلى ما أدعوكم إِليه، إِلا أن تودّوني بقرابتي منكم، وتحفظوني بها (¬1)! وهذا تعظيم لفضيلة صلة الرحم، وهي خليقة من خلائق محمَّد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - التي وصفته بها خُلقًا زوجته الأمينة الوفيّة قبل أن يبعث للناس رسولًا! وقد جاءت رسالة خاتم النبيّين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - تحمل في هدايتها وآدابها وأخلاقها ترغيبًا في التخلّق بهذه المكرمة العظيمة بما لم تظفر به فضيلة من الفضائل الإنسانيّة التي ينتظمها عقد الفضائل الاجتماعيّة التي تربط وشائج المجتمع بأوثق عرى المودّة والمحبّة، فالقرآن الكريم يقرن تعظيم هذه الفضيلة بتعظيم الله -جلَّ شأنه- في طلب اتقائه فيقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]! ويروي الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (¬2): "خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بِحَقْوِ الرحمن، فقال لها: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ¬

_ (¬1) الحاكم: 2: 444 وقال: قال هشيم: وأخبرني حصين عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما- بنحو من ذلك، هذا حديث ولم يخرجاه بهذه الزيادة وهو صحيح على شرطهما، فإن حديث عكرمة صحيح على شرط البخاري، وحديث داود بن أبي هند صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي: وروى حصين عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه (خ م) وقد رويا منه من حديث طاوس عن ابن عباس! (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4830)، وانظر (4831، 4832، 5987، 7502)، والأدب المفرد (50)، ومسلم (2554)، وأحمد 2: 330، والبغويُّ (3431)، والبيهقيّ: 7: 26، والنسائيُّ: الكبرى (11497)، والطبري: التفسير: 26، 56، والحاكم: 4: 162، وابن حبّان (441).

10 - وتحمل الكل

تَرضَيْنَ أن أصِل مَن وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا ربّ، قال: فذاك"! قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}! ولفظ مسلم: "إِن الله خلق الخلق، حتى إِذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك"! ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا إِن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 22 - 24]! وهذا التعظيم لشأن فضيلة صلة الرحم التي جاءت في كلمات النور إلهامًا لأمّ المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- وصفًا لما تحلّى به محمَّد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - من أصول المكارم التي لا يُخزي الله -جلَّ ذكره- من وصف بها جبلّة وطبعًا، ليس فوقه تعظيم لمكرمة من أصول المكارم الجبلّيّة التي يهبها الله خُلُقًا وطبعًا لمن يشاء من عباده، لتكون في حياته منائر يهتدي بها المهتدون! 10 - وتحمل الكلّ: ومن كلمات النور التي قالتها أمّ المؤمنين خديجة رضي الله عنها لمحمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -: وتحمل الكلّ!

فلتهدأ نفسك يا أبا القاسم، فلن يخزيك الله أبدًا، وإنك لبالغ بتوفيق ربّك ما كُتب لك في لوح الغيب من رفعة الذكر، وبلوغ الأمل، فقد حلّاك منذ خلقك فريدًا في نحائزك ومكارم أخلاقك بما جعل لك به في كل قلب مكانًا من السؤدد والسموّ والحبّ! لقد جعل في مكارم أخلاقك الكريمة أنك تحمل الكلّ الضعيف الذي أعجزته الأيام والليالي، وأقعدته صروف الحياة عن النهوض بحال نفسه، فلم يستطع مزاحمة الضاربين في الأرض سعيًا وراء متطلّبات الحياة، ولم يستطع أن يقوم بضرورات عيشه إلا إذا أعانه ذو مقدرة من أهل المروعات وأصحاب المكارم، الذين يفعلون الخير لأنهم يرونه خيرًا، وأنت يا أبا القاسم ذلك الكريم الذي فطره الله على الخير، فلن ترضى نفسك الكريمة وقلبك الرحيم أن ترى ضعيفًا أثقلت كاهله الحياة، فتخلف عن مسيرتها دون أن تمدّ إليه يد الرحمة بما ينعشه وينهض به، في غير منٍّ ولا أذى! والإحسان -أبدًا- آسر لمن يقع عنده موقعه، وهؤلاء الضعفى تنعشهم يدك الرحيمة، وتمسح عن كواهلهم أثقال العيش، وتحيي في أنفسهم موات الأمل، وتنعش في أرواحهم رغائب العمل هم عدّة الإيمان؛ لأنّ الإيمان يملك من رصيد الخير ما يعوّض به هؤلاء عما فقدوه من قوّة الاقتدار على مماشاة الحياة، وهؤلاء الضعفى أملك للعمل الشكور يردّون به الجميل، فالإحسان إليهم يحمل ضعيفهم لينهضوا، أو ليُحفظوا من الضياع فضيلة مشكورة عندما تحين فرصة شكرها من غير الجاحدين لفضلي المكارم والمروءات! وهؤلاء الضعفى هم أتباع الرسل -كما عرفنا- وفي هذا التوافق بين ما حمله الإلهام النوراني بالفراسة الصادقة، والتجربة الحكيمة في كلمات وزيرة الصدق

الزوجة البرّ؛ الأمينة السيدة خديجة -رضي الله عنها- قبل أن تنشر في آفاق الحياة أشعة شمس النبوّة، وبين ما صدر من أنباء المبشّرات بميلاد رسالة جديدة، قد أظل الناس زمانها، دلالة على أن أمّ المؤمنين - رضي الله عنها - كانت تستملي في كلماتها النورانية التي مسحت بها عن جبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطرات العرق التي ساقطتها متاعب بشريّته، وقد هاضها روع المفاجأة، وتصوّر أعباء الرسالة، وقوادح تبليغها صحائف الغيب التي قرأت في سطورها بنور إيمانها الفطري، وصادق فراستها، دلائل ما فطر الله تعالى عليه رسوله وحبيبه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، من التخلّق بمعالي الأخلاق، وأحاسن الشمائل على معالم مستقبله في رسالته الخاتمة الخالدة! ولأمر ما ربط الحق -جلَّ شأنه- بين مكارم الأخلاق الفطريّة قبل أن يبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وبين حياة هؤلاء الضعفى في المجتمع البشريّ الظلوم، فجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - آسيًا لجراحهم، وجابرًا لكسير قلوبهم .. ومن ثم لا ينسى هؤلاء أيادي الرحمة بهم بعد أن بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا، وداعيًا رسولًا، يدعو إلى الله وحده، وإلى عدله ورحمته! هذا تدبير الغيب، ما كان لأحد فيه اختيار .. فالله تعالى هو الذي فطر رسوله رحيمًا، خلقةً لا كسبًا، وطبعًا لا تطبّعًا، وهو الذي جمّله بخُلق الشفقة على الخلق كافةً، وهو الذي أوجده في مجتمعه الذي نهد فيه، ونشأن بين أحضانه، وهو مجتمع يعيش في حياة تجعله أخصب أرض لزرع الإحسان والمكارم؛ لأنه مجتمع جهل حياة العدل وعاش على جهالة الحياة وروابطها الاجتماعيّة الفسيحة، مجتمع استأثر بخيراته حفنة من غلاظ الأكباد، يأخذون ولا يُعطون، ينهبون ولا يرعوُون، فلا قانون يردع، ولا نظام يحكم!

11 - وتكسب المعدوم

فإذا جاءهم الله بالرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمةً وهدىً لينقذ المعذّبين في الأرض من ظلم الطغاة البغاة العتاة، ويقيم الحياة الإنسانيّة على دعائم الإخاء والمساواة، والرحمة والمواساة، فإن عون الله وتوفيقه للرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الواقع! 11 - وتكسب المعدوم: ومن الكلمات النورانيّة لأمّ المؤمنين خديجة للرسول -صلى الله عليه وسلم- كما أسلفنا: (وتكسب المعدوم)! وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة الصورة المتحرّكة للقرآن الناطق في صمته وسكونه، والمعلّم حينما تهتزّ أسلات الألسن بآياته، مضيئة بنور القلوب والعقول والأرواح، فهمًا للرسالة! ومن ثم كان سخاء الجود إلى ذروة الإيثار من سمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يكون رسولًا، فما بال الدنيا بك أنت الذي أدّبتهم فتأدّبوا بأدبك؟ وقد تأدّبت بأدب الله الذي تولاك -منذ كنت- بفواضل أدبه فأحسن تأديبك! ومَن في الوجود الكوني على خلقك الفطري الذي فطرك الله عليه من مكارم الوجود؟ فأنت أجود الناس، ولأنت أجود بالخير من الريح المرسلة! أو لست أنت الذي تظاهرت عليك بيّنات الألسن بأنك تعطي عطاء من لا يخشى الفقر؟ أو لست أنت الذي عرف لك قومك قبل أن يبعثك الله للناس رسولًا أنك كنت في تحنّثك وتعبُّدِك تطعم من جاءك من المساكين؟ وهنا نذكر ما رواه مسلم وغيره عن أبي مسعود الأنصاريّ، قال: جاء رجل

إِلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إِنّي قد أُبدع بي فاحْملني، فقال: "ما عندي"! فقال رجل: يا رسول الله! أنا أدلّه على من يحمله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله" (¬1)! ويروي مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإِسلام شيئًا إِلا أعطاه، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنم بين جبلين! فرجع إِلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا، فإِن محمدًا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة! وفي رواية: أسلموا، فوالله إِن محمدًا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر (¬2)! وقد كان جوده - صلى الله عليه وسلم - لله، وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو محتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله، وتارة يتألف به على الإِسلام من يقوى الإِسلام بإسلامه! والكرم مَجمعةٌ للقلوب، ومجلبة لمحبّة الناس، والكريم لا يُضام، ولا يُخزى، ولا يخذل، يملك بكرمه زمام محبّة الأفئدة، ويستأسر من أكرمهم بإحسانه وفواضله، فيؤثرونه بمودّتهم على كل محبوب .. ولهذا كان في ¬

_ (¬1) مسلم: 33 - الإمارة (1893)، والبخاري: الأدب المفرد (242)، والطيالسي (611)، وعبد الرزاق (20054)، وأحمد: 4: 120، 5: 272، 273، 274، وأبو داود (5129)، والترمذي (2671)، والطحاوي: مشكل الآثار (1546)، والبيهقيُّ: 9: 28، وأبو نعيم: الحلية: 6: 266، وابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 1: 16، والبغويُّ (3608)، والطبراني: الكبير: 17: (622، 623، 624، 625، 627، 328، 629، 630، 631، 632)، والخطيب: 7: 383، وابن حبّان (289، 1668). (¬2) مسلم: 43 - الفضائل (2312)، وأحمد: 3: 108، 175، 259، 284، وأبو يعلى (3302، 3750)، وأبو الشيخ: أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم-: 51، والبغويُّ (3691)، وابن خزيمة (2371، 2372)، والبيهقيُّ: 7: 19، وابن حبّان (6373، 6374)، وانظر: ابن كثير: الشمائل: 74.

12 - وتقري الضيف

مقدمة من استجابوا للرسالة، الذين وجدوا عنده المواساة والإيثار والرحمة، فأخلصوا له، وتقبّلوا هديه بروح عالية، وتحمّلوا من فوادح الإيذاء والتعذيب -كما سيأتي- ما لم يكن في طاقة بشر! وقد كانوا بإخلاصهم في طليعة المؤمنين الأثر الحيّ الذي صاحب الدعوة إلى الله في مراحلها وشدائدها وانتصاراتها .. فقد رأوا مكارم الجود الذي عبّرت عنه أمّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - في كلماتها النورانيّة في صحائف الغيب بالتأمّل الشفيف الذي يقرأ كتاب المستقبل في لوح الماضي القريب! 12 - وتقري الضيف: وهل يملك النفوس الأبيّة إلا تقليدها قلائد المجد في سخاء يملك عليها نخوتها التي تتمثَّل في لقاء الضيف -وهو يقبل على استحياء- ببشاشة الطبع البسّام لمغارم المكارم! ومغارم الجود عند ذوي الطبع الكريم مغانم، إذا انهملت غيوثها على أرض أصيلة التربة طيّبة الأصالة، ولكنها خاشعة ظمئة، وهل أطيب أرضًا من قلب ضيف يقبل طامعًا، ولكنه متردّد يخشى الجفلة، ويخاف الجفوة، فإذا سمع مرحبًا تناهت عنده إليه المكارم! ومن ثم كان إكرام الضيف من أعظم الفضائل الإنسانيّة الاجتماعيّة، وهي -وإن تداخلت في عموم مكارم الجود بخصائصها- مستقلّة الأثر في قوّة اجتذاب القلوب، وأسر النفوس، ولا سيّما إذا كانت في بيئة مثل البيئة التي نهد فيها محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، بيئة الصحارى والجبال، والوديان والقفار، الشحيحة بمطالب العيش، ووسائل الحياة!

ولهذا كانت فضيلة قرى الضيف موضع منافسة المتنافسين في صنائع المعروف، وكانت مما يتمدّح به أجواد العرب، ويتّخذها شعراؤهم ممادح لأجاويدهم، يتّخذون بها قلائد من الفضل المأثور في أعناق الذين يقصدون مكارمهم تحبّبًا إليهم، ونشرًا لحسن الأحدوثة عنهم بين أقوامهم! والضيف في البيئة العربيّة عابر سبيل يبيت هنا، ويصبح هناك، ويتحدّث حيث يكون، والحديث مع الناس وإلى الناس فنون، وأحبّ فنونه إلى الأسماع، وأحلاها في الأذواق ما كان عن المكارم وصانعيها، وروّادها، تنفسح لهم القلوب، وتهشّ لهم النفوس، وتهفو نحو من تحله المكارم ذراها، وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتتمنّى لو كانت من حزبه أو أهله، وتتطلّع إلى مشارف مكانه من حُسْن الأحدوثة، وتتحدّث مع نفسها أحاديث الآمال المرجوّة أن لو كانت تستطيع أن تكافئه على صنائعه، ولو لم يكونوا هم موضع إسدائها المباشر؛ لأنّ الخير حبيب إلى كل نفس كريمة، والمكارم أواصر خُلقيّة لا تعرف العصبية لدم، ولا لجنس، ومن يصنع الخير لا يعدم جوازيه! فإكرام الضيف فضيلة اجتماعيّة، تجمع القلوب على محبّة من يتحلّى بها في غير تكلّف ولا مراءاة، وتستجيب إلى دعوته إذا دعا إلى خير، وترهف الآذان إلى صوته إذا نادى إلى نجدة أو غوث، وتُصغي إلى قوله إذا تكلّم، وتؤمِّن على رأيه إذا ارتأى، فهي من أصول المكارم التي تكسب صاحبها مودَّات القلوب، يحبّه من يعرفه ومن لا يعرفه! فذكر أمّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - هذه المكرمة في خلائق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - التي نهد بها، وعاش في مجتمعه على التخلّق بخلقها، مقصوده أن الله تعالى في جلال حكمته، لا يمنحها إلا لمن يعلم أنه حقيق بآثارها الاجتماعيّة في

13 - الإعانة على نوائب الحق

التأييد والتوفيق، فيما يدعو إليه من الخير والهُدى، فالمتحلّي بها مع سائر أصول المكارم لن يخزيه الله أبدًا، ولا يَخْذله الله أبدًا، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لبالغ -بما طبعه الله عليه من أصول مكارم الأخلاق- ما كتب الله له في لوح حياته من قيامه بحقّ تبليغ رسالته على أبلغ وأقوى ما تؤدّي به رسالة إلهيّة ناطها الله تبارك وتعالى برسول أعدّه لأعباء هذه الرسالة الخاتمة الخالدة! 13 - الإعانة على نوائب الحق: والإعانة على نوائب الحق فضيلة الفضائل، ومكرمة المكارم، فهي أجمع الفضائل لسائرها، وهي أجمع موارد الخير ومصادره، وهي منقبة مناقب البرّ والمعروف! قال الحافظ ابن حجر (¬1): وقولها: (وتعين على نوائب الحق)! كلمة جامعة لأفراد ما تقدّم، ولما لم يتقدّم! وقد كانت هذه الخليقة خُلُقًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - منذ شبّ عن طوق الطفوليّة، ومشى إلى الشباب مشاركًا رجالات قومه في صنع المكارم، فهو - صلى الله عليه وسلم - وكان في عنفوان الشباب، ابن عشرين سنة -يسمع أن عمه الزبير بن عبد المطلب، يدعو إلى عقد حلف لنصرة المظلوم، والتآسي في المعاش، فاجتمعت له بنو هاشم، وزهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جدعان، فيسرع - صلى الله عليه وسلم - إلى مشاركتهم هذه الكرمة النبيلة، يدفعون بها الظلم عن المظلومين، ويعينون على نوائب الحق، ويتعاقدون متعاهدين بالله ليكونن مع المظلوم، حتى يؤدّى إليه حقّه، وسمّت قريش ذلك التعاقد (حلف الفضول)! ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: 1: 25.

14 - أداء الأمانة

وقد امتدح محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بعد بعثته رسولًا إلى العالمين هذا الحلف، وأخبر أنه حضره في دور إنشائه، وشارك فيه قبل نبوّته وسبق أن ذكرنا ما رواه أحمد وغيره -كما أسلفنا- بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "شهدت حلف المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحبّ أن لي حُمرَ النّعم، وإِنِّي أنكثُه"! 14 - أداء الأمانة: والأمانة أجمع مكرمة لمكارم الأخلاق، ولن يكون أمينًا قط من يفقد في أخلاقه مكرمةً من المكارم، فالأمين هو ذو الخلُق العظيم، الجامع لأشتات الفضائل، والأمن هو الكامل في استقامته مع نفسه، ومع جميع الخلق، تجمع القلوب على محبّته، ويثق به من يعرفه ومن يسمع عنه، من شهده ومن غاب عنه، وهذه الثقة تظهره على أسرار الناس، فيعرفها كما يعرف علانيتهم، لا تخفى عليه منهم خافية، يحفظهم في غيبهم كحفظه لهم في شهودهم، يأنسون به، ويركنون إليه في أعمالهم ومصالحهم، ويأمنونه على أعزّ ما عندهم من ودائعهم المادية والقلبيّة، تهجس في خواطرهم الفكرة تريد متنفّسًا بالكلمة، فيخافونها إلا إذا كانت همسًا للأمين، فإن رأى خيرًا أعان عليه، وإن رأى شرا نصح وحذّر! وقد كان خُلُق أداء الأمانة خُلُقًا أثيرًا في مكارمه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعرف لقب الأمين على إطلاقه -كما عرفنا- إلا له - صلى الله عليه وسلم -! وهل يوجد في تاريخ البشريّة أقوى دلالة على تميّزه - صلى الله عليه وسلم - بأداء الأمانة من إجماع بطون قريش على الرضا بحكمه وهم يبنون الكعبة المشرّفة أعزّ مفاخرهم

15 - فراسة الإلهام

-كما أسلفنا- ومن ثم حين رأوه تهلّلوا بالبشر الوثيق، واطمأنت قلوبهم الواجفة في صدورهم، وسكنت إلا من خفقة الرضا، وقالوا بلسان موحّد الثقة والقبول: هذا (الأمين) رضيناه حكمًا! 15 - فراسة الإلهام: وقد كانت أمّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - لوثيق معرفتها بأخلاق محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الفطريّة التي خبرتها فيه بتجاربها وفراستها، وبما كان يخصّه به مجتمعه من الإكبار وحُسْن الأحدوثة على حق حين أقسمت على أن الله لن يخزيه، وأكَّدت ذلك بلفظ التأييد، واستدلَّت بوحي عقلها الرصين على ما أقسمت عليه بأمر استقرائي، فوصفته - صلى الله عليه وسلم - بأصول مكارم الأخلاق! وكانت تلك الكلمات -كما عرفنا- نوعًا من فراسة الإلهام الذي ينظر إلى ما وراء الحجب، خفّفت بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شعر به من آثار المفاجأة الرهيبة، وقد آب إليها من خلوته ومتعبّده في حراء، فرأت منه - صلى الله عليه وسلم - حالًا من مشقّة الجهد، لم تكن تراها عليه من قبل في أوباته إليها، ليتزوّد لخلوته، ويجدّد ببيته وولده وزوجه عهد الحنان والحبّ الذي يعطيه أفضل ما يعطي عامل من عوامل القوّة النفسيّة من مدد يعينه على تحمّل مشاق الوحدة في خلوته التي أحبّها أشدّ الحبّ؛ لما يجد فيها من مجال لسبحات روحه وفكره في أجواز ملكوت الله، وجلال بدائع صنعه، وجلس إليها بعد أن هدأت نفسه، وحدّثها وحدّثته، وسمعت منه جديدًا، لم تكن من قبل تسمعه منه، وكان في هذا الحديث نغم هامسٌ بروحانيّة جديدة، تتلمّس دفء الحنان في أحضان الوفاء!

16 - العلم سر الرسالة

والرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ بلغ سنّ الرجوليّة كانت بشائر الغيب، وإرهاصات النبوّة تتوالى عليه، قبل أن يُنبّأ، وكانت خديجة - رضي الله عنها - على علم بالكثير من ذلك! ثم نبّئ - صلى الله عليه وسلم - بوحي الرؤيا الصالحة الصادقة يراها، فتجيء مثل فلق الصبح جلاءً ووضوحًا وإشراقًا .. وتتابع الوحي عليه في مراتبه، ولم يكن يبدو عليه من مشقّة الإجهاد، وتأثّر بشريّته مثل ما بدا عليه، ومن ثم جاءها يرجف فؤاده! وكانت آمال أمّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - منذ صارت زوجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من أن تقف عند وحي النبوّة، بل كانت مشاعرها تحلّق حوله في آفاق تطلّعاتها إلى تجلّيات الملأ الأعلى له - صلى الله عليه وسلم - في لقاء المواجهة ووحي اليقظة! وها هو - صلى الله عليه وسلم - يبعث رحمةً للعالمين، فيجيئه الحق، ويفجؤه الملك رسولًا إليه من ربّه، مستعلنًا في يقظته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مستغرق في سبحات تفكيره، وحيد في خلوته، لا يتوقّع مما وقع له شيئًا! 16 - العلم سرّ الرسالة: وسرّ رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسطور في لوح الوجود -كما أسلفنا- هو العلم بأوسع وأعمق ما يتصوّر العلماء والمفكّرون من أيّ أنحاء الحياة، ومن أيّ جوانب الكون، وعلى أيّ نهج في التفكير! ومن هنا قال جبريل -عليه السلام- بعد ما أنهى ما أُرسل به إليه في أوّل لقاء المواجهة بوحي اليقظة من إعداده روحانيًّا للنفوذ من حجب الغيب إلى الحقائق العليا، مسطورة في صحف الوجود: {اقْرَأْ}!

17 - أهداف الدعوة

وأنت أنت على خصيصتك في أخصّ أوصافك من نعت (الأميّة) مستعينًا باسم ربّك الخالق المبدع، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهو أعزّ خلقه وأكرمهم، وجعله بما علّمه سيد الحياة المسخّرة له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [اقرأ 1: 5]! فكان هذا بيانًا لما طُلب منه مرات، وهو تحصيل حقيقة القراءة، دون نظر إلى الأسباب المألوفة عند القارئين المعلَّمن العالمين، مستعينًا باسم من سبق إليك إحسانه، فربّاك على موائد فضله وإنعامه، ورعاك بكرمه قبل أن يتشرّف الوجود بطلعتك، وهو ربّك الأكرم الذي تجلّت مظاهر أكرميّته في ظلال أسرار رسالتك العليمة المعلّمة، وهو الذي علّم بالقلم من تأهّل بفكره ليكون في زمرة العالمين، وذلك هو الإنسان مُظهرُ الإبداع الإلهيّ الأعظم في الوجود، فقد علّمه ما لم يعلم، وعلّمك أنت، وجعلك مَظهر الإشراق الروحانيّ الأكمل -كما علّم الملأ الأعلى- لتكون أميّتك المظهر الأعظم في إعجاز رسالتك المعلّمة، وجعل علمك بغير قلم مدَدًا لمن تعلّموا بالقلم، تعلّموا ممّا علمت، وهم صفوة الإنسانيّة، بل صفوة الوجود كله، فالتعليم بالقلم أعظم مظاهر الكرم الإلهيّ السابغ، ومن ثمّ كانت المنّة بالتعليم بالقلم أعظم منن الله تعالى على الإنسانيّة في الحياة، وكان الامتنان بها عليه في أوّل ما نزل من القرآن الكريم! 17 - أهداف الدعوة: ونهض الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستجيبًا لأمر ربّه، مشمّرًا عن عزيمة لا تفل، نهوض من لا يعرف السكون إلا متحفّزًا ليتحرك، ولا يتحرّك إلا وهو يفكّر في

مسالك ما حُمّله من أعباء رسالة، ليس كمثلها رسالة من رسالات من سبقه من الأنبياء والمرسلين! فالناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها، من دنا منهم ومن بعد، هم أمّة دعوته مكلّف بتبليغ رسالته لهم، واجب عليه أن يدعوهم إلى الإيمان بها ما بلغتهم دعوتها: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]! فهو - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى العالمين، منذ اللحظة الأولى لتنزّل رسالته! ودعوته - صلى الله عليه وسلم - تستهدف إخراج الناس -كل الناس، بل إخراج الحياة بما فيها ومن فيها- من ظلمات الشرك، وأوضار الوثنيّة، في جميع صورها وأشكالها إلى نور التوحيد، وإخلاص العبادة لله تعالى وحده، مطهّرين في عقائدهم وأفكارهم وتعبّداتهم، نقيّة عقولهم وقلوبهم من دنس مواريث الآباء والأجداد، مصفّاة أرواحهم من ران الشرور والمفاسد .. وإخراجهم من ظلمات التظالم والفساد إلى نور العدل والإصلاح! ودعوته - صلى الله عليه وسلم - تستهدف إلى جانب ذلك تخليصهم من رذائل الأخلاق، ليكونوا ربّانيّين في حياتهم وأخلاقهم، متحلّي بالفضائل الإنسانيّة الكريمة، مستقيمي السلوك، خيّرين في أعمالهم! ودعوته - صلى الله عليه وسلم - تستهدف تخليصهم من شراسة القسوة الطاغية الباغية التي يصب المتجبّرون في الأرض سياط عذابها على الضعفاء والمستضعفين، اغترارًا بما في أيديهم من لعاعات الدنيا، واستجابة لما في دخائل أنفسهم من شرور الأنانيّة والاستئثار!

18 - فترة الوحي

ودعوته - صلى الله عليه وسلم - تستهدف تخليصهم من مساوئ الأنانية، وسيطرة الغرائز الماديّة في رغائبها وشهواتها، لتقيمهم أئمّة، في مشاهد الإيثار والإفضال، في جوّ من الإخاء الإيماني الذي لا يعرف: هذا لي وحدي، ولكنه يعرف ما يقرؤه في دستور رسالته الخالدة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 10]! والأخوّة تعني المشاركة في جلب المنافع، ودفع المضار، والحياة -في شرعة الإخاء الإيماني- للناس جميعًا، لا يستأثر بشيء منها أحد، فمن احتاج منها أخذ بقدر حاجته وطاقته، ومن وجدها في يده جاد بها وأعطى! تلك إشارات إلى أهداف رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وغاياتها ومقاصدها، جعلت العلم بجميع فنونه الماديّة والفكريّة، والمعرفة بأنواعها التجريبية والعقليّة وسيلة تحقيقها لكن المجتمع البشري الذي أُرسل فيه وإليه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بجميع أممه وشعوبه، وجماعاته وأفراده، لم يكن يعرف هذه الأهداف، ولا يحاول أن يعرفها؛ بل كان هذا المجتمع يعيش على نقائض هذه الأهداف الإصلاحيّة، التي تطلب في قوة حازمة، وعزيمة صارمة، من حاملي أمانتها، ووارثي تبليغ رسالتها أن يعملوا بكل ما أوتوا من طاقات وقوى، على كسر حدة تلك النقائض، ليخرجوا الحياة بمن فيها وما فيها من ظلمات الأثرة، وظلم الأنانية، إلى نور الإيمان والهداية، وعدل المساواة والمواساة، بتطبيق دستور هذه الرسالة الخالدة في واقع الحياة! 18 - فترة الوحي: ونجد أنفسنا أمام فترة الوحي التي كانت لطفًا من الله -عَزَّ وَجَلَّ - ورحمةً بخاتم رسله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نقرأ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)

مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 1: 11]! وتلك السورة بموضوعها، وتعبيرها، ومشاهدهما، وظلالها وإيقاعها (¬1)، لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائف من ود، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع، وتنسم بالرّوْح والرضى والأمل، وتسكب البرد والطمأنينة واليقن! إنها كلها خالصة للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كلها نجاء له من ربّه، وتسرية وتسلية وترويح وتطمين، كلها أنسام من الرحمة، وأنداء من الودّ، وألطاف من القربى، وهدهدة للروح المتعب، والخاطر المقلق، والقلب الموجوع! يروي الشيخان وغيرهما عن جندب بن سفيان - رضي الله عنه - قال (¬2): اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يقُم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمَّد، إِنّي لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قَرِبك منذ ليلتين، أو ثلاثًا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)}! قال ابن حجر بعد أن ذكر بعض الروايات التي لم تثبت: والحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول {وَالضُّحَى} غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3925 وما بعدها بتصرف. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4950)، ومسلم (1797)، وأحمد: 4: 312، والبيهقي: 3: 14، والدلائل: 7: 58 - 59، وأبو عوانة: 4: 340، والطبراني: الكبير (1711).

فإن تلك دامت أيّامًا، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثًا، فاختلطا على بعض الرواة (¬1)! والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله، زاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مشقّة الطريق، وسقياه في هجير الجحود، وروْحه في لأواء التكذيب، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصيّة العنيدة، ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة، وعلى الإيمان، وعلى الهُدى من طغاة المشركين! فلما فتر الوحي انقطع الزاد، وانحبس عنه الينبوع، واستوحش قلبه من الحبيب، وبقي للهاجرة وحده بلا زاد، وبلا ريّ! وقد نزل هذا الفيض من الودّ والحبّ والرحمة، والإيناس والقربى، والأمل والرضى، والطمأنينة واليقين! ويطالعنا القسم على إنعام الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمّن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوّته، وعلى جزائه في الآخرة، قسم على النبوّة والمعاد! وقد أقسم الله تعالى بآيتين عظيمتين من آياته، دالّتين على ربوبيّته وحكمته ورحمته، وهما: الليل والنهار، فتأمّل مطابقة هذا القسم، وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل للمقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربُّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الضحى ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه! ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: 8: 710، 12: 359 وما بعدها. (¬2) بدائع التفسير: 5: 255 وما بعدها بتصرف.

وأيضاً فإن فالق ظلمة الليل على ضوء النهار هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوّة! فهذان للحسّ! وهذان للعقل! وأيضاً فإن الذي اقتضت رحمته ألا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدًا، بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم، لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغيّ، بل يهديهم بنور الوحي والنبوّة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم! فتأمّل حُسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه! وتأمّل هذه الجزالة والرونق الذي على هذه الألفاظ، والجلالة التي على معانيها! ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيّه أو قلاه، فالتوديع: الترك، والقلى: البغض، فما تركه منذ اعتنى به وأكرمه، ولا أبغضه منذ أحبّه، وأطلق سبحانه أن الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقرّ به عينه، وتفرح به نفسه، وينشرح به صدره، وهو أن يعطيه فيرضى، وهذا يعمّ ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر، وكثرة الأتباع، ورفع ذكره، وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القيامة، وما يعطيه في الجنّة (¬1)! ونبصر في القسم -كما أسلفنا- بالآنيْن الرائقين (¬2)، والربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس، ما يوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة ¬

_ (¬1) انظر: التبيان في أقسام القرآن: 72 - 75، وعدة الصابرين: 154 - 155، ومدارج السالكين: 2: 449. (¬2) في ظلال القرآن: 6: 3926 وما بعدها بتصرف.

مع هذا الوجود الجميل الحيّ، المتعاطف مع كل حي، فيعيش ذلك القلب في أنس هذا الوجود، غير موحش ولا غريب فيه فريد! ونبصر أنسًا له وقعه .. وكأنما يوحي مطلع السورة أن الله قد أفاض من حول رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأنس في هذا الوجود، وأنه من ثم غير مجفوّ فيه ولا فريد! ونبصر جميل صنع الله برسوله .. ومودَّته له، وفيضه عليه، واستعادة مواقع الرحمة والودّ والإيناس الإلهي، وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديعِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}! انظر في واقع حالك، وماضي حياتك، هل ودعك ربك وهل قلاك -حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر؟ ألم تحط يتمك رعايته؟ ألم تدرك حيرتك هدايته؟ ألم يغمر فقرك عطاؤه؟ لقد ولدت يتيمًا فآواك إليه، وعطف عليك القلوب، حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك! ولقد كنت فقيرًا فأغنى الله نفسك بالقناعة، كما أغناك بكسبك ومال أهلك بيتك عن أن تحسّ الفقر، أو تتطلّع إلى ما حولك من ثراء! ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصوّرات والعقائد، منحرفة السلوك والأوضاع، فلم تطمئن روحك إليها، ولكنك لم تكن تجد لك طريقًا واضحًا مطمئنًا، لا فيما عند الجاهليّة ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى .. ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك، وبالمنهج الذي يصلك به!

19 - موقف الإمام محمد عبده

والهداية من حيرة العقيدة، وضلال الشعاب فيها هي المنّة الكبرى، التي لا تعدلها منّة، وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق، ومن التعب الذي لا يعدله تعب .. وجاءت تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التّيه، وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتّيه! إننا نبصر الحنان والرحمة والرضى والشجى، ينسرب من خلال آيات تلك السورة! 19 - موقف الإمام محمَّد عبده: ومع هذا نرى الإمام محمَّد عبده -رحمه الله - قد وقف موقفًا عجبًا من حديث بلاغ التردّي من رؤوس شواهق الجبال، الذي بيّنا ردّه من قبل، حيث قال: اتفقت الروايات على أن سبب نزول هذه السورة {والضُّحَى} هو حصول فترة في توالي الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فظنّ أو توهّم أو كما قيل إن الله تركه وقلاه .. إلى أن قال: وقد جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حزن لفترة الوحي حزنًا غدا منه مراراً، كي يتردّى من رؤوس الجبال، ولكن كان يمنعه تمثّل الملك له، وإخباره بأنّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقًّا! وقال: ليس في نسق السورة {وَالضُّحَى} ما يشير إلى أن المشركين أو غيرهم كانوا بعرض من الخطاب، ومن أين للمشركين أن يعلموا فترة الوحي فيقولوا أو يطعنوا؟! أما الإشارة في نسق السورة إلى أن المشركين كانوا بعرض من الخطاب (¬1)، ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: 1: 452 وما بعدها بتصرف.

وإن كانت المواجهة به كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم علموا فترة الوحي، فقالوا وطعنوا، فهي موجودة في أسلوب السورة وعباراتها وألفاظها! ذلك أن القرآن الكريم كلام الله الحكيم العليم، وأسلوبه وعباراته وألفاظه لا تقف عند سنن الإحسان البشريّ في براعة البيان، ولكنها تعلو فوق ذلك إلى درجة الإحسان الإعجازي؛ فلا يمكن أن يحل لفظ من خارج ألفاظ القرآن مكان لفظ من ألفاظه في نسقه البياني؛ لأنّ ألفاظ القرآن في نسق آياته هي التي وقع بها التحدّي، وتمّ بها الإعجاز، فلا بدّ أن تكون ألفاظه متّسقة أكمل اتساق مع المعاني التي قُصد أداؤها بها، حتى كأن بين اللفظ والمعنى نسبًا، وقربى دانيةً، وهذا يستبين بالموازنة بين أساليب البيان القرآني في تأدية مقاصده، فأسلوب البيان الزاجر المتوعّد مغاير تمام المغايرة في ألفاظه القارعة لأسلوب البيان الموعد المرغّب في ألفاظه الهامسة! يلمح ذلك ويشعر به الناظر ذو الحسّ المرهف، والنظر الغوّاص المتعلّق، فيحسّه في جرس اللفظ، ونسق العبارة، واسترسال الأسلوب! وإذا كانت السورة -كما عرفنا- فلا يتَّسق مع جلال الأسلوب القرآني في روعة بيانه أن يخاطب الله تعالى نبيّه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وقد فتر عنه الوحي بسبب لا دخل لإرادته فيه، والوحي هو صلته بالملأ الأعلى، وطريقه إلى مشاهدة ملكوت الله، واستجلائه آيات إبداعه في الكون، مغافصة دون تمهيد، مقسماً أعزّ قسم بأنّه لم يترك نبيه وحبيبه ترك قطيعة وإهمال، ولا أبغضه بغضًا يباعده عن مقامات قربه، ومنازل شهوده، بعد أن أحبّه حبًا لم يُنله أحدًا غيره من خلقه، لمجرّد أن الله تعالى أراد أن يلقي الطمأنينة في نفس نبيّه صلى الله عليه وسلم -كما يقول الشيخ الإمام- وهذه الفترة للوحي التي كانت سببًا لنزول سورة {وَالضُّحَى} لم تكن

هي فترة القلق والخوف والفزع عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى تحتاج إلى لقاء الطمأنينة في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولو فرضنا أن تكون به - صلى الله عليه وسلم- حاجة إلى لقاء الطمأنينة في نفسه، فليس مما يتّسق مع سنّة الله تعالى في مخاطبته نبيّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يفاجئه الوحي إثر فترة لم تكن أسبابها باختياره بهذه الشدّة التي يشعر بها التعبير بلفظ (ودّع) و (قلى) وإن كانتا في حيّز النفي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حاجة إلى التلطف به في الخطاب لمسح ما ألمّ به من قلق وخوف وفزع -كما يقول الشيخ الإمام! والشدّة التي لاقاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدء الوحي، ومفاجأة الغار -كما أسلفنا- إنما كانت لاستفراغ بشريّته من العلائق الماديّة، وإعداده روحيًّا لتلقّي وحي اليقظة، ونزول القرآن الكريم، وشهود عوالم الملأ الأعلى، الذي أنست نفسه الشريفة بمطالعة أنواره، وشهود آيات إبداعه! وقد تمّ ذلك كله له - صلى الله عليه وسلم - على أتمّ وأكمل مراتب الوحي، وصار - صلى الله عليه وسلم - يعيش حياته كلها متشوّقًا إلى لقاء أمين الوحي جبريل -عليه السلام- متشوّقًا إلى ما يلقيه إليه من وحي الله وأمره ووصاياه! وقول الشيخ الإمام: ومن أين للمشركين أن يعلموا فترة الوحي فيقولوا أو يطعنوا؟ مردود بالحديث السابق الذي لو اطلع الشيخ الإمام عليه وعلى غيره مما يجري مجراه لعلم يقينًا أن من المشركين من كان جيران سوء وعداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان في طليعتهم عمه أبو لهب وزوجه الخبيثة العوراء أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، حمالة الحطب، كما سمّاها القرآن، وكان هؤلاء الأعداء جيران السوء يؤذون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتسمّعون عليه، ويرقبون مدخله ومخرجه، وصحوه ونومه، وسائر حركاته وسكناته .. وبيوت العرب يومئذ لم

20 - بناء صرح الرسالة الخالدة

تكن كثيفة الحجاب، تمنع المتسمّع من السمع، وتحجب الناظر من اللمح، وتحول دون المترقب أن يعرف، وكانوا يسمعون إلى قراءته في جوف الليل، إذا قام لصلاة التهجّد، فلما اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم يقم لصلاته ليلتين أو ثلاثًا، وفقد جيران السوء صوته - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة في هذه الفترة ظنّوا به ظنّ السوء، وتقوّلوا عليه بالبهتان ما تقوّلوا من الشماتة والطعن، فأنزل الله عليه سورة {وَالضُّحَى} تنافح عنه، تلطفًا به، وتثبيتاً لفؤاده، ورداً لتقوّلات أعدائه وشانئيه، وتحريكًا لعوامل الشوق والتشوّف إلى مثل ما عهد وسمع وذاق من حلاوة الانّصال بالملأ الأعلى من طريق الوحي! ومعلوم أن سورة {وَالضُّحَى} نزلت بسبب فترة الوحي أيّامًا قلائل، لأمر عرض لرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتحدّث بذلك المشركون حديث الشامت العائب المعيِّر .. فتداركه الله -عزّ وجل- بلطفه وتثبيته وتكذيب أعدائه وشانئيه، وتطمين المؤمنين بهديه ورسالته بهذه السورة الكريمة -كما عرفنا- التي تجبه المفترين بنفي ما زعموه، وتعدّد نعم الله الخاصة على نبيّه وحبيبه، وتبشّره بأنّه - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يزداد شرفًا في رفعة قدره، وفضلًا في علوّ شأنه، وأن مستقبل أمره أجلّ قدرًا وشرفًا من حاضره وماضيه، وأن إنعام الله عليه في نهاياته أعظم من إنعامه عليه في بداياته، وأن الحفاوة به في مدارج رسالته، ومصاعد حياته خيرٌ له من مطالع اصطفائه - صلى الله عليه وسلم -! 20 - بناء صرح الرسالة الخالدة: وبين طرفي مكة من الشمال إلى اليمين على قيد خطوات من (غار حراء) - على نحو فرسخين من شمال مكة على طريق الذاهب منها إلى منى إلى (غار

ثور) -كما سيأتي- على نحو ميلين من يمين مكة، على طريق الذاهب منها إلى اليمين -مشى الزمان بخطا، يسرع مرّة فيوسّعها، ويتّئد أخرى فيقيّدها، وهو يشهد بكل ما فيه من وعي ويقظة بناء صرح الرسالة الخاتمة الخالدة، رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، عقيدةً وتأصيلًا في كفاح صبور، وصبر مكافح، على مدى عشر سنين، منذ بدأت أنفاس الرسالة تستهلّ وجودها في الحياة، وتتنزّل آياتها على قلب محمَّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أعظم لقاء، وأخطر مواجهة، تمّت بين مصطفى الملأ الأعلى أمين أمناء الوحي جبريل -عليه السلام- ومصطفى الكمال البشري أمين أمناء الله في تلقّي كلمته محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، بعد اكتمال نبوّته في مرحلتها الانفراديّة بمراتب وحيها الخاص على مدى ثلاث سنين قبل استهلال الرسالة؛ لتكون تمهيدًا لانطلاق الإنسانيّة إلى غايتها المقدورة لها في مدارج الكمال الفكري والاجتماعي، مظلّلًا بإشراق الروح، واستقامة العقل! ولمّا اكتمل البناء العقدي لهذه الرسالة الخالدة، ورسخت دعائمه، وتضافرت دلائله وبراهينه، وتظاهرت آياته، تهاوت في سفحه الوثنيّات متهالكة، تلفظ آخر أنفاسها، وقامت منائر التوحيد تعلن عن جلال الله تعالى وكبريائه، سامقة سامية، مشرقة مضيئة -تنادي الشرك بوثنيّاته مستصرخًا جنده، جند الشيطان في بأس بليد، وتدبير جازم أثيم، وعناد جحود، توهّمًا من ذوي الرؤوس الخاوية، والبطون المكتظّة، أن يصدّوا بنفخ أفواههم تيّار الإيمان بالحق، وهو يجري في محيط الحياة مزمجراً كاسحًا أوضار الوثنيّات البليدة، شامخًا بعرنينه الأشمّ، باذخًا بفضله، فتخيلوا وخالوا، وتوهّموا وائْتَمروا وتَجمّعوا ليبَلغَوا أربًا صوره الحقد الكفور! {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ

كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (التوبة)! {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} (الصف)! {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح)! وكان ربّ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لهم بالمرصاد، فأبلغه مكرهم وكيد تدبيرهم، وحاطه بعنايته، وتولاّه برعايته، حتى أبلغه مأمنه، وآواه إلى كنفه، وكنفه بمعيّته في نهاية المقام التأسيسي لرسالته، وأدخله آمنًا، بصحبة صدّيقه في (غار ثور)، على بعد خطوات من (غار حراء)، حيث بدأ نور الرسالة يسطع هاديًا مشرقًا، إذ بشّره بنصره، وإعلاء كلمته: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} (التوبة)! وسبق أن عرفنا أن الدعامة الأولى في بناء صرح الرسالة الخاتمة الخالدة، رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هي (الكلمة) وهي في حقيقتها الإلهيّة، ومكانها من الرسالة، وواقعها من تاريخ الحياة، أضخم عنوان لأعظم حقيقة في وجود الحياة الإنسانيّة وتطوّرها، وهذه الحقيقة هي (العلم) بأوسع ما يمكن أن يتصوّره خيال، أو يتّسع له واقع الحياة في الوجود!

وهي دعامة غريبة عجيبة، لم يسبق لها وجود في بناء الرسالات الإلهيّة التي سبقت رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعرف تاريخ الرسالات الإلهية أن رسالة منها قام أساس بنائها على (الكلمة)، وهي في منطوقها كلمة واحدة، ولكنها بمضمونها تنطوي على حقائق الحياة والكون إلا رسالة الإِسلام الخاتمة! هذه الكلمة {اقْرَأْ} كانت نبعًا نميرًا في صحراء الحياة القاحلة الجديدة حسًّا ومعنى، وقد تفجّرت من هذا النبع النمير عيون حياة جديدة، عريضة مخصبة، مادّة وفكرًا وروحانيّة، وسعت الدنيا بأقطارها وحذافيرها، عدلاً ورحمةً، وهدى ونورًا، وعلمًا ومعرفةً، وإصلاحًا وخيراً وبركةً! وكانت شمسًا في أفق الحياة، أشرقت بأضوائها آفاق الكون فأنارت الوجود على رحبه، وأدفأت المقرورين بحرارة أشعّتها، وهدت الحيارى الشاردين من لفح المظالم في لذعات سموم الطغيان والاستبداد الظلوم، إلى ظلّ من العدل المواسي، والتعاون المبرور، والإخاء الكريم! والكلمة المقروءة لابدّ أن تكون مكتوبة، ومن هنا كان اختيار كلمة {اقْرَأْ} لتكون بما فيها من ومض الروحانيّة العليا دعامة لأساس رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهي رسالة عامة شاملة خاتمة مهيمنة؛ فلا بد أن يقوم صرح بنائها على دعامة لها سرّ خلودها، دعامة فينانة لا ينفد ماء نبعها، ولا ينقطع مددها، أبديّة الرفد، سرمديّة الصفد، لا ينضب معينها، ولا ينشف عودها، ولا تيبس جذورها، فهي غضّة نضرة ما بقيت الحياة، وهي دانية القطوف، ظلّها ممدود، وأثرها في الحياتين محمود!

معالم في طريق الدعوة

معالم في طريق الدعوة

معالم في طريق الدعوة 1 - القرآن كلام الله 2 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} 3 - مكانة التوحيد 4 - أثر التوحيد 5 - السابقون الأوّلون. 6 - {قُمْ فَأَنْذِرْ} 7 - وصايا قرآنية - {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} - بين البخل والسرف. - كيف عالج القرآن رذيله والبخل - الطهر من داء الحرص والشح - فريضة الكسب -منابع الكسب - أهداف الكسب - آداب الكسب - اختيار الكسب الصالح - نظام البذل والإنفاق - اختيار مادة العطية - مقدار العطاء - وجوه البذل - أسلوب البذل - بواعث البرّ والإحسان - طهارة القلوب من الغل والحسد - طهارة القلوب المنحرفة - طهارة القلوب من الشرِّ والأنانية 8 - سياسة الاسْتِسْرار 9 - قوّة الإيمان

1 - القرآن كلام الله

معالم في طريق الدعوة ونجد أنفسنا أمام معالم في طريق الدعوة إلى الله، ونحن نطالع ما يلي: 1 - القرآن كلام الله: سبق أن ذكرنا قصة بحيرى الراهب، التي رواها الترمذي بسنده، كما رواها غيره! وذكرنا -أيضًا- الاختلاف في اسم بحيرى وعقيدته! وعرفنا أن النفس يمكن أن تطمئن إلى سفر النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع عمه أبي طالب، وهو في التاسعة، أو العاشرة، أو الثانية عشرة من عمره، على اختلاف الروايات! وعرفنا -أيضًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من الزكانة والفطنة، ولقانة القلب، ولطف الخُلُق، وإشراق الروح، وضياء العقل، وثقوب الذهن، ورجاحة التفكير، بالمحل الأرفع! ولا يمكن أن تمرّ هذه الرحلة ثم لا تترك أثرًا في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو في هذه السن، تأخذ حيزًا من حياته وتفكيره .. ولكنه الأثر الذي تتّسع له حياة طفل في هذا العمر، مع ما عرفنا من رعاية الله -عَزَّ وَجَلَّ - له! وأبصرنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان موجّهًا إلى لون من الحياة المباركة الطيّبة، يملؤها الإحساس بعظمة الكون وعظمة مدبّره جل شأنه، والشعور بسلطان قدرته المبسوط على الوجود! ومع ذلك انتهز المستشرقون والمغرضون هذه الفرصة -كما أسلفنا- فصنعوا

من الحبّة قبّة، وأسّسوا عليها بناءً متهاويًا، حيث زعموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تلقّى رسالة التوحيد النقيّة، من عالم نصراني، اختلف في اسمه وفي عقيدته! وأغرب من هذا أن أحدهم ألف كتابًا أسماه (مؤلف القرآن) زعم أن بحيرى قد لقّن الرسول القرآن كله في هذا الوقت القصير! وفاته أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بعث! وسبق أن ذكرنا طرفًا من الردّ على هذا التهافت! وقد ذكر أقوال هؤلاء من كتبهم بشيء من التفصيل أستاذنا المرحوم الدكتور محمَّد عبد الله دراز، وردّ ودحض تلك المفتريات فأجاد وأفاد (¬1)! ونجد أنفسنا أمام بيان (مفهوم القرآن)، ونحن نقرأ قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)} (القيامة)! ثم صار علمًا شخصيًا لذلك الكتاب الكريم (¬2)، يطلق بالاشتراك اللفظي على مجموعه، ويطلق على بعضه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9)! {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} (الأعراف)! وروعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدوّنًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه! ¬

_ (¬1) انظر: مدخل إلى القرآن الكريم: عرض تاريخي وتحليل مقارن: 129 وما بعدها، دار القلم، الكويت. (¬2) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: د. محمَّد عبد الله دراز: 12 - 14 بتصرف.

وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعيْن لا في موضع واحد، أعني أنه يجب أن يُحفظ في الصدور والسطور جميعًا، أن تضلَّ إحداهُما فتذكّر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المُجْمَع عليه من الأصحاب المنقول إلينا جيلًا بعد جيل، على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقةَ لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر! وبهذه العناية المزدوجة -التي بعثها الله في نفوس الأمة الإِسلاميّة اقتداءً بنبيها - صلى الله عليه وسلم - بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (الحجر: 9)! ولم يُصبْهُ ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السّنَد، حيث لم يتكَفّل الله بحفظها، بل وكَلَها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} (المائدة: 44)! أي بما طُلب إليهم حفظه! والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماويّة جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدّقًا لما بين يديه من الكتب ومُهَيمناً عليها، فكان جامعاً لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًا مسدَّها، ولم يكن شيء منها ليسدَّ مسَدَّه، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرًا يسّر له أسبابه، وهو العلم الحكيم! وإذا رجعنا إلى أصل الأسماء وجدنا أن مادتي (ك ت ب)، و (ق ر أ) تدوران على معنى الجمع والضم مطلقًا!

وهذا لا يعني فقط أن هذا المسَمّى جامعٌ للسور والآيات، أو أنه مجموع تلك السور والآيات، من حيثُ هو نصوص مؤلفة على صفحات القلوب، أو من حيث هي نقوش مصفوفةٌ في الصحف والألواح، أو من حيث هي أصواتٌ مرتَلةٌ منطوقةٌ على الألسنة، بل يعني شيئًا أدق من ذلك كله، وهو أن هذا الكلامَ قد جمع فنون المعاني والحقائق، وأنه قد حُشدت فيه كتائبُ الحكم والأحكام! ومن أسمائه كذلك: (الفرقان)، و (الذّكْر)، و (التنزيل)! وقد تجاوز صاحب البرهان حدود التسمية فبلغ بعدّ تها خمسةً وخمسين، وأسرف غيره في ذلك حتى بلغ بها نيفًا وتسعين (¬1)! واعتمد هذا وذاك على إطلاقات واردة في كثير من الآيات والسور، وفاتهما أن يفرقا بين ما جاء من تلك الألفاظ على أنه اسم، وما ورد على أنه وصف، ويتضح ذلك على سبيل التمثيل، في عدِّهما من الأسماء لفظ (كريم) ولفظ (مبارَك) أخذًا من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)} (الواقعة)! {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (الأنبياء)! ولا شك أنهما وصفان .. ولقد أفرده بعضهم بالتأليف! وعرَّفه علماء الشريعة فقالوا: (القرآن هو كلام الله تعالى، المنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، المتعبَّد بتلاوته)! وبعضهم يزيد على هذا التعريف قيودًا أخرى، مثل المتواتر، أو المعجز، أو المتحدَّى بأقصر سورة منه، أو المكتوب بين دفتي المصحف، أو المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس! ¬

_ (¬1) مناهل العرفان: 1: 15 بتصرف.

والواقع أن هذه القيود يقصد بها زيادة إيضاح بذْكر بعض خصائص القرآن الكريم التي يتميّز بها عما عداه (¬1)! والتعريف الذي ذكرناه جامعٌ مانعٌ، لا يحتاج إلى زيادة قيد آخر! ومعلومٌ أن للقرآن صفات، لا يشاركه فيها غيره من كلام الله تعالى أو كلام البشر! أما بالنسبة لكلام الله فهناك الكلام الإلهيّ الذي استأثر الله به، أو ألقاه إلى ملائكته ليعملوا به، لا ليُنْزلوه على أحد من البشر؛ إذ ليس كل كلامه تعالى مُنْزلاً، بل الذي أنزل منه قليل من كثير (¬2): {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} (الكهف)! {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27)! وهناك ما أُنزل على الأنبياء السابقين، كالصُّحف المنزلة على إبراهيم -عليه السلام-! والتوراة المنزلة على موسى -عليه السلام! والإنجيل المنزل على عيسى -عليه السلام! والزّبور المنزل على داود -عليه السلام! ¬

_ (¬1) انظر: المرجع السابق. (¬2) انظر: النبأ العظيم: 15.

ذلكم هو القرآن الكريم

وأما بالنسبة لكلام البشر فهذا واضح، وذلك كوصف كونه عربياً الذي يشاركه فيه الحديث الشريف، وكوصف كونه متواتراً الذي يشاركه فيه بعض الأحاديث! ومن ثم ذكر العلماء مزايا للقرآن الكريم، منها: 1 - القرآن معجزة باقية على مر الدهور، محفوظة من التغيير والتبديل، متواترة اللفظ في جميع الكلمات والحروف والأسلوب! 2 - حرمة روايته بالمعنى! 3 - حرمة مسّه للمحدث وتلاوته لنحو الجنب! 4 - تَعيُّنه في الصلاة! 5 - تسميته قرآناً! 6 - التعبّد بتلاوته، لكل حرف منه عشر حسنات! 7 - امتناع بيعه في رواية عن أحمد وكراهيته عند الشافعية! 8 - تسمية الجملة منه (آية)، ومقدار من الآيات مخصوص (سورة)! 9 - القرآن الكريم ما كان لفظه ومعناه من عند الله- عزّ وجل- بوحي جليّ (¬1)! ذلكم هو القرآن الكريم: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (الشعراء)! ¬

_ (¬1) أصول الحديث: علومه ومصطلحه، د. محمَّد عجاج الخطيب: 29.

ولم يكن للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه من عمل بعد ذلك إلا الوعي والحفظ والقراءة والتبليغ، والبيان والتفسير، والتطبيق والتنفيذ (¬1)! أما ابتكار معانيه، وصياغة مبانيه، فما هو منها بسبيل، وليس له من أمرهما شيء: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم)! {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)} (الأعراف)! ويقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15)! وأمثال هذه الآيات كثيرٌ في شأن إيحاء المعاني -التي ترتبط بالألفاظ- ثم يقول في شأن الإيحاء اللَّفظي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (يوسف: 2)! {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} (الأعلى)! {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} (القيامة)! {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} (العلق)! {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ (27)} (الكهف)! {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} (المزمل)! فانظر كيف عبّر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان، وكون القرآن عربيًّا، وكلُّ أولئك من عوارض الألفاظ لا المعاني البحتة! ¬

_ (¬1) النبأ العظيم: 20 - 24 بتصرف.

القرآن إذن صريحٌ في أنه لا صَنْعَةَ فيه لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه! والمحجب أن يبقى بعض الناس في حاجة إلى الاستدلال على ذلك! وهذه القضيّة لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه، ولم يطلب وراءها شهادةَ شاهدٍ آخر من العقل أو النقل، ذلك أنها ليست من جنس (الدعاوى) فتحتاج إلى بيِّنة، وإنما هي من نوع (الإقرار) الذي يؤخذ به صاحبه، ولا يتوقف صديق ولا عدوّ في قبوله منه! أيُّ مصلحة لمن يتحدّى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييده في أن ينسب بضاعته لغيره، وينسلخ منها انسلاخاً؟! الذي نعرفه أن كثيرًا من الناس يسطون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خفّ حمله وعلت قيمته وأمنت تهمته، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأثواب المستعارة! أما أن أحداً ينسب لغيره أنفَسَ آثار عقله وأعلى ما تجود به قريحته، فهذا ما لم يَلده الدهر بعد! وإن من تتبع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خَلوته وجَلْوته، لا يشك في أنه كان أبعدَ الناس عن المُداجاة والمواربة .. وأن سرَّه وعلانيته كانا سواء في دقة الصدق، وصرامة الحق، في جليل الشؤون وحقيرها .. وأن ذلك كان أخص

شمائله وأظهرَ صفاته، قبل النبوة وبعدها، كما شهد بذلك أحباؤه وأعداؤه (¬1) إلى يومنا هذا؟! {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} (يونس)! ولقد كانت تنزل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - نوازلُ من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجتُه القصوى تلحّ عليه أن يتكلّم، بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مجالاً ومقالاً، ولكنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعهما الليالي والأيام، ولا يجد في شأنها قرآنًا يقرؤه على الناس! ألم يُرْجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة - رضي الله عنها - وأبطأ الوحي، وطال الأمر -وما كان أقساه- والناس يخوضون، حتى بلغت ¬

_ (¬1) انظر مثلًا ما كتبه توماس كاريل الإِنجليزي في كتاب (الأبطال) .. وما كتبه الكونت هنري دي كاستري الفرنسي في خواطره وسوانحه عن الإِسلام .. ثم اقرأ شهادة قريش التي سجلها أبو سفيان وهو في الجاهلية بين يدي هرقل عظيم الروم لمّا سأل هرقل، من حديث طويل رواه الشيخان وغيرهما: (فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكنّي كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة! ثم قال هرقل: فإِن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)! البخاريُّ: 1 - بدء الوحي (7)، وانظر (51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541)، والأدب المفرد (1109)، وخلق أفعال العباد (63، 64)، ومسلم (1773)، وأحمد: 1: 262 - 263، وانظر: الترمذي (2717)، وابن منده: الإيمان (143)، والبيهقيُّ: "الدلائل": 4: 381 - 383. وسيأتي في بحث: الإعجاز البياني: قول عتبة لقريش: وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب! هكذا شهد الأعداء قبل الأحباء!

القلوب الحناجر، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع إلا أن يقول وهو على المنبر فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث طويل: "فوالله! ما علمت على أهلي إِلا خيرًا" (¬1)! حتى نزل صدرُ سورة النور بعشر آيات معلنًا براءتها، ومُصدرًا الحكم المُبْرم بشرفها وطهارتها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} (النور)! ¬

_ (¬1) انظر: البخاريُّ: (2879، 4025، 4690، 4750، 6662، 6679، 7500، 7545) وأيضًا (2637، 2661)، وخلق أفعال العباد: 52، ومسلم (2770)، وأحمد: 6: 194 - 197، والطحاوي: شرح معاني الآثار: 4: 383، وشرح مشكل الآثار (747)، والطبراني: الكبير: 23: (134)، والبيهقي: 10: 41، والدلائل: 4: 64 - 72، وأبو داود (4474، 4475)، والترمذي (3180)، وأبو يعلى (4927)، وابن حبّان (4212، 7099).

وتطالعنا الآيات القرآنية

وإن الإنسان ليقف متململًا أمام هذه الصورة (¬1) الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة -رضي الله عنها- وهي فتاة في تلك السنّ المليئة بالحساسية المرهفة، والرفرفة الشفيفة! فها هي عائشة الطيّبة الطاهرة .. ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوّراتها .. ها هي ذي ترمى في أعزّ ما تعتزّ به .. ترمى في شرفها، وهي ابنة الصدّيق الناشئة في البيت الطاهر الرفيع، وترمى في أمانتها .. وترمى في وفائها، وهي الحبيبة المدللة من ذلك القلب الكبير .. الناشئة في حجر الإِسلام، من أول يوم تفتّحت عيناها فيه على الحياة .. وهي زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! ويا لله! وهي تفاجأ بالنبأ .. ويا لله! لها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأبو بكر - رضي الله عنه - .. وعندما تصل الآلام إلى ذروتها يتنزّل القرآن الكريم ببراءة بيت النبوّة الطيّب الرفيع، ويكشف الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم! وتطالعنا الآيات القرآنيّة: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}! فهم عصبة متجمّعة ذات هدف واحد .. وذلك ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم! وبعد ذلك نبصر تطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد: ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2498 وما بعدها بتصرف.

{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}! فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته .. ويكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف .. ويبّين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة المسلمة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لا تقف عند حدّ .. إنما تمضي صعدًا إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرّج وكل حياء! أما الآلام التي عاناها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأهل بيته، والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن التجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء! وإن الإنسان ليدهش -حتى اليوم- كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جوّ الجماعة المسلمة حينذاك، وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبّب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق! لقد كانت معركة ضخمة خاضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخاضتها الجماعة المسلمة يوم ذاك .. معركة ضخمة خاضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخرج منها منتصرًا كاظمًا لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه، وعظمة قلبه، وجميل صبره، فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاذ صبره، وضعف احتماله! ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه .. ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه .. والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور بوصفه أول خطوة في الحكم عليها: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)}!

ومرة من بعد مرة نبصر فضل الله ورحمته في ختام تلك الآيات

نعم، كان هذا هو الأولى .. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا .. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة! وتمضي الآيات ترسم صورة لتلك الفترة التي أفلت فيها الزمام، واختلّت القاييس، واضطربت القيم! ومرة من بعد مرة نبصر فضل الله ورحمته في ختام تلك الآيات: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}! إن الحدث لعظيم، وإن الخطر لجسيم .. وإن الشرّ الكامن فيه لخليق أن يصيب الجماعة المسلمة كلها بالسوء، ولكن فضل الله ورحمته، ورأفته ورعايته .. ذلك ما وقاهم السوء .. ومن ثم يذكرهم به المرّة بعد المرّة، وهو يربّيهم بهذه التجربة الضخمة! ومع كل هذا ماذا كان يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان أمر القرآن إليه كما يزعم الجاهلون -أن يتقوّل ما يحمي عرضه ويذبّ بها عن عرينه، وينسبه إلى الوحي، لتنقطع ألسنة المتخرصين (¬1)؟! ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله! {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)} (الحاقة)! ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد: 3: 256 وما بعدها، وفضل أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في كتب الحديث: فضائل الصحابة، وخصائصها الأربعين في كتاب: الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: بدر الدين الزركشي.

2 - {يا أهل الكتاب}

ومفاد هذه الآيات من الناحية التقريرية أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صادقٌ فيما أبلغ، وأنه لو تقوّل بعض الأقاويل التي لم يُوحَ بها إليه، لأخذه الله على هذا النحو الذي وصفته الآيات، ولمّا كان هذا لم يقع -كما يشهد الواقع- فهو لا بدَّ صادق! وتلك قضيّة وراءها إيحاءاتٌ وإيماءات وإيقاعات شتى! حين نتصور الأخذ باليمين، وقطع الوتين! وحن نتصور جدّيَّة الأمر التي لا مجال فيها لمجاملة أحد كائنًا من كان، ولو كان هو الكريم عند الله الأثير الحبيب! وحين نتصور التذكرة للمتقين، والحسرةَ على الكافرين! حقًّا، إنه ليس مجرد اليقين، ولكنه الحقُّ في هذا اليقين! إنه كلامُ الله -تبارك وتعالى- بلفظه ومعناه! قل: صدق الله، وصدق رسول الله! 2 - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}: ويطالعنا قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (المائدة)!

لقد كان أهل الكتاب (¬1) يستكثرون أن يدعوهم إلى (الدّين القيّم) نبيّ ليس منهم .. نبيّ من الأميّين الذين كانوا يتعالون عليهم من قبل ويتعالمون؛ لأنهم هم أهل الكتاب وهؤلاء أميّون! فلما أراد الله الكرامة لهؤلاء الأميّين بعث منهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيّين، وجعل فيهم الرسالة الأخيرة، الشاملة للبشر أجمعين! وإذا هؤلاء أعلم أهل الأرض، وأرقاهم تصوّرًا واعتقاداً، وأقومهم منهجًا وطريقًا، وأفضلهم شريعةّ ونظاماً، وأصلحهم مجتمعاً وأخلاقاً! وهذا كله من فضل الله تعالى عليهم، ومن إنعامه بهذا الدّين وارتضائه لهم! وما كان للأميّين أن يكونوا أوصياء على هذه البشريّة لولا هذه النعمة، وما كان لهم -وليس لهم بعد- من زاد يقدّمونه للبشريّة إلا ما يزوّدهم به هذا (الدّين القيّم)! وفي هذا النداء الإلهي {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}! يسجل عليهم أنهم مدعوّون إلى الإِسلام .. مدعوّون للإيمان بهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصره وتأييده، وقد أخذ ميثاقه، وسجل شهادته بأن هذا النبي الأميّ هو رسوله إليهم، وإلي الناس كافة -كما أسلفنا- فلا مجال لإنكار رسالته من عند الله .. ولا مجال للادعاء بأن رسالته مقتصرة على العرب، وليست موجهة إلى أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 2: 861 وما بعدها بتصرف.

فهو رسول الله إليكم، ودوره معكم أن يبيّن لكم ويوضح ويكشف، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي معكم .. سواء في ذلك اليهود والنصارى .. وسبق أن ذكرنا طرفا من ذلك! وقد أخفى النصارى الأساس الأوّل للدين (التوحيد)! وأخفى اليهود كثيرًا من أحكام الشريعة، كرجم الزاني، وتحريم الربا كافة! كما أخفوا جميعًا خبر بعثة محمَّد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -! ويبيّن -أيضًا- طبيعة ما جاء به هذا الرسول، ووظيفته في الحياة البشريّة، وما قدّر الله من أثره في حياة الناس! {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}! وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب (الْقرآن) وطبيعة هذا المنهج (الإِسلاَمِ) من أنه (نُورٌ)! {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} (النساء)! وهنا نبصر نورًا تتجلّى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة (¬1)، ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محدّدًا مرسومًا .. في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء .. حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها .. فترى كل ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 822 بتصرف.

شيء فيها ومن حولها واضحًا .. وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة؟! وحين يعيش الإنسان بروحه في الجوّ القرآني فترة، ويتلقّى منه تصوّراته وقيمه وموازينه، يحسّ يسرًا وبساطةً ووضوحًا في رؤية الأمور، ويشعر أن مقرّرات كثيرة كانت قلقةً في حسّه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء، وتلتزم حقائقها في يسر، وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفّلة لتبدو في براءتها الفطريّة، ونصاعتها كما هي في ميزان الحق! {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ}! والاعتصام بالله ثمرة ملازمة للإيمان به .. متى عرفت النفس حقيقة الإيمان .. فلا يبقى أمامها إلا أن تعتصم بالله وحده .. وهؤلاء يدخلهم الله في رحمة منه وفضل .. رحمة في هذه الحياة الدنيا -قبل الحياة الأخرى- وفضل في هذه العاجلة قبل الفضل في الآجلة .. فالإيمان هو الواحة النديّة التي تجد فيها الروح الظلال من هاجرة الضلال في تيه الحيرة والقلق والشرود .. كما أنه هو القاعدة التي تقوم عليها حياة المجتمع، في كرامة وحريّة ونظافة واستقامة .. حيث يعرف كل إنسان مكانه على حقيقته .. ويشعر بأنّه عبد لله وحده وسيّد مع كل من عداه .. وليس هذا في أي نظام آخر غير نظام (الدّين القيّم)! {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}! وكلمة {إِلَيْهِ} تخلع على التعبير حركة مصوّرة؛ إذ ترسم المؤمنين ويد الحق تنقل خطاهم في الطريق إلى الله على استقامة، وتقرّبهم إليه خطوةً

خطوةً .. وهي عبارة يجد مدلولها في نفسه من يؤمن بالله على بصيرة، فيعتصم به على ثقة .. حيث يحسّ في كل لحظة أنه يهتدي، وتتضح أمامه الطريق، ويقترب فعلًا من الله كأنما هو يخطو إليه في طريق مستقيم! إنه مدلول يذاق .. ولا يعرف حتى يذاق! ويبصر المؤمن حقيقة النور في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته للأشياء والأحداث والأشخاص .. ويجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيمان في قلبه! ويبصر نوراً تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف، ويشرق كل شيء أمامه، فيتضح ويتكشف ويستقيم! ثقلة الظن في كيانه، وظلمة التراب، وكثافة اللحم والدم، وعرامة الشهوة والنزوة .. كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلّى .. تخف الثقلة، وتشرق الظلمة، وترق الكثافة، وترف العرامة! واللبس والغبش في الرؤية، والتأرجح والتردّد في الخطوة، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه! كل أولئك يشرق ويضيء! يتجلّى الهدف، ويستقيم الطريق إليه، وتستقيم النفس على الطريق! {نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}! وصفان لما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -! {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}! سلام الفرد!، وسلام الجماعة!، وسلام العالم!، وسلام الضمير! ،

وسلام العقل!، وسلام الجوارح!، سلام البيت والأسرة!، وسلام المجتمع والأمّة!، وسلام البشر والإنسانيّة!، السلام مع الحياة!، والسلام مع الكون!، السلام مع الله ربّ الكون والحياة! السلام الذي لم تجده البشريّة إلا في هذا (الدّين القيّم)، وإلا في منهجه ونظامه وشريعته، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته! حقًّا، إن الله يهدي بهذا الديّن الذي رضيه من يتبع رضوانه {سُبُلَ السَّلَامِ} كلها في هذه الجوانب جميعها! ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق (سبل الحرب) في الجاهليات القديمة أو الحديثة .. من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهليّة في أعماق الضمير .. وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهليّة وأنظمتها وتخبّطها في أوضاع الحياة! وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرّة يعرفون من تجربتهم في الجاهليّة معنى هذا السلام .. إذ كانوا يذوقونه مذاقًا شخصيًّا، ويلتذّون هذا المذاق المريح! وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة، والجاهليّة من حولنا ومن بيننا تذيق البشريّة الويلات .. من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قرونًا بعد قرون! ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا .. ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا، وتحطّم أخلاقنا وسلوكنا، وتحطّم مجتمعاتنا وشعوبنا .. بينما نملك الدخول في السلم الذي نبصر معالمه حين نتبع رضوان الله، ونرضي لأنفسنا ما رضيه الله لنا!

3 - مكانة التوحيد

إننا نعاني من ويلات الجاهلية، والإِسلام منا قريب .. ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإِسلام في متناول أيدينا لو نشاء .. فأيّة صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟! إننا نملك إنقاذ البشريّة من ويلات الجاهليّة وحربها المشبوبة في شتّى الصور والألوان .. ولكننا لا نملك ذلك قبل أن ننقذ نحن أنفسنا .. وقبل أن نفيء إلى ظل السلام، حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه، فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}! والجاهلية كلها ظلمات .. ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات .. وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه .. وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس .. وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين .. والنور هو النور! {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (175)}! مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها .. مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه .. مستقيم إلى الله، لا يلتوي ولا تلتبس فيه لحقائق والاتجاهات والغايات! 3 - مكانة التوحيد: ومعلوم أن التوحيد قاعدة العقيدة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (الأنبياء)!

ومعلوم أن الأحديّة عقيدة للضمير، وتفسير للوجود، ومنهج للحياة، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (سورة الإخلاص)! وليس هناك حقيقة إلا تلك الأحديّة (¬1)، وليس هناك وجود إلا هذا الوجود .. وكل موجود يستمدّ وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمدّ حقيقته من تلك الحقيقة الذاتيّة! وهي أحدية الفاعليّة .. وإذا استقرّ أمر تلك العقيدة، ووضح هذا التصوّر، خلص الجنان في الإنسان من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلّق آخر .. وخلص لله -جلَّ شأنه! ولا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود .. ولا حقيقة لفاعليّة إلا تلك الإرادة .. وعلام يتعلّق الجَنان بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليّته! وحين يخلص جنان الإنسان من الشعور بغير هذه الحقيقة الواحدة، ومن التعلّق بغيرها .. يتحرّر من جميع القيود، وينطلق من كل الأوهاق .. يتحرّر من الرغبة، وهي أصل قيود كثيرة .. ويتحرر من الرهبة كذلك .. وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئًا متى آمن بالله؟ ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعليّة إلا لله؟ ومتى استقرّ هذا التصوّر الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله، فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها .. وهذه درجة يرى فيها الجنان قدرة الله في كل شيء يراه .. ووراءها الدرجة التي لا يرى فيها شيئًا في الكون إلا هذه القدرة؛ لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا هذه القدرة! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 4002 وما بعدها بتصرف.

وهنا تنسكب في الجنان الطمأنينة! و (الدّين القيم)، دين الأمّة الوسط الخيرة، يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة، وهم يكابدون الحياة الواقعيّة بكل خصائصها، ويزاولون الحياة البشريّة بكل معالمها، والخلافة الأرضية بكل مقوّماتها! ومن هنا ينبثق منهج كامل للحياة، قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصوّرات ومشاعر واتجاهات! منهج للعبادة! ومنهج للتلقّي! ومنهج للتحرّك! وهو منهج رفيق طليق .. الأرض فيه صغيرة، والحياة الدنيا قصيرة، ومتاعها زهيد قليل .. والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية .. وليس معنى هذا الاعتزال ولا الإهمال، ولا الكراهية ولا الهروب .. إنما معناه المحاولة المستمرّة، والكفاح الدائم لترقية البشريّة كلها، وإطلاق الحياة البشريّة جميعها .. ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائها .. مع التحرّر والانطلاق بكل مقوّماتهما! يروي الترمذي وغيره بسند صحيح عن أبيّ بن كعب: أَن المشركين قالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: انْسُبْ لنا ربّك، فأنزل الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}! فالصمد: الذي لم يَلِدْ ولم يُولد؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- لا يموت، ولا يورث:

{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}! قال: لم يكن له شبيهٌ ولا عِدْل، وليس كمثله شىِء (¬1)! ويروي البخاريُّ وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}! يردّدها، فلما أصبح جاء إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك له -وكأن الرجل يتقالها- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! إِنها لتعدل ثلث القرآن" (¬2). قال ابن حجر (¬3): حمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: هي ثلث باعتبار معاني القرآن؛ لأنه أحكام وأخبار وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، فكانت ثلثًا بهذا الاعتبار، ويستأنس لهذا بما أخرجه أبو عبيد من حديث أبي الدرداء قال: جزأ النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن ثلاثة أجزاء: فجعل قل هو الله أحد جزءًا من أجزاء القرآن! ¬

_ (¬1) الترمذي (3364)، وأحمد: 5: 134، والبخاري: التاريخ الكبير: 1 (778)، والطبري: التفسير: 30: 342، وابن خزيمة: التوحيد: 41، والحاكم: 2: 540 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقيُّ: الأسماء والصفات: 1: 419. (¬2) البخاريُّ: 66 - فضائل القرآن (5013)، وانظر (6643، 7374)، ومالك: 1: 208، وأحمد: 3: 35، وأبو داود (1461)، والنسائيُّ: 2: 171، والكبرى (1067، 10534)، وعمل اليوم والليلة (698)، والبغويُّ (1209)، والطحاوي: مشكل الآثار (1217، 1218)، وأبو يعلى (1548)، وابن عبد البر: التمهيد: 19: 226، 230، والبيهقيُّ: 3: 21، وابن حبّان (791). (¬3) فتح الباري: 9: 61، وانظر: كتاب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن، لشيخ الإِسلام ابن تيمية، وهو كتاب قيّم!

هذا، وافتتاح السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول (¬1)، وقد عرفنا أن السورة نزلت على سبب السؤال، فكانت جوابًا على سؤال السائلين، فلذلك قال الله له: {قُلْ}، فكان للأمر بفعل {قُلْ}، تلك الفائدة! وضمير {هُوَ}، ضمير الشأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده، وإذا سمعه الذين سألوا تطلّعوا إلى ما بعده! ويجوز أن يكون {هُوَ} أيضًا عائدًا إلى الربّ في سؤال المشركين حين قالوا: (انْسُبْ لنا ربك)! وقوله: {أَحَدٌ} معناه أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم، وهي الإلهّية المعروفة، فإذا قيل: {الله أَحَدٌ} فالمراد أنه منفرد بالإلهيّة، وإذا قيل (الله واحد)؛ فالمراد أنه واحد لا متعدّد، فمن دونه ليس بإله، ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته! فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله، تعليمًا للناس كلهم، وابطالاً لعقيدة الشرك، وُصف الله في هذه السورة بـ {أَحَدٌ} ولم يوصف بـ (واحد)؛ لأنّ الصفة المشبّهة نهايةُ ما يمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربيّ المبين! وقال ابن سينا: إن {أَحَد} دالّ على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة هناك أصلًا، لا كثرة معنويّةً، وهي كثرة المقوّمات، والأجناس، والفصول، ولا كثرةً حسيّة، وهي كثرة الأجزاء الخارجيّة المتمايزة عقلًا، كما في المادّة والصورة، والكثرة الحسيّة بالقوّة أو بالفعل، كما في الجسم، وذلك ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 15: 612 وما بعدها بتصرف.

متضمّن لكونه سبحانه منزّهًا عن الجنس والفصل، والمادّة، والصورة، والأعراض، والأبعاض، والأعضاء، والأشكال، والألوان، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة، والبساطة الحقّة اللائقة بكرم وجهه -عزّ وجل- أن يشبهه شيء، أو يساويه سبحانه شيء، وتبيينُه: أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجه أصلًا أولى بالواحديّة مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي لا ينقسم انقسامًا عقليًا أولى بالواحديّة من الذي ينقسم انقسامًا بالحسّ بالقوة ثم بالفعل، فـ (أحد) جامع للدلالة على الواحديّة من جميع الوجوه، وأنه لا كثرة في موصوفه! قال ابن القيم (¬1): فهو توحيد منه لنفسه، وأمر للمخاطب بتوحيده، فإذا قال العبد: {قُلْ هُوَ الله أحد (1)} كان قد وحّد الله بما وحّد به نفسه، وأتى بلفظ {قُلْ} تحقيقًا لهذا المعنى، وأنه مبلّغ محض، قائل لما أمر بقوله .. وهذا بخلاف قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} (الفلق)! {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} (الناس)! فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة، لا تبليغ لقوله .. فإن الله لا يستعيذ من أحد، وذلك عليه محال، بخلاف قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}! فإنه خبر عن توحيده، وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنّه الواحد الأحد، فتأمّل هذه النكتة البديعة، والله المستعان (¬2)! وقال: في سورة الإخلاص من كمال التوحيد العلمي الاعتقادي، وإثبات ¬

_ (¬1) بدائع التفسير: 5: 367 وما بعدها بتصرف. (¬2) انظر: بدائع الفوائد: 2: 172.

الأحدية لله، المستلزمة نفي كل شركة عنه، وإثبات الصمديّة المستلزمة كل كمال له، مع كون الخلائق تصمد إليه في حوائجها، أي: تقصده الخليقة، وتتوجّه إليه، علويّها وسفليّها، ونفي الوالد والولد والكفء عنه، المتضمّن لنفي الأصل والفرع، والنظير والمماثل، مما اختصّت به، وصارت تعدل ثلث القرآن، ففي اسمه الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن التشبيه والمثال، وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد (¬1)! وقال: فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}: متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للربّ تعالى من الأحديّة المنافية المشاركة بوجه من الوجوه، والصمديّة المثبتة له جميع صفات الكمال التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لوازم الصمديّة، وغناه وأحديّته ونفي الكفء المتضمّن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير! فتضمَّنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه! وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك! ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر! ونهي! وإباحة! والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته، وأحكامه! ¬

_ (¬1) انظر: زاد المعاد: 4: 180.

4 - أثر التوحيد

وخبر عن خلقه! فأخلصت سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} الخبر عنه، وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي! 4 - أثر التوحيد: ونجد أنفسنا أمام الحديث عن أثر التوحيد في تكوين الشخصية الإِسلاميّة للأمّة الوسط الخيّرة، ونحن نذكر ما رواه أحمد وغيره بسند حسن عن ربيعه بن عباد الدِّيلي، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصرَ عيني بسوق ذي المجاز يقول: "يا أيها الناس، قولوا: لا إِله إِلا الله تُفْلحوا"! ويدخل في فجاجها، والناس مُتقصِّفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت، يقول: "أيها الناس، قولوا: لا إِله إِلا الله تُفْلحوا"! إِلا أن وراءه رجلًا أحول، وضيء الوجه، ذا غديرتين، يقول: إِنه صابئ كاذب، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمَّد بن عبد الله، وهو يذكر النبوّة، قلت: من هذا الذي يكذّبه؟ قالوا: عمّه أبو لهب .. الحديث (¬1)! وقد تحمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ دعوته إلى هذا (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، ما تحمّل، مما تعجز الكلمات عنه! يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) أحمد: 3: 492، وانظر: 4: 63، 341، 5: 371، 376، وأخرجه ابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني (964)، والطبراني: الكبير (4582)، والحاكم: 1: 15، وانظر: 2: 611 - 612، والنسائيُّ: 8: 55، والبيهقيُّ: 5: 380 - 381، والدلائل: 5: 381، والدراقطني: 3: 44 - 45، وابن أبي شيبة: 14: 300، والطبراني: الكبير (8175)، وابن حبّان (6562)، وابن ماجه (2670)، والهيثمي: المجمع: 6: 23.

"لقد أوذيتُ في الله، وما يُؤذي أحدٌ، وأْخِفْتُ في الله، وما يُخاف أحدٌ، ولقد أتَتْ علىِّ ثلاثةٌ من يوم وليلة، وما لي وبلالِ يأكله ذو كبد، إِلا ما يُواري إِبْطَ بلالٍ" (¬1)! ويروي الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إِذ عرضتُ نفسي على ابن عبدِ ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إِلى ما أردت، فانطلقت، وأنا مَهمومٌ على وجهي، فلم أسْتفِق إِلا وأنا بِقَرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإِذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإِذا فيها جبريلُ، فناداني فقال: إِن الله قد سمع قول قومك لك، وما رَدُّوا عليك، وقد بعث الله إِليك ملَك الجبال لتأمُره بما شِئتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجبال، فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمَّد، فقال ذلك فيما شِئْتَ، إِن شِئْتَ أَنْ أُطْبق عليهم الأخشبَيْن، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أنْ يُخرْجَ الله مَن أصلابهم مَن يَعبُدُ الله وحده، لا يُشركُ به شيئًا" (¬2)! ¬

_ (¬1) أحمد: 3: 120، 286، والضياء: المختارة (1634)، وابن أبي شيبة: 11: 264، 14: 300، وعبد بن حميد (1317)، وأبو يعلى (3423)، والترمذي (2472)، والشمائل (137)، والبيهقيُّ: الشعب (1632)، وابن ماجه (151)، وأبو نعيم: الحلية: 1: 150، والبغويُّ (4080)، وابن حبّان (6560). (¬2) البخاريُّ: 59 - بدء الخلق (3231)، وانظر (7389)، ومسلم (1795)، وابن خزيمة: التوحيد: 47 - 48، والآجري: الشريعة (459)، والبيهقيُّ: الأسماء والصفات: 176، والنسائيُّ: الكبرى كما في التحفة: 12: 106، وابن حبّان (6561)! والأخشبان -كما قال ابن حجر-: الفتح: 6: 316 هما جبلا مكة (أبو قبيس)، والذي يقابله، وكأنه (قعيقعان)، وقال الصفاني: بل هو الجبل الأحمر الذي يشرف على =

وقد بُعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، وبلاد الشام في الشمال خاضعة للروم (¬1)، يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس! وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليها من الصحاري القاحلة، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك! وكان في استطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق الأمين الذي حكّمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوه حكمًا .. والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبًا .. كان في استطاعته - صلى الله عليه وسلم - أن يثيرها قوميّةً عربيّةً، تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزّقتها النزاعات، وأن يوجهها وجهة قوميّة لاستخلاص أرضها المغتصبة من الامبراطوريات المستعمرة، الرومان في الشمال، والفرس في الجنوب، وإعلان راية العربيّة والعروبة -كما يدعو دعاة القومية- وإنشاء وحدة قويّة في كل أرجاء الجزيرة! وكان المؤمّل حينئذ أن يستجيب له العرب، بدلًا من أن يعاني ثلاثة عشر عامًا في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان خليقًا أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة .. وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه- كما يقول ¬

_ = (قعيقعان)، ووهم من قال: هو (ثور) كالكرماني، وسميا بذلك لصلابتهما، وغلظ حجارتهما، والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكة، ويحتمل أن يريد أنهما يصيران طبقًا واحدًا .. وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهو موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159)! وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! (¬1) في ظلال القرآن: 2: 1005 وما بعدها بتصرف.

الساسة- أن يستخدم هذا في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه الله -عزّ وجلّ- بها، وفي تعبيد الناس لسلطان ربّهم بعد أن عبّدهم لسلطانه! ولكن الحق تبارك وتعالى وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، منذ بدء الدعوة -كما عرفنا- إلى أن يصدع بـ (لا إله إلا الله)!، وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له العناء! وبعث الله عزّ وجل محمداً - صلى الله عليه وسلم - (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، والمجتمع العربيّ كأسوأ ما يكون توزيعاً للثروة والعدالة .. وكان في استطاعته - صلى الله عليه وسلم - أن يرفعها رايةً اجتماعيةً، وأن يثيرها حربًا على طبقة الأشراف، وأن يطلقها دعوةً تستهدف تعديل الأوضاع وردّ أموال الأغنياء على الفقراء! ولو دعا هذه الدعوة لانقسم المجتمع العربيّ صفّين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال وأصحابه، بدلًا من أن يقف المجتمع كله صفاً في وجه (لا إله إلا الله)! التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس! وربما قيل: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان خليقاً بعد أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة من الناس ويسلس لها مقادها .. ومن ثم يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربّه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربّهم بعد أن عبّدهم لسلطانه! ولكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يريد أن نعلم أن العدالة الاجتماعيّة لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصوّر اعتقادي شامل كامل، يردّ الأمر كله لله، ويقبل عن رضي وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع،

ويستقرّ معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أن ينفّذ نظاماً يرضاه الله، ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء! فلا تمتلئ قلوب بالطمع، ولا تمتلئ قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا، وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب، وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير (لا إله إلا الله)! وبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربيّة في الدرك الأسفل، في جوانب منه شتى، مما هو معلوم، إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدويّة! وكان في استطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلنها دعوة إصلاحيّة، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين! وكان واجداً وقتها -كما يجد كل مصلح أخلاقيّ في أيّة بيئة- نفوساً طيبة، يؤذيها هذا الدنس، وتأخذها الأريحيّة والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير! وربما قال قائل: إنه - صلى الله عليه وسلم - لو صنع ذلك فاستجابت له -في أول الأمر- جمهرة صالحة، تتطهّر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها .. بدلاً من أن تثير دعوة (لا إله إلا الله)! المعارضة القويّة منذ أول الطريق! ولكن الله -عزّ وجلّ- يريد أن نعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرّر القيم، والسلطة التي ترتكن إلى هذه

الموازين والقيم، كما تقررّ الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين! وحين تقررّت العقيدة الحقة -بعد الجهد الشاق- وتقررّت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة .. وعرف الناس ربهم وعبدوه وحده .. تحررّ الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء .. وتقررّت في القلوب عقيدة: (لا إله الله الله)! صنع الله بها وبأهلها كل شيء! تحرّرت الأرض من الرومان والفرس .. لا ليتقررّ فيها سلطان العرب .. ولكن ليتقرّر فيها شرع الله! لقد تطهّرت من الطاغوت كله: رومانيًّا وفارسيًا وعربياً على السواء! وتطهّر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته، وقام النظام الإِسلامي يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعيّة باسم الله وحده، ويسمّيها راية الإِسلام، لا يقرن إليها اسماً آخر، ويكتب عليها: (لا إله إلا الله)! وتطهّرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح .. لأنّ الرقابة قامت هنالك في الضمائر؛ ولأن الطمع في رضي الله وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة! وارتفعت البشريّة في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها .. إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل (الدّين القيم)، دين الأمّة الوسط الخيرة! ولقد تمّ هذا كله؛ لأنّ الذين أقاموا هذا الدّين في صورة دولة ونظام وشرائع

وأحكام، كانوا قد أقاموا هذا الدّين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق، وعبادة وسلوك .. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدّين وعدًا واحدًا، لا يدخل فيه الغلب والسلطان .. ولا حتى لهذا الدّين على أيديهم .. وعدًا واحدًا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا .. وعدًا واحدًا هو الجنة. هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان، في كل زمان وفي كل مكان، وهو: (لا إِله إِلا الله)! فلمّا أن ابتلاهم الله فصبروا .. ولمّا أن فرغت نفوسهم من حظّها .. ولمّا أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض .. كائنًا ما كان هذا الجزاء، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدّين بجهدهم! ولمّا لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم، ولا اعتزاز بشيء من عرض الدنيا .. علم أنهم قد أصبحوا أمناء على العقيدة التي يتفرّد فيها الحق -جلّ شأنه- بالحاكميّة في القلوب والضمائر، والسلوك والمشاعر، والأرواح والأموال، والأوضاع والأحوال .. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها، وعلى عدل الله يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم، ولا لعشيرتهم، ولا لقومهم ولا لجنسهم، وإنما يكون السلطان في أيديهم لله، ولدين الله، وشريعة الله؛ لأنهم يعلمون أنه من الله، هو الذي آتاهم إيّاه! ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها: (لا إِله إِلا الله)!

ولا ترفع معها سواها .. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره، والمبارك الميسّر في حقيقته! إن هذا (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيرة، يقوم على قاعدة الألوهيّة الواحدة .. كل تنظيماته وكل تشريعاته، تنبثق من هذا الأصل الكبير .. وإن نظامه يتناول الحياة كلها، ويتولّى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها، وينظم حياة الإنسان .. في عالم الشهادة، وعالم الغيب المكنون عنها .. في المعاملات الظاهرة المادية وفي أعماق الضمير .. ودنيا السرائر والنوايا سواء! هذا جانب من سرّ هذا (الدّين القيّم) ومنهجه، في بناء النفس وامتداده، يجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمولها واستغراقها لشعاب النفس ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضمانًا من ضمانات الاحتمال والتناسق في كل تلك المعالم! ومتى استقرت عقيدة: (لا إله إلا الله)! في الأعماق الغائرة البعيدة، استقرّ معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثّل فيه: (لا إله إلا الله)! وتعيّن أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرّت فيها العقيدة، واستسلمت هذه النفوس ابتداءً لهذا النظام، حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته! فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان .. وبمثل هذا الاستسلام تلقّت النفوس المؤمنة، في المجتمع الإِسلامي الأوّل، تنظيمات هذا (الدّين القيم) وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور وصوله إليها، ولا تتلكّأ في تنفيذه بمجرّد تلقّيها له!

وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهليّة كلها .. أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها، ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطانها، ودعايتها وإعلامها .. فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات .. بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات! وجانب آخر من حقيقة هذا (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، يتجلى في هذا المنهج القويم .. إنه منهج عملي واقعيّ حركيّ جاد .. منهج يحكم الحياة في واقعها .. منهج يواجه الواقع ليقضي فيه بأمره .. يقرّه أو يعدّله أو يغيّره من أساسه .. ومن ثمّ فهو لا يشرع إلا لحاجات واقعة فعلًا، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكميّة الله -عَزَّ وَجَلَّ- وحده! إنه ليس نظريّة تتعامل مع الفروض! إنه منهج واقعيّ يتعامل مع الواقع! ومن ثم لا بدّ أولًا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقرّ عقيدة: (لا إله إلا الله)!، وأن الحاكمية لله! وحين يقوم هذا المجتمع فعلًا، تكون له حياة واقعيّة، تحتاج إلى تنظيم وتشريع .. وعندئذ فقط يبدأ هذا (الدّين القيّم) في تقرير النظم .. لقوم مستسلمين أصلًا لقواعد هذا (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة! ومن ثم نبصر المسلمين في مكّة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم، وما كانت لهم حياة واقعيّة مستقلّة هم الذين ينظمونها بشريعة الله .. ولم يكن لهم إلا هذه العقيدة، وهذا الخُلق المنبثق من تلك العقيدة بعد

استقرارها في الأعماق البعيدة .. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزّلت الشرائع، وتقرر النظام الذي يواجه حاجات المجتمع الواقعية، والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدّيّة والنفاذ! ولم يشأ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن ينزل عليهم النظام الإِسلامي ليختزنوا معالمه جاهزة، حتى تطبق بمجرّد قيام الدولة في المدينة! ذلك أن (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته، لصوغه في قالبه الخاص، وفق حجمه وشكله وملابساته! والله -عزّ وجلّ- يريد أن يكون هذا الدّين كما أراده .. عقيدة تملأ الجَنان في الإنسان، وتفرض سلطانها في الضمير! ومن ثم تخلص النفوس لله، وتعلن عبوديّتها لله! والقرآن الكريم لم يعرض هذا الأمر في صورة (نظريّة)!، ولا في صورة (لاهوت)!، ولا في صورة جدل كلامي كالذي عُرف فيما يسمى علم (الكلام)! لقد كان يخاطب فطرة (الإنسان) بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات .. كان يستنقذ فطرته من الركام، ويخلص أجهزة الاستقبال الفطريّة مما ران عليها، وعطّل وظائفها، ويفتح منافذ الفطرة، لتتلفى الموحيات المؤثرة، وتستجيب لها! كان هذا القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حيّة واقعيّة .. مع الركام المعطّل للفطرة .. في نفوس آدمّية حاضرة واقعة! كان يواجه واقعًا بشريًّا كاملًا بكل ملابساته الحيّة، ويخاطب الكينونة البشريّة بجملتها في خضمّ هذا الواقع!

ولم يكن (اللاهوت) هو الشكل المناسب؛ لأنّ العقيدة تمثل منهج حياة واقعيّة للتطبيق العملي، ولا تقبع في الزاوية الضيّقة التي تقبع فيها الأبحاث (اللاهوتيّة النظريّة)! كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركةً ضخمة مع الجاهليّة من حولها، كما يخوض معركة ضخمة في ضميرها وأخلاقها وواقعها! ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة، لا في صورة (نظريّة)، ولا في صورة (لاهوت)، ولا في صورة جدل كلامي .. ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة، ممثّل في الجماعة ذاتها، وكان نمو الجماعة المسلمة في تصوّرها الاعتقادي، وفي سلوكها الواقعيّ وفق هذا التصوّر، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية .. كان هذا النموّ ذاته ممثّلًا تمامًا لنموّ البناء العقديّ، وترجمة حيّة له .. وهذا هو منهج هذا (الدّين القيم) الذي يمثّل حقيقته كذلك! ومرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكّي لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العمليّ للحركة الإِسلاميّة، والبناء الواقعيّ للجماعة المسلمة .. لم تكن مرحلة تلقّي (النظريّة)! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعديّ للعقيدة وللجماعة، وللحركة، وللوجود الفعلي معًا! ومن ثم فالقرآن الكريم لم يقض ثلاثة عشر عامًا في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزّل للمرة الأولى .. كلا! فلو أراد الله -عزّ وجلّ- لأنزله جملة واحدة، ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عامًا أو أكثر أو أقل، حتى يستوعبوا (الحقيقة الإِسلاميّة)!

ولكن الله -جلّ شأنه- كان يريد بناء الجماعة، وبناء الحركة، وبناء العقيدة في وقت واحد.، كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة! كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة! كان يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة .. ومن ثم لم يكن بدّ أن يستغرق بناء العقيدة هذا المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة .. حكى إذا نضج التكوين العقدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعى لهذا النضوج! إن العقيدة الإِسلاميّة يجب أن تتمثّل في نفوس حيّة، وفي تنظيم واقعي، وفي حركة تتفاعل مع الجاهليّة من حولها، كما تتفاعل مع الجاهليّة الراسبة في نفوس أصحابها .. بوصفهم كانوا من أهل الجاهليّة قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم، وتنتزعها من الوسط الجاهليّ، وهي في صورتها تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة -أيضًا- مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله (النظرية)، وتشمل -فيما تشمل- مساحة (النظريّة) ومادتها، ولكنها لا تقتصر عليها! إن التصوّر الإِسلاميّ للألوهيّة وللوجود الكونيّ وللحياة وللإنسان، تصوّر شامل كامل، ولكنه كذلك تصوّر واقعي إيجابيّ! قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} (الإسراء)!

فالفرق مقصود، والمكث مقصود كذلك .. ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة (منظمة حيّة)، لا في صورة (نظرّية معرفيّة)! ونحن لا نملك أن نصل إلى التصوّر الربانيّ والحياة الربانيّة إلا عن طريق المنهج الذي قام عليه المجتمِع الإِسلامي .. ومنهج التفكير والحركة في بناء المجتمع الإِسلامي يجب أن يتمثّل وفق معالم المجتمع الذي قام عليه المجتمع الإِسلامي الأول! رجاء أن نبصر معالم طريق النصر، وانتشار (الدّين القيم)، كما انتشر بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ! ويندهش عقل الناظر في أحوال البشر، عندما يرى أن هذا الدّين يجمع إليه الأمّة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة، ثم يتناول من بقيّة الأمم ما بين المحيط العربي والصين في أقل من قرن واحد، وهو أمر لم يعهد في تاريخ الرسالات والرسل، ولذلك ضلّ كثير في بيان السبب الذي اهتدى إليه المنصفون في سرعة انتشار هذا الدّين، فبطل العجب (¬1)! ابتدأ (الدّين القيّم) بالدعوة إلى الله، ولقي من أعداء أنفسهم أشدّ ما يلقى حقّ من باطل، وأوذي الرسول - صلى الله عليه وسلم -كما سبق- بضروب الإيذاء التي يعجز الخيال المحلّق عن تصوّرها! وأقيم في وجهه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يصعب تذليله من العقاب، لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له، وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسُفكت منهم دماء غزيرة -كما هو معلوم- غير أن تلك الدماء كانت عيون العزائم تتفجّر ¬

_ (¬1) رسالة التوحيد: 95 وما بعدها بتصرف.

في صخور الصبر، يثبّت الله -عزّ وجل- بمشهدها المستيقنين، ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الرّيب، وهي ذوب ما فسد من طباعهم، فتجري من مناحرهم مجرى الدم الفاسد من المفصود، على أيدي الأطباء الحاذقين: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (6)} (الأنفال)! تألّبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيرة، ليحصدوا نبته، ويخفقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه، دفاع الضعيف للأقوياء، والفقير للأغنياء، ولا ناصر له، إلا أنه الحق بين الأباطيل، والرشد في ظلمات الأضاليل، حتى ظفر بالعزّة، وتعزّز بالمنعة! وقد وطئ أرض الجزيرة أقوام من أديان أخر، كانت تدعو إليها، وكانت لهم ملوك وعزّة وسلطان، وحملوا الناس على عقائدهم بأنواع من المكاره، ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحاً، ولا أنالهم فلاحاً! وضمّ (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيرة، سكان القفار العربيّة إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها نظير في ماضيهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ رسالته بأمر ربّه إلى من جاور البلاد العربيّة .. فسخروا وامتنعوا، وناصبوه وقومه الشرّ .. فبعث إليهم البعوث في حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلباً للأمن، وإبلاغاً للدعوة، فاندفعوا في ضعفهم وفقرهم يجعلون الحق على أيديهم، وانهالُوا به على تلك الأمم في قوتها ومنعتها، وكثرة عددها، واستكمال أهبها وعددها، فظفروا منها بما هو

معلوم .. وكانوا متى وضعت الحرب أوزارها، واستقرّ السلطان للفاتح، عطفوا على المغلوبين بالرّفق واللّين، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم، وإقامة شعائرها، آمنين مطمئنّين، ونشروا حمايتهم عليهم، يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم! وشهد العالم بأسره أن (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيرة، كان يعدّ مجاملة المغلوبين فضلاً وإحساناً، عندما يعدها غيرهم ضعةً وضعفاً .. ورفع الدّين القيم الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير المسلم! وبلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام من داخل فيه إلا بين يدي قاض شرعيّ بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا! وحمل المسلمون إلى الناس كتاب الله وشريعته، وألقوا بذلك بين أيديهم، وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه! وظهر الإِسلام على ما كان من جزيرة العرب، من ضروب العبادات الوثنيّة، وتغلّب على ما كان فيها من رذائل الأخلاق، وقبائح الأعمال .. وظهر أن (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، هو الدّين عند الله .. فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته، فتلقّوه شاكرين، وتركوا ما كان بين قومهم صابرين، وأوقع ذلك من الرّيب في قلوب مقلّديهم ما حرّكهم إلى النظر فيه، فوجدوا لطفاً ورحمةً، وخيرًا ونعمة! وسطع (الدّين القيّم) على الديار التي بلغها أهله، فلم يكن بين أهل تلك الديار وبينه إلا أن يسمعوا كلام الله ويفقهوه .. وانتشر بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ!

وسيظل التاريخ يذكر كيف اهتزّ إيوان كسرى، وترنّح قصر قيصر، وتمرغّ الباطل في الرغام! وإذا الحفاة الذين لم يكن لهم شأن أمام الفرس والروم قد هزموا الباطل، وورثوا عرش هذا، وتاج ذاك! واندفعوا بقوة هذا (الدّين القيّم)، دين الأمّة الوسط الخيّرة، حتى بلغوا أسوار الصين، وانطلقوا حتى وصلوا إلى ساحل المحيط الأطلسي، وأقاموا دولة إسلاميّة في أسبانيا، ووصلوا إلى فيينا! وهذا ما شهدته الدنيا، وسجله التاريخ! وصدق الله العظيم: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (التوبة)! {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} (الفتح)! وما يزال هذا الذين ظاهرًا على الذين كله -حتى بعد انحساره السياسي في العصر الحاضر عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض المتوسط (¬1) .. وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب! أجل، ما يزال دين التوحيد ظاهراً على الدّين كله، من حيث هو دين، فهو الدّين القوي بذاته، القويّ بطبيعته .. الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله! بما ¬

_ (¬1) انظر: في ظلال القرآن: 6: 3331.

5 - السابقون الأولون

في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصيلة، ولما فيه من تلبية يسيرة عميقة لحاجات العقل والروح، وحاجات العمران والتقدّم! وما يزال هذا الدّين ظاهراً على الدّين كله في حقيقته .. وغير المسلمين يدركون تلك الحقيقة ويخشونها .. ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب! ترى، هل آن لأمّة التوحيد، خير أمّة أخرجت للناس، أن تدرك هذه الحقيقة .. رجاء أن نرى خلفاً صالحاً لسلف صالح .. وتعود إلينا سيرتنا الأولى! اللهم وفق! 5 - السابقون الأوّلون: ونجد أنفسنا أمام طليعة السابقين الأوّلين إلى الإيمان (¬1) .. زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - الوفيّة الأمينة، أعقل نساء العالمين، أم المؤمنين السيدة خديجة -رضي الله عنها - وأرضاها، التي كانت على أكمل المعرفة ببشائر نبوّته - صلى الله عليه وسلم -، بل كانت متطلّعةً إلى اصطفائه نبياً ورسولاً، حتى اختاره الله تعالى لنبوّته ورسالته رحمة للعالمين! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! وقد أجمع أهل العلم من أئمّة الإِسلام على أن أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها - وأرضاها كانت أول البشر قاطبةً، إيماناً بالله ورسوله (¬2)! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 508 وما بعدها بتصرف. (¬2) انظر: سبل الهدى والرشاد: 2: 300.

وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله!، هذه خديجة قد أتت معها إِناء فيه إِدامٌ أو طعام أو شراب، فإِذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي، وبشرها ببيت في الجنّة من قصب، لا صخَبَ فيه ولا نَصَب (¬1)! وهكذا كانت خديجة -رضي الله عنها - أول من آمن بالله وبرسوله، وصدّق بما جاء منه، فخفّف الله بذلك عن نبيّه - صلى الله عليه وسلم - .. لا يسمع شيئاً مما يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له، فَيَحْزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها، تثبّته وتخفّف عليه، وتصدّقه، وتهوّن عليه أمر الناس (¬2)! وروى الحاكم بسنده عن عائشة -رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبّوا ورقة، فإِنّي رأيت له جنّة أو جنّتين" (¬3)! وفي رواية للطبراني عن أسماء بنت أبي بكر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم - سُئل عن ورقة بن نوفل، فقال: "يبعث يوم القيامة أمّةً وحده" (¬4)! وقال ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى فيما كانت خديجة ذكرت له من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3820)، وانظر (7497)، ومسلم (2432)، وأحمد: 2: 231، والفضائل (1588)، والحاكم: 3: 185 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم! والنسائي: الفضائل (253)، والكبرى (8358)، وأبو يعلى (6089)، والطبراني: 23: 8، 9، 10، وابن أبي شيبة: 12: 133، وابن حبان (7009). (¬2) انظر: السيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 305 مكتبة المنار: الأردن - الزرقاء. (¬3) الحاكم: 2: 609 - 610 وصححه، ووافقه الذهبي. (¬4) المجمع: 9: 416 قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

يا للرّجال وصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غِيرِ حتّى خديجة تدعوني لأخبرها ... وما لها بخفيّ الغيب من خَبرِ جاءت لتسألني عنه لأخبرها ... أمراً أراه سيأتي الناس من أخر فخبّرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصرِ بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل إِنك مبعوث إِلى البشرِ * * * فقلت علّ الذي ترجين ينجزه ... لك الإِله فرجّي الخير وانتظري وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر فقال حين أتانا منطقاً عجبًا ... تقف منه أعالي الجلد والشعر

إِنّي رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أُكملت من أهْيب الصور ثم استمرّ وكان الخوف يذعرني ... مما يسلّم ما حولي من الشجر فقلت ظنّي وما أدري أيصدقني ... أن سوف تبعث تتلو منزل السور وسوف آتيك إِن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا منّ ولا كدَر (¬1) ثم قفَّى خديجة في السبق إلى حظيرة الإيمان برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بيت النبوّة، المتقلّب على فراش الإيمان، الناهد في مهد أكرم المكارم، عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأرضاه! آمن في سنّ الصبا قبل أن يبلغ الحلم، فشبّ معه الإيمان حتى خالط مشاعره ووجدانه، وملأ قلبه، وأفعم بالنور روحه، وكانت العناية الربّانيّة قد ساقته إلى حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! قال ابن إسحاق: كان من نعمة الله على عليّ بن أبي طالب، وكان مما صنع الله، وأراد به من الخير أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -للعباس عمّه، وكان من أيسر ¬

_ (¬1) الحاكم: 2: 609 وقال: حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر: البداية: 3: 9 وجاء من طريقين حسنهما ابن كثير.

بني هاشم: يا عبّاس، إِن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إِليه، فلنخفِّف عنه من عياله، آخُذُ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجلاً فنكلهما عنه! فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إِنا نريد أن نخفِّف عنك من عيالك، حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه! فقال لهما أبو طالب: إِذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما! قال ابن هشام: ويقال: عقيلاً وطالباً! فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا فضمّه إِليه، وأخذ العبّاس جعفراً فضمّه إِليه، فلم يزل عليّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى بعثه الله -تبارك وتعالى- نبيًّا، فاتّبعه عليّ - رضي الله عنه -، وآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتى أسلم واستغنى عنه (¬1)! قال ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شُرحْبيل بن كعب بن عبد العزّى بن امرئ القيس الكلبي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أوّل ذَكرٍ أسلم، وصلّى بعد عليّ بن أبي طالب (¬2)! والقول بأسبقيّة أمّ المؤمنين خديجة وبناتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِسلام (¬3)، وأسبقيّة عليّ - رضي الله عنه -، وزيد بن حارثة، من كل مَن كان يظلّهم سقف بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في رعاية الزوجيّة، والأبوّة، وحضانة التربية والولاء -لا يعارض قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن جاء بعدهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 313. (¬2) المرجع السابق: 314. (¬3) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 515 وما بعدها بتصرف.

من الأئمّة، بأسبقية أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه - .. لأن إسلام أسرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زوجه وبناته، وربيب رعايته وتربيته ابن عمه، ومولاه وحبّه- كان إسلام الفطرة النقية الطاهرة، التي ولدت في مهد الإيمان، ونشأت بين أحضان النبوّة، حيث شاهدت أكرم مكارم الأخلاق، ورأت معالم النبوّة وآياتها الإرهاصيّة، تتجلّى في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم - قبل نزولها .. ثم رأت معالم الوحي، وسمعت آيات الله تتلى في بيتهم، والحكمة تتنزّل بينهم، وشهدت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الزوج الحبيب الأكرم، والأب الودود المحبّ الحبيب، والحاضن المربّي الشفيق، والمولى الرحيم الرفيق، والمعلّم المهذّب المؤدّب، والمشرّع السمح الحكيم، والرسول المصدّق الأمين، ينزل عليه الوحي بآيات الرسالة وشرائعها وأحكامها وآدابها، فإذا هو - صلى الله عليه وسلم - صورة حية متحركة لهذه الآيات والشرائع والأحكام والآداب، فيأخذون عنه خُلُقه وعمله مشاهدة ومحاكاة، ويسمعون منه ما يأمر به ويرغّب فيه من الخير، وما ينهي عنه وينفر من مقاربته من الشر، فيتشرّبون من يقينه وإيمانه وحكمته وآدابه وشرائعه ما تطيق قلوبهم وأرواحهم حمله، وتترسم عقولهم ما تستطيع إدراكه من مشاهد النبوّة والوحي، وإشراق الرسالة، وينهضون إلى القيام بجوارحهم أداء لما يطلب من الجوارح! فسبق هؤلاء الغرّ الميامين إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده، والتصديق برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فطري طبيعي، تقتضيه الفطرة النقيّة، والطبيعة الناهدة بين أحضان الخير والهدى؛ لأن في ذلك تحقيقاً لما يشهدونه في واقع حياة الأب والزوج والمربّي، والرسول الصادق المصدّق من أدب وخُلق وعمل، ليصنعوا منه صورة أنفسهم وعقولهم، وأرواحهم ومشاعرهم وإحساساتهم، تحبّباً إليه، واستجابة له، وإيناساً لخوالجه، وتقرباً إلى الله تعالى!

وهذا هو أصدق ضروب الإيمان، فهو إيمان استجابة لدوافع الفطرة المطهَّرة التي لا تُدفع، وهو إيمان ينبع من الامتزاج بحياة قام بنيانها على الإخلاص المؤمن بكل حركة يشهدونها من النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لم يكن إيماناً عن دعوة تبليغيّة منه - صلى الله عليه وسلم - لأسرته، ومجتمع بيته وأهله؛ لأنهم لم يكونوا في حاجة إلى دعوة وتبليغ، ضرورة تكيّفهم بكل ما يرون ويسمعون في هذا البيت الكريم، وضرورة تقبّلهم لكل ما يشهدون من الخير تقبّل الفطرة النقيّة، وطبيعة النشأة الحاكية، وتصديق الإيمان والإِسلام! قال ابن إسحاق: فلمَّا أسلم أبو بكر - رضي الله عنه -، أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألوفاً لقومه، محبّباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشرّ، وكان رجلاً تاجراً ذا خُلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الله وإلي الإِسلام، مَنْ وثق به من قومه، ممّن يغشاه، ويجلس إليه (¬1)! قال: فأسلم بدعائه -فيما بلغني- عثمان بن عفّان .. والزبير بن العوّام .. وعبد الرحمن بن عوف ... وغيرهم! وكان إسلام الصدّيق - رضي الله عنه - أوّل تحرّك إيجابيّ في سير الرسالة، وأوّل أثر عمليّ للدعوة التبليغيّة للإيمان بالله تعالى، وتصديق رسوله فيما جاء به من الحق والهُدى، وأوّل ثمرة جنيّة ظهرت في دوحة تبليغ الرسالة! فقد آمن الصدّيق - رضي الله عنه - لحظة دُعي إلى الإيمان، لم يكن يتلبّث لينظر، ولم ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 317.

يتوقّف ليفكّر ويعزم، ولم يتردّد ليستشير ويستهدي، لأن دلائل صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت متوافرةً لديه، وكامنة في حنايا نفسه، ممتزجةً بحسّه وشعوره، تملأ قلبه وعقله وروحه! وهنا يتجلّى للمتأمّل في أحداث الرسالة فيصل ما بين إيمان الفطرة النقيّة الصافية، التي نهد الإيمان معها، ونهضت معه، وهي ترى وتسمع شواهد الأحداث، ونداء الوقائع، ودلائل الإرهاصات، قبل تنزّل الرسالة، وبين إيمان العقل العليم الذي دُعي بين يدي براهين الصدق فاستجاب، وبُلّغ الرسالة فأجاب، ونظر فما استراب! فإيمان الفطرة الذي سبقت به خديجة -رضي الله عنها - ومن معها في ساحة بيتها اطمئنان إلى نور الحق يغمر النفس، ويشغلها في حدود طاقتها بموجبات الإيمان الناشئ في مهد الرسالة، انتظاراً لما ينجلي عنه أفق الدعوة بظهور شمس الهداية، وإشراق أضوائها التي تظهر بها معالم الطريق إلى الله! وإيمان العقل العلم، الذي دُعي إلى التصديق بالرسالة، وهو مغمور بأنوار دلائل صدق الداعي، وهداية الدعوة، فلبّي وأجاب، والذي بُلّغ بالرسالة، وهو يشهد بشائرها فاستجاب -إيقان الحق الذي دُعي إلى الإيمان به، وتحمّل مسؤووليّته في الدعوة إليه، وتبليغ رسالته! ومن هنا كان إيمان أبي بكر - رضي الله عنه - إيمان الدعاء إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتبليغ الرسالة، وتحمّل مسؤوليّة النيابة والوراثة في هذا الدعاء والتبليغ، لتسير الرسالة في طريقها قويّة متحرّكة مع الزمن حركة إيجابيّة، تجذب القلوب والعقول إلى ساحة الإيمان بالله، والتصديق برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كان

إيمان أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -، فهو منذ أجاب إلى الإِسلام أقام نفسه داعياً إلى الله، يبلّغ دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، متحمّلاً مسؤوليّة النيابة والوراثة في الدعوة والتبليغ! وخصيصة أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه - في ذلك أنه كان أوّل من تحمّل هذه المسؤوليّة؛ لأنه كان أوّل مؤمن يطيق حملها، والقيام بأعبائها باعتباره الشخصيّة الوحيدة التي كانت بعرض التكليف بهذا التحمّل إذ ذاك! والذين استجابوا لله وللرسول من السابقين الأولين لم يكونوا كلهم ولا أكثرهم من الضعفاء والأرقّاء والفقراء، وحواشي بيوتات مكّة، وأتباعها الملتَقطين فتات موائدها -كما شُهر ذلك على ألسنة وأقلام السطحيّين من الباحثين- بل كانوا في كثرتهم الكاثرة من صميم أبناء بيوت قريش وبطونها، وعِلْية شبابها! وسيأتي تفصيل ذلك! وهم معروفون بأسمائهم وأنسابهم، وييوتهم، وقبائلهم، فما شُهِر من أن الذين سبقوا إلى الإيمان بدعوة محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومتابعته على دينه، وتصديق رسالته، كانوا من الأرقّاء، والموالي، والمستضعفين والمحرومين كلام -وإن ورد في بعض الروايات كما سبق- لا يصحّ على إطلاقه -اغتراراً بما فيه من بريق مناصرة الإِسلام للضعفاء، وتخليص الأرقاء من رقّ العبوديّة الظالمة، وتحرير الفقراء من أغلال الاستغلال الجماعي الجائر- تأثّراً بالمذاهب الاجتماعيّة الضالّة الفاسدة، التي غرّرت بطوائف الشعب الغرِّيرة الكادحة تحت اسم العمّال والمحرومين، وأقاموا على دعائم هذا التغرير الخبيث الماكر الثورات

6 - {قم فأنذر}

الاجتماعيّة الخادعة الشرّيرة المفسدة الملحدة، متمثّلة في الشيوعية الفاجرة التي تسوق الشعوب بسياط من بشاعة القسوة والعذاب الذي لا يطاق! فهذا وإن كان في واقع الإِسلام ومبادئه وشرائعه التي أنزلها الله لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، ونصرة المظلوم، وإتاحة العيش الكريم لكل إنسان على أرض الله، لكنه ليس هو واقع السابقين الأوّلين من طلائع المؤمنين بدعوة الإِسلام، فكانوا أوّل من آمن برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، واهتدوا بهديه، وكانوا اللبنات الأولى في صرح هذا (الدّين القيّم)! وليس هو واقع الإِسلام في هدايته العامة التي جاءت لهداية الإنسانيّة كلها، وتحريرها من ربقة الشرك والوثنية وإدخالها في حظيرة التوحيد وإفراد الله تعالى بالعبوديّة الخالصة، وتخليصها من ذلّ الظلم الاجتماعي الذي فرضه عليها حفنة من الطغاة البغاة العتاة، فساقوها بسياط الظلم إلى مهاوي العبوديّة لهم، ولما في أيديهم من حطام الدنيا! 6 - {قُمْ فَأَنْذِرْ}: وبعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى العالمين، وأمره بالإنذار العام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} (المدثر)! وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن يحيى قال (¬1): سألت أبا سلمة: ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4924)، وانظر (4922، 4923)، والتاريخ الكبير: 1: 312 - 313، ومسلم (161)، وأحمد: 3: 306، 325، 377، 392، والطيالسي =

أيّ القرآن أنزل أوّل؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}! فقلت: أنبئت أنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}! فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت!: أنبئت أنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}! فقال: لا أخبرك إِلا بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جاورت في حراء، فلمَّا قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، فإِذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: دثّروني وصبّوا عليّ ماءً باردًا، وأنزلت عليّ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} (المدثر)! وحديث بدء نزول الوحي مشهور -كما أسلفنا في حديث بدء الوحي- والمراد بالأوليّة هنا -كما قال ابن حجر (¬1) - أوليّة مخصوصة بما بعد فترة الوحي، أو مخصوصة بالأمر بالإنذار، لا أن المراد أنها أوليّة مطلقة، فكأن من قال أوّل ما نزل {اقْرَأْ} أراد أوليّة مطلقة، ومن قال إنها {الْمدَّثِّر} أراد بقيد التصريح بالإرسال! قال الكرماني: استخرج جابر: أول ما نزل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} باجتهاد، وليس هو من روايته! والصحيح ما سبق في حديث بدء الوحي! ¬

_ = (1688، 1693)، والطبري: 29: 143، وأبو عوانة: 1: 113، 114 - 115، وأبو يعلى (1948، 1949، 2225)، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 278، والبيهقي: الدلائل: 2: 138، 155، 156، والواحدي: أسباب النزول: 295، والترمذي (3325)، والنسائي: الكبرى (11632، 11633)، والتفسير (651)، وابن حبان (34، 35). (¬1) فتح الباري: 8: 678.

7 - وصايا قرآنية

7 - وصايا قرآنيّة: ويطالعنا النداء العلويّ الجليل، للأمر العظيم الثقيل .. نذارة هذه البشريّة وإيقاظها، وتخليصها من الشرّ في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان .. وهو واجب ثقيل سياق، حين يناط بفرد من البشر -مهما يكن نبياً ورسولاً- فالبشرية امتلأت من الضلال والعصيان، والتمردّ والعتوّ، والعناد والإصرار، والالتواء، والتفصّي من هذا الأمر، بحيث تجعل من الدعوة أصعب وأثقل ما يكلفه إنسان من المهام في هذا الوجود (¬1)! {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}! والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب الذي يترصّد للغافلين السادرين في الضلال وهم لا يشعرون .. وفيه تتجلّى رحمة الله بالعباد، وهم لا ينقصون في ملكه شيئاً حين يضلّون، ولا يزيدون في ملكه شيئاً حين يهتدون، غير أن رحمته اقتضت أن يمنحهم كل هذه العناية، ليخلصوا من العذاب الأليم في الآخرة، ومن الشرّ الموبق في الدنيا، وأن يدعوهم رسله ليغفر لهم ويدخلهم جنته من فضله! ثم يوجه الله رسوله في خاصّة نفسه، بعد إذ كلّفه نذارة غيره: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}! فهو وحده الكبير، الذي يستحقّ التكبير، وهو توجيه يقرر جانباً من التصوّر الإيماني لمعنى الألوهيّة، ومعنى التوحيد! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3754 وما بعدها بتصرف.

إن كل أحد، وكل شيء، وكل قيمة، وكل حقيقة .. صغير .. ! والله وحده هو الكبير .. ! وتتوارى الأجرام والأحجام، والقوى والقيم، والأحداث والأحوال، والمعاني والأشكال، وتنمحي في ظلال الجلال والكمال، لله الواحد الكبير المتعال! وهو توجيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليواجه نذارة البشريّة، ومتاعبها وأهوالها وأثقالها، بهذا التصوّر، وبهذا الشعور، فيستصغر كل كيد، وكل قوّة .. وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة، هو الكبير .. ومشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصوّر، وهذا الشعور! وبعد ذلك يطالعنا: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}! وطهارة الثياب كناية في الاستعمال العربي عن طهارة القلب والخُلق والعمل .. طهارة الذات التي تحتويها الثياب، وكل ما يلمّ بها أو يمسّها .. والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقّي من الملأ الأعلى .. كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة، وهي بعد هذا وذلك ضروريّة لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدّعوة في وسط التيّارات والأهواء والمداخل والدروب .. وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران وأخلاط وشوائب .. تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة؛ كي يملك استنقاذ الملوّثين دون أن يتلوّث، وملابسة المدنّسين من غير أن يتدنّس .. وهي لفتة دقيقة عميقة إلى ملابسات الرسالة والدعوة والقيام على هذا الأمر بين شتّى الأوساط، وشتّى البيئات، وشتّى الظروف، وشتّى القلوب! وبعد ذلك يطالعنا قوله جل شأنه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)}!

والرسول - صلى الله عليه وسلم -كما عرفنا- كان هاجراً للشرك، ولموجبات العذاب، حتى قبل النبوّة، فقد عافت فطرته السليمة ذلك الانحراف، وهذا الركام من المعتقدات الشائهة، وذلك الرجس من الأخلاق والعادات، فلم يعرف عنه أنه شارك في شيء من خوض الجاهلية .. ولكن هذا التوجيه يعني المفاصلة، وإعلان التميّز الذي لا صلح فيه ولا هوادة .. فهما طريقان، مفترقان لا يلتقيان، كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز -والرجز في الأصل هو العذاب، ثم أصبح يطلق على موجبات العذاب- تحرزّ التطهر من مس هذا الدنس! ويوجّهه إلى إنكار ذاته وعدم المنّ بما يقدّمه من الجهد، أو استكثاره واستعظامه: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)}! وهو - صلى الله عليه وسلم - سيقدّم الكثير، وسيبذل الكثير، وسيلقى الكثير من الجهد والتضحية والعناء .. ولكن الله يريد منه ألا يظل يستعظم ما يقدّمه ويستكثره ويمتنّ به .. وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحسّ بما تبذل .. فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها إيّاه، وعطاء يختارُهَا له، ويوفّقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لله، لا المنّ والاستكثار! ويوجهه أخيراً إلى الصبر لربّه: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}! وهي الوصية التي تتكرر عند كل تكليف بهذه الدعوة أو تثبيت، والصبر هو هذا الزاد الأصيل في هذه المعركة الشاقة .. معركة الدعوة إلى الله، المعركة المزدوجة مع شهوات النفوس وأهواء القلوب، ومع أعداء الدعوة الذين تقودهم شياطين الشهوات، وتدفعهم شياطين الأهواء!

وهي معركة طويلة عنيفة لا زاد لها إلا الصبر الذي يقصد فيه وجه الله، ويتّجه به إليه احتساباً عنده وحده! وقد كانت الوصيّة الأولى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}! نبراساً قويًّا أضاء لنا رقعة الوجود -كما يقول المرحوم الدكتور دراز (¬1) - فأرانا فيها مكاننا ومكانتنا، وحدّد لنا فيها وجهة سيرنا وقبلتنا .. ثم كانت هُتافاً عالياً هتف بنا أن نوجّه إلى هذه القبلة أبصارنا وبصائرنا .. قالت لنا -وما أصدق وأعدل ما قالت: أيها الإنسان، لئن كنت قد هبطت من علياء الفردوس إلى هذه الأرض المتواضعة، لقد هبطت إليها واقفاً على قدميك، ولم تهبط إليها مكبًّا على وجهك ولديك! ألم تر كيف خُلقت منصوب القامة، مرفوع الهامة؟ فجعل نصيب الأرض منك أن تطأها برجلك ونعلك! أمَّا ناصيتك، فقد بقيت مرفوعةً إلى السماء، تذكّرك بما هنالك ومن هنالك، مِن وطنك وأهلك! إن هذا الرأس المرفوع يتأبّى لك بفطرته أن تنكّسه وتقلب وجهه، خضوعاً لشيء من المخلوقات، أو ركوعاً لأحد من المخلوقين! أيها الإنسان، لئن كان لك في هذه الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين، لقد علمت أنك سوف تخرج منها إلى مستقر آخر، متى جاء هذا الحين .. فهل تحبّ أن تعرف حقيقة مصيرك ونهايتك؟! ¬

_ (¬1) من خلق القرآن: 10 وما بعدها بتصرف.

ما عليك إذن إلا أن تنظر إلى أسلوب مسيرك في بدايتك، فإن كنت ممن يسيرون رافعي رؤوسهم، متطلّعين إلى الأفق الأعلى، فإن الأبرار الطائعين الفاعلين كل خير في عليّيّن: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)} (المطففين)! ولفظ {عِلِّيِّينَ} يوحي بالعلوّ والارتفاع (¬1)! وإن كنت ممن ينكّسون رؤوسهم أمام صنم الدنيا؛ فإن الفجّار العصاة في سجّين: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)} (المطففين)! والفجار هم المتجاوزون للحدّ في المعصية والإثم (¬2)! هكذا يكون المستقرّ في النهاية، حيث يتوجّه البصر في البداية: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)} (الملك)! والذي يمشي مكبًّا على وجهه إما أن يكون هو الذي يمشي على وجهه فعلاً، لا على رجليه في استقامة، كما خلقه الله، وإما أن يكون هو الذي يعثر في طريقه فينكب على وجهه، ثم ينهض ليعثر من جديد (¬3)! ¬

_ (¬1) انظر: في ظلال القرآن: 6: 3858 وما بعدها. (¬2) انظر: المرجع السابق: 3857. (¬3) انظر: المرجع السابق: 3644.

وهذه كتلك حال بائسة تعاني المشقّة والعسر والتعثّر، ثم لا تنتهي إلى هدى ولا خير ولا وصول! وأين هي من حال الذي يمشي مستقيماً سوياً في طريق لا عوج فيه ولا عثرات، وهدفه أمامه واضح مرسوم؟! إن الحالة الأولى هي حال الشقي المنكود الضال عن طريق الله، المحروم من هداه الذي يصطدم بنواميسه ومخلوقاته؛ لأنه يعترضها في سيره، ويتخذ له مساراً غير مسارها، وطريقاً غير طريقها، فهو أبداً في تعثّر، وأبداً في عناء، وأبداً في ضلال! والحال الثانية هي حال السعيد المهتدي إلى الله، الذي يسير وفق نواميسه في الطريق اللاحب المعمور، الذي يسلكه موكب الإيمان والحمد والتمجيد .. وهو موكب هذا الوجود بما فيه من أحياء وأشياء! إن حياة الإيمان هي اليسر والاستقامة والقصد .. وحياة الكفر هي العسر والتعثر والضلال! فأيّهما أهدى؟ وهل الأمر في حاجة إلى جواب؟ إنما هو سؤال التقرير والإيجاب؟ أيها الإنسان، إن لك في السماء مكاناً يناديك، ففرّ إليه، بل طر إليه .. أقم وجهك للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، ولا تكونن من المشركين: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}!

لكن هنا يتساءل المتسائلون، ويتعجّب المتعجّبون: بأيّ جناح تطير هذه الأرواح إلى مستقرّها الأرفع، بعد أن حملت من أوزار المادّة وأثقالها ما أوهن أجنحتها؟! وكيف تطمع هذه الأرواح أن تعود كرّة أخرى إلى ذلك الرفيق الأعلى، وقد أصابها منذ هبطت إلى هذا الكوكب، من غبار الدنيا وغبرتها، ومن شعثها وقترتها، ما يباعد بينها وبين ذلك الأفق الأقدس الأطهر؟! يتساءلون ويعجبون .. إنهم يرونه بعيداً، ولكن القرآن الكريم يراه قريبًا جدّ قريب! ها هو ذا يرشد الأرواح إلى طهورها الذي يردّ إليها اعتبارها! ها هو ذا يهيئ للأرواح معراجها الذي يعيدها إلى عزّة مكانها، وشرف جوارها! {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} (القمر)! نعم، لقد كانت الوصية الأولى حداءً للأرواح يدعوها إلى الملأ الأعلى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}! فجاءت هذه الوصيّة الثانية، تنصب للأرواح معراجها الذي تعرج فيه، لتلبية ذلك النداء: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}! إنه لمعراج حقاً، ولكن أليس حسب الكسالى مثبطاً أنه معراج؟! ومعلوم أن واجب الطهر ليس عمل ساعة، وإنما هو قرين العمر، وليس شغل يوم، ولكنه مشغلة الدهر!

إن الغبار متلاحق متواصل، لو ترك في أوقات متوالية تراكمت طبقاته، وتزايدت مشقاته! وهو غبار أخّاذ نفّاذ، ينفذ من ظاهر الأغشية والأغطية، إلى باطن الصناديق والأوعية! وهو غبار تتداعى أجزاؤه، وتتجاذب أطرافه، حتى ليفضي اليسير منه إلى الكثير، والصغير منه إلى الكبير! ألا فلندع جانباً هؤلاء الكسالى، الذين كره الله انبعاثهم فثبّط عزائمهم، ولننظر إلى فضل الله علينا وعلى الناس؛ إذ جعل لنا في كل مرحلة من مراحل هذا الغبار الثائر، سبيلاً إلى التنزّه عنه، أو إلى التطهّر منه! ذلك أن هذا الغبار -وإن نفذ من غلاف إلى غلاف، وإن اقتحم على النفس أسوارها، حجاباً بعد حجاب- لا يبلغَ جهده أنَ يصل إلى جوهرها الكمين في قراره المكين، كلا، ولو فعل .. إذن لسقط التكليف، ورفعت التبعات، وزالت حجّة الله على الناس! وإنما قصارى أمره -ما دام زمام المسؤوليّة في أيدينا- أن يسدّ على النفس منافذ حسّها من قريب أو بعيد، وأن يغشى زجاجة نورها بحجاب رقيق أو غليظ فيدسّها ويخفيها .. ولكن ما هو إلا أن تزال عنها تلك الغشاوات والحجب، فإذا هي قد تجلّى نورها، وتدفّق ماء حياتها، وعادت كما كانت إلى السير! ترى، ما كنه تلك الثياب التي أمرنا بتطهيرها؟ أما الحرفيّون الماديّون فإنهم يفهمون منها أدنى معانيها إلى حسّهم، ذلك

اللباس الذي تتوارى به أبداننا، أما المتفقّهون في أسرار اللغة والدّين، فإنهم يفهمون منها شمائل الأخلاق: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} (الأعراف)! والقول الجامع أن النفس يحيط بها أربع طبقات، كل واحدة منها تعد ثوباً لها: أدناها إلى جوهرها طبقة الصفات والأحوال النفسيّة، وهذا هو ثوب الشعار! ثم يلي ذلك ثلاث طبقات من الدثار: طبقة السير والأعمال! ثم طبقة البنية والجثمان! ثم طبقة الملبس! والقرآن الكريم يناشدنا أن نحرص على طهارة الطبقات الأربع جميعاً، بل على طهارة كل ما نلامسه ونباشره من مكان ومصلّى ومسكن، وعلى التحلّي بكل حسن جميل، والتخلّي عن كل دنس ذميم، حسياً كان أو معنويًّا: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (الأنعام: 120)! {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأنعام: 151)! {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31)! {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} (الحج)! {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} (التوبة)!

بين البخل والسرف

ولمَّا كانت عناية القرآن دائماً بالجوهر والمخبر أشدّ منها بالصورة والمظهر، كان الهدف الأوّل الذي تتجه إليه الوصيّة ها هنا، هو الجانب الروحي الخُلُقي، جانب السيرة والسريرة! وهذا هو ما فهمه الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين! وإنه لطهر شامل للمظهر والمخبر معاً! ترى، أما آن لنا أن نقبس من هذا الطهر ما يضيء أمامنا معالم الطريق؟! بين البخل والسرف: والشأن في المسلم أن يوقن أن حصر همّه في جمع المال وتعديده يشقيه تَعَباً ويعييه، وأنه لا محالة مفارقه يوماً ما تركةً، ليستمتع به من لم يكن يهمه ولا يعنيه، وأنه سيلاقيه أخيراً، لا ملكاً ولا انتفاعاً، ولكن عذاباً واصباً في الآخرة، فوق ما كان هماً ناصباً في هذه الدنيا! ومن ثم ينفعه إيمانه، ويتبدّل حرصه الشديد على المال إنفاقاً في سبيل الله، وزهداً في متاع الحياة، وتتحوّل عبوديّته له سيادة وسلطاناً عليه، وتنفرج أنامله المعقودة، وتنبسط كفّه المقبوضة، ويصبح شعاره: أنفق .. أنفق .. بعد أن كان مثله: أمسك .. أمسك! لكن، ألست ترى أن حلّ هذه المشكلة الأولى، هو نفسه إثارة لمشكلة أخرى؟! ألست ترى أن السلامة من هذا الداء، هي بعينها مدرجة، ومزلقة إلى واد آخر؟!

لقد كفينا آنفاً من مرض الإمساك والتقتير .. ألسنا بهذا العلاج نسلط عليه جراثيم من فصيلة الإسراف والتقتير؟! كلا، إن القرآن الحكيم لم يدع هذه النزعة الجديدة تنطلق انطلاقها، وتجاوز مداها .. لقد وضع أمامها سدوداً وحواجز تقف بها دون طرفها الأقصى، كما وضع أمام النزعة الأولى سدوداً وحواجز تقف بها دون طرفها الأدنى، فكما قال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}! قال عقبها في نفس الآية: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} (الإسراء: 29)! ومن صفات عباد الرحمن نقرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} (الفرقان)! هما إذن طرفان ذميمان، خيرهما شر، وموردان يفيضان، أحلاهما مر .. بلى على التعيين والتحديد! إن هذا المرض أفحش ضرراً وأعظم خطراً، وإن اشتركا في أصل الضرر والخطر .. فالممسك والمسرف كلاهما يضع المال في غير موضعه .. غير أن الممسك يضعه في مكان عزيز حريز فما يدرينا؟ لعل الله يقيض لهذا المال بعد ذلك، من يثيره في مكمنه، ويوجّهه الوجهة السديدة التي يرضاها الخُلق والدين! أما المسرف فإنه حين وضعه في غير موضعه وضعه في مضيعة، لقد بعثره وبدّده واستهلكه وأهلكه، فلا سبيل إلى إعادته وتصحيح وجهته! الممسك يفوّت مصلحة المال إلى أمد، والمسرف يفوّتها إلى الأبد!

الممسك يعلّقها ويعطلّها، والمسرف يمحوها ويبطلها! الممسك -بقعوده عن الإنفاق في الخير- يضر من طريق سلبي، والمسرف -بإنفاقه في سبيل الشر- يضرّ من طريق لا حدود لها! الممسك شيطان ساكن ساكت، والمسرف شيطان متحرك ناطق، عامل دائب! لا جرم أنه كان في حكم الله تعالى أحق باسم الشيطان: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} (الإسراء)! هكذا نبصر رذيلتي الإمساك والإسراف، كأنهما من فصيلتين مختلفتين .. وفي الحق لا يختلفان إلا في بادئ الأمر وفي رأي العين .. أما في نظر الحكمة الفاحصة التي تعيش الأشياء من أعماقها، فإنهما يبدوان فصيلة واحدة من المرصد الخلقي، مردها إلى جرثومة واحدة! نعم، إن محور الشرّ في داء البخل، ليس في حفظ المال وصيانته، لكن في حبسه عن مصارفه، كما أن موطن الضرر في داء الإسراف، ليس في إنفاق المال وبذله، ولكن لما أنفق في غير موضعه، كان ذلك حرماناً لأهله ومستحقّيه، وهذا هو بيت القصيد في نظر الحكيم! هكذا رجع الداء إلى أصل واحد، وعنصر واحد، وهو حبس المال عن وجوهه وحرمان أرباب الحقوق منه، سواء أبقي في يد صاحبه فسميّناه بخلاً وإمساكاً، أم تبدّد في أيد أخرى، فسميناه تبذيراً وإسرافاً، فهذا الإسراف نفسه هو في نظر الفضيلة إمساك؛ لأنه حبس للمال عن أهله، وهذا التبذير هو التقتير بعينه على الوجوه الأخرى، التي هي أحرى بالإنفاق!

ترى، ما تلك الوجوه الحريّة بالإنفاق؟ والتي إذا لم نبذل المال فيها كان ذلك وصمة لنا بإحدى الرذيلتين؟ وإذا بذلنا المال فيها، كان ذلك طهراً لنا من الدنسين جميعاً، وشفاءً لنا من الدائنين كليهما، في دفعة واحدة؟ يجيب المتطرفّون من أهل الأثرة والأنانية: نفسك .. نفسك .. ومن ورائك الطوفان! ويجيبنا المتطرّفون من أهل الإيثار والغيريّة: احرق شمعتك .. احرق شمعتك لتضيء للناس، وأهلك نفسك ليحيا الناس! أما القرآن الكريم، فإنه يجيبنا بحكمته الجامعة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77)! نعم، إنها الموازنة، تراعى فيها الحقوق كلها، وتؤذى فيها الواجبات جميعها .. إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً! يروي البخاري وغيره عن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإِني صائم! قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل! فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: ثم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن: فصليّا، فقال له سلمان: إِن لربّك عليك حقاً! ولنفسك عليك حقاً! ولأهلك عليك حقاً! فأعط

كيف عالج القرآن رذيلة البخل؟!

كل ذي حقّ حقّه! فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق سلمان" (¬1)! أما الغيريون المترفون، فإليهم يوجّه نداء القرآن الكريم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} (الأحقاف)! نعم، إنها موازنة، ليست موازنة عدديّة، تتكافأ فيها الأرقام في كل باب، ولكنها موازنة رشيدة، تختلف باختلاف الناس وثرواتهم وأعبائهم، وسائر ملابساتهم .. موازنة تراعى فيها مصالح الدنيا والآخرة جميعاً، على بصيرة وعلى قدر: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} (الرحمن)! {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)} (البقرة)! كيف عالج القرآن رذيلة البخل؟!: وإذا كنا قد عرفنا أن القرآن الكريم حين أمرنا أن نطهّر ثيابنا أرادها منا طهارة شاملة كاملة، حسّية ومعنويةً، ظاهرةً وباطنة .. وعرفنا -كذلك- أيّ نوع من الطهر خصّه القرآن بمزيد من عنايته، وجعل له الصدارة في طليعة دعوته .. وتبيّن لنا أن حملته التطهيريّة الأولى كانت مركّزة على مكافحة ¬

_ (¬1) البخاري: 30 - الصوم (1968)، وانظر (6139)، وأبو يعلى (898)، والترمذي (2413)، وابن خزيمة (2144)، والبيهقي: 4: 276، والدراقطني: 2: 176، وأبو نعيم: 1: 188، وابن حبان (320).

إنه علاج يتألف من ثلاثة عناصر

جذوره في أعماق النفس، ولكن مخالبه تنشب في أحشاء الأمة والدولة، ذلك هو داء الشح والبخل، أو الإمساك والتقتير .. فإن القرآن قد مضى يكشف لنا عن مصادره ومنابعه، فأرانا كيف ينظر الأشحّاء إلى حطام الدنيا من خلال عدسة مكبّرة مزورة، وكيف أورثتهم هذه النظرة الخاطئة ارتفاعاً فاحشاً في درجة حبّهم لهذا الحطام: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} (الفجر)! هكذا وضع القرآن يدنا على رأس المرض وجرثومته .. فهل تراه بذلك قد أدّى كل مهمّة الطبيب، وقام بكل رسالته؟! كلا، لقد بقي شطرها الأخير والخطير .. إذ ما يجدي وصف المرض وتشخيصه إذا لم توصف الوسائل الناجعة لعلاجه أو الوقاية منه؟! فلننظر الآن كيف عالج وضع القرآن قدمنا على جادة الطريق لنزاول هذا العلاج؟! إنه علاج يتألّف من ثلاثة عناصر: عنصر يزوّد القول بالحقائق الأوليّة! وعنصر يمدّ الإيمان بالحقائق الغيبيّة! وعنصر يغذّي العزائم بالوسائل العملية! ولقد يأخذك العجب، كيف يكون في الدنيا عاقل تغيب عنه بعض الحقائق الأوليّة، ويحتاج إلى التزوّد منها؟! ولكن، أليست النفسيّة الشحيحة من شأنها أن تستر عن صاحبها هذه الحقائق؟ فالبخيل إذا استولى حبّ المال على قلبه، أصبح مرهف الإحساس به،

إلى حد أنه يعدّه جزءاً متمّماً لجسمه وروحه، فإذا دعوته إلى الإنقاص منه، أحسّ كأن روحه بدأت تستلّ من بدنه، وجعل ينظر إليك نظر المغشيّ عليه من الموت، نظرات كلها توسّل والتماس، كأنه يقول: رويدك .. رحماك!! رفقاً بي، لا تمس لي طعاماً ولا شراباً ولا درهماً ولا ديناراً!! إن كل فلذة تقتطعها من مالي، إنما هي عضو تنشره من جسمي! فإن هلك مالي هلكت نفسي، وإن بقي مالي بقيت!! إنه ليرخي أمامي حبل الأمل، وينسيني محتوم الأجل!! إني لأستمدّ من زيادته واكتماله قوة وفُتوّة، ومن بقائه شعوراً بالبقاء والخلود! هكذا قد يصل حبّ المال بصاحبه إلى نسيان هذه الحقيقة الأولى، وهي أنه لم يكتب لبشر قبله الخلود، وأنه لم يكن تخليد المال تخليداً لصاحبه في عهد من عهود البشريّة، فيكشف القرآن عن بصره هذه الغشاوة ليوقظه من هذه النومة العميقة: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا ...} (الهمزة)! {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} (القصص: 78)! فإذا لم يكن من الخالدين لينتفع بهذا المال في حياته! ولم يدخل في حسابه يوماً أن يبرّ به أهلاً ولا ولدًا!، ولا أن يمنح منه الآخرين عوناً ولا رفداً، ولا أن

يكتسب به ثناءً ولا حمدًا!، ففيم إذن يجمع هذا المسكين، أيحسب أن ماله سيحمله معه إلى قبره؟! هل غابت عنه هذه الحقيقة الأخرى؟ ألم يعلم أن الميّت يتبعه ثلاثة: أهله وماله وعمله؟ وأن اثنين يرجعان، ولا يبقى معه إلا واحد، يرجع عنه أهله وماله، ولا يبقى إلا عمله! يروي الشيخان وغيرهما عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبع الميّت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله" (¬1)! وصدق الله العظيم: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} (الأنعام: 94)! لا خلود إذن أيّها الكانزون، لتتمتّعوا بأموالكم في هذه الحياة، ولن تخلد هذه الأموال معكم في أكفانكم، لتؤمّنوا بها وحشة قبوركم! تلك حقائق أولية، يعرفها كل ذي إدراك سليم، مؤمناً كان أو ملحداً! وإنه ليكفي أدنى الانتباه ليتعيّن بها للأشحّاء مبلغ العبث، بل مبلغ السخف والسفه في تجميع هذه الأموال التي سيفارقونها، ولا ينالون منها شيئاً، لا من قبل ولا من بعد! أما المؤمنون بالحقائق البّينة، فقد ادّخر القرآن الحكيم لهم منها نذراً أخرى، ¬

_ (¬1) البخاري: 81 - الرقاق، ومسلم (2960)، والحميدي: المسند (1186)، وأحمد: 3: 110، والنسائي: 4: 53، وابن المبارك: الزهد: 636، والترمذي (2379)، وابن حبان (3107).

تنبئهم أن هذا الضّنّ والمنع ليس عبثاً وسخفاً وحرماناً عاجلاً فحسب، بل هو إلى ذلك جرم كبير، وشرّ مستطير: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 180)! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} (التوبة)! ألا فليوازن الكانزون بين شهوة الاكتناز ولذته الحاضرة العابرة، وبين عواقبه الوخيمة في الدار الآخرة! هكذا زودنا القرآن الكريم بمجموعتين من الحقائق: حقائق من عالم الغيب! وحقائق من عالم الشهادة! من شأن التأمّل فيها أن يحلّ عن قلوبنا عقدة هذا الحب الأعمى، وأن يطهّر ثيابنا من درن الطين اللازب! غير أن هذا العلاج المزدوج، إن استطاع أن يحكّ من ثيابنا جرم هذا التراب، فلن يستطيع أن يمحو عنها آثاره، وان استطاع أن يحلّ عن قلوبنا عقدة هذا الحبّ، فلن يقطع عنا حباله!

فطرة الله التي فطر الناس عليها، فلا سبيل إلى تبديلها، بل ولا خير في تبديلها؛ إذ لو انقلب حبّ المال مقتاً له وازدراءً، وأصبحت قيمته في نظر الناس هباءً فأيّ جهد يحمد للمرء في بذله، وأيّ فضل له في التضحية؟! من الخير إذن أن يبقى فينا شيء من حبّ المال -وسيبقى لا محالة- قويًّا أو ضعيفاً أو مناوبةً بين القوّة والضعف! ومن هنا نعرف السرّ في أن القرآن الحكيم لم يقتصر على هذا العلاج النفسي المزدوج، ولم ينتظر أن يبلغ به غايته القصوى، ولا أن يصل بحبّ المال فينا إلى حدّه الأدنى، بل أخذ يمدّنا بعلاج ثالث عملي، نزوّد به عزائمنا! ذلك هو أن نُدرّب أنفسنا على بذل المال وإنفاقه مراغمةً ومقاومةً، مراغمةً لأهوائنا، ومقاومة لرغائبنا، حتى يصبح التزهّد زهداً، والتسخّي سخاءً، والتكرّم كرماً، والتطبّع طبعاً! أليس أفضل الصدقة صدقة الصحيح والشحيح، الذي يخشى الفقر، ويأمل الغنى؟! أليس البر هو إيتاء المال على حبّه؟! أو ليس الأبرار هم الذين قال الله فيهم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} (الإنسان)! {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (الحشر)!

الطهر من داء الحرص والشح

الطهر من داء الحرص والشح: هذا، وعيوب النفوس وآفاتها، ومطالب الأعمال وسؤالها، أكثر من أن يحصيها العدّ، وأشق من أن يقضى عليها بجملة واحدة من الجهد، وعلينا أن نجاهد عيوبنا في داخليّة نفوسنا، وفي صميم حياتنا الفرديّة، ونكافح عيوباً في أسلوب معاملاتنا تمسّ حياتنا في الجماعة! وقد اختار القرآن الكريم لوناً مركباً من نوعين: نوع ينبت خلقاً في أرض القلب، ثم تخرج ثمرته عملاً له أعظم الأثر في كيان المجتمع .. ويجمل بنا أن نتصفح السور الأولى التي جاءت في طليعة الوحي، بل التي نزلت في الصدر الأول كله من الحياة النبويّة! وعدد السور المكيّة بضع وثمانون سورة، إذا استثنينا منها السور المتصلة بالعقيدة والقصص والكونيّات وما إليها، من الحقائق النظريّة، أو المبادئ الكليّة، وهي زهاء نصف هذا العدد، وجئنا إلى النصف الآخر الذي ورد فيه شيء من الوصايا العمليّة المفصلة .. فإننا سنرى عجباً .. سنرى أرباع هذه الصور، أو على وجه التحديد ثلاثاً وثلاثين سورة توجّه حملتها لاستئصال مرض بعينه، إما على الإفراد أو بضميمة أمراض أخرى إليه! أتدري ما هذا المرض؟! إنه مرض الشح والمنع للخير .. مرض الإمساك خشية الإنفاق .. مرض انطواء الأغنياء على أنفسهم .. وإغماض عيونهم عما حولهم من حاجات الأمّة والأفراد .. مرض الإسراف في حبّ المال .. مرض الحرص على العض على هذا الحطام بالنواجذ!

ونبصر ثورةً غاضبةً على النفوس الشحيحة، والثروات المكنوزة، والأموال المضمومة على أهلها، أو على أبواب استحقاقها، وفي الوقت نفسه دموع رحمة وحنان على اليتيم والمسكين والأسير والرقيق والسائل والمحروم، فمن شاء أن يستمع إليه، وهي في ثورة غضبها على ذلك المجتمع المادي الحريص الشحيح الكنوز، فليستمع إلى هذه الصيحات المزمجرة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)} (سورة الهمزة)! {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت: 7)! {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} (سورة التكاثر)! {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} (سورة الماعون)! {يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} (المدثر)!

{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} (الحاقة)! ومن سرّه أن ينظر إلى الآيات الكريمة، وهي تقطر حناناً ورحمةً على الفئات البائسة المحرومة، فليستمع إلى هذه المناشدة الحارّة العطوفة: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} (البلد)! {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} (الفجر)! هكذا يضع القرآن الحكيم يدنا من أول يوم على موطن الداء الدوي، ومكمن المرض العضال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}! ها هنا رأس كل خطيئة .. ها هنا رأس كل دنيّة .. إنه مرض ذو شعبتين: شعبة تنخر في نفسيّة الفرد، وشعبة تفتّ في كيان الأمّة والدولة! فالإسراف في حبّ المال إذا نبت في قلب امرئ أذلّ عنق صاحبه، وهوّن عليه كل مهانة في سبيل طلبه، وقعد به عن كل مكرمة في أسلوب إنفاقه، فأصبح هو السيّد المالك، وأصبح هو العبد المملوك .. ومن زرع الحرص حصد

فريضة الكسب

التنافس والتحاسد، ثم انشقاق الخصام، ثم تقطيع الأرحام، ثم سفك الدماء، ثم ما شئت من محن تتوارثها الأجيال! والشح مرض وبائي سريع العدوى والانتقال .. وإذا تفشّى في أمّة، وقف دولاب حركتها، وتعوّق سير نهضتها، وبدأت الشيخوخة تدبّ في أعضائها، وطمع فيها أعداؤها، بل غدت نهباً للمطامع، وسلعةً يسومها كل مشتر وبائع! الشح إذن داء تتولّد منه أدواء .. إنه عشّ تفرخ فيه الأورام، ووكر يسكن فيه وحي الشيطان، ينفخ الشيطان في روع صاحبه ليزّين له فاحشة البخل، وليجعله من خوف الفقر في فقر، يقول له: أمسك عليك مالك، إن المال شقيق الروح، وعماد الحياة! والله لا يأمر أحداً أن يبذل كل ماله، وأن يذر نفسه وعياله عالة يتكفّفون الناس، إنما يريد منا أن ينفق كلٌّ من فضل ماله، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وذلك ليجعل متعتين وسعادتين: متعة بالاستغناء عن الغير، ومتعة بإغناء الغير! سعادة مباشرة نتذوّقها .. وسعادة أخرى هي صدى للسعادة التي ننشرها، والله بعد ذلك يعد المنفق خلفاً، والممسك تلفاً، على رغم أنف الشيطان: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} (البقرة)! فريضة الكسب: هذا، والآيات الحكيمة تعالج من النفوس أبوابها المغلقة، حتى فتحت أغلاقها، وعقدها الموثقة، حتى حلّت وثاقها!

كرهت إليها خلّة الضّنّ والإمساك، وحبّبت إلينا شيمة البذل والإنفاق -كما عرفنا- وما برحت تحبّبنا في هذه، وتبغضنا في تلك .. حتى خشينا أن يكون الانطلاق في بذل المال انطلاقاً إلى غير مدى، وأن يكون الزهد على غير هدًى .. وإذا بالحكمة القرآنيّة تضع الأمور في نصابها .. وإذا هي حين فتحت الكنوز أقامت الحرَّاس على أبوابها، لورودها وصدورها، وتنظيماً لوجوه توزيعها توزيعاً بالقسط، يوفّر على النفس حظها المقسوم، ويؤدّي للغير حقّه المعلوم، لا حرمان ولا تقتير، ولا إضاعة ولا تبذير، وكان بين ذلك قواماً! هذه الوصيّة الثنائيّة، هل تراها وصيّة عاملة شاملة؟ وهل كل فرد من الناس أهل لأن يوجه إليه خطابها؟! أليس في الناس المرزوق والمحروم؟! أليس فيهم الواجد والفاقد؟! فمن لم يجد ما ينفقه أو يمسكه، كيف يقال له: لا تمسك ولا تقتر، ولا تسرف ولا تبذر! إنها إذن وصيّة واحدة لشَطر واحد من شطري الأمّة، فما خطب شطرها الثاني؟! إنها وصيّة لأرباب الأموال، فما بال من لا مال له؟! هل أعدّ القرآن الحكيم لهم وصيّة مقابلة؟! نعم، وإنها بدورها لوصيّة ثنائية، تهدي كذلك إلى طهارة مزدوجة .. وصيّة من لم يجد، أن يجد ليجد، ثم وصيته ألا يتطلّع إلى ما في يد

الواجدين .. دعوة إلى شرف العمل الكاسب، الذي يغني صاحبه، وينشر الغنى من حوله على العاجزين، ثم دعوة إلى أشرف نوعي الغنى وأكرمهما! يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الغنى عن كثرة العَرض، ولكن الغنى غنى النفس" (¬1)! والتسامي عن موقف الحاجة والضراعة، وعن ذلّ السؤال والالتماس؛ بل عن التشهّي والتمنّي لما في أيدي الناس! بهاتن الوصيّتين الذهبيّتن جاء الذكر الحكيم في آية، ما أحرانا أن نتدبّرها، وأن نزن أنفسنا بميزانها: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} (النساء)! يقول الله تعالى لهؤلاء الذين يمدّون أعينهم إلى ما عند غيرهم: إنكم في التماس الخير لأنفسكم، تتركون الفجاج الواسعة الآمنة، وتميلون إلى المسارب الضيّقة الموحشة .. إنكم تتركون النهر الدافق وتستقون من الغدير! ما لكم وما في أيدي الناس؟! فإنما من عندي نالوا رزقهم، وإن أبوابي مفتوحة لكم ولهم! تحوّلوا عن هذا الطريق؛ فإنه طريق شائك غير مسلوك، وقد مهّدت لكم بدلا منه طريقين مسلوكين، فولوا وجوهكم شطرهما! ¬

_ (¬1) البخاري: 81 - الرقائق (6446)، والأدب المفرد (276)، ومسلم (1015)، والحميدي (1063)، وأحمد: 2: 243، 261، 315، 338، 389، 390، 438، والترمذي (2373)، وابن ماجه (4137)، وأبو يعلى (6259، 6583)، والطحاوي: شرح المشكل (6052)، والشهاب القضاعي (1207، 1210، 1211)، وابن حبان (679).

دونكم الأرض الواسعة، جعلتها لكم ميدان الكسب والعمل، فامشوا في مناكبها، وكلوا من رزقي .. دونكم السماء الرفيعة، جعلتها لكم قبلة الدعاء والأمل، فإيّاي فادعوا، وفضلي فالتمسوا! تلك وصيّة الله .. فماذا كان الموقف منها؟! واأسفاه، لقد وقف كثيرون منها موقف الإباء العنيد، فلا إلى ميدان الأعمال يبرزون، ولا إلى قبلة الآمال يتوجّهون، ولكنهم يحطون أنظارهم على طرف أنوفهم، ويفتحون أعينهم على رزق الجار والقريب والصاحب والزميل، يحصونه ويعدّونه عداً، ثم يقولون: أهؤلاء، منّ الله عليهم من بيننا؟! هكذا يصنع الناس! هكذا يصنع الفاقد للشيء، ينفق عمره في التطلّع إلى حظ واجده .. وهكذا يصنع المقلّ .. يضيّع وقته في حساب رزق المكثر .. ولعله لو دقّق الحساب لوجد نفسه قد أوتي ما هو أعزّ قدراً وأغلى ثمناً .. ولكنه ينسى الكنز الذي في يده، ويتطلّع إلى الزخرف في يد صاحبه .. وهبه لم يؤت من الحظوظ ما يعادل تلك الحظوظ الماديّة أو يزيد، فهل حسب أن سعة الرزق عند الآخرين تضيق عليه هو رزقه؟! وهل يخشى أن سعة الرزق عند الآخرين تنقص من ينابيع الثروة شيئاً فشيئاً، فحرص أن يزاحمهم عليها قبل أن يستنفذوها؟! يا هذا، إن خزائن الله لا تنفد، وإن معين نعمته لا ينضب، فما بالك تزاحم الخلق على شربهم من هذا الحوض الضيّق المحدود، وأمامك ذلك النهر العذب الذي لا ساحل له ولا حدود؟!

يروي مسلم وغيره عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي! إِنّي حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم مُحَرَماً فلا تظالموا! يا عبادي! كلكم ضالّ إِلا من هديته، فاستهدوني أَهْدكم! يا عبادي! كلكم جائعٌ إِلا من أطعمته، فاستَطعموني أُطْعُمِكم! يا عبادي! كلكم عارٍ إِلا من كَسَوْتُه، فاسْتكسُوني أَكسُكُمْ! يا عبادي! إِنكم تُخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغْفر لكم! يا عبادي! إِنكم لن تبلغُوا ضرِّي فَتَضُروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني! يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم، وإنسَكُم وجنَّكمْ، كانوا على أتْقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً! يا عبادي! لو أن أوّلكم وآخركم، وإِنْسكمْ وجنَّكُمْ، كانوا على أفْجر قلب رجل واحد، ما نَقَص ذلك من مُلكي شيئاً! يا عبادي! لو أن أولكم وآخِركمْ، وإِنْسكُمْ وجنَّكُمْ، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كل إِنسان مسألته، ما نَقَص ذلك مما عندي إِلا كما يَنْقُص المخْيَطُ إِذا أُدخل البحر! يا عبادي! إِنما هي أعمالكُم أحْصيها لكُم، ثم أوَفيَكُمْ إِيّاها، فمن وجد خَيْراً فليحمد الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلُومنَّ إِلا نفسه" (¬1)! ¬

_ (¬1) مسلم: 45 - البر (2577)، والبخاري: الأدب المفرد (490)، وأحمد: 5: 160، وأبو نعيم: الحلية: 5: 125، 126، والحاكم: 4: 241، وليس من شرطه، وقال الذهبي: هو في مسلم، والطيالسي (463)، وعبد الرزاق (20272)، والترمذي (2495)، وابن ماجه (4257)، وابن حبان (619)، والنووي: الأذكار: 355 - 356 وقال: رجال إسناده مني إلى أبي ذر رضي الله عنهم، كلهم دمشقيون، فاجتمع في هذا الحديث جمل من الفوائد، منها صحة إسناده ومتنه، وعلوّه وتسلسله بالدمشقّيين -رضي الله عنهم- وبارك فيهم، ومنها ما اشتمل عليه من البيان لقواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه، والآداب، ولطائف القلوب وغيرها، ولله الحمد!

ألا، من كان ملتمساً في رزقه الفضل، فمن الله وحده إذن فليلتمسه، ومن كان مطالباً فيه بالحق والعدل، فليطلبه من نفسه، من جِدّه وجهده، من كدِّ يمينه وعرق جبينه! هكذا يقرر القرآن الحكيم حقّ العمل، أعني حق كل عامل في ملك ثمرة عمله، ونتاج كسبه، يقرّر القرآن حقًّا طبيعيًّا، وإنما هو حق وضعي، ومنحة إلهيّة، وعطيّة من الله! نعم، قرّر القرآن الحكيم حقّ العمل .. هذه واحدة .. ثم يقرّره حقًّا عامًّا، يستوي فيه الذكر والأنثى .. هذه ثانية! ولكنه مع ذلك يقرّره حقًّا جزئيًّا، للفرد الكاسب منه نصيب، وللأبوين نصيب .. فهذه ثالثة! مبادئ ثلاثة، سبق القرآن الحكيم بها أحدث النظريّات الاقتصاديّة، وأعدل المبادئ الاشتراكيّة: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ...}! هما إذن خطّان لا ثالث لهما .. طريق مسدود، وطريقان مفتوحان! لا تسأل الناس! ولا تحسد الناس! ولا تتمنّى ما في أيدي الناس! هذا هو الطريق المحظور، ولكن عليك بالعمل، وفي الله الأمل! هذان الطريقان مفتوحان: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} (النساء)!

منابع الكسب

منابع الكسب: هذا، وكم ناشد القرآن الحكيم واجد المال أن يبذله .. ! وكم ناشد فاقد المال أن يسعى إليه ويحصله! غير أن لبذل المال أساليب شتى، ولكسب المال طرائق متنوّعة .. وليس كل بذلك خليقاً بالحمد، ولا كل سعي جديراً بالشكر، قرّب عطاء، خير منه الحرمان، وربّ قاعد عن طلب المال خير من ساع إليه! نعم، إن في البذل تطهيراً للنفس من رذيلة البخل، وإن في الكسب ترفعاً بالكرامة عن ذل الحاجة، ولكن شيئاً من ذلك لن يكون طهراً وشرفاً حقًّا، إلا إذا كان طهور المادة شريف الأداة، حتى لا يكون غسلاً للنجس بالنجس ومحواً للسيّئة بسيئة مثلها، أو بما هو أسوأ منها! لا جرم، كان للكسب قوانينه وآدابه، وكان للبذل قوانينه وآدابه! وهي توجيهات تتناول الكسب من جهات ثلاث: من جهة وسيلته، ومن جهة غايته، ومن جهة أسلوبه وطريقته! والمرء إذا شغفه حبّ المال، قد يندفع إلى التماسه من كل طريق، اغتناماً لكل ريح هبّت، واقتناصاً لكل فرصة أقبلتْ، لا يستشير عقله في مقاييس النفع والضرّ، ولا يستغني قلبه في معايير الخير والشر، بل يخبط في سعيه خبط عشواء، فتراه يجمع من المال ما قلّ أو كثر، دون أن يوازن بين الجهد الذي يبذله والربح الذي يحصله، وتراه يقتحم في سبيل ذلك من المخاطر ما خفي وظهر، لا يبالي ما يصيبه منها في يومه أو غده القريب والبعيد!

هذه الدفعة الطائشة الحمقاء، قد تهدأ عن صاحبها قليلاً، فتتركه يستعرض أبواب المكاسب، ثم ينتقي منها وينتخب، ويأخذ منها ويذر، ولكنها توحي إليه سراً قاعدة الاختيار! إنها تدعوه إلى أن يوازن بين وجوه الكسب، أيّها أكثر ريعاً وأوفر ربحاً، وأيّها أقلّ غَرَراً وأيقن نجاحاً! هكذا، نزعة مبصرة هنا، ودفعة عمياء هناك! ولكنها في كلتا الحالين انبعاثة ماديّة خالصة، لا أثر فيها للقيم المعنوية، ولا للاعتبارات الإنسانية .. ماديّة غليظة القلب، ساقطة الهمّة، منهومة البطن، لا تتورع أن تستمدّ حياتها من فنون الحيل والمكر، والجور والغدر، والكذب والتزوير، والملق والنفاق، والرشوة والقمار، وغيرها من ألوان الإثم والسحت! إنها لا يعنيها شرف الوسيلة، ولا طهارة اليد، ولكن يعنيها ضمان الحصيلة، ووفرة العدّ! ويجيء القرآن الكريم، فيصدر أمره بإغلاق هذه الأبواب الفاجرة كلها .. فلنستمع إليه حين ينهى عنها، وحين يحذّر وينقر منها، ولنستمع إليه حين يشدّد النكير على أصحابها، أولئك الذين يأكلون التراث أكلاً لمًّا، لا يبالون من أين جمعوه، انتهاباً واغتصاباً، أو غشًّا وخداعاً، أو امتصاصاً من دم اليتيم: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} (البقرة)! {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (الروم: 39)!

{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} (النساء)! {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} (آل عمران)! ثم يجمع القرآن الكريم هذه القوانين المفصّلة، فيردّها إلى قانون كليّ أعلى، يضع معيار العاطفة الرحيمة، وميزان الفطرة السليمة، مكان تلك الموازين الجشعة الأثيمة، يقول لنا: الشأن كل الشأن ليس في كثرة العدد، ولكن في طبيعة المعدود .. قليل طيّب مبارك فيه، خير من كثير ممقوت لا بركة فيه: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة: 100)! أجل، هذا هو قانون القيم ودستورها الأعلى .. إنه لا يسري على الأموال وحدها، ولكنه ينطبق كذلك على الأقوال والأعمال، والأحكام والآراء، ونظم الشورى والدفاع، وسائر شؤون الجماعة والفرد، في السلم والحرب: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249)! {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} (الأنفال)! هكذا يجب أن نصحّح نظرتنا إلى قيم الأشياء، فإن الجودة فوق الكثرة، والنوع قبل العدد!

ولسنا ننكر مع ذلك أن العامل العددي إذا انضم إلى العامل النوعي كان ذلك خير الخير، ولكنه إذا انحاز كل واحد منهما إلى جانب غير جانب صاحبه فإن الفوز في النهاية للقوّة المعنويّة، على تلك الكثرة العدديّة، التي تتجمّع في رأي العين، ولكنها غثاء كغثاء السيل، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى! ألا فلنهتد بهدي هذا الدستور الأعلى، في شأن مكاسبنا وثرواتنا! ألا فليعلم المكثرون أنهم هم المقلّون .. المكثرون من السحت والحرام، إن أكلوا منه نبت لحمهم طعمة للنار، وإن تصدّقوا به لم يتقبّل منهم؛ لأن الله تعالى طيّب لا يقبل إلا طيّباً، وإن تركوه لذريّتهم كان مصيره المحق والدمار، ولو بعد حين، وإن دَعَوْا ربّهم وفي أجوافهم أو على أجسادهم منه شيء، فهيهات أن تجاب دعوتهم! يروي مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس! إِن الله طيّب لا يقبل إِلا طيّباً، وإِن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} (المؤمنون)! وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة: 172)! ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إِلى السماء! يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يُستجابُ لذلك؟ " (¬1)! ¬

_ (¬1) مسلم: 12 - الزكاة (1015)، والبخاري: رفع اليدين (94)، وأحمد: 2: 328، والدارمي (2720)، وعبد الرزاق (8839)، وعلي بن الجعد (2094)، والبيهقي: 3: 346، والترمذي (2989)، والبغوي (2028).

أهداف الكسب

ألا وليعلم المقلّون أنهم هم المكثرون، المقلّون تحرّياً للحلال الطيّب في مكاسبهم؛ فإن أكلوا منه أكلوا هنيئاً مريئاً، وإن أنفقوا منه تقبّل منهم وضوعف لهم، وإن تركوه لذريّتهمِ تولى الله حفظه لهم: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ} (الكهف: 82)! وأخيراً، إن دعوا ربهم كانوا أحرياء أن يستجاب لهم: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} (المائدة). أهداف الكسب: ونجد أنفسنا أمام أهداف الكسب بعد أن طهرت الأداة، وأصلحت الوسيلة، حيث يجب أن نطهّر الباعث ونصحّح النيّة، وننظّم الأسلوب، ونهذّب الخطّة، على الوجه الذي يرضاه الله! ومن ثم يجب أن نسائل أنفسنا: ماذا نبغي من وراء هذا الكسب؟ ذلك أن للكسب بواعث شتّى، وأغراضاً متفاوتة، تردي صاحبها وتوبقه، ونيّة تنجي صاحبها وتعتقه، ونيّة تنجيه وترفعه إلى أعلى عليّين! وهكذا ترى الناس -على حسب نياتهم- في درجات ثلاث: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات! أتريد مثالاً من النية الفاجرة المردية؟ ما عليك إلا أن تفتح عينيك لترى! فهذه فئة من الناس، إنما تطلب المال لتطغى به على العباد، ولتنشر به في الأرض الفساد!

وهذه فئة أخرى تسعى إلى المال، لتغامر به وتقامر، أو لتخالل وتخادن، أو لتنفقه في ألوان المسكر والمخدّر! وهذه فئة ثالثة تطلب المال، لا لتبطش بيدها، ولا لتفجر بجارحتها، ولكنها آثمة القلب، أسيرة للهوى الخفي، تريد أن تباهي بثروتها وتفاخر، وأن تنافس بها وتكاثر: {كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)} (الإسراء)! هذه أمثلة من البواعث الملتوية، لا نقتبسها من الفروض العقليّة، ولكن نستمدّها من صحيفة الواقع، ومن تقليب النظر في سيرة الجمهور الكادح! ها هم أولاء يكتسبون عيشهم بعرق الجبين، بكدح الذهن أو كدّ اليمين، فإذا فتشت صدورهم لتعرف نوازعها إلى العمل، وأهدافها من السعي والتنقيب، لا تجد في أكثرها معنى إنسانيًّا ولا روحيًّا! إنه ليس يهم الحديث على الأهل والولد! وليس يهم الرعاية لحق الله والوطن! ولكنه النزول على حكم الشهوات الجامحة، في صورة من هذه الصور أو أمثالها! ستجد أكثرهم يلتمسون الرزق من حلّه، ولكن هدفهم هو إنفاقه في غير محله! إنهم يتخذون نعمة الله أداة لمعصية الله! إنهم يطلبون الثروة ليحوّلوها عن طريقها، ويضعوها في يد غير مستحقيها! ألا تدخل معي إلى بيت من بيوتهم لتنظر في وجوه أهليهم وأولادهم؟!

وارحمتاه لهذه الأكباد الطاوية، والأجساد العارية!! تتلفت طول يومها، وتقضي جلّ ليلها، تشوّقاً إلى كافلها وعائلها، وهو عنهم في شغل بين قرناء السوء، يغرق ماله في كؤوس الصهباء، أو يحرقه ويذره دخاناً في الهواء، أو يدفنه في بالوعة الموائد الخضراء! يا حسرتا على الجهود الضائعة، والقوى المنهوكة، والثروة المبدّدة!! على حين أن الشعوب من حولنا، تزدهر ثروتها ازدهاراً، وتستعر قوتها استعارًا، بل تكاد تنفجر انفجاراً! فيا ليت شعري، متى يفيق أبناء هذا الجيل من سكرتهم، ويتنبهون إلى ما يراد بهم؟! متى يصون كل منهم ثروته وقوّته، ويأخذ للمجد أهبته وعدّته؟! على أننا الآن، لسنا بصدد البحث في تحديد اللون الطائش من السلوك، وهذا الأسلوب المنحرف من أساليب الحياة، هو الذي يداعب نفوس الجماهير عندنا، وهو الذي يحرّك همّتهم إلى السعي، ويغريهم بالجدّ في الكسب! إنهم يغبطون السفهاء المسرفين، يتمنّون أن يكون لهم مثل ثروتهم، ليسرفوا كإسرافهم، يقول كل منهم: يا ليت لي مثل ما أوتي فلان! إنه لذو حظ عظيم! أما أني لو كنت مكانه، لكنت أشدّ منه بطشاً بقوّتي، وأكثر استمتاعاً بثروتي! فهم من قبل أن ينفقوا، بل من قبل أن يكسبوا ما ينفقون، محاسبون على هذه النيّة الفاجرة!

إنهم منذ الآن مأزورون غير مأجورين! إن عليهم مثل أوزار المسرفين العابثين! ومن كان في شك من ذلك فليقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} (القصص)! فلم يهدّد العالين المسرفين وحدهم، ولكنه توعّد الذين يريدون العلوّ والفساد، فتلك هي النيّة المردية الموبقة، وصاحبها ظالم لنفسه! أما النيّة المنجية المعتقة، فإنها على درجتين: درجة مقتصدة، تدرأ عن صاحبها الذم واللوم؛ ولكنها لا تستوجب له مدحاً ولا ثواباً .. وحدّ هذه المرتبة أن يكون همّ العامل من كسب الحلال، هو أن ينفقه في الاستمتاع بالحلال، لا يفكّر فيما وراء ذلك! ودرجة عالية رفيعة، تستوجب لصاحبها الثّناء، وتكفل له أحسن الجزاء، ذلك أن يكون حظّ نفسه تابعاً لحقّ الله عليه، وأن يكون حقّ نفسه مغموراً في حقوق غيره: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص)! أولئك هم السابقون السابقون .. ترى الواحد منهم يجدّ ويسعى امتثالاً لأمر الله، وقياماً بالأعباء التي تفرضها عليه الحياة، ليعفّ نفسه وأهله -أول كل شيء- عن الحرام، وليغنيهم وإيّاه عن ذلّ السؤال .. ثم ليعود بفضله على

آداب الكسب

العاجزين والمحرومين .. ثم ليزيد في ثروة أمّته وقوّتها .. وأخيراً ليزيد في ثروة الأرض وازدهارها كلها، تحقيقاً لحكمة الله الذي استخلف الإنسان على الأرض واستعمره فيها! تلك هي النيّة الفاضلة الكاملة التي ترفع صاحبها إلى أعلى عليّين: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148]! يروي الشيخان وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إِنما الأعمال بالنيات، وإِنما لكل امرئ ما نوى ... " الحديث (¬1)! آداب الكسب: هذا، وقد جاءت هداية القرآن الكريم تجنبنا سبل السحت أي الآثم، وتقود خطانا في سبيل الرزق الحلال السائغ، وما إن وضعنا قدمنا على حافة هذا المنهل المورود، وتطلعنا إلى ما فيه من رزق طيّب، حتى أخذت تناوشنا النوازع والدوافع المختلفة، وتراودنا الأهداف والمقاصد المتنوّعة! وإذا الهداية القرآنيّة تبرز أمامنا مرة أخرى، لتقود خطوات قلوبنا، كما ¬

_ (¬1) البخاري: 1 - بدء الوحي (1)، وانظر (54، 2529 , 3898، 5070، 6689، 6953)، ومسلم (1907)، والطيالسي (48، 488)، وعبد الرزاق (9567)، وسعيد بن منصور (2543)، وأحمد: 4: 392، 401، 405، 417، وعبد بن حميد (553)، وأبو داود (2517، 2518)، والترمذي (1647)، وابن ماجه (2783)، والنسائي: 6: 23، والطحاوي: شرح المشكل (5106)، والبيهقي: 9: 167، 168، وأبو نعيم: الحلية: 7: 128، والبغوي (2626)، وابن حبان (4636)، وانظر كتابنا: أضواء على حديث "إنما الأعمال بالنيات".

قادت من قبل خطوات أقدامنا .. صوّرت لنا القلوب على اختلاف نزعاتها، وتنوعّ أهدافها من الكسب، فإذا منها الآثم الذميم الذي تحرّكه شهوة الطغيان والعدوان، أو نزعة العبث والإسراف، أو حبّ التنافر والتكاثر! وإذا منها الغافل الذي لا يعنيه إلا حظ نفسه من المتاع المباح .. وإذا منها الراشد النبيل، الذي يتطلّع إلى أوسع الآفاق وأسمى الدرجات، يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة ولا ينسى نصيبه منها! هكذا قبل أن نسعى لطلب أرزاقنا .. عرفنا في أي طريق نضع أقدامنا، ومتى وصلنا إلى حقل العمل .. وقبل أن نكدح فيه بأيدينا وأذهاننا، عرفنا كيف نوجّه قلوبنا ونيّاتنا .. وسيلة مشروعة أو غاية مبرورة! أدبان نقتبسهما من القرآن الحكيم .. هل بقي وراءهما شيء من آداب الكسب؟ نعم، فما تلك إلا وصيّة أوّل الطريق .. وإن طريق الكسب طويل متشعّب، قد يمتدّ بامتداد الأجل، وقد يتعرّج بتعاريج القوة والضعف واليأس والأمل .. ذلك أن للجهد فترات وله نزوات، وأن للحظ إقبالاً وإدباراً، وللقلب في كلتا الحالين تقلّبات .. أفتتركنا هداية القرآن عند أول الطريق، وتدعنا نهباً لما يصادفنا فيه من هذه العوامل المختلفة، ليعالجها كل امرئ منا بوحي ساعته أو ميزان طبعه ومزاجه؟! حاشا لله الرحمن الرحيم: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]! ألا فقد رسم القرآن الحكيم لنا منهج السير الحكيم بإزاء هذه التطوّرات في جهودنا البدنيّة، وبإزاء هذه التقلّبات في حالاتنا النفسيّة!

أما جهودنا البدنّية، فإنه يحارب منها طرق فترتها ونزوتها، ويكافح فيها حدّي رخاوتها وحدّتها! هل رأيت أولئك المترفين الذين يشكون الكلال والملل من ساعات يسيرة يقضونها في العمل؟! أولئك الذين يعملون قليلاً ويلهون طويلاً؟! أولئك الذين إذا عملوا مسترخين متهاونين، غير جادّين ولا مجيدين؟! ولذلك لم يجدوا مطلبهم في مكانهم .. لم يجمعوا في أنفسهم همّة تبعثهم على النقلة إليه والرحلة في طلبه! هؤلاء جميعاً يقبل القرآن الحكيم عليهم جميعاً .. فيبعث فيهم راكد الهمّة، وينفخ فيهم روح السعي والإقدام .. ويوقظ فيهم باعث الإجادة والإتقان: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105]! {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]! {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10)! وهل رأيت في الطرف المقابل أولئك الكادحين المنهومين المتكالبين، الذين استمرؤوا الدنيا والنفع والمادة فاستعبدتهم، وأنفقوا فيها ليلهم ونهارهم، ووهبوها همّتهم وقوّتهم؟!

إرهاق لا يعرف منهم رفقاً ولا استجماماً .. وإلحاح لا يحفظ لهم وقاراً ولا كرامة .. وتبذّل لا يبدو فيه أثر لنعمة الله عليهم .. واستغراق لا تأخذ فيه أسرتهم حظّها من الإيناس والمودّة، ولا عقولهم حظّها في الثقافة، ولا نفوسهم حظّها في المتعة البريئة، ولا أرواحهم من الصلة بالمثل العليا! ألا تراهم! قد يسمعون داعي الله إلى مناجاته وهم عنها لاهون، اشتغالاً بشؤون الوارد والصادر، وحساب الأرباح والخسائر، كأن هذه اللحظات المعدودة التي قد يؤدّون فيها حق ربّهم، هي التي ستقلب الغنم غرماً، وتحوّل الربح خسراً، وما دروا أن الحقيقة ضد ذلك، وأن التقوى مفتاح خفي من مفاتيح الرزق، وأن الله لا يبارك عملاً مباحاً، إذا كان يلهي صاحبه عن واجبه! ألا إن هذا مثل من الإسراف، الذي يعود به طلب المباح اشتغالاً بالحرام! ألا إن هذا نموذج من العدوان الذي قال الله في شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة)! نعم، إن على رأس هؤلاء المعتدين أولئك الذين يتوجه إليه القرآن الكريم بندائه القوي وإنذاره الشديد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} (المنافقون)! أما المؤمنون الصادقون فإنهم كما وصفهم الله: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (النور)!

اختيار الكسب الصالح

هكذا وضع القرآن الكريم لنا أسلوب السعي والعمل، لا متوانياً متراخياً، ولا مجهوداً مكدوداً، ولكن أسلوب الجد القاصد الراشد، في تنظيم جهودنا البدنيّة، يكمله توجيه أعمق منه في تنظيم حالاتنا النفسيّة! اختيار الكسب الصالح: وما أعظم النعمة علينا بهذا القرآن الحكيم!! .. إنه قائدنا ما أحكم قيادته!! وهاد ما أكمل هدايته!!: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9)! تلك القيادة المثلى لا تخص طائفةً من الناس دون طائفة، ولا شأناً من الحياة دون شأن، ولكنها هداية سابقة شاملة، والمؤمن يشعر بها وهي تلاحقه في كل خطوة، وتضيء له الطريق حيثما توجّه، حين يقدّر ويفكر، وحين يهم ويعزم، وحين يقضي ويحكم، وحين يكدح ويعمل، وحين يفرح أو يحزن، وحين يخاف أو يأمن, وصدق الله العظيم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} (النحل)! لكل شيء، لأدب الدّين والدنيا, ولخير الآخرة والأولى! وقبل أن يتوجّه المرء لالتماس رزقه ينادي القرآن الحكيم: {لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} (المائدة)! وكانت تلك هي الوصيّة الأولى من وصايا الكسب، وهي طهارة اليد من السحت! فإذا وضع المرء قدمه في طريق الكسب الحلال، وقبل أن يمضي فيه، وجد

القرآن الحكيم يحدّد له الأهداف الصحيحة في كسب المال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص)! {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} (القصص)! وكانت هذه الوصيّة الثانية طهارة القلب والنيّة متنزّهاً عن نزعات الفجور والأنانية! فإذا ما وصل العامل إلى حقل العمل، طاهر اليد، نقيّ الصدر، لم يتركه القرآن وشأنه هنالك، بل سار إلى جانبه يتابع حركاته وسكناته، ويراقب فتراته ونزواته، فيشحذ من عزمه إذا وهي أو وهن، ويشدّ من أزره إذا ونى أو سكن .. ! اعمل فسيرى الله عملك .. اتق وأحسن .. ! كما يلطّف من شدته، ويحدّ من حدّته، إذا انهمك في السعي وأفرط، وطغى في جمع المال أو بغى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)} (المنافقون)! {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} (البقرة)! هكذا بعد أن طهّر القرآن الحكيم في أول الطريق أيدي العاملين وقلوبهم، سدّد خطاهم في أثناء الطريق، ونظّم جهودهم!

وهداية القرآن للعاملين، وقيادته لخطاهم على طول الطريق لن تقف عند تنظيم جهودهم البدنيّة، ولكنها ستنفذ إلى ما هو أدقّ وأعمق .. إنها تتقصّى حركات نفوسهم، وتستمع إلى خفقات قلوبهم، وخلجات صدورهم، متتبّعة أطوار العمل لديهم، وتقلّبات الأحداث عليهم، فتصف لكل شكوى علاجها, ولكل نجوى جوابها! كل عامل في هذه الحياة هدف لتقلّبات النجاح والإخفاق، والربح والخسارة، والنصر والهزيمة: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35)! {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140)! وقد فطر الإنسان ذا مشاعر وأحاسيس تصبّ في نفسه إما برد الرضى والسرور لما يناله من خير، وإما حرقة الحزن والألم لما يصيبه من أذى وحرمان! أتدري ما مصير هذه المعاني، إذا تركت وشأنها تعمل في النفس عملها؟! إليك صورة طبيعيّة لنفسيّة المخفق المهزوم، إذا لم تهد قلبه هداية القرآن، ولم تثبّته سكينة الإيمان .. إنه لو نظر في حاضره لم يجد إلا ضجرًا وألماً لما يعانيه من نكد الإخفاق، ولو تلفّت إلى ماضيه لم يحسّ إلا حسرةً وندماً على ما فاته من أخذ العدّة لتجنب هذا الإخفاق، ولو تطلّع إلى مستقبله لم ير فيه شعاعاً من الخير أو النور، وإنما هو ظلام قائم، وشؤم جاثم! وهكذا يجد مسالك الحياة قد سدّت من بين يديه ومن خلفه، لا مخرج فيها ولا متنفّس .. أليس ذلك هو اليأس القاتل؟!

وانظر الآن إلى نفسيّة الفائز المنتصر: إن موجة الفرحة بهذا النجاح الحاضر لتغمر حياته من شاطئها، إن نظر إلى أمسه نظمِ إليه معجباً فخوراً، يقول: ربِّ أكرمني إذا كنت أهلاً لهذا الإكرام، فقد أخذت للنجاح عدّتي، وما أوتيته من علمي وعملي، وإن نظر إلى غده نظر إليه بملء الثقة والاطمئنان، يقول: لن تبيد هذه النعمة أبداً، وقد ذهبت السيئات عني إلى غير معاد .. أليس هذا هو الأمل الكاذب والغرور الفاتن؟! هاتان صورتان نفسيّتان، تتعاقبان على قلب كل عامل، وهما على قلب طالب المال أكثر تعاقباً وأشدّ تغلّباً، ما لم يكن له من إيمانه عاصم! فلنستمع إلى القرآن الحكيم وهو يعالج هاتين الظاهرتين! لنستمع إليه حين يتوجّه إلى المخفقين المحرومين، وقد برموا بحاضرهم، وندموا على ماضيهم، ويئسوا من مستقبلهم! ها هو ذا يمسح على صدورهم بكفّ الرحمة، فيبدّل حرارة الهمّ برداً وسلاماً، ومرارة ندمهم رضىً ويقيناً: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)} (البقرة)! {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} (آل عمران: 156)! وقالوا: لو كان .. لكان .. إن هذه الحسرات لن تردّ ما فات: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (الحديد: 122)!

ثم ها هو ذا يفتح أعينهم على نور الأمل: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} (يوسف: 87)! {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} (الشرح)! أما أولئك الذين تأخذهم نشوة الربح والنصر، حتى يأمنوا صروف الدهر، وحتى ينسوا ما مضى لهم من عسر الإخفاق والحرمان، فإن القرآن الحكيم لا يبرح يكشف الغطاء عن أعينهم، ليذكرهم بماضيهم القريب، وليحذرهم من مستقبلهم المطوي في حجب الغيب: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} (الأعراف)! أم فرحوا بما أوتوا من العلم، واعتمدوا على ما بذلوا من الجهد، فنسبوا الفضل لأنفسهم، وأنكروا يد الله عليهم؟! يا سبحان الله! ما أسرع ما ينسى الناس! {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} (الزمر: 8)! كلاّ، أيها الناس، إنه ليس بالجدّ وحده ينال المرء، ورحم الله القائل: إِذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده وصدق الله العظيم: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: 53)! هكذا يدفع الله عن النفوس المؤمنة محنة اليأس القاتل، وفتنة الغرور الكاذب، ويبدّ لهم منهما أملاً قاصداً، لا يبطره الظفر، ويفسده الإخفاق!

نظام البذل والإنفاق

وهكذا تكمل شرعة الهداية القرآنيّة للعاملين! طهارة في اليد ونزاهة في القصد، وعزيمة صادقة قاصرة في بذل الجهد، ثم أمل صادق فيما يجيء به الغد! آداب أربعة، يوصي بها الله كل كاسب، وكل عامل، فهل نتبع وصيّة الله؟! نظام البذل والإنفاق: وكما أوصانا القرآن الحكيم بالسعي في طلب الرزق أوصانا أن نقوم بإنفاقه وبذله .. بل أحسب أن وصيّته لنا بأولاهما ما كانت إلا تمهيداً لوصيّته لنا بأخراهما! أوصانا أن نحصل لكي نستطيع أن نبذل؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه! وكما أن القرآن شرع للكسب قوانينه وآدابه، كذلك شرع للبذل قوانينه وآدابه! غير أننا قبل أن نأخذ في عرض هذه القوانين والآداب نحب أن نشير إلى كنه فضيلة البذل التي يدعو إليها القرآن الكريم .. إنها تتمثل في حركتين، أو في حركة ذات اتجاهين: حركة واردة هابطة إلى المركز! وحركة صادرة صاعدة إلى المحيط! حركة تعود بالمال إلى رب المال، متجهة به إلى جهة الإتعاب والاستمتاع الشخصي!

وحركة تتجه بالمال إلى غير صاحب المال، لتبذله في وجوه البرّ للآخرين! هذه الحركة الثانية تبدأ في دائرة محدودة ضيّقة، ثم لا يزال يمتدّ قطرها، وينفرج محيطها، حتى تصبح أوسع الدوائر وأشملها! تبدأ بالأسرة الخاصة الصغرى، حيث أضيق المسؤوليّات، وألزم التبعات، ثم تمتدّ أغصانها بامتداد القرابة والنسب، وتتشعّب أطرافها بتشعّب الصحبة والجوار واشتباك المصالح، واتساع العلوم وانتشار الأخبار .. حتى تصل إلى محيط الأسرة العامة الكبرى .. أسرة الإنسانيّة العالميّة، بعد أسرة الدّين والوطن! هي إذن حقوق ثلاثة في أموالنا، تتقاضانا أداءها والقيام بها: حق النفس! وحق الأسرة! وحق الجماعة! فلننظر إلى هذه الحقوق الثلاثة في مرآة القرآن الحكيم، لنعرف مبلغ عنايته، ومدى اهتمامه بكل واحدة منها! أتدري ماذا سوف نرى؟ سوف نرى عجباً، بل أعجب العجب! سوف نرى هذه الحقوق الثلاثة لا تأخذ من عناية القرآن نصيباً متساوياً؛ بل يتفاوت حظها من هذه العناية تفاوتاً كبيراً، وأن الذي يظفر من بينه بنصيب الأسد إنما هو حق الجماعة العامة، بينما حق الأسرة يتبوّأ منها مكاناً وسطاً!

أما حق النفس؛ فإنه لا يحلّ منها إلا في أدنى المنازل! أليس يأخذك هاهنا العجب؟! أليس حق النفس أوجب؟! يليه حق الأسرة؟! الأقرب فالأقرب فلننظر! الثلاثة في أموالنا، تتقاضانا أداءها والقيام بها: العالميّة، بعد أسرة الدّين والوطن! والنسب، وتتشعّب أطرافها بتشعب فروعها؟! بلى، ولكن هذا هو وضعها في القرآن الكريم، على رغم أنف النفعيّة، الأنانية منها والعصبيّة، بل على رغم القواعد الفقهيّة، وظواهر الأدلة الشرعيّة! أي والله! إن هذا هو وضع المسألة في القرآن الكريم، عرف الحكمة فيه من عرفها، أو جهلها من جهلها! ألا فلنستمع إلى كتاب الله حين يتحدّث عن حق الانتفاع بالمال في حظوظ النفس المشروعة؟! إنه قلما يتحدّث عن حق الاستمتاع بهذه الحظوظ؛ لأنه ليتحدّث عن هذا الحق -إذا تحدّث- حديثاً ليّناً، لا حضّ فيه ولا تحريض، ولا إيجاب ولا إلزام، وإنما هو الإذن والرخصة في تناول هذه الحظوظ، ورفع الحرج والإثم عن متناولها! أما حين يتحدث عن حقوق الأسرة، فإننا نسمع منه نبرة جديدةً، يصبّها في قالب الأمر الموجب الملزم .. ولكنها آيات معدودات، لو جمعت كلها لكادت تسعها صفحة واحدة من كتاب الله!

وأما حق الجماعة في أموالنا، فحدّث عن البحر ولا حرج .. إن الحديث عنه يواجهنا في كل مكان من القرآن الكريم، في لهجة تشتدّ وتعلو، وتوجب وتحتّم، وتعد وتتوعّد، وتكرّر وتؤكّد! يا سبحان الله! ألم يكن حق النفس أولى بهذا التأكيد والتشديد؟! أو لم يكن حق الأسرة أولى بأن يليه في الحضّ والتحريض؟! وحق الجماعة البعيدة أولى أن يكون آخرها رتبةً وأبعدها منزلة؟! إن الإنسان يأخذ بظاهر العلم، ويبني على بادي الرأي .. ولو أَتبع القرآن هداه، لكان كتاب تعليم وكفى، ولكن القرآن ليس خطاباً للعقول وحدها! إنها خطاب للنفوس تربية وتهذيباً، وللقلوب علاجاً وتطبيباً .. فهل للطبيب أن يصف الدواء بغير داء؟! والإنسان يقول: إن حق النفس أوجب .. وحق الأسرة إليه أقرب .. لقد صدق! لكن باعث الطبيعة إليهما يسبق داعي الشريعة، وإن الطبيعة لأشدّ حرصاً على حق النفس منها على حق الجماعة .. فأيّ حاجة بنا إذن إلى الإلحاح على كل امرئ في أن يأكل ويشرب، وأن ينتفع بماله في سدّ حاجاته؟! أليس داعي الجبلّة والغريزة قائماً في كيان نفسه، يدفعه إلى ذلك دفعاً؟! إن مهمّة التشريع الحكيم هاهنا ينبغي أن تنحصر في التنبيه على صدق هذا الداعي الجبلّي وسداده، على أن تدعه بعد ذلك يعمل هو في النفس عمله!

فإذا انحرفت الفطرة بفعل البيئة أو الوراثة وجعلت تتحرّج وتتأثّم مما لا حرج فيه ولا إثم، فهنالك يجيء دور الشريعة في تصحيح الأوضاع المنحرفة، ورفع النظر الذي وضعته العادات السيئة، والعقائد الباطلة .. وهكذا نرى موقف القرآن الحكيم: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة)! {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} (الأعراف)! وكذلك لمَّا كانت لحمة الرحم تجعل من أعضاء الأسرة كائناً واحداً، يشعر بشعور واحد، حتى كأن حياة أحدهم امتداد لحياة صاحبه، وكأن حاجة الآخر هي حاجة نفسه، لم يكن بالشريعة حاجة إلى أكثر من تغذية هذا الشعور وتنميته ما دام قائماً، فإذا اضمحلّ هذا الشعور بتراخي حبال الرابطة الزوجيّة، وتفكّك عرا الأسرة، فهنالك يبرز سلطان القانون، ويرفع صولجانه! وهكذا نرى الدعوة القرآنيّة إلى القيام بحقوق الأسرة، لا تأخذ طابع الشدّة والصراحة، إلا حيث يبدأ التفسّخ والتفكك في هذه الرابطة بالشقاق وبالفراق: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7)!

اختيار مادة العطية

فإذا جاوزنا حقوق النفس، وحقوق الأسرة، وانتقلنا إلى ذلك الميدان الفسيح، بل ذلك العقد المنفرط، إلى محيط الجماعة "الكبرى" الذي لا يسمع فيه صوت لغريزة البقاء الفردي، ولا صوت لغريزة البقاء النوعي، وإنما تُسمع فيه أصوات خافتة للبواعث النبيلة -دينيّة كانت أو إنسانيّة- فهنالك تشتد الحاجة إلى صوت قوي علوي، متجدّد متكرّر، يوقظ هذه المعاني النبيلة من هجوعها! من أجل ذلك لا نزال نسمع صوت الدعوة القرآنيّة، إلى البذل والإنفاق في سبيل الله، يلاقينا حيثما توجّهنا في ثنايا الآيات وتضاعيف السور! ثم نرى هذه الدعوة الرشيدة لا تكتفي بأن تجعل هذا البذل ركناً من أركان الإيمان، ولا تكتفي بأن تجعل به للجماعة في أموال المؤمنين حقّين اثنين: حقًّا معلوم الحدود والمقادير! وحقاً آخر غير معلوم الحدود، تحدّده الضرورات النازلة، والحاجات المؤقتة، لإعانة العاجزين، وإغاثة الملهوفين (¬1)! اختيار مادة العطيّة: ونبصر القرآن الحكيم لم يكتف بأن وضع هكذا قانون البذل مفصّلاً، ولكنه أحاطه بسنن سنّها، وآداب شرعها! ونبصر آداب البذل في اختيار مادة العطيّة، حيث طوى الحديث عن فريضة البذل نفسها, ولم يبق المجال مجال الدعوة إلى البذل والتحريض عليه، ولكن مجال التمييز بين أنواع البذل واختيار أحسنها! ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: المسؤوليّة الاجتماعيّة في الإسلام.

ولن يكون حديثنا موجّهاً إلى الأشحّاء الكانزين الذين انحرفت فيهم غريزة حبّ التملّك، فأصبح المال عندهم غايةً لا وسيلةً، بل أصبح فيهم يخدم ولا يستخدم .. أولئك الذين يضنّون بالمال على أنفسهم، فلا يبدو عليهم، في مطعمهم وملبسهم، أو في مسكنهم ومركبهم، مظهر لهذه النعمة التي يحبّ الله أن يُرى أثرها عليهم! وإنما كل السعادة في نظرهم أن يجمعوا المال جمعاً ويعدّوه عداً، كأن زيادته ستمدّ في آجالهم مداً! كلا ,ولن يكون حديثنا سوقاً إلى السفهاء المسرفين، الذين انحرفت فيهم نزعة الإنفاق، فجعلت أموالهم وقفاً على أنفسهم، ينفقونها مع قرناء السوء في متعهم الشخصيّة، تاركين أزواجهم وأولادهم وراء ظهورهم، يقاسون نكد العيش، ويكابدون ذلّ الحاجة، كأنهم عن هذه الرعيّة غير مسؤولين! كلا, ولن يكون حديثنا مع المترفين، أولي النعمة الذين يغمرون بالرفاهية أسرهم، ولكنهم لا تمتدّ أبصارهم إلى أبعد من جيران بيوتهم .. أولئك الذين يأكلون من غير جوع، ويشربون على غير ظمأ، ثم يرفلون هم وأهلوهم في الحرير، ولا يمشون إلا على الفراش الوثير، ومن حولهم بطون طاوية، لا تجد طعاماً ولا شراباً .. وأجساد عارية، لا تملك كساءً ولا غطاءً، فلا تهتزّ منهم عاطفة لمنظر هذا البؤس والحرمان، ولا تنبسط لهم كفّ بشيء يسدّ جوعة الجائع، أو يواري سوأة العريان! ولكن حديثنا إلى المنفقين، الذين طهرت نفوسهم من داء الشحّ في مراتبه الثلاث:

الشحّ على النفس! والشحّ على الأسرة! والشحّ على الجماعة! نوجّه حديثنا إلى الباذلين، لنقول لهم: إنهم وقد طهروا من عيب البخل، عليهم أن يتطهّروا من عيوب البذل، فإن للبذل عيوباً، وأن يتأدّبوا بأدب الإسلام فيه، فإن للبذل في الإسلام آداباً، فربّ بذل هو شرّ من البخل، وربّ عطاء خير منه الحرمان، كما صرح القرآن! نعم، إن على الباذل -حين يبذل- أن ينظر في صفة ما يبذل، وفي قدر ما يبذل، وأن يعرف فيم يبذل، وكيف يبذل، ولم يبذل؟! ثم عليه -في كل واحدة من هذه النظرات- أن يسترشد بهدي القرآن الكريم وتوجيهه الحكيم! فلنبدأ بالتوجيهات القرآنيّة في انتقاء مادّة البر والعطاء! كثير من الناس إذا انتخبوا عطاياهم -وبخاصة تلك العطايا التي تجمع بطريقة شعبيّة، لا يلتقي فيها المعطي والآخذ، ولا تعرف فيها شخصيّة المعطي ولا الآخذ، يختارونها من حثالة ما لهم، وسقط متاعهم، يخرجون من الثياب خشنها وغليظها، وباليها ومرقعها، ومن النعال مخصوفها وممزّقها، ومن الطعام ما بدا خبثه وغلثه، وسوسه وعفنه، مستبقين لأنفسهم أجود المال وأطيبه، يجعلون لله ما يكرهون، ولأنفسهم ما يشتهون!! تلك نفسيّة لا تزال فيها بقيّة من شيمة البخل، تقصر بصاحبها عن رتبة البرّ، كما وصفه الله تعالى، أن نؤتي المال على حبّه، ونطعم الطعام على حبه!

ألا نسمع إلى القرآن الكريم، حين يقول بصيغة الحصر: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92)! والآن، فلننظر في مرآة القرآن، إلى تلك النفسيّة التي تسيء اختيار مادة البرّ والإحسان, إنها في حكم القرآن نفسيّة تستمدّ وحيها من نظرتين خاطئتين: نظرة استهانة بشأن الآخذ! ونظرة استئثار ومحاباة لشخصيّة المعطي نفسه! فالذي يمنّ بالرديء، ويضنّ بالجيد، ينظر إلى الفقراء والمعوزين، فيتراؤون له -من خلال خياله- كأنهم قطيع من الحيوان، حفاة عراة جياع، يسدّ جوعهم أدنى طعام، ويستر عورتهم أحقر كساء؛ بل إنهم لا يطعمون في أكثر من لقمة وستر .. أليس شيء خيراً من لا شيء؟! هكذا ينظر إلى الناس من عليائه، نظرة استهانة وبطر، ثم ينظر إلى نفسه، نظرة حرص وحذر، يقول في نفسه: كيف أوتي الفقير جيد طعامي ولباسي، لأصبح بحاجة إلى بدلٍ منها؟! أأُغنيه وأُفقر نفسي؟! هذه النظرة الخاطئة بل هذه العقليّات المريضة، يصفها القرآن الحكيم أدقّ وصف، ثم يبطلها، ويعمل على استئصالها! أما نظرة الحذر والخوف من الفقر، فإن القرآن يصفها بأنها نزغة شيطان، ثم يمحوها من نفس المؤمن بذلك الوعد الكريم، إن الله سيرزق المنفق خلفاً: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} (البقرة)!

وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "ما من يومٍ يُصبح العباد فيه إِلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم! أعط مُنْفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم! أعط مُمْسكاً تلفاً" (¬1)! وأما تلك النظرة المستكبرة المستقلّة، فإن القرآن الحكيم يبدّلها نظرة مؤاخيةً، مواسيةَ مساويةَ: يا صانع المعروف، لا توازن مواضيع صنيعك بأنفسهم، ولكن وازنهم بنفسك! إنهم إخوتك، منزلتهم منزلتك، قدّر في نفسك أن الذي تمنحه لهم، قُدِّم منحةً لك! أكنت ترضى أن تأخذ الرديء الدنيء؟! ألست إن أخذته على استحياء لا تأخذه إلا مغمضاً عينيك عن القذى والأذى؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} (البقرة)! يا صانع المعروف، افتح عينيك، وامح الغشاوة عن ناظريك، أتظن حين تضع صدقتك في يد الفقير، أنك تضعها في يد الفقير نفسه؟! ¬

_ (¬1) البخاري: 24 - الزكاة (1442)، ومسلم (1010)، وأحمد: 2: 306، والبيهقي: الشعب (10730)، والآداب (95)، والبغوي (1657)، والنسائي: الكبرى (9178)، وابن حبان (3333).

مقدار العطاء

كلا، إنها تقع في كفّ الرحمن! إنك تقرض الله بها قرضاً حسناً! أفلا تستحيي أن تقرض الله أردأ ما أعطاك، وتضنّ عليه بأجود ما أولاك؟! {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} (التوبة)! مقدار العطاء: وهل في القرآن الحكيم توجيهات معيّنة عن مقدار العطاء، كما كان له توجيه معيّن في اختيار صنوف العطاء والتزام جودته؟ وهنا نبصر القرآن في دعوته إلى البذل لم يحرّض الناس يوماً ما على إنفاق المال كله، ولم يدع الغنيّ تأخذه الرأفة على الفقير إلى حدّ نسيان نفسه .. ولو فعل لكان ذلك تحويلاً للثروة من يد إلى يد، ونقلاً للبؤس من جانب إلى جانب .. ولم يكن ذلك هو الإرشاد الحكيم إلى حسن توزيع الثروة بين الأمّة، والتقريب المعقول بين طبقاتها .. وكيف يشجع الإسلام على الفقر، وهو يريد أن يمحو الفقر؟! أم كيف يقول الأغنياء إلى ذلّ السؤال، وهو يريد أن تكتسب العزّة لجميع المؤمنين؟! أم كيف يمهّد لأحد سبيل الغنى؟! وهو يدعو إلى الحياة الطّيبة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء: 29)! {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)!

يروي البخاري وغيره عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً، وابدأ بمن تعول" (¬1)! وكلمة الإنفاق من المال غير محدّدة المعالم؛ إنها تتناول القليل، بل أقل القليل، فهل كل عطاء ولو قلّ يحقّق الباذل البرّ؟! ويخلي من تبعة البخل؟! كلا، ألا نستمع إلى قول الله تعالى في محكم كتابه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} (النجم)! هاهنا إذن طرفان ممنوعان؛ لا قلة شحيحة تقصر عن المدى، ولا كثرة سفيهة تقلب الأوضاع، وتسيء إلى ميزان التوزيع .. ولكن وسط بين ذلك! وما هو القدر الوسط، الذي يحبّه الله ويرضاه؟! هلا وضع الإسلام في ذلك حداً يخرج الناس من حيرتهم، وينقذهم من خداع أهوائهم، وسوء تقديرهم؟! هاهنا يتجلّى نور الهدي النبوي؛ ليبيّن للناس ما نزّل إليهم .. ويضع مقياسين اثنين للحد الأقصى من الصدقات، مقياساً في ثروة المتصدّقين، ومقياساً في حاجة المعوزين! ¬

_ (¬1) البخاري: 24 - الزكاة (1426)، وانظر (1428، 5355، 5356)، وأحمد: 2: 230، 435، والنسائي: 5: 62، والبيهقي: 4: 177، وابن أبي الدنيا: العيال (7)، والخطيب: التاريخ: 8: 481 - 482، وأبو نعيم: الحلية: 2: 181، وابن أبي شيبة: 3: 212، والدارمي (1651)، وابن حبان (4243). والظهر -كما قال الخطابي-: أعلام الحديث: 1 - 763 قد يزاد به في مثل هذا إشباعاً للكلام .. والمعنى أن أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله، بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية لأهله وعياله، ولذلك يقول: "وابدأ بمن تعول"!

مقياسان كل منهما قائم بنفسه .. مستقل تمام الاستقلال عن صاحبه! أما المقياس الأول، فإنه يخصّ المقتدرين، ولو امتداداً نسبياً متواضعاً، إنه يعني كل من بلغ ماله نصاباً معيّناً في وقت معيّن! تلك هي فريضة العشر، أو نصف العشر، في الزروع والثمار عند كل حصاد! وفريضة ربع العشر من الذهب والفضة في كل عام! إلى مقادير معيّنة من بهيمة الأنعام في كل حول! ذلك هو الحق المعلوم الذي أشار إليه القرآن الحكيم في قوله -جل شأنه- في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج)! وحدّده الهدي النبوي (¬1) .. نسب لا تختلف باختلاف الحاجات شدّة ولا ضعفاً، ولكنها تؤدّى على كل حال، إلى الدولة نفسها لتتولى صرفها في الوجوه الخاصة أو العامة التي حدّدها الكتاب الحكيم! وأما المقياس الثاني، فإنه لا يحدّ بنصاب، ولا زمان، ولا مقدار .. إنه يدور على محور الضرورات النازلة، والحاجات المتجدّدة، ويقدر بقدر كل واحدة! أمام هذه النوازل، ليس لأحد أن يقول: لقد أدّيت ما عليّ من الزكاة المفروضة، فلتؤدّ الدولة ما عليها! ¬

_ (¬1) انظر: فقه الزكاة.

إن الدولة مهما تتسع مواردها، ومهما تتفتّح عيونها, لا تقف على كل حادثة، ولا تسمع كل استغاثة! أفنترك الجائع الذي لا يجد ما يسدّ رمقه؟! والعاري الذي ليس عنده ما يستر بشرته؟! والضائع الذي لا مأوى له؟! والجريح الذي ينزف دمه؟! والمريض يمتد مرضه؟! حتى تفطن لهم الدولة، وتؤدّي واجبها نحوهم؟! لقد عرف (الدّين القيّم) لهؤلاء جميعاً حقّهم، فجعل معونتهم في عنق من اطّلع على حاجاتهم .. فإن أعرض عنهم فهو آثم، وإن أعطى دون ما يكفيهم فهو آثم، إلا أن يعجز عن الكفاية؛ فعليه حينئذ أن يستعين بغيره لإحياء هذه النفوس البائسة وإسعافها وإنقاذها: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32)! من هذين الواجبين: واجب الزكاة المفروضة! وواجب الإغاثة عند الطوارئ! يتألف الحدّ الأدنى للبرّ في الإسلام، فمن أداهما جميعاً فقد برئ من إثم الشحّ، وتطهّر من رجسه، ولو بقيت له الألوف المؤلفة، والقناطير المقنطرة!

وجوه البذل

فقولنا هذا، هو الحدّ الأدنى، ولكن فوقه درجات متصاعدة، رسمها الإسلام، وندب إليها القرآن! أدناها: ألا يمسك المرء إلا حدّ كفايته، وقدر حاجته هو ومن يعوله، ثم يعمد إلى ما زاد عن هذه الكفاية، فينفقها في التوسعة على الآخرين .. إلى هذه الدرجة السنيّة، يشير القرآن الحكيم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: 219)! المرتبة الثانية: وهي الدرجة الوسطى: ألا يستأثر على الناس بشيء من ماله، بل يعد نفسه شريكاً لهم كواحد منهم، لهم في ماله مثل ما له فيه، ولا سيما في أيام المسغبة، وإلى تلك الرتبة الإشارة بقوله عظمت حكمته: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)! {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71)! المرتبة الثالثة: وهي أعلاها، أن يؤثر أخاه على نفسه، من دون أن يلقي بيده إلى التهلكة .. تلك هي الدرجة العليا، تسمو إليها الأرواح القدسيّة: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (الحشر)! فلينظر المؤمن أن يضع نفسه من هذه النازل كلها! وليعلم أن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها! وجوه البذل: وبعد أن وصّانا القرآن الكريم بالبر والإحسان, رسم لنا الخطة المثلى، التي افترضها الله علينا في هذا الإحسان, فأمرنا أن نتخيّر مبرّاتنا من أطيب أموالنا

وأحبّها إليه، لا من أبخسها وأهونها علينا .. ثم لم يترك لنا الخيرة في تقدير الجزء الذي نبذله؛ بل أشار إلى تحديد الحدّ الأدنى منه بحدّين نسبين: حدّ يتبع مقادير أموالنا قلة وكثرة، يتصاعد بتصاعدها! وحدّ يتبع ضرورات الناس وحاجاتهم، ويقدر بقدرها! هكذا تبيّنت لنا حدود الواجب في البرّ، سواء من حيث رتبتها وجودتها، أو من حيث مقدارها وكميتها! وبقيت جوانب أخرى من هذه المبرّات، جديرة بالبحث والبيان! ولنتذكر قبل كل شيء أن القرآن الحكيم، حين دعانا إلى بذل المال في وجوهه المختلفة، على النفس وعلى الأسرة، وعلى من وراء ذلك من أبناء الأمّة، لم يسوّ بين هذه الأنواع الثلاثة في أسلوب دعوته، ولكنه اختصّ هذا التصرّف الثالث -أعني شؤون المجتمع- فوجّه إليه جلّ عنايته، وجعله وحده هو عنوان الطهر، ومعيار التزكية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103)! فمن كانت نفقاته محصورة في نطاق حاجاته وحاجات أسرته، ولمن بذل فيهما عن فيض وسعة، فإنه في نظر القرآن، لا يزال منغمساً في حمأة الفرديّة والأنانية، ولن يستحق منه لقب الطهر، حتى يخرج حاله عن هذا النطاق المحدود، وحتى يدخل به في محيط الأسرة الكبرى! هذه الدعوة العامة إلى كل ذي فضل، أن يمدّ بساط فضله خارج نطاق أسرته!

ترى، كيف كنا نفسرها, لو أن الإسلام وقف في بيانها عند هذا الحدّ المجمل؟! حسبنا أن نلقي نظرة على أخبار الكرم والكرماء، في كل زمان، بل حسبنا أن نلقي نظرة على أساليبنا العصريّة في الدعوة إلى ولائمنا ومآدبنا، ومظاهر توسّعنا في شتّى الملابسات، ألسنا -حين نفكّر في هذا التوسّع الكريم- يتّجه تفكيرنا إلى من هم على شاكلتنا، من الخلطاء والأصدقاء، أو إلى من نعرف من النابهين والكبراء، ناسين أو متناسين من هم دوننا، ومن هم أحق ببّرنا، من الخاملين والضعفاء؟! ألسنا -في الأعم الأغلب- نطعم المطعومين، ونحرم المحرومين؟! فلو تركت لنا الخيرة في أسلوب نشر البرّ، ألا تكون هذه الصورة هي أقرب الصور إلى أذهاننا، وأدناها إلى تحقيق فضيلة السخاء في نظرنا؟! ولكن الله كان أرحم بالأمّة، من أن يكل شريعة برّها إلى حكم كل امرئ في نفسه، بل كان أرحم بها من أن يكتفي في تشريعها ببيان من رسوله ونبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فسجّلها في كتابه محكمة مفصّلة، جامعة مانعة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} (التوبة)! ثمانية أبواب، حدّدت حاجات الأمّة ومطالبها الرئيسية وفصّلتها تفصيلاً، تناولت به أهمّ شؤون الأمّة، وأهمّ شؤون الدولة، وقالت للباذلين والمنتفعين: هاهنا فلتولّوا وجوهكم! هاهنا فلتضعوا فضل أموالكم، سداً لتلك الحاجات، وتحقيقاً لتلك المطالب!

ثمانية أبواب، يكفي أن نطلع على بضعة منها, لنعرف كيف اتخذ القرآن الحكيم من هذه الفريضة الاجتماعيّة، أساساً لبيان قومي مثالي، يجمع إلى عناصر القوة والحرمة عناصر الحياة السعيدة، والعيشة الرغيدة! نعم، يريد الله بهذا التشريع، ألا يكون في بلاد الإسلام فرد واحد إلا وله مسكن يؤويه، وأثاث يرتفق به في مسكنه، وله كسوة للشتاء والصيف، وله مركب وخادم إن عجز عن السعي بنفسه، وعنده فوق ذلك ما يكفي لقوته سنة كاملة! فمن أعوزه شيء من ذلك، فهو في نظر المحقّقين من الأئمة فقير، له علينا الحق في رفعه إلى هذا المستوى! فإن لم تف حصيلة الزكاة بإبلاغه إلى هذا الحدّ الأدنى، وجب علينا في حلّ أموالنا، ما نوفر له به هذه المرافق الضروريّة، ثم ما يوفر له قوته أولاً، بتهيئة عمل له، يتكسّب به يوماً بيوم! فهذا هو سهم الفقراء والمساكين! ثم يريد الله، ألا يكون في بلاد الإسلام، مدين يرهقه الدَّين -الذي استدانه في حلال- ولم يجد له وفاء، أو مدين يثقله دين تحمّل به في برّ الغير، ولو كان عنده وفاء به، بل علينا أن نؤدّي عن المدينين ما يقضي دينهم! وهذا هو سهم الغارمين! ثم يريد الله، ألا يكون ببلاد الإسلام غريب، انقطعت به الأسباب عن بلده وماله، إلا آويناه وأرفقناه، وزودناه ما يبلغه موطنه!

أسلوب البذل

وذلك هو سهم ابن السبيل! ثم يريد الله، ألا يكون تحت يد المشركين أو غيرهم أحد من المسلمين يرسف في قيد الأسر، أو يرزح تحت نير الاستعباد، إلا افتديناه وفككنا إساره، ورددنا إليه حريّته! وذلك هو سهم الرقاب! وأخيراً، يريد الله لدولة الإسلام، أن تكون قويّة الشوكة، عزيزة الجانب، ولذلك افترض علينا في أموالنا ما نمهّد به أسباب قوّتها، وحماية حوزتها! وذلك هو سبيل الله، أو هو على أبواب سبيل الله! أرأيت؟ بعد أن وصّانا القرآن الحكيم بالبرّ والإحسان, كيف نظّم لنا طرائق البرّ والإحسان؟ وكيف جعل من هذه الفريضة الاجتماعيّة، بناءً لأمّة مثاليّة، ودولة مثالية؟ ذلكم هو حكم الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (المائدة)! أسلوب البذل: حقًّا، ما أحكم نظرة القرآن الكريم إلى معنى البرّ والإحسان! وما أعمق وما أرفق نظرة هذا القرآن إلى كرامة الإحسان المستحق للإحسان! وليس الشأن كل الشأن عند الله، في أن ننتخب مادة العطاء ونحسن اختيارها!

وليس الشأن كل الشأن في أن نجزل العطيّة وتوفي مقدارها! وليس الشأن كل الشأن أن نحسن توزيعها ووضعها في مواضعها: إغناءً للفقير، وإيواء للغريب، وتحريراً للرقاب، ودفاعاً عن الملّة والدولة! كل ذلك لا شك جميل، بل كل ذلك واجب محتوم وصّانا به القرآن، وشدّد علينا في الوصّية! ولكن هذه الوصايا كلها -في جملتها وتفصيلها- ليست إلا شيئاً يسيراً، إذا قيست إلى العنصر الإنساني، الذي اشترطه القرآن في أسلوب البذل وطريقته! ذلك هو واجب التلطّف في الأداء، رفقاً بشعور المستحقّين، وصوناً لماء وجوههم، وإبقاءً على عزّتهم وكرامتهم! نعم، إن الله يرضى منك أن تقضي حاجة المحتاج، ولا يرضى منك أن تجرح شعوره بعطيّتك، أو تمتهن كرامته بقولك أو بفعلك أو بإشارتك، لا قبل العطاء، ولا حين العطاء! أرأيت إن وضعت منحتك في كفّ الفقير وأنت تنظر إليه، أو تقول له نكراً؟! أرأيت إن استكثرت عليه عطيّتك، أو تمنيّت لو أنك أخرت شيئاً منها لنفسك؟! أرأيت إن استشعرت الفضل عليه، بمالك من اليد العليا، أو أشعرته بموقفه الضارع المستكن؟! أرأيت إن ذكّرته -ولو بعد حين- بما أسديت إليه من برّك، ومنحته من معروفك؟!

ترى، هل يبقى لك بعد ذلك شيء من الفضل؟! أم هل تطمع عند الله في شيء من الأجر؟! هيهات!! لقد أضعت بذلك عملك هباءً، وكنت أنت ومانع الخير سواءً، بل لعل البخل كان خيراً بذلك، والحرمان أفضل من إحسانك .. فإن كنت في شك من هذا فاقرأ قول الله -عزّ وجلّ-: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ} (البقرة: 264)! إنما الفضل والأجر لمن أنفق نفقته طيّبة بها نفسه، عفيفاً فيها لسانه، مكفوفاً عنها منّه وأذاه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} (البقرة)! والقرآن الحكيم بعد ذلك لا يكتفي منا بهذا الموقف! إنه يصف لنا المؤمنين الصادقين، أكرم طبعاً، وأشدّ تواضعاً، من أن يقفوا مع المسكين على قدم المساواة! إنه يصوّرهم لنا خافضي الجناح، متطامني الظهور، كأنهم يعدّون الفقير صاحب الفضل في قبول برّهم، وفي إتاحة الفرصة لهم لينالوا رضوان الله، فتراهم في ساعة بذلهم أشدّ منه خضوعاً، وأعظم خشوعاً! إنهم كما وصفهم الله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} (المائدة)!

{والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)} (المؤمنون)! يروي الترمذي وغيره بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها قالت (¬1): سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}! قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر, ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصدّيق, ولكنهم الذين يصومون ويُصلّون ويتصدّقون, وهم يخافون ألا تُقْبل منهم: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (المؤمنون: 61)! ولقد ضرب الله لنا في كتابه العزيز مثلاً من صنيع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} (الإنسان)! وكانوا مع ذلك يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ الله شرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11)} (الإنسان)! هذه الوصيّة الواجبة على المتصدّقين، أن يتّخذوا في عطائهم ذلك الأسلوب الرحيم الكريم، لخجل الرجل الخاضع المتواضع، يضيف القرآن الكريم إليها وصيّة أخرى غير ملزمة، ولكنها يزداد بها الإحسان إحساناً، وتزيد بها كرامة الفقراء حفظاً وصوناً! ¬

_ (¬1) الترمذي (3175)، والحميدي (275)، وأحمد: 6: 159، 205، وابن ماجه (4198)، والطبري: التفسير: 18: 26، والحاكم: 2: 393، والبغوي: التفسير: 6: 25، والمزي: تهذيب الكمال: 17: 146.

تلك هي وصيّة الإسرار بالصدقات، وإخفائها عن أعين الناس، بعداً يباذلها عن بواعث الفخار والرياء، وبعداً بأخذها عن عوامل الخجل والاستحياء، حتى إنها كلما خفي مكانها، ازداد عند الله ميزانها! أليس أحد السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم القيامة رجل أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؟! يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إِلا ظله: الإِمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربّه، ورجل قلبه معلّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل طلبته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إِني أخاف الله، ورجل تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم بشماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" (¬1)! فإذا كان القصد من إعلانها، إثارة باعثة الخير عند الغير، وفتح باب الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، لكي يستن الناس بسنته، فيكون حظ المحتاجين أوفر بهذا التعاون على البرّ، فلا بأس بهذا الإعلان! كما أنه إذا كان يخشى من دوام إخفائها التعرّض لسوء الظن، وفتح باب التهمة الباطلة، فلا بأس كذلك بأن يعلنها على قدر ما تزول به الريبة، ولا سيما في الصدقات الواجبة! ¬

_ (¬1) البخاري: 10 - الأذان (660)، وانظر (1423، 6479، 6806)، ومسلم (1031)، وأحمد: 2: 439، وانظر: الترمذي (2391)، وابن خزيمة (358)، والطحاوي: شرح المشكل (5846، 5847)، والبيهقي: 4: 190، 8: 162، وابن حبان (4486).

بواعث البر والإحسان

أما إذا لم يكن هنالك باعث صحيح من هذه البواعث وأمثالها، فإن الإسرار بها أكمل وأفضل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271} (البقرة)! بواعث البرّ والإحسان: وهل وقفت وصايا البّر عند هذا الحد؟! هل ينال بالصدقة رضوان الله كاملاً، متى استكملت هذه العناصر فحسب؟! كلا، لقد بقي عنصر أنفس وأقدس من تلك العناصر كلها! عنصر لو سلم لها من أول الأمر لسلمت سائر العناصر، ولو بطل أو فسد لحبطت سائر العناصر! عنصر لا يتصل بمنبع العطاء، ولا بأحقيّته، ولا بمقدار أسلوبه! عنصر ليس ماديًّا، ولا اجتماعيًّا، ولكنه معنوي نفساني، يسكن في أعماق صدورنا، يدفعنا إلى العدل، وتتحرّك همّتنا إليه، ذلك هو عنصر الباعث أو النيّة، الذي تتحدّد فيه غايات الأعمال ومقاصدها، والذي يدور على ميزان القيم في نظر الخلق والدّين: يروي مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن الله لا ينظر إِلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إِلى قلوبكم وأعمالكم " (¬1)! ¬

_ (¬1) مسلم (2564)، وأحمد: 2: 284، 285، 539، والزهد: 259، والبغوي: شرح السنة (4150)، وابن ماجه (4143)، وأبو نعيم: الحلية: 4: 98، وابن حبان (394).

نعم، إنك لترى العمل، فتراه في ذاته عملاً مبروراً، فإذا اطلعت على مقاصده وبواعثه، وجدته قد انقلب إثماً وفجوراً، أو قد تحوّل شغلاً دنيويًّا مباحاً، لا برّ فيه ولا فجور! من أجل ذلك كان حقًّا على المؤمن -قبل الإقدام على عمل ما- أن يلقي على نفسه هذا السؤال، وأن يلحّ على نفسه في طلب الردّ عليه: ماذا تبتغين أيّتها النفس من هذا العمل؟! فإذا ظفر منها بإجابة صحيحة صريحة، غير مخدوعة ولا خادعة، فليعرض هذه الإجابة على مرآة القرآن، وليختبرها بالمعايير التي وضعها القرآن، ليستبين بذلك قيمة عمله، بل ليستبين درجة ايمانه، بل لينكشف له جوهر نفسه، ومعدن روحه، فيعلم: هل علوّية ربّانيّة هي، أم شيطانيّة ماردة، أم طينيّة باردة؟! ولعله ليست هناك قضيّة عني القرآن بتحليل بواعثها، وتحديد قيمها، على ضوء تلك البواعث، أشدّ من عنايته بقضيّة البذل والإنفاق، وترتيب منازلها، برّها وفاجرها وما بين ذلك! والتاريخ القديم والحديث للبشريّة مشحون بالمثل والصور التي ينطبق عليها حكم القرآن: هذا رجل من الناس يغمرك بكرمه، لتسكن إليه وتأمن قائلته، يبدي لك الخير والبرّ، ولكنه يضمر المكر والغدر! حذار حذار! إنه يسمنك ليأكلك، ويستدرجك ليقتلك، كمثل اليهود، حين دعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعامهم، وقد دسّوا له السم في اللحم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} (آل عمران)!

وهذا رجل آخر، يمنحك من فضله ونواله، لا ليكرمك، ولكن ليستعبدك ويستخدمك! يحاول أن يشتري ضميرك وذمتك، أو لسانك وقلمك، أو يدك وساعدك .. فإن لم يكن يريد أن يضربك؛ فإنه يضرب بك، لا ليضرب بك عند الباطل، وينصر بك كلمة الحق، ولكن ليحارب بك الله ورسوله، ويصدّ بك عن سبيله، فتلك هي النفوس الشيطانيّة، التي وصف الله لنا أمثالها في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} (الأنفال)! وطائفة من الناس تراها تنفق عن سعة، وتبذل عن سخاء، ولا تبتغي بأموالها شراً، ولا تضمر لأحد غدرًا؛ ولكنها تخضع لشهوة خفيّة من حبّ الظهور، وطلب السمعة المحبّبة عند الآخرين، فذلك هو الرياء الذي وصفه الله لنا في كتابه المجيد، كيف يحبط الصدقات، كما تهلك النار الزروع والثمار: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} (البقرة)! وطائفة أخرى تجعل مبرّاتها مقايضة ومبادلة، تسدّ بها ديناً سابقاً من الجميل والمعروف، أو تفتح بها ديناً جديداً، تتقاضى فيه مكافأة، الحسنة بمثلها أو بأحسن منها .. !

طهارة القلوب من الغل والحسد

هؤلاء وهؤلاء تجّار يستوفون أجورهم في هذه العاجلة، ولا يبقى لهم منها رصيد، في الآجلة! وتلك هي النفوس الأرضيّة الطينيّة! ألا ترى القرآن الحكيم حين وعد الله المتقين الوعد الجميل، اشترط أن تتجرّد صدقاتهم من هذه المبادلات والمعاوضات السابقة واللاحقة؟ هكذا يقول جل شأنه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)} (الليل)! ويقول: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} (الإنسان)! أما النيَّة المثاليّة في الصدقات، فهي النيّة النقيّة المصفّاة من كل عوض، المتنزّهة عن كل غرض، وإنما يقصد بها وجه الله تعالى خالصاً، وتلك هي النفوس العلويّة الربانيّة، التي وصفها القرآن في غير ما آية: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} (البقرة: 272)! {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (النساء: 114)! {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} (الليل)! طهارة القلوب من الغلّ والحسد: وهكذا كانت أول حملة تطهيريّة أعلنها القرآن الحكيم في مكّة -بعد حملته على الشرك والوثنيّة- حملته على ذلك الداء الاجتماعي الوبيل، داء تكديس الأموال وتجميعها، وحبسها من الانتفاع بها في وجوهها المختلفة، لخدمة الفرد والجماعة!

عشرات من السور المكّيّة، كان من أوائل أهدافها تليين تلك القلوب المتحجّرة، وحلّ تلك الأنامل المعقودة، تطهيراً لها من وصمة الشح والبخل، وتحلية لها بحلية السخاء والبذل! ثم لم يقصر القرآن دعوته على واجدي المال، مناشداً إيَّاهم أن يبذلوه، ولكنه دعا كذلك فاقدي المال، أن يجدّوا ليكتسبوه ويبذلوه! وبعد أن رأينا القرآن يضع أساس فريضة الكسب، وأساس فريضة البذل، رأيناه يرسم لكلتا الفريضتن آدابها ومناهجها، من حيث الوسائل والمقاصد، ومن حيث المصادر والموارد، ومن حيث المقادير والمعايير! هذه الحملة الواسعة المنظمة، في مكافحة مرض الحرص والبخل، إنما كان هدفها ذلك النوع الذي يعرفه الناس باسمه، وهو ضنّ الإنسان الواجد بشيئه الذي في يده! غير أن هناك نوعاً آخر، لا يعرفه الناس باسم البخل، وهو مع ذلك شر أنواع البخل، وأذلّ ضروب الحرص، وهو مرض يصاب به الغنيّ والفقير، والواجد والمحروم على السواء، ذلك هو ضنّ الإنسان بشيء غيره، وبما ليس في يده! ماذا نقول؟! هل يتصوّر في العقل أن أحداً يضنّ بشيء غيره، وبما ليس في يده؟! نعم! وهل الحقد والحسد إلا ذلك؟! فالحسود لا يبخل على محسوده بما عنده فحسب، بل يكره أن تصل نعمة الله إليه، ولا يرضى أن ينزل الله من فضله عليه!

إنه عدوّ نعمة الله ورحمته، لو استطاع أن يمنعها عن الغير لمنعها, ولو رآها وصلت إليه لتمنّى زوالها، وسعى سعيه لتحويلها! هذه النفوس الشحيحة الطبع، لو وكلت على خزائن الله؛ لأغلقت أبوابها دون خلق الله، أو لحوّلت قليلاً منها إلى من تشاء، وصرفته عمن تشاء! هكذا وصفها الله في كتابه الحكيم: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)} (الإسراء)! {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} (الزخرف: 32)! {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المؤمنون: 71)! الحسود إذن ساخط على قضاء الله وقدره، غير راض عن حكمته في قسمته، وهذا أول باب من الكفر والمعصية ظهر في السماء، وأول باب من الكفر والمعصية ظهر في الأرض، حسد إبليس آدم، فأبى أن يسجد له، ثم حسد ابن آدم أخاه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} (المائدة)! مثل الحاسدين أمام قافلة المقادير، كمثل الكلاب تنبح والقافلة تسير! من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وقدر الله نافذ على الحالين، لن يرد حسن الحاسدين منه شيئاً، ولن يحول مجراه قيد أنملة! الحسد إذن محاولة عابثة فاشلة، بل نقول: إنه حركة يائسة، ورمية طائشة،

تفضي إلى عكس مقصودها، ويرجع سهمها إلى نحو راميها، ذلك أنه لا يشفي غلة صاحبه، بل يزيد غلته، ويضاعف كمده وحسرته! انظر إلى الحسود وهو يشعل نار الحسد، يحسب أنه يحرق بها غيره، وهو بها يحترق، ثم استمع إلى حركات أنفاسه، وهو يتابعها، يظن أنه ينفس بها عن صدره، وهو في الحقيقة يختنق! ألا إن ذلك هو الانتحار البطيء! {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} (الحج)! كلا، لن يذهب ما يغيظ، ولكنه يذهب نفسه، ويضحي بحياته: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)} (آل عمران)! وترى الحاسدين في الناس رجلين، أحدهما أقل إجراماً، وأيسر علاجاً من صاحبه: رجل يريد أن يسلبك نعمة هو فاقدها، لتتحوّل هذه النعمة عنك إليه! ورجل يريد أن يسلبك هذه النعمة، ولو كان عنده مثلها أو أضعافها, ولم يتحوّل إليه أوفى نصيب منها! أما الفئة الأولى، فإن مطلبها الأعظم هو خير نفسها, ولكنها أخطأت السبيل، فالتمسته من طريق حرمان غيرها، حسنت مقصداً، وساءت وسيلةً! وأما الفئة الأخرى فقد جمعت بين الرذيلتين: إنها تطلب الشر للغير، ولو لم يصل إليها منه خير، إنها تبغي الشر للشر، قبحت مقصداً، وساءت سبيلاً! كيف نطهّر النفوس من هذا المرض بنوعيه؟!

هلم بنا إلى منهل القرآن الحكيم، نغترف منه مادة التطهير! ولنبدأ بالنفوس التي هي أقبل للدواء، وأدنى إلى الشفاء، تلك النفوس المتعطشة إلى رزقها, ولكنها في طلبها لهذا الرزق، كانت ضيّقة الأفق، قصيرة النظر، قليلة التبصّر والحذر، فأخذت تقتحم الأسوار الممنوعة، وترتع في الحمى المحرم، تزاحم أرباب الحمى بمناكبها، وتدوسهم بأقدامها، تريد أن تطردهم من دارهم، وأن تأخذ هي مكانهم! فلنسمع إلى صوت الهدى، وهو يناشدها ليردّها إلى الطريق السوي: أيتها النفوس الشرود!! لفتة يسيرة، ترى أنك تقحّمت المضيق، وتنكّبت الطريق، تاركة وراءك الآفاق الفساح، والرزق الهنيء المباح! أحسبت أن رزق الله قد ضاق حدوده، وانحصرت موارده في هذا الذي بأيدي الناس؟! كلا، إن أرض الله واسعة، فاسلكي سبلها ذللاً، وإن سماء الله أوسع، فأوسعيها رجاءً وأملاً! أيها الناس: لقد أبدلكم الله بهذا الطريق الضيّق الموحش، طريقين اثنين واسعين آمنين! دعوا إذن هذا التشهّي والتمنّي لما في أيدي الخلق! {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ...}! ولكن دونكم ميدان الكسب والعمل، ففيه متسع للسالكين!

طهارة القلوب المنحرفة

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن ...}! ثم دونكم قبلة الرجاء والأمل، ففيهما متسع للسائلين: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} (النساء)! طهارة القلوب المنحرفة: للناس قلوب .. وقلوب .. قلوب مؤتفكة منقلبة .. وقلوب منحرفة كثيراً .. وقلوب منحرفة يسيراً! قلوب مؤتفكة منقلبة: تطلب الشرّ للغير، ولو لم ينلها منه خير .. إنها تحبَّ الشرّ للشرّ! وقلوب منحرفة كثيراً: تبتغي لنفسها الخير، ولو من طريق حرمان الغير، فالغاية عندها تبرر كل وسيلة! وقلوب منحرفة يسيراً: تحبّ لنفسها الخير مع الغير، ولكنها تحطّ جل نظرها عند الخير الأدنى، ولا تتسامى به إلى الخير الأعلى! هاهنا إذن أزواج ثلاثة، في حاجة إلى الطبِّ والعلاج! ومن اتخذ القرآن الحكيم إماماً وهادياً، فسوف يجد فيه الطبيب الذي يشخص الداء، والصيدلاني الذي يحضر له الدواء، من كل ما يشكو أو يحاذر! فأما القلوب المؤتفكة المنقلبة، فتلك هي القلوب المظلمة القاتمة، المنطوية على بغض الخلق، وكراهية الخير لهم، تلك التي لا يعنيها نفع ذاتها، بقدر ما يعنيها ضرر غيرها .. راحتها وهناءتها في أن ترى نعمةً عنك مزالةً، أو محنةً إليك مجلوبةً، أو خيرًا عنك ممنوعاً، أو مصاباً بك نازلاً .. وغيظها وشجوها في

أن يصادفك حظ، أو يحالفك توفيق، أو ييسّر لك أمر، أو يرتفع لك ذكر، أو يساق إليك رزق، أو يجري على يديك نفع! إن مرض هذه القلوب ليس هو الحسد فحسب، ولكنه مرض مركب، وما الحسد إلا إحدى شعبتيه، حسد في السراء، وشماتة في الضراء، فأصحابه أبداً في همّ، مقيم ملازم، تسوؤهم مسرّتك، وتسرّهم مساءتك، إنهم كما وصفهم الله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (آل عمران: 120)! إن مرضهم ليس هو الحسد، ولكنه أصل الحسد ومنبته، إنه الغلّ والحقد والضغينة، والغلّ والحقد والضغينة أسماء مترادفة أو تكاد لتلك العداوة الكمينة، التي يمسكها صاحبها في صدره، ويتربّص بها الفرص المواتية، لتنفث سمومها، وترمى سِهامُها! هل من شأن المؤمن أن يحتفظ بهذا الضغن لأخيه المؤمن؟! أليس المؤمنون كما وصفهم الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)! {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54)! وهل من شأن الإنسان أن يحتفظ بهذا الضغن لأخيه الإنسان؟! كل بشر يحبّ ويكره، ويرضى ويغضب، ويوالي ويعادي، ولكن العاقل لا يوالي أحدًا جملةً، ولا يُعادي أحدًا جملةً، إنه يحبّ منه شيئاً ويكره شيئاً، يرضى منك عن خُلق ويسخط خُلقاً، يؤيّدك في رأي ويخالفك في رأي غيره، يحبّذ منك قولاً أو فعلاً، وينقم منك قولاً أو فعلاً آخر!

والعاقل يحبّ حبيبه هوناً ما، عسى أن يكون بغيضه يوماً ما، ويبغض بغيضه هوناً ما، عسى أن يكون حبيبه يوماً ما. فكما يجب علينا فيمن نحبّ ألّا نقلب عيوبهم محاسن، حتى نعدّهم خيراً خالصاً، كذلك يجب علينا فيمن لا نحبّ ألا نقلب محاسنهم عيوباً، حتى نتخذهم عدواً خالصًا: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8)! لو كان في العالم مخلوق هو شرّ كله لكي يُعادَى، كان ذلك إبليس وحده، على أن إبليس قد يصدق وهو كذوب (¬1)! فلو عادينا من أعماله شيئاً لعادينا صدقه لو صدق؛ لأنه ليس بصديق لنا! ألا وإن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنّى وجدها! ألا وإن العاقل حليف الحق، ينصر عليه، ويساعد صاحبه، أنّى كان! هكذا يجب أن نتبيّن مواقع حبّنا وبغضنا في شأن معاملة أعدائنا، فما الظن بأوليائنا؟! عجباً، كيف يحمل المؤمن لأخيه ضغناً وحقداً، ويبيت له السوء، ويصرّ عليه، ويتربّص به الدوائر، ويبتهج بوصول الشرّ إليه؟! فكأنه يأنس بخذلان أخيه، ووصول النقمة إليه، ولا يراعي الصالح، ولا يذكر أخوّة الإيمان, التي يشير إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)! بل لا يذكر الأخوّة الإنسانيّة، التي ذكرها الله في كتابه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف: 189)! ¬

_ (¬1) انظر: البخاري (2311، 3275، 5010).

طهارة القلوب من الشر والآنانية

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (النساء)! ألا من أحسّ في صدره بشيء من الضغينة لأخيه المسلم، بغير جناية، أو لخلّة يسيرة بدرت منه قهراً، ثم تاب عنها وأناب، فليبادر إلى معاملة نفسه بتوجيهات القرآن الكريم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن استعصى عليه الأمر، ولم تنجح فيه تلك المجاهدات النفسيّة، فليتوجّه إلى الله بقلبه ضارعاً وسائلاً إيّاه -جلّت قدرته- بأن يحول حاله إلى أحسن منها، فهو الذي علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان! {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر)! طهارة القلوب من الشرّ والآنانية: وإذا كنا قد عشنا في رحاب الآيتين الكريمتين: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر)! فإننا عرفنا الجانب المثالي، جانب العزيمة والتجرّد الخالص، وبقي الجانب العملي، جانب الرخصة والاستثناء! وعرفنا أن الحقد هو جريمة القلوب المنقلبة، والنفوس المتنمّرة، التي تنطوي على العداوة والبغضاء، تمسكها وتصرّ عليها، ملتمسة لعدوّها كل مكروه وبليّة، محاذرة أن تجده في خير ونعمة! وعرفنا أن الحسد إذا لم ينبت في أرض الحقد، فإنه ينبت في أرض الجشع

والطمع، وهو خطيئة القلوب المنحرفة، والنفوس الطفيلية النزعة، التي يسيل لعابها على الخير الذي في أيدي الناس، فتشتهيه وتتمناه لنفسها, ولو انتزاعاً من ملك غيرها! هما إذن جرثومتان اثنتان، يكمن فيهما أصل الداء، تلك العداوة التي توحي بمعنى الشر للأعداء، وتلك الأنانية التي تسرف في حب الخير للغير! فننظر الآن في مدى القدرة الإنسانيّة على التخلّص من الجرثومة الأولى، أعني نزعة الكراهية والبغضاء، هل في طاعة الفطرة البشريّة أن تتجرّد من هذه النزعة، تجرّداً كليًّا، في كل حال؟! هيهات .. دلني على واحد من البشر لا يكره ولا يعادي أقل لك: إنه إذن لا يحبّ ولا يوالي، وإنه إذن لا يحبّ الشرّ، بل حبّ الخير في طبعه .. فهو إذن يحبّ الحق والخير، وبالتالي يحبّ أهل الحق وأهل الخير ويواليهم، وهو إذن يكره الإثم والعدوان، ويكره أهل الإثم والعدوان ويعاديهم، ومتى كانت الكراهية والبغضاء تحدث على مبادئ وأسباب صحيحة، فإن من شأنها أن تستقرّ وتستمرّ، ما دامت أسبابها موجودةً، ومن شأنها كذلك أن تستتبع آثارها! فكيف إذن يطالبنا القرآن بأن نمحو من قلوبنا البغض لكل أحد، حتى للمجرمين؟! وكيف يحرم علينا إرادة الشر للشقيّ؟! وعدم الحبّ للأشرار والمعتدين؟! وإن أخص ما تمتاز به وصايا القرآن أنها -مع سموها ونبلها- لا تتطلّب المحال، ولا تتشبّث بالخيال!

إنها -مع مثاليّتها- عمليّة واقعيّة، لا تحمل النفوس على ضدّ طباعها, ولا تكلّف نفساً إلا وسعها! وما الوصيّة التي نحن بسبيلها إلا واحدة من تلك الوصايا الحكيمة الجامعة بين المثاليّة والواقعيّة! إنها لا تحظر البغض كله، ولا تحرّمه جملة؛ إنها تحظر عليك أن تبغض أخاك لمجرّد هواك، لغير ذنب جناه، ولكن حنقاً ونفاسة عليه، وإنها تحرّم عليك أن تكره الخير لأخيك، طالما أنه لم يستعن بهذا الخير على شيء يغضب ربّك أو يؤذيك! ولكنها لا تمنع أحداً من أن يبغض الإثم وأهله، وأن يمقت البغي وشقيقه الظلم! أما علمت أن من علامة الإيمان الحبّ في الله، والبغض في الله، والرضا في الله، والسخط في الله؟ قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المجادلة: 22)! نعم، إن دعوة القرآن الحكيم -في جوهرها- دعوة حبّ ووئام، ولكنها في الوقت نفسه دعوة عدل ونظام! إنها تغضب للحرمات المنهوكة، والدماء المسفوكة، وللحقوق والأمانات المضيّعة، وهي بذلك تطالبنا أن نردّ الحق إلى صاحبه، وعلينا أن نأخذ الجاني بذنبه: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 41)! على أننا لو تأمّلنا في نظرة الإسلام إلى عقوبة الباغي وجدناه لا يرى فيها

إرادة شرّ به، بل أراد سعياً في خيره، ونصرًا له على نفسه، هكذا سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري وغيره عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً". قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً، قال: "تأخذ فوق يديه". وفي رواية: فقال رجل: يا رسول الله! أنصره إِن كان مظلوماً، أفرأيت إِذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإِن ذلك نصره" (¬1)! بل إن المعجزة الرادعة التي تمحق طغيان البغي، لا يرى فيها القرآن خيراً للباغي فحسب، بل يرى فيها خير المجتمع كله، بل أساس حياته الصالحة، يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179)! ثم يرى في هذه العقوبة الرادعة ترضيةً محبوبةً للنفوس المؤمنة، الحريصة على صيانة الحق والعدل في الأرض، واستمع لأمر الله -سبحانه وتعالى-: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة)! هكذا، بعد أن وضع القرآن قانون المحبّة والرحمة، وجعله هو العزيمة الأولى، رخّص لنا عداوة من يستحقّ العداوة، وعقوبة من يستحقّ العقوبة! ¬

_ (¬1) البخاري: 46 - المظالم (2443، 2444)، وانظر (6952)، وأحمد: 3: 201، والترمذي (2255)، وعبد بن حميد (1401)، والبيهقي: 6: 94، 10: 90، وأبو نعيم: الحلية: 10: 405، وتاريخ أصبهان: 2: 14، والبغوي (3516، 3517)، والطبراني الصغير (576)، والقضاعي (646)، وابن حبان (5167، 5168).

الوصية الأولى

غير أنه لكي يفضي بنا إلى صدور الرخصة، ولا يدعنا نتجاوز قدر الضرورة، وصّانا بأربع وصايا: الوصيّة الأولى: التحقّق والتثّبت من وقائع الذنب، حتى لا نأخذ بالشبهة أو الظن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)} (النساء)! الوصيّة الثانية: ألا نأخذ جارًا بظلم جاره، ولا أحداً بذنب أخيه، قال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (النجم)! الوصيّة الثالثة: أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، قال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194)! الوصيّة الرابعة: وقف الجزاء متى توقّف الجاني عن جنايته، وذلك بالكفّ عن عقوبة المتهمين، قال تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} (البقرة)! 8 - سياسة الاستسرار: ورأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتسديد الله وتوفيقه (¬1)، وحكمة توجيه دعوته في سيرها، وتبليغ رسالته، أن لا يبادي قومه بعداوة، وأن لا يعلن إليهم دعوته في ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 6 وما بعدها بتصرف.

أول خطواتها، وهو وحيد منفرد في قومه، ليس معه من ينصره منهم، ولا من غيرهم، وهم جميعاً، ومن ورائهم سائر العرب، بل سائر الدنيا، إلْبٌ على هذه الأعمال الهادية الراشدة، التي تعيب وثنيّتهم، وتنعَى عليهم شركهم، وتسفّه أحلامهم، وتندّد بحياتهم الماديّة الظالمة التي يحيونها دون رادع يردعهم عن فجور ظلم يرتكبونه، أو عتوّ بغي يأتونه، حيث لا قانون ولا دين، ولا نظام ولا ضمير! ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماضٍ في دعوته، لا يصدّه عنها صادّ، ولا يردّه عن سبيلها رادّ، فاستجاب له -كما سبق- من استجاب! واتخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من (دار الأرقم) في أصل الصفا دار دعوته، ومعهد تلقّي رسالته، جعلها مجمع السابقين إلى الإيمان من أصحابه، وأقبل عليه أهل الصدق من شباب قريش، وغير قريش مؤمنين بدعوته، متّبعين له في دينه، مصدّقين برسالته، مهتدين بهديه، أعزّة في قومهم، كرماء على أنفسهم، وكثروا وتكاثروا، وهم في دار الأرقم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وشعَرت بهم، وبخطرهم عليها وعلى حياتها الجاهليّة قريش، ومادت الأرض تحت أقدامها، والتفَت رجال كل بيت في قريش إلى أنفسهم وأسرهم، أبنائهم وإخوتهم، فإذا هم يرون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد اجتذب منهم زهرات شبابهم، ومصدر قوّتهم، وعدّة مستقبلهم، فهم عنده ومعه مسلمون، مؤمنون، واعتنقوا عقيدته، عقيدة التوحيد، وهجروا آلهة آبائهم وأسلافهم، وسفّهوا أحلامهم، ووصموا بالدنيّة قومهم، وأصبحوا جند دعوة خاتم النبيّين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتائب رسالته، ودخلوا معه بشظف العيش، وشدّة الحياة وفقرها، بعد الترف والمتعة في بيوتهم بين أهليهم، وفارقوا المال والولد، والإخوة والآباء، والأمّهات

والزوجات، وتبدّلوا بهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، يسمعون للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون بقوله، لا يخالفون عن أمره، يلحظون موضع إشارته، ويرمقون نظراته، ويتأدّبون بأدبه .. يحبّونه أكثر مما يحبّون أنفسهم، لا يتردّدون في تحقيق رغبة من رغباته، ولو كان فيها حياة أحدهم، فكانوا منه ومعه، بما لم يكونوا به من أمّهاتهم وآبائهم، ومع أولادهم! وطارت عقول قريش شعاعاً من أدمغتها، إذْ تمثّلوا هذا في واقعهم، ودارت أفئدتهم في حنايا أضلعهم، وتنفّسوا الصُّعداء غمًّا وهمًّا وكمداً، وما يغني غمّ الدنيا وهمّها وكمدها شيئاً، فليركبوا رأس الشيطان فجوراً وعتواً، وليفتكوا بكل من يقدرون عليه من فلذات أكبادهم الذين تابعوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ولتذهب رحمة الأبوّة، وشفقة البنوّة، راغمةً تحت أقدام آلهتهم، لعلّها ترضى عنهم، كما سيأتي! وهنا نبصر سياسة الحكمة التي سلكها رسول الله في - صلى الله عليه وسلم - بتوفيق الله في استمراره بالدعوة، وهي مشرقة في أفق الحياة .. سياسة حكيمة محكمة، أثمرت ثمراتها في تجميع قوة من المؤمنين الراسخين في ايمانهم، الصادقين في يقينهم، الذين تولاَّهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوّل ما تولّى بالتربية والتوجيه، حتى فشا (الدّين القيّم) في مكّة، وتسامع به الناس في أنديتهم ومحافلهم، وبدأت قريش -وهي سيّدة مكّة- تحسّ بخطر هذه القوّة يدخل عليها في بيوتها، ويجتذب منها شبابها، ويأخذ بحلاقيمها، فشنّت على المؤمنين بالله ربًّا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، حرباً خسيسةً، لا مواجهة فيها، ووقف المؤمنون من هذه الحرب الفاجرة موقف الصبر والاحتمال، بل موقف الصفح والعفو!

واستمرّ هذا الطور السرّي للدعوة ثلاث سنين! ولا يفوتنا أن نذكر دار الأرقم بن أبي الأرقم التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يلتقي فيها سرًّا بالداخلين في (الدّين القيّم)، هي الدار المعروفة الآن بـ (دار الخيزران) عند الصفا، كما قال الشامي (¬1)! ولم يكن الأرقم معروفاً بإسلامه، وهو من بني مخزوم التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، ويستبعد أن يلتقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدار التي هي في قلب العدوّ، وقد كان الأرقم فتىً صغيراً عندما أسلم ومن ثم تنصرف الأذهان إلى منازل كبار الصحابة (¬2)! وهذه المنطقة تشتد فيها حركة الناس بصورة واضحة، مما يصعب معه إدراك وجود حركة خاصة بأناس يجتمعون في هذه الدار! وهذه الدار دعيت (دار الإسلام) تصدّق بها الأرقم على ولده، الذي قضى أنها محرّمة بمكانها من الحرم، لا تباع ولا تورث، ولم تزل هكذا حتى كان زمن أبي جعفر (¬3)! وفي سياسة الاستسرار -كما أسلفنا- مشروعيّة الأخذ بالحيطة، والأسباب الظاهرة، وما يقرره العقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل ¬

_ (¬1) انظر: سبل الهدى والرشاد: 2: 320، وقال اللواء إبراهيم باشا: هذه الدار في زقاق، على يسار الصاعد إلى الصفا، وبابها يفتح إلى الشرق، ويدخل منه إلى فسحة سماويّة طولها نحو ثمانية أمتار في عرض أربعة: مرآة الحرمين: 1: 199 ط. أولى! (¬2) انظر: الرحيق المختوم: 49، وابن سعد: 3: 244، وابن هشام: 1: 424، والأصبهاني: المعرفة: 2: 378، والسيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 195. (¬3) انظر كتابنا: أحاديث الوقف الإسلامي: 289 وما بعدها.

9 - قوة الإيمان

الوصول إلى تبليغ دعوة الله تعالى .. على ألا يتغلّب ذلك على الاعتماد والتوكّل على الله (¬1)! وسنرى في أحداث السيرة ما يفيدنا في هذا المقام! 9 - قوّة الإيمان: وبلغت قوّة الإيمان ببعض هؤلاء السابقين -رضي الله عنهم- أن استولت عليهم حماسة الإيمان، فأبى إلا أن يعلن إسلامه، على ملأ الشرك ومجتمع الكفر، دون أن يحسب أيّ حساب لما يناله من الأذى في سبيل إيمانه! ويطيب لنا أن نذكر ما رواه الشيخان عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لمَّا بلغَ أبا ذرٍّ مبعثُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركبْ إِلى هذا الوادي، فاعلَمْ لي علْم هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبيٌّ، يأتيه الخبر من السماء، واسمعْ مِن قوله، ثم ائْتِني! فانْطلقَ الأخُ، حتى قدمِه، وسمِع من قوله! ثم رجَع إِلى أبي ذرٍّ، فقال له: رأيته يأْمُر بمكارِم الأخْلاق، وبكلامٍ ما هو بالشّعر! فقال: ما شَفَيْتنَي ممَّا أردت، فتَزَوَّدَ وحَمَل شَنَّةً له فيها ماءٌ، حتى قدمِ مكّة، فأتَى المسجد، فالتَمسَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرفه، وكرِه أن يسْأل عنه، حتَّى أدركه بعضُ الليل، فرآه عليٌّ فعرف أنه غريبٌ، فلمَّا رآه تبعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثم احتمل قِرْبَتَه وزاده إِلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم، ولا يراه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، حتى أمسى، فعادَ ¬

_ (¬1) انظر: قواعد الأحكام في مصلحة الأنام: 1: 111 - 112، وفقه السيرة: البوطي: 77، وضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية: 261، والسيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 161، والمنهج الحركي للسيرة النبويّة: 9.

إِلى مضْجعه، فمرَّ به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء! حتى إِذا كان يوم الثالث، فعاد عليٌّ على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألاَ تُحدِّثُني؟ ما الذي أقدمك؟ قال: إِن أعطيْتَني عهداً وميثاقاً لتُرشِدَنَّني فعلت، ففعل، فأخبره قال: فإِنه حقٌّ، وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإِذا أصبحتَ فاتَّبعني، فإِنّي إِن رأيت شيئاً أخاف عليكَ، قُمتُ كأنّي أُريق الماء، فإِن مضيتُ فاتبَّعني حتى تدخلُ مَدْخلي! ففعل، فانطلق يقْفوه، حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل معه، فسمع من قوله، وأسْلم مكانه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ إِلى قومك، فأخْبرهُم، حتى يأتيك أمْري" قال: والذي نفسي بيده! لأصرُخَنَّ بها بين ظَهْرانَيْهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صَوْته: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأن محمداً رسول الله! ثم قام القوم، فضربوه، حتى أوجعوه! وأتى العباس، فأكبّ عليه، قال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غِفَار، وأن طريق تجارتكم إِلى الشام؟ فأنقذه منهم! ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه، وثاروا عليه، فأكبّ العباس عليه (¬1)! لقد أسلم أبو ذرّ رضي الله عنه في وقت كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله سراً .. ولكنه يتمثل في الرسول الذي آمن به، وفي الدعوة التي عرف تباشيرها ونطق بها لسانه، يتحدّى كبرياء قريش، وينادي بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله! ويكرر ذلك النداء .. ويحدّث قومه عن الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! ¬

_ (¬1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3861)، وانظر: 61 - المناقب (3522)، ومسلم (2474).

ونجد أنفسنا أمام قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، أصدق من أبي ذرّ" (¬1)! إنه الصدق الجسور .. صدق الباطن، وصدق الظاهر .. صدق العقيدة، وصدق اللهجة! والصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه، وسير حثيث معه! حقًّا، لم يشهد التاريخ بطوله وعرضه .. من الصدق وتحرّي الحقيقة ما شهده في إيمان أولئك السابقين الذين سجّل تاريخهم هذا الصدق الذي يسمو ويتألق! لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسمو، ونذروا لها حياتهم، على نسق تناهى في الجسارة والتضحية والعطاء .. كما شهد في أولئك الرجال! لقد جاءوا الحياة في أوانهم المرتقب، ويومهم الموعود .. حين كانت تهيب الحياة بمن يجدّد لقيمها الروحية شبابها وصوابها .. وحين كانت تهيب بمن يضع عن البشريّة الرازحة أغلالها، ويحرّر وجودها ومصيرها! وننتقل سراعاً إلى صورة أخرى مباركة طيّبة .. ونحن نذكر ما يرويه ابن إسحاق بسند مرسل عن عروة قال: كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: والله! ما سمعتْ قريشٌ من هذا القرآن يُجْهَر لنا به قط، فَمَنْ ¬

_ (¬1) الترمذي (3801)، وابن سعد: 4: 228، وابن أبي شيبة: 12: 124، وأحمد: 2: 163، 175، 223، وابن ماجه (156)، والدولابي: الكنى: 1: 146، والحاكم: 3: 342.

رجلٌ يُسْمِعَهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، قالوا: إِنا نخشاهم عليك، إِنما نريد رجلاً له عشيرةٌ يمنعونه من القوم إِن أرادوه! قال: دعوني فإِن الله سيمنَعُني! قال: فغدا ابن مسعود، حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم"! رافعاً بها صوته: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} (الرحمن)! قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأمّلوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمِّ عبد؟ قال: ثم قالوا: إِنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إِليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ! ثم انصرف إِلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غداً، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون (¬1)! ويطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ عليّ: قلت: أأقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: لا فإِنّي أحبّ أن أسمعه من غيري "! فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} (النساء)! قال: " أمسك "! فإِذا عيناه تذرفان! (¬2)! ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 388، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع. وسنده مرسل عن عروة، وانظر: الطبري: التاريخ: 2: 334 - 335. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4582)، وانظر (5049، 5050، 5055، 5056)، ومسلم (800)، وابن أبي شيبة: 10: 563، وأحمد: 1: 380، 433، وأبو داود (3668)، والترمذي (3028)، والشمائل (316)، والبغوي (1220)، والطبراني (8462، 8463، 8467)، وابن حبان (735).

إننا نبصر قوة الإيمان في حياة هؤلاء السابقين، أهل القرآن، الذين استطاعوا في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد! ونبصر كيف دمدم هؤلاء على العالم القديم بإمبراطورياته وصولجانه، وحوّلوه إلى كثيب مهيل؟ ولو لم يكن من آثار الاستسرار بالدعوة، وسداد حكمتها إلا أنها جذبت في أوّل خطواتها إلى ساحة الإيمان بالرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء السابقين لكفاها نُجحاً وتوفيقاً وسدادًا! وقد جذبت إلى ساحتها في السنة الثانية من البعثة -كما قال ابن حجر (¬1) حمزة بن عبد المطلب، وهو أعزّ فتى في قريش، وأشد شكيمة، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من الرضاع، وابن خالته نسباً ومنزلة، فأمه هالة بنت وهيب ابن عبد مناف بن زهرة، ابن عم آمنة بنت وهب بن عبد مناف، أم سيّد الخلق، محمد - صلى الله عليه وسلم -!! وقد ذكر ابن إسحاق وغيره قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، وذكر أن الداعي الأول هو الحميّة القوميّة الغاضبة لدفع الإساءة التي وجّهت ظلماً لابن أخيه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، من أحد أحلاس الغرور الوثنيّ الفاجر، ولكن الله تعالى في تقديره الأزلي، وغيبة المحجوب عن رؤى الناس جعل من هذه الحميّة العصبيّة الخير كله لحمزة رضي الله عنه للإسلام والمسلمين، فأسلم حمزة لما أراده الله به من المنزلة التي هو أهل لها في الإسلام (¬2)! ¬

_ (¬1) انظر: الإصابة: 2: 37 (1822). (¬2) انظر: ابن هشام: السيرة النبويّة: 1: 360 وما بعدها، وقد صرح بالسماع، وسنده منقطع، وابن سعد: 3: 9 من طريق الواقدي، والطبراني عن محمَّد بن كعب القرظي =

وحين أسلم قال: حمَدْت الله حين هدى فؤادي ... إِلى الإِسلام والدّين الحنيف لِدِينٍ جاء من ربٍّ عزيزٍ ... خبيرٍ بالعباد بهم لطيفِ إِذا تُليتْ رسائله علينا ... تَحدَّرَ دَمْعُ ذي اللبِّ الحصيف رسائل جاء أحمدُ من هُداها ... بآياتٍ مبيَّنَةِ الحُروف وأحمد مصطفى فينا مُطَاعٌ ... فلا تغْشُوهُ بالقول الضعيف فلا والله نُسْلمه لقومٍ ... ولمَّا نَقْض فيهم بالسيوفِ ونترك منهمُ قَتلى بقاعٍ ... عليها الطير كالوِرْدِ العُكوفِ ¬

_ = مرسلاً، ورجاله رجال الصحيح، ورواه عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة مرسلاً، ورجاله ثقات، انظر: "المجمع: 9: 267، والحاكم: 3: 192 - 193، والبيهقي: "الدلائل": 2: 213 - 214.

وقد خُبّرت ما صنعتْ ثقيفُ ... به فجزى القبائل من ثقيفِ إِلِهُ الناس شرّ جزاء قَوْمٍ ... ولا أسْقاهُمُ صَوْبَ الخريف (¬1) ومضى حمزة رضي الله عنه في طريق الإيمان (¬2)، والذود عن الدعوة، حتى بلغ مقاماً رفيعاً، وكان إسلامه عزاً للمسلمين، ومنعةً وقوّة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أخذت به قريش، فأصابها المقيم المقعد، وشرقت بإسلامه، فكان شجاً في حلاقيمها، وأذلّ كبرياءها، وظهرت به الدعوة بعد استخفائها، وأعلنت بصوته كلمة الحق بعد استتارها، وجهر بالتكبير لله تعالى على سمع طغاة الشرك، فأراهم حقارة عقولهم في حقارة معبوداتهم، وأراهم عزّة الحق وانتصاره! وسيأتي مزيد بيان مكانته رضي الله عنه! ¬

_ (¬1) الروض الأنف: 2: 49 - 50، وسبل الهدى والرشاد: 2: 333. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 609 بتصرف.

مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة

الجامع الصحيح للسيرة النبوية [4] «مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة» تأليف الدكتور سعد المرصفي

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م مكتبة ابْن كثير ص. ب: 1106 حَولي 32012 الكويت تليفون: 22631298 - فاكس: 22657046

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (الأعراف)! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب)!

(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! الزهري (كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)! زين العابدين علي بن الحسين (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا, ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)! إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

مقدمة

مقدمة صدع خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - بدعوته إلى توحيد الله تعالى، وخلع الأنداد، وترك عبادة الأصنام، وشقَّق بقوّة عقيدته وتوحيد ربّه إهاب وثنيّتهم، ولطم بتبليغ رسالته وجه شركهم، فتهاوت حجج أصحاب اللجاج الداحضة، وتساقطت وتساقط أصحابها، وظهرت سوآت الشرك وانكشف عوارها، وبدأ جهاد الدعوة يشعُّ ضوؤه في البشريّة، ويطمس آثار الجاهليّة الحمقاء في أوكار النفوس الضالّة! وحتى يكون الدين كلّه لله، ويحقّ الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون! والله أسأل: التوفيق والسداد! والعون والرشاد! إنه سميع مجيب! الكويت في: 27 رمضان 1428 هـ 27 سبتمبر 2008 م راجي عفو ربه سعد محمد محمد الشيخ (المرصفي) أستاذ الحديث وعلومه كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة الكويت. سابقاً * * *

رسالة ورسول

رسالة ورسول

رسالة ورسول 1 - إنذار الأقربين 2 - الجهر العام 3 - بين زعماء قريش وأبي طالب 4 - السخرية والاستهزاء 5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به 6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم - السؤال عن الروح - أهل الكهف - ذو القرنين 7 - دستور الحكم الصالح 8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم 9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} 10 - بين الصهيونيَّة والصليبيَّة 11 - معركة عقيدة 12 - إسلام عمر الفاروق 13 - عزيمة النبوّة 14 - الاضطهاد والتعذيب 15 - المساومة والإغراء 16 - عقليّة بليدة 17 - السمو الروحي 18 - رسالة ورسول 19 - طمأنينة قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - 20 - في رحاب سورة (فصلت) 21 - عناد المشركين 22 - المعجزة الكبرى 23 - نهاية المفاوضات 24 - الصبر الجميل 25 - تبليغ الرسالة 26 - موقف الوليد ابن المغيرة 27 - نموذج للشر الخبيث 28 - دعاية للرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - 29 - نماذج الخبث البشري 30 - أسلوب الآيات 31 - معالم الفجور 32 - خصائص هذا النموذج 33 - رأي آخر 34 - في رحاب سورة (القلم) 35 - معالم خصائص نموذج الفجور -المعلم الأول - المعلم الثاني - المعلم الثالث - المعلم الرابع - المعلم الخامس -مجمع الخبائث - المعلم السادس 36 - إشهار نموذج الشر 37 - منح في ثنايا المحن 38 - إذاعة الإرجاف 39 - توجيه إلهي 40 - إسلام الطفيل الدوسي 41 - نور الهداية 42 - مضاء العزيمة 43 - حوار عقول 44 - آيات من العبر 45 - قوّة الإيمان 46 - المستقبل للإسلام 47 - درس للدعاة

1 - إنذار الأقربين

رسالة ورسول 1 - إنذار الأقربين: سبق أن عرفنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد الصفا وهتف داعياً إلى الله تعالى، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بما جاء به هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبيّة القرابة التي يقوم عليها المجتمع العربي ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله -عزّ وجل! وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- كبير المنزلة في بلده، مرموقاً بالثقة والمحبّة (¬1)، وها هو ذا يواجه مكّة بما تكره، ويتعرّض لخصام السفهاء، والكبراء .. وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم عشيرته الأقربون! بيد أن هذه الآلام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، وأمره بتبليغه .. ولا عليه أن تموج مكّة بالغرابة والاستنكار، وتستعدّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتةً، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها! وبدأت قريش تسير في طريقها .. طريق اللدد، ومجانبة الصواب .. ومضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طريقه، يدعو إلى الله تعالى، ويتلطّف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنيَّة، ويسمع ويجيب، ويبيّن ويدافع! غير أن حرصه - صلى الله عليه وسلم - على هداية الأقربين جعله يجدّد مسعاه، محاولاً عرض الإسلام عليهم مرّة من بعد مرّة، فإن منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج! ¬

_ (¬1) فقه السيرة: الغزالي: 97 وما بعدها بتصرف.

وهم قبل ذلك أهله الذين يودّلهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله! وكانت هذه الصيحة غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه على دعوته! وكان هذا الطريق الحكيم المحكم هو الاتجاه بالدعوة في علانيتها والجهر بها إلى عشيرة النبي الأقربين! وهنا يطالعنا مرّة من بعد مرّة قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)} (الشعراء)! ونبصر التوجيه بالدعوة إلى الأقربين، وإنذارهم بطش الله وتخويفهم بأسه ونقمته إذا لم يستجيبوا إلى هدى الله والإيمان به (¬1)، وإخلاص العبوديّة له تعالى، بخلع الأنداد والشركاء، والتطهّر من أدران الوثنيّة! وفي هذا حسم لأطماع الأبعدين؛ لأن الناس بمقتضى طبائعهم البشريّة إذا رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدأ أوّل ما يبدأ معلناً دعوته بإنذار أقرب الناس إليه، وتخويفهم، والتبرّي من أعمالهم، إذا لم يستجيبوا إلى داعي الإيمان والهداية، كان ذلك أدعى لغيرهم من الأبعدين ألا يطمع أحد في مهادنته، فضلاً عن المداهنة! وهذا بلا شك أقوى وأوكد للدعوة في بيان إصرارها وعمومها، وأبلغ في النفوس أثراً؛ لأن الإنذار والتخويف قد يدفع الإشفاق، وقد يدفع إليهما ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 159 وما بعدها بتصرف.

الإشفاق، وقد يدفع إليهما الحرص على تنبيه المشاعر والإحساسات الوجدانيّة في مداخل النفس الإنسانيّة، لتوكيد أواصر القربى .. وقد يدفع إليهما تحريك الحميّة القوميّة، وروابط القربى العصبيّة، نفوراً من قبيل الضيم في الصبر على أذى القريب، ولا سيما في البيئات العربيّة التي تتعزّز بنصرة القربى! وسبق أن ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه! ومعلوم ما وقع في جميع مواقف أبي طالب، وحَدَ به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحمايته له، أن تمتدّ إليه يدٌ بأذى، وقد جعل نحوه دون نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فداءً لابن أخيه، بدائع العصبيّة القوميّة، والحميّة القبليّة .. وظل على ذلك إلى آخر لحظة من حياته، وهو على دين قومه، وكانت قريش كلها تهاب أبا طالب وتحترمه، وتحسب لوجوده إلى جانب ابن أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم - حساباً منعها أن تقتحم حمايته ومنعته! ومن أظهر شواهد ذلك موقف سائر المنافقين عامة وخاصة من بني هاشم والمطلّب إلا ما كان من أبي لهب وكان كثرتهم على جاهليّتهم في عقيدة الشرك والوثنيّة التي جاءت رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لهدمها وتقويض بنيانها! ذلك الموقف الذي تجلّى في حادث الحصار والمقاطعة -كما سيأتي- ودخول الشعب، وكتابة صحيفة المقاطعة! وهنا نبصر الردّ القاطع على من يحاولون تصوير هذا (الدّين القيّم) بأنه ثمرة من ثمار القوميّة العربيّة، ويدعون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يمثل بدعوته التي دعا إليها آمال العرب ومطامحهم في ذلك الحين (¬1)! ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 164 وما بعدها بتصرف.

ونبصر في تباطؤ الناس عن الدخول في الإسلام دليلاً على مدى قوّة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش ردحاً من الزمان في الجاهليّة وفساد الفطرة .. وهو وضع يواجهه الدعاة في كثير من المجتمعات قديماً وحديثاً .. حتى المجتمعات الإسلامية، عندما يخبو فيها صوت الدعوة المهتدية بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تجد أثراً كبيراً للعادات والتقاليد في تسيير حركة المجتمع في المجالات المختلفة .. وتجد استنكاراً ممن وقعوا في أسر هذه العادات والتقاليد، لصوت الحق المهتدي بسنّة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح، في فهم الإسلام! ونبصر في خصوصيّة الأمر بإنذار العشيرة، إشارة إلى درجات المسؤوليّة التي تتعلّق بكل مسلم عموماً، والدعاة منهم خصوصاً، فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتحمّل المسؤوليّة تجاه نفسه، لكونه مكلّفاً .. ويتحمّلها تجاه أسرته وأهله، لكونه مسؤولاً عن أسرته وذا آصرة قربى .. ثم يتحمّل المسؤولية تجاه الناس كلهم بكونه نبياً ورسولاً من الله -عزّ وجلّ! ويشترك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسؤوليّة الأولى كل مكلّف .. وفي الثانية كل صاحب أسرة، أو كل فرد له عشيرة، وفي الثالثة العلماء والحكام (¬1)! ونعود إلى الآيات التي معنا: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)}! نعود لنبصر وراء إنذار الأقربن برًّا بهم (¬2)، وتحريكاً لدوافع حميّة القربى فيهم! ¬

_ (¬1) انظر: البوطي: فقه السيرة: 8182. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 162 وما بعدها بتصرف.

نعود لنبصر الأمر بإلانة الجانب لعموم المؤمنين، سواء منهم من قرب في نسبه وعصبيّته أو بعد! نعود لنبصر مكانة الخلْق من ربّهم، فهم جميعاً عباده، وليس بين الله وبين أحد من خلْق نسب ولا قرابة وحسب .. وإنما هو الإيمان والعمل! وفي هذه الدائرة يختلف الناس اختلافاً واسعاً عريضاً في درجاتهم ومراتبهم من رضاء الله وإسعاده! نعود لنبصر تلطّفاً بالذين يستجيبون إلى دعوة الإيمان، ويتبعون محمداً - صلى الله عليه وسلم - تقويةً لأواصر القرب الروحي، وأخوّة الإيمان، وأنها هي الأخوة التي اعتبرها الحق -تبارك وتعالى- صلة -كما سيأتي- بين سائر المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات)! لأن ذلك يربط قلوبهم بالدعوة، ويملؤها بمحبّة الداعي، ويعدّ نفوسهم للدفاع عن تبليغ الدعوة، وافتداء الداعي والدعوة بكل ما يملكون من قوّة وعمل! نعود لنبصر إعلان البراءة من عصيان من عصى، ولو كان أقرب القربى، فمن ساء عمله فلن يضرّ إلا نفسه، وأن قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحميه من سخط الله وعذابه! وفي قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)}! لطيفة بيانيّة من لطائف الأسلوب القرآني، فقد عُلِّقت البراءة في الآية بعمل من عصى، ولم تُعَلَّق بشخصه وذاته .. لأن ارتباط البراءة بالعمل دون

ذوات العصاة وأشخاصهم لا يقطع أواصر القربى والبرّ في الدنيا، والعود إليها بالإحسان إذا عادت إلى الإيمان والطاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان هو الموجب للموالاة! وفي ذلك تقرير لمبدأ اجتماعي عظيم، تقوم عليه دعائم الحياة الاجتماعيّة في الإسلام؛ لأن ربط الموالاة والنفرة بالعمل دون الأشخاص والذوات يفتح باب الأمل أمام الشاردين من دعوة الإيمان والطاعة لله ورسوله! فالإنكار في الآية، والأمر بالبراءة، إنما توجّه إلى العمل السيئ، لا إلى العامل المسيء، وإن كان عمله السيئ مرتبطاً به، ما دام مقيماً عليه، لكن هذا الارتباط بين العامل وعمله ليس ارتباط تلازم؛ ولكنه ارتباط بأمر عارض يمكن الانفكاك عنه وتركه! فإذا ترك العمل الموجب للنفرة، وحل محله عمل يوجب الموالاة، عادت الموالاة وعاد معها ما توجبه من التلطّف، وخفض الجناح، وإلانة الجانب، وصفاء المودّة! وفي قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}! إشعار بما في هذا الجهر والإنذار من مشقة التبليغ، وأثقال المواجهة، وإيذان بما سيلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذى وصدّ عن سبيل دعوته ومقاومة له - صلى الله عليه وسلم -، ومناهضة لرسالته، من هؤلاء المنذَرين على قرابتهم، وتشابك أنسابهم بنسبه، وامتزاج عصبيّتهم بحسبه .. حتى لا يعتمد في تحمّل أثقال دعوته إلى الله، وفي صبره على ما يلقى من المعاندين الشاردين عن حظيرة الإيمان والهداية، ولو كانوا أقرب القربى، على غير الله القويّ القهّار، العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يقطع إمداده عنه، وعن جميع حملة رسالاته،

ووارثي عبء تبليغها، من الدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها! وهذا درس إلهيّ من أبلغ وأعمق دروس تربية الداعي إلى الله تعالى في تجرده تجرداً كاملاً، من خطرات الاعتماد على قرابة أو عصبيّة .. لأن روابط القرابة وحميّة العصبيّة، قد يعرض لها من ظواهر البيئة، واهتزازات المجتمع ما يفكها، ويزيل وصائلها .. ولأن حميّة العصبيّة قد يعرض لها من أسباب تنازعها ما يطفئ شعلتها، ويُظلم قبسها، ويذيب وشائج تماسكها، ويحيلها أداة إزعاج، وذلك كما وقع من أبي لهب، عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان دون سائر بني عبد المطلب أعدى أعداء الدعوة الإسلاميّة، وأشدّ أعدائها أذى للرسول - صلى الله عليه وسلم -! وقد نشر هذا المتبوب لواء العداوة للرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ اللحظة التي اصطفاه الله تعالى نبيًّا ورسولاً! وتجلّى ذلك -كما أسلفنا- في أول موقف وقفه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتنفيذ أمر الله تعالى له بالجهر بالدعوة، وكان المتبوب أبو لهب شرّ خلق الله موقفاً من الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - .. كان يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يمشي إلى منازل الناس ومحافلهم في المواسم، يدعوهم إلى الله تعالى، تبليغاً لرسالته، ليصدّهم عن الاستماع إليه، ولو لم يكن لهذا الخبيث المتبوب من مواقف الخزي والعار، سوى موقفه الذي يدل على فقدانه الشعور بالنخوة الهاشميّة، والحميّة العصبيّة، والغيرة النسبيّة، والعزّة البيتيّة، بانحيازه إلى بطون قريش، تركه إخوته، وبني عمومته، يحصرون في شعب أبي طالب، حصاراً اقتصادياً قاتلاً، لكان حسبه هواناً وذلّةً في دنيا الأعزّة الأكرمين!

2 - الجهر العام

2 - الجهر العام: ويطالعنا الجهر العام بالدعوة لكل من يستطيع صوت الداعي أن يصل إليه من الناس! يطالعنا قوله جل شأنه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المْشْرِكينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} (الحجر)! وابتدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائر قومه، وساكني مكّة، ومن يردها في الأسواق والمواسم بدعوته إلى توحيد الله تعالى .. وخلع الأنداد، وترك عبادة الأصنام .. وصدعَ بحقّه باطلهم، وشقّق بقوّة عقيدته وتوحيد ربّه إهاب وثنيّتهم، ولطم بتبليغ رسالته وجه شركهم، فسمعوا منه، وتحدّثوا عنه، ولم يبعدوا عنه في أوّل ما أعلنهم بدعوته، ودعاهم إلى رسالته، ولم يردّوا عليه أمره، ولم يعالنوه بشديد العداوة، حتى نزل الوحي الذي بيّن ضلالهم، وسخر من عقولهم، وحطّ من شأن الذين اتخذوا الأوثان آلهة، وتلا عليهم في ذلك من بيان القرآن ما لم يكن لهم به عهد! ولم يكن لهم معه من صبر، فأعظموا ذلك وأنكروه أشدّ الإنكار، وحاولوا معه - صلى الله عليه وسلم - أن يكفّ عن ذلك .. ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مضى يقرع آذانهم، ويدقّ على أبواب قلوبهم، بقوارع آيات الله تعالى ونذره وزواجره، من السور المكيّة من القرآن العظيم، وفيها من التجبيه والسخرية، وقواطع البراهين على باطل عقائدهم، ما أثارهم على الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتذامروا عليه، وانتهضوا لمقاومته، والوقوف أمام دعوته! ولكنهم كانوا يرون حدَب أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودفاعه عنه،

3 - بين زعماء قريش وأبي طالب

وحمايته له، وهم يعلمون مكانة أبي طالب فيهم، ويعلمون أن بني هاشم وإخوتهم بني المطلب لا يخالفون عن أمره، ولا يخذلونه في مواقف الجد، ونوازل الأحداث، وأنهم مناصروه على من ناوأه، أو حاول النّيل منه، وهم أشدّ شكيمةً في قومهم على من نابذهم العداوة واللدد! 3 - بين زعماء قريش وأبي طالب: ومن ثم عمدت بطون زعماء قريش إلى أبي طالب، يلقونه شاكين إليه ابن أخيه، ومشى إليه منهم وهي من رؤوسهم وزعمائهم (¬1) .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو بقوة لا تقهر، وعزيمة لا تفل! ومن ثم زاد ملأ قريش سوءاً على سوئهم، وشرى الأمر بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبينهم، واشتدّ التأزم، ولحق الحنق قلوبهم، وتباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها، وشنفوا له، وحضّ بعضهم بعضاً عليه، ورأوا أن عمه أبا طالب لم يعتبهم في شأنه، وازداد حدبه عليه، وحرصه على منعه وحمايته! وهنا مشوا إليه مرة ثانية، يذكّرونه بأمرهم معه، وما قالوه له في شكايتهم أول مرّة، ويضيفون إلى ذلك لوناً من التهديد والوعيد (¬2)! وروى ابن إسحاق من حديث عقيل بن أبي طالب، أن أبا طالب أرسل عقيلاً إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا حضر قال له عمه: إِن بني عمّك هؤلاء قد ¬

_ (¬1) انظر: ابن هشام: 1: 328 من رواية ابن إسحاق بدون إسناد، وابن إسحاق 145 وسنده معلق. (¬2) انظر: المرجع السابق: 329.

زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم! فحلّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إِلى السماء، فقال: " أترون هذه الشمس؟ " قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم، على أن تشتعلوا منها شعلةً" فقال أبو طالب: والله! ما كذبنا ابن أخي، فارجعوا (¬1)! وذكر ابن إسحاق أن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإسلامه، وإجماعَه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشَوْا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له، فيما بلغني (¬2): يا أبا طالب: هذا عُمارة بن الوليد، أنْهَدُ فتىً فتىً قريش وأجمله، فخذه ذلك عَقْله، ونَصْره، واتّخذه ولداً فهو لك، وأسْلِمْ إِلينا ابن أخيك، هذا الذي قد خالف دينَك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم، فَنَقْتله، فإِنما هو رجل برجل، فقال: والله! لبئس ما تسومونني! أُتعطُوني ابنكم أغذوه لكم، وأُعْطيكم ابني تقتلونه! هذا والله! ما لا يكون ¬

_ (¬1) ابن إسحاق: 155 بإسناد حسن، وقال الهيثمي: "المجمع: 6: 15 رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجاله رجال الصحيح، وانظر: فقه السيرة: الغزالي: 114 - 115، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: 167. أما ما رواه ابن إسحاق بسند منقطع: 154، وابن هشام: 1: 329 - 330، وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": "يا عم، والله! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. قال: ثم استعْبَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبكى، ثم قام، فلمَّا ولّى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله! لا أُسلمك شيء أبداً"! والطبري: 2: 326، والكلاعي: الاكتفاء في مغازي المصطفى: 187 من طريق ابن إسحاق. ومع ذلك فالحديث مشهور، ونقله كثيرون! (¬2) ابن هشام: 1: 330 بدون إسناد.

أبدًا! قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله! يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلّص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً! فقال أبو طالب للمطعم: والله! ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعْت خذلاني ومُظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال: فحقَب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضُهم بعضاً! فقال أبو طالب عند ذلك يعرّض بالمطعم بن عدي، ويَعُمُّ مَن خذله مَن بني عبد مناف، ومَن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه، وما تباعد مِن أمرهم: ألا قُل لعمرو والوليد ومُطعم ... ألا ليت حظِّي من حياطتكم بَكْرُ (¬1) مَن الخُور حبْحاب (¬2) كثيرٌ رخاؤُه ... يُرَشُّ على الساقين من بوله قطْر تخلّف خلْف الورد ليس بِلاحق ... إِذا ملا علا الفيفاء قيل له وبْر (¬3) أرى أخوَيْنا من أبينا وأُمّنا ... إِذا سُئلا قالا إِلى غيرنا الأمر ¬

_ (¬1) الحفاظ والحفيظة: الغضب، وقال بعضهم: لا يكون الحفاظ إلا في الغضب خاصة، والقول الأول أصح، ويروى من حياطتكم وهي معلومة، والبكر: الفتى من الإبل. (¬2) الخور جمع أخور، وهو الضعيف، وحبحاب يروى بالخاء المعجمة، وبالحاء وبالجيم، قال ابن سراج: بالجيم الكثير الكلام، فاستعاره هنا للرغاء، وبالحاء القصير، وبالخاء الضعيف. (¬3) الفيفاء: القفر، ووبر: دويبة على قدر الهرة.

بَلى لهما أمر ولكن تَجَر جَما (¬1) ... كما جُرْجِمت من رأس ذي علق (¬2) الصخر أخُصُّ خُصوصاً عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما يُنبذ الجمر هما أغْمَزَا لِلْقوم (¬3) في أخوَيْهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر (¬4) هما أشركا في المجد من لا أبا له ... من الناس إِلا أن يُرَسّ له ذكر (¬5) وتيْم ومخزوم وزهرة منهمُ ... وكانوا لنا مولى إِذا بُغي النصر فوالله! لا تنفكّ منا عداوة ... ولا منهم ما كان من نسلنا شَفْر (¬6) فقد سُفهت أحلامُهم وعقولهم ... وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر ¬

_ (¬1) تجرجما: أي سقطا وانحدرا، يقال: تجرجم الشيء إذا سقط. (¬2) ذو علق: جبل في ديار بني أسد. (¬3) أغمزا للقوم: أي سببا لهم الطعن فيهم، يقال: غمزت الرجل إذا طعنت فيه. (¬4) الصفر: الخالي من الآنية وغيرها. (¬5) يرسّ له ذكر: معناه أن يذكر ذكراً خفيًّا، يقال: رسست الحديث، إذا حدّثت به في خفاء. (¬6) من نسلنا شفر: أي أحد، يقال: ما بالدار أحد، وما بها شفر، أي ما بها أحد.

أهذا منتهى تقدير الرجوليّة في نظركم يا هؤلاء (¬1)؟! تبًّا لهذه الحياة إن كان مثلها الأعلى في شبابها ورجوليّتها وفتوّة فتيانها جسامة بضّة، وجمال مظهر مائع، وميعة شباب تافه، وتمايل أعطاف مرذول! لقد مشى ملأ الوثنّية الماديّة إلى أبي طالب منتفخة أوداجهم، يقودون فتاهم بشحمه، وبضاضة جسمه، وهم يقولون له: قد جئناك بفتى قريش، جمالاً ونسباً ونهادة، ندفعه إليك، فيكون لك نصره وميراثه، فخذه وادفع إلينا ابن أخيك نقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة، وأفضل في عواقب الأمور مغبة، ورجل برجل! ونظر أبو طالب إلى هذه الأشباح التي تكلمه، وهي تقود فتاها بنسعة الغرور الكذوب! وحدّث أبو طالب نفسه، هامساً متعجّباً من هذه الرؤوس التي لم تركب في تلافيفها أدمغة تعقل، ولا دُسّ في صدورها قلوب تفقه! وما قيمة جسامة فتاكم، وبضاضة جسمه وجماله وميعة شبابه، وتمايل عطفيه، وتضاحك شدقيه، في ميزان الرجوليّة الجادّة؟! وما قيمة ذلك في ميزان الفضائل الإنسانيّة التي تعتزّ بها الحياة في حساب مفاخرها فيمن تدّخرهم لإنقاذها من شروركم؟! أفلا تعقلون؟! بل ما قيمة فتاكم البضّ التيّاه في شرعة وشائج الطبيعة؟! أفلا تفقهون؟! وكان أبو طالب -كما أسلفنا- قد استجمع أطراف عزائمه، وراجعته حميّته لابن أخيه، وزاده هذا العرض السخيف الأبله قوّةً وشموخاً، وتبدّى له خذلان الطغيان .. وأنهم جاؤوه بدنيّة الدنيا، ورديلة الرذائل، وحطيطة الجبن! ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 178 وما بعدها بتصرف.

وانتهض أبو طالب للرد عليهم رداً بدّد غرورهم الأبله، وغمز قناة بلاهتهم، فقال لهم كما عرفنا: والله! لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله! ما لا يكون أبداً! وله قصيدة طويلة عظيمة بليغة جداً، أفحل من المعلّقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها كما يقول الحافظ ابن كثير وقد أوردها الأموي في مغازيه بزيادات، يخبر قومه وغيرهم أنه غير مُسْلم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تاركه لشيء أبداً، حتى يهلك دونه (¬1)! ¬

_ (¬1) انظر: ابن هشام: 1: 338 وما بعدها، والبداية: 3: 5357. ولم يجد الحافظ ابن كثير: البداية: 3: 41 تفسيراً لذلك سوى أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبّه حباً طبيعياً لا شرعيًّا، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولا اجترؤوا عليه، ولمدّوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربّك يخلق ما يشاء ويختار! وقد قسم خلقه أنواعاً وأجناساً، فهذان العمان كافران: أبو طالب، وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه، تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمّن أنه سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب! وإشارة الحافظ ابن كثير إلى أن أبا طالب في ضحضاح من نار، إشارة إلى الحديث المتفق عليه عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي: ما أغنيت عن عمّك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"! البخاري: 63 مناقب الأنصار (3883)، وانظر (6208، 6572)، ومسلم (209)، وانظر الفتح: 7: 193.

4 - السخرية والاستهزاء

4 - السخرية والاستهزاء: وتطالعنا السخرية والاستهزاء من هؤلاء الذين كانوا يسمعون آيات الله تتلى -كما سبق أن عرفنا (¬1) - يزعمون أن في مقدورهم أن يأتوا بمثلها لو شاءوا، مع وصف هذا القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)} (الأنفال)! وذكر ابن كثير أن القائل هو النضر بن الحارث، لعنه الله (¬2)، كما قد نصّ على ذلك سعيد بن جبير، والسدي، وابن جريج، وغيرهم، فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلّم من أخبار ملوكهم (رستم) و (اسفنديار)، ولما قدم وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلس جلس فيه النضر، فحدّثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله! أيّنا أحسن قصصاً، أنا أو محمد؟ ولهذا لمَّا أمكن الله تعالى منه يوم بدر، ووقع في الأسارى، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تضرب رقبته صبرًا بين يديه، ففعل ذلك، ولله الحمد! وكان الذي أسره -كما سيأتي- المقداد بن الأسود رضي الله عنه! وتكررت في القرآن الكريم حكايته قول المشركين عن القرآن: إنه أساطير الأولين! وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن ¬

_ (¬1) وانظر أيضاً: ابن هشام: 1: 389 وما بعدها، والبيهقي: "الدلائل": 2: 706207، وسبل الهدى والرشاد: 2: 470. (¬2) تفسير ابن كثير: 2: 304.

يقفوا بها في وجه هذا القرآن (¬1)، وهو يخاطب الفطرة البشريّة بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب، ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك! وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات، وهم يعلمون أنها مناورات! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم، ليموّهوا على جماهير العرب، الذين من أجلهم تطلق هذه المناوَرات، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبوديّة للعبيد! لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة! كانوا يعرفون أن (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، معناها إعلان التحرّر من سلطان البشر كافة، والخروج من حاكميّة العباد جملة، والفرار إلى ألوهيّة الله وحده وحاكميّته .. ثم التلقّي في هذه العبوديّة لله عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوّهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميّتها، وينضمّون إلى التجمع الإسلامي الذي يقوده محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويخضعون لقيادته وسلطانه، وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهليّة، ويتوجّهون بولائهم كله لله والرسول، والعُصْبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الإسلاميّة! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1502 وما بعدها بتصرف.

كان هذا المدلول واقعاً يشهده الملأ من قريش، ويحسّون خطره عليهم، وعلى الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي يقوم عليها كيانهم! وهذا ما كان يقضّ مضاجع الملأ من قريش، فيقاومونه بشتّى الأساليب .. ومنها هذا الأسلوب .. أسلوب ادعاء أن القرآن الكريم أساطير الأولين، وأنهم لو شاءوا لقالوا مثله! ذلك مع تحدّيهم به مرّة ومرّة ومرّة، وفي كل مرّة يعجزون ويَخْنسون! والأساطير واحدتها أسطورة، وهي الحكاية المتلبسة غالباً بالتصوّرات الخرافيّة، وأقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة، وعن الأحداث التي تتخللها أساساً تصوّرات الخيال والخرافة! وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأوّلين، وفعل الله بالمكذّبين وإنجائه للمؤمنين .. إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه "الموضوعات" وقد سجّل القرآن تطاولهم، وردّ عليهم بما يظهر سخف هذا التطاول وكذبه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} (الفرقان)! وأكذب شيء أن يقول كفّار قريش هذه المقالة، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس (¬1) .. فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقنونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - شيء آخر غير كلام ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 5: 2551 بتصرف.

البشر، وهم كانوا يحسّون هذا بذوقهم في الكلام، وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثّر بالقرآن .. كما كانوا يعلمون عن محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة أنه (الصادق الأمين) الذي لا يكذب ولا يخون -كما أسلفنا- فكيف به يكذب على الله، وينسب إليه قولاً لم يقله؟! ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعيّة المستمدة من واقعهم الذي يعيشونه، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور الرب، الذين قد لا يميزون بين الكلام، ولا يعرفون درجته! {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}! قيل: إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة! وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدال! فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين، فما يمسكهم عن الإتيان بمثله، مستعينين بأقوام منهم، ليبطلوا حجة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتحدّاهم به وهم عاجزون؟! ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت، إنما يدفعهم بالوصف البارز الثابت: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}! ظلماً للحق، ولمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولأنفسهم، وزورًا واضح الكذب ظاهر البطلان! ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}! ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأوّلين التي يسوقها للعبرة والعظمة، وللتربية والتوجيه، وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس، ولا تثبت للمناقشة!

{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}! فأين علم حفاظ الأساطير ورواتها من ذلك العلم الشامل؟! وأين أساطير الأوّلين من السرّ في السموات والأرض؟! وأين النقطة الصغيرة من الخضم الذي لا ساحل له ولا قرار؟! ألا إنهم ليرتكبون الخطيئة الكبيرة، وهم يدّعون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الدعاوى المتهافتة، ومن قبل يصرّون على الشرك بالله، وهو خلقهم .. ولكن باب التوبة مفتوح، والرجوع عن الإثم ممكن، والله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض، ويعلم ما يفترون وما يكيدون، غفور رحيم: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6)}! وقد انكشف هذا النوع من المناورات بعد حين .. وتبيّن أن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله (¬1)، وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً، قد اكتسح هذه الأساليب وتلك المناورات، فلم يقف له منها شيء! وراح الملأ من قريش في ذعر يقولون: {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} (فصلت)! ووجد كبراؤهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفيةً لهذا القرآن، ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلةً بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خفية عن الآخرين، حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود، ألاّ يعودوا، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدّين! ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 3: 1504 بتصرف.

على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه، لم تكن هي المحاولة الأخيرة، ولن تكون! لقد تكرّرت في صور شتّى .. وحاول أعداء الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - دائماً أن يصرفوا الناس نهائيًّا عن هذا القرآن، فلما عجزوا حوّلوه إلى تراتيل يترنّم بها القرّاء ويطرب لها المستمعون، وحوّلوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في بيوتهم وسياراتهم وجيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم .. ويفهمون أن هذا فقط هو الدين، وقد أدّوا حقّ هذا القرآن وحق هذا الدّين! لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه .. لقد صاغ لهم أعداء هذا (الدّين القيّم) أبدالاً منه يتلقّون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها .. حتى ليتلقّون منها تصوراتهم ومفاهيمهم، إلى جانب ما يتلقّون منها شرائعهم وقوانينهم، وقيمهم وموازينهم! ثم قالوا لهم: إن هذا الدّين محترم، وإن هذا القرآن مصون، وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين، ويترنّم به المترنّمون، ويرتّله المرتّلون .. فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنّم وهذا الترتيل؟! إنها مناورة النضر بن الحارث، ولكن في صورة متطوّرة معقّدة، تناسب تطوّر الزمان وتعقّد الحياة .. ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة، التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدّين، على مدار القرون! ولكن العجيب في شأن هذا القرآن، أنه على طول الكيد وتعقّده وتطوّره وترقّيه ما زال يغلب! إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة، والسلطان القاهر على الفطرة، ما

يغلب به كيد الجاهليّة في الأرض كلها، وكيد الشياطن من هؤلاء وأولئك الذين يحاربون هذا الدّين، وكيد الأجهزة العالميّة التي يقيمونها هنا وهناك في كل أرض وفي كل حين! إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها، ليجعلوه مادة إذاعيّة في جميع محطّات العالم! وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الكثير من المسلمين إلى مجرّد أنغام وتراتيل، أو مجرّد تمائم وتعاويذ! وبعد أن أبعدوه حتى في خاطر الكثيرين من المسلمين، من أن يكون مصدر التوجيه للحياة! وأقاموا مصادر أخرى للتوجيه في جميع الشؤون! بيد أن هذا الكتاب مازال يعمل من وراء هذا الكيد، وسيظل يعمل .. وما تزال في أنحاء الأرض هنا وهناك عصبة مسلمة تتجمّع على جديّة هذا الكتاب، وتتخذه وحده مصدر التوجيه، وهي ترتقب وعد الله -عزّ وجلّ - بالنصر والتمكين .. من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد .. وما كان مرّة لابدّ أن سيكون! ويطالعنا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} (الأنفال)! وهنا نذكر ما رواه البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه

قال: (¬1) قال أبو جهل: " {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} "! فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}! وأخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث (¬2)! إنه العجب العجاب من عناد هؤلاء المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم، فإذا الكبرياء تصدّهم عن الاستسلام له، والإذعان لسلطانه، وإذا هم يتمنون على الله إن كان هذا هو الحق من عنده أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو أن يأتيهم بعذاب أليم، بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)}! وهو دعاء غريب، يصوّر حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق، حتى ولو كان حقًّا! إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة! ولكنها حين تفسد بالكبرياء تأخذها العزّة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق، عندما يكشف لها واضحاً لاريب فيه! وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكّة يواجهون الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 التفسير (4648، 4649)، والبيهقي: "الدلائل": 3: 75. (¬2) انظر: ابن جرير: 9: 152، وابن كثير: 2: 305، والشوكاني: 2: 323.

5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به

ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية، في وجه هذا العناد الجامح الشموس! ويعقب السياق على هذا العناد، وعلى هذا الدعاء، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء، وللعذاب الأليم الذي طلبوه. إن كان هذا هو الحق من عند الله؛ لأنه للحق .. ومع هذا فإن الله تبارك وتعالى قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذّبين قبلهم؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى، والله لا يعذّبهم عذاب الاستئصال والرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم .. كما أنه لا يعذّبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها .. وليس تأخير العذاب عنهم لمجرّد أنهم أهل هذا البيت، فليسوا بأولياء هذا البيت، إنما أولياؤه المتّقون: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}! 5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به: ويروي الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (¬1): {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 التفسير (4722)، وانظر (7490، 7525، 7547)، ومسلم (145)، وأحمد: 1: 23، 215، والترمذي (3145، 3146)، والنسائي: 2: 177، 178، والكبرى (993، 994)، وأبو عوانة: 2: 123، والطبري: التفسير: 15: 184، 185، 186، وابن خزيمة (1587)، والبيهقي: 2: 184، 185، والأسماء والصفات: 1: 401، والبغوي: التفسير: 3: 142، والطبراني (12454)، وابن حبان (1796، 6563).

قال: نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُخْتَفٍ بمكة، كان إِذا صلّى رفع صوته بالقرآن، فإِذا سمع المشركون سَبُّوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - لي: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}! أي بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسُبُّوا القرآن: {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}! عن أصحابك، فلا تسمعهم: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (الإسراء)! وإن هي إلا سخافات الجاهليّة وأوهام الوثنيّة .. ومن ثم كان الأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتوسّط في صلاته بين الجهر والخفوت، لما كانوا يقابلون به صلاته من استهزاء وإيذاء، أو من نفور وابتعاد، ولعل الأمر كذلك؛ لأن التوسّط بين الجهر والخفاء أليق بالوقوف أمام الله! وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنزل ذلك في الدعاء (¬1)! قال ابن حجر (¬2): هكذا أطلقت عائشة، وهو أعم من أن يكون داخل داخل الصلاة أو خارجها! وقال: يحتمل الجمع بينهما، بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة، وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا صلّى عند البيت رفع صوته بالدعاء، فنزلت! وجاء عن أهل التفسير في ذلك أقوال أخر! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 التفسير (4723)، وانظر (6327، 7526). (¬2) فتح الباري: 8: 405، 406 بتصرف.

6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم

6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم: ولم يقف أمر هؤلاء عند حد هذا السبّ للقرآن ومنزله من وجاء به، فقد اتصلوا باليهود للإتيان منهم بأسئلة تعجيزيّة كما يتصوّرون للرسول - صلى الله عليه وسلم -: - السؤال عن الروح: يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال (¬1): قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الرُّوح، فسألوه، فنزلت: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (الإسراء)! قالوا: أوتينا عِلْماً كثيراً، أُوتينا التوراة، ومَن أوتِيَ التوراة، فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله -عزّ وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} (الكهف: 109)! ويروي الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في خِرَب المدينة وهو يتوكّأ على عسيبٍ معه فمرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض (¬2): سلوه عن الرّوح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 255، والترمذي (3140)، والنسائي: التفسير (334)، والكبرى (11314)، وأبو يعلى (2501)، والحاكم: 2: 531، والبيهقي: "الدلائل": 2: 269، وابن حبان (99). (¬2) البخاري: 13 العلم (125)، وانظر (4721، 7297، 7456، 7462)، ومسلم (2794) وأحمد: 1: 389، 444، والترمذي (3141)، والنسائي: التفسير (319)، والكبرى (11299)، والطبري: التفسير: 15: 155، والشاشي (369)، والطبراني: الصغير (1003)، والواحدي: أسباب النزول: 299، وابن حبان (98).

فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنّه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الرُّوح؟ فسكت، فقلت: إِنه يوحى إِليه، فقمت، فلمَّا انجلى عنه، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء] قال ابن حجر: في رواية عن ابن عباس عند الطبري، "فقالوا: أخبرنا عن الروح؟ " قال ابن التين: اختلف الناس في المراد بالروح المسؤول عنه في هذا الخبر على أقوال (¬1): ثم قال: وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس، قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا معه واحد من الروح، وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أي لا يعين المراد في الآية! وقال الخطابي: حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالاً: قيل: سألوه عن جبريل! وقيل: عن ملك له ألسنة! وقال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد! وقال أهل النظر: سألوه عن كيفيّة مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه! وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح! وقال الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: 8: 402 وما بعدها.

الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيّزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيّز أم لا؟ وهل هي قديمة أو حادثة؟ وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى؟ وما حقيقة تعذيبها ونعيمها؟ وغير ذلك من متعلقاتها؟ وليس في السؤال ما يخصّص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة؟! والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى {كُنْ} فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه! قال: ويحتمل أن المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الفعل، كقوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)} (هود)! أي فعله، فيكون الجواب الروح من فعل ربّي! وإن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة؟ فيكون الجواب إنها حادثة! إلى أن قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء، والتعمّق فيها! وغاب عن هؤلاء أن المنهج الأقوم في هذا الدّين في حدود ما يستطيع الإدراك البشري بلوغه ومعرفته (¬1)؛ فلا يبدّد الطاقة العقليّة التي وهبها الله للناس فيما لا ينتج ولا يثمر! وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه التوجيه لهذا ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2249 بتصرف.

العقل في حدوده وفي مجاله الذي يدركه، فلا جدوى من الخبط في التّيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه؛ لأنه لا يملك وسائل إدراكه، والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسرّ من أسراره القدسيّة أودعه هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها! وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود! والإنسان لا يدبر هذا الكون، فطاقاته ليست شاملة، إنما وهب منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته، ليقوم بالخلافة في الأرض، ويحقّق ما شاء الله أن يحقّقه، في حدود علمه القليل! ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السرّ اللطيف {الرُّوح} لا يدري ما هو، ولا كيف جاء، ولا كيف يذهب، ولا أين كان، ولا أين يكون، إلا ما يخبر به العلم الخبير في التنزيل! وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- وكان قد قدمِ من الحيرة .. ويدَّعي أنه أحسن حديثاً .. ويحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وغيرهما .. (¬1) قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل الله! (¬2) قال ابن إسحاق (¬3): وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول، فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن، قول الله عزَّ وجلَّ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} (القلم)، (المطففين: 13). ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 370، والروض الأنف: 2: 52. (¬2) انظر: السابق. (¬3) السيرة النبوية: 1: 371 وما بعدها معلقاً، والبيهقي: "الدلائل": 2: 269 - 270، وأحمد: الفتح الرباني: 18: 196 - 197، وانظر: الفتح: 8: 401.

وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن (¬1)! فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله. فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمَ ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتَّى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله. وقالا لهم: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا،، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فَرَوْا فيه رأيكم! سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل طوَّاف، قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرُّوح، ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك فاتّبعوه، فإنه نبيّ، وإن لم يفعل، فهو رجل متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم! ¬

_ (¬1) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

فأقبل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعيط بن أبي عمرو بن أميّة ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ، حتى قدما مكّة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أَمَرُونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فرَوْا فيه رأيكم! فجاؤوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب! وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها! وأخبرنا عن الرّوح ما هي؟ قال: فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -:" أخبركم بما سألتم عنه غداً " ولم يستثن، فانصرفوا عنه. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، لا يُحْدث الله إليه في ذلك وحياً؟، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجفَ أهل مكة وقالوا: وعَدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة، قد أصبحنا منها، لا يخبرنا بشيء، مما سألناه عنه، وحتى أحزنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُكْث الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكة! ثم جاءه جبريل من الله عزَّ وجلَّ بسورة أصحاب الكهف. فيها معاتبته إيّاه على حزنه عليهم. وخبر ما سألوه عنه من أمر الله: الفتية، والرجل الطوَّاف، والروح! (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: السيرة النبوية: 1: 373.

- أهل الكهف

وتعددت الروايات في سبب النزول (¬1)، ونظراً لتعدَّد تلك الروايات، نؤثر أن نقف في ظل النص القرآني المستيقن، لنعلم يقيناً أنه كان هناك سؤال قد تعدّدت الروايات في ذكره! - أهل الكهف: ويطالعنا مفتح السورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} (الكهف). ونبصر أنه تعالى يحمد نفسه المقدَّسة عند فواتح الأمور وخواتمها، وأنه جلَّ شأنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة، وقد حمد نفسه على إنزاله الكتاب العزيز على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتاباً مستقيماً، لا عوج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، واضحاً بينًّا جليًّا، نذيراً للكافرين، بشيراً للمؤمنين! ونبصر بدءاً فيه استقامة، وفيه صرامة .. ومن ثمَّ تتضِّح المعالم، فلا لبس في العقيدة ولا غموض .. ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله ... ! ¬

_ (¬1) انظر: ابن كثير: التفسير: 3: 71 وما بعدها، والمرجع السابق.

وهنا نذكر ما رواه مسلم وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عُصِمَ من الدّجال". (¬1) ويروي الشيخان وغيرهما عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: "قرأ رجلٌ الكهف، وفي الدّار دابّة، فجفلتْ تنفْر، فنظر، فإذا ضبابةٌ -أو سحابة- قدْ غشيَتْهُ. قال: فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اقرأ فلان، فإنّها السكينة تنزّلتْ عند القرآن، أو تنزَّلت للقرآن". (¬2) وفي رواية عن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصانٌ مربوط بشَطنَيْن، فتغشّته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه تَنْفر، فلمَّا أَصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: "تلك السكينة تنزّلتَ بالقرآن" وتعددت الروايات في ذلك. (¬3) ¬

_ (¬1) مسلم: 6 - صلاة المسافرين (809)، وأحمد: 5: 196، وانظر: 6: 449 - 450، والترمذي (2886)، وأبو داود (4323)، والنسائي: عمل اليوم والليلة (951)، والبغوي: شرح السنة (1204)، وأبو عوانة (3780)، والبيهقي: 3: 349. (¬2) البخاري: 61 - المناقب (2614)، وانظر (4839، 5011)، ومسلم (795)، والطيالسي (714)، وأبو نعيم الحلية: 4: 342، والبيهقي: "الدلائل": 7: 83، والبغوي (1206)، وابن حبان (769). (¬3) البخاري: 66 فضائل القرآن (5011)، وانظر (5018)، ومسلم (695)، وانظر (796)، وأحمد: 3: 81، والنسائي: الكبرى (8016، 8244)، وأبو عبيد: فضائل القرآن: 27، والحا كم: 1: 553 - 554، والطبراني: الكبير (566)، وانظر: مشارق الأنوار: 2: 22، والنووي: شرح صحيح مسلم: 6: 82.

ثم تجيء قصة أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} (الكهف). وهو تلخيص يجمل القصّة (¬1)، ويرسم خطوطها العريضة، فنعرف أن أصحاب الكهف فتية، آووا إلى الكهف وهم مؤمنون، وأنه ضرب على آذانهم في الكهف، وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة، وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم، ثم لبثوا في الكهف .. وقصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله، وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم! ويطالعنا المشهد الأول: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)}، بإلهامهم كيف يدبرون أمرهم: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فإذا هي ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت، معتزّة بالإيمان الذي اختارت: {إِذْ قَامُوا} ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2261 وما بعدها بتصرف.

والقيام حركة تدل على العزم والثبات: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فهو رب لهذا الكون كله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} فهو واحد بلا شريك: {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)} وتجاوزنا الحق، وحدنا عن الصواب! ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ}؟ فهذا هو طريق الاعتقاد: أن يكون للإنسان دليلٌ قويٌّ يستند إليه، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول، وإلا فهو الكذب الشنيع؛ لأنه الكذب على الله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}؟ وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحاً صريحاً حاسماً، لا تردّد فيه ولا تلعثم .. إنهم فتية أشدّاء في أجسامهم، أشدّاء في إيمانهم، أشدّاء في استنكار ما عليه قومهم! ولقد تبيَّن الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة، ولا بدَّ من الفرار بالعقيدة .. إنهم ليسوا رسلاً إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل .. إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يطيقون كذلك أن يُداروا القوم، ويداوروهم ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة، على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله .. والأرجح أن أمرهم قد كُشف، فلا سبيل لهم إلا أن يفرِّوا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة، وقد أجمعوا أمرهمِ فهم يتناجون بينهم: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)}

وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة، فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم، ويتجرّدون من زينة الأرض ومتاع الحياة .. هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيّق الخشن المظلمِ. هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسّون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدّة: {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} ولفظه {يَنشُرْ} تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة، وتتسع خيوطها، وتمتدّ ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء .. إن الحدود الضيّقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق! إنه الإيمان .. وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضيَّة؟! إن هنالك عالماً آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن، عالماً تظلّله الرحمة والرفق والرضوان! ويطالعنا قوله جلَّ شأنه: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)} (الكهف). وهو مشهد تصويري عجيب، ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف، كما

يلتقطها شريط متحرّك، والشمس تطلع على الكهف فتميل عليه كأنها متعمدة، ولفظ {تَزَاوَرُ} تصوّر مدلولها، وتلقي ظلال الإرادة في عملها، والشمس تغرب فتجاوزهم إلى الشمال وهم في فجوة منه .. ويعلق على وضعهم بأحد التعليقات القرآنيّة التي تتخلل لتوجيه القلوب {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} وضعهم هكذا في الكهف والشمس لا تنالهم بأشعّتها وتقرب منهم بضوئها، وهم في مكانهم لا يموتون ولا يتحركون: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)} هو وللهدى والضلال ناموس، فمن اهتدى بآيات الله فقد هداه الله وفق ناموسه، وهو المهتدي حقًّا، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى ضلّ، وجاء ضلاله وفق الناموس الإلهي فقد أصله الله إذن، ولن تجد له من بعد هادياً! ويمضي السياق يكمل المشهد العجيب، وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة، فيحسبهم الرائي أيقاظاً وهو رقود، وكلبهم -على عادة الكلاب- باسط ذراعية بالفناء قريباً من باب الكهف كأنه يحرسهم، وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم، إذ يراهم نياماً كالأيقاظ، يتقلّبون ولا يستيقظون، وذلك من تدبير الله، كي لا يعبث بهم عابث، حتى يجري الوقت المعلوم! وفحأة تدب فيهم الحياة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)} (الكهف)!

ويطالعنا هذا المشهد، والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس .. إنهم يفركون أعينهم، ويلتفت أحدهم إلى الآخر فيسأل: {كَمْ لَبِثْتُمْ}؟ كما يسأل مِن يستيقظ من نوم طويل، ولابد أنه كان يحسّ بآثار نوم طويل: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}! ثم رأوا أن يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها، ويدعوا أمرها لله -شأن المؤمن في كل ما يعرض له مما يجهله- وأن يأخذوا في شأن عمليّ، فهم جائعون، ولديهم نقود فضيّة خرجوا بها من المدينة: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم، ويعرف مخبؤهم، فيأخذهم أصحاب السلطان في المدينة فيقتلوهم رجماً -بوصفهم خارجين على الدّين، لأنهم يعبدون إلهاً واحداً في المدينة المشركة! - أو يفتنوهم عن عقيدتهم بالتعذيب، وهذه هي التي يتقونها، لذلك يوصون أحدهم أن يكون حذراً لبقاً: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}! فما يفلح من يرتدّ عن الإيمان إلى الشرك، وإنها للخسارة الكبرى! وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم، حذرين خائفين، لا يدرون أن الأعوام قد كرَّت، وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالاً قد تعاقبت، وأن مدينتهم التي يعرفونها قد تغيّرت معالمها، وأن المسلّطن الذين يخشونهم على عقيدتهم قد دالت دولتهم، وأن قصة الفتية الذين فرّوا بدينهم في عهد الملك الظالم قد تناقلها الخلف عن السلف، وأن الأقاويل حولهم متعارضة، حول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم! وهكذا يسدل الستار على مشهدهم في الكهف ليرفع على مشهد آخر!

ونفهم أن أهل المدينة اليوم مؤمنون، فهم شديدو الحفاوة بالفتية المؤمنين بعد أن انكشف أمرهم بذهاب أحدهم لشراء الطعام، وعرف الناس أنه أحد الفتية الذين فرّوا بدينهم منذ عهد بعيد! ولنا أن نتصوّر ضخامة المفاجأة التي اعترف الفتية -بعد أن أيقن أحدهم أن المدينة قد مضى عليها العهد الطويل منذ أن فارقوها، وأن الدنيا قد تبدَّلت من حولهم، فلم يعد لشيء مما ينكرونه، ولا لشيء مما يعرفونه وجود! وأنهم من جيل قديم مضت عليه القرون، وأنهم أعجوبة في نظر الناس وحسّهم. فلن يمكن أن يعاملوهم كبشر عاديين، وأن كل ما يربطهم بجيلهم من قرابات ومعاملات ومشاعر وعادات وتقاليد .. كله قد تقطع، فهم أشبه بالذكرى الحيّة منهم بالأشخاص الواقعيّة ... فيرحمهم الله من هذا كله فيتوفاهم! لنا أن نتصوَّر هذا كله .. أما السياق القرآني فيعرض هذا المشهد الأخير، مشهد وفاتهم، والناس خارج الكهف يتنازعون في شأنهم، على أي دين كانوا، وكيف يخلدونهم ويحفظون ذكراهم للأجيال، وتطالعنا العبرة المستفادة: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} (الكهف). والعبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالاتها على البعث بمثل واقعي قريب محسوس، يقرب إلى الناس قضيّة البعث، فيعلموا أن وعد الله بالبعث حق، وأن الساعة لا ريب فيها .. وعلى هذا النحو بعث الله الفتية من نومتهم، وأعثر قومهم عليهم!

وقال بعض الناس: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} لا يحدّد عقيدتهم {رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} وبما كان عليه من عقيدة! وقال أصحاب السلطان في ذلك الأوان: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)} والمقصود معبد، على طريقة أهل الكتاب، في اتخاذ المعابد على مقابر الأنبياء والصالحين .. وكما يصنع اليوم من يقلّدونهم من المسلمين، مخالفين لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما أن عائشة وعبد الله بن عباس قالا: "لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَفِقَ يطرح خَميصةً له على وجهه، فإِذا اغْتَمَّ بها كشف عن وجهه، فقال -وهو كذلك-: "لَعْنَةُ اللهِ على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يُحَذِّرُ ما صَنَعُوا. (¬1) قال السندي: (يُحَذِّرُ): أي أمته، قيل: لأنه يصير بالتدريج تشبيهاً بعبادة الأوثان، وقوله (قبور أنبيائهم)، أي وصلحائهم، كما في رواية مسلم، وإلا فالنصارى ليس لهم إلا نبيّ واحد لا قبر له! ورواية مسلم عن عائشة، أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن أولئك إِذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بَنَوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرار الحلق عند الله يوم القيامة". (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري: 8 - الصلاة (435، 436)، وانظر (1330، 1390، 3453، 4441، 4443، 5815، 3454، 4444، 5816)، ومسلم (531)، وعبد الرزاق (1588، 9754، 15917، وأبو عوانة: 1: 399، والدارمي: 1: 326، والبيهقي: 4: 80، والدلائل: 7: 203، والبغوي (3825)، والنسائي: 2: 40 - 41، وأحمد: 1: 218، 6: 275. وانظر: ابن سعد: 2: 258 عن الواقدي. (¬2) مسلم: 5 - المساجد (528).

ويطالعنا الجدل حول أصحاب الكهف، على عادة الناس يتناقلون الروايات والأخبار ويزيدون فيها وينقصون، ويضيفون إليها من خيالهم جيلاً بعد جيل، حتى تتضخَّم وتتحوَّل، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحدث الواحد كلما مرَّت القرون: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)} (الكهف)! فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه، وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة أو أكثر، وأمرهم موكول إلى الله، وعلمهم عند الله، وعند القليلين الذين تثبّتوا من الحادث عند وقوعه .. فلا ضرورة إذن للحديث الطويل حول عددهم .. والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير ... لذلك يوجّه القرآن خاتمَ النبيّين - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك الجدل في هذه القضيّة، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم، تمشّياً مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقليّة أن تبدَّد في غير ما يفيد، وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق ... وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله، فليترك إلى علم الله! وبمناسبة النهي عن الجدل في غيب الماضي، يرد النهي عن الحكم على غيب المستقبل وما يقع فيه. فالإنسان لا يدري ما يكون في المستقبل حتى يقطع برأي فيه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} (الكهف)!

إن كل حركة وكل نأمة، بل كل نفس من أنفاس الحيّ، مرهون بإرادة الله .. وسجف الغيب مسبل يحجب ما وراء اللحظة الحاضرة .. وعين الإنسان لا تمتد إلى ما وراء الستر المسدل، وعقله مهما علم قاصر كليل، فلا يقل إنسان: إني فاعل ذلك غداً، والغد في غيب الله، وأستار غيب الله دون العواقب! وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان، لا يفكر في أمر المستقبل ولا يدبر له، وأن يعيش يوماً بيوم، لحظة بلحظة، وألا يصل ماضي حياته بحاضره وقابله .. كلا. ولكن معناه أن يحسب حساب الغيب وحساب المشيئة التي تدبره، وأن يعزم ما يعزم ويستعين بمشيئة الله على ما يعزم، ويستشعر أن يد الله فوق يده، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره، فإن وفقه الله إلى ما اعتزم، وجرت مشيئة الله بغير ما دبر لم يحزن ولم ييأس؛ لأن الأمر لله أولاً وأخيراً! فليفكر الإنسان وليدبر، ولكن ليشعر أنه إنما يفكر بتيسير الله، ويدبر بتوفيق الله، وأنه لا يملك إلا ما يمدّه الله من تفكير وتدبير، ولن يدعو هذا إلى كسل أو تراخ، أو ضعف أو فتور، بل على العكس يمدّه بالثقة والقوّة والاطمئنان والعزيمة، فإذا انكشف ستر الغيب عن تدبير لله غير تدبيره، فليتقبّل قضاء الله بالرضى والطمأنينة والاستسلام، لأنه الأصل الذي كان مجهولاً فكشف عنه الستار! هذا هو المنهج الذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم، فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكّر ويدبّر، ولا يحسّ بالغرور والتبطر وهو يفلح وينجح، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق، بل يبقى في كل أحواله متصلاً بالله، قويًّا بالاعتماد عليه، شاكراً لتوفيقه إيّاه، مسلماً بقضائه وقدره، غير متبطر ولا قنوط!

ونبصر في تأخير الوحي بالجواب عتاباً رمزياً من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما عاتب سليمان، فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبيّ الله سليمان عليه الصلاة والسلام كان له ستون امرأة، فقال: لأطوفنَّ الليلة على نسائي فلتحملن كل امرأة، ولتلدن فارساً يقاتل في سبيل الله، فطاف على نسائه، فما ولدتْ منهن إِلا امرأةٌ ولدت نصف شقّ غلام، قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان سليمان استثنى لحملت كل امرأةٍ منهن فولدت فارساً يقاتل في سبيل الله". (¬1) وكان هذا عتاباً صريحاً، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سئل عن أهل الكهف -كما أسلفنا- وعد بالإجابة، ولم يستثن، كما نسي سليمان -عليه السلام- فأعلم الله رسوله بقصة (أهل الكهف)، ثم نهاه أن يعد بفعل شيء دون التقيّد بمشيئة الله! وقوله جل شأنه: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله وفي كيفيّة نظمه اختلاف للمفسّرين. (¬2) فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقيّة جملة النهي، أي هو استثناء في حكم النهي، أي لا تقولن: إني فاعل إلخ ... إلا أن يشاء الله أن تقوله، ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى: إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله، وعليه ¬

_ (¬1) البخاري: 97 - التوحيد (4769)، وانظر (3424، 5242، 6720)، ومسلم (1654)، والحميدي (1174)، وأحمد: 2: 275، والنسائي: 7: 25 - 26، والبغوي (79)، والبيهقي: 10: 44، وابن حبان (4337)، والطحاوي: مشكل الآثار (1925)، وانظر: الفتح 6: 46. (¬2) التحرير والتنوير: 15: 295 بتصرف.

فالمصدر المنسبك من {أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} مستثنى من عموم المنهيات، وهو من كلام الله تعالى، ومفعول {يَشَاءَ اللَّهُ} محذوف، دل عليه ما قبله، كما هو شأن فعل المشيئة، والتقدير: إلا قولاً شاءه الله، فأنت غير منهي عن أن تقوله! ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفرّاء مستثنى من جملة {إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}، فيكون مستثنى من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - المنهي عنه، أي إلا قولاً مقترناً بـ (أن يشاء الله) فيكون المصدر المنسبك من {أَن} والفعل في محل نصب على نزع الخافض، وهو باء الملابسة، والتقدير: إلا بـ (أن يشاء الله) أي بما يدل على ذكر مشيئة الله؛ لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ (إن شاء الله) ونحوه، فالمراد بالمشيئة إذْن الله له! وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ثلاث جهات: الأولى: أنه أجاب سؤله، فبيَّن لهم ما سألوه إيَّاه، على خلاف عادة ذلك مع المكابرين! الثانية: أنه علَّمه علماً عظيماً من أدب النبوَّة! الثالثة: أنه ما علَّمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استثناساً لنفسه ألا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهّم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم، ومثاله ما رواه الشيخان وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حكيم، إِن هذا المال خَضِرةٌ حُلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورك له فيه، ومن أخذه بإِشراف نفس لم يُبارك له فيه،

كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى" قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرْزَ أأَحَداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إِلى العطاء، فيأبى أن يقبله منه، ثم إِن عمر رضي الله عنه دعاه ليُعْطِيَه، فأبى أن يَقْبَل منه شيئاً، قال عُمر: إِنّي أشْهِدُكُم يا معشر المسلمين على حكيم أنّي أعرض عليه حقَّه من هذا الفَيْء فيأبى أن يأخذه، فلم يرْزأْ حكيمٌ أحداً من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تُوفِّي". (¬1) فعلم حكيم أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له ليس القصد منه منعه من سؤاله، وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم ألا يأخذ عن أحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئاً! فنظم الآية أن اللام في قوله {لِشَيْءٍ} ليست اللام التي يتعدَّ بها فعل القول إلى المخاطب، بل هي لام العلّة، أي لا تقولنَّ: إني فاعل كذا لأجل شيء تَعدُ به، فاللام بمنزلة (في)!، و (شيء) اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أَي لشيء تريد أن تفعله، والإشارة بقوله {ذَلِكَ} عائدة إلى (شيء)، أي إني فاعل الإخبار بأمر يسألونه، و {غَدًا} مستعمل في المستقبل مجازاً، وليس كلمة {غَدًا} مراداً بها اليوم الذي يلي يومه، ولكنه يستعمل في معنى الزمان ¬

_ (¬1) البخاري: 24 - الزكاة (1472)، وانظر (2750، 3143، 6441). ومسلم (1035)، والحميدي (553)، وابن أبي شيبة: 3: 211، والنسائي: 5: 60، 100، 101، وابن أبي عاصم: الآحاد والثاني (595)، وعبد الرزاق (20041)، والترمذي (2463)، وأحمد: 3: 434، والدارمي: 1: 388، 2: 310، وابن حبان (3220، 3402)، والطبراني: الكبير (3078، 3080، 3080، 3081)، والبيهقي: 4: 1960، والبغوي (1619).

المستقبل، كما يستعمل اليوم بمعنى زمان الحال، والأمس بمعنى زمن الماضي، وقد جمعها قول زهير: واعلمُ عِلْمَ اليوم والأمس قبله ... ولكني عن علم ما في غدٍ عَمِ وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل، دون ما كان من الكلام إنشاء مثل الأيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم: يكون ذكر {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ} حلاًّ لعقد اليمين، يسقط وجوب الكفارة، ولعلهم أخذوه من معنى (شيء) في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ} إلخ: بحيث إذا أعقبت اليمين بقول {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ونحوه لم يلزم البرّ في اليمين، وروى ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكيم عن مالك أن قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ} إلخ ... إنما قُصد بذلك ذكر الله عند السهو وليس باستثناء، يعني أن حكم الثنيا في الأيمان لا يؤخذ من هذه الآية، بل هو مما ثبت بالسنة، ولذلك لم يخالف مالك في إعمال الثنيا في اليمين. وهي قول: (إن شاء الله) وهذا قول أبي حنيفة والشافعي! {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} عطف على النهي، أي لا تَعدْ بوعد، فإن نسيت فقلت: إني فاعل، فاذكر ربك، أي اذكر ما نهاك عنه، والمَراد بالذكر التدارك، وهو هنا مشتق من الذُّكر -بضم الذال- وهو كناية عن لازم التذكر، وهو الامتثال، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه)!

وفي تعريف الجلالة بلفظ الرب مضافاً إلى ضمير الخاطب دون اسم الجلالة الْعَلَم من كمال الملاطفة ما لا يخفى، وحذف مفعول {نَسِيتَ} لظهوره من المقام، أي إذا نسيت النهي فقلت: إني فاعل، وبعض الذين أعملوا آية {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} في حلّ الأيمان بذكر الاستثناء بمشيئة الله جعلوا قوله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ترخيصاً في تدارك الثنيا عند تذكر ذلك، فمنهم من لم يحد ذلك بمدّة، وعن ابن عباس: لا تحديد بمدّة، بل ولو طال ما بين اليمين والثنيا، والجمهور على أن قوله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} لا دلالة فيه على جواز تأخيرِ الثنيا، واستدلوا بأن السنة وردت بخلافه! {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}. لما أبرّ الله وعد نبيّه - صلى الله عليه وسلم - الذي وعده المشركين أن يبيّن لهم أمر أهل الكهف فأوحاه إليه، وأوقفهم عليه، أعقب ذلك بعتابه على التصدّي لمجاراتهم في السؤال عما هو خارج على غرض الرسالة، دون إذن من الله، وأمره أن يذكر نهي ربّه، ويعزم على تدريب نفسه على إمساك الوعد ببيان ما يسأل منه بيانه دون أن يأذن الله به، أمره هنا أن يخبر سائليه بأنه ما بعث للاشتغال بمثل ذلك، وأنه يرجو الله أن يهديه إلى ما هو أقرب من الرشد من بيان أمثال هذه القصة، وإن كانت هذه القصة تشتمل على موعظة وهدى، ولكن الهدى الذي في بيان الشريعة أعظم وأهم، والمعنى وقيل له: {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)} وهي جملة معطوفة على جملة {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} ويجوز أن تكون عطفاً على جملة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} أي اذكر أمره ونهيه، وقل في نفسك {عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}، أي ادع الله بهذا! وانتصب {رَشَدًا} على تمييز نسبة التفضيل من قوله {لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا}

ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول مطلق مبيّن النوع فعل {أَن يَهْدِيَنِ} لأن الرشد نوع من الهداية، و {عَسَى} مستعملة في الرجاء تأدباً، واسم الإشارة عائد إلى المذكور من قصة أهل الكهف، بقرينة وقوع هذا الكلام معترضاً في أثنائها، ويجوز أن يكون المعنى: وارج من الله أن يهديك فيُذكرك ألا تَعِدَ وعْداً ببيان شيء دون إذن الله! (¬1) في كلمة {عَسَى} وكلمة {لأَقْرَبَ} الدلالة على ارتفاع هذا المرتقى، وضرورة المحاولة الدائمة للاستواء عليه في جميع الأحوال! (¬2) ويطالعنا قوله جل شأنه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} (الكهف)! وهذا هو فصل الخطاب في أمرهم، يقرّره عالم غيب السموات والأرض، ما أبصره، وما أسمعه! سبحانه، فلا جدال بعد هذا ولا مراء! والمعنى أن يقدر لبثهم بثلائمائة وتسع سنين، فَعُبِّر عن هذا العدد بأنه ثلاثمائة سنة، وزيادة تسع (¬3)، ليعلم أن التقدير بالسنين القمريّة المناسبة لتاريخ العرب والإسلام، مع الإشارة إلى موافقة ذلك المقدار بالسنين الشمسيّة التي بها تاريخ القوم الذين منهم أهل الكهف، وهم أهل الروم! وهذا إخبار من الله تعالى عن مقدار لبثهم، قال السهيلي (¬4): ولكن لما علم استبعاد قريب وغيرهم من الكفار لهذا المقدار، وعلم أن فيه تنازعاً بين الناس، ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 15: 301. (¬2) في ظلال القرآن: 4: 2266 بتصرف. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الهامش ورد في المطبوع قبل موضعه الصحيح هذا بصفحات] (¬3) التحرير والتنوير: 15: 300. (¬4) الروض الأنف: 2: 57 وما بعدها.

فمن ثُمَّ قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}، وقوله: {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} أي إنها ثلاثمائة بحساب العجم، وإن حسبت الأهلة، فقد زاد العدد تسعاً، لأن ثلاثمائة بحساب الشمس تزيد تسع سنين بحساب القمر، فإن قيل: فكيف قال ثلاثمائة سنين، ولم يقل سنة، وهو قياس العدد في العربيّة، لأن المائة تضاف إلى لفظ الواحد، فالجواب أن سنين في الآية بدل مما قبله، ليس على حدّ الإضافة ولا التمييز، ولحكمة عظيمة عدل باللفظ عن الإضافة إلى البدل، وذلك أنه لو قال: ثلاث مائة سنة، لكان الكلام كأنه جواب لطائفة واحدة من الناس، والناس فيهم طائفتان: طائفة عرفوا طول لبثهم، ولم يعلموا كميّة السنين، فعرفهم أنها ثلاثمائة. وطائفة لم يعرفوا طول لبثهم، ولا شيئاً من خبرهم. فلما قال: ثلاثمائة معرفاً للأولين بالكميّة التي شكّوا فيها، مبيّناً للآخرين أن هذه الثلاثمائة سنون، ليست أيّاماً ولا شهوراً، فانتظم البيان الطائفتين من ذكر العدد، وجمع المعدود، وتبيّن أنه بدل، إذ البدل يُراد به: تبيين ما قبله، ألا ترى أن اليهود قد كانوا عرفوا أن لأصحاب الكهف نبأ عجيباً، ولم يكن العجب إلا من طول لبثهم، غير أنهم لم يكونوا على يقين من أنها ثلاثمائة أو أقل، فأخبر أن تلك السنين ثلاثمائة، ثم لو وقف الكلام ها هنا لقالت العرب، ومن لم يسمع بخبرهم: ما هذه الثلاثمائة؟ فقال كالمبين لهم: سنين، وقد روي معنى هذا التفسير عن الضحاك، وذكره النحاس! وقال: {سِنِينَ}، ولم يقل (أعواماً)، والسنة والعام، وإن اتسعت العرب فيهما، واستعملت كل واحد منهما مكان الآخر اتساعاً، ولكن بينهما في حكم البلاغة والعلم بتنزيل الكلام فرقاً، فخذه أولاً من الاشتقاق، فإن السنة من سنا

يسنو، إذا دار حول البئر، والدابة: هي السانية، فكذلك السنة دورة من دورات الشمس، وقد تسمى السنة: داراً ... هذا أصل الاسم، ومن ثم قالوا: أكلتهم السنة، فسمّوا شدّة القحط سنة، قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْن بِالسِّنِيِنَ} (الأعراف: 130). ومن ثم قيل: أسنت القوم إذا قحطوا، وكأن وزنه (افعتوا)، لا (أفعلوا)، كذلك قال بعضهم، وجعل سيبوية التاء بدلاً من الواو، فهي عنده (أفعلوا). لأن الجدوبة والخصب معتبر بالشتاء والصيف. وحساب العجم إنما هو بالسنين الشمسيَّة، بها يؤرخون، وأصحاب الكهف من أمّة عجميّة، والنصارى يعرفون حديثهم، ويؤرّخون به، فجاء اللفظ في القرآن بذكر السنين الموافقة لحسابهم، وتمم الفائدة بقوله: {وَازْدَادُوا تِسْعًا} ليوافق حساب العرب، فإن حسابهم بالشهور القمريّة (المحرم، وصفر) ونحوهما. وانظر بعد هذا إلى قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} (يوسف: 47). ولم يقل أعواماً، ففيه شاهد لما تقدّم، غير أنه قال: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} (يوسف: 49). ولم يقل (سنة)، عدولاً عن اللفظ المشترك، فإن السنة قد يعبّر بها عن الشدّة والأزمة -كما تقدّم- فلو قال: (سنة) لذهب الوهم إليها، لأن العام أقل أياماً من السنة، وإنما دلت الرؤيا على سبع سنين شداد، وإذا انقضى العدد فليس بعد الشدّة إلا رخاء، وليس في الرؤيا ما يدل على مدّة ذلك الرخاء، ولا يمكن أن يكون أقل من عام، والزيادة على العام مشكوك فيها، لا تقتضيها الرؤيا، فحكم بالأقل، وترك ما يقع فيه الشك من الزيادة على العام!

فهاتان فائدتان في اللفظ بـ (العام) في هذا الموطن، وأما قوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} (الأحقاف: 15)! فإنما ذكر السنين، وهي أطول من الأعوام، لأنه مخبر عن اكتمال الإنسان، وتمام قوته واستوائه، فلفظ السنين أولى بهذا الموطن، لأنها أكمل من الأعوام! وفائدة أخرى: أنه خبر عن السن، والسن معتبر بالسنين، لأن أصل السن في الحيوان لا يعتبر إلا بالسنة الشمسيّة ... وهكذا! وقرأ الجمهور {ثَلاثَ مِائَةٍ} بالتنوين، وانتصب (سنين) على البدليّة من اسم العدد، على رأي من يمنع مجيء تمييز المائة منصوباً، أو هو تمييز عند من يجيز ذلك! وقرأ حمزة والكسائي وخلف بإضافة مائة إلى سنين، على أنه تمييز للمائة، وقد جاء تمييزاً لمائة جمعاً، وهو نادر، لكنه فصيح! واليهود الذين لقَّنوا قريشاً السؤال -كما سبق- يؤرخون الأشهر بحساب القمر، والسنين بحساب الدورة الشمسيّة، فالتفاوت بين أيام السنة القمريّة وأيّام السنة الشمسيّة يحصل منه سنة قمرية كاملة في كل ثلاث وثلاثين سنة شمسيّة، فيكون التفاوت في مائة سنة شمسية بثلاث سنين زائدة قمريّة، كذا نقله ابن عطية (¬2) عن النقاش المفسّر! وبهذا تظهر نكتة التعبير عن التسع السنين بالازدياد، وهذا من علم القرآن وإعجازه العلمي الذي لم يكن لعموم العرب علم به! ¬

_ (¬2) انظر: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية: 9: 283 وما بعدها تحقيق وتعليق عبد الله الأنصاري، والسيد عبد العال، ط أولى، غرة جمادى الأولى 1408 هـ ديسمبر 1987 م، الدوحة

- ذو القرنين

- ذو القرنين: ويطالعنا قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} (الكهف). وافتتاح هذه القصة بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} يدل دلالة واضحة على أنها مما نزلت السورة للجواب عنه -كما أسلفنا- والسائلون: قريش لا محالة (¬1). والمسؤول عنه: خبر رجل من عظماء العالم عُرف بلقب ¬

_ (¬1) التحرير: 16: 18 بتصرف، وانظر: تفسير ابن عطية: 9: 388 وما بعدها.

{ذِي الْقَرْنَيْنِ} كانت أخبار سيرته خفيَّة مجملة مغلقة، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تحقيقها وتفصيلها، وأذن له الله تعالى أن يبين منها ما هو موضع العبرة للناس في شؤون الصلاح والعدل، وفي عجيب صنع الله تعالى في اختلاف أحوال الخلق، فكان أحبار اليهود منفردين بمعرفة إجماليّة عن ذلك، فلذلك كان توجيه اليهود! ولم يتجاوز القرآن الكريم ذكر هذا الرجل بأكثر من لقبه المشتهر به إلى تعيين اسمه وبلاده وقومه، لأن ذلك من شؤون أهل التاريخ والقصص، وليس من أغراض القرآن، فكان منه الاقتصار على ما يفيد الأمّة من هذه القصّة عبرة حكميّة وخلقيّة، فقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكرًا}! روى الزبير بن بكّار وسفيان بن عيينة في جامعه والضياء المقدسي في صحيحه (¬1)، كلاهما من طريق آخر بسند صحيح -كما قال الحافظ- عن أبي الطفيل أن ابن الكوّاء، قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أخبرني عن ذي القرنين نبيًّا كان أم ملِكاً؟ قال: لم يكن نبيًّا ولا ملِكاً، ولكن كان عبداً صالحاً أحبّ الله فأحبَّه، ونصح لله فنصحه .. ومعلوم أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي، ومن البديهي أنه لا يجوز محاكمته إلى التاريخ لسببين واضحين: (¬2) أولهما: أن التاريخ مولود حديث العهد، فاتته أحداث لا تُحصى في تاريخ البشريّة، لم يعلم عنها شيئاً، والقرآن يروي بعض هذه الأحداث التي ليس لدى التاريخ علم بها! ¬

_ (¬1) سبل الهدى والرشاد: 2: 348 بتصرف. (¬2) في ظلال القرآن: 4: 2290 وما بعدها.

وثانيهما: أن التاريخ -وإن وعى بعض هذه الأحداث- هو عمل من أعمال البشر القاصرة يصيبه ما يصيب جميع أعمال البشر من القصور والخطأ والتحريف، ونحن نشهد في زماننا هذا الذي تيسَّرت فيه أعمال الاتصال ووسائل الفحص، أن الخبر الواحد أو الحادث الواحد يروى على أوجه شتى، ويُنظر إليه من زوايا مختلفة، ويفسّر تفسيرات متناقضة، ومن مثل هذا الركام يصنع التاريخ، مهما قيل بعد ذلك في التمحيص والتدقيق! فمجرد الكلام عن استفتاء التاريخ فيما جاء به القرآن الكريم من القصص كلام تنكره القواعد العلمية المقرّرة التي ارتضاها البشر، قبل أن تنكره العقيدة التي تقرّر أن القرآن هو القول الفصل، واستفتاء التاريخ في هذا كلام لا يقول به مؤمن بالقرآن، ولا مؤمن بوسائل البحث العلمي على السواء، إنما هو مراء! لقد سأل سائلون عن ذي القرنين .. سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأوحى الله إليه بما هو وارد هنا من سيرته، وليس أمامنا مصدر آخر غير القرآن في السيرة، فنحن لا نملك التوسّع فيها بغير علم، وقد وردت في التفاسير أقوال كثيرة، ولكنها لا تعتمد على يقين، وينبغي أن تؤخذ بحذر، لما فيها من إسرائيليّات وأساطير! وقد سجل السياق القرآني لذي القرنين ثلاث رحلات: واحدة إلى المغرب! وواحدة إلى المشرق! وواحدة إلى مكان بين السدّين! ويبدأ الحديث عن ذي القرنين بشيء عنه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)}!

لقد مكّن الله له في الأرض، فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم، ويسّر له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع .. وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكّنوا فيه في هذه الحياة {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} ومضى في وجه مما هو ميسَّر له، وسلك طريقه إلى الغرب! {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا} ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس عنده وراء الأفق، وهو يختلف بالنسبة للمواضع، فبعضها يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف جبل، وبعضها يرى أنها تغرب في الماء كما في المحيطات الواسعة والبحار، وبعضها يرى أنها تغرب في الرمال إذا كان في صحراء مكشوفة على مدّ البصر! والظاهر أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي -وكان يسمّى بحر الظلمات ويظن أن اليابسة تنتهي عنده- فرآى الشمس تغرب فيه! والأرجح أنه كان عند مصبّ أحد الأنهار، حيث تكثر الأعشاب ويتجمع حولها طين لزج هو الحمأ، وتوجد البرك وكأنها عيون الماء .. فرأى الشمس تغرب هناك {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}. ولكن يتعذّر علينا تحديد المكان، وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في تحديده، وكل قول غير هذا ليس مأموناً؛ لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح! عند هذه الحمئة وجد ذو القرنين قوماً: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)}

7 - دستور الحكم الصالح

وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام (¬1)، أي ألقينا في نفسه تردّداً بين أن يبادر استئصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل! {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)}. 7 - دستور الحكم الصالح: وهكذا أعلن دستوره في معاملة البلاد المفتوحة .. أعلن للمعتدين الظالمين عذابه الدنيوي وعقابه، وأنهم بعد ذلك يردّون إلى ربهم فيعذبهم عذاباً {نُكْرًا}! أما المؤمنون الصالحون فلهم الجزاء الحسن، والمعاملة الطيّبة، والتكريم والمعونة والتيسير! وهذا هو دستور الحكم الصالح. فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء .. وحين يجد المحسنُ في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسناً، ومكاناً كريماً وعوناً وتيسيراً، ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة .. عندئذ يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج .. أما حين يضطرب ميزان الحكم فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم، مقدّمون في الدولة، وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون، فعندئذ تتحوّل السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد، ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد! ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 6: 28.

ثم عاد ذو القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق، ممكناً له في الأرض، ميسَّرة له الأسباب: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} وما قيل عن مغرب الشمس يُقال عن مطلعها، فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي، والقرآن لم يحدّد المكان. ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذين وجدهم ذو القرنين هناك: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)} أي أنها أرض مكشوفة، لا تحجبها عن الشمس مرتفعات ولا أشجار، فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر .. وهذا الوصف ينطبق على الصحاري والسهوب الواسعة، فهو لا يحدّد مكاناً بعينه، وكل ما نرجحه أن هذا المكان كان في أقصى الشرق، حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على هذه الأرض المستوية المكشوفة، وقد يكون ذلك على شاطئ إفريقيا الشرقي، وهناك احتمال لأن يكون المقصود بقوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أنهم قوم عراة الأجسام لم نجعل لهم ستراً من الشمس! ولقد أعلن ذو القرنين من قبل دستوره في الحكم، فلم يتكرّر بيانه هنا، ولا تصرّفه في رحلة المشرق، لأنه معروف من قبل، وقد علم الله كل ما لديه من أفكار واتجاهات! ونبصر ظاهرة التناسق الفني في العرض .. فإن المشهد الذي يعرضه السياق مشهد مكشوف في الطبيعة: الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر، وكذلك ضمير ذي القرنين ونواياه كلها مكشوفة لعلم الله .. وهكذا يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ضمير ذي القرنين على طريقة التنسيق القرآني الدقيقة!

الطغاة

{(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93}. ولا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} ولا ما هما هذان السدان، كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدّين صناعيين، تفصلهما فجوة أو ممر، فوجد هنالك قوماً مختلفين: {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}. وعندما وجدوه فاتحاً قويًّا، توسّموا فيه القدرة والصلاح .. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدًّا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فساداً، ولا يقدرون هم على دفعهم وصدّهم .. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم! وتدور القصة وأطرافها ثلاثة: (¬1) الطغاة: ولا يظهرون أمامنا في القصة، ولا يشتركون فيها إلا من بعيد، كخطر قائم يهدّد سلامة الشعب الآخر. المستضعفون: الذين يتعرّضون لإغارة الطغاة. القائد بقوّته المؤمنة التي وضعها في خدمة العدل. ويدور الحوار بين القائد والشعب: ¬

_ (¬1) كتابنا: العمل والعمال بين الإسلام والنظم الوضعية العاصرة: 153 وما بعدها.

{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)} (الكهف). العرض المقدّم أن يجمع الشعب مالاً ليقدّمه إلى القائد، ليتولّى مسؤوليّة السدّ: عليهم المال، وعليه أن يوفّر المواد والعمل! ولكن القائد العادل لم يقبل هذا العرض، فليس مهمته مجرّد إنشاء سدّ، وإن كان يحول دون الطغيان، ويحتمي وراءه المستضعفون، فرد عليهم: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)}. ما مكّني فيه ربّي خير مما تعرضون عليَّ .. أريد منكم أن تشاركوني في بناء السدّ، أيديكم في يدي، وسواعدكم معي، وسنبني السدّ معاً متعاونين، وستبنون نفوسكم وأنتم تبنونه، وتجدون حقيقتكم وسط الجهد والعرق، لا أريد أن تبقى لكم أيد لا تحسن إلا تقديم المال .. والشكوى .. وانتظار من يحمل عنها مسؤوليتها، أريد أن تعملوا! وما أكرم قوله: {فَأَعِينُونِي} كأنه المحتاج إلى العون {بِقُوَّةٍ} كأنه المحتاج منهم، مع أنهم المحتاجون إلى العون والقوّة! هكذا نفخ فيهم القائد من روحه، أراهم أنهم قادرون على أن يعملوا .. وأن يعملوا بقوة: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أمر تجد فيه الدعوة التي تحسّها في قول الحق جلَّ شأنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} (البقرة)!

وفي سرعة ينتقل القائد من التوجيه العام إلى تحديد خطوط العمل: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قطع الحديد، اذهبوا وابحثوا عنها في أرضكم، وجّهوا ما بين أيديكم منها إلى الهدف الكبير، إلى بناء السدّ الذي يحول بينكم وبين أعدائكم! ولك أن تتصوَّر كيف تحوّل المستضعفون إلى أرضهم يثيرونها بحثاً عما فيها من معادن! لك أن تتصوّر الأيدي التي كانت لا تُحْسن إلا دفع الخراج وتقديم المال، تحاول أن تشتري به سلامتها إلى أيد خشنة طهّرهَا العمل! وهذه الجباهُ التي كانت تذل أمام طغيان يأجوج ومأجوج، انحنت على أرضها تخرج منها كنوزها من المعادن، وتستخرج في الوقت نفسه ذاتها، وتعثر على حقيقتها .. وتجلّت فيها طاقة كبيرة كانت مقهورة تحت أطباق الذل! لقد أعانها القائد على أن تكتشف ذاتها عندما وجهها إلى العمل الدائب، والاعتماد على النفس، وعلى أساس من الإيمان والتعاون الواعي! ويتجمع الحديد ليسدّ بين الجبلين، ويرتفع صوت القائد: {انفُخُوا} كلمة واحدة آمرة! لقد نفخ فيهم القائد من روحه فاندفعوا إلى العمل! وها هم ينفخون الحديد الخامد فيلتهب كما التهبت نفوسهم، ثم يرتفع صوته الآمر مرة أخرى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)} نحاساً مذاباً .. فكان هناك مجموعة أخرى كانت مختصة بإعداد النحاس المصهور في نفس الوقت الذي كانت فيه المجموعة الأولى مكلّفة بإعداد الحديد ثم صهره، حتى تجعله

ناراً، وفي مرحلة معيّنة من مراحل العمل يصبّ القائد النحاس المصهور على الحديد الملتهب! هنا يصبح السدّ قطعة واحدة، كما يصبح الشعب سبيكة واحدة، عن طريق العمل الدائب، وارتفاع معنوياته، وعمله المنظم من أجل هدف كبير، مع تماسك السدّ، وتماسك الشعب! هذا بالصهر! وهذا بالعمل! وبعد أن يفرغ القائد والشعب من الإنشاء ينتقل إلى مرحلة ختاميّة، هي اختبار العمل بعد إتمامه، ويأمرهم القائد: حاولوا أن تتسلّلوه، حاولوا أن تخترقوه ونقرأ التسجيل الإلهي لهذه المحاولة: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)}! وعندنا في اللغة العربيّة قاعدة أن زيادة المبنى في الكلمة تدل على زيادة المعنى، ولا شك أن محاولة صعود السد أيسر من محاولة اختراقه، ولهذا قال الله في الأولى: {فَمَا اسْطَاعُوا}، وفي الثانية: {وَمَا اسْتَطَاعُوا} بزيادة حرف التاء! وبعد هذا كله يرتفع صوت القائد: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} إيمان يرد الأمر فيه إلى الله تعالى، دون انتظار ثناء منهم، أن فتح أمامهم طريق العمل الجاد المشترك من أجل هدف كبير! ونبصر رحمة الله تمثّلت في تحوّل أمة من شعار: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} إلى أمة شعارها: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}

أمة لا تشتري سلامتها، ولكن تصنع سلامتها! أمة لا تشتري السدّ، ولكن تصنع السدّ! وقيادة تنفخ في الأمة فاعليّة وإيجابيّة، تستطيع بهما أن تتحوّل إلى أرضها تبحث فيها عن كنوزها، وتكتشف ذاتها من خلال العمل! أمّة تتحوّل إلى جيش عمل منظّم عالم بخبايا أرضه، يقف أمام النار الملتهبة. ويرفع السد معتمداً على ربّه، متجمعاً وراء قيادته، منظّماً صفَّه، ومحدّداً مراحل العمل وتوقيته الدقيق! الاعتماد على النفس رحمة من ربّي! تنظيم العمل رحمة من ربّي! صهر الحديث والنحاس رحمة من ربّي! اختبار العمل بعد الانتهاء منه رحمة من ربّي! وهكذا تتمثّل رحمة الله عملاً إيجابياً، ومشروعات تقيمها الإرادة المؤمنة الواعية، والجموع المنظمة إلى حياة أفضل! وهكذا يتمثل دستور الحكم الصالح، ومنهج العمل الصالح .. وحين يجد العامل المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسناً، ومكاناً كريماً، وعوناً وتيسيراً .. ويجد المعتدي على دستور الحكم الصالح، ومنهج العمل الصالح، جزاء إفساده عقوبة زاجرة .. يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإعداد والعمل والإنتاج، والابتكار والإبداع. حيث استخدمت طريقة هذا السدّ حديثاً في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته

8 - إنذار يهود برسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وصلابته، وكان هذا على يد ذي القرنين قبل أن يعرف العلم البشري ذلك بقرون لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وحيث يتمثّل النموذج الطيب للحاكم الصالح، الذي سار في الأرض شرقاً وغرباً، دون أن يتكبّر أو يتجبّر، ودون أن يطغى أو يتبطّر، ودون أن يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والشعوب، ودون أن يعامل الشعوب معاملة الرقيق، كما يفعل المستعمرون في عالمنا المعاصر شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً .. وإنما قام هذا الرجل الصالح، الخبير في بناء السدّ، ينشر العدل، ودرء العدوان، والدعوة إلى التخطيط العلميّ الفذ، والعمل المتقن، والإنتاج والإبداع! ولسنا في حاجة إلى بيان مكانة التخطيط في الدعوة، والهجرة، والجهاد .. فذلك ما سنعرض له في حينه بعون الله تعالى وتوفيقه! 8 - إنذار يهود برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإذا كانت تلك الآيات قد حملت إلينا الإجابة على تلك الأسئلة -كما عرفنا- فلماذا لم يؤمن اليهود برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهنا يطالعنا إنذار يهود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قاله ابن إسحاق (¬1): حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: (إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا، لمَا كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 270.

قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعّدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنَّا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزّل هؤلاء الآيات من البقرة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} (البقرة). وقال: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود ابن لبيده أخي بني عبد الأشهل، عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان سلمة من أصحاب بدر، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوماً من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنًّا، عليّ بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي -فذكر القيامة والبعث، والحساب والميزان، والجنّة والنّار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يَرَوْن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان! أوَ ترى هذا كائناً، أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنّة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلف به، ولَوَدّ أن له بحظّه من تلك النّار أعظم تَنُّور في الدّار، يُحمونه ثم يُدخلونه إيّاه فَيُطَيِّنُونَهُ عليه، بأن يَنْجُو من تلك النّار غداً، فقالوا له: وَيْحَكَ يا فلان! فما آية ذلك؟ قال: نبيٌّ مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكّة واليمن، فقالوا: ومتَى تراه؟ قال: فنظر إليّ، وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يَسْتَنْفِد هذا الغلام عمره يُدركه، قال سلمة: فوالله ما

ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمداً رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حَيٌّ بين أظهرنا، فآمنّا به وكفر به بغياً وحسَداً، قال: فقلنا له: ويْحك يا فلان! ألَسْتَ الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به! (¬1) وقال: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة، قال لي: هل تدري عَمَّ كان إسلام ثَعْلَبَة بن سَعْيَة، وأسيد بن سَعْيَة، وأسدُ ابن عُبَيْد، نفرٍ من بني هَدْل، إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليّتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام، قال: قلت: لا والله، قال: فإن رجلاً من يهود من أهل الشام يقال له: ابن الهَيّبان، قدم علينا قُبيل الإسلام بسنين، فَحَلّ بين أظهُرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قطّ لا يُصلّي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنّا إذا قَحطَ عنّا المطر قلنا له: اخرج يا بن الهَيَّبان فاستسْق لنا، فيقول: لا والله، حتى تَقدِّموا بين يدي مَخْرَجكم صدقة، فنقول له: كم، فيقول: صاعاً من تَمْر، أو مُدَّيْن من شعير، قال: فنخرجها، ثم يَخْرج بنا إلى ظاهرة حَرَّتنا فيستسقي الله لنا. فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمرّ السحاب ونُسقى، قَد فعلَ ذلك غير مرّة ولا مرّتين ولا ثلاث، قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلمّا عرف أنه مَيّتٌ قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم، قال: فإنّي إنما قدمت هذه البلدة أَتوكّفُ خروج نبيّ قد أظلّ زمانه، وهذه البلدة مُهَاجره، فكنت أرجو أن يُبعث فأتبعه، وقد أظلّكُم زمانه، فلا تُسْبَقَنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء، ¬

_ (¬1) السابق: 271، وصرح ابن إسحاق بالسماع، وسنده متصل ورجاله ثقات، وأحمد: 3: 467، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 74 - 75، والبيهقي: الدلائل: 2: 78 - 79، والطبراني الكبير: 7: 41 - 42، وقال الهيثمي: رجاله ثقات: المجمع: 8: 24، والحاكم: 3: 417 - 418 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي!

وسبْي الذراري والنساء ممّن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصر بني قريظة قَال هؤلاء الفتْيَة، وكانوا شباباً، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم! قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود! (¬1) ويطول بنا الحديث لو حاولنا مزيداً من إنذار يهود برسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام (¬2) وإبائهم الدخول فيه، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم .. فهنا يفضحهم القرآن، ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم، ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق، الذي لا يخضع لأهوائهم! وقد واجههم القرآن بالكثير من مواقفهم مع نبيّهم موسى عليه السلام، وقد آتاه الله الكتاب، وقد توالت رسلهم تترى، يقفو بعضهم بعضاً، وكان آخرهم عيسى عليه السلام، وقد آتاه الله المعجزات البينات، وأيّده بروح القدس! وقد نزل فيهم -كما أسلفنا- قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 272 وصرح ابن إسحاق بالسماع، وفيه جهالة شيخ من بني قريظة، وأبو نعيم: "الدلائل": 23 - 24 باختلاف يسير، والبيهقي: الدلائل: 2: 80 - 81 من طريق ابن إسحاق. (¬2) في ظلال القرآن: 1: 88 وما بعدها بتصرف.

مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} (البقرة). وكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟ كان هذا الذي يستنكره عليهم، والذي لا يملكون هم إنكاره، وكتبهم ذاتها تقرّره وتشهد به: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} (البقرة)! ومحاولهُ إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارئ والنزوة المتقلّبة، وظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة، وانطمست فيها عدالة النطق الإنسانيّ ذاته .. المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت، غير المصدر الإنسانيّ المتقلّب، مصدر لا يميل مع الهوى، ولا تغلبه النزوة .. وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب، والصحة والمرض، والنزوة والهوى، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى! ولقد قصّ الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذّرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض، والأمانة التي ناطها بهم الله، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، وطرحوا منهج الله وشريعته، وحكموا أهواءهم وشهواتهم، وقتلوا فريقاً من الهداة، وكذّبوا فريقاً، ضربهم الله بما ضرب به هؤلاء من قبل من الفرقة والضعف، والذلّة والهوان، والشقاء والتعاسة .. إلا أن يستجيبوا لله ورسوله، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم، وإلا أن

يأخذوه بقوّة، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون! ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم، يبيّنه ويقرّره، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الأخيرة والشعبي الخاتم، فإذا هم هم، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}! ويعنف الأسلوب ويشتد، ويتحوّل -في بعض المواضع- إلى صواعق وحمم .. يجبههم جبهاً شديداً بما قالوا وما فعلوا، ويجرّدهم من كل حججهم ومعاذيرهم، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة. وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الحق، وحسدهم أن يؤتي الله أحداً من فضله، جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم! قالوا: إن قلوبنا مغلقة، لا تنفد إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد! قالوها تيئيساً لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، من دعوتهم إلى الدّين القيّم، أو تعليلاً لعدم استجابتهم لدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -! ويطالعنا الرد على قولهم: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم، فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} أي قليلاً ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حقّ عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم .. أو هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريراً لحقيقتهم .. وكلا المعنين يتفق مع المناسبة والموضوع!

وقد كان كفرهم قبيحاً، لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه، واستفتحوا به على الكافرين، أي ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم، وقد جاءهم بكتاب مصدّق لما معهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}! وهو تصرّف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته .. ومن ثم يصبّ عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}! ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه، بعد أن يقرّر خسارة الصفقة التي اختاروها: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}! بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا .. لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما، يكثر أو يقل، أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها، ولكن هذا هو الواقع، وإن بدا تمثيلاً وتصويراً! لقد خسروا أنفسهم في الدنيا، فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز .. ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة، بما ينتظرهم من العذاب المهين .. وبماذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه! وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وكان هذا بغياً منهم وظلماً، فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب، وهناك ينتظرهم عذاب مهين، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم!

وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود، طبيعة الأثرة الضيّقة التي تحيا في نطاق من التعصّب شديد، وتحسّ أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها، ولا تشعر بالوشيجة الإنسانيّة الكبرى، التي تربط البشريّة جميعاً! وهكذا عاش اليهود في عزلة يحسّون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة، ويتربّصون بالبشريّة الدوائر، ويكنّون للناس البغضاء، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن، ويذيقون البشريّة رجع هذه الأحقاد فتناً يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروباً يثيرونها ليأخذوا من ورائها الغنائم، ويرووا بها أحقادهم التي لا تنطفئ، وهلاكاً يسلطونه على الناس .. وهذا الشرِّ كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة: {بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}! {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}. وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن والإسلام .. كانوا يقولون: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وهو وحده الحق، ثم يكفرون بما وراءه، سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -! والقرآن الكريِم يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}! وما لهم وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدّقاً لما معهم! ماداموا لم يستأثروا هم به؟

إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعتدون لعصيبّتهم .. لا بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به .. ويلقن الله خاتم النبييِّن - صلى الله عليه وسلم - أن يجبههم بهذه الحقيقة، كشفاً لموقفهم وفضحاً لدعواهم: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}! ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصوّرين العجيبين: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}! إنهم قالوا: {سَمِعْنَا} ولم يقولوا {عَصَيْنَا}، ففيم إذن حكايته هذا القول عنهم هنا؟ إنه التصوير الحيّ للواقع الصامت كأنه واقع ناطق .. لقد قالوا بأفواههم {سَمِعْنَا}، وقالوا بأعمالهم {عَصَيْنَا}، والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته، وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق .. وهذا التصوير الحيّ للواقع يومئ إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل .. إن العمل هو المعتبر، أو الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، ومناط الحكم والتقدير! فأما الصورة الغليظة التي يرسمها: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}! فيظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبّهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشراباً في القلوب! هنا تبدو قيمة التعبير القرآنيّ المصوّر، بالقياس إلى التعبير الذهني المفسّر .. إنه التصوير .. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل! لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة .. (إنهم شعب الله المختار) .. إنهم

وحدهم المهتدون .. إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة .. إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة نصيب! وهذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لا نصيب لهم في الآخرة .. والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووِعود القرآن لهم! وهنا يطالعنا قوله جلّ شأنه: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة). ويعقب على هذا التحدّي بتقرير أنهم لن يطلبو الموت، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، ويخشون أن يستجيب الله لهم فيأخذهم .. ويعلمون أن ما قدّموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسرو الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدّموه .. ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدّي، فهم أحرص الناس على حياة، وهم والمشركون في هذا سواء: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} (البقرة). لن يتمنّوه؛ لأن ما قدّمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب، ولا يؤمنهم من عقاب .. إنه مدّخر لهم هناك، والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون! وليس هذا فحسب .. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصوّرها القرآن صورة تفيض بالزراية، وتنضح بالتحقير والمهانة: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أيّة حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميّزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام!

إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء، وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة، فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس .. وعنت الجباه جبناً وحرصاً على حياة .. أيّ حياة! {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}! يودّ أحدهم لو يعمرّ ألف سنة، ذلك لأنهم لا يرجون لقاء الله، ولا يحسّون أن لهم حياة غير هذه الحياة .. وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحسّ النفس الإنسانيّة أنها لا تتّصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة .. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة .. نعمة يفيضها الإيمان على القلب .. نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني، المحدود الأجل الواسع الأمل، وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلوة، إلا وحقيقة الحياة في روحه قاصرة أو مطموسة .. فالإيمان بالآخرة -فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق، وجزائه الأوفى، هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيويّة، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض، إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق، الذي لا يعلم إلا الله مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يِتجه صعداً إلى جوار الله! ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لخاتم رسله - صلى الله عليه وسلم - يتحدّاهم به، ويعلن الحقيقة التي يتضمنها على رؤوس الأشهاد: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة). وفي قصة هذا التحدّي نطلع على سمة أخرى من سمات يهود .. سمة

عجيبة حقًّا .. لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حدّ، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل .. لقد سمعوا أن جبريل عليه السلام ينزل بالوحي من عند الله على خاتم النبيين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. ولمّا كان عداؤهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لجّ بهم الضغن أن يخترعوا قصّةً واهيةً، وحجّةً فارغةً، فيزعموا أن جبريل عدوّهم؛ لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب، وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من جراء صاحبه جبريل! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا، فميكائيل ينزل بالرخاء والمطر والخصب! إنها الحماقة المضحكة، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة، وإلا فما بالهم يعادون جبريل؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدّهم، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصي الله ما أمره! {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ}. فما كان له من هوى شخصي، ولا إرادة ذاتيّة في أن ينزل على قلبك .. إنما هو منفذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك .. والقلب هو موضع التلقّي، وهو الذي يفقه بعد التلقّي، ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ .. والقلب يعبر به في القرآن عن قوّة الإدراك جملة، وليس هو العضلة المعروفة بطبيعة الحال: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}! والقرآن يصدّق في عمومه ما سبقه من الكتب السماويّة، فأساس دين الله

واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الرسالات الإلهيّة .. وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة، التي تتفتح له وتستجيب .. وهذه حقيقة ينبغي إبرازها! إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس، وتفتح له من أبواب المعرفة، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان، ومن ثم يجد الهدى، كما يستروح فيه البشرى، وكذلك نجد القرآن يكرّر هذه الحقيقة في مناسبات شتى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} (البقرة) {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} (يونس) {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89]. وبنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون .. وكانوا -كعادتهم في تفريق الدّين وتفريق الرسل- قد فرّقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم، فقالوا: إنهم على صداقة مع ميكائيل، أما جبريل فلا! لذلك جمعت الآية التالية جبريل وميكائيل وملائكة الله ورسله، لبيان وحدة الجميع، ولإعلان أن من عادى أحداً منهم فقد عاداهم جميعاً، وعادى الله سبحانه، فعاداه الله، فهو من الكافرين: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} (البقرة). ثم يتجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثبته على ما أنزل عليه من الحق، وما آتاه من الآيات البيّنات، مقرّراً أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون المنحرفون، ويندّد ببني إسرائيل الذين لا يستقيمون على عهد .. سواء عهودهم مع ربهم وأنبيائهم من قبل، أو عهودهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يندّد بنبذهم لكتاب الله الذي جاء مصدّقاً لما معهم:

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 99 - 101]! لقد كشف القرآن هنا عن علّة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البيّنات التي أنزلها الله .. إنه الفسوق وانحراف الفطرة، فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات، وهي تفرض نفسها فرضاً على القلب المستقيم .. فإذا كفر بها اليهود أو غيرهم فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة، ولكنهم لأنهم هم فاسدو الفطرة فاسقون! ثم يلتفت إلى المسلمين، وإلى الناس عامة، مندّداً بهؤلاء اليهود، كاشفاً عن سمة من سماتهم الوبيئة .. إنهم جماعة مفكّكة الأهواء -رغم تعصّبها الذميم- فهم لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد، ولا يستمسكون بعروة، ومع أنهم متعصّبون لأنفسهم وجنسهم، يكرهون أن يمنح الله شيئاً من فضله لسواهم، إلا أنهم مع هذا لا يستمسكون بوحدة، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تندّ منهم فرقة فتنقض ما أبرموا، وتخرج على ما أجمعوا: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}. وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد، وأخيراً نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة -كما سيأتي- وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معيّنة .. بينما

كانوا هم أوّل من أعان عليه أعداءه، وأوّل من عاب الإِسلام، وحاولوا بثّ الفرقة والفتنة في الصفّ المسلم، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه! وبئس هي خلّة من اليهود! تقابلها في المسلمين خلّة أخرى على النقيض! وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث طويل عن إبراهيم التّيْمي عن أبيه قال: قال علي -رضي الله عنه -: .. وفيه: "وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفٌ ولا عدلاٌ" (¬1). وهكذا نبصر المسلمين تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد، ولا ينقص أحد عقده إذا أبرم، ولقد كتب أبو عبيدة رضي الله عنه، وهو قائد لجيش عمر -رضي الله عنه -، وهو الخليفة يقول: إن عبداً من أهل بلد بالعراق، وسأله رأيه، فكتب إليه عمر: إن الله عظم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا .. فوالهم وانصرفوا عنهم.! وتلك سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة .. وذلك فرق ما بين اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101]! ¬

_ (¬1) البخاري: 85 - الفرائض (6755)، وانظر (3172)، ومسلم (1370)، وأحمد: 1: 81، والترمذي (2127)، وأبو داود (2034)، وأبو يعلى (263، 296)، والبيهقي: 5: 196، والبغوي (2009)، وابن حبان (3716، 3717).

9 - {أشد الناس عداوة}

وكان هذا مظهراً من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه، فلقد ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم -كما سبق أن عرفنا- أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه، وأن ينصروه ويحترموه، فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، خاسوا بذلك العهد، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، يستوي في ذلك النبذ كتاب الله الذي معهم، والذي يتضمّن البشرى بهذا النبيّ وقد نبذوه، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد نبذوه أيضاً! وفي الآية ما فيها من سخرية خفيّة، يحملها ذلك النصّ على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلو كانوا هم المشركين الأمييّن لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوماً لأنهم لا يعرفون! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب! هم الذين عرفوا الرسالات والرسل! هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور .. وماذا صنعوا؟! إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! .. والمقصود طبعاً أنهم جحدوه، وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم، ولكن التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحسّ، ويمثل عملهم بحركة ماديّة مخيّلة، تصوّر هذا التصوّر تصويراً بشعاً زريًّا، ينضح بالكنود والجحود، ويتّسم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحّة، ويدع الخيال يتمثّل هذه الحركة العنيفة .. حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور! 9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}: ويطالعنا قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} [المائدة: 82]!

لقد كانت الأمة المسلمة تتلقّى هذا القرآن الكريم لتقرّر، وفق توجيهاته وتقريراته (¬1) -خطّتها وحركتها، ولتتّخذ وفق هذه التوجيهات والتقريرات- مواقفها من الناس جميعاً .. ومن ثم كانت تَغْلِب ولا تُغلَب؛ لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربّانيّة المباشرة، مذ كان نبيها - صلى الله عليه وسلم - يقودها وفق الإرشادات الربّانيّة العلويّة! وهذه الإرشادات الربّانيّة العلوّية لا تزال، والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب العزيز لا تزال، والذين يحملون دعوة الإِسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقّوا هذه التقريرات وتلك الإرشارات الربَّانيّة العلويّة كأنهم يخاطبون بها اللحظة، ليقرّروا على ضوئها مواقفهم من شتّى طوائف الناس، وسن شتّى المذاهب والمعتقدات والآراء، ومن شتّى الأوضاع والأنظمة وشتّى القيمِ والموازين .. اليوم وغدًا وإلى آخر الزمان! {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}! إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن تكون خطاباً عامًّا خرج مخرج العموم؛ لأنه يتضمّن أمراً ظاهراً مكشوفاً يجده كل إنسان، وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم .. وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهري الذي تؤدّيه!، فإذا تقرّر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا، في صدد أنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، وأن شدّة عداوتهم ظاهرة مكشوفة، وأمر مقرّر، يراه كل من يرى، ويجده كل من يتأمل! ¬

_ (¬1) السابق: 2: 959 وما بعدها بتصرف.

نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين، ولا يفيد تعقيباً ولا ترتيباً .. ولكن تقديم اليهود هنا، حيث يقوم الظن بأنهم أقلّ عداوة للذين آمنوا من المشركين -بما أنهم أصلاً أهل كتاب- يجعل لهذا التقديم شأناً خاصًّا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي! إنه -على الأقل- يوجّه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغيّر من الحقيقة الواقعة، وهي أنهم كالذين أشركوا أشدّ عداوةً للذين آمنوا! .. ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدّة العداء على الذين أشركوا! وحين يستأنس الإنسان في تصير هذا التقرير الربّاني بالواقع التاريخيّ المشهود منذ مولد الإِسلام حتى اللحظة الحاضرة، فإنه لا يتردّد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائماً أشدّ وأقسى وأعمق إصراراً، وأطول أمداً، من عداء الذين أشركوا! لقد واجه اليهود الإِسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإِسلام بالمدينة، وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمّة .. وتضمّن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنّها اليهود على الإِسلام، وعلى رسول الإِسلام - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الأمة المسلمة في تاريخه" الطويل، والتي لم تَخْبُ لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرناً، ولا تزال حتى اللحظة يتسعّر أوارها في أرجاء الأرض جميعاً! ولمَّا غلبهم الإِسلام بقوّة الحق -يوم أن كان المسلمون أهلاً للنصر- استداروا يكيدون له بدسّ المفتريات في كتبه -لم يسلم من هذا الدسّ إلا كتاب

الله الذي تكفّل بحفظه سبحانه- ويكيدون له بالدسّ بين صفوف المسلمين، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإِسلام، ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار، ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض .. حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإِسلام في كل شبر على وجه الأرض، وهم الذين يستخدمون الصليبيّة والوثنّية في هذه الحرب الشاملة، وهم الذين يقيمون الأوضاع، ويصنعون الأبطال الذين يتسمّون بأسماء المسلمين، ويشنّونها حرباً صليبيةً صهيونيّةً هنا وهناك! وصدق الله العظيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}! إن الذي ألّب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة، وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم، وبين قريش في مكّة، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة .. (يهودي)! والذي ألّب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في استشهاد عثمان -رضي الله عنه-، وما تلاها من النكبات .. (يهودي)! والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الروايات والسير .. (يهودي)! ثم إن الذي كان وراء النعرات القوميّة في دولة الخلافة الأخيرة، ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل (الشريعة) عن الحكم، واستبدال (الدستور) بها في عهد (السلطان عبد الحميد)، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي (أتاتورك!) .. (يهودي)!

وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإِسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه (يهودي)! ثم لقد كان وراء النزعة الماديّة الإلحاديّة .. (يهودي)! ووراء النزعة الجنسيّة (يهودي)! ووراء معظم النظريات الهدّامة لكل المقدسات والصوابط (يهود)! (¬1) ولقد كانت الحرب التي شنّها اليهود على الإِسلام أطول أمداً، وأعرض مجالاً، من تلك التي شنّها عليه المشركون والوثنيّون -على ضراوتها- قديماً وحديثاً! والمعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاماً في جملتها .. وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول! أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنيّة الهنديّة والإِسلام ضراوة ظاهرة، ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونيّة العالميَّة التي تعدّ الماركسيّة مجرّد فرع لها، وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإِسلام في طول الأمد، وعرض المجال، إلا معركة الصليبيّة -كما سنرى- فيما يأتي! فإذا سمعنا الله تعالى يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}! ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا .. ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي، فإننا ندرك طرفاً من حكمة الله في تقديم اليهود على الذين أشركوا! ¬

_ (¬1) انظر فصل: (اليهود الثلاثة: ماركس وفرويد ودوركايم في كتاب: التطور والثبات: محمَّد قطب، دار الشروق!

إنهم هذه الجبلّة النكدة الشرّيرة، التي ينغل الحقد في صدورها على الإِسلام وعلى نبيّ الإِسلام، فيحذر الله نبيّه وأهل دينه منها .. ولم يغلب هذه الجبلّة الشرّيرة إلا الإِسلام وأهله يوم أن كانوا أهله! ولن يخلّص العالم من هذه الجبلّة النكدة إلا الإِسلام يوم يفيء أهله إليه! {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}! ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالاً للشك في أنها تصوّر حالة معيّنةً، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعيّن، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها، ويجعلون منها مادّة للتميّع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة، وموقف هذه المعسكرات منهم .. لذا نجد من الضروري أن نتابع تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص! إن الحالة التي تصوّرها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، هم أقرب مودّة للذين آمنوا: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}! ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحدّ، ولا يدع الأمر مجهلًا ومعمّماً على كل الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إنما يمضي فيصوّر موقف هذه الفئة التي يعنيها: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة: 83، 84]!

فهذا مشهد حيّ يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس، الذين هم أقرب مودّة للذين آمنوا .. إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزّت مشاعرهم، ولانت قلوبهم، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيراً عن التأثر العميق القويّ بالحق الذي سمعوه، والذي لا يجدون له في أوّل الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير .. وهي حالة معروفة في النفس البشرية، حين يبلغ بها التأثّر درجةً أعلى من أن يفي بها القول، فيفيض الدمع، ليؤدّي ما لا يؤدّيه القول، وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق القوي! ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع، ولا يقفون موقفاً سلبيًّا من الحق الذي تأثّروا به هذا التأثّر عند سماع القرآن، والشعور بالحق الذي يحمله، والإحساس بما له من سلطان .. إنهم لا يقفون موقف المتأثّر الذي تفيض عيناه بالدمع، ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدّمون ليتخذوا من هذا الحق موقفاً إيجابيًّا صريحاً .. موقف القبول لهذا الحق، والإيمان به، والإذعان لسلطانه، وإعلان هذا الإيمان، وهذا الإذعان، في لهجة قويّة عميقة صريحة: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}! إنهم أوّلاً يعلنون لربّهم ايمانهم بهذا الحق الذي عرفوه، ثم يدعونه سبحانه أن يضمّهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق، وأن يسلكهم في سلك الأمّة القائمة عليه في الأرض .. الأمّة المسلمة، التي تشهد لهذا الحق بأنه الحق، وتؤدّي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر .. فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمّون إلى هذه الأمّة المسلمة، ويشهدون ربّهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعه هذه الأمة، ويدعونه سبحانه أن يكتبهم في سجلّها .. ثم هم

بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوّق عن الإيمان بالله، أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لا يؤمنوا به، ولا يأملوا بهذا الإيمان أن يقبلهم ربهم، ويرفع مقامهم عنده، فيدخلهم مع القوم الصالحين: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)}! فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق .. موقف الاستماع والمعرفة، ثم التأثّر الغامر، والإيمان الجاهر .. ثم الإِسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة، مع دعاء الله سبحانه أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق، الذين يؤدّون شهادتهم سلوكًا وعملًا وجهاداً لإقراره في الأرض، والتمكين له في حياة الناس .. ثم هو وضوح الطريق في تقديرهم وتوحدّه، بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد، هو طريق الإيمان بالله، وبالحق الذي أنزله على رسوله، والأمل بعد ذلك في القبول عنده والرضوان! ولا يقف السياق القرآني عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودّة للذين آمنوا من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحق، وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح، بالإيمان المعلن، والانضمام إلى الصفّ المسلم، والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال، والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصفّ الشاهد لهذا الحق على هذا النحو، مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين! لا يقف السياق عند هذا الحدّ في بيان أمر هؤلاء الذين يقرّر أنهم أقرب مودّة للذين آمنوا، بل يتابع خطاه لتكملة الصورة، ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلاً: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}!

لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم، وصدق عزيمتهم على المضي في الطريق، وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدّين القيّم الذي دخلوا فيه، ولهذا الصفّ المسلم الذي اختاروه، واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة -بكل تكاليفها في النفس والمال- منّة يمنّ الله بها على من يشاء من عباده، واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونه إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضيّ فيه، ورجاءهم في ربّهم أنه يدخلهم مع القوم الصالحين! لقد علم الله منهم هذا كله، فقبل منهم قولهم، وكتب لهم الجنّة جزاء لهم، وشهد لهم سبحانه بأنهم محسنون، وأنه يجزيهم جزاء المحسنين: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}! والإحسان أعلى درجات الإيمان والإِسلام .. والله جلّ جلاله قد شهد لهذا الفريق من الناس بأنه من المحسنين! إنه فريق خاص محدّد الملامح، هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}! فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه، بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة، وهو فريق لا يتردّد في إعلان استجابته للدّين القيم، والانضمام للصف المسلم، والانضمام إليه بصفة خاصّة في تكاليف هذه العقيدة، وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها، والجهاد لإقرارها وتمكينها .. وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين! ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحدّ في تحديد ملامح هذا الفريق

المقصود من الناس الذين نجدهم أقرب مودّة للذين آمنوا، بل إنه ليمضي فيميّزه من الفريق الآخر من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}! ممن يسمعون هذا الحقّ فيكفرون به ويكذّبون، ولا يستجيبون له، ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}! (المائده)! والمقصود قطعاً بالذين كفروا وكذّبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ثم لا يستجيبون .. والقرآن الكريم يسمّيهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف، سواء في ذلك اليهود والنصارى، ويضمّهم إلى موكب الكقّار مع المشركين سواء، ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق، وفي موقف الامتناع عن الدخول في الدّين القيم الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه .. نجد هذا في مثل قول الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)} (البينة)! {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]! {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة)! {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (المائدة) فهو تعبير مألوف في القرآن الكريم، وحكم معهود .. وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، وللتفرقة بين موقف كل منهما تجاه الذين آمنوا، وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله .. هؤلاء

{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}! {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}! وليس كل من {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إذن داخلين في ذلك الحكم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن في دون تمامها .. إنما هذا الحكم مقصور على حالة معيّنة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضاً، ولا ملامحها مجهلة، ولا موقفها متلبّساً بموقف سواها في كثير ولا قليل! وقد وردت روايات في تحديد من هم النصارى المعنيّون بذلك، قال ابن كثير: قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم، وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنيّة، وقصّة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة -كما سيأتي- وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وقد بعثهم النجاشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. قال السدي: فهاجر النجاشي فمات في الطريق، وهذا من أفراد السدي، فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة، وصلّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة .. وتعددت الروايات في ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: ابن كثير: التفسير: 2: 85، والقرطبي: التفسير 60: 225، وتفسير المنار: 7: 2 وما بعدها.

10 - بين الصهيونية والصليبية

10 - بين الصهيونية والصليبيّة: ويطالعنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (المائدة)! وقوله جلّ شأنه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]! وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} (البقرة)! وقد صدّق الواقع التاريخي ما حذّر الله الأمّة المسلمة إياه، من اليهود والنصارى سواء! وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكرة للإسلام منذ اليوم الأوّل لهذا الدّين القيّم، في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة! وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإِسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم .. فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى الصليبييّن أنهم اتخذوا من الإِسلام موقف العداء منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- في هذه الدراسات تحت عنوان: (الرسول - صلى الله عليه وسلم - والنصارى وجهاً لوجه)! وحسبنا أن نذكر موقف العداء منذ واقعة (اليرموك) -كما سجل التاريخ-

بين جيش المسلمين وجيوش الروم- فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه، وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإِسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك، يلاقون من ظلمها الوبال! أما التيّار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط -إلا في الظاهر- منذ التقى الإِسلام والرومان على ضفاف اليرموك! لقد تجلّت أحقاد الصليبيّة على الإِسلام وأهله في الحروب الصليبيّة المشهورة طوال قرنين من الزمان .. كما تجلّت في حروب الإبادة التي شنّتها الصليبيّة على الإسلام والمسلمين في الأندلس .. ثم في حملات الاستعمار والتبشير على الممالك الإسلاميّة في إفريقيا أوّلاً ثم في العالم كله أخيراً! ولقد ظلّت الصهيونيّة العالميّة والصليبيّة العالميّة حليفتين في حرب الإِسلام -على كل ما بينهما في أحقاد- ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العلم الخبير: {بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}! حتى مزّقوا دولة الخلافة الأخيرة، ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدّين عروة عروة، وبعد أن أجهزوا على عروة (الحكم) ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على الباقي! ثم هاهم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنييّن، فيؤيّدون الوثنيّة حيثما وجدت ضدّ الدّين القيّم، عن طريق المساعدات المباشرة تارةً، وعن طريق المؤسسات الدوليّة التي يشرفون عليها تارةً أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على (كشمير) وموقف الصليبيّة منها ببعيد!

وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولّى سحق حركات الإحياء والبعث الإِسلاميّة في كل مكان على وجه الأرض، وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة، ودق الطبول من حولهم، ليستطيعوا الإجهاز على الإِسلام، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذي يلبسون أردية الأبطال! هذا موجز سريع لما سجّله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرناً، من مواقف الصهيونيَّة والصليبيّة تجاه الدّين القيّم، لا فرق بين هذه وتلك، ولا افتراق بين هذا المعسكر وذاك في الكيد للإسلام، والحقد عليه، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمان! وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً، فلا ينساقوا وراء حركات التميّع الخادعة أو المخدوعة .. دون متابعة لتقريرات القرآن الكريم عامة، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدّق هذا كله .. ثم تتخذ من ذلك وسيلةً لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد، الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها، وهي بصدد الضربة الموجهة إلى جذور العقيدة! إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة، مهما قلّ عددها وعدّتها، فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة، وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة، ولكن ضررهم لا يقلّ -حينئذ- عن ضرر أعدى الأعداء، بل إنه ليكون أشدّ ضرراً!

11 - معركة عقيدة

11 - معركة عقيدة: وعلينا أن ندرك أنها معركة عقيدة .. وقد استطاع اليهود ومن يشايعهم من النصارى ومن على شاكلتهم أن يقيموا لهم دولة، يساعدهم هؤلاء وأولئك بالأموال والأسلحة .. ! وهذا واقع أليم، استغله اليهود .. ومن ثم سجَّلت حرب 1967 ما سجَّلت مما يندى له الجبين، وقد كنت آنذاك وراء القضبان، في ليمان أبي زعبل، وليمان مزرعة طره!! وكان في مقدمة هذه الحرب -كما تناقلت وسائل الإعلام- بعض أحبارهم يقودون الدبابات التي قدمها لهم هؤلاء وأولئك، بينما أسقط المسلمون من حسابهم العامل الديني، والرباط الروحي، ووقفوا من المعركة موقف الشعارات القوميّة .. وكانت الهزيمة التي عاش المسلمون أحداثها المريرة! ومعلوم أن الأحزاب والحركات العربيّة العلمانيّة الملحدة قد أخفقت في جميع أعمالها؛ لأنها كانت منذ نشأتها -ولا تزال- تعمل بمعزل عن الشعوب المؤمنة! كما أنها عجزت عن إدراك الاختلاف الكبير بين الدّين القيّم الذي هو دين ودنيا، وعقيدة وجهاد، بين الكهانة التي أرغمت حكومات غير المسلمين على اعتناق العلمانيّة! هذا جانب، وجانب آخر مهم، وهو أنها تعرف تاريخ الإِسلام، وأنه دين ودولة، ولكنها تحاربه بتلك الشعارات البرّاقة والمبادئ الهدّامة! وعلينا أن نعود عوداً حميداً إلى فقه السيرة النبوية، ونربط الحاضر بالماضي، ونرى معالم قضيّتنا مع أحفاد القردة والخنازير واضحة، يصوّرها الكتاب

والسنة، وأنها ليست مجرّد صراع كما يدعيه الغافلون، ويسميه العابثون، بل معارك خاصة بهم في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ينطق بذلك القرآن الكريم، كما ينطق الواقع التاريخي، في القديم والحديث سواء! - ونرى اليهود في العصر الحاضر قد تجمّعوا في الأرض المقدّسة! - وهذا التجمع قد أفادنا، حيث تجمّعوا تحت راية عقيدتهم، وإن كانت قد أصابها التزييف والتحريف والتخريف! - وهذا يتطلب مواجهتهم تحت راية الدّين القيّم! - وأفادنا، حيث تملّكوا أسباب القوّة والبطش، كما يشهد الواقع الأليم! - وهذا يتطلب ضرورة الأخذ بكل الأسباب الممكنة، والأمة الإِسلاميّة تملك القدرة على ذلك! - وأفادنا، حيث رأيناهم قد تجمّعوا من كل أنحاء الدنيا، ليتحقق فيهم إذن الأبد الذي تحققّ منذ ظهوره، فبعث الله عليهم في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَن عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ من يَسُومهُمْ سوءَ الْعَذَابِ} (الأعراف)! وهنا تتحقق فيهم النبوءة الصادقة (¬1) في قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة، حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراء اليهودي: يا مسلم! هذا يهوديٌّ ورائي فاقتله". وفي رواية لمسلم عنه - صلى الله عليه وسلم -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه: 4: 2871 وما بعدها.

12 - إسلام عمر الفاروق

حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهوديّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهوديّ خلفي فتعالى فاقتله، إِلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود" (¬1). واليهود يعرفون هذا، ومن ثم فهم يزرعون حول ما يقيمون من مستوطنات شجر الغرقد، ولكن الوحي يذكر بأن النصر حق! وفي رواية عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقاتلكم اليهود، فَتُسَلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهوديّ ورائي فاقتله" (¬2). {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} (الروم)! 12 - إسلام عمر الفاروق: هذا، وكان عُمر بن الخطاب من ألدّ خصوم الإِسلام، وكان معروفاً بحدّة الطبع، وقوّة الشكيمة، وكثيراً ما لقي بعض المسلمين منه صنوفاً من الأذى والتنكيل (¬3)! ¬

_ (¬1) البخاري: 56 - الجهاد (2926)، ومسلم (2922)، وأحمد: 2: 53، والطبراني: مسند الشاميين: 4: 227 (3236). (¬2) البخاري: 61 - المناقب (3593)، وانظر (2925)، ومسلم (2921)، وعبد الرزاق (20837)، وأحمد: 2: 121 - 122، 131، 135، 149، والترمذي (2236)، وأبو يعلى (5523)، والبغوي (4246)، والطبراني: الأوسط (9161)، والآجري: الشريعة: 381، والبيهقي: 9: 175، وابن حبان (6806). (¬3) انظر: السيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 212 وما بعدها، وأحمد: فضائل الصحابة: 1: 278.

وحسبنا أن نذكر ما رواه البخاري عن قيس، قال: سمعت سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفَيل في مسجد الكوفة يقول: والله! لقد رأيتني مُوثِقي، وإِنّ عمر لَمُوثقي على الإِسلام قبل أن يُسلم عُمر .. ! وفي رواية: يقول للقوم: لو رأيتُني موثِقي عمر على الإِسلام، أنا وأخته، وما أسلم .. (¬1)! قال ابن حجر: والمعنى رأيت نفسي وإن عمر لموثقي على الإِسلام، أي ربطه بسبب إسلامه، إهانةً له، وإلزاماً بالرجوع عن الإِسلام (¬2)! ويطول بنا الحديث في ذكر ذلك! واختلف في قصة وتاريخ إسلامه! قال ابن إسحاق: كان إسلام عمر فيما بلغني (¬3) أن أخته فاطمة بنت الخطّاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت، وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر! وكان نُعيم بن عبد الله النحّام، رجل من قومه، من بني عديّ بن كعب قد أسلم، وكان أيضاً يستخفي بإسلامه، فَرَقاً من قومه! وكان خبّاب بن الأرَت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب، يقرئها القرآن! فخرج عُمر يوماً، متوشّحاً سيفه، يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورهطاً من أصحابه، قد ذُكروا له، أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريبٌ من أربعين، ما بين رجال ونساء! ¬

_ (¬1) البخاري: 63 مناقب الأنصار (3862)، وانظر (3867، 6942). (¬2) فتح الباري: 7: 176. (¬3) ابن هشام: 1: 423 وما بعدها.

ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قُحافة الصّدِّيق، وعليّ بن أبي طالب، في رجال من المسلمين -رضي الله عنهم- ممن كان أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نُعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصّابئ، الذي فرّق أمر قريش، وسفّه أحلامها، وعاب دينها، وسبّ آلهتها، فأقتُله! فقال له نُعيم: والله! لقد غَرّتك نفسُك يا عُمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك، فتُقيم أمرهم! قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: خَتَنُك وابن عمّك سعيد بن زيد، وأختُك فاطمةُ بنت الخطاب، فقد والله! أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما! قال: فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه، وعندهما خبّاب بن الأرت، معه صحيفة، فيها {طهَ} يقرئهما إيّاها، فلمَّا سمعوا حسّ عُمر، تغيّب خبّاب في مَخْدَعٍ لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمةُ بنتُ الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دَنَا إلى البيت قراءة خبّاب عليهما، فلمَّا دخل قال: ما هذه الهيْنمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً، قال: بلى والله! لقد أُخْبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بخَتَنِه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب، لتكُفّه عن زوجَها، فضربها فشجَّها، فلمَّا فعل ذلك قالت له أخته وختَنه: نَعم، قد أسلمنا، وآمنَّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!

فلمَّا رأى عمر ما بأخته من الدّم، نَدم على ما صنع، فارْعَوى (¬1)، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعْتكم تقرؤون آنفاً، أنظر ما هذا الذي جاء به محمَّد، وكان عمر كاتباً، فلمّا قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليَرُدَّنَّها إليها، فلمَّا قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي إنك نجسٌ، على شركك، وإنه لا يمسّها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها {طهَ} فقرأها، فلما قرأ منها صدراً قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلمَّا سمع ذلك خبّاب خرج إليه، فقال له: يا عُمر، والله! إني لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه، فإني سمعته أمس، وهو يقول: "اللهم! أيّد الإِسلام بأبي الحكَم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب" (¬2)! فالله الله! يا عمر! فقال له عند ذلك عمر: فدُلَّني يا خبّاب على محمَّد، حتى آتيه فأُسلم، فقال له خبّاب: هو في بيت عن الصّفا، معه فيه نفرٌ من أصحابه! ¬

_ (¬1) أي رجع، يقال: ارعويت عن الشيء، إذا رجعتُ عنه وازدجرت. (¬2) الحديث رواه ابن إسحاق بلاغاً، والترمذي (3681) عن نافع عن ابن عُمر، وزاد: وكان أحبّهما إليه عمر، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، من حديث ابن عمر، وابن سعد: 3: 267، وأحمد: 2: 95، وفضائل الصحابة (312)، وعبد بن حميد (759)، والحاكم: 3: 83، والبيهقي: "الدلائل": 2: 215216، وابن حبان (6881).

فأخذ عمر سيفه فتوشّحه، ثم عمد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلمَّا سمعوا صوتَه، قام رجلٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فَزع، فقال: يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوشّحاً السيف، فقال حمزة ابن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائْذن له"! فأذن له الرجل، ونهض إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجرته، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذةً شديدةً، وقال: "ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله! ما أرى أن تنتهي، حتى يُنزل الله بك قارعةً"! قال عمر: يا رسول الله! جئتك لأُومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله! قال: فكبّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبيرةً، عَرَف أهل البيت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عمر قد أسلم! فتفرّق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكانهم، وقد عَزُّوا في أنفسهم، حين أسلم عمر، مع إِسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينتصفون بهما من عدوهم! فهذا حديث الرواة من أهل المدينة، عن إِسلام عمر بن الخطاب، حين أسلم (¬1)! وذكر ابن إسحاق أن عمر - رضي الله عنه - كان يقول: كنت للإسلام مباعداً، وكنت صاحب خَمر في الجاهليّة، أحبّها، ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 423427.

وأسرّ بها، وكان لنا مجلس، يجتمع فيه رجال من قريش بالحزْورة، عند دُور آل عمر بن عبد بن عمران المخزومي، قال: فخرجت ليلةً أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك، قال: فجئتهم فلم أجد منهم أحداً، قال: فقلت: لو أني جئت فلانا الخمّار، وكان بمكّة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمراً فأشرب منها، قال: فخرجت فجئته فلم أجده، قال: فقلت: لو أنّي جئت الكعبة، فطفت بها سبعا أو سبعين، قال: فجئت المسجد، أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، وكان إذا صلّي استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاّه بين الركنين: الركن الأسود، والركن اليماني، قال: فقلت: حين رأيته، والله! لو أنّي استمعت لمحمد الليلة، حتى أسمع ما يقول! قال: فقلت: لئن دنوت منه أستمع منه لأروّعنّه، فجئت من قبَل الحجْر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويداً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يُصلَّي، يقرأ القرآن، حتى قمتُ في قبلته مستقبله، ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، قال: فلمَّا سمعت القرآن رقّ له قلبي، فبكيت ودخَلَني الإِسلام، فلم أزل قائماً في مكاني ذلك، حتى قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن حُسيْن، وكانت طريقه، حتى يَجْزع المسعى (¬1)، ثم يسلك بين دار عبّاس ابن المطلّب، وبين دار بن أزْهر ابن عبد عوف الزهري، ثم عدى دار الأخنس ابن شَريق، حتى يدخل بيته، وكان مسكنه - صلى الله عليه وسلم - في الدار الرَّقْطاء (¬2)، التي كانت بيديْ معاوية بن أبي سفيان! ¬

_ (¬1) أي يقطعه. (¬2) أصل الرقطاء: التي فيها ألوان، وكذلك الأرقط.

قال عمر - رضي الله عنه -: فتبعْتُه حتى إذا دخل بين دار عبّاس، ودار ابن أزْهر، أدركته، فلما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسّي عرفني، فظنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّي إنّما تبعتُه لأوذيه فَنَهَمَني (¬1)، ثم قال: "ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ " قال: قلت (جئت) لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله! قال: فحمدَ اللهَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "قد هداك الله يا عمر". ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته! قال ابن إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان (¬2)! وقال: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عُمر عن ابن عمر، قال: لما أسلم أبي عُمر قال: أيّ قريش أنقلُ للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجُمحي! قال: فغدا عليه! قال عبد الله بن عمر: فغدوت أتبع أثره، وأنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمْتَ يا جميل أنّي قد أسلمت ودخلت في دين محمَّد؟ قال: فوالله! ما راجعه، حتى قام يجرّ رداءه، واتّبعه عمر، واتبعت أبي، حتى إِذا قام على باب المسجد، صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول المسجد، أَلا إِن عُمر بن الخطّاب قد صبا! قال: ويقول عمر مِنْ خلفه: كذبَ، ولكنّي قد أسلمت، وشهدت أن لا إِله إِلا الله، وأن محمدًا عبده ¬

_ (¬1) معناه زجرني. (¬2) ابن هشام: 1: 427، 428.

ورسوله! وثارُوا إِليه، فما برَح يُقاتلهم ويقاتلونه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم! قال: وطَلحَ (¬1)، فقعد، فقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله! أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل، لقد تركناها لكم، أو تركَتموها لنا! قال: فبينا هم على ذلك، إِذ أقبل شيخ من قريش، عليه حلَّة حِبْرة (¬2)، وقميص موسى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صَبَا عمر، فقال: فَمَه، رجلٌ اختار لنفسه أمْرًا، فماذا تريدون؟ أتَرْون بني عديّ بن كعب، يُسلمون لكم صاحِبَهُم هكذا! خَلُّوا عن الرجل (¬3)! قال: فوالله! لكأنما كانوا ثوباً كُشِط عنه! قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، مَن الرجل: الذي زجَر القوم عنك بمكّة يوم أسْلمت، وهم يقاتلونك؟ فقال: ذاك، أيْ بُني، العاص بن وائل السَّهمي (¬4)! قال ابن هشام: وحدّثني بعض أهل العلم أنه قال: يا أبت، من الرجل الذي زَجَر القوم عنك بمكّة يوم أسلمت، وهم يقاتلونك، جزاه الله خيراً؟ قال: يا بنيّ، ذاك العاص بن وائل، لا جزاه الله خيراً! قال ابن إسحاق: وحدّثني عبد الرحمن بن الحارث عن بعض آل عمر، أو بعض أهله، قال: ¬

_ (¬1) معناه أعيا، والبعير الطليح هو المعيي. (¬2) الحبرة ضرب من برود اليمن. (¬3) لفظَه هكذا هنا اسم سمّي به الفعل، ومعناه لا يحتاج معها إنى زيادة، وظاهر: معناه عادتهم. (¬4) ابن هشام: 1: 429 - 430، وسنده صحيح، وابن حبان من طريق ابن إسحاق: موارد الظمآن: 535، وأبو نعيم: الحلية: 1: 41 وفي سنده أسامة بن زيد بن أسلم، ضعيف: انظر: الميزان: 1: 174، والبزار: كشف الأستار: 3: 171، 172، وقال الهيثمي: "المجمع: 9: 65 وفيه النضر أبو عمرو متروك.

قال عمر: لمَّا أسلمت تلك الليلة، تذكّرت أيّ أهل مكّة أشدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عداوةً، حتى آتيه فأخبره أنّي قد أسلمت. قال: قلت: أبو جهل وكان عمر لحَنْتَمَةَ بنت هشام بن المغيرة، قال: فأقبلت حين أصحبتُ حتى ضربتُ عليه بابه، قال: فخرج إليّ أبو جهل، فقال: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أنّي قد آمنت بالله وبرسوله محمَّد، وصدّقت بما جاء به! قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبّحك الله، وقبّح ما جئتَ به (¬1)! وجعل ابن إسحاق إسلام عمر بعد هجرة الحبشة .. ومن وجه آخر عقب هجرة الحبشة الأولى (¬2)! وفي رواية للبخاري قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: لمَّا أسلم عمر، اجتمع الناس عند داره، وقالوا: صبأ وأنا غلام فوق ظهر بيتي فجاء رجل عليه قَباء من ديباج، فقال: قد صبأ عمر، فما ذاك؟ فأنا له جار، قال: فرأيت الناس تصدّعوا عنه، فقلت: مَن هذا؟ قالوا: العاص ابن وائل (¬3)! قال ابن حجر: قوله (وأنا غلام) في رواية أخرى أنه (كان ابن خمس سنين)، وإذا كان كذلك خرج منه أن إسلام عمر كان بعد المبعث بست سنين أو ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 430. (¬2) انظر: فتح الباري: 7: 182. (¬3) 63 مناقب الأنصار (3865)، وانظر (3864).

بسبع؛ لأن ابن عمر .. كان يوم أحد ابن أربع عشر سنة، وذلك بعد المبعث بست عشرة سنة، فيكون مولده بعد المبعث بسنتين (¬1)! وهنا نذكر ما رواه الترمذي وغيره، بسند حسن عن ابن عمر -رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (¬2): "اللهم! أعزَّ الإِسلام بأحبَّ هذين الرجلين إِليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" قال: وكان أحبَّهما إِليه عمر! ويروي أحمد وغيره عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: فَضَلَ الناسَ عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بأربع: بذكر الأسرى يوم بدر، أَمَرَ بقتْلهم، فأنزل الله عزّ وجل: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} (الأنفال)! وبذكره الحجاب، أمرَ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَحْتَجبن، فقالت له زينب: وإِنك علينا يا ابن الخطاب، والوحي ينزل علينا في بيوتنا، فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53)! وبدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "اللهم! أيّد الإِسلام بعُمر"! وبرأيه في أبي بكر، كان أول الناس بايعه (¬3)! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 178. (¬2) الترمذي (3681)، وابن سعد: 3: 267، وأحمد: 2: 95، وفضائل الصحابة (312)، وعبد بن حميد (759)، والحاكم: 3: 83، والبيهقي: "الدلائل": 2: 215، 216، وابن حبان (6881)، وانظر: ابن هشام: 1: 452، 426، والمجمع: 9: 61، 62. (¬3) أحمد: 1: 456 وسنده حسن لغيره، وانظر: فضائل الصحابة (338، 339)، والبزار (2505) زوائد، والشاشي (555)، والطيالسي (250)، والدولابي: الكنى: 2: 142، والطبراني (8828)، والمجمع: 9: 67.

وأصبح عمر الفاروق - رضي الله عنه - رجل الإِسلام (¬1)، وبطل الدعوة الإِسلاميّة التي ستقوّض بنيان الجاهليّة، وتقضي قضاءً مبرماً على الوثنية في شتّى أشكالها، وتزيل الشرك على اختلاف ألوانه، وتهدم دعائم المجد الماديّ الزائف، وتبخع الطغيان الظلوم، وتبني الحياة من جديد على أسس من العدل والحق والمواساة، بنياناً يجعل من الإنسانيّة كلها في إخائها وتعاطفها وتوادّها وتعاونها على البرّ والتقوى جسداً واحداً، تتقمصه روح واحدة، هي روح البرّ والرحمة! وصار عُمر الفاروق الرجل الثاني في جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فإذا كان أبو بكر الصدّيق - صلى الله عليه وسلم - هو الرجل الأوّل في إعادته رَسَن الإِسلام إلى غربه، وفي توطيد أركان الدعوة بعد أن تزلزلت الحياة الإِسلاميّة بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبما أعقب ذلك من محاولة تفكّك عروة المجتمع الإسلامي وانفراط عصامه، بموقفه يومئذ من الخلافة والردّة موقفاً انفرد به في تاريخ الإِسلام، حزماً وعزماً، وقوة تدبير، وشجاعة قلب، واستقامة رأي، وعلوّ حجّة، وسرعة حركة في التوجيه، وإحكام ضربات حاسمة، ردّت العقول الثائرة إلى مرابضها، والعقول الفاترة إلى ثورتها، وسلطان الإِسلام إلى أفقه، ووحدة المسلمين إلى منهجها في السير برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلى غايتها وأهدافها في فتح القلوب، وإيقاظ العقول! فإن عُمر الفاروق - رضي الله عنه - هو الرجل الأوّل في إقامة دعائم الإِسلام، نظاماً وحكماً، لم تعرف الدنيا له مِثْلاً في العدل، وإقامة الحق، واستقامة السلوك، وتطبيق أحكام الإِسلام، على الأفراد، مهما كان شأنهم، وعلى الجماعات، مهما عظم خطرها، وفي تحقيق الأسوة المرئيّة للناس بأبصارهم في نفسه ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 1: 666 وما بعدها بتصرف.

وولده وسائر أهل بيته وقرابته أوّلاً، وعامة المسلمين ثانياً في سواء من أمرهم، لا يتميّز منهم أحد على أحد في الحق فيه، أو إعطائه له! وعمر الفاروق - رضي الله عنه - أصبح بإسلامه عبقريّ الدنيا بشهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه البخاري عن عبد الله بن عمر من حديث طويل: "فلم أَر عبقَريًّا يَفْري فِريَّه" (¬1)! فأي شيء يكون الإعجاز في صنع النفوس، وخَلْقها خلقاً جديداً، وإبداعها إبداعاً سويًّا، تتسامى به في تفكيرها وعملها وقوّة إيمانها، إذا لم يكن هذا الذي كان لعُمر الفاروق بإسلامه إعجازاً؟! فإذا قلنا إن إسلام عمر كان نفحةً من نفحات الإعجاز في صنع النفوس الإنسانيّة في رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن القصد إلى شيء من أساليب المجاز والرمز، ولا إلى شيء من المبالغة التعبيريّة، ونصاعة البيان، في تصوير ما صار إليه عمر الفاروق بإسلامه بعد جاهليّته من عظمة شخصيّة، وعبقريّة فكريّة، وألمعيّة عمليّة، لتضفي على هذا الحدث الخطير في تاريخ الحياة من الألوان ضرباً من الخيال الفضفاض، ولكن القصد إلى حقيقة الإعجاز الإنساني التي تميّزت به هذه الرسالة الخالدة، في صنع النفوس، وتربية الرجال، في مدارس آياتها، ومعاهد آدابها، وهي بطبيعتها الإنسانيّة ومصدرها الإلهيّ في غُنْيَة عن التحدّي بالمعجزات الماديّة التي تُكْره العقول على الإيمان بها؛ لأنها رسالة الإنسان جاء ته لتكشف له الحجب عن حقيقته، حتى يعرف نفسه ومكانه في الحياة، فهي رسالة تخاطب العقل والروح والقلب، وتحرّك الوجدان، وتثير العواطف والشعور والإحساس! ¬

_ (¬1) البخاري: 62 فضائل الصحابة (3682).

هي رسالة الإنسان ليعرف الكون كله .. أُنزلت لتطلب إلى العقل الإنسانيّ في إغراء واعد .. وتطلب إلى كل إدراك شعوري أن يعمل بكل ما أوتي من وسائل، وقوّة علم، ومعرفة ونظر وتفكير، وتجاوب عملية، على استكشاف عناصر الكون الطبيعيّة، وأسراره الروحيّة، إظهاراً لآيات الله، في كل ذرة من ذرّات الحياة فيه، ليهتدي بها الإنسان إلى معرفة خالق الكون، ومدبّر نظامه. معرفة برهانية، لا تعتمد على أوهام وأباطيل، ولكنها تعتمد على منطق الحق الذي تتضافر على الإيمان به قُوى الإدراك في الإنسان، فيخالط بردُ يقينها جذوة الإدراك العقلي في أوْج ذروتها! كما يهتدي إلى معرفة مكانه من الحياة في هذا الكون العريض العميق، معرفة تقوده إلى أن يقرأ كتاب الكون، مستغرقاً في التأمّل، ليتبّين آيات الله تعالى في خلقه، وتدبيره، ليُخْلِص الإنسان التعبّد لله وحده! ويهتدي كذلك إلى معرفة طرائق الإفادة من العناصر الطبيعيّة في هذا الكون، ووضعها موضع العمل التجريبي، بجميع ما يكون في استطاعته من أسباب توصله إلى الحصول على أكبر قسط من هذه الإفادة! والإعجاز في إسلام عمر الفاروق - رضي الله عنه -، هو الإعجاز الذي يحيي القلوب بعد موتها، فيبعثها من مرقدها حيّةً مؤمنةً بعد كُفر، عالمةً بعد جهالة، مهتديةً بهد ضلالة، عاملة ناهضة! كذلك كان الإعجاز في إسلام عمر الفاروق - رضي الله عنه -، هو الإعجاز الذي أحيا قلبه بعد موته في جاهليّته، فبعثه من مرقده في حمأة الوثنية، مؤمناً بالله وحده، عالماً بجلاله، مهتدياً بهديه، عاملاً نهّاضاً في سبيل عقيدته! وهو الإعجاز الذي يوقظ العقول الغطيطة في مهاد الضلال، لتدرك حقيقة

الحياة على ضوء ما يسوق لها الإيمان بالله تعالى، من إشراق ينير لها طريق السير في دروب الحياة، وكذلك صنع إسلام عمر بعقل عمر، فأيقظه من غفلته، وأراه الحياة كما يراها الإسلام في هديه ورسالته! وهو الإعجاز الذي يُحيل في لحظة من لحظات الزمن النفوس الجاحدة العاتية إلى نفوس مؤمنة وادعة، تأخذ من الحياة لتعطي، وتعطي لتفيد، وتتحرك لتعلَم، وتعلم لتعمل، وكذلك صنع إسلام عُمر بنفس عمر، فقد أحالها من جحود عات، وعتوّ جاحد، إلى نفس مشرقة الإيمان، عظيمة الإخلاص، أعطت أكثر مما أخذت، وأفادت أكثر مما استفادت، وتحرّكت فعلمت وعلّمت فعملت، فكان في الإِسلام أسوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت مفخرة المفاخر في تربية الإسلام! وهو الإعجاز الذي يبدّل في لحظة من لحظات الزمن القسوة الباغية في النفوس الطاغية، رحمةً حانيةً، ورقّةً عاطفةً! وكذلك صنع إسلام عُمر بشخصيّة عمر، فقد بدّل قسوته وبغيه على أهل الحق والإيمان من المسلمين المستضعفين، رحمةً ورأفةً وإشفاقاً، وفي تاريخ عمر في الإِسلام من الشواهد على ذلك ما لا يُحصى عداً، وما لا يعرف لغيره من الرجال الذين أوتوا من السلطان والحكم ما أوتي عُمر الفاروق في الإسلام! وهو الإعجاز الذي يجعل من الصلف المغرور، والغرُور المفتُون عزّةً وكرامةً، وكذلك صنع إسلام عمر في طبيعة عمر، فجعل منه قائداً يسوس الأمّة بالعزّة والكرامة، ويحبّ أن يرى فيها الشموخ والعزّة! وهو الإعجاز الذي يجعل من إنسان وُلد ونَهد، وشبّ في جاهلية حمقاء، وبيئة شرّيرة عمياء، وحياة ضالّة جهلاء، إماماً للإنسانيّة، يهتدي

لها، ويهديها، ويقودها إلى أكمل مراتب الكمال في حياتها، وينهض بها إذ يرفع أمرها إلى أرقى درجات التحضّر الكريم، يسوسها بعدله وحكمته، ويأسو جراحها برحمته، ويحمل عنها عبء مسؤوليّتها بأرفع وأجلّ ما حمل عبقريّ مسؤوليّة أمّة في حياتها! إنه الإعجاز الذي جعل من أمّة الإِسلام أمّة محسودة؛ لأن العناية الإلهيّة وهبت لها عمر الفاروق، ثاني الراشدين، ليقودها وهي في مطلع حياتها، تتحسّس مواضع أقدامها، فكانت بعدله وسياسته وحكمته وقيادته خير أمة أخرجت للحياة في جميع مظاهر الإصلاح! بهذا كله وأعظم منه قدراً، وأكثر عدداً، جاءت رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فكانت خاتمة الرسالات! وبهذا كله، وأرفع منه وزناً، وأجلّ منه مرتبةً، وأفضل معنى في مراتب الفكر والنظر، وفي مجالات أنظمة الحياة، أُنزل القرآن العظيم على خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، فكان المعجزة الخالدة، والآيات البيّنة، بمعانيه الإنسانيّة، وتشريعاته التعبديّة، وسماحته العقديّة، ونظمه الاجتماعيّة، وهدايته التربويّة، وآدابه الخلقيّة، وروعة أساليبه البيانيّة، وبراعة تحليله للنفوس البشريّة، وكشف دخائلها، وشفائها من أسقامها! لقد جمع الله تعالى لعمر الفاروق - رضي الله عنه - كل هذه الحقائق والمعاني، وصوّر له كمالاتها في لحظة من الزمن، انفجر منها في داخل بصيرته نور أضاء له ملكوت السموات والأرض، فقرأ من كتاب الكون أصول هدايته كما أسلفنا فآمن بالله ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً!

يروي البخاري عن عبد الله بن مسعود - صلى الله عليه وسلم - قال: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر (¬1)! قال ابن حجر: أي لما فيه من الجلد والقوّة في أمر الله! وروى ابن أبي شيبة والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود: كان إِسلام عمر عزاً، وهجرته نصراً، وإِمارته رحمةً، والله! ما استطعنا أن نصلّي حول البيت ظاهرين، حتى أسلم عُمر (¬2)! إلْه عُمر الفاروق شهيد المحراب - رضي الله عنه -! يروي البخاري عن أبي مُليْكة أنه سمع ابن عباس يقول: وُضع عمر على سريره، فَتَكنَّفَهُ الناس، يَدْعون ويُصلّون قبل أن يُرفع وأنا فيهم فلم يَرُعْنِي إِلا رجلٌ آخذٌ مَنْكبي، فإِذا هو عليٌّ بن أبي طالب، فترحّم على عمر وقال: ما خَلَّفْتَ أحداً أحب إِليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك! وايمُ الله! إِن كنتُ لأظُنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبْت أنّي كثيراً أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذهبْتُ أنا وأبو بكر وعُمر، ودخلْتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجْتُ أنا وأبو بكر وعمر" (¬3)! ¬

_ (¬1) البخاري: 62 فضائل الصحابة (3684)، وانظر (3863). (¬2) فتح الباري: 7: 48، وانظر: ابن هاشم: 1: 422، وابن سعد: 3: 270، والطبراني: الكبير: 9: 178، 179 ورجاله رجال الصحيح، إلا أن القاسم لم يدرك جده ابن مسعود: انظر: المجمع: 9: 62، 63. (¬3) البخاري: 62 فضائل الصحابة (3685)، وانظر (3677).

13 - عزيمة النبوة

13 - عزيمة النبوّة: ومضَى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قُدماً معلناً عن دعوته بكل ما يملك من وسيلة يعرفها الإعلان والجهر في مجتمعه وبيئته وبلده وقومه (¬1) .. يناديهم وجه النهار من فوق الجبال -كما أسلفنا-: "إِنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد"! وقد كان للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حدب عمه عليه، وقيامه معه، ودفاعه عنه، وحمايته له، ومنعته أن يؤذى عزاء وقوة! وهنا نبصر عزيمة النبوّة تأبى إلا أن تقول لحياة الظلام: لا .. ولابدّ لهذا الظلام أن يتبدّد، وأن يملأ نورُ الله آفاق الحياة، فيضيء السهل والجبل، ويغمر الأودية والشواهق، ويدخل البيوت، وشري في الطرقات، ويتولّج في حنايا النفوس، وزوايا الضمائر، ويدلف إلى القلوب والعقول، ويوقظ الحياة من سباتها، ويصبح الكون كما أراده الله مسخّراً للإنسان يستخرج آياته، ويكشف أغطية الجهل وظلمات الوثنيّات عن أسراره! ويعرف الإنسان حقيقة دوره في هذه الحياة، ويعرف ربّه حق معرفته، ويكفر بالطاغوت، ويؤمن بالحق والعدل، ليصحّح وجوده ووجود الحياة كلها، لتخوض بحار العلم والمعرفة، وتسيح في محيطاتها، وتطير في أجوازها بأجنحة من فيض الله وأمره! هذا الإيمان الذي نبصره في عزيمة النبوّة، قد امتزج بروح محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ومشاعره وإحساساته، لم تعرف الحياة له نظيراً في قوّته وسطوته، وعلوّ جهرته! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 169 وما بعدها بتصرف.

هذا الإيمان هو الذي دفع أبا طالب إلى أن يقول -كما سبق لهؤلاء: والله! ما كذبنا ابن أخي، فارجعوا! ولابد أن الرؤوس الخاوية قد شعرت بالقوّة التي تجدّدت لدعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ رسالته .. ولابد أنها شعرت بالخطر يتهدّدها في وثنيّتها وشركها، وفي طغيانها المادّي، وسُحتها وربويّاتها وتجارتها ومضارباتها .. فرجفت بهم الأرض من تحتهم، وهم في مجالسهم وأنديتهم .. ونظر بعضهم إلى بعض بعيون زائغة، تدور نظراتها في سهوم وذهول، كالذي يغشى عليه من الموت .. وتملّكهم الهلع والجزع، واستولى عليهم الرعب، واستحوذ على قلوبهم الجبن ومهانة الضعف، وضراعة الذل الحائر، فلم يفكّروا قطّ في تنفيذ وعيدهم وتهديدهم أبا طالب وابن أخيه، حتى يتفانى الفريقان! وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (¬1)! مرض أبو طالب، فجاءت قريش، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك، وشكوه إِلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: "يا عمّ، إِنما أريد منهم كلمةً تذل لهم بها العرب، وتؤدّي إِليهم بها جزية العجم، قال: كلمة واحدة"! قال: ما هي؟ قال: "لا إِله إِلا الله"! قال: فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ ¬

_ (¬1) الحاكم: 2: 432 وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد: 1: 227، 228، 362، والترمذي (3232)، وعبد الرزاق (9924)، وأبو يعلى (2583)، والبيهقي: 9: 188، والواحدي: أسباب النزول: 246، وابن أبي شيبة: 3: 359، والنسائي: الكبرى (11436)، والطبري: 23: 125، 126، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (2029)، وابن حبان (6686).

إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} قال: ونزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}! حتى بلغ: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} (ص)! ونبصر الحقيقة الأولى في هذا القرآن ذي الذكر! {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)}! ويطالعنا الإضراب في التعبير الذي يلفت النظر: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)}! فهو يبدأ وكأنه انقطاع عن موضوع القسم (¬1)؛ لأن المقسم عليه لم يذكر، واكتفى بالمقسم به، ثم أخذ يتحدث بعده عن هؤلاء المشركين، وما هم فيه من استكبار ومن مشاقة! ولكن هذا الانقطاع عن القضيّة الأولى انقطاع ظاهري، يزيد الاهتمام بالقضيّة التي تليه! وفي مفتتح السورة قسم يدل على أنه أمر عظيم .. وإلى جانب هذا استكبار المشركين ومشاقّتهم في هذا القرآن ذي الذكر، فهي قضيّة واحدة قبل الإضراب وبعده! ولكن هذا الالتفات في الأسلوب يوجّه النظر بشدّة إلى المفارقة بين تعظيم الله سبحانه لهذا القرآن واستكبار المشركين عنه ومشاقّتهم به، وهو أمر عظيم! وعقب على الاستكبار والمشاقّة، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم، ممن كذبوا مثلهم، واستكبروا استكبارهم، وشاقّوا مشاقّتهم، ومشهدهم وهم ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 3007 وما بعدها بتصرف.

يستغيثون فلا يغاثون، وقد تخلّى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذّلة، وتخلّوا عن الشقاق، ولجؤوا إلى الاستعطاف، ولكن بعد ذوات الأوان: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)}! فلعلهم حين يتملّون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم، وأن يرجعوا عن شقاقهم، وأن يتمثّلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون، ينادون ويستغيثون، وفي الوقت أمامهم فسحة، قبل أن ينادوا ويستغيثوا، ولات حين مناص، ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص! يطرق قلوبهم تلك المطرقة، ويوقع عليها هذا الإيقاع، قبل أن يعرض تفصيل تلك العزّة وهذا الشقاق، ثم يفصل الأمر، ويحكي ما هم فيه من عزّة وشقاق! {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}! هذه هي العزة: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}! وذلك هو الشقاق: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}! وقصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة، مكرورة معتادة، قالها كل قوم من أمثالهم وتعلّلوا بها منذ بدء الرسالات، وتكرّر إرسال الرسل من البشر، وظل هؤلاء وأمثالهم مع هذا يكرّرون الاعتراض! {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}!

وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم بشراً يدرك كيف يفكّر البشر، وكيف يشعرون، ويحسّ ما يعتلج في نفوسهم، وما يشجر في كيانهم، وما يعانون من نقص وضعف، وما يجدون من ميول ونزعات، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل، وما يعترضهم من عوائق وعقبات، وما يعتريهم من مؤثِّرات واستجابات! بشراً يعيش بين البشر، وهو منهم، فتكون حياته قدوة لهم، وتكون لهم فيه أسوة، وهم يحسّون أنه واحد منهم، وأن بينه وبينهم شبهاً وصلةً، فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه، ويدعوهم لاتّباعه، وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج، فقد حقّقه أمامهم بشرٌ منهم في واقع حياته! بشراً منهم، من جيلهم، ومن لسانهم، يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم، ويعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتفاهمون معه، ويتجاوبون وإيّاه، ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه، أو اختلاف لغته، أو اختلاف طبيعة حياته، أو تفصيلات حياته! ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون، هو الذي كان دائماً موضع العجب، ومحطّ الاستنكار، وموضوع التكذيب! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار، كما كانوا يجهلون تصوّر طبيعة الرسالة، وبدلًا من أن يروها قيادةً واقعيّة للبشريّة في الطريق إلى الله، كانوا يتصوّرونها خياليّة غامضة محوطةً بالأسرار التي لا يصح أن تكون مفهومة هكذا أو قريبةً! كانوا يريدونها مُثُلاً خياليّة طائرةً لا تُلمس بالأيدي، ولا تبصر في النور، ولا تدرك في وضوح، ولا تعيش واقعيّة في دنيا الناس!

وعندئذ يستجيبون لها كالأسطورة غامضة، كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة! ولكن الله أراد للبشريّة وبخاصة في الرسالة الأخيرة أن تعيش بهذه الرسالة عيشةً طبيعيةً واقعيّةً، عيشةً طيبةً ونظيفةً وعاليةً، ولكنها حقيقة في هذه الأرض، لا وهماً ولا خيالاً ولا مثالاً طائراً في سماء الأساطير والأحلام، يعزّ على التحقيق، ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام! {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)}! قالوا كذلك استبعاداً لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم! وقالوه كذلك تنفيراً للعامة من الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتهويشاً على الحق الواضح في رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفونه حق المعرفة: إنه ساحرٌ كذّاب! إنما كان هذا سلاحاً من أسلحة التهويش والتضليل، وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء، ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثّل في هذه العقيدة، ويزلزل القيم الزائفة، والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء! إنها حرب الدعاية ضد الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لحماية أوضاعهم بين الجماهير في مكّة، ولصدّ القبائل التي كانت تفد إلى مكّة في موسم الحج، عن الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! قال ابن إسحاق (¬1): ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفرٌ من قريش، وكان ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 334 - 336 معلقاً، والطبري موقوفاً على ابن عباس، وقد صرح بالسماع: 14: 157، وأبو نعيم أيضاً عن سعيد بن جبر: الدلائل: 1: 232، وعبد بن حمد، وابن =

ذا سنٍّ فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدَم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضاً، ويردّ قوله م بعضُه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقمْ لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمعْ، قالوا: نقول: كاهن، قالَ: والله! ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهّان، فما هو بزَمْزَمة الكاهن ولا سجعه (¬1)، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأَينا الجنون، وعرفناه، فما هو بخَنْقه (¬2)، ولا تَخَالجُه (¬3)، ولا وسوسته (¬4)، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشَاعر، لقد عرفنا الشعر، كل رجَزه وهَزجه وقريضه ومقبوطه ومبسوطه (¬5)، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساجر، لقد رأينا السُّحّار وسحْرهم، فما هو بنفْثهم ولا عقْدهم (¬6)، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس، قالَ: والله! إن لقوله لحلاوةً، وإن أصله لعَذْق (¬7)، وإن فَرْعه لجَنَاه (¬8)! ¬

_ = المنذر، وابن أبي حاتم مختصراً: الدر المنثور: 6: 282، والواحدي من غير طريق ابن إسحاق: 295 مختصراً. (¬1) الزمزمة: كلام خفي لا يفهم، والسجع: أن يكون الكلام المنثور نهايات كنهايات الشعر. (¬2) يريد الاختناق الذي يصيب الجنون. (¬3) التخالج: اختلاع الأعضاء وتحركها من غير إرادة. (¬4) الوسوسة: ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان. (¬5) الرجز والهزج والقريض والمقبوض والمبسوط: أنواع من الشعر. (¬6) إشارة إلى ما كان يفعل الساحر من أن يعقد خيطاً ثم ينفث عليه، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} (الفلق)! (¬7) العَذق: الكثير الشعب والأطراف في الأرض. (¬8) أي فيه تمر يُجنَى.

قال ابن هشام: ويقال لغَدَق وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرِّق بين المرء وأبيه، وبن المرء وأخيه، وبن المرء زوجته، وبن المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس (¬1)، حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحدٌ إلا حذّروه إيّاه، وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وفي ذلك من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} (المدثر)! ويروي الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬2): أن الوليد بن المغيرة جاء إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إِن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِم؟ قال: ليعطوكه، فإِنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمتْ قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله! ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله! ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا! ووالله! إِن لقوله الذي يقول حلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإِنه ليعلو وما يُعلى عليه، وإِنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك، حتى تقول فيه! قال: فدعني أفكّر، فلما فكّر، قال: هذا سحرٌ يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً}! ¬

_ (¬1) أي بطرقهم، واحدها سبيل. (¬2) الحاكم: 2: 506، 507 وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.

ذلك كان شأن الملأمن قريش في قولهم (¬1): ساحر كذّاب، وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون، ويعرفون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بساحر ولا كذّاب! وعجبوا كذلك من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله الواحد، وهي أصدق كلمة وأحقّها بالاستماع: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} ويصوّر التعبير القرآني مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطريّة القريبة: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}! كأنه الأمر الذي لا يتصوّره متصوّر! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}! حتى البناء اللفظي {عُجَابٌ} يوحي بشدّة العجب وضخامته وتضخيمه! كما يصوّر طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة، وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئاً غير ظاهرها، وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، المدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء! {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)}! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 3009 وما بعدها بتصرف.

فليس هو الدّين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيءآخر يراد من وراء هذه الدعوة! شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبّآت، وإدراك المناورات! وتنصرف إلى عادتها الموروثة، وآلهتها المعروفة، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة! فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها، فلتطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم! إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة البغاة العتاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامّة، والبحث وراء الحقيقة، وتدبّر ما يواجههم من حقائق خطرة، ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير، وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل! ثم يموّهون على الناس بظواهر العقيدة القريبة منهم، عقيدة أهل الكتاب، بعد ما دخلت إليها الأساطير التي حرفتها عن التوحيد الخالص، فيقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}! وكانت عقيدة التثليث قد شاعت .. وأسطورة العُزير قد شاعت .. فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}! ولقد حرص الإِسلام حرصاً شديداً على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على

العقائد التي سبقته .. حرص هذا الحرص؛ لأن التوحيد حقيقة أوّليّة كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله، ويشهد بها هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة .. ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشريّة كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها! ونعود إلى مطلع سورة (ص) لنبصر جهالات أحلاس الوثنيّة وعبيد المال (¬1)، وأنهم بلغوا من بلادة العقل أنهم يقلّدون الملل المنحرفة عن الحق، يتخذونها إماماً في عقيدتهم الإلحادية الشركة ممن حرّفوا كلام الله عن موضعه، وجعلوا للكون آلهة، فلما قيل لهؤلاء الذين يعيشون بعقليّة مستعارة، لا يملكون منها سوّى ترداد ما سممعوا بغير تعقّل قولوا: "لا إله إلا الله"! لم تتّسع بلادة عقولهم التقليديّة المستعارة أن يكون إله الخلق إلهاً واحداً، وعجبوا مما قيل لهم تقريراً لوحدانيَّته وتفرده بالإخلاص في التعبّد له، ولهذا قالوا ما قالوا -كما سبق- فأنزل الله تعالى في تسفيه أحلامهم وبيان بلادة عقولهم هذه الآيات، تنعى عليهم ما أهدروه من معالم إنسانيّتهم، وما فضّلهم الله به عن البهائم من نعمة العقل! هذا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع مقالتهم، وأدرك مخادعتهم، وأنهم لا يريدون بما طلبوه سواء ولا نصعة، وإنما يريدون تعويق الدعوة عن سيرها، أراد أن يضع أمام عقولهم صورةً واضحةً لحقيقة رسالته في أسلوب بين موجز أشدّ ما يكون إيجاز الإعجاز؛ لأن هذا هو واقع رسالة محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 183 وما بعدها بتصرف.

"لا إله إلا الله"! إننا نبصر عزيمة النبوّة التي تنزع من عقول هؤلاء حواجز البلادة التي تحجب عنهم ضياء الحق .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب منهم شيئاً أكثر من أن يخرجهم من ظلمات الجهالة العقليّة .. وضلالات الوثنيّة إلى بؤرة الضياء الفكري، والإشراق الروحي، ومنبع الهداية، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يدعهم إلا إلى كلمة واحدة، هي رأس الأمر كله في رسالته التي يدعو إليها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرّض في موقفه هذا إلى مآثمهم الخلُقية، ولا إلى مفاسدهم الاجتماعيّة، ولا إلى مظاهر الطغيان وعتوّ الاستبداد حيث يعيشون، ولم يسألهم مالهم وثرواتهم، ولا سألهم شرفاً فيهم، فهم أعلم الناس برفعة شرفه وسموّ حسبه .. وإنما عرض عليهم الدعامة العظمى التي تنبثق منها جميع فضائل رسالته .. لتيسير تقتلها والإيمان بها، والهُدى هُدى الله، فلم يقبلوا ما عرضه عليهم، وانصرفوا وهم أشدّ عداوةً له، ولدداً بخصومته، وأضرى سفاهةً، وأشرى أذى، وأخبث طويّةً! لقد كانت هذه المرحلة من الدعوة مرحلة العزيمة الماضية القويّة التي لا تتزحزح، والصبر الذي لا ينفد، والكفاح الذي لا يتردّد؛ لأنها مرحلة التأسيس للعقيدة، وبناء صرح الرسالة، وإقامة دعائم الدعوة إلى الهُدى والحق، فلو وهنت عزيمة المبلَّغ شيئاً من الوهن، فمالت إلى المهادنة، وتخلّى الصبر المكافح لحظة عنها، وتخفّفت من النضال نَفَساً واحداً لوجد خصومها مداخل إلى تعويقها عن سيرها وعرقلة مسيرتها! وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على أتمّ العلم بهذا كله .. وقد أعد نفسه له ولأكثر منه .. ومن وراء هذا العلم علمه - صلى الله عليه وسلم - بما يملأ قلوب زعماء الوثنيّة من شرور

14 - الاضطهاد والتعذيب

ومفاسد، بيما تنطوي عليه جوانحهم من الحقد الأسود، والشنآن العظيم، فزاده ذلك صمْداً في قوّة إيمانه برسالته إيماناً تمثّل إعجازه ومتانة نسجه، وقهر عزّته، في قوله - صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا وهو يحلّق ببصره إلى السماء: "أترون هذه الشمس" قالوا: نعم، قال: "فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم، على أن تشتعلوا منها شعلة"! إنها عزيمة النبوّة! 14 - الاضطهاد والتعذيب: ونعود إلى حديث بدء الوحي .. نعود لنذكر مرّة من بعد مرّة قول ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جزعاً، ليتني أكون حيًّا إِذ يُخرْجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُخْرِجيَّ همْ؟ " قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قَطّ بمثل ما جئت به إِلا عُودي، وإِن يُدركني يومك أنصرك نصْرًا مُؤزراً، ثم لم يَنْشب ورقةُ أن توفيّ، وفتر الوحي! نعود لنبصر معلماً من معالم الرسالة في البلاء، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرف مدى مكانته بين قومه! وهنا يطالعنا ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلّي عند الكعبة، لأطانَّ على عُنقه، فبلغ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال:"لو فعل لأخذته الملائكة" وفي رواية: "لأخذته الملائكة عياناً" وفي رواية: فلم يفجأهم منه إِلا وهو -أي أبو جهل- ينكص على عقبيه،

ويتقي بيديه، فقيل له: فقال: إِن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" (¬1)! وفي رواية لمسلم وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يُعَفِّرُ محمدٌ وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم، فقال: واللاّت والعُزّى لئنْ رأيتُه يفعل ذلك، لأطانّ رقبته، أو لأعفِّرنّ وجهه في التراب! قال: فأتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلّي، زَعَم ليطَأ على رقبته! قال: فما فَجِئهُم منه، إِلا وهو ينكص على عقبيْه، ويتقّي بيديه! قال: فقيل له: ما لَكَ؟ فقال: إِن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهَوْلاً، وأجنحة! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مِنّي لاخْتَطَفَتْه الملائكةُ عُضواً عضْواً" قال: فأنزل الله -عزّ وجل- لا ندري في حديث أبي هريرة، أو شيءٌ بلغه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ} (العلق)! زاد عُبيْد الله في حديثه، قال: وأمره بما أمره به! ¬

_ (¬1) البخاري: 65 التفسير (4958)، وابن أبي شيبة: 14: 298، وأحمد: 1: 248، 256، 329، 368، والبزار: كشف الأستار (2189)، والترمذي (3348، 3349)، والنسائي: التفسير (81، 704، 705)، والكبرى (11061، 21684)، وأبو يعلى (2604)، والطبري: التفسير: 30: 255، 256، والطبراني: الكبير (11950)، والواحدي: أسباب النزول: 303، والبيهقي: 2: 192، وانظر: فتح الباري: 8: 724.

وزاد ابن عبد الأعلى: فليدع ناديه، يعني قومه (¬1)! ونبصر التشنيع والتعجيب في صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى (¬2) .. ونبصر الرجعة إلى الله في كل شيء، وفي كل أمر، وفي كل نيّة، وفي كل حركة، فليس هناك مرجع سواه، إليه يرجع الصالح والطالح، والطائع والعاصي، والمحق والمبطل، والخيّر والشرّير، والغنيّ والفقير .. وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى .. ألا إلى الله تصير الأمور .. ومنه النشأة إليه المصير! ونبصر التشنيع والتعجيب ونحن نتصوّر هذا الأمر المستنكر، كيف يقع؟ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}! ونبصر التهديد: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)}! ويروي البخاري وغيره عن عروة بن الزّبير، قال: سألت عبد الله بن عمروٍ، عن أشدّ ما صنع المشركون برسول الله -صلى الله عليه وسلم -، قال: رأيت عُقبة بن أبي مُعيْطٍ، جاء إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهُو يصلّي، فوضع رداءً في عُنقه، فَخَنَقه ¬

_ (¬1) مسلم (2797)، وأحمد: 2: 370، والطبري: التفسير: 30: 256، والبيهقي: 2: 189، والبغوي: معالم التنزيل: 4: 507، 508، وأبو نعيم: الدلائل (158)، وابن حبان (6571)، وانظر: الدر المنثور: 8: 565. (¬2) في ظلال القرآن: 6: 3942 بتصرف.

به خَنْقاً شديداً، فجاء أبو بكر، حتى دفعه عنه، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غافر: 28)! وفي رواية: قال: قلت له: ما أكثر ما رأيْتَ قريشاً أصابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما كانت تُظْهرُ من عداوته، قال: قد حَضَرْتُهم وقد اجتمع أشرافهم في الحِجْر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ما رأيْنا مِثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قطّ، سفَّه أحلامنا، وشَتَم آباءنا، وعابَ ديننَا، وفرّق جماعتنا، وسبَّ آلهتنَا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا، قال: فبينما هم كذلك، إِذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي، حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت، فلما أن مرّ بهم غَمزوه ببعض يقول! قالوا: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى! فلمَّا مرّ بهم الثانية، غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى! ثم مرّ بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال: "تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسُ محمَّد بيده، لقد جئتكُم بالذّبح"! فأخذت القومَ كلمته، حتى ما منهم رجل إِلا كأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إِن أشدَّهم فيه وصَاةً قبل ذلك لَيرْفؤُهُ بأحسن ما يجد من القول، حتى إِنه ليقول: انَصِرفْ يا أبا القاسم، انصرف راشدًا، فوالله! ما كنت جهولاً! قال: فانصرف رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إِذا كان الغَدُ، اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم، فقال بعضُهم لبعض: ذكرتُم ما بلغ منكم، وما بلغكُم عنه، حتى إِذا ما بادأكُم بما تكرهون تركُتموه، فبينما هم في ذلك، إِذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوثبوا إِليه وثبةَ رجل واحد، فأحاطوا به، يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لمِا كان يبلغهم عنه من عيْب آلهتهم ودينهم! قال: فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَعم، أنا الذي أقول

ذلك" قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخَذَ بمجمع ردائه، قال: وقام أبو بكر الصدّيق - رضي الله عنه - دونه، يقول وهو يبكي: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}! ثم انصرفوا عنه، فإِن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشاً بلغتْ منه قط! وفي رواية قال: ما رأيت قريشاً أرادوا قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلا يوماً رأيتهم وهم جلوس في ظلّ الكعبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي عند المقام، فقام إِليه عقبةُ بن أبي مُعَيْط، فجعل رداءه في عنقه، ثم جذبه، حتى وَجَب لرُكبَتيْه - صلى الله عليه وسلم -، وتصايَحَ الناس، فظنّوا أنه مقتول! قال: وأقبل أبو بكر - رضي الله عنه -، يشتدّ حتى أخذ بِضَبُعَي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورائه، وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا قضى صلاته، مَرّ بهم وهم جلوسٌ في ظلّ الكعبة، فقال: "يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده ما أُرسلتُ إِليكم إِلا بالذَّبْح" وأشار إِلى حلقه، فقال له أبو جهل: يا محمَّد، ما كنت جهولاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنْتَ منهم" (¬1)! ويروي الشيخان وغيرهما عن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إِذ قال بعضهم لبعض: أيُّكم يجيء بِسَلَى جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمَّد إِذا سجد! فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه، ¬

_ (¬1) البخاري: 62 فضائل الصحابة (3678)، وانظر (3856، 4815)، وخلق أفعال العباد (308)، وأحمد: 2: 218 وسنده حسن، والبزار كما ذكر ابن حجر: الفتح: 7: 168، والبيهقي: "الدلائل": 2: 275، وانظر: المجمع: 6: 1516، وابن حبان (6599)، وأبو يعلى: 1: 343.

وأنا انظر لا أُغني شيئاً، لو كانت لي مَنَعةٌ. قال: فجعلوا يضحكون، ويُحيلُ بعضهم على بعض، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمةُ، فطَرحَت عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: "اللهُمّ! عليك بقريش"! ثلاث مرات، فشقّ إِذْ دعا عليهم قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة! ثُمّ سَمَّى: "اللهم! عليك بأبي جهل، وعليك بعُتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عُقبة، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط"! وعدّ السابع، فلم نحفظه! قال: فوالذي نفسي بيده! لقد رأيت الذين عدّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صرعى في القليب، قليب بدر! وفي رواية: غير أن أميّة تقطعت أوصاله، فلم يلق في البئر (¬1)! ويروي أحمد وغيره بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إِن الملأ من قريش! اجتمعوا في الحِجْر فتعاقدوا باللات والعُزّى، ومناة الثالثة الأخرى، ونائلة وإِسافِ: لو رأينا محمداً، لقد قُمنا إِليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتّى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله عنها تبكي، حتى دخلتْ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هؤلاء الملأ من قريش، قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك، لقد قاموا إِليك فقتلوك، فليس منهم رجلٌ إِلا قد عرف نصيبه من دمِك، فقال: "يا بُنَيَّة، أريني وَضُوءًا" فتوضّأ، ثم دخل عليهم ¬

_ (¬1) البخاري: 4 الوضوء (240)، وانظر (520، 2934، 3185، 3854، 3960)، ومسلم (1794)، وأحمد: 1: 393، 417، وابن أبي شيبة: 14: 298، والطيالسي (325)، وابن خزيمة (785)، والبيهقي: 9: 78، و"الدلائل": 2: 279، 3: 82، والنسائي: 1: 161، والكبرى (8668، 8669)، وأبو عوانة: 4: 220، 222، 224، واللالكائي: أصول الاعتقاد (1418، 1419)، والبزار (2389، 2398) زوائد، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 349، 350، وابن حبان (6570).

المسجد، فلما رأوْه قالوا: ها هو ذا، وخَفَضُوا أبصارهم، وسقطتْ أذقانهم في صدورهم، وعُقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إِليه بصرًا، ولم يقُم إِليه منهم رجل، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضةً من التراب، فقال: "شاهت الوجوه" ثم حَصَبهم بها، فما أصاب رجُلاً من ذلك الحَصى حصاةٌ إِلا قتل يوم بدرٍ كافراً (¬1)! وسيأتي مزيد بيان لذلك! ويرى ابن كثير أن غالب ما وقع للرسول - صلى الله عليه وسلم - من اعتداء جسدي، وما يشبه ذلك، كان بعد وفاة عمه أبي طالب (¬2)! ويروي أحمد وغيره بسند حسن عن عبد الله قال: أوّل من أظهر إِسلامه سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمّار، وأمّه سميّة، وصهيب، وبلال والمقداد! فأمّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنعه الله بعمّه أبي طالب! وأما أبو بكر، فمنعه الله بقومه! وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدْراعَ الحديد، وصَهَرُوهم في الشمس، فما منهم إِنسان إِلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إِلا بلال، فإِنه قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعْطوه الوِلْدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكّة، وهو يقول: أحدٌ، أحدٌ (¬3)! ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 303، 368، والحاكم: 1: 163، 3: 157 مختصراً، وأبو نعيم: الدلائل (139)، والبيهقي: الدلائل: 6: 240، وابن حبان (6502). (¬2) انظر: البداية: 3: 148. (¬3) أحمد: 1: 404، وفضائل الصحابة (191)، وابن أبي شيبة: 12: 149، 14: 313، وأبو نعيم: الحلية: 1: 149، 172، وابن عبد البر: الاستيعاب: 1: 141، والحاكم: 3: 284، والبيهقي: الدلائل: 2: 281 - 282، والشاشي (641)، وابن ماجه (150)، وابن حبان (7083).

ويروي الحاكم وغيره بسند صحيح عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بعمّار واهله، وهم يعذّبون، فقال: "أبشروا آل عمار، وآل ياسر، فإِن موعدكم الجنّة" (¬1)! قال ابن إسحاق: كانت بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، يعذّبونهم برمضاء مكّة، فيمرّ بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول فيما بلغني: "صبراً آل ياسر، موعدكم الجنّة" فأما أمّه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإِسلام (¬2)! ويروي الشيخان وغيرهما عن خبّاب - رضي الله عنه - قال (¬3): كنتُ قَيْناً في الجاهليّة، وكان لي على العاص بن وائل ديْنٌ، فأتيتُه أتقاضاه، قال: لا أُعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقلت: لا أكفر حتى يميتك الله ثم تبعث! قال: دَعْني حتى أموت وأبْعث، فسأوتَى مالاً وولداً فأقضيك، ¬

_ (¬1) الحاكم: 3: 388، 389، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وانظر: ابن هشام: 1: 395، وذكره الهيثمي: المجمع: 9: 293، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله ثقات، وقال الألباني: حسن صحيح: فقه السيرة: الغزالي: 107، 108، وانظر: الفتح الرباني: 20: 220، والبيهقي: الدلائل: 2: 282. (¬2) ابن هشام: 1: 395، وانظر: البيهقي: الدلائل: 2: 282، والإصابة: 6: 332، 333 (9209). (¬3) البخاري: 34 البيوع (2091)، وانظر (2275، 2425، 4732، 4733، 4734، 4735)، ومسلم (2795)، وأحمد: 5: 110، 111، والطيالسي (1054)، والترمذي (3162)، والنسائي: التفسير (342)، والطبري: التفسير: 16: 120، 121، والطبراني: الكبير (3650، 3651، 3652، 3653، 3654)، والبيهقي: 6: 52، والدلائل: 2: 280، 281، والبغوي: التفسير: 3: 207، 208، وابن حبان (4885).

15 - المساومة والإغراء

فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} (مريم)! ويروي البخاري وغيره عن خبّاب قال: شَكوْنا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسّد بُرْدةً في ظلّ الكعبة قلنا له: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعوا لنا؟ قال: وكان الرجل فيمن قبلكم، يُحفر له في الأرض، فيُجعلُ فيه، فيُجاءُ بالميشار فيُوضع على رأسه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله! ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إِلى حضْرموت، لا يخاف إِلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (¬1)! 15 - المساومة والإغراء: وانتقل المشركون إلى أسلوب المساومة والإغراء، وهو أسلوب خطير، فقد قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد بن محمَّد بن كعب القرظي قال: حدَّثت أن عتبة ابن ربيعة، وكان سيّداً، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمَّد فأكلمه ¬

_ (¬1) البخاري: 61 المناقب (3612)، وانظر (3852، 6943)، والحميدي (157)، وأحمد: 5: 109، 111، 6: 395، وأبو داود (2649)، وأبو يعلى (7213)، والطبراني: (3639، 3640، 3646، 3647)، وأبو نعيم: الحلية: 1: 144، والبيهقي: 9: 5، و"الدلائل": 6: 315، والنسائي: الكبرى (5893).

وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيّها شاء، ويكفّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدون ويكثرون. فقالوا: يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السِّطة (¬1) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً (¬2) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له: حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه قال: "أقد فركت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال: "فاسمع مني" قال: أفعل، فقال: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (فصلت: 4). ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول ¬

_ (¬1) أي من الشرف، يقال فلان من سطة قومه، أي من أشرافهم. (¬2) الرئي -بفتح الراء وكسرها- ما يتراءى للإنسان من الجن، والتابع هنا من يتبع الجن.

الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك"! فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأي، فاصنعوا ما بدا لكم! (¬1). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر عن جابر ابن عبد الله قال: "اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 362 - 364، وقد صرح بالسماع، وسنده منقطع، ورواه ابن أبي شيبة: المصنف: 14: 295 - 297 من غير طريق ابن إسحاق، فيه الأجلح، وفيه كلام، والبيهقي: الدلائل بمثل رواية ابن أبي شيبة: 2: 202 - 203، وأبو يعلى، وفيه الأجلح، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره. وبقية رجاله ثقات. قال الهيثمي: المجمع: 6: 19 - 20 لم أجده في مسند أبي يعلى، وانظر: عبد بن حميد: المنتخب: 337 (1123)، وحسن الألباني إسناده، فقه السيرة: 113، هامش، وقال عن إسناد ابن إسحاق؛ حسن مرسل، ورواه ابن أبي شيبة من غير طريق ابن إسحاق، والبيهقي بمثل رواية ابن أبي شيبة، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 234، وأبو يعلى: 3: 349 (1818)، وانظر: المجمع: 6: 20، والمطالب العالية (4285)، وابن كثير: التفسير: 4: 90، وما بعدها، والبداية: 3: 62 وما بعدها، والدر المنثور: 5: 358.

والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ما يردّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أثبت يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمَّد، أنت خير أم عبد الله، أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإِن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإِن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما تنتظر إِلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إِلى بعض بالسيوف، يا رجل إِن كان بك حاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإِن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجنك عشراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فرغت؟ " قال: نعم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: "لا" فرجع إِلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إِلا كلمته، فقالوا: فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال. غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال: لا والله، ما فهمت شيئاً مما قال، غير ذكر الصاعقة! (¬1) ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني: 4: 485 نقلاً عن ابن أبي شيبة: المغازي (1849)، وأبي يعلى (1818)، وصححه الحاكم: 2: 253، 254، ووافقه الذهبي، وأبي نعيم: "الدلائل": =

16 - عقلية بليدة

وأخرج أبو نعيم، والبيهقي، كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال: "لما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - على عتبة بن ربيعة: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} أتى أصحابه فقال: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاماً ما سمعت أذني قط كلاماً مثله، وما دريت ما أردّ عليه! (¬1) وهكذا تعددت الروايات! 16 - عقليَّة بليدة: ونبصر في عرض عتبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربعة أمور) أيها شاء أعطيه، في سبيل أن يكف عنهم، ويتوقف عن عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، وتضليل آبائهم: (¬2) أولها: إن كان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يريد بما جاء به من دعوته إلى توحيد الله، وخلع الأنداد، وترك عبادة الأصنام، مالاً جمعوا له من المال حتى يكون أكثر قريش مالاً وثراءً! ثانياً: إن كان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يريد بما جاء به من رسالته شرفاً ولّوه عليهم وبايعوه سيداً لهم، فلا يقطعون أمراً من أمورهم دون أن يكون محمَّد - صلى الله عليه وسلم - شاهده وصاحب الكلمة العليا فيه! ¬

_ = 184، 185، والبيهقي: "الدلائل": 2: 204، 205، وقال الهيثمي: المجمع: 6: 23 فيه الأجلح الكندي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات! (¬1) السابق، نقلاً عن أبي نعيم: الدلائل: 187، 188، والبيهقي: "الدلائل": 2: 205، 206. (¬2) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 195 وما بعدها بتصرف.

ثالثها

ثالثها: إن كان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يريد بما جاء به ملكاً ملكوه عليهم، وجعلوا على مغرفه تاج الملك، وبايعوه ملكاً على سائر قريش ومن ورائها جميع العرب الذين يدينون بتعظيم قريش التي جعلوا إلى بيتها بيت أبويهما إبراهيم وإسماعيل حجهم وأكبر مواسمهم! رابعها: إن كان هذا الذي يأتي محمداً رئياً وتابعاً من الجن، تسلّط على مشاعره، فلا يستطيع ردّه عنه، وغلب عليه، فلا يستطيع مقاومته، والانفكاك عنه بذلوا في طلب الطب له من أموالهم حتى يبرأ منه! أفلهذه الأدمغة التي نخرها سوس الوثنيَّة البليدة المتهافتة، فأفسدها حسًّا ومعنى، فلم يبق في تلافيف خلاياها ذرة من تعقّل وتفكير يستقيم! يا ويح قريش من عقلائها؟ أهذا كل ما تمخضت عنه عقليَّة عتبة، عاقل قريش؛ لينهي به أزمتها مع محمَّد - صلى الله عليه وسلم -! ومرة أخرى أفلهذه الجماجم النخرة التي تحملها رقاب عريضة الأقفية، ما هذا يا أبا الوليد؟ وأنت من أقرب قريش نسباً إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأعرف الناس بمدخله ومخرجه! 17 - السمو الروحي: ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رسول رب العالمين إلى البشريَّة كلها، أمره الله تعالى أن ينذر أول من ينذر عشيرته الأقربين -كما أسلفنا- فدعاهم وأبلغهم رسالة ربّه أكمل وأرفق ما يكون التبليغ، ولم يسألهم أموالهم، وما سألهم إلا المودة في القربى، وما كان محمَّد قط في حاجة إلى شرف فوق شرفه في قومه وبيته، وقريش كلها تعرف له هذا الفضل، وتذعن به لبيته ونبعته! ولم يعرف عنه قط أنه تطلع إلى ملك الدنيا، فلم يحفظوا عنه قط أنه طلب إليهم أن يجعلوه ملكاً على بلدهم!

18 - رسالة ورسول

وما قَدْر الملك عليهم وعلى قريتهم وبلدهم، وهي التي يملكون أمرها؟! وأي ملك هذا؟ ملك قرية متقارية الأكتاف، ويقطعها الرجل مشياً في زمن لا يستغرق ساعة من نهار، ليس فيها من مظاهر الرياسة بله الملك سوى هذه العنجهيات الجوفاء تملأ الأدمغة النخرة، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - عاش منذ مهده وشبوبيتّه ورجوليّته على سمع قومه وبصرهم، فلم يطلب من أحد منهم شيئاً مما يتصل بالدنيا، ولما بعثه الله تعالى برسالته رحمة للعالمين، لم يعنت قومه، ولم يسألهم دنياهم ولازاحمهم عليها، وكان أبعد الناس عن زخرفها وحطامها والتكثّر منها! وإنما سألهم أن يطهروا أنفسهم وعقولهم وقلوبهم من رجس الوثنية، ووضر الشرك .. سألهم أن يوحّدوا الله في تعبّدهم، وأن يخلعوا من أعناقهم عبادة الأحجار والأوثان، كل ذلك في كلمة واحدة، إذا قالوا وعملوا بمضمونها وحقيقتها ملكوا الدنيا بها! 18 - رسالة ورسول: ولم يكن في دنيا مكة، ودنيا العرب، صاعدين ونازلين، مشرّقين ومغرّبين، ولا كان في دنيا سائر الناس وراء العرب شمالاً وجنوباً رجل أصحّ عقلاً وأسدّ فكراً، وأطهر قلباً، وأنور روحاً، وأكمل جسماً، وأعلى في نقاء البشريّة وصفائها كعباً من محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي الذي اختاره الله تعالى في أكمل البشريّة سنًّا وعقلاً وفكراً وقلباً وروحاً، نبياً ورسولاً إلى العالمين، يدعوهم إلى الهدى، ويخرجهم من الظلمات إلى النور! ولكن ملأ المادية الوثنيّة من طواغيت قريش لم تقنعهم كلمات عتبة ابن ربيعة إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، بل شكوا في صباءة عتبة؛ إذ لم يرجع إليهم من

سفارته أمماً، بل وجّه إلى بيته -كما في روايات أخرى- ولم يخرج إليهم، معتزلاً مجلس ناديهم، فذهبوا إليه وسألوه عن اعتزاله عنهم، وعنتوه في موقفه منهم، حتى أكرهوه على شيء لم يكن ليختاره لو كان له خيار .. أكرهوه على أن يحلف ألا يكلّم محمداً - صلى الله عليه وسلم - أبداً؟؟ عجيب عاجب، ومنطق معكوس! أهذا منطق العقل -يا عاقل قريش، ومختارها لحل عقدة حياتها في أشدّ أزماتها؟ وما شأن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في موقفك مع قومك، وموقف قومك منك؟ ولا سيما موقف غميز الرجولة، وطريد الكرامة، ولعن المروءات صاحبك أبي جهل، إذ أحرجك وعنتك بكلماته الفاجرة حتي تخرج عن عقلك، وتقسم ألا تكلّم محمداً - صلى الله عليه وسلم - أبداً؟ وهل خلْت يا عاقل قريش، فتخيلت أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - في حاجة إلى مكالمة عبيد الماديّة الوثنيّة، وأنت أحد ساداتهم، إن لم يؤمنوا با لله، ويكفروا بالطاغوت، ويستمسكوا بعروة دعوته الوثقى، ويحرّروا عقولهم وقلوبهم من التعبّد للماديّة في شتى أشكالها؟ أفما كانت العزّة العربيَّة والكرامة القرشيّة، والشهامة العبشميّة تقتضيك بداهة أن يكون موقف المقاطعة، هذا الذي اتخذته لنفسك أو حُملت عليه حملاً، فوقفته من محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا دخل له في حرجك- أن يكون حريًّا به منك صاحبك غميز الرجوليّة أبو جهل، فهو الذي عيّرك بالبطنة والبؤس والحاجة إلى طعام محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وطعام محمَّد - صلى الله عليه وسلم - غير مضنون به على عامة أو خاصة، وغير محجور على غني أو فقير، ولا ممنوع منه عاجز أو فقير، ولا يذاد عنه مسكين أو طريد، وكل طعام في ميزان الجود والمروعة لعاعة الدنيا وسدّ رمقها، فلا يقدره فوق ذلك إلا شبع زريّ، وبخل شريّ، وضنٌّ بغيّ! ولكنها الماديّة الوثنية في كل زمان ومكان وعصر ومصر وجيل وقبيل، لا

19 - طمأنينة قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -

تؤمن إلا وهي مشركة، ولا نعقل إلا وهي آفنة، ولا تتصرّف إلا وهي مأفونة مخذولة! وأين شجاعة عاقل قريش عتبة بن ربيعة التي كانت تحلّيه، وفي ظلها اختارته قريش ليسفر بينها وبين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليخلصها من أزماتها؟ تلك الشجاعة التي تبددّت هباء في أعاصير الجبن والهلع، عندما لقيه لعين الرجوليّة أبو جهل، وهو يجبهه ويسخر منه ويهزأ به، حتى استنزله من أفق تعقله إلى مهاوي العصبيّة الجهول، والعناد الكفور! لقد عبّر عتبة لقومه حين سألوه عن سفارته إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمع منه ما سمع من آيات القرآن الحكيم تعبيراً أزكم أنوفهم، حتى قال لهم في الرواية التي معنا صادقاً غير مصدّق: (هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم). 19 - طمأنينة قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -: وتطالعنا صورة من وقع الإنذار من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قلب رجل لم يؤمن! ونبصر أدب النفس الكبيرة (¬1)، وطمأنينة القلب المؤمن، وهو يستمع من عتبة إلى هذه الخواطر الصغيرة التي يعرضها عليه، وقلبه مشغول بما هو أعظم. حتى لتبدو هذه الخواطر مقزّزة تثير الاشمئزاز .. ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلقّاها حليماً، ويستمع كريماً، مطمئناً هادئاً ودوداً، لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة، حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟ " فيقول أبو الوليد: نعم! فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"فاسمع مني". ولا يفاجئه بالقول حتى يقول: أفعل! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 3117 وما بعدها بتصرف.

20 - في رحاب سورة (فصلت)

وعندئذ يتلو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثقة وطمأنينة وفيي امتلاء روح قول الله تعالى كما سبق. حقًّا إنها صورة تلقي في القلب المهابة، والثقة، والمودّة، والاطمئنان، ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه الذين قد يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقن - صلى الله عليه وسلم - وصدق الله العظيم: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124). 20 - في رحاب سورة (فصلت): هذا، وكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - على عرض عتبة في لقائه منفرداً سفيراً من ملأ الماديّة الوثنيّة أن قرأ عليه -كما عرفنا- مقدمة سورة فصلت (¬1)، وهي من طلائع التنزيل، ونموذج من أرفع نماذج البيان القرآني في روعة الأسلوب، وبراعة الإعجاز الشامل لإعجاز الأسلوب، وطرائق الأداء، واتساق الصياغة البيانيّة، والشامل لإعجاز الهداية والحقائق الكونيّة، والمعاني الإصلاحيّة، والمعارف الفكريّة، والعلوم العقليّة، لما اشتملت عليه من عرض لآيات الكون في بعض جوانبه، وما تضمنته من رهبة الإنذار، وروعة الإرهاب للذين يلحدون في آيات الله، ويكفرون بما أنزل الله من كتاب يدعوهم إلى الرشد والخير، وبما حوته من حوار وحجاج، وقصص وأحداث، مليئة بالعبر التي توقظ الضمير، وتوجه العقل إلى النظر في آيات الله، حتى يتبيّن للناظرين بعين الاعتبار أن الذي أنزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، جاءهم به من عند ربهم، مما يقتضينا أن نجمل في إيجاز معبّر بيان حقائق هذه السورة الكريمة ومعانيها التي تجلّت فيها حكمة اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها جواباً على ما عرضه سفير طواغيت ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله: 2: 199 وما بعدها بتصرف.

الماديّة الوثنيّة عتبة ابن ربيعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليقنعه باختيار ما يشاء من لعاعات الدنيا فيعطاه، ويكفّ عن قريش ودعوتها إلى الله وتوحيده، فلا يسمعها في أنديتها قوارع رسالته، ولا يزعجها بشآبيب إنذاراته! ومن البيّن الذي لا يحتاج إلى موقف متأمل أن الأمور التي عرضها سفير قريش عتبة بن ربيعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليختار منها ما يشاء فتعطيه إيّاه قريش ثمناً لكفّه عنها، وتركها غارقة في أرجاس ماديّتها الوثنيّة، وشركها الكفور، كانتَ أرفع مناصب الدنيا، وأجلّ ما يطلبه الطامعون في زخارفها، الطامحون إلى مشارفها وعلوّها! فهي أمور ماديّة أرضيّة، ليس فيها رائحة من شرف العقل، وكرامة الفكر. وإشراق الروح، انتزعها عباهلة المادية الوثنيّة من أعظم ما تسمو إليه حياتهم الماديّة الظالمة المظلمة! وقد أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقراءة ما قرأ على مسامع سفير قريش عتبة بن ربيعة، وجعلها جواباً له عن عروضه الماديّة التي عرضها عليه، ليختار منها ما يشاء أن يزعج ضميره، ليستيقظ من غطيط نومه الوثني، ويفيق من سكرته الجاهليّة، ويصحو من غفلة عنجهيّته، وضلالات مواريثه، عسى أن يكون في ذلك فتح مغاليق قلبه وقلوب من وراءه من غطاريف الوثنية المادية، فتؤمن قلوبهم بما يتجلى لها من الحق، وبما تعرف من حججه ودلائله، وبما تفقه من براهينه التي جاءهم بها رجل أمّي من أنفسهم، وهم أعرف به من معرفتهم بأبنائهم وأنفسهم! ولا شك أن الحديث إلى رجل منفرداً أدعى إلى الأناة والتفهم، وتعمق الفكر، وبسط الحوار وتنوّعه في أودية الإقناع والتثبّت، ولا سيما إذا كان المتحدّث إليه يحمل مخايل التعقّل، وحكمة التدبر لا يسمع، وقد كان الظن كذلك بعتبة، فقريش بعثته سفيرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنها رأته أعقلها وأعلمها بما

هنالك من علومها ومعارفها التي تشفّ لها عما تريد معرفته من محمَّد- صلى الله عليه وسلم - ودعوته! ورسوله - صلى الله عليه وسلم - رأى بحكمة تسديد الله له في سير رسالته، وتوجيهه في تبليغ دعوته أن إسماع عتبة شيئاً من آيات القرآن الحكيم فرصة لا تتاح مع المجموع المختلطة التي تغلب عليها أصوات الغوغاء، فترتفع على أفكار المتعقلين، وغالباً ما تكون المجموع الجماهيريّة المختلطة جامعة إلى جانب الرجل المتفكر أعداداً من الحمقى والسفهاء المتسرعين بالكلمة يلقونها دون مبالاة بما تنتهي إليه والغوغاء لا يضبط لها رأى، ولا يقام لنعيقها ميزان، ولا يعرف لها تدبر في فكر! ومن هنا كانت الحكمة في إجابة عتبة عن مساءلاته وعروضه في اختصاصه بقراءة هذه السورة الكريمة، وقد تحقق مرمى نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق أثر قراءة ما قرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عقل عتبة وتفكيره، فنقله إلى قومه وملئهم، وتأثر العقل ليس من صلات تأثر القلب الذي يتولد منه الإيمان، وتنبع من أرومته الهداية، فلم يؤمن عتبة، ولكنه صدقهم إذ قال لهم: (قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها لي، وخلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به .. !) والناظر في هذه السورة بعين التأمل والبصيرة يرى أنها قد بدأت بأن القرآن تنزيل من الرحمن الرحيم، وهو رب العالمين الذي تولى تربية خلقه، ووصف الرحمة المستمد من هذين الاسمين الكريمين في مفتتح السورة اللذين يستوعبان التفضّل بالإنعام ابتداء، ودوام الإحسان من غير انتهاء، فيه إشعار يستقبل المؤمن

من أول وهلة بأن ما جاء في هذا الكتاب المجيد عامة، وفي هذه السورة خاصة من أمر ونهي، ووعد ووعيد وترغيب وترهيب، وقصص وأحداث، وآيات وعجائب، وتوجيه نظر إلى دلائل القدرة الإلهية في آيات الكون في الآفاق وفي الأنفس، إنما هو رحمة من الله تعالى بعباده، يدعوهم بها لينقذهم من الظلمات إلى النور، ويخرجهم من ضلالات الجهالة إلى هدى العلم والمعرفة! ثم بيّنت السورة أن هذا القرآن فصّلت آياته بأسلوب عربي بيّن يبشّر وينذر، ثم تحدّثت عن فريق من الناس صمّوا آذانهم عن سماع الحق، وأغلقوا دون هدايته قلوبهم عناداً واستكباراً في الأرض بغير الحق، وأقاموا على عنادهم، وظلّوا في طغيانهم يعمهون، فلم تتألفهم البشائر، ولم ترْدَعهم النذارة! ثم ذكرت السورة أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بشر مثل سائر البشر في طبيعته البشرية، لا يمتاز عنهم بشيء سوى أنه رسول من الله يوحى إليه بتوحيد الله تعالى، فلا يطلب بما جاء به مالاً، ولا سيادة، ولا شرفاً، ولا ملكاً مما يتطلع إليه عبيد الدنيا، وإنما يطلب من عباد الله أن يستقيموا مع ربهم، فيفردوه بالعبادة ويستغفروه من الذنوب والآثام! والسورة تخاطب هؤلاء المعاندين بأسلوب تعجبي، ينكر عليهم موقفهم المتبلّد بالجمود من قوارع الآيات، ليوجه عقولهم إلى النظر في الآيات الأرضية! أولاً: لقربها إلى نظر المخاطبين، ثم تنتقل السورة إلى توجيه النظر! ثانياً: إلى الآيات السماويّة، لظهور دلائلها لأبصارهم وسائر منافذ حسّهم وحاجتها إلى التأمّل الصادق المتعمّق ببصائرهِم، وذلك في نحو قوله تعالى: {وقُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ في يَوْميْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ

الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}! (فصلت). والآيات تذكر خلق الأرض في يومين برهاناً على التوحيد وخلع الأنداد، وأن الله تعالى الذي أبدع بقدرته هذه الأرض هو ربّ العالمين، الذي ربّاهم على موائد فضله وإحسانه، وأنه تعالى حفظ الأرض بما جعل فيها من الرواسي، وأنه بارك فيها بما أمدّها من رحمته، وبما أنشأ فيها من ثمرات وزروع، جعلها قوتاً لعباده، وحفظاً لحياتهم، وتمم ذلك في يومين، وقامت الأرض بما عليها وما فيها في أربعة أيام من أيام الله -سبحانه وتعالى! ثم بيّنت الآيات أن الله تعالى بعلمه المحيط وقدرته القاهرة قصد قصداً تكوينياً، فجعل السماء التي كانت دخاناً لا يتماسك ولا يستقر، فسواها بقدرته بناء متماسكاً وسقفاً محفوظاً، في يومين من إيَّامه، وبذلك تمّ عده أيّام للخلق للسموات والأرض ستة أيام، وقد تكرّرت هذه العدة في القرآن الكريم. ولما استتمت الآيات ذكر براهين القدرة الإلهية الحسية والعقليّة، السماويّة والأرضيّة، المقتضية ببداهة العقل توحيد الألوهية، وتفريد الله تعالى خالق الأرض والسموات، وما جعل فيها من آيات وأسرار بالتعبّد له، ولم يبق لهؤلاء المعاندين الذين خوطبوا بالآيات المذكورة بالأسلوب التعجيبي عذر، ولم تقم لهم في كفرهم وجحودهم حجّة ولا شبهة، جاءهم الوعيد يجلجل بالتهديد،

والوعيد تخويفٌ وإنذارٌ لكل من يسلك مسلكهم، ويمشي في طريق إلحادهم وكفرهم: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)}! في تفصيل مرعب مخيف لما حلّ بالمتمردين المعاندين من الأمم السابقة، والعرب كانوا أقوم الناس بفهم القرآن، وأعرفهم بحقائقه ومراميه، وزواجره ونواهيه؛ لأنه على سنة مخاطباتهم ومجاري أساليبهم نزل، وبلغتهم وطرائق صياغاتهم خاطبهم! ونبصر وجهاً من وجوه اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة الكريمة لتكون جواباً على محاصرة عتبة له - صلى الله عليه وسلم - في سفارته إليه إجابة لاختيار قريش له، لعلمه بالسحر والكهانة والشعر، فكان لها أثرها العميق في نفس عتبة! وسبق أن ذكرنا تعدّد الروايات في ذلك! وبعد أن انتهت الجولة على مصارع عاد وثمود، والإنذار بهذا المصرع المخيف المرهوب، وتكشّف لهم سلطان الله الذي لا تردّه قوّة (¬1)، ولا يعصم منه حصنٌ، ولا يبقي على مستكبر مريد .. يطلعهم على سلطان الله في ذوات أنفسهم، التي لا يملكون منها شيئاً، ولا يعصمون منها شيئاً من سلطان الله، حتى السمع والأبصار والجلود تطيع الله وتعصيهم في الموقف المشهود، وتكون عليهم بعض الشهود! إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب، وسلطان الله الذي تطيعه جوارحهم وتستجيب، وهم يوصمون بأنهم أعداء الله، فما مصير أعداء الله؟ إنهم يحشرون ويجمع أوّلهم على آخرهم، وآخرهم على أوّلهم كالقطيع! إلى أين؟ إلى النار! حتى إذا كانوا حيالها وقام الحساب، إذا شهود عليهم لم يكونوا ¬

_ (¬1) انظر: في ظلال القرآن: 5: 3118.

لهم في حساب .. إن ألسنتهم معقودة لا تنطق. وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ، وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم؛ لتستجيب لربّها طائعة مستسلمة، تروي عنهم ما حسبوه سرًّا، فقد يستترون ويظنون أن الله لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم وبجرائمهم! يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي، يغلبهم على أعضائهم فتلبي وتستجيب! ويطول بنا الحديث في عرض ما اشتملت عليه السورة .. ولما استكملت وجوه الدلائل القاطعة مبثوثة في السماء والأرض على وجود الله ووحدانيّته وعظيم قدرته (¬1)، وظهر أن هؤلاء المعاندين كانوا نماذج للفطرة الفاسدة والعقول الجامدة على تقليد موروث الآباء في جهالة جاهلة، وأنهم لم يستفيدوا من كتاب الكون الذي عرض القرآن الكريم آياته عليهم، واستنهضهم للنظر فيها .. نبّهت السورة في خاتمتها إلى أن الله تعالى سيجعل من سلائل الإنسانيّة نماذج أخرى. يضيء عقولهم، فيكشف لهم بها عن آياته في آفاق الحياة وجوانبها العلويّة والسفليّة، وعن آياته في أنفسهم وما انطوت عليه بنيتهم البدنيّة من أسرار التركيب، وبديع الخلق فيما ظهر منها وما بطن، وعن آياته فيما أودع أرواحهم من الأسرار النورانيّة، وما جعل في عقولهم من الإشراقات الفكريّة، وذلك في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} (فصلت). ¬

_ (¬1) انظر: محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 207 وما بعدها.

21 - عناد المشركين

21 - عناد المشركين: ولما يئس ملأ قريش من استجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمطالبهم الماديّة الأرضيّة (¬1)، ووقف مع إيمانه برسالة نفسه عند معاقد عزّته وجميل صبره، مستمرًّا في تبليغ رسالته، قوَّاماً بأمر دعوته، لا يغتر ولا يستحسر .. لجؤوا إلى التعنّت واقتراح المطالب التي دفعهم إليها العناد والكفور، والحسد الحقود، فقالوا له: فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك، فلا تريد مالاً وثراء، ولا تريد شرفاً وسؤدداً، ولا تريد ملكاً وسلطاناً، فاسأل الله لنا أن يوسَّعَ علينا ديارنا وبلادنا، فيسيِّر عنها الجبال التي تخنقها، ويفجر فيها الأنهار والينابيع، فلم يتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن موقفه في وثاقة إيمانه برسالته، وسموّ أدبه في عبوديته لربه ومعرفته بجلاله، ولا اهتزت نفسه ذرّة عن دعائم صبره ومضاء عزيمته، وأقام - صلى الله عليه وسلم - في عزم مصمّم، إذا عرضوا دنياهم في الشرف والسيادة والملك والمال والثراء، فأبى أن يقبل منهم شيئاً من أمورهم، فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا، ينزعون على ركيّ الدهش والحيرة، فأدخلوا أنفسهم على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الخاصة. وأقحموا تافهات أفكارهم على عيشه وشأنه في صورة عاطفيّة مرذولة زائفة مزوّرة .. ولم يقف الحمق وخرق الرأي وسفه التفكير بملأ الماديّة الوثنيّة عند هذا الحدّ، ولكنهم اشتطوا على أنفسهم، وركبوا شيطان الجهالة وفجور الوثنيّة، فاستنزلوا على أنفسهم سخط الله ولعناته .. وحكى القرآن الكريم عنهم أبشع من هذا فقال: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} (الأنفال). ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 214 وما بعدها بتصرف.

ولكن اللطيف الودود الذي أرسل محمداً رحمة للعالمين، ولم يرسله لعنة على المعاندين الجاحدين، جعل وجوده حصناً حصيناً من تنزل عذاب الاستئصال في الدنيا بهؤلاء المعاندين الجاحدين، فقال عقب تصوير بشاعتهم يرفع ذكره، وينوّه بمقامه عنده: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}! وجعله أماناً، ولو ظلوا على كفرهم وشركهم، ثم جعل توبتهم بالإيمان واستغفارهم لما سلف من كفرهم أماناً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} (الأنفال). يروي البخاري وغيره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: (¬1) (اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} (الأنفال). ويروي أحمد وغيره عن أبي موسى قال: (¬2) أمانان كانا على عهد رسول ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4648، 4649)، والبيهقي: الدلائل: 3: 75. (¬2) أحمد: 4: 393 صحيح لغيره، فيه جهالة محمَّد بن أبي أيوب، تفرد بالرواية عنه حرملة بن قيس، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، من رجال (التعجيل)، وحرملة بن قيس، وهو النخعي، قال أحمد: ما أرى بحديثه بأساً. وقال ابن معين: ثبت، وهو من رجال (التعجيل) كذلك، وكيع: هو ابن الجراح الرؤاسي. والبخاري: التاريخ الكبير: 1: 32، والحاكم: 1: 542 من طريق وكيع بهذا الإسناد، وتحرّف اسم محمَّد بن أبي أيوب إلى عبيد بن أبي أيوب، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وأخرجه الترمذي (3082) مرفوعاً، وتمام الرازي في فوائده (3145): الروض البسام، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وللموقوف شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم: 1، 342، والبيهقي: شعب الإيمان (654) من طريق أسود =

الله - صلى الله عليه وسلم -، رُفع أحدهما، وبقي الآخر: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}. وذكر القرآن الكريم تعنتهم في اقتراحاتهم المشتطة في مواضع متعددة من سوره وآياته، وأجاب عنها فأفحمهم وأبان عن جهالتهم وعنادهم، وركونهم إلى سفاسف الدنيا في أعلى درجات طموحهم، وأرفع مراتب مطامعهم، وكشف عن خبيء نفوسهم؛ وأنهم قوم لا يعيشون إلا لبطونهم وشهواتهم، لا يرتفعون عن الأرض إلا ليقعوا على رؤوسهم في مهاويها، أخلدوا إلى الأرض لا يريمون عنها، فكانوا كالمعنيين بقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} (الأعراف). ونبصر صوراً من هذه الاقتراحات المتعنتة ونحن نقرأ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ¬

_ = ابن عامر شاذان عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن محمَّد كعب القرظي، عنه - رضي الله عنه - قال: "كان فيكم أمانان ... " قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد اتفقا على أن تفسير الصحابي حديث مسند، ووافقه الذهبي، قلت: هو صحيح، وليس على شرط مسلم، فأبو جعفر الخطمي وهو عمير بن يزيد الأنصاري لم يرو له مسلم، إنما روى له أصحاب السنن، وهو ثقة، وانظر: الطبري: تفسير الآية، والبيهقي: 5: 46 وإسناده حسن!

الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء). والمتأمل فيما تعنتوا فيه واقترحوه عليه، يرى الحماقة ماثلة في كل حرف مما قالوا، وفي كل كلمة مما اقترحوا، ويرى خرق الرأي، وتفاهة التفكير تتعرّى من رؤوسهم، وتتقاطر من عقولهم، صديد غباء، ويرى دناءة الطموح، وطموح الدناءة، تتعرّى مكشوفة السوآت، بادية العورات، في مقترحاتهم المتعنّتة، فهم لم يطلبوا إلا ينابيع ماء تجري في أوديتهم، ولم يطلبوا إلا جناناً وحدائق من نخيل وعنب وأنهار تجري خلال تلك الجنات تسقيها، ويأكل منها تنابلة مكة، وهم قعود يهجرون! فإن لم يك هذا ولا ذاك فصواعق تسقط السماء عليهم قطعاً تدمّرهم كما دمرت إخوانهم الماديّين الوثنيّن قبلهم إذ كذّبوا رسل الله وكفروا برسالاته! فإن لم تستجب -يا محمَّد- لبطوننا وهوس أفكارنا الماديّة المظلمة فخذ لنفسك من ربك، واطلب منه أن يغنيك عن النّصب والكيد في سبيل المعاش، كما ينصب ويكدّ سائر الناس، فليعطك ربك عزًّا دنيويًّا، وترفاً في العيش، وتنعماً يرفّهك في بيت منضد مزخرف بالزينة، مموّه بالذهب، مرقش بالفضّة، منمنم بمتاع الدنيا وزينتها! ويحكي عنهم القرآن الكريم قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَو

يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}! (الفرقان). فعقولهم المظلمة لا تستسيغ فهم رسول من عند الله، يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى، وإقامة موازين العدل في الأرض، يعيش ببشريّته كما يعيش سائر البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ليكسب عيشه من كده وعرق جبينه، كما يكسب جميع الشرفاء في أرض الله أرزاقهم وأسباب عيشهم! وهؤلاء الماديّون الوثنيّون لا يفهمون ما يقولون؛ لأنهم يتناقضون مع أنفسهم، فهم قد عجبوا أن جاءهم رسول يأكل الطعام، وهم أرادوه أن يأكل كما يأكل سائر الناس، ولكن من جنة دانية القطوف، يأكل منها وهو مستلق على ظهره يناغي نجوم الليل، لا يتعب ولا يتحرك، فإن لم تكن جنة فكنز من الذهب ينفق منه ما يشاء، فلا ينفد ولا يبيد! بلادة عقليّة، وعقليّات بليدة، لا تعرف من الحياة إلا الأكل والطعام والشراب، وحتى هذا الذي تعرفه وتعيش عليه وله لا تريده إلا عسلاً يقطر في أفواههم وهم نائمون، فهم كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} (محمَّد). وكما قال عز شأنه: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} (الأعراف). ومن غلوّ هؤلاء الماديّين الوثنيين، وإغراقهم في الطيش والسفه الجهول، وطمس بصائرهم عن معرفة جلال الله وقدرته حق قدره تجاوزهم في تعنتهم كل حد بطلبهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بالله تعالى تحيط به الملائكة

جهرة حتى يعاينوه معاينة بأبصارهم، تعالى الله عما يقول الجاهلون الظالمون علواً كبيراً! تصوّر ماديّ ترابيّ جهول، لا يدين به إلا عبيد الوثنيّة في كل عصر ومكان من الحياة؛ لأنهم لا يعرفون إلا المادة وصورها وأشكالها! ومن هذا الغلوّ الجهول الفاجر ما رواه ابن إسحاق، قال: فلما قالوا ذلك لرسول - صلى الله عليه وسلم - قام عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة بن مخزوم، وهو ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمَّد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله، كما تقول، ويصدّقوك ويتّبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل -أو كما قال له- فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إِلى السماء سُلماً، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إِليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك ميتاً تقول، وايم الله، لو فعلت ذلك ما ظننت أنّي أصدّقك! (¬1) جنون وعته؟ وطغيان وسفه، فالماديّون الوثنيّون في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل، وعصر ومصر، لا يريدون بمقترحاتهم المتعنّتة أدلة على صدق دعوة الحق، ولكنهم يريدون العناد الكفور، والكفر العنيد، تملكهم الحسد ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 367 - 368 صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع، ورواه الطبري: التفسير: 15: 164 - 166 من طريق ابن إسحاق، دار الفكر، وابن أبي حاتم في تفسيره فيما عزاه إليه السيوطي في الدر: 4: 202 - 203، وابن المنذر -أيضاً- والواحدي: أسباب النزول: 198 - 199 معلقاً.

22 - المعجزة الكبرى

والحقد فعميت أبصارهم، وانطمست بصائرهم، وضلّوا عن رؤية الشمس وهي تخطف بأضوائها أبصارهم، وتحدق بلبها أفئدتهم! وقد أرشد الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يردّ على تعنتهم المعبّر عن سفه عقولهم وفساد تفكيرهم أبلغ ردّ وأوجزه، وأقطعه لحجّة المعاندين، فقال له: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء). فهذا ردّ برهان قاطع، يتضمّن: أولاً: تنزيه الله تعالى عن أن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو ربّ الخلق الذي ربّاهم في أطوار خلقهم، وأطوار حياتهم، وهو ربّ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي ربّاه لرسالته، فأحسن تربيته، وأرسله للناس هادياً، وعلّمه ألا يسمع إلى تعنتهم الذي لا يعرف لله وقاراً!! ثانياً: بيان أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبد من عباد الله، لا يزيد في بشريّته على أي فرد من أفراد الناس، يجري عليه في بشريّته ما يجري على سائر البشر، وإنما امتيازه الأعلى في اصطفاء الله له نبيًّا ورسولاً، يهدي إلى الحق ويدعو إلى الله، فليس له أن يتحكم على ربه فيسأله ما لم يأذن له به، وما لم يكن داخلاً في إطار رسالته! 22 - المعجزة الكبرى: والذي تعنّت به المعاندون بمقترحاتهم الفاجرة أمور لا يقدر عليها أحد من البشر، محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فمن دونه، وإذا كان سؤالهم يقصد إلى أن يطلب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من الله أن يظهر هذه الأمور التي اقترحوها لتكون معجزة له تدل على صدقه فيما جاءهم به من عند الله، ودعاهم إليه في رسالته ودعوته!

فهذا إمعان في التعنت؛ لأن دلالة المعجزة قاطعة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أيّة معجزة يأتي متحدّياً، وقد أتى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بأعظم معجزة تحدّى بها العالمين، وهي (القرآن الكريم) الذي يتضمن الإعجاز، بما تضمنه من التحدّي وتجبيه المعاندين، فقال لهم: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} (البقرة). وقد سجّل التاريخ (¬1) العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها -كما أسلفنا- حتى أدركت هذه اللغة أشدّها، وتمّ لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها؟ ما هذه المجموع المحتشدة في الصحراء، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟ .. إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم، وأجود صناعتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها ونقدها، واختيار أحسنها، والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدّب! فما هو إلا أن جاء القرآن .. وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى .. ذلك أنه لم يسدّ ¬

_ (¬1) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: 83 وما بعدها بتصرف.

عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفراداً أو جماعات، بل تحدّاهم وكرّر عليهم ذلك التحدّي في صور شتَّى، متهكّماً بهم، متنزلاً معهم إلى الأخفّ فالأخفّ .. فدعاهم أوّل مرّة أن يجيئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور من مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله! انظر كيف تنزّل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل، كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة، بل حسبكم أن تأتوا بشيء، فيه جنس المماثلة ومطلقها، وبما يكون مثلاً على التقريب لا التحديد، وهذا أقصى ما يمكن من التنزّل، ولذا كان هو آخر صيغ التحدّي نزولاً، فلم يجيء التحدّي بلفظ من مثال إلا في سورة البقرة المدنيّة، وسائر المراتب بلفظ (مثله) في السور التي نزلت قبل ذلك بمكة! وقد أباح لهم في كل مرّة أن يستعينوا بمن شاءوا أو من استطاعوا من رماهم والعالم كله بالعجز في غير موارية، فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} (الإسراء). وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} (البقرة). فانظر أيّ إلهاب، وأيّ استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم الباب المؤكد في قوله {ولَن تَفعلُوا}، ثم هدّدهم بالنار، ثم سوّاهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألدّاء، وأباة

الضيم الأعزّاء، وقد أصاب منهم موضع عزّتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرةً ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلّماً يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً .. حتى إذا استيأسوا من قدرتهم، واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا من الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف، وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعاً عن نفسه بالقلم واللسان! ومضى عصر نزول القرآن والتحدّي قائم ليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغير سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن ما عجز عنه أوائلهم، لفعلوا، ولكن ذلّت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل! ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد، كانوا أشدّ عجزاً وأقلّ طمعاً في هذا المطلب العزيز، فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافةً إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائماً أمامهم من طريقين: (وجداني وبرهاني)، ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها! وهذا التحدّي (¬1)، وهذا التجبيه، مع إبلاس المعاندين ونكوصهم على أعقابهم خائبين دليل قاطع على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - استوفى أرفع درجات التحدّي ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 220 بتصرف

بمعجزته العظمى، ولم تظهر مطلقاً بادرة من بوادر المعارضة، فكان ذلك برهاناً قاطعاً على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا معنى إذن لطلب معجزات أخرى، والمعجزات الماديّة كالتي طلبها المعاندون تعنتاً ليست من مراقي الإعجاز في رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن رسالته - صلى الله عليه وسلم - رسالة علم وفكر وهدى وخلود، فمعجزتها يجب أن تكون معجزة عقليّة علميّة هاديةً خالدةً، لا ينقطع التحدّي بها زمناً من الأزمان، ولا جيلاً من الأجيال! ولو كان كل متعنّت يقترح شيئاً على الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجب إجابته إلى اقتراحه لفتح باب العناد، واقترح كل معاند كفور العناد في كل وقت مقترحات يعنّت بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيصبح الأمر عبثاً وفوضى، وهذا إفساد للحياة! قال القرطبي (¬1): قرأ أهل مكة والشام {قال سبحان ربي} يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي قال ذلك تنزيهاً لله -عزّ وجلّ- عن أن يعجز عن شيء، وأن يعترض عليه في فعل، وقيل: هذا كله تعجب عن فرط كفرهم واقتراحاتهم! وقال بعض الملحدين: ليس هذا جواباً مقنعاً، وغلطوا؛ لأنه أجابهم فقال: إنما أنا بشر لا أقدر على شيء مما سألتموني، وليس لي أن أتخيّر على ربي، ولم تكن الرسل قبلي يأتون أممهم بكل ما يريدونه ويبغونه، وسبيلي سبيلهم، وكانوا يقتصرون على ما آتاهم الله من آياته الدالة على صحة نبوتهم، فإذا أقاموا عليهم الحجة لم يجب لقومهم أن يقترحوا غيرها، ولو وجب على الله أن يأيتهم بكل ما يقترحونه من الآيات لوجب عليه أن يأتيهم بمن يختارونه من الرسل، ولوجب لكل إنسان أن يقول: لا أومن حتى أوتى بآية خلاف ما طلب غيري، وهذا يؤول إلى أن يكون التدبير للناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى! ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي: 10: 331.

23 - نهاية المفاوضات

والرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الرد (¬1) على هذه القراءة يبدأ رده على المعاندين المتعنّتين بتنزيه الله تعالى عن توهمات المعاندين .. ويضيف هذا التنزيه إلى اسم (الرب) بإضافة الإكرام والتكريم، والشرف والتشريف، فكأنه قيل: أنزّه بربّي الذي تعهدني بتربيته وفضله منذ خلقني، وأدّبني برسالته منذ بعثني رحمةً للعالمين عن تعنت المتعنتين؛ لأنه الفعّال لما يريد، إذا شاء شيئاً كان كما شاء، لا يعجزه شيء، يباع الأشياء عن غيب العدم بقدرته، وبعثني رسولًا هادياً، ومبشراً ونذيراً، وقد أنذرت المعاندين وحذّرتهم بطش الله ونقمته، كما حذّرت الأنبياء من قبلي أممهم، وبشرت المؤمنين برحمة الله وفضله ورضوانه! 23 - نهاية المفاوضات: وانتهى موقف الحوار والمكالمة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وملأ المادية الوثنية ممثّلةً في زعماء قريش، وهو الموقف الذي طلبه الملأ، بعد أن تشكّكوا في موقف سفيرهم عتبة بن ربيعة، واتهموه بالصباءة إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لسحره بلسانه -على هذه الصورة التي قدمناها روايةً وتحقيقاً، وتحليلاً وشواهد، ففسد أمر الناس، وشرى الشر بينهم، وتنابذ القوم، وتضاغنوا، وتباعدوا، وتذامرت قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشتد إيذاؤها له ولأصحابه، نتيجة لما أفعم نفوسهم من اليأس وخيبة الأمل، وأثراً لما ملأ قلوبهم من الحقد والأضغان والحسد! فقد يئست الماديّة الوثنيّة ممثلةً في ملأ الطغاة من عباهلة قريش، بعد أن تجلّى ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 221 وما بعدها بتصرف.

24 - الصبر الجميل

لها موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حوارها معه ومكالمتها إياه، أن تجد عنده هوادةً في عزيمة القيام بأمر دعوته، وصلابته في تبليغ رسالته، كما يئست أن تجد لها منفذاً فيما عرضته عليه من مظاهر دنياها في شتّى أشكالها، وأبلغ ما تطمح إليه النفوس (الترابيّة) من صورها وأشكالها وألوانها! فأعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها متسامياً في عبوديته ربّه، مترفّعاً برسالته عن دناءات دنيا المادية الوثنيّة من مال وثراء، وكنوز، وجنات وعيون، وزخرف وزينة، ومتاع مادي وسيادة، وملك وسلطان، وأبى عليهم إلا أن يقولوا كلمة واحدة (لا إِله إِلا الله)، فإذا قالوها ملكوا بها الدنيا من أطرافها، والحياة من أقطارها شرفاً حقيقيًّا، وسؤددًا وملكاً مؤثّلاً! 24 - الصبر الجميل: وقد قابل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سفه قريش وإيذاءها بأجمل الصبر، وأعلى مراتب العفو والغفران، والإعراض عن المجازاة، والصفح عن الإساءات مع المحاسنة والمصابرة! ويطالعنا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير (¬1)، قال: سألت عبد الله ابن عمرو عن أشدّ ما صنع المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: رأيت عقبة ابن أبي معيط جاء إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يُصلّي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غافر: 28). ¬

_ (¬1) البخاري: 62 - فضائل الصحابة (3678)، وانظر (3856، 4815).

وفي رواية لابن إسحاق وغيره عن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كانوا يظهرون من عداوته، قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ما رأينا مثل ما صَبَرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا: فبينا هم في ذلك، إِذ طلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها. فعرفت ذلك في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: "أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بالذبح". قال: فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إِلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إِن أشدّهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إِنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً، قال: فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، حتى إِذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إِذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "نعم، أنا الذي أقول ذلك". قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: فقام أبو بكر - رضي الله عنه - دونه، وهو يبكي، ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ

يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ثم انصرفوا عنه، فإِن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشاً نالوا منه قط (¬1). وفي رواية للشيخين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إِذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمَّد إِذا سجد، فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إِذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: "اللهم! عليك بقريش". ثلاث مرات، فشق عليهم إِذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمّى: "اللهم! عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبي معيط". وعدّ السابع، فلم نحفظه، قال: "فوالذي نفسي بيده! لقد رأيت الذين عدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صرعى في القليب يوم بدر" (¬2) ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 358 - 359، وصرح بالسماع، ورجاله رجال الصحيح، انظر: المجمع: 6: 15 - 16 ورواه ابن أبي شيبة: 14: 297. (¬2) البخاري: 4 - الوضوء (240)، وانظر (520، 2934، 3185، 3854، 3960)، ومسلم (1794)، وأحمد: 1: 393، والنسائي: 1: 161 - 162، واللالكائي: أصول الاعتقاد (1418، 1419)، والبزار (2399)، والبيهقي: 9: 7 - 8، والدلائل: 2: 279، 280، 3: 82 - 83، والبغوي (3745)، وابن حبان (6570).

25 - تبليغ الرسالة

وسبق أن ذكرنا طرفاً من عظم البلاء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصبروا وصابروا ورابطوا! 25 - تبليغ الرسالة: وكان موقف العناد الكفور (¬1)، والتعنت الجهول الذي وقفه ملأ قريش في مكالمتهم الجماعيّة المتعنتة حافزاً من حوافز الإفدام ودافعاً من دوافع القوة، وعاملاً من أقوى عوامل الإصرار الحازم والعزم الصارم، دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بسط دعوته في أكناف مكة وما حولها من محلات العرب ومنازلهم ومجتمعاتهم ومحافل مواسمهم وأسواقهم! فكان - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع برئيس قبيلة أو زعيم بيت أو عشيرة من بيوتات وعشائر العرب وبطونهم في منزل من منازل الوافدين على مكة للتجارة أو الحج إلا ذهب إليه يدعوه وقومه إلى الله، ويناديه إلى الهدى ائتنا، ويسمعه من آيات القرآن الكريم ما فيه شفاء للقلوب والأفئدة، ونور للبصائر والأفكار، وكانت قريش بعد فشلها في مكالمته - صلى الله عليه وسلم -، وما عرض عليه ملؤها من أمور الدنيا الماديّة تتبعه أينما ذهب، وحيثما ولّى وجهه أو نزل، فإذا سمعوه يدعو إلى الله تعالى بادروه بالتكذيب والاستهزاء، ورموه بالجنون والسحر، وكان أشدّهم عليه -كما أسلفنا- عمه المتبوب أبو لهب .. ومعلوم أن الناس كانوا في جاهليّتهم أشدّ تمسكاً بمواريث الآباء والأجداد، وأشدّ حرصاً على التشبت بمراسم الماديّة الوثنية؛ لا يفهمون لأول وهله إلا ما وافق تراثهم الجاهلي وعاداتهم التقليديّة! فإذا دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى توحيد الله تعالى، وخلع الأنداد وإخلاص ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 123 وما بعدها بتصرف.

العبودية لله وحده والتحرّر من أغلال التعتد للأصنام والزعماء والرؤساء، وبدر أبو لهب بتكذيبه والتحذير من قبول دعوته، سألوا عنه، فقالوا: من هذا وراءه يكذبه، فيقال: عمّه! وتسري هذه في الغوغاء والجماهير التي تعيش بعواطفها وشعور التبعة لكل ناعق، فيقولون معرضين عن هداية الإِسلام: قوم الرجل أعلم به! وسبق أن ذكرنا حديث: "لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد". وقد علّمَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل أذية تلحق شخصه - صلى الله عليه وسلم - في بدنه مهما عظمته وفدحت واشتدّ أثرها لا توضع قط في ميزان مع أيّة أذيّة تعترض طريق الدعوة، وتعوق تبليغ الرسالة مهما ضؤلت! وعلمنا - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يودّ الشهادة فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انتدب الله لمن خرج في سبيله -لا يخرجه إِلا إِيمان بي وتصديق برسلي- أن أرجعه بما نال من أجراً وغنيمة، أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلْف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل" (¬1). وسيأتي مزيد من الأدلة في العهد المدني! وهكذا كان الأذى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما سبق وكما سيأتي- والصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من الدعاة إلى الله تعالى، مع تناهي شدته ¬

_ (¬1) البخاري: 2 - الإيمان (36)، وانظر (2787، 2797، 3172، 7226، 7457، 7463)، ومسلم (1876)، ومالك: 2: 460، 465، وأحمد: 2: 245، 313، 424، 473، 496، والنسائي: 6: 32، والبغوي (2614)، والبيهقي: 9: 24، 157، وابن ماجه (2753)، وابن حبان (4736).

26 - موقف الوليد بن المغيرة

وقسوته، بحيث يعجز القلم عن تصويره بحال، وقد شهدت شيئاً من ذلك بنفسي وعايشت ما يعجز الخيال الشاخص عن تصوره، وأحتسب ذلك عند الله تعالى .. إلا أن هذا كله لا يزن شيئاً أمام ما أوذي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تعويق رسالته، ووضع العقبات أمامها، وهذا درس للدعاة إلى الله .. وأسأل الله الشهادة في سبيله آمين آمين آمين! بيد أن جماهير القبائل العربيّة، وفيهم عقلاؤهم وحكماؤهم، وذوو رأيهم كانوا يرجعون من مواسمهم، ولا حديث لهم إلا في شأن الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - وشأن الدعوة إلى الله تعالى! وكان صدى ذلك يرجع في آفاق مكة، فيصك آذان ملئها وزعمائها، ويلج إلى قلوبها وأفئدتها فيحرقها، فرعبت قريش رعباً شديداً، وداخلها خوف أقلقها، فأقامها وأقعدها، فهي قد فشلت في كل ما دبرت وقدّرت في مناهضة دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فقد مكرت به لتقتله - كما سيأتي- وقد دبّرت له كل ما تمخضت عنه قرائح ملئها من السوء والتعذيب والإيذاء .. وها هي ذي ترى بأعينها دعوته تسري إلى العرب في منازلهم، ويتحدث الناس عنها، ويتجاوز الحديث عنها الغوغاء والجماهير إلى الحكماء والعقلاء وذوي الرأي من الشعراء والخطباء والحنفاء الذين أدركوا ذرواً من الحنفيّة ملة إبراهيم عليه السلام، فتعلّقوا به انتظاراً لبعث خاتم الأنبياء والمرسلين! 26 - موقف الوليد بن المغيرة: وسبق أن عرفنا كيف اجتمع ملأ قريش وعباهلتها إلى طاغيتهم، شيخ الكفر، أشيب بني مخزوم، ومديان العرب وصاحب ثرائهم، ومالك ناصية

تجارتهم، وصاحب خزائم ربويّاتهم: الوليد بن المغيرة، وكان قد عتا في سنه، فبلغ من الهرم عتيًّا، وقد حضر الموسم -كما سبق- فقال لهم: (¬1) يا معشر قريش، إِنه قد حضر هذا الموسم، وإِن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة (¬2) الكاهن ولا سجعه (¬3)، قالوا: فنقَول مجنون، قال: لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنْقَه، (¬4) ولا تخالجه (¬5)، ولا وسوسته (¬6)، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كل رجزه، وهزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، (¬7) فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفْثهم ولا ¬

_ (¬1) ابن إسحاق معلقاً: 1: 334 - 336، والطبري موقوفاً عن ابن عباس، وقد صرح عنده بالسماع 14: 157، وأبو نعيم من طريق ابن إسحاق عن سعيد بن جبير: الدلائل: 1: 332، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم مختصراً: الدر المنثور: 6: 282، والواحدي: أسباب النزول من غير طريق إسحاق: 295 مختصراً، وفي سنده إسحاق بن إبراهيم الدبري، انظر: الميزان: 1: 181. (¬2) الزمزمة. كلام خفي لا يسمع. (¬3) السجع: أن تتوافق الفواصل في الحرف الأخير. (¬4) يريد الاختناق الذي يصيب المجنون. (¬5) التخالج: اختلاع الأعضاء وتحركها من غير إرادة. (¬6) الوسوسة: ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان. (¬7) قوله: رجَزه وهَزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه: أنواع من الشعر.

عقدهم (¬1)، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إِن لقوله لحلاوة، وإِن أصله لعذْق (¬2)، وإِن فرعه لجَناه (¬3)! قال ابن هشام: ويقال لغَدق، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبُل الناس (¬4) حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحد إلا حذّروه إيّاه، وذكروا لهِم أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بنِ المغيرة، وفي ذلك من قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} (المدثر). وروى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة جاء إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: يا عم، إِن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإِنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ ¬

_ (¬1) إشارة إلى ما كان بفعل الساحر من أن يعقد خيطاً، ثم ينفث عليه، ومنه قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقدِ (4)} (الفلق). (¬2) العذق: الكثير الشعب والأطراف في الأرض، ومن رواه بالغين المعجمة والدال المهملة فمعناه كثير الماء! (¬3) أي فيه تمر يجنى. (¬4) أي طرقهم، واحدها: سبيل.

فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا! ووالله، إِن لقوله الذي يقول حلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإِنه ليعلو وما يُعلى عليه، وإِنه ليحطم ما تحته! قال: والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعنِي أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} (المدثر). وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلاً، وابن جرير، وابن إسحاق وابن المنذر وغير واحد (¬1). هذا، وقصد الوليد بن المغيرة باستماعه للقرآن الكريم، وقوله فيه لأول ما قرعت آياته قلبه وعقله ما قال من مدح وثناء، ثم إنكاره كذباً بعد ما فكر في دنياه ومكانته من قومه، وتعبير أبي جهل له قصة تحتمل التكرار، وأنها وقعت له أكثر من مرّة، وهذا هو الأظهر والأدرب إلى التوفيق بين روايات القصة، ولا سيما أنها روايات تختلف اختلافاً جوهرياً في تسمية من سمع منه الوليد القرآن! وتكرار قصة سماع الوليد للقرآن يشبه أن يكون أمراً طبيعيًّا، وخصوصاً، أن الوليد في عتوّ كفره وجحوده ومكانته الراسية من الماديّة الوثنيّة لا يتعجل الحكم، ولابدّ له من تكرار السماع وتعدّد مصادره، لينظر مقدار الاختلاف والتوافق بين هذه المصادر في أسلوب ما يسمع وحقائقه ومعانيه ومقاصده، فلما ¬

_ (¬1) الحاكم: 2: 506 - 507، وانظر: تفسير الشوكاني: 5: 326.

27 - نموذج للشر الخبيث

وجد ما سمع أسلوباً ومعاني في الهداية، وحقائق في التوحيد، وأصول الفضائل، جاء كلامه في بعض الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معرفته بالصدق والأمانة، ومكارم الأخلاق، وبعده عن جميع ما زعمه عليه أعداؤه أعداء رسالته ودعوته من ملأ قريش موحداً لوثيق معرفة سائر قومه به! 27 - نموذج للشرّ الخبيث: وقد جعل القرآن الكريم على سنته ونهجه في تصوير الطبيعة البشريّة في جانبيها: جانبي الخير والشر، في نماذج من الأفراد والجماعات تمثّل جوانب الخير والشر، لتكون تلك النماذج مُثُلاً حبة مضروية للأجيال في كل زمان ومكان، وعصر ومصر، وجيل وقبيل، ترى فيها نفسها؛ ليكون ذلك أدعى للتأسي في الخير، وأردع عن الوقوع في حمأة الشرّ -من هذا الطاغية العنيد، الوليد بن المغيرة، نموذجاً لأخبث نوع من الشر الأثيم في طبيعة البشر، ولا سيما وهو في مكانته من زعامة قومه وبلده، فنزل فيه وفي كل من كان على شاكلته في أجيال البشريّة المتعاقبة من عناد للحق، وطغيان الكفر، وفجور الاستبداد، أينما وجد في أرض الله، نزل قول الله تعالى من سورة (المدثر) التي سبق أن عشنا في رحاب مقدمتها: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} (المدثر).

قال المفسرون

ثم أتبع القرآن الكريم ذلك بذكر الجزاء العادل التي ينتظر هؤلاء الفجرة، يقدمهم الوليد وأضرابه من نماذج الشرّ الأثيم، والعناد الكفور، فقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)} (المدثر). قال المفسرون: (¬1) وهو الوليد بن المغيرة، قال مقاتل: يقول: خلّ بيني وبينه فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خصّ بالذكر، لمزيد كفره، وعظيم جحوده لنعم الله عليه، وقيل: أراد بالوحيد: الذي لا يُعرف أبوه، وكان يقال في الوليد ابن المغيرة: إنه دعي! وكون الوليد بن المغيرة هو النموذج المقصود فيما جاء في هذه الآيات من خبائث الصفات، وأرذل الرذائل محل اتفاق إجماعي من المفسرين! وقال الشوكاني في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)}: أي دعني، وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى: دعني والذي خلقته حال كونه وحيداً في بطن أمه، لا مال له ولا ولد، هذا على أن وحيداً منتصب على الحال من الموصول، أو من الضمير العائد إليه المحذوف، ويجوز أن يكون حالاً من الياء في {ذَرْنِي}: أي دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه، والأول أولى! 28 - دعاية للرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -: ولما انتهى الوليد إلى ما انتهى إليه من قول الزور والافتراء على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فرح البلهاء من ملأ قريش، وتفرّقوا إلى السبل والطرقات، ومنافذ القادمين إلى مكة للتجارات أو للحج، يذكرون لهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) تفسير الشوكاني: 5: 323.

29 - نماذج الخبث البشري

ويحذرونهم منه .. ولكن الله تعالى جعلهم ألسنة نشر ودعاية للرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وسرى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، يدخل إلى منازلهم، ويلج عليهم محافلهم وأنديتهم، وارتفع الهمس إلى جهر القوّة عن دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته التي جاء بها من عند الله تعالى، ليقوم الناس بينهم بالقسط، في ظل عقيدة التوحيد، وخلع الأنداد، وإخلاص العبوديّة لله وحده، والتحرّر الفكري والاجتماعي الذي يعطي كل إنسان حقّه في العيش الكريم، وحقّه في إطلاق عقله، وإضاءة قلبه، وإشراق روحه! واشرأبّت الأنظار هنا وهناك تتطلّع إلى رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاستماع لما أنزل عليه من القرآن المبين، فلما خرج إليهم بنفسه داعياً إلى الله، مبلغاً رسالة ربّه، بعد أن سدّت قريش منافذ قبول الهداية على نفسها، خرج مهياً للاستماع إليه، ولقي - صلى الله عليه وسلم - الناس ودعاهم إلى الهدى، فكانوا بين مباعد ومقارب، وقليل منهم من يفتح قلبه للهداية فيقبل الحق مؤمناً به، وكثير معرض ينظر ويتفكر! 29 - نماذج الخبث البشري: هذا، والآيات التي أجمع المفسرون على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة -باعتباره نموذجاً لأخبث لون من شرور البشرية التي تنتابها في أجيالها المتعاقبة، وبيئاتها الاجتماعيّة المختلفة تأستياً بهؤلاء الشرّيرين من نماذج الانحراف البشري، الذين أوتوا من أسباب الدنيا مصادر قيادة الجماهير والغوغاء قيادة طغيان كفور، وفجور مستكبر، واستبداد ظلوم- تصف هذا الطاغية العنيد بأوصاف لا تقصد إلى اختصاصه بها، ولكنها تستهدف تصوير الشكول والصور في الأفراد والجماعات التي تصبّ في قوالبها هذه النماذج الخبيثة، وتضع في إطارها معالمه!

30 - أسلوب الآيات

والآيات الحكيمة المحكمة تبدأ بلون من التهديد المرعب، زجراً لغرور الفجور الذي أفعمت به نفس هذا الطاغية العنيد، فيقول الله تعالى مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي واجه عتوّ طغيان هذا الكفور، وطغيان أمثاله من أحلاس المادية الوثنية: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} ليكون تهديد نماذج الفجور الوثني بما يصبّ عليهم من النكال والوبال، وشدّة العذاب، مصحوباً بإشراق الأمل في نفس الداعي إلى الله رسوله الصادق الأمن محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحافزاً من حوافز الصبر على مكاره الطغاة وأذاهم، ودافعاً من دوافع مضاء العزائم في المضيّ قدماً يسير الدعوة وتبليغ الرسالة، ووعداً بالنصر المؤزر على جند الباطل مهما تجمعوا وتألّبوا، وعاملا من عوامل تثبيت اليقين في نفوس عامة المؤمنين، وهم في غمرة البلايا والمحن! والتهديد في هذه الآية بيّنٌ في أسلوبها المعجز بروعة بيانه، مع الإيجاز المحكم، فالله تعالى يقول لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - يسلّيه ويخفف عنه عبء ما لقي ويلقى من شدائد المحن في دعوة هؤلاء الفجّار من عبيد الوثنيّة الماديّة المتهاوية، فكأنه قيل له - صلى الله عليه وسلم -: لا تحمّل نفسك نصب التفكير في صدّ تيّار الطغيان في هذا الفاجر الأثيم، ولا يمتلئن قلبك همًّا بدفع سفاهته وغروره، ولا تشغلن بالك به، وامض في طريقك هادياً مرشداً، ودعني وإيّاه فأنا وحدي كفيل بردعه ردعاً ينزل به نكال الآخرة والأولى! 30 - أسلوب الآيات: وأسلوب الآيات في التهديد المزمجر جرى على المعهود في طرائق تخاطب الناس بعضهم مع بعض. وهو نهج القرآن الكريم في مخاطباته، جرياً على السّنَن المألوف، ليكون أفهم وأبلغ في الوصول إلى الغرض المقصود!

31 - معالم الفجور

ثم ذكرت الآيتان: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} أن هذا الطاغية الفاجر في كفره لم يكن طغيانه وفجوره عن مظاهر في حياته تدعوه إليهما، وإنما كان فجوره وطغيانه عن نفس خبيثة مولودة معه تكفر الإنعام، وتنكر الإحسان، فهو قد أحسن الله إليه إحساناً غامراً، وأنعم عليه إنعاماً فائضاً، فجعل له مالاً ممدوداً، لا ينقطع، عم أصناف المال، وطمّ أرجاء الحياة، وكثر وغمر، ورزقه بنين كثيرين، يحتفون به، فلا يفارقونه لحاجة، فهم أغنياء بثراء أبيهم، وهو مأنوس بهم، فرح بوجودهم حوله، مستقرّ الرضا برؤيتهم! 31 - معالم الفجور: وفي تخصيص الإنعام عليه بالبنين نكتة لطيفة بالنسبة لهذا الطاغية وبيئته ومجتمعه، وما كان معروفاً مشهوراً لدى قومه من كراهية إنجاب البنات، وحبّ إنجاب البنين، فكان حريًّا في شرعة الإنصاف أن يكون شكاراً بنعمة الله عليه، ولكنه لخبث نفسه وسوء نحيزته بدّل نعمة الله كفراً، وأحلّ نفسه وقومه دار البوار، فاستكبر وتجبر، وطغى بنعمة الله وفجر، وناهض الحق، وقاوم دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أفادت أن الله تعالى بسط له الجاه العريض، ومدّ له المال الكثير، ووطد له الرياسة في قومه، وأطال عمره فيهم، وأعلى كلمته عندهم، فأتمّ عليه نعم المال والجاه والولد، وهذا هو الكمال عند أهل الدنيا، ولا سيما الماديّون الوثنيون! ثم جاءت الآية التالية. {ثُمَ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيد (15)} (المدثر). تقرّر أن هذا الطاغية العنيد -مع هذا السوء الذي أثقل طبيعة حياته- شره النفس، جموعٌ للدنيا، منوع لا ينفقها في خير قط، طموع فهو لا يشبع، لا يكاد

32 - خصائص هذا النموذج

يفرغ من جمع حتى يتجه إلى جمع، يطلب زيادة من عنده من المال والبنين وبسط العيش! ثم جاءت الآية بعدها: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} [المدثر]. تزجره عن الانسياق مع مطامع نفسه الخبيثة، وهو على ما هو عليه من خبث الطويّة ومكر السوء، ثم تقرّر الآية الكريمة بعد هذا الزجر بيان الحكمة في إنكار طمعه في الزيادة، والتعجب من حاله، وغروره في فجره وكفوره! وفي الآية تيئيس له من الزيادة، ووعيد بالنقصان، ولهذا قال المفسرون: ولم يزل الوليد في النقصان بعد قول الله تعالى: {كَلًا} حتى افتقر، وخرف، ومات كفوراً فقيراً!، ووصفه في الآية بالعنيد لآيات الله بيان لشدّة فجوره وطغيانه، ومجاوزته كل عتوّ وإثم، فالعنيد مبالغة من العناد، وهو مجاوزة الحدّ، وأريد به هنا الذي عرف الحق بقلبه وعقله، وأنكره بقوله وفعله واعتقاده، استكباراً وغلواً في الجبروت والكفر، وفي تقديم المتعلّق {لآَيَاتِنَا} على متعلّقه {عَنِيدًا} تخصيص، كأنه قيل لأنه عنيد لآياتنا نحن الذين أنعمنا عليه بشتّى النعم، لا لآيات غيرنا، ممن لم يكن في استطاعته أن ينعم عليه بشيء! 32 - خصائص هذا النموذج: وفي هذا التخصيص تسجيل لبالغ كفره، وشدّة عتوّه وفجوره، وسوء عناده. قال الفخر الرازي (¬1): وفي هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته: ¬

_ (¬1) التفسير الكبير: 30: 200 بتصرف، دار إحياء التراث، ط ثالثة.

أحدهما: أنه كان معانداً في جميع الدلائل الدالة على التوحيد، والعدل، والقدرة، وصحة النبوّة وصحة البعث، وكان هو منازعاً في الكل منكراً للكل! وثانيها: أن كفره كان كفر عناد، كان يعرف هذه الأشياء بقلبه، إلا أنه كان ينكرها بلسانه، وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر! وثالثها: أن قوله {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة! ورابعها: أن قوله -أيضاً- يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصّة بآيات الله تعالى وبيّناته، فإن تقديره: إنه كان لآياتنا عنيداً لا لآيات غيرنا، فتخصيصه هذا العناد بآيات الله، مع كونه تاركاً للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران! ثم جاءت الآية التالية: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (المدثر). تقرّر ما أعدّه الله لهذا الطاغية من سوء العذاب في الآخرة، إلى جانب ما أرهقه به من سلب ما أنعم به عليه في الدنيا، كما أفادته كلمة الزجر {كلًا} عن الطمع في الزيادة، وأنه سيعامل بنقيض مقصوده من النقصان والسلب بعد العطاء، والإرهاق تحميل الشدائد وتكليفه إيّاها، {صَعُودًا} مثل لما يلقى المرهق من أثقال العذاب ومشاقه وصعائده مما لا يطاق مثله، وهو مأخوذ من قولهم عقبة صعود وكدود، أي شاقّة المصعد، والمعنى أن الله تعالى توعد هذا الطاغية بأنه سيجد عذاباً شديداً لا يطيقه، جزاء عناده في كفره وجحوده بإنعام الله عليه! ثم ذكر الله تعالى حال هذا الطاغية في عتوّه وعناده في كفره، وأن كفره كان كفراً مقصوداً مرتّباً قائماً على التفكير والتقدير، فالطاغية العنيد قد فكر

وتدبّر، لا ليستبين الحق فيعتقده، والهدى فيتبعه، ويؤمن به، ولكنه فكّر ودبّر، وقدّر وهيّأ أموراً يردّ بها الحق الذي عرفه، واعترف به، فقال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)} (المدثر). ثم عجيب العقلاء من أمره في تفكيره وتدبيره، سخرية واستهزاء منه؛ لأنه زعم أنه بتفكيره وتدبيره، وتهيئته ما هيئ في نفسه من لغو وفساد، مما يؤثر في سير رسالة الحق، قال تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)} (المدثر). أي هلك وأهلك، وقُهر وغُلب على أمره، وذلّ بعد عزّة في قومه، وافتقر بعد الثراء والغنى، وطُرد طرداً أبديًّا من رحمة الله: {كَيْفَ قَدَّرَ (19)}! على أيّ حال هيأ ما هيّأ من الزور والبهتان، وركيك التفكير، وسفساف التدبير، ثم أكّد الله تعالى قهره ولعنته، وما باء به من الخسران، فقال -جلَّ شأنه-: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} (المدثر). أي مع كونه هيّأ في نفسه كلاماً يردّ به على قومه في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يأثرونه عنه، ويلقون به وفود العرب محذّرين، لم يستطع أن يقنع نفسه بما فكّر وقدّر ودبّر وهيّأ، فرجع وهو مغيظ محنق ينظر ويفرغ النظر في أمره - صلى الله عليه وسلم -، ويطيل التفكير والتدبير، فيزداد غيظاً وحنقاً، وكلما اشتد غيظه وحنقه ضاقت به الدنيا، وضاق بها، قهره الغيظ {عَبَسَ} وقطّب جبينه، واسودّ وجهه، واكفهر سمته، وتغيرّ رسمه، {وَبَسَرَ} كالحاً ممسوخاً عن إنسانيّته، وأخذ عن نفسه وتفكيره، واستولى عليه الدهش، وتملكته الحيرة، فلم يدر ما يقول في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو قد أعلن على قومه جهراً، وأوهم من حوله وهم يتسقطون رأيه، ويستنزلون وحي شيطانه أنهم ما من شيء يتهمون به محمداً - صلى الله عليه وسلم - مما زعموا

33 - رأي آخر

عليه إلا عرف أنه باطل، وكأنه قد سدّت دونه منافذ التفكير والتدبير والتقدير، فولَّى عن قومه معرضاً مستكبراً مغيظاً محنقاً، قد أحرق الحق قلبه، وهو يقول كمن يرمي بالقول رمياً لغير قصد، لا يبالي أن يكذّب نفسه، ولا أن يكذّبه قومه: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)} (المدثر). وكان قد قال لقومه وهو يحاورهم ويستطلع ما عندهم في أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فيما قال لهم: يزعمون أن محمداً ساحر، لا، والله ما هو بساحر، وقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم! 33 - رأي آخر: وكأن الطاغية قد تداركه شيء من نفحات الإنسانيّة، فأخذه من الحياء والخجل ما يأخذ الذين بقيت فيهم بقيّة من عقل، وتذكّر أنه كان قد نفى السحر عن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ما حكاه القرآن عنه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} (المدثر). قال الفخر الرازي (¬1): والمعنى أن هذا قول البشر، ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره، ولو كان الأمر كما قال لتمكّنوا من معارضته؛ إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة! واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عناداً منه، لأنه روي عنه أنه سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الم السجدة)، وخرج من عند الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال: سمعت من محمَّد كلاماً ليس من كلام الإِنس ولا من كلام الجن، وإِنه له لحلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنه يعلو ولا يُعلى عليه! ¬

_ (¬1) التفسير الكبير: 30: 202.

قال الفخر الرازي

وسبق أن أشرنا إلى ذلك! قال الفخر الرازي: فلما أقرّ بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ها هنا من أنه قول البشر، إنما ذكره على سبيل العناد والتمرّد؛ لا على سبيل الاعتقاد! وفي سورة (القلم) -وهي من طلائع السابقات المكيّات في سور القرآن- آيات أقرب ما تكون في معانيها وأهدافها إلى آيات سورة (المدثر)، قرباً يكاد يكون وحدةً تؤلف نموذجاً متكامل الصورة في إبراز نوع من الطبائع البشريّة، يمثل في الحياة أخبث أنواع الشرور الكامنة في نفوس بعض الأفراد والجماعات على مرّ الزمان، واختلاف الأجيال، وتطوّر الأفكار! وقد نقلنا إجماع المفسرين على أن المقصود بآيات (المدثر) مبتدئة بقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} باعتباره نموذجاً لأخبث أنواع الشرور النفسية والاجتماعيّة والعقليّة هو الوليد بن المغيرة المخزومي! وعلى أساس هذا النقل، وما توحي به الآيات، وما يعطيه جوّها وأحداثها جرينا (¬1) في تحليلنا للآيات وفي تفسيرها بما يظهر صورة النموذج البشري الشرير، فيجعله مثلاً مضروياً في شاهد الحياة، ووقائع الأحداث في كل زمان، وكل مكان، وكل جيل من البشر! 34 - في رحاب سورة (القلم): بيد أن المفسرين اختلفوا في المراد من الآيات من سورة (القلم) باعتباره نموذجاً لمعانيها وحقائقها وأهدافها وآثارها! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله: 2: 245 وما بعدها بتصرف.

قال القرطبي: ومعظم السورة نزلت في الوليد بن المغيرة، وأبي جهل (¬1)، وإذا كان هذا الوصف ({مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)}! (القلم)، وصفاً من أوصاف سورة (القلم) تدفعه به القصة التي تبين أنه كان ينفق ماله رئاء للناس، وتسميعاً بذكره، فإن سائر الأوصاف المذكورة فيها منطبقة عليه: قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} (القلم)! هذه الآيات تضمنت عدّة أوصاف وصف بها طاغية الماديّة الوثنيّة، وكان خاتم هذه الأوصاف يشبه أن يكون تعييناً للوليد بن المغيرة، وأنه هو المراد هنا في آيات سورة (القلم)، كما هو المراد في آيات سورة (المدثر) باعتباره نموذجاً في الموضعين لأخبث أنواع الشرّ النفسي والاجتماعي في الطبائع البشريّة، وهذا الوصف المعين بالاختصاص هو قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)}! فلم يعرف من طواغيت الوثنيّة في قريش بشهرته بكثرة المال والبنين مثل ما عرف الوليد بن المغيرة، وقد كان هذا الوصف محور فجوره وطغيانه الذي دارت عليه معاني آيات سورة (المدثر)! وقد افتتحت آيات سورة (القلم) بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي تعليم وتشريع عام عموم الأزمنة والأمكنة والأجيال والأحداث، بعد تمهيد بنهي عام، أجمل تحته أقبح وصف اتصف به إنسان، فقيل: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)}! (القلم) والمكذبون لرسالات الله هم الذين لا يرعون في حياتهم عهداً، ولا يعرفون ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي: 18: 229، دار إحجاء التراث عام 1966 م.

35 - معالم خصائص نموذج الفجور

قانوناً، ولا يستمسكون بشرائع الهداية، ولا يطوون صدورهم على ضمائر تردعهم عن الانغماس في موبقات الحياة ومظالمها ومفاسدها! وهذا النهي قصد به إلهاب شعور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهييج وجدانه، ليكون في موقفه من مداهنة الكافرين كعهد الحياة به أشدّ وأصلب، وأسمى من أن يتنزّل إلى خداع رغائبهم! 35 - معالم خصائص نموذج الفجور: - المعْلَم الأول: ثم جاء تفصيل بعض هذا الإجمال بتعيين نموذج الطبيعة البشريّة بوصفه وخصائصه الشرّيرة المعيّنة: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} والحلاّف مبالغة في كثرة الحلف، وامتهان القسم فيما رخص وسفل وهان واستهين، ولا يقع ذلك إلا ممن تولّى حياة الدناءات، وعاش فيها، وهانت عليه إنسانيّته، وانثلمت كرامته، وانعدمت من النفوس الثقة به، وشهر بينهم بالكذب والغشّ والخداع والخيانة، وخبث الطويّة، وملاحاة الناس في معاشرتهم والتحايل عليهم بما يكون وما لا يكون، وما ينبغي وما لا ينبغي! وليس وراء ذلك وضاعة أو مهانة أو زراية بالنفس أو حقارة، أو ذلة ودناءة، أو رذالة أو نذالة، فالتلازم بين المبالغة في الحلف وكثرته وامتهان القسم، وبين الوضاعة والمهانة في جميع صورها من رذائل الطباع وسفالة الأخلاق من تلازم لا تنفك روابطه النفسيّة، حتى صار عنواناً على فساد الفطرة ودنس الطبيعة!

- المعلم الثاني

- المعْلم الثاني: ثم جاء بعد هذا الوصف وصف آخر يحمل خصيصة دامغة لهذا الطاغية في صورته النموذجيّة، ومعه قرينه الذي لا يفارقه، فكانا في تمثيل نموذج الإفساد في الأرض كأنهما غصنان من عوسجة الشرّ الوخيم، يرتبطان بما قدّمته الأولى من وصفَيْ المهانة والمبالغة في كثرة الحلف ارتباط الفرع بالأصل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} والهمّاز هو العيّاب الذي يتسقط العيوب فيلصمها بالبرآء، ويتلقطها من أفواه الشرّيرين ليضعها على هامات الخيرين، حتى يتساووا معه في شرّيته، كما قال تعالى في وصف طبيعة هؤلاء الباغين للناس التورّط في حمأة الشر والفساد معهم، حتى تعالوا في سوء أطماعهم أن يتناولوا الشمس بأيديهم ليطفئوا نورها بأفواههم، فعتوا عتوًّا كبيراً، وودّوا لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالأهم ليمالئوه، وداهنهم فيداهنوه، بعد أن دمغهم بتكذيب الأنبياء والمرسلين: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)}. قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودّوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أيضاً: ودُّوا لو تُرخَّص لهم فيرخَّصون لك، وقال الفراء وغيره: لو تلين فيلينون لك، والآدّهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين! وقال مجاهد: المعنى ودّوا لو ركَنْت إليهم وتركت الحق فيمالئونك، وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون، وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك، ونقل القرطبي اثني عشر قولاً! (¬1) وقد أخبر الله تعالى في سورة نزلت برسم هؤلاء المفسدين العيّابين، ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي: 8: 230، وانظر: تفسير الشوكاني: 5: 268.

الهمازين للناس، بأن لهم الويل، أي الخزي والنكال في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، فقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة]. والذي يشغل نفسه بتسقط ما يعيب به الناس ليشينهم في مجتمعهم، ويحقرهم بين قومهم، ويسقط مروءاتهم في بيئاتهم لا يزال رأيه الإفساد بين كل متوافقين، والتفريق بين كل متحابّين، والتعكير بين كل متصافين؛ لأن ارتباط الناس بالتوافق والمحبّة ومعاشراتهم بالمصافاة والمودّة يغيظ الهمّاز المشاء بالنميمة، لسوء مخبره، وكراهيته لكل خيريرى عليه الناس! وهذا هو المشاء بالنميمة الهمّاز اللماز، وصاحب هذه الخليقة الدنيئة مبغض محقور في الدنيا، مطرود من رحمة الله في الآخرة، وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن حذيفة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يدخل الجنّة قتات" (¬1). والقتّات هو النمّام، وهو الذي ينقل الحديث على وجه الإغراء بين المرء وصاحبه! قال العلماء: وينبغي لمن حملت إليه نميمة ألا يصدّق من نمّ له، ولا يظن بمن نمّ عنه ما نقل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له، وأن ينهاه، ويقبح له فعله، وأن يبغضه إن لم ينزجر، وألا يرضى لنفسه ما ينهى النمّام عنه، فينمّ هو على النمّام، فيصير نماماً. وهذا كله إذا لم يكن في الفعل مصلحة شرعيّة، وإلا ¬

_ (¬1) البخاري: 78 - الأدب (6056)، والأدب المفرد (322)، ومسلم (105)، والحميدي (443)، وأحمد: 5: 397، 332، 389، 392، 397، 402، 404، والطيالسي (421)، وأبو داود (4871)، والترمذي (2026)، وابن أبي الدنيا: الصمت (254)، وابن حبان (5765)، والطبراني: الكبير (3021)، والأوسط (4204)، والصغير (561)، والقضاعي (876)، والبيهقي: 8: 166، 10: 247، والآداب (137)، والبغوي (3569).

- المعلم الثالث

فهي مستحبّة أو واجبة، كمن اطلع على شخص يريد أن يؤدي شخصاً ظلماً، فحذّره منه! (¬1) - المعلم الثالث: ثم عقبت الآية من سورة (القلم) هذه الأوصاف بثلاثة أوصاف تصم الطاغية العربيد بأخبث أوصاف نماذج الطبيعة الشرّيرة: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} وهو قادر عليه يمسكه عن مواضع البرّ والإصلاح، وينفقه تبذيراً وإسرافاً في مواطن السوء والإفساد، فهو في حقيقته شحيح بخيل، لا تنتفع الحياة الصالحة من وجوده بشيء، ولا يصل إلى أحد منه خير يصدّ عن الحق، ويعاند الهدى، ثم هو بعد ذلك {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} ظلوم كفّار، لا يقف في ظلمه وتعدّيه عند حد! - المعْلم الرابع: وهو في بطشه واستبداده متجاوز لكل حد، مبطل كذوب، فاجر عنيد، كثير الإثم في محاربته لله ورسوله، لا يتوقى شراً، ولا يتحذّر من بغي، ولا يتحرّز من عتوّ، فهو مجمع القبائح والفضائح، وموئل الدنايا والرذائل! ولا تنهي الآيات وصفها بهذه الأوصاف المهينة، حتى تتلقّاه مما شوّه خلق الله في صورته وسمته، وسحنته الخلقية {عُتُلٍّ} أي جاف، غليظ الطبع، شره، بطن، أكول شروب، فاحش العشرة، متفحش سيء المعرفة، لئيم النفس، خبيث الطبع، حقود كنود، يخاصم في غير حق فيفجر، ويعتدي فلا يبالي أن يخون ويغدر، ثقيل الظل جحود، كفور لكل نعمة، نكّار لكل إحسان!. ¬

_ (¬1) الإحسان: 13: 79، وانظر: فتح الباري: 10: 473.

- المعلم الخامس

- المعْلَم الخامس: وهو بعد ذلك الذي تقدّم من أوصاف السوء والقبائح (زَنِيمٍ) أي مشهر بلؤم الطبع، ودناءة النفس، وسوء الخلق، يتحامى الناس القرب منه اتقاء بغيه وعدوانه وبذائه، وهذا الوصف القبيح الذي أربى في فحشه على فحش ما سبقه من نعوت الخبث والشرّ، يجعل المتصف به يستشعر المهانة في نفسه، فيتكلف التعاظم الكذوب ليداري سوآته، ويشمخ مستكبراً ليخفي مهانته، ويسرع إلى الظلم يرتكبه، وإلى الطغيان يدّرعه ليغطي حقارته وضآلة شخصيّته، فالزنيم هو الشرّير الظلوم عظيم الشرّ الجفور، الذي يأكل فلا يشبع، ويمنع الخير أن يصل إلى غيره، ولو كان آتياً من غيره، يمنع غيره أن يصل في سعيه إلى خير! وهذان الوصفان {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} متلازمان في وجودهما، فالزنيم عتلّ، والعتلّ زنيم، وهما جماع الرذائل والقبائح، وهنا نذكر ما رواه الشيخان عن حارثة بن وهب الخزاعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ " "كل ضعيف، لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ" (¬1). قال القرطبي: (¬2) هذا التفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - في العتلّ قد أربى على أقوال ¬

_ (¬1) البخاري: 78 - الأدب (6071)، وانظر (6657)، ومسلم (2853)، وأحمد: 4: 306، وابن أبي شيبة: 8: 516، وأبو داود (4801)، والترمذي (2605)، وابن ماجه (4116)، والبغوي: شرح السنة؛ (3593)، والطيالسي (1238)، والبيهقي: 10: 194، والشعب (8173، 1874، 10484)، والطبراني: الكبير (3236) من طريق الأعمش، (3257) من طريق مسعر، كلاهما عن معبد، والنسائي: الكبرى (11615)، والتفسير (635)، وأبو يعلى (1477)، وابن حبان (5679)، والمزّي: تهذيب الكمال: 28: 233. (¬2) تفسير القرطبي: 18: 234 بتصرف.

- المعلم السادس

المفسرين، ووقع في كتاب أبي داود في تفسير الجوّاظ أنه الفظّ الغليظ .. ثم قال: ففيه تفسيران مرفوعان .. وقد قيل: إنه الجافي القلب .. والزنيم: الملصق بالقوم الدعي .. وكان الوليد دعيًّا في قريش وليس من سنخهم (¬1). وأيّاماً كان فنكاح الجاهلية فيه أشياء لا تدخل تحت ضبط اجتماعي يَضبطها، ولا تتقيّد بوضع ديني يوجهها! - مجمع الخبائث: وفي قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} إشارة إلى أن وصف هذا الطاغية بالعتل الزنيم، بعد وصفه بما تقدم من النقائص والقبائحِ قد جمعت له مخابث الصفات ومقابحها، قال الفخر الرازي: (¬2) قوله {بَعد ذَلِكَ} معناه أنه بعد ما عدّ له من المثالب والنقائص فهو عتلّ زنيم، وهذا يدل على أن هذين الوصفين، وهو كونه عتلاً زنيماً أشدّ معايبه؛ لأنه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه، واجترأ على كل معصية! - المعْلَم السادس: ثم جاء بعد هذه الأوصاف والمثالب ما يبين أن ما أوتيه هذا الطاغية من النعمِ، فكفره وجحد إحسان الله إليه فيه، وذلك قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} هو الوصف الذي كان مظهر طغيانه وفجوره، واغتراره بما أوتي من نعم، وكفران النعمة إذا انضم إلى كفران المنعم كان من أعظم النقم الموجبة لسخط الله وبطشه، والتي تؤدي بصاحبها فتهلكه من حيث يريد السلامة، وتذله من حيث يريد العزّة! ¬

_ (¬1) السنخ: الأصل. (¬2) التفسير الكبير: 30: 85.

وهذا الوصف كان هو الوصف المعيّن في سورة (القلم) لإرادة الوليد ابن المغيرة بموضوعيّته لأوصاف الآيات، كإرادته بموضوعية أوصاف آيات (المدثر)؛ لأن هذا الوصف كنفسه إذ جاء هناك في أوصاف الطاغية بصورة الامتنان في قوله تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13)} ولم يشتهر في قريش بكثرة المال والبنين أحد شهرة الوليد بهما، وكل الذين ذكرهم المفسرون لنزول آيات (القلم) فيهم: الأخنس بن شريق، والأسود بن عبد المطلب الأسدي، وعبد الرحمن بن الأسود، وأبو جهل، ولم يكن فيهم من عرف بما عرف به الوليد في كثرة المال والبنين! فالوليد بن المغيرة هو نموذج الأوصاف والقبائح التي ذكرت في السورتين: سورة (المدثر) وسورة (القلم)، فلا ينبغي العدول عن هذا الظاهر إلى أقاويل أخرى! ثم عقّبت الآيات هذه الأوصاف وما ختمت به من الغرور الفاجر بنعمة الله التي أضفاها عليه من المال الوفير وكثرة البنين -وهما نعمة النعم في الدنيا وزينتها التي يتنافس عليها أهلها- بما كان نتيجة طبيعيّة لتلك المثالب والنقائص الخُلُقيّة والخَلْقيّة والقبائح الاجتماعيّة، من اجترائه على خبيثة الخبائث بوصف آيات الله إذا تليت وسمعها بأنها أساطير الأولين وخرافاتهم، وتكذبهم في أسمارهم، وهذا كالذي جاء في سورة (المدثر) من قول الطاغية فيما حكاه الله عنه: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)}. وهذا التوافق في المعنى بين ما جاء في سورة (المدثر) من وصف القرآن باطلاً بأنه سحر يؤثر، وبين ما جاء في سورة (القلم) من وصفه باطلاً بأنه

36 - إشهار نموذج الشر

أساطير الأوّلين، هو الدليل على أن الآيات في السورتين تعني نموذجاً واحداً للشرور، تمثل في شخص الوليد بن المغيرة المخزومي؛ لما كان متوافراً فيه من عتوّ الطغيان وفجور الكفر والاغترار بما أوتي من مال وبنين! 36 - إشهار نموذج الشر: ثم بعد أن أنهت الآيات وصف الطاغية في عناده بالقبائح التي لازمته في حياته، ووصمته في تاريخه، وطاردته بعد هلاكه، ذكر الله تعالى ما توعّده به باعتباره نموذجاً لتلك القبائح من الخزي في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة، فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}. ومعنى النموذجيّة في تصوير من اتصف بهذه القبائح أن كل ما يتصوّر أن يقع على الصورة الفرديّة لهذا النموذج هو واقع في الدنيا والآخرة بجميع من كان على شاكلته من الوثنيّن، أينما وجدوا وحيثما كانوا في أي زمان ومكان ومن أي جيل! والوسم في اللغة: العلامة المحسوسة، تكون في الحيوان من كيّه بالنار، أو خدش في عضو من أعضائه، أو قطع في أذنه يُعلَّم بها ليعرف، والخرطوم هو أنف الحيوان، ثم استعير لأنف الإنسان كما يستعار المشفر للشفة، وهذا لتقبيح الوصف به! قال المبرد (¬1): الخرطوم ها هنا الأنف، وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به؛ لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة، لأشباه تلك ¬

_ (¬1) تفسير الفخر الرازي: 29: 86 بتصرف.

الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافاً، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافز! والوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه، لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحميّة، واشتقّوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف، وحمي أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة؛ لأن السمة على الوجه شيخ، فكيف على أكرم موضع من الوجه! والآية من قبيل الكناية، فالمقصود التعبير بالوسم وإرادته لازمة، وهو الشهرة، وهي هنا شهرة بالمذام والقبائح؛ لإفادة غاية الإذلال والمهانة في الدنيا والنكال والخزي وسوء العذاب في الآخوة! قال الرازي: وفي الآية احتمال آخر عندي، وهو أن ذلك الكافر إنما بلغ في عداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي الطعن في الدّين الحق، بسبب الأنفة والحميّة، فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحميّة كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحميّة، فعبّر عن هذا الاختصاص بقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}! فالمقصود بهذا الوعيد إشهار قبائح الطاغية وكسر شهوة عنجهيّته وغروره بتعرية نقائصه وكشف سوآته، حتى يتعالمه الناس ويعرفونه بما دفعه به القرآن، فلا يخفى أمره على أحد، كما لا تخفى الحيوانات الموسومة على خراطيمها! ولا شك أن هذه المبالغة في مذمة هذا الطاغية العنيد بقيت على وجه الدهر تلازمه وتلاحقه بالخزي والإذلال في حياته، وباللعنات والنكال بعد هلاكه!

37 - منح في ثنايا المحن

قال القرطبي: (¬1) وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحقه به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة! وهنا نبصر توافقاً في المعنى وموافقة لقول معظم المفسرين .. ومع هذا فهناك كثيرون من أهل الفجور الذين يضيق المقام بذكرهم، قد ذكرهم المفسرون وأصحاب السير! (¬2) 37 - منح في ثنايا المحن: هذا، وقد كانت هذه الفترة من سير الرسالة مشحونة (¬3) بشدائد الحق، وفوادح البلاء، وقف فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده، يكافح في سبيل دعوته، وتبليغ رسالته، صابراً محتسباً، لا يكلّ له عزم، ولا تضعف له إرادة، ولا يملّ ولا يفتر، ولا يهاب مجموع أعدائه على كثرتهم الهائلة، ولا يبالي طغيان قوتهم الفاجرة، ولا يهتمّ بفجور مقاومتهم الطاغية، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان نقاذاً إلى هدفه، لا يكاد يخرج من محنة حتى يدخل في بلاءً أشدّ وأعظم، ولا يلبث أن يودع حادثاً حتى تواجهه أحداث، وقوى الشرّ والجبريّة الطاغية تتابعه أينما حلّ وحيثما توجّه بدعوته، وأصحابه قلة يسومها طغيان الماديّة الوثنيّة سوء العذاب، ويذيقونها شديد الأذى، وهم صابرون محتسبون تأسّياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صبره وقوّة عزمه، انتظاراً للفرج من الله في وعده! ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي: 18: 237. (¬2) انظر: محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 254 وما بعدها. (¬3) المرجع السابق: 265 وما بعدها بتصرف.

38 - إذاعة الإرجاف

38 - إذاعة الإرجاف: وقد استنفد المشركون معهم كل لون من ألوان العذاب، فلم يصرفهم ذلك عن دينهم وعقيدتهم، كما استنفدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل عتوّ فاجر، وكل حيلة وتهاون، وكل ترغيب وترهيب، فلم يقعده ذلك عن المضيّ قدماً في نشر دعوته، وتبليغ رسالته، حتى استيأس الطغاة البغاة العتاة من عزيمته أن تقف دون غايته، فعمدوا إلى تعويق سير الرسالة بنشر الإشاعات الكاذبة، والإرجاف الخبيث، يذيعونه في وفود القبائل العربيّة الوافدة على مكة لحضور الموسم، ولكن الله تعالى كان لهم بالرصاد، فجعل من تدبير شرورهم وإفسادهم خيراً وإصلاحاً، وعادت الوفود إلى قبائلها وبطونها، وعشائرها في منازلهم ومواطنهم، ومعهم ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يدعو إليه من الخير والهدى، ومكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وإقامة موازين العدل، وإخلاص العبادة لله تعالى وحده! وسرى مع ذلك الحديث عناد قريش وطغيانها إلى الآذان في المواسم والمحافل التي تجمع مجموع الخطباء والشعراء والتجار المتحنفين، وتسرّبت إليهم الأنباء عن هدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمته، ومقابلة الأذى بالعفو والصفح الجميل! وسدّت قريش بطغيانها على نفسها منافذ الإيمان وتقبّل الحق، وعتت عن أمر ربَّها ورسالته، وبغت في الأرض بغير الحق، فلم يبق لديها مسرب للاهتداء، وهنا نقر: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}! (يس).

39 - توجيه إلهي

ونبصر بياناً من الله تعالى يعلن على مسامع الدنيا أن هؤلاء الأخباث من طغاة الماديّة الوثنيّة قد طبع الله على قلوبهم، فلن يهتدوا أبداً، وختم على سمعهم فلن يسمعوا سماع هداية وإرشاد أبداً، وطمس على أبصارهم فلن يبصروا دلائل عظمة الله ووحدانيّته قائمةَ في مظاهر الطبيعة وآياته الكونيّة، وهي تنادي بلسان حالها قويّةَ قاهرةً، فهم عمي، بكمٌ، صمُّ، لا يرجعون عن غيّهم، وعتوّ كفرهم .. وقد أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عنهم، وأن يتركهم إلى ما أقاموا أنفسهم له، وما وقفوا حياتهم عليه من العكوف على إرادة الدنيا وحطامها لا يريدون غيرها، فهم لا يرغبون في هدى، ولا يريدون حقاً، ولا يرضون أن يسود حياة الناس عدل ولا أن تتداركها رحمة؛ لأن الدنيا وجمعها كانت مبلغ علمهم بالحياة، ومنتهى غايتهم منها، فهم في جهالة جاهلة، ووثنيّة بليدة، وماديّة مظلمة، فقال الله عزّ شأنه لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)} (النجم)، قيل: نزلت في النضر بن الحارث، شيطان الأساطير والخرافات، والوليد بن المغيرة، طاغية السحر المأثور (¬1)، وهي من باب النماذج الممثلة لصور الشرّ والفساد المركوز في بعض الطبائع البشريّة! 39 - توجيه إلهي: وكان هذا توجيهاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الانتقال بدعوته، وتبليغ رسالته، بعيداً عن عنجهيّة غطارفة قريش، وهم غارقون في وثنيّتهم الفاجرة التي ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القرطبي: 17: 105.

يتاجرون بها العرب من وراء أسوار التنفّج المستكبر، والتعالي العتي بأنهم سدنة البيت الحرام، ومطعمو الحاج، وكان هذا التوجيه نقطة تحوّل في سير الرسالة، انطلقت منه إلى آفاق أرحب من آفاق مكة وقريشها، إلى جوّ أفسح من جوّ الطغيان الفاجر الذي كانت تعيشه قريش في بلدها، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه ودعوته على الناس في منازلهم، ويبلغهم رسالة ربهم في مجتمعات مواسمهم وأسواقهم، وقد أصبحوا في ذكر منه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر من دعوته بما أحدثه طيش ملأ قريش في ترصّدهم لقبائل العرب، يحذّرونهم منه - صلى الله عليه وسلم -، ومن سحر كلامه، وفي الناس عقول، وللعقول وزن لما تسمع وما ترى، وقد أبى على كثير من العقلاء كرم إنسانيّتهم أن يلغي عقله، من أجل صيحات حاقدة، تطلقها حناجر بعض الدعاة إلى الشيطان من سفهاء قريش هنا وهناك، يعيبون بها محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ويشوّهون بها دعوته، وما جاء به من الهدى والإصلاح، فليسمع العقلاء من محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ثم يحكموا .. أما أن يقول الحاقدون من غثاء الماديّة الوثنيّة قولاً، ثم يطلب إلى الناس من غير إعطائهم فرصة النظر الفاحص، والتدبر الباحث، أن يأخذوا هذا القول مقطع الفصل، فهذا ما لا ينبغي للعاقل أن يقبله، وأن يأخذ به نفسه! وقد كان لهذا التوجيه بالخروج إلى الدعوة إلى مجالها الفسيح، ومواجهة العقول بها مواجهة مباشرة، بعيدةً عن التأثير التقليدي لمواريث الوثنيّة المتحمسة في قريش وملأ طغاتها أثر واسع المدى، عظيم الخطر، وإن كان مختلفاً اختلافاً بعيد الأطراف، ولكنه كان على ما لقي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من شدّة ومحن كانت في بعض صورها أشدّ وأعنف مما لقوه من قريش في مكّة -مليئاً بالخير والتقدّم بالدعوة إلى خطواتها القويّة الرصينة التي

40 - إسلام الطفيل الدوسي

كانت أساساً لدعائم تكوين المجتمع المسلم، وتحديد خصائصه، وتحصين كيانه، وحماية وجوده! وقد كان هذا التوجيه منفذاً من منافذ سريان الدعوة إلى العقول والقلوب، اتخذ فيه سَيْرُ الرسالة سَمْته إلى تبيث أقدامها راسخةً هادئة، في صبر لا ينفد، وعزائم لا تفتر! 40 - إسلام الطفيل الدوسي: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على ما يرى من قومه، يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش، حين منعه الله منهم، يحذّرونه الناس، ومن قدم عليهم من العرب! وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدّث: أنه قدم مكّة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طفيل، إنك قَدمْتَ بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا، قد أعضل (¬1) بنا، وقد فرّق جمَاعتنا، وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنّه ولا تسمعن منه شيئاً! قال: فوالله ما زالوا بي، حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسفاً (¬2)، فَرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه! قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يصلّي عند الكعبة، ¬

_ (¬1) أي: اشتد أمره، يقال: أعضل الأمر إذا اشتد ولم يوجد له وجه، ومنه الداء المعضل. (¬2) أي قطناً.

قال: فقمت منه قريباً، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاماً حسناً، قال: فقلت في نفسي وا ثُكْلَ أمّي، والله إني لرجل شاعر ما يخفى عليّ الحسنُ من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته! قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمَّد، إن قومك قد قالوا لي كذا، وكذا، للذي قالوا، فوالله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أذني بكُرْسف، لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فأعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، وتلا عليّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبيّ الله، إنّي امرؤٌ مُطاعُ في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإِسلام، فادْع الله أن يجعل لي آيةً تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللهم اجعل له آية" قال: فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنيّة (¬1)، تطلعني على الحاضر (¬2)، وقع نورٌ بين عينيَّ مثل الصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحوّل فوقع في رأس سوطي، قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنيّة، قال: حتى جئتهم فأصبحت فيهم! قال: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخاً كبيراً، قال: فقلت: إليك ¬

_ (¬1) الثنية: الفرجة بين الجبلين. (¬2) الحاضر: القوم النازلون على الماء.

عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ منّي، قال: ولمَ يا بنيّ؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمَّد، قال: أي بنيّ، فديني دينك، قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلّمك ما عُلِّمت، قال: فذهب فاغتسل، وطهرّ ثيابه، قال: ثم جاء فعرضت عليه الإِسلام فأسلم، قال: ثم أتتني صاحبتي فقلت: إليك عنّي، فلستُ منك ولست منّي، قالت: لم؟ بأبي أنت وأميّ، قال: قلت قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فديني دونك، قال: قلت: فاذهبي إلى حنا ذي الشَّرى -قال ابن هشام: ويقال: حمى ذي الشّرى- فتطهري منه! قَال: وكان ذو الشّرى صَنَماً لدوس، وكان الحمَى حمَى حَمَوْهُ له، وبه وشل (¬1) من ماء يهبط من جبل! قال: فقلت بأبِي أنتَ وأمي، أتخشى على الصبيّة من ذي الشّرى شيئاً، قال: قلت: لا، أنا ضامن لذلك، فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت فعرضت عليها الإِسلام، فأسلمت! (¬2) ويروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! إِن دوساً عَصَتْ وأبتْ فادْع الله، فقيل: هلكت دوس، قال: "اللهم! اهد دوساً وائْتِ بهم" (¬3). ¬

_ (¬1) الوشل: الماء القليل. (¬2) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 25 - 28 رواه ابن إسحاق معلقاً، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 238 - 240 من طريق ابن إسحاق، والبيهقي: الدلائل: 5: 365 - 363، وابن سعد: 4: 237 - 239، وفيه الواقدي! (¬3) البخاري: 56 - الجهاد (2937)، وانظر (4292، 6397)، والأدب المفرد (611)، ورفع اليدين (89)، ومسلم (2524)، وأحمد: 2: 243، 448، 502، والشافعي: 2: 199 - 200، والحميدي (1050)، والبيهقي: الدلائل: 5: 359، والبغوي (1352)، والطبراني: (8218، 8219، 8220، 8221، 8222، 8223، 8224).

41 - نور الهداية

قال ابن إسحاق: قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإِسلام، حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، حتى نزلت المدينة، بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين. (¬1) 41 - نور الهداية: تلك واحدة من الأحداث التي كانت أثراً من آثار العتوّ الوثنيّ الذي ادّاركه ملأ قريش وطغاتها في موقفهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وهم يحذّرون الناس منه، فجعلهم الله تعالى وهم راغمون كارهون ألسنة دعاية ونشر لدعوته وتبليغ رسالته، فانقلب عليهم قصدهم، وردّ الله كيدهم في نحورهم! وكان الطفيل الدوسي واحداً من ألبّاء العرب وعقلائهم الذين لم يرضوا لأنفسهم الذلّة والخنوع لطغيان ملأ قريش؛ إذ تلقفوه في قَدَماته مكّة وهم يعرفونه لبيباً حكيماً، ذا مكانة مرموقة في قومه، وكلمة مسموعة فيهم، فخافوا عليه وعلى قومه أن تبلغهم دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وهداية رسالته، وأن يسمعوا شيئاً مما ينزّل عليه من كلام ربّه نوراً وهدًى للناس ورحمة للعالمين، وهم أعلم الناس بروعة البيان القرآني، وسحر هدايته، وأثرها في العقول والقلوب، فاستقبلوا الطفيل محذّرين، مخوّفين، مرجفين بالباطل والزور .. ولكن الخداع المضلّل، إذا غَشَّى بصيرة العقل المستبصر لحظة أو لحظات فسرعان ما ينبلج في آفاقه ضوء الحقيقة ونور الهداية .. وبهذا كانت دوسٌ وزعيمها الطفيل كتيبةً من كتائب الإِسلام التي ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 28. (¬2) محمَّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: 2: 270، وما بعدها بتصرف.

42 - مضاء العزيمة

شاركت في هزيمة الماديّة الوثنيّة هزيمة منكرة، ونشرت راية التوحيد، وكسرت قناة الطغيان في ملأ قريش كسرة لم تقم لهم بعدها قائمة .. حيث طهرت البلد الحرام من رجس طغيانهم، وأخرج الله من أصلابهم بطولات الدعوة والهداية والفتح المبين! 42 - مضاء العزيمة: وهذا نموذج من سياسة الحكمة التي انتهجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ رسالته، ونشر دعوته بعزيمة لا تعرف التردّد في الأمور، وصبر يحتمل ما لا تحتمل شمّ الراسيات، أوذي ويؤذى فصبر، ويصبر على أذى السفهاء من غوغاء قريش، وسيم بالبلاء من ملئها فلم تفل له عزيمة، ومضى قدماً في عزيمة ماضية، وصبر صبور، فكان ذلك من أعظم عوامل نشر الدعوة بين مجتمعات العرب في مواسمهم ومنازلهم، وكان هذا الصبر قوّة تدفع بالدعوة إلى آفاق أوسع وأفسح من آفاق مكة وقريشها، وكأنما كان هذا الصبر المكافح يحمل الدعوة إلى الله في أشدّ أزماتها على أجنحة النصر المؤزر على رغم قوى الشرّ المؤلبة لمقاومتها، وكان هذا الصبر الصبور مدداً من القوة لا ينفد، يمدّ الدعوة بقوّة العزائم التي تنهض بها لتبليغ غايتها من العقول والقلوب في غير عجلة متسرّعة، وكان هذا الصبر الجميل يزيد قريشاً طغياناً وكفراً وعتوًّا وعناداً، ويضاعف من أحقاد ملأ الطغاة وأضغانهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أصحابه، ولكنه كان يزيد في قوة إيمان المؤمنين، ويشجّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج بدعوته من حصار مكة وأهلها وعشائرها التي تقودها الوثنيّة العمياء بزمام العتوّ والكفور!

43 - حوار عقول

43 - حوار عقول: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصابر القوم، ويصبر على جفوة الجفاة منهم، ويقدّر المهذّبين منهم قدرهم، ويعرف لهم مكانتهم، ولو لم يجيبوه إلى دعوته تشرّعاً بمكارم الأخلاق! ومن القبائل التي عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه عليها، ودعاها إلى الإسلام فأبوا: كندة، وفيهم سيّدهم مليح -أو فليح (¬1) - وبنو عبد الله بن كلب، وبنو حنيفة، وكان ردّهم عليه قبيحاً، (¬2) وبنو عامر بن صعصعة، وقال رجل منهم يُدعى بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب .. أرأيت إن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: "الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء" قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك! (¬3) ومحارب بن حصفة، وفزارة، وغسّان، ومرّة، وسليم، وعبس، وبنوا النضر، وبنو البكاء، وعذرة، والحضارمة (¬4)، وربيعة، وبنو شيبان الذين كان فيهم وعلى رأسهم: مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، وقد تعلّلوا بحجج، منها الرغبة في التريّث لحين أخذ مشورة -من وراءهم- من قومهم! ¬

_ (¬1) ابن إسحاق بإسناد منقطع: ابن هشام: 2: 73، والسير والمغازي: 232، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: 242. (¬2) السابق. (¬3) السابق، ناقلاً عن: ابن سعد: 1: 216 - 217 من حديث الواقدي. (¬4) عيون الأثر: 1: 153 وما بعدها بتصرف، وانظر: محمَّد رسول الله: 2: 275 وما بعدها.

وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يصحبه في لقاءاته وفود العرب في منازلهم من الموسم أبو بكر الصديق، وعليّ بن أبي طالب -رضي الله عنهما! ففي حديث عبد الله بن عباس عند صاحب عيون الأثر وغيره (¬1) عن عليّ ابن أبي طالب في خروجهما هو وأبو بكر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، قال عليّ: وكان أبو بكر في كل خير مقدّماً فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بأبي أنت وأمّي، هؤلاء غرر في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، ومثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر - رضي الله عنه -، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه -: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلّة، فقال أبو بكر: كيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد، فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوّكم؟ فقال مفروق: إنا لأشدّ ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشدّ ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرّة، ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر: أو قد بلغكم أنه رسول الله، فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّي رسول الله، وأن تؤووني وتنصروني؛ فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد". ¬

_ (¬1) المرجع السابق.

فقال مفروق: وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام). فقال مفروق: وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريشٍ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (النحل). فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذّبوك، وظاهروا عليك، وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: هذا هانئ بن قبيصة، شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإنّي أرى إن تركنا ديننا، واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، زلّة في الرأي، وقلّة؛ نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر، وكأنه أحبّ أن يشرك في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى بن حارثة، شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، واتباعنا دينك، لمجلس جلسته إلينا، ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صَريي (¬1) اليمامة والسمامة (¬2)، ¬

_ (¬1) بفتح الصاد تثنية صَرى، وهو الماء الذي يطول اسنقاعه. (¬2) في محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 277 (صيري اليمامة والسماوة).

44 - آيات من العبر

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذان الصريان؟ " فقال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حديثاً، ولا نؤوي محدثاً، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت، هو مما يكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤوبك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم في الصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاط من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً، حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدّسونه؟ ". فقال النعمان بن شريك، اللهم لك ذا، فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (الأحزاب). ثم نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي، فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أيّة أخلاق في الجاهليّة؟ ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتجاوزون فيما بينهم ... (¬1) 44 - آيات من العبر: هذه القصة من غرر أحداث السيرة النبويّة في مرحلة الكفاح الصبور (1)، والصبر المكافح؛ لأنها في إطارها الواقعي تصوّر خطوات من سير الرسالة، ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 278 وما بعدها بتصرف.

وهي في طريقها إلى الإعلان عن نفسها وأهدافها بين وفود العرب القادمين على مكة لحضور الموسم، بعد أن سبقها ذكرها إلى الناس بما أتته قريش من طيش أحمق، ورعونة بلهاء في ترصدها القادمين أفراداً وجماعات، تحذّرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمعوا منه أو يكلموه، خشية أن يجذبهم حديثه إلى متابعته والإيمان بدعوته، وتصديق رسالته! وكأنما كان ذلك الطيش الأرعن الذي تورّط فيه ملأ قريش بشؤم مشورة طاغيتهم الوليد بن المغيرة، وشيطانهم اللعين: النضر بن الحارث، وغميز الرجولة، فرعون هذه الأمة أبي جهل بن هشام، إيذاناً من الله تعالى أن تنطلق دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من حصار قريش، فتطرق أبواب العقول والقلوب، على رغم أنف العتوّ العنيد الذي سيطر على عقليّة ملأ قريش وطغاتها من أحلاس الماديّة الوثنيّة، وقد حاولوا بكل ما يملكون من قوى ماديّة شرّيرة، وفجور دعائي عات عنيد، أن يعوقوا سير الرسالة، ويوقفوا مدّ انسياح الدعوة إلى الله تعالى، وسلكوا في سبيل ذلك كل طريق استطاعوا أن يسلكوه، ولم يتركوا أمراً تخيّلوه عائقاً يمكن أن يصدّ دعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ويردّ تيّارها عن زحفه مزمجراً بقوة الحق وقهره إلا أتَوه وفعلوه! ولكن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وقد حمّله الله تعالى مصباح الهداية مضيئاً، ينير له الطريق، ويكشف له مسالك السير برسالته قدماً، لم يزل دؤوباً وهو منفرد وحيد، يجول في ميدان الكفاح وحده، في قلّة صابرة محتسبة من أصحابه، آمنوا به وبدعوته على خوف من بطش قومهم وجبروتهم، على نشر دعوته إلى توحيد الله ودينه القويم، يدعو إليه كل من لقيه ويلقاه من الناس في أي مكان وزمان ومجتمع! ولما استيأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قومه، بعد أن بذل في سبيل هدايتهم كل

جهد، فصبر على أذيّتهم، وصابرهم، وحاسنهم، وأغضى على سفاهة سفهائهم، وفجور طغاتهم، خرج -كما عرفنا- ومعه صاحبه وصدّيقه أبو بكر، وربيبه، رضيع ثدي النبوّة، عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنهما- يعرض نفسه ودعوته إلى التوحيد والعدل على الناس، ويدعوهم إلى الإيمان به وإلى أن يؤووه، وينصروه على ظلم قريش وافترائها الكذب على الله. وتظاهرها على رسوله وهو قائم بأمر الله، ينشر دعوته، ويبلغ رسالته، فأفكت عليه وكذّبته، واستغنت بالباطل من الكفر الفاجر والوثنيّة الماديّة البليدة الظالمة المظلمة، وطرحت الحق وراءها ظهرياً، ولم ترفع له رأساً، وأقامت على عتوّها وعنادها تتربّص برسول الله الدوائر، وتمكر به وبأصحابه، وتؤذيهم أبشع الإيذاء -كما أسلفنا- متفنّنة في الإساءة والتعذيب، وهم صابرون محتسبون! ولقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الغرّ البهاليل من شيبان بن ثعلبة، الذين يصفهم الصدّيق أبو بكر - رضي الله عنه -، وهو أعرف العرب بأنساب العرب وشمائلهم، فيقول وقد التفت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن استخبرهم فانتسبوا له: هؤلاء غرر في قومهم، وهذا التعبير في صدقه ودقته مليء بالصور التي تسترعي الانتباه، فهو لم يقل: غرر قومهم، تحفّظاً أن يوغر صدر من عسى أن يكون في مستواهم أو أرفع قدراً منهم ولم يشهدهم! وهو بهذا الأسلوب البارع قد أدّى حقّ الروعة البيانيّة التي تفتح قلوب هؤلاء الغرّ الميامين؛ لما يرد عليهم من أحاديث الهداية والحق والعدل، ومكارم الأخلاق، ولا توصد باب النظر دون غيرهم! وكان في المقدمة مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وبدأ أبو بكر فأدار الحديث مع مفروق بن عمرو، لغلبته على القوم جمالًا وبياناً، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - يصغي

ويسمع، ولا يتكلم، وقرناء مفروق في زعامة قومهم في تنبّه يقظ يسمعون! وسأل أبو بكر مفروقاً عن عدد قومه، وهو لا يريد بالطبع إحصاءً عدديًّا لهم، ولكنه يريد أن يتعرّف على مصدر القوّة فيهم، وفي حروبهم، ليسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يعلم علم ما إليه قصد من منعة وحماية ونصرة وإيواء! ومن البداهة أن مصدر القوّة لتحقيق هذا الهدف إنما هم الرجال الأشدّاء، ذوو البأس والقوّة وصدق اللقاء في معمعان الوغي ومواقع النضال! وأجاب مفروق بأن عدد المنعة والحميّة فيهم يزيد على الألف -ولن يغلب الألف من قلّة- وكان لعدد الألف عند العرب روعة في التزيد به والتكثر، وهذا ما كانت بيئاتهم تقتضيه؛ فهم لم تكن لهم حروب عامة جامعة، وإنما كانت حروبهم جزئيّة محصورة متكافئة الأعداد، وسأل أبو بكر - رضي الله عنه - مفروقاً عن المنعة والحميّة فيهم ليعرف مقدار حرصهم على غيرة الجوار وحماية البيضة وحفظ الذمار، فأجاب مفروق جواب الرجل العاقل الذي لا يستفزّه الغرور الأهوج، ولا يتوثبه الطيش الأرعن، ولا تملكه الكبرياء الحمقاء، فلم يندفع إلى التكذّب والإعاء لما ليس هو بكائن عنده وعند قومه، فقال: علينا أن نبذل ما نستطيع من جهد وصبر، وإذا كان لكل قوم جدّ يدّرعونه في مواقفهم، فلنا جدّنا في جهدنا وصبرنا! وسأل أبو بكر - رضي الله عنه - مفروقاً عن الحرب بينهم وبين عدوّهم، ليستبين خصيصة قومه في لقائهم عدوّهم، فوصف مفروق قومه وصفاً من أبدع ما يوصف به قوم في ميدان البطولة والشجاعة التي لا تتهوّر، ولا تتقاعس، ولكنها بطولة جدّ ساعة الجدّ، فتربو على أمدها في توجيه رحى الحرب إلى مصافّهم في مصافّ الأبطال، فهم غضاب أشدّ ما يكون الغضب إذا لاقوا عدوّهم،

والغضب شعلة من النار، وهم أشدّ ما يكونون اندفاعاً إلى اللقاء حين يغضبون، فلا يقوم لهم عدوّ، ولا يهزمون وهم سالمون، وزاد مفروق في وصف قومه وصفاً يعرف به أنهم يحبون الوغي في حومته، وأنهم يستعذبون الاقتحام فيه وتقبيل السيوف عند اللقاء، نشأة عليها نشؤوا وتربية بها تربّوا يحبّون السلاح والجياد أكثر من حبهم أفلاذ الأكباد، وكان مفروق رجلاً عاقلاً رزيناً، لا تستفزه رعونة الزعامة في قومه، ولا يغرّه شرف محتده، بل يعلن أن النصر من عند الله، لا يجلبه قوة ولا شجاعة، ولا تجربة، وهو إلى أصحاب الجهد الصبور أقرب منه إلى أصحاب القوة الرعناء، والله تعالى يداول بين الناس، فيوم لك ويوم عليك، يديلنا مرّة فينصرنا، ويديل علينا مرّة أخرى، فينصر عدوّنا علينا، سنة الله في خلقه! ثم التفت مفروق إلى أبي بكر، بعد أن أنهى حديثه معه، وقال له: لعلك أخو قريش؟ -يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن مفروق قد سبق له أن عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل هذا المجلس، ولكن مفروقاً بدر أبا بكر بهذا التوقّع لما كان قد بلغه من ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر دعوته ورسالته، وهنا تتجلّى براعة أبي بكر - رضي الله عنه - في استرعاء الأنظار إلى التعرف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرّفاً يمكّن له في القلوب والأبصار، حتى إذا أجرى الحديث معه جرى في واديه وقصده، إذ يتولاه صاحب دعوته، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - ليؤكد هذا التعرّف، ويوجّه الأسماع إلى الهدف الذي كان له هذا اللقاء، فقال: أوقد بلغكم أنه رسول الله؟ فها هو ذا مشيراً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، وفي هذه الجملة يتجلّى صدق اليقين، وأدب النفس، ورصانة العقل، وامتلاك زمام الأمر؛ لأن أبا بكر - رضي الله عنه - إذ

قال: أو قد بلغكم أنه رسول الله، كان يتكلم بمنطق الإيمان الذي وقر في قلبه برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، أما مفروق بن عمرو إذ قال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإنما كان يتكلّم بمنطق عقله وأدبه، فهو لم يؤمن على كلام أبي بكر بأنهم بلغهم أن محمداً رسول الله ولم ينف ما بلغهم من رسالته، ولم يصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يخدش ذكره أنه رسول الله، ولكنه قارب الصدق مع نفسه، فقال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، وهذا لا يدخل مفروقاً في ساحة الإيمان برسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ولا يخرجه من ساحة صدق الإخبار! ثم أخذ مفروق في استكشاف حقيقة ما بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذكره أنه رسول الله، أرسله ليدعو الناس إلى توحيده، وخلع الأنداد والشركاء، بعد أن عرف شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إلى أي شيء تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأخذ بزمام الحوار الذي وصل إلى جوهره وغايته، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تؤوونى وتنصروني". وهذا تصديق وتأكيد لقول مفروق: قد بلغنا أنه يذكر أنه رسول الله، وها هو ذا - صلى الله عليه وسلم - يذكر على سمع القوم وبصرهم، بل على سمع الدنيا وبصرها أنه رسول الله، ولكن الظالمين جحدوا رسالته، فكذّبوه، وتظاهروا على أمر الله، واستغنوا بالباطل عن الحق، وهذا هو ما دعا إليه قومه، لم يدعهم إلى شيء غيره، وهو ما دعا إليه الناس جميعاً، هي كلمة إذا قالوها سعدوا وأفلحوا، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب بدعوته مالاً وثراء، ولا شرفاً ولا سيادة ولا ملكاً وسلطاناً، ولكن الظالمين تظاهروا على أمرِ الله، فكذّبوا رسوله إذ دعاهم إلى توحيد خالقهم فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} (ص).

أيهما العجاب، أمركم الذي تعبدون فيه آلهة شتى، أم أمر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي يدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} (يوسف). ورسالة الله دعوة إلى الحق، لا تقف إذا نوهضت من أعداء الحق، ولا تستكين إذا حوصرت، بل يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبحث لرسالته عن أرض خصبة التوبة، ليحرثها بدعوته، ومن الله تعالى الإنباث والزرع: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} (الواقعة). وهكذا كان هذا اللقاء بحثاً عن التربة الخصبة التي تؤوي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتنصر الرسالة، إذا آمنت واهتدت .. وسمع مفروق وصحبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأساس الذي قامت عليه دعائم دعوته، وسمعوا الأساس الذي له خرج من بلده، وعن قومه، ليلقى الناس به في منازلهم، ليجد من يؤويه وينصره على من ظلمه وكذبه وتظاهر على أمر الله! ولكن مفروقاً انطلق يسأل ويستكشف ما وراء هذه الدعوة التوحيديّة التي تخلعهم من وثنيّتهم، فقال: وإلى أي شيء تدعو يا أخا قريش؟ فانتقل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث والحوار، وبمن يسمع من الشاهدين إلى أمر جامع بين دعوة التوحيد، والأمر بعليا الفضائل، ومواطن الإحسان، وإلى النهي عن أصول الرذائل والشرور في المجتمع، فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ولا

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام)! وظل مفروق وصحبه على موقفهم مع وثنيتّهم وتقاليدهم الجاهليّة جامدين، لا تهتزّ مشاعرهم، ولا تتحرّك عواطفهم، وانتقل مفروق يستزيد من أمور دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يسأل: وإلى أيّ شيء -أيضاً- تدعو يا أخا قريش؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (النحل)! وهنا فقط اهتزّت أريحيّة كرم النحيزة في الرجل، وثارت عواطفه، وتحرّك وجدانه، وتأثّرت مشاعره لمعاني الآية الكريمة، وتذوّقاً لمكارمها وآدابها، فقال وهو منفعل بأثر ما مسّ قلبه: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد كذب قوم كذبوك وظاهروا عليك، ولكن هذا الانفعال بمعنى الآية شيء والإيمان بالرسالة شيء آخر؛ لأن الإيمان بالرسالة يعتمد على إسلام الوجه لله تعالى، والإذعان المطلق لأمره ونهيه، والدخول في ساحة طاعته دخولاً لا يخالجه شك، ولا تردّد، ولا يحتاج إلى مشورة أحد، ولا إلى استئذان أحد، وموقف مفروق بن عمرو إلى هنا موقف تكرّم مع نفسه، وأدب خلقي مع حياته، بيد أنه لا يرقى إلى آفاق الإيمان بالله ورسوله، ولذلك التفت إلى صحبه وقرنائه في زعامته، وبدأ بصاحب دينهم وسادن وثنيّتهم: هانئ بن قبيصة، لأن الأمر في هذا الحوار كان أمر دين ودعوة إلى رسالة إلهيّة جاءت إلى الناس بدين جديد، يقتضيهم إذا آمنوا به أن يتركوا دينهم الذي هم عليه، والذي تقلّدوه وراثةً عن آبائهم، فكان لابدّ مشاركة صاحب دينهم في الحوار والحديث، ليعرف رأيه فيما سمع من صاحب الدعوة الجديدة الذي سمعوا أنه

يذكر عن نفسه أنه رسول الله، وأنهم سمعوا في هذا المجلس دعوة إلى جانب توحيد الله تعالى أنه رسول الله، وها هم أولاء يرون رأي العين والقلب فيه، وفي سمْته، وفيما يدعو إليه جديداً كل الجدة على ما اعتنقوه من وثنيّة بليدة مظلمة، وعلى ما ألفوه وعرفوه في الناس من أخلاق وشيم، فما عسى أن يكون رأي صاحب دينهم فيما رأى وفيما سمع؟! فليتكلّم هانئ بن قبيصة شيخ شيبان في سنه، وصاحب دينهم في معرفته وعلمه بتقاليد جاهليّتهم، وشدّة حرصهم على التمسّك بوثنيّتهم، وقد قدّمه مفروق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، ولعل مفروق بن عمرو أراد مع ذلك أن يستبين أثر ما جرى من الحوار بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنفس قرنائه في زعامة قومه، ولعله كان يطوي بين جوانحه شيئاً من الرضا بالدعوة الجديدة والدّين الجديد، ولم يكن وهو مغلل بسلاسل الوثنيّة والزعامة يستطيع أن يبوح جهرةً بمكنون سرّه، فأراد أن يعرف ما اختلج في أنفس أصحابه دون أن ينفرد بخلافهم! وتكلم هانئ بن قبيصة، وكان عاقلاً متأنّياً، متّزناً حكيماً، أحكمته التجارب، فقال: إن تركهم دينهم الذي نهدوا في ظلّه، وشبّوا على تقاليده، وشابوا عليه، إلى دين جديد، مهما يكن شأن ما جاء به من مكارم الأخلاق، ومحاسن العمل، لمجرّد مجلس جلسه إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرض عليهم دعوته، وأبان عن شمائلها، وفضائل أصولها، ومحا من آدابها لم تكن له مقدّمات ممهّدات، ولا كانت له نهاية ينتهي إليها، وإنما كان أشبه بمجلس تعارف وتلاق، جمعتهم فيه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصادقة التي لم يكونوا هم يقصدونها، وقد سمعوا عنه وسمع منهم، وقالوا وقيل لهم، وعرفوا منه وعرف منهم، ولم

يكن ذلك بكاف في نظرهم، لبتِّ الحكم في أمر قد يكون من أخطر أمور حياتهم، وحياة قومهم، يرونه زلة في الرأي، وقلّة نظر في العاقبة، والأمر أكبر من أن يؤخذ بالسرعة، لاحتياجه إلى أناة وتريّث ونظر، تقلّب فيه وجوه الرأي، ويجول في أنحائه العقل جولات توزن فيها الأمور بأشباهها، وتقاس المنافع بالمضارّ، وإنما تكون الزلّة مع العجلة! ثم بيّن هانئ أن هذا الأمر لعظم خطره لا يعنيهم وحدهم، ولا يخصّهم من بين قومهم، بل هو أمرهم وأمر قومهم من ورائهم، والزعامة العادلة هي التي لا تغتاب على الجمهرة فيما يعنيها من الأحداث في حياتها، ولا تستبد في تقرير مصير من قلّدوهم قلائد زعامتهم! ولعل هانئ بن قبيصة أراد أن يعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صورة تمثّل زعامتهم لقومهم، ولذلك قال: ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، لم يشهدوه ولم يبدوا فيه رأياً؛ لأن ذلك من المفاسد الاجتماعيّة التي تشتّت جمع الجماعة، وتفرّق شملها، وتبدّد وحدتها، وتمزّق روابط الزعامة، وتحلّ عقدتها، وكان هانئ -كما كان صاحبه مفروق- وقّافاً مع وثنيّة لم يقارب الإيمان بالدّين الجديد، ولم يشرد منه، وسكت عن (لا)، و (نعم)، ولكنه أخذ لنفسه الحيطة، وأعطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - النَّصَف في عرف تقاليدهم الجاهليّة، وهو في هذا العرف لا تثريب عليه؛ لأنه رجل ما يزال سابحاً في غمرة زعامته الوثنيّة، فقال: ولكنّا نرجع إلى مستقرّنا بين قومنا، ومستودع أسرارنا في ديارنا، وننظر فيما سمعنا منذ اليوم، وينظر معنا قومنا، ويرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رأيه في عرض دعوته، وتبليغ رسالته، إلى كل من يلقاه من الناس، أداء لموجبات القيام بحق التبليغ، وينظر فيما سمع منّا، فلعلّ الله يجعل له منا ردْءًا يصدقه، ويجمع

بيننا وبينه في ظلّ رأي قد غبَّ واستوى، والله من وراء ذلك بحكمته وعلمه وتدبيره! وتكلّم المثنى -وقادة الحرب من أقلّ الناس كلاماً في غير اختصاصهم- ولذلك أمّن المثنى على كلام هانئ، ولكنه زاد على كلام هانئ ما يخصّه في معرفته تقدير القوة الحربيّة التي يخشونها إذا أجابوا دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤووه وينصروه، وبيّن المثنى أن منازل قومه تقع بين أنهار كسرى ومياه العرب، وأن أنهار كسرى لا سبيل إلى اقتحامها، والاعتداء على حرمتها وكسر حدودها، فلذلك إذا وقع كان ذنباً لا يغفر، ولا يقبل فيه عذر لمعتذر، وأما مياه العرب فأمرها سهل، وذنبها مغفور، وعذرها مقبول. والقوّة عليها مقدورة، ثم بيّن المثنى السبب في صعوبة أمر أنهار كسرى، وأنها جاءت من قبل الوفاء بالعهد، والمحافظة على زمام العقد، فهم قد نزلوا منازلهم على عهد أخذه عليهم كسرى: ألّا يحدثوا حدثاً، وألًا يؤوا محدثاً، والعرب -كما أسلفنا- من أوفى الأمم بالعهد، وأحفظهم لحرمة عقد، وأبعدهم عن الخيانة والغدر، ثم بيَّن المثنى أن دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قامت عليه من توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة .. وخلع الشرك والوثنيّة بكافة ضروبها، وسائر ألوانهما، وإقامة موازين العدل والمساواة بين أبناء البشر في أرجاء الأرض وأقطارها، أمر يكرهه الملوك، وخاصة الأكاسرة الذين كانوا -كما عرفنا- يستعبدون شعوبهم استعباد عبوديّة، يتألهون بها عليهم، فكسرى كان في قومه معبوداً من دون الله تعالى، وكان ملكه قائماً على الاستعباد المطلق، والعرب ولا سيما المصاقبون للفرس يعلمون ذلك، ويعلمون شدّة حرص الأكاسرة على ملكهم في صورته الاجتماعيّة القائمة التي خضع لها

شعبهم، وارتضاها حياةً لهم، حتى أخرجهم الإِسلام من ضيقها إلى سعة عدل الله ورحمته! وقد حفظ تاريخ الدعوة الإِسلاميّة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- صورة من هذا الفجور الاستعبادي، وذلك حينما كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى يدعوه إلى الإِسلام فيمن كتب إليهم من ملوك الأرض، فكبر على كسرى أن يقوم لله تعالى قائم من العرب يدعو إلى توحيده، ويأتي بدين جديد، يجعل هذا المستكبر على أسوة مع سائر البشر في المساواة والعدالة، فمزّق كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتغضب وثار وانتفخت أوداج الكبرياء فيه، وزمجر، وهدر وأرعد وأزبد، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - موقفه هذا فدعا عليه أن يمزّق الله ملكه، فمزّق الله ملك كسرى، وصارت فارس ملكاً إسلاميًّا، يحمل راية العالم الإِسلامي والمعرفة الإِسلامية، والدعوة إلى الله تعالى! وسيأتي بيان ذلك .. (¬1) هذا، والكلام الذي ذكره المثنى في صدد أنهار كسرى وتهيبهم لها يقصد به في صراحة لا تعرف الالتواء والمواربة، وهي خلق يغلب على القادة الحربيّن، بعد أن مهّد له بوجوب المحافظة على العهد أن قوّتهم لا تستطيع أن تقف أمام قوّة كسرى في جبروته، والعهد الذي بينه وبين جيرانه العرب، يعطيه حق أخذ من تحدّثه نفسه بالاعتداء على أنهاره وما وراءها من أرض كسرويه!، كأن هذا جاء اعتذاراً قدّمه المثنى صاحب شيبان وقائدهم عن عدم إمكان إيواء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وحمايته ونصرته على كسرى وقومه فيما يقع على حدود أنهاره وبلاده! أما إذا ¬

_ (¬1) انظر البخاري: 64 - المغازي (4424)، وفتح الباري: 8: 127، وشرح المواهب اللدنية: 3: 341، والطبري: التاريخ: 2: 655، وابن سعد: 1: 260، ومجموعة الوثائق السياسية 53، وسفراء النبي - صلى الله عليه وسلم -: 1: 94 وما بعدها.

45 - قوة الإيمان

كان الأمر خاصًّا بمياه العرب فهم قادرون على حمايته في دائرتها، وهم على أكمل استعداد لإيوائه في ديارهم، وحمايته، ونصرته على من يعاونه من العرب كافة، قريش فمن سواها! 45 - قوّة الإيمان: وهنا موقف للنبوّة، يمثل عظمتها، ويصوّر قوّة إيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - برسالته، التي لا تتوقّف عند حدّ أمّة من الأمم، أو شعب من الشعوب، أو جنس من الأجناس، أو طائفة من البشر، أو نظام من النظم الاجتماعيّة في أي شكل من شكول الحكم، فذلك كله يجب أن يدخل في دائرة رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن تكون في سيرها منطلقة في وجوه الأرض تنشر دعوتها مهما كانت العقبات التي تواجهها في طريقها، ومهما تكن قوّة العتوّ والجبروت التي تحاول تعويقها عن أهدافها! ولهذا لما بيّن المثنى بن حارثة صاحب حرب شيبان أنه لا سبيل إلى القدرة على اقتحام أنهار كسرى، وحماية من يتخطّاها بأيّة دعوة -ولا سيما إذا كانت دعوة يكرهها الملوك، وفي طليعتهم الأكاسرة كدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن حماية شيبان إذا رأوه في ديارهم تكون حماية جزئيّة خاصة بمياه العرب- تجلّت عظمة النبوّة، وتعاظم جلال الرسالة، وترجم إيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - برسالة نفسه عن قوّته ونفاذ عزيمته، وهذا الإيمان هو المعجزة العملية الخالدة لتبليغ الرسالة بلاغاً كاملاً واضحاً، والسير بها إلى غايتها، لتخرج الناس من ظلمات الجهالة والاستعباد إلى نور العلم وحريّة العقيدة والعمل في الحياة، وقد كان بيان المثنى صريحاً متعقلاً، مقدّراً للموقف من وجهة نظرهم، فكان صورة صادقة في

صورته المعبّرة عن صدق القصد، بأنه وقومه لا يستطيعون إيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمايته ونصرته على كسرى، وهو -كما يعلمون- في قوّته الحربيّة الهائلة، لكنهم قادرون على حمايته ونصرته مما يلي مياه العرب، وهذه حماية جزئيّة لا سلطان لها إلا على أضعف جوانب الحماية والنصرة، ودعوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته دين الله الذي يعمّ أقطار الأرض في شرقها وغربها، ويعمّ جميع الأمم والشعوب والأجناس البشريّة، وممالكهم ودولهم، ويعمّ مقاومة القوى التي تقف في سبيل نشر الدعوة، مهما كانت، وكيفما كانت، ولا يمكن أن تتحقق نصرة دين الله وهو بهذا العموم إلا بحياطة عامّة شاملة. لا تهاب أعظم القوى، ولا ترهب سلطاناً لأحد في الأرض غير سلطان الله تعالى! ولهذا جاء ردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المثنى رداً جميلاً حازماً، مقدّراً للقوم صدق صراحتهم، وهم يعلمون موقفه في وحدته، والتماس الإيواء والنصرة أينما وجد لها سبيلاً، فقد حدّد - صلى الله عليه وسلم - في ردّه مهمة من ينبري لنصرة دين الله، وأنها يجب أن تكون عامةً شاملةً قويّةً قاهرةً، لا تهاب قوةً من قوى الأرض والبشر! فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدّر للقوم إحسانهم في أسلوب حوارهم معه، وردّهم عليه، وبيّن لهم أن جهدهم الجزئي في نصرة دين الله تعالى لن ينصره في دعوته وتبليغ رسالته؛ لأن دين الله في عمومه وخلوده وقوة سلطانه، وما جاء به من توحيد الله تعالى، وإخلاص العبوديّة له، وطرح عباده المخلوقين كيفما كانوا، لن ينصره نصراً يحقق له أهدافه إلا من حاطه من جميع جوانبه، لا يترك منه جانباً مكشوفاً، ولا ثغرةً مهدرة، لا تحرسها قوة قادرة، تملك الدفاع عنها وتردّ اعتداء من يحاول اقتحامها مهما كانت قوته وسلطانه!

46 - المستقبل للإسلام

46 - المستقبل للإسلام: وقد أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعالج بحكمته مرض الخوف الذي ملأ صدور زعماء شيبان من كسرى وعتوّه وجبروت قوّته الحربيّة، ويهون عليهم شأن هذه القوة التي يرهبونها، ويخافون سطوتها وبطشها، لينزع من قلوبهم المهابة منهم، فهي قوّة منهارة أمام قوّة الإيمان بعقيدة الحق، بل هي قوّة ينخر فيها سوس الفناء، وستتهاوى أمام قوّة الحق والعدل! ولعل هؤلاء العرب الذين استضعفوا أنفسهم أمام قوّة الأكاسرة سيكون لهم إسهام في كسر حدّة هذه القوّة الماديّة الباطشة بزمجرتها، الجوفاء في حقيقتها؛ لأنها لا ترتبط بقوّة الإيمان بعقيدة الحق والعدل والإصلاح، وتحرير الإنسانيّة من براثن الاستعباد، وكذلك كل قوّة لا تملك في روحانيّتها هذا الارتباط العلوي محكوم عليها بالتفتت والزوال، وسيرثها الذين يقيمون دعائم قواهم على أسس من الإيمان والحق والعدل والإِسلام! وقد قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الكون وسنن الله في حياة المجتمع الإنساني أن قوى الشرّ لا بقاء لها، وقد أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع هؤلاء القوم الذين أخلدوا إلى الأرض، لا يريحونها على أجنحة الأمل الفسيح، ليعدّهم نفسيًّا ليوم يأتيهم وهم يخوضون معارك الشرف والكرامة مع هؤلاء الأكاسرة باسم الإِسلام والعدل، وأنهم سيكسرونهم ويورثهم الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشهم نساءهم، يستولدونهم جيلاً يجري في عروقهم دمهم من أكرم ناحيتيه، ولا يكون ذلك إلا بقوة الإيمان بعقيدة الحق التي لا تطلب من صاحبها إلا حوْطها بما يحفظها، ويستديم صلتها بالله القويّ الأعلى، مالك

الملك. الذي يؤتي ملكه من يشاء من عباده، وينزعه ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، فسبحانه تقدّس، بنعمه وحمده، لا يطلب من عباده على إنعامه غير تسبيحه وتقديسه، فهل أنتم كذلك؟ وهنا بدر النعمان بن شريك -وكان يصغي ويسمع، ويعي ولا يتكلّم- ورأى أن الحوار بلغ نهايته بهذه البشرى الكريمة، فقال: اللهم لك ذا، وعند ذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنباءهم إعجازاً؛ ليجعل ذلك واقعاً وعداً من الله، فتلا عليهم ما خصّه الله به من نعوت الحمد والكمال، والمجد والنصر المؤزر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (الأحزاب). وقد تحقق ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفتحت فارس، وكان قائد فتحها الأول قائد شيبان، وصاحب حربها المثنى بن حارثة، وكان أبو بكر الصدّيق في خلافته، تأتيه أخباره في غمرة حياة فارس بغاراته عليها، واقتطاع أرضها، فيعجب به قبل أن يعرفه! ولما انتهى هذا المجلس إلى غايته نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيّب النفس بما سمع ورأى من القوم، ليترك أثر المجلس يعتلج في صدورهم، لعلّهم وعساهم! وقد أعرب - صلى الله عليه وسلم - في أرفع بيان، وأبلغ أسلوب، وأصدق كلام، عن محاسن الأخلاق التي رآها في القوم، وهي من أخلاق العرب في جاهليّتهم، وعن أدبهم الاجتماعي بعضهم مع بعض في حوارهم وإصغائهم وحسن استماعهم لما يجري من الحديث، وفي أسلوب مخاطبتهم له - صلى الله عليه وسلم -، وهم لمّا يؤمنوا به بعد، وحسن تناولهم للحديث معه - صلى الله عليه وسلم -، وفي صدق صراحتهم، وصراحة

47 - درس للدعاة

صدقهم، وفي تعقلهم، وتأتيهم للأمور من مداخلها في ريث وأناة، فقال - صلى الله عليه وسلم - وهو يشدّ على أيدي صاحبيه: الصدّيق أبي بكر، وعلي بن أبي طالب: أيّة أخلاق كانت للعرب في الجاهلية؟ ما أشرفها .. بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم"! 47 - درس للدعاة: هذا لون من الأحداث التي عرضت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعرض نفسه على الناس في منازلهم، يدعوهم إلى توحيد الله، ويبلّغهم رسالة الله، وقد اخترنا ونختار منها ما كان له أثر قويّ في دفع سير الرسالة إلى أهدافها أو كان له أثر في بيان صور الكفاح الصبور، الذي درج عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أطوار دعوته، ليكون من ذلك نماذج لورثة تبليغ الدعوة من بعده - صلى الله عليه وسلم -، يحتذونها، ومُثُلاً يتقلّدونها، أداء لما قلّدوه من وجوب القيام بنشر دين الله في أرجاء العالم! وسبق أن عرفنا في تلك الساعات الأولى التي أشرقت فيها شمس الرسالة، قول ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً، ليتني كون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو مخرجيّ هم؟! " قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت بها إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّراً ...). ونتصوَّر مرّة بعد مرّة صور الإيذاء والتعذيب، والسخرية والاستهزاء -كما سبق- مما يعجز الخيال الشاخص عن تصوّره، تتوالى وتتواكب، تهزّ النفوس هزًّا، ولا يتلقّى الحس ذلك إلا بهول وروع! ألا إنه لأمرٌ أمرّ من كل أمر!

ونتصوّر مشقّة الصبر أمام انتعاش الاضطهاد والتعذيب وانتفاخ الباطل وتورّمه .. وإمساك النفس على هذا راضيةً مطمئنّة إلى قدر الله -كما عرفنا- لا تتلفّت ولا تتردّد، يقيناً بوعد الله. وطلباً لمرضاته، وحنيناً إلى رضوانه .. ترقب رعاية القدرة التي لا أمن إلا في جوارها، والتي لا تقرب المخاوف من حماها! ومن ثُمَّ أبصرنا استعلاء النفس المطمئنّة على الضرَّاء، فلا تصغر، والسرَّاء فلا تبطر، واللأواء، فلا تجزع ولا تضجر .. حيث تشرئب الأعناق، وتهفو القلوب. وتأنس النفوس، وترفرف الأرواح! ويطالعنا قول الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} (العنكبوت). ونبصر استفهاماً استنكارياً لمفهوم الناس للإيمان، وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان ليس لها في الجَنان مكان .. ونبصر الإيمان أمانة الله في الأرض، لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرّد وإخلاص! ونبصر الحق أصيلاً في طبيعة الكون، عميقاً في تكوين الوجود .. ونبصر الباطل، لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الحق فيدمغه، ولا بقاء لشيء يقذفه الحق فيدمغه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18)! {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)} (يوسف)!

طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

الجامع الصحيح للسيرة النبوية [5] «طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -» تأليف الدكتور سعد المرصفي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (الأعراف)! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب)!

(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! الزهري (كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)! زين العابدين علي بن الحسين (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)! إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

مقدمة

مقدمة الحياة صراع بين الحق والباطل، يصهر المؤمنين، فيهب نفوسهم قوة، ويرفعهم عن ذواتهم، ويطهّرهم في بوتقة الألم، فيصفو عنصرهم ويضيء، فتتلألأ دعوة الحق حتى في أعين الأعداء والخصوم!! وحين يسفر طغيان الباطل عن وجهه لا يجادل ولا يناقش ولا يفكّر ولا يتعقّل، فيغترّ بالقوّة الماديّة الغليظة التي لا يملك غيرها!! حينها يشتد الابتلاء للفئة المؤمنة لتواجه المحنة والدفاع، والصبر والثبات! ومن ثمَّ تتوجه إلى الله، فيجيء النصر، ويجيء التمكين!! وها هي الفئة المؤمنة الأولى التي قادها خاتم المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - تقدم النموذج البشري الذي سيظل ماثلاً أمام أعين السالكين، طريق جهاد الدعوة إلى الدين الحق، فيفتح لها من نفحاته، ويضيء لها من نبراسه، لتبصر جادتها. فإلى معالم طريق جهاد الدعوة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نقبس، وننهل، ونبصر! رجاء أن تعود إلينا سيرتنا الأولى .. والله أسأل: التوفيق والسداد! والعون والرشاد! إنه سميع مجيب! الكويت في: 16 من المحرم 1430 هـ 19 من يناير 2009 م راجي عفو ربه سعد محمد محمد الشيخ (المرصفي) أستاذ الحديث وعلومه كلية الشريعة والدراسات الإِسلامية جامعة الكويت - سابقاً

هذا هو الطريق

هذا هو الطريق

هذا هو الطريق ° أشدُّ النَّاس بلاءً ° مفرق الطريق ° ضرورة الابتلاء ° قيمة العقيدة ° حقيقة الابتلاء ° ابتلاءٌ أشدّ ° تمحيص المؤمنين ° تربية إيمانيّة ° توكّل على الله ° نهاية الظالمين ° إعداد وثبات ° معالم في الطريق: المعلم الأول: المعلم الثاني: المعلم الثالت: ° زلزالٌ شديد ° مناجاة في ليلة القدر ° الله والطاغوت ° شظايا من الإيمان

أشد الناس بلاء

أشدّ الناس بلاء: الإيمان أمانة الله في الحياة، لا يحملهما إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرّد لها وإخلاص .. وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدّعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء .. وإنها لأمانة الخلافة في الأرض (¬1)، وقيادة الناس إلى طريق الله، وتحقيق كلمته في عالم الحياة. فهي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمر الله يضطلع بها الناس، ومن ثمّ تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء! ولا يكفي أن يقول الناس آمنّا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرّضوا للفتنة. فيثبتوا عليها، ويخرجوا منها صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب، لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به - وهذا هو أصل الكلمة اللغوي، وله دلالته وظلّه وإيحاؤه- وكذلك تصنع الفتنة، بالقلوب: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} (العنكبوت)! إنه الإيقاع الأول في سورة العنكبوت المكية في قول الجمهور (¬2)، والمدنيّة في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وقيل بعضها مدني، وروى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها إلى {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 2720 وما بعدها بتصرف. (¬2) التحرير والتنوير: 20: 199 وما بعدها بتصرف.

نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكّة أسلموا، فكتب إليهم أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من المدينة ألا يُقبل منهم إسلامٌ حتى يهاجروا إلى المدينة، فخرجوا مهاجرين فأتبعهم المشركون فردّوهم. وهي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة (الروم)، وقيل سورة (المطفّفين)، فتكون من أخريات السور المكيّة، بحيث لم ينزل بعدها بمكّة إلا سورة (المطفّفين). وهذا الإيقاع يساق في صورة استفهام استنكاري لمفهوم الناس للإيمان، وحسبانهم أنه كلمة تقال باللسان ليس لها في الجَنَان مكان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}! والتَّرْك هنا مستعمل في حقيقته؛ لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم، فلمَّا آمنوا اختصّوا بأنفسهم، وخالفوا أحوال قومهم، وذلك مظنّة أن يتركهم المشركون وشأنهم، فلمّا أبي المشركون إلا منازعتهم طمعاً في إقلاعهم عن الإيمان وقعٍ ذلك منهم موقع المباغتة والتعجّب وذكر الترك المجازي في قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} (البقرة)! والمعنى: أحسب الذين قالوا آمنّا أن يتركهم أعداء الدّين دون أن يفتنوهم .. وهذه الفتنة مراتب: أعظمها التعذيب، كما فُعل بـ (بلال، وعمّار بن ياسر، وأبويه) كما سبق أن ذكرنا. ومن الفتنة أن يتعرّض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثمّ لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة، ولا يجد القوّة التي

يواجه بها الطغيان، وهذه هي الصورة البارزة للفتنة، المعهودة في الذهن حين تذكر الفتنة، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة، فهناك فتن كثيرة في صور شتّى ربما كانت أمرّ وأدهى. هناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه، وهو لا يملك عنهم دفعاً، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم، زينادونه باسم الحبّ والقرابة، واتّقاء الله في الرّحم التي يعرّضها للأذى أو الهلاك. وقد أشير في هذه السورة إلى لون من هذه الفتنة مع الوالدين، وهو شاقّ عسير. وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدّنيا، وتصفّق لهم الجماهير، وتتحطّم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفّق لهم الحياة، وهو مُهْمَل مُنْكَر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً. وهناك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيّار الضلالة، وهو وحده موحش غريب طريد. وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيّام .. فتنة أن يجد المؤمن أمماً غارقةً في الرذيلة، وهي مع ذلك راقيّة ماديًّا في مجتمعها، متحضّرة في حياتها هذه .. يجد الفرد فيها من الرعاية والحماية ما يناسب قيمة الإنسان، ويجدها غنيّة قويّة، وهي مشاقّة الله. وهنالك الفتنة "الكبرى" أكبر من هذا كله وأعنف .. فتنة النفس والشهوة،

وجاذبيّة الأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدّعة والاطمئنان، وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوّقات والمثبّطات في أعماق النفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصوّرات أهل الزمان! فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشدّ وأقسى، وكان الابتلاء أشدّ وأعنف، ولم يثبت إلا من عصم الله. . وهؤلاء هم الذين يحقّقون في أنفسهم حقيقة الإيمان، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير الإنسان. وحاشا لله أن يعذّب المؤمين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمّل الأمانة، فالأمانة تحتاج إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العمليّة للمشاقّ، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقيّة في نصر الله وفي ثوابه، على الرغم من طول الفتنة وشدّة الابتلاء. والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمّع، وتطرقها بعنف وشدّة فيشتدّ عودها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً، وأقواها طبيعة، وأشدّها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلّمون الراية في النهاية، مؤتمنين عليها، بعد الاستعداد والاختبار. وانهم ليتسلّمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم: بما أدّوا من غالي الثمن، وبذلوا لها من الصبر على المحن، وذاقوا في سبيلها من الآلام والتضحيات. .

والذي يبذل من دمه وأعصابه، وميت راحته واطمئنانه، ومن رغائبه ولذّاته، ثم يصبر على الأذى والحرمان، لا شك يشعر بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل، فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات والآلام. أمّا انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفّل به وعد الله، وما يشك مؤمن في وعد الله، فإن أبطأ فلحكمة مقدّرة، فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله. . وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المختارين من الله، ليكونوا أمناء على حق الله، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للبلاء. ويطالعنا ما رواه الترمذي وغيره عن مصعب بن سعد عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أيّ الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإِن كان دينه صُلْباً اشتدَّ بلاؤه، وإِن كان في دينه رِقَّة ابتلي على حسب دينه، فما يبوح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". (¬1) وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة". (¬2) ¬

_ (¬1) الترمذي (2398)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وصحيح الترمذي (1956)، والطيالسي (215)، وابن سعد: 2: 209، وابن أبي شيبة: 3: 233، وأحمد: 1: 172، 173، 185، وعبد بن حميد (146)، والدارمي (2786)، وابن ماجه (4023)، والبزار (1150، 1154، 1155)، وانظر: تاريخ واسط: 253، وأبو يعلى (830)، والشاشي (69)، وابن حبان (290، 2921)، والحاكم: 1، 41، وأبو نعيم: الحلية: 1: 368، والبيهقي: 3: 372، والشعبي (9775)، والبغوي (1434). (¬2) الترمذي (2399) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن أبي شيبة: 3: 231، وأحمد: =

وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حَرَّهُ بين يديّ، فوق اللّحاف، فقلت يا رسول الله! ما أشدّها عليك! قال: "إِنّا كذلك، يُضَعَّفُ لنا البلاء، ويضعَّفُ لنا الأجر" قلت: يا رسول الله! أيُّ الناس أشدّ بلاء؟ قال: "الأنبياء" قلت: يا رسول الله! ثمَّ مَنْ؟ قال: "ثُمَّ الصالحون، إِن كان أحدُهم ليبْتَلى بالفقر، حتى ما يجد أحدُهمُ إِلا العباءة يحوبها، وإِن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدُكم بالرّخاء". (¬1) ونبصر التنويه بذلك لأجل الإيمان بالله، بأنه سنَّةٌ الله في سالف أهل الإيمان، وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق، لتنزيل المؤمنين حين استعظموا ما نالهم من الفتنة من المشركين، واستبطؤوا النصر على الظالمين، وذهولهم عن سنّة الكون في تلك الحياة لتنزيلهم منزلة من ينكر أن من يخالف الدهماء في ضلالهم، ويتجافى عن أخلاقهم ورذالتهم لابدّ أن تلحقه منهم فتنة. ولما كان هذا السنَن من آثار ما طبع الله عليه عقول غالب البشر، وتفكيرهم غير المعصوم بالدلائل، وكان حاصلاً في الأمم السابقة أسندت فتن تلك الأمم إلى الله تعالى إسناداً مجازيًّا؛ لأنه خالق الأسباب، كما خلق ¬

_ = 2: 287، 450، والبخاري: الأدب الفرد (494)، والحاكم: 1: 346، 4: 314، وأبو نعيم: الحلية: 7: 91، 8: 212، والبيهقي: 3: 374، والبغوي (1436)، وابن حبان (2913، 2924). (¬1) ابن ماجه (4024) ويحوبها من احتبى الثوب، أي اشتمله، وهي هيئة من الارتداء. وابن سعد: 2: 208، والبخاري: الأدب المفرد (510)، وأبو يعلى (1045)، والطحاوي: شرح المشكل (2210)، وعبد الرزاق (20626)، وأحمد: 3: 94، وعبد بن حميد (960) عن أبي سعيد نحوه.

أسباب العصمة منها، لمن كان أهلاً للعصمة، وفي هذا الإسناد إيماء إلى أن الذي خلق أسباب تلك الفتن قريبها وبعيدها قادر على صرفها بأسباب تضادها، والإشارة إلى هذا المعنى في دعاء موسى -عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} (يونس)! فسأل الله أن يخلق ضدّ الأسباب التي غرَّت فرعون وملأه وغشيت على قلبه بالضلال! والمقصود التذكير بما لحق صالحي الأمم السالفة من الأذى والاضطهاد، كما لقي صالحو النصارى من مشركي الرومان في عصور المسيحيّة الأولى، وقد قصَّ القرآن بعض ذلك في سورة (البروج). ويطالعنا إرهاب أصحاب الأخدود، فيما يرويه مسلم وغيره عن صهيب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان مَلِكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلمَّا كَبِر قال للملِك: إِنّي قد كبِرت، فابعثْ لي غلاماً أُعلِّمْه السِّحر، فبعث إِليه غلاماً يُعلِّمه، فكان في طريقه إِذا سلك راهبٌ، فقعَد إِليه وسمع كلامه: فكان إِذا أتى الساحر مرّ بالرّاهب، وقعَد إليه، فإِذا أتى الساحر ضَربه، فشكا ذلك إِلى الرّاهب، فقال: إِذا خشيتَ الساحر فقُلْ: حبسني أهلي، وإِذا خشيت أهلك فقُل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إِذْ أتى على دابّة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم آلساحرُ أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال:

اللهم! إِن كان أمر الراهب أحبّ إِليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابّة، حتى يمضي الناس فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أيْ بُنَيَّ! أنت اليوم أفضلُ منّي، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإِنك سَتُبْتَلَى، فإِن ابتليت فلا تدلّ عليّ، وكان الغلام يبرئ الأكمه (¬1) والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدْواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عَمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع، إِن أنت شفيتني، فقال: إِنّي لا أشفي أحداً، إِنما يَشْفي الله، فإِن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله، فأتى الملِكَ فجلس إِليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من ردّ عليك بصرَك؟ قال: ربّي، قال: ولك ربٌّ غيْري؟ قال: ربّي وربّك الله، فأخذه فلم يزَل يُعذِّبُه حتى دلّ على الغلام! فجيء بالغلام، فقال له الملك: أيْ بنيِّ! قد بلغ من سحرِك ما تبرئ الأكْمه والأبرص، وتفعل ما تفعل، فقال: إِنّي لا أشفي أحدًا، إِنما يشفي الله، فأخذه فلم يزلْ يعذبُه حتى دلّ على الراهب! فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبَى، فدعا بالمنشار (¬2)، فوضع المنشار في مَفرقِ رأسه، فشقّه حتى وقع شقّاه! ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إِلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهوا به إِلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإِذا ¬

_ (¬1) الأكمه: الذي خلق أعمى! (¬2) المنشار: مهموز، ويجوز تخفيف الهمزة بقلبها ياء، وروي: المنشار، بالنون!

بلغتم ذروته (¬1)، فإِن رجع عن دينه، وإِلا فاطرحوه، فذهبوا به، فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم! اكفِنِيهمْ بما شئت، فرجَفَ بهم (¬2) الجبل، فسقطوا! وجاء يمشي إِلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إِلى نفرٍ من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرقُور (¬3)، فتوسّطوا به البحر، فإِن رجع عن دينه، وإِلا فاقذفوه، وذهبوا به، فقال: اللهم! اكْفِنِيهمْ بما شئت، فانكفأت بهم السفينة (¬4)، فغرقوا، وجاء يمشي إِلى الملك، فقال له الملك: ما فَعَل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إِنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمُرُك به، قال: وها هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد (¬5)، وتَصلبُني على جذع، ثم خُذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس (¬6)، ثم قُلْ: بسم الله! ربِّ الغلام! ثم ارمني، فإِنك إِذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيدٍ واحد، ¬

_ (¬1) ذروة الجبل: أعلاه! (¬2) أي اضطرب وتحرك حركة شديدة! (¬3) أي السفينة الصغيرة، وقيل: الكبيرة، واختار القاضي الصغيرة. (¬4) أي انقلبت! (¬5) الصعيد هنا: الأرض البارزة! (¬6) كبد القوس: مقبضها عند الرمي!

وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله! ربِّ الغلام! ثم رماه فوقع السهم في صُدغِه، فوضع يده في صُدْغِهِ في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنّا بربِّ الغلام! آمنّا بربِّ الغلام! آمنّا بربِّ الغلام! فأتي الملك، فقيل له: أرأيت ما كنتَ تحذر؟ قد، والله! نزل بك حذرك (¬1)! قد آمن الناسُ، فأمر بالأخدود (¬2) في أفواه السكك (¬3)، فخدِّد وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها (¬4)، أو قيل له: اقْتَحِم، ففعلوا، حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست (¬5) أن تقع فيها، فقال لها الغلامُ: يا أمَّه! اصبري، فإِنك على الحق! ¬

_ (¬1) أي ما كنت تحذر وتخاف! (¬2) الأخدود: الشق العظيم في الأرض، وجمعه أخاديد! (¬3) أي أبواب الطرق! (¬4) (فأحموه فيها) هكذا في عامة النسخ، بهمزة قطع بعدها حاء ساكنة، ونقل القاضي اتفاق النسخ على هذا، ووقع في بعض نسخ بلادنا، (فأقحموه) بالقاف، ومعناه اطرحوه فيها كرهاً، ومعنى الرواية الأولى: ارموه فيها، من قولهم: أحميت الحديدة وغيرها، إذا أدخلتها النار لتحمى! (¬5) أي توقفت ولزمت موضعها، وكرهت الدخول في النار!

وفي رواية: فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، قال: يقول الله تبارك وتعالى فيه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} (البروج)! قال: فأماّ الغلام فإِنه دُفن، قال: فيُذكر أنه أُخرج في زمن عُمر بن الخطّاب - رضي الله عنه -، إِصبعه على صُدغه، كما وضعها يوم قتل (¬1)! تلك قصة أصحاب الأخدود، التي نزلت في شأنها تلك الآيات من سورة (البروج). . وهي التي وردت في تثبيت المؤمنين (¬2)، وتصبيرهم على أذى أهل مكّة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم من التعذيب على الإيمان، حتى ¬

_ (¬1) مسلم: 53 - الزهد والرقائق (3005)، وأحمد: 6: 17 - 18، وعبد الرزاق (9751)، والترمذي (3340)، وصحيح الترمذي (2661)، والبزار (2091)، والطبري: التفسير: 30: 133 - 134، والنسائي: التفسير (681)، والكبرى (11661)، وابن حبان (7319)، والطبراني (7319)، وأيضاً (7320) من طريق معمر، وأبو عوانة، كما في إتحاف المهرة: 6: 315 من طريق سليمان بن المغيرة، كلاهما عن ثابت به! وسياق معمر ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الحافظ ابن كثير: التفسير: 8: 389، وقال: قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزّي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله أعلم! وقال الحافظ ابن حجر: الفتح: 8: 698 صرّح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، ومن طريقه أخرجه مسلم، والنسائي، وأحمد، ووقفها معمر، عن ثابت، ومن طريقه أخرجه الترمذي! (¬2) تفسير الفخر الرازي: 31 - 116 وما بعدها بتصرف.

يقتدوا بهم، ويصبروا على أذى قومهم، ويعلموا أن كفّار مكّة عند الله بمنزلة أولئك الذين كانوا في الأمم السابقة، يحرقون أهل الإيمان بالنار، وأحقّاء بأن يقال فيهم (قُتلت قريش) كما {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}! وقد ذكروا قصة أصحاب الأخدود على طرق متباينة .. منها: أنه وقع إلى (نجران) رجلٌ ممن كان على (دين عيسى)، فدعاهم، فأجابوه، فصار إليهم (ذو نواس اليهودي) بجنود من (حمير)، فخيّرهم بين النار واليهوديّة، فأبوا، (فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد)، وقيل (سبعين ألفاً)، وذكر أن (طول الأخدود أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر ذراعاً)! وقيل: كان في (ثلاث طوائف) - (ثلاث مرات): مرة باليمن! ومرة بالعراق! ومرة بالشام! ولفظ الأخدود، وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع، وهو كثير في القرآن! وقال القفال: ذكروا في قصة أصحاب الأخدود روايات مختلفة .. ! وهي متفقة في أنهم قوم من المؤمنين .. ! تلك قصة أصحاب الأخدود، أكبر دليل من الواقع التاريخي على الإرهاب الذي مارسه الكفار والمشركون ضدّ المؤمنين بالله جلّ شأنه!

وتطالعنا سورة البروج بقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)} (البروج)! وهنا نبصر حقائق العقيدة، وقواعد التصوّر الإيماني .. ونبصر أضواء قويّة بعيدة المدى، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبّر عنها تلك الآيات .. حتى لتكاد كل آية -وأحياناً كل كلمة في الآية- أن تفتح كوّةً على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة. (¬1)! والحادث المباشر هو حادث أصحاب الأخدود! والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإِسلام الذي بعث الله به محمداً خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - وعلى إخوانه من الرسل والأنبياء .. قيل: إنهم من النصارى الموحّدين (¬2)، ابتلوا بأعداء لهم طغاة بغاة عتاة، أرادهم على ترك دينهم -كما أسلفنا- فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم، فشق الطغاة البغاة العتاة لهم شقًّا في الأرض، وأوقدوا فيه النار، وكبّوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقاً، على مرأى من المجموع التي حشدها المتسلّطون، لتشهد مصرع الفئة المؤمنة بهذه الطريقة البشعة! ونعود إلى مفتتح السورة .. نعود فنجد الارتباط بين الأمور الثلاثة المقسم بها (¬3): {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}! ونجد الإقسام بها متناولاً لكل موجود في الدنيا والآخرة .. وكلٌّ منها آية ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3871. (¬2) انظر: تفسير الطبري: 30: 132، والشوكاني: 5: 413. (¬3) بدائع التفسير: 5: 170 وما بعدها بتصرف.

مستقلّة دالة على ربوبيّته وإلهيّته، فأقسم بالعالم العلوي، وهي السماء وما فيها من البروج، التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها! ثم أقسم بأعظم الأيام وأجلّها قدرًا الذي هو مظهر ملكه، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، ومجمع أوليائه وأعدائه، والحكم بينهم بعلمه وعدله! ثم أقسم بما هو أعم من ذلك كله، وهو الشاهد والمشهود .. وناسب هذا القسم ذكر أصحاب الأخدود الذين عذّبوا أولياءه، وهم شهود على ما يفعلون بهم، والملائكة شهود عليهم بذلك، والجوارح تشهد به عليهم، وأيضاً فالشاهد هو المطّلع والرقيب، والمخبر والمشهود، وهو المطلع عليه المخبر به، المشاهد! فمن نوّع الخليقة إلى شاهد ومشهود، وهو أقدر القادرين، كما نوّعها إلى مرئي وغير مرئي، كما قال سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)} (الحاقة)! كما نوعها إلى أرض وسماء، وليل ونهار، وذكر وأنثى! وهذا التنويع والاختلاف من آياته سبحانه - كذلك نوعها إلى شاهد ومشهود! وفيه سرّ آخر: وهو أن من المخلوقات ما هو مشهود عليه، ولا يتم نظام العالم إلا بذلك، فكيف يكون المخلوق شاهداً رقيباً حفيظاً على غيره، ولا يكون الخالق تبارك وتعالى شاهداً على عباده مطلعاً عليهم رقيباً؟! وأيضاً فإن ذلك يتضمّن القسم بملائكته وأنبيائه ورسله؛ فإنهم شاهدون على العباد، فيكون من باب اتحاد المقسم به والمقسم عليه، كما أقسم باليوم

الموعود، وهو المقسم به وعليه، وأيضاً فيوم القيامة مشهود، كما قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)} (هود)! يشهده الله وملائكته والإنس والجن، والوحش، من آياته، والمشهود من آياته! وأيضاً فكلامه مشهود، كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} (الإسراء)! تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فالمشهود من أعظم آياته، وكذلك الشاهد، فكل ما وقع عليه اسم شاهد ومشهود فهو داخل في هذا القسم؛ فلا وجه لتخصيصه ببعض الأنواع أو الأعيان، إلا على سبيل التمثيل! وأيضاً فكتاب الأبرار في عليّين يشهده المقربون، فالكتاب مشهود والمقربون شاهدون! والأحسن، أن يكون هذا القسم مستغنياً عن الجواب؛ لأن القصد التنبيه على القسم به، وأنه من آيات الربّ العظيمة، ويبعد أن يكون الجواب: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}! وهم الذين فتنوا أولياءه وعذّبوهم بالنار ذات الوقود! ثم وصف حالهم القبيحة بأنهم قعود على جانب الأخدود، شاهدين ما يجري على عباد الله تعالى وأوليائه عياناً، ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة، ولا يعيبون عليهم ديناً سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض!

مفرق الطريق

وهذا الوصف كان يقتضي إكرامهم وتعظيمهم ومحبّتهم، فعاملوهم ضدّ ما يقتضي أن يعاملوا به! وهذا شأن أعداء الله دائماً، ينقمون على أوليائه ما ينبغي أن يحبّوا ويكرموا لأجله، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} (المائدة)! مفرق الطريق: وفي سورة العنكبوت أيضاً يطالعنا قوله تعالي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}! (العنكبوت). وهنا نبصر ذلك النموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء، في كلمات معدودات .. صورة واضحة الملامح، بارزة السمات! نبصر ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة العمل، هيّنة المؤونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ}! بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}! فاستقبلها في جزع، واختلّت في نفسه القيم، واهتزّت في ضميره العقيدة، وتصوّر أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه -حتى عذاب الله! وقال

في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم، ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من العذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه. هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدّة: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}! إنا كنا معكم .. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير، ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المنهزمون فيقولون: {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} .. {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)}؟! أوَليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء، وعلى من يموّهون؟ {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)}! وليكشفنّهم فيُعرفون، فما كانت الفتنة إلا ليتبيَّن الذين آمنوا ويتبيَّن المنافقون! ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق، وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}! فليس الأمر أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات -وللطاقة البشريّة حدود- ولكنهم يظلُّون يفرقون تفرقةً واضحةً في تصوّرهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وعذاب الله العظيم، فلا يختلط في حسّهم أبداً عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير، حتى في هذه اللّحظة التي يتجاوز عذاب الناس

لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال .. إن الأمر في حس المؤمن لا يقوم له شيء، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله .. وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق! وفي نفس السورة يطالعنا قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}! بعد ذكر مصارع الطغاة البغاة العتاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون .. وبعد الحديث في مطلع السورة عن الفتنة والابتلاء، والإغراء -كما أسلفنا (¬1) - يطالعنا المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال .. وهنا نبصر قوة واحدة، هي قوة الله .. وما عداها فهو هزيل واهن .. من تعلَّق به أو احتمى فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية، فهي وما تحتمي به سواء. إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود .. الحقيقة التي غفل عنها الناس أحياناً، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختلّ في أيديهم جميع الموازين، ولا يعرفون إلى أين يتوجّهون .. ماذا يأخذون، وماذا يدعون؟ وعندئذ تخدعهم قوّة الحكم والسلطان .. يحسبونها القوّة القادرة التي ¬

_ (¬1) السابق: 2736 بتصرف.

تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضّونها ليكفّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها! وتخدعهم قوّة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدّمون إليها في رغب وفي رهب، ويسعون للحصول عليها، ليستطيلوا بها، ويتسلّطوا على الرقاب، كما يحسبون! وتخدعهم قوّة العلم، يحسبونها أصل القوّة، وأصل الإيمان، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدّمون إليها خاشعين، كأنهم عباد في المحاريب! وتخدعهم هذه القوى الظاهرة .. تخدعهم في أيدي الأفراد، وأيدي الجماعات، وأيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار! وينسون القوّة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجّهها، وتسخّرها كما تريد حينما تريد! وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى، سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات أو الدول .. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت .. حشرة ضعيفة رخوة واهنة، لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن! وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القويّ الركين! هذه الحقيقة الضخمة هي التي عُني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة،

فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكَّت بها المعاقل والحصون! لقد استقرّت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تعد كلمة تقال باللسان، ليس لها في الجَنان مكان، ولا قضيّة تحتاج إلى جدل؛ بل بديهة مستقرة في النفس، لا يجول غيرها في حسّ ولا خيال! قوّة الله وحدها هي القوّة .. وولاية الله وحدها هي الولاية .. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل، مهما علا واستطال، ومهما تجبّر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل! إنها العنكبوت .. وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}! وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرّضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء -كما أسلفنا- لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة، ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة، هذه تضرّ بهم، وتحاول أن تسحقهم .. وهذه تستهويهم، وتحاول أن تشتريهم .. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصحّ العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى، وتحسنُ التقويم والتقدير: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}! إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله، والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء .. وهي الحقيقة التي صوَّرت في المثل السابق .. عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت! {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}!

ضرورة الابتلاء

هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبّر لهذا الوجود! {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}. فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادّة للسخرية والتهكّم، وقالوا: إن ربَّ محمد يتحدّث عن الذباب والعنكبوت، ولم يهزّ مشاعرهمِ هذا التصوير العجيب؛ لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}! ضرورة الابتلاء: ويطالعنا قوله عزَّ وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} (آل عمران)! إنها سنّة العقائد والدعوات .. لابدّ من بلاء (¬1)، ولا بدّ من أذى في الأموال والأنفس، ولا بدّ من صبر ومقاومة واعتزام .. إنه الطريق إلى الجنّة، وقد حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النَّار بالشهوات .. يروي مسلم وغيره عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النَّار بالشهوات" (¬2). ¬

_ (¬1) السابق: 1: 539 وما بعدها بتصرف. (¬2) مسلم: 51 - الجنة (2822)، وأحمد: 3: 153، 254، 284، والبغوي (4114) والترمذي (2559)، وعبد بن حميد (1311)، وابن حبان (716، 718)، والقضاعي: الشهاب (568)، والدارمي: 2: 339.

وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّت النار بالشهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره". (¬1) وفي الآية قبل التي معنا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} (آل عمران)! وهنا نبصر توجيه القرآن إلى الجماعة المسلمة، يحدثّها عن القيم التي ينبغي أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها، ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال! إنه لا بدّ من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً .. يموت الصالحون، ويموت الطالحون .. يموت المجاهدون، ويموت القاعدون .. يموت المستعلون بالعقيدة، ويموت المستذلون للعبيد .. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. لموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص! الكل يموت .. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}! كل نفس تذوق هذه الجريمة، وتفارق هذه الحياة، وهنا نذكر ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِن الميّت تحضره الملائكة، فإِذا كان الرجل الصالح، ¬

_ (¬1) مسلم (2823)، والبخاري (6487) بلفظ "حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنّة بالمكاره"، وابن المبارك: الزهد (650، 925)، والقضاعي: الشهاب (567)، وأحمد: 2: 260، 380، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560) من حديث طويل، والنسائي: 7: 3، والبغوي: شرح السنة (4115)، وابن حبان (719).

قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيّبة، كانت في الجسد الطيّب، اخرجي حميدة، وأبشري بروْح وروْحان وربٍّ غير غضبان. قال: فلا يزال يقال ذلك، حتَّى تخرج، ثم يُعرج بها إِلى السماء، فيُستفتح لها فيُقال: مَنْ هذا؟ فيُقال: فلان، فيقولون: مرحباً بالنّفس الطّيِّبَة كانت في الجسد الطّيّب، ادْخُلي حميدة، وأبشري بروْح وريْحان وربٍّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها حتّى يُنتَهَى بها إِلى السماء التي فيها الله عزّ وجل! وإِذا كان الرّجُلُ السّوء، قالوا: اخْرجي أيَّتُها النّفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرُجي ذميمةً، وأبشري بحميم وغَسَّاق، وآخر مِنْ شكله أزواج، فلا تزال تخرج ثم يُعرجُ بها إِلى السماء، فَيُسْتفتح لها فيُقال: مَنْ هذا؟ فيُقال: فلان، فيُقال: لاَ مَرحباً بالنَّفس الْخَبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذَميمةً، فإِنه لا يُفْتح لك أبواب السماء، فَترْسَلُ من السماء، ثم تصير إِلى الْقَبْر فَيُجْلَس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول، ويُجلَسُ الرّجلُ السَّوْء، فيُقال له مثل ما قيل في الحديث الأول". (¬1) وهنا نبصر خروج النفس الطيّبة، والنفس الخبيثة .. والفارق في المصير الأخير: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}! هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق .. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه ¬

_ (¬1) أحمد: 2: 364 - 365، وابن ماجه (4262، 4268)، والنسائي: الكبرى (11442)، وابن خزيمة: التوحيد: 1: 276 - 277، والطبري: التفسير: 8: 177، والآجري: الشريعة: 392، وابن منده: الإيمان (1068)، وانظر: أحمد: 6: 139، والنسائي: 4: 8 - 9، ومسلم بنحوه مختصراً (2872)، وابن منده: الإيمان (1069)، والحاكم: 1: 353، وابن حبان (3013).

إنسان عن آخر .. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد، والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}! ولفظ: {فَازَ}! بذاته يصوّر معناه بجرسه، ويرسم هيئته ويلقي ظله، وكأنما للنار جاذبيّة تشدّ إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيّتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيّتها، ويدخل الجنّة فقد فاز! صورة قويّة، بل مشهد حيّ، فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته، فللنار جاذبيّة! أليست للمعصية جاذبيّة؟! أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها عن جاذبيّة المعصية؟ بلي! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان -حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة- يظل أبداً مقصّراً في العمل .. إلا أن يدركه فضل الله؟ بلى! وهذه هي الزحزحة عن النار، حين يدرك الإنسان فضل الله، فيزحزحه عن النار! {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}! إنها متاع .. ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحوة واليقظة؛ بل متاع الغرور .. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعاً .. المتاع الذي ينشئه الغرور والخداع! وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرّت في النفس وتكون النفس قد

أخرجت من حسابها الحرص على الحياة -إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال- وأخرجت من حسابها متاع الغرور الزائل .. عندما يبيّن الله للمؤمنين ما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس، وقد استعدت نفوسهم للبلاء فمن ثمَّ تتبيّن معالم الطريق كما يصوّرها الكتاب والسنّة، ويثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً، إذ هؤلاء هم الذين يصلحون لحملها والصبر عليها، إذن فهم مؤتمنون! وذلك لكي تعزّ هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحّون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطون فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال! وذلك لكي يصلب عود الدعاة في تبليغ الدعوة؛ فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنمّيها وتجمعها وتوحّدها، وهي في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصّل جذورها وتتعمّق، وتتّصل بالتربة الخصبة الغنيّة في أعماق الفطرة! وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عمليّة واقعيّة، ويعرفون حقيقة النفس البشريّة وخباياها ويعرفون حقيقة الجماعات والمجتمعات وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس .. ومداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال! ثم لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لابدّ فيها من خير، ولابدّ فيها منْ سرٍّ يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون .. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها أفواجاً في نهاية المطاف!

إنها سنّة الدعوات، وكي يصبر المؤمن على ما فيها من مشقّة، ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يردّ الاعتداء، ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد، وما يصبر على هذا كله إلا أولو العزم الأقوياء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}! وهكذا علمت الجماعة المسلمة اللأولى ما ينتظرها من تضحيات وآلام، وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال، من أهل الكتاب من حولها، ومن المشركين أعدائها .. ولكنها سارت في الطريق، ولم تتخاذل، ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها! لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الوت، وأن توفية الأجور يوم القيامة، وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور .. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف، وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو! والأرض الصلبة المكشوفة باقية في كل زمان، والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان، وأعداء الدعوة هم أعداؤها .. تتوالى القرون والأجيال، وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال .. والقرآن هو القرآن! وهبها كانت القاضية .. فهذا هو الأمل والرجاء، وهنا يطالعنا ما رواه أحمد وغيره بسند قويّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يجد الشهيد من مَسِّ الموت، إِلا كما يجدُ أحدُكم مسَّ الْقَرْصَة". (¬1) ¬

_ (¬1) أحمد: 2: 297، والدارمي (2413)، والترمذي (1668)، والنسائي: 6: 36، وابن ماجه (2802)، وابن أبي عاصم (190، 191)، وأبو نعيم: الحلية: 8: 264، والبيهقي: 9: 164، والبغوي: شرح السنة (2630)، والتفسير: 1: 373، وابن حبان (4655).

وفي رواية للشيخين وغيرهما عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من عبدٍ يموت له عند الله خير، يسرّه أن يرجع إِلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، لِمَا يرى من فضل الشهادة، فإِنه يسرّه أن يرجع إِلى الدّنيا مرةً أخرى". وفي رواية: "ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إِلى الدنيا، يتمنّى أن يرجع إِلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إِلا الشهيد، يتمنّى أن يرجع إِلى الدّنيا، فيقتَل عشر مرّات، لِمَا يرى من الكرامة". (¬1) ولنا حديث عن فضل الجهاد ومكانة الشهيد في حينه بعون الله وتوفيقه! وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان .. وتختلف وسائل الدعاية ضدّ الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وفي أغراضها .. ولكن الأصول واحدة: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} (آل عمران)! ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيداً للجماعة المسلمة، كلما همّت أن تتحرّك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الحياة، تَجَمَّعتْ عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الخبيثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها!! ¬

_ (¬1) البخاري: 56 - الجهاد (2795، 2817)، ومسلم (1877)، وأحمد: 3: 103، 173، 276، والترمذي (1643)، والبغوي (2628)، وابن حبان (4661، 4662).

قيمة العقيدة

ويبقى هذا التوجيه القرآني حاضراً يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها، وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق، ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله، فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوى حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة .. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق! ومن ثمَّ تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة، والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يُكره، وما يؤذي .. تستبشر بهذا كله؛ لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل، وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق، ويبطل عندها الكيد والبليّة، ويصغر عندها الابتلاء والأذى، وتمضي في طريقها الموعود إلى الأمل المنشود .. في صبر وفي تقوى .. وفي عزم أكيد! قيمة العقيدة: ويطالعنا قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} (الحج)! وهنا نبصر نموذجاً من الناس يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة، ويظنها صفقة في سوق التجارة .. والعقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة (¬1)، وتتجاذبه الأحداث ¬

_ (¬1) السابق: 4: 2412 وما بعدها بتصرف.

والدوافع فيتشبّث هو بالصخرة التي لا تتزعزع، وتتهاوى من حوله الإسناد فيستند هو إلى الأصول التي لا تحول ولا تزول! هذه هي قيمة العقيدة في حياة المؤمن، ومن ثمَّ يجب أن يستوي عليها، متمكّناً منها، واثقاً بها، لا يتلجلج ولا ينتظر عليها جزاء، فهي في ذاتها جزاء؛ ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند عليه .. أجل هي في ذاتها جزاء على تفتّح القلب للنور وطلبه للهدى .. ومن ثمَّ يهبه الله العقيدة ليأوي إليها، ويطمئن بها .. هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله تتجاذبهم الرياح، وتتقاذفهم الزوابع، ويستبدّ بهم القلق؛ بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله، مطمئن بهذا الاتصال! وأمّا ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه القرآن هنا فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}! وقال: إن الإيمان خير، فها هو ذا يجلب النفعِ ويدر الضرع، وينمّي الزرع، ويربح التجارة، ويكفل الرواج {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}! خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليها، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه .. وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدي الديني الذي كان ميسّراً له! والتعبير القرآني يصوّر عبادته لله {عَلَى حَرْفٍ}؛ لأنه غير متمكّن من العقيدة، ولا متثبّت في العبادة .. يصوره في حركة جسديّة متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى، ومن ثمّ ينقلب على وجهه عند مسّ الفتنة ووقفته المتأرجحة تمهّد من قبل لهذا الانقلاب!

إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة؛ ولكنه لا يصلح للعقيدة، فالعقيدة حقّ يعتنق لذاته، بانفعال القلب المتلقّي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقّى .. والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها، بما فيها من طمأنينة وراحة ورضى، فهي لا تطلب جزاءها خارجاً عن ذاتها! والمؤمن يعبد ربّه شكراً له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به جلَّ شأنه! والمؤمن لا يجرّب إلهه، فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجريه عليه، راض ابتداء بكل ما يناله من السرّاء والضرّاء .. وليست هي صفقة في السوق بين بائع ومشترٍ .. إنما إسلام الخلوق للخالق صاحب الأمر فيه، ومصدر وجوده من الأساس! والذي ينقلب على وجهه عند مسّ الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)}! يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد، أو الصحة، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره .. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقُربى ورضوان، فياله من خسران! وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف؟ إلى أين يتّجه بعيداً عن الله؟ إنه {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ}! يدعو صنماً أو وثناً على طريقة الجاهليّة الأولى، ويدعو شخصاً أو جهة أو مصلحة على طريقة

الجاهليّات المتناثرة في كل زمان ومكان وجيل وقبيل، وعصر ومصر، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده، والسير على صراطه ومنهجه .. فما هذا كله؟ إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)}! المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء .. {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ}! من وثن أو شيطان، أو سند من بني الإنسان .. وهذا كله لا يملك ضرًا ولا نفعاً، وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضرّ، وضرره أقرب من نفعه .. ضرره في عالم الضمير بتوزيع القلب، وإثقاله بالوهم، وإثقاله بالذل، وضرره في عالم الواقع .. وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران {لَبِئْسَ الْمَوْلَى}! ذلك الضعيف لا سلطان له في ضرّ أو نفع {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)}! من بني الإنسان، ممن يتّخذهم بعض الناس آلهة أو أشباه آلهة في كل زمان ومكان! والله عزَّ وجلَّ يدّخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتلاء: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} (الحج)! فمن مسّه الضرّ في فتنة من الفتن وفي ابتلاء من الابتلاءات فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضرّاء، وعلى العوض والجزاء! فأما من يفقد ثقته في نصر الله، ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء:

حقيقة الابتلاء

{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} (الحج)! وهو مشهد متحرّك لغيظ النفس، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ يجسّم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه .. عندما ينزل بها الضرّ وهي على غير اتصال بالله! والذي ييأس في الضرّ من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخيّة، وكل رجاء في الفرج .. ويستبدّ به الضّيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء! فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلّق به أو يختنق، ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق .. ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذلك مما يغيظه! ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجّه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضرّ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله .. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله .. فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله! حقيقة الابتلاء: ويطالعنا قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى

بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} (الأنعام)! وهنا نبصر حقيقة قدر الله أن يكون لكل نبيّ عدوّهم شياطين الإنس والجن، وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليخدعوهم به، ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهُدى، وأن تصغى إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق، ومن الضلال والفساد في الأرض (¬1) .. كل ذلك إنما جرى بقدر الله، وفق مشيئته، ولو شاء ربك ما فعلوه، ولمضت مشيئته بغير هذا كله، ولجرى قدره بغير هذا الذي كان، فليس شيء من هذا بالمصادفة، وليس شيء من هذا بسلطان من البشر كذلك أو قدرة! فإذا تقرّر أن هذا الذي في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وشياطين الإنس والجنّ وباطلهم وزخرفهم وغرورهم .. إذا تقرّر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله، ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتّجه إذن إلى تدبّر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}! بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوًّا .. هذا العدوّ هو شياطين الإنس والجن .. والشيطنة وهي التمرّد والغواية والتمحّض للشرّ صفة ¬

_ (¬1) السابق: 3: 1188 وما بعدها بتصرف.

تلحق الإنس كما تلحق الجنّ .. وكما أن الذي يتمرّد من الجنّ ويتمحّضُ للشرِّ والغواية يسمّى شيطاناً، فكذلك الذي يتمرّد من الإنس ويتمحّض للشر والغواية .. وقد يوسف بهذه الصفة الحيوان إذا شرس واستشرى أذاه، وقد روى مسلم وغيره مرفوعاً من حديث طويل عن أبي ذر: "الكلب الأسود شيطان". (¬1) هؤلاء الشياطن -من الإنس والجن- الذين قدّر الله أن يكونوا أعداء لكل نبيّ، يخدع بعضهم بعضاً بالقول المزخرف، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض -ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر- ويغر بعضهم بعضاً، ويحرّض بعضهم بعضاً على التمرّد والغواية والشرّ والمعصية .. وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبيّ، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به معروفة يمكن أن يراها الناس في كل زمان! فأمّا الجن فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به مَن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء .. نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي ¬

_ (¬1) مسلم: 4 - الصلاة (510)، والطيالسي (453)، وأحمد: 5: 149، 151، 155، 158، 160، 161، 164، والدرامي (1421)، وأبو داود (702)، والترمذي (338)، والنسائي: 2: 163، والكبرى (737)، وابن خزيمة (806، 830، 831)، وأبو عوانة: 2: 47، والطحاوي: 1: 458، وابن حبان (2385)، والطبراني: الكبير (1635، 1636)، والصغير (195، 505)، وابن ماجه (952، 3210).

قرَّرها .. فأمّا أولئك الذين يتترسون بـ (العلم) لينكروا ما يقرّره الله في هذا الشأن، فلا ندري علامَ يرتكنون؟ إن عليهم البشريّ لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء في هذا الكوكب الأرضي! كما أن علمهم هذا لا (يعلم) ماذا في الأجرام الأخرى! وكل ما يمكن أن (يفترضه) أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أو لا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم .. وهذا لا يمكن أن ينفي -حتى لو تأكّدت الفروض- أن أنواعاً أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون، لا يعلم هذا (العلم) عنها شيئاً! فمن التحكّم والتبجّح أن ينفي أحد باسم (العلم) وجود هذه العوالم الحيّة الأخرى! وأمّا من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمّى بـ (الجن)، والذي يتشيطن بعضه ويتمخّض للشرّ والغواية -كإبليس وذرّيّته-كما يتشيطن بعض الإنس .. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمَّى بـ (الجن)، فنحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله سبحانه، وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار، وأنه مزوّد بالقدرة على الحياة في الأرض وغيرها، وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر، وأن منه ما هو مؤمن، وما هو متمرّد، وأنه يرى بني آدم، وبنو آدم لا يرونه -في هيئته الأصليّة- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلّطون علي بني الإنسان يغرونهم ويضلّونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم، والإيحاء بطريقة لا نعلمها، وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين، وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر

يخلص لنا ابتداء

من كيد الشيطان الضعيف، وأن عالم الجنّ يحشر مع عالم الإنس، ويحاسب، ويجازى بالجنّة وبالنار كالجنس الإنساني، وأن الجن حين يقاسون إلى الملائكة يبدون خلقاً ضعيفاً لا حول له ولا قوة! ونبصر في هذه الآية أن الله تبارك وتعالى قد جعل لكل نبيٍّ عدوًّا شياطين الإنس والجن .. والله تعالى قادر -لو شاء- على ألا يفعلوا شيئاً من هذا .. وألا يتمرّدوا، وألا يتمحّضوا للشر، وألا يعادوا الأنبياء، وألا يؤذوا المؤمنين، وألا يضلّوا الناس عن سبيل الله .. إن الله قادر أن يقهرهم قهراً على الهُدى، أو أن يهديهم لو توجّهوا للهدى، أو أن يعجزهم عن التصدّي للأنبياء والحق والمؤمنين به .. ولكنه سبحانه ترك لهم هذا القدر من الاختيار وأذن لهم أن تمتد أيديهم بالأذى لأولياء الله -بالقدر الذي تقضي به مشيئته ويجري به قدره- وقدّر أن يبتلي أولياءه بأذى أعدائه، كما يبتلي أعداءه بهذا القدر من الاختيار والقدرة الذي أعطاهم إيّاه، فما يملك هؤلاء أن يوقعوا بأولياء الله من الأذى إلا ما قدّره الله {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}! ترى، ما الذي يخلص لنا من هذه التقريرات؟ يخلص لنا ابتداءً: أن الذين يقفون بالعداوة لكل نبيّ، ويقفون بالأذى لأتباع الأنبياء هم (شياطن)! شياطين من الإنس ومن الجنّ .. وأنهم يؤدّون جميعاً -شياطين الإنس والجنّ- وظيفة واحدة! وأن بعضهم يخدع بعضاً ويضلّه كذلك، مع قيامهم جميع أبو ظيفة التمرّد والغواية وعداء أولياء الله! ويخلص لنا ثانياً: أن هؤلاء الشياطين لا يفعلون شيئاً من هذا كله، ولا يقدرون على شيء من عداء الأنبياء، وإيذاء أتباعهم بقدرة ذاتيّة فيهم، إنما هم في قبضة الله وهو يبتلي بهم أولياءه لأمر يريده من تمحيص هؤلاء الأولياء،

ويخلص لنا ثالثا

وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء، فإذا اختاروا الامتحان بقوّة كفّ الله عنهم الابتلاء، وكفّ عنهم هؤلاء الأعداء، وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدّوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدّر الله، وآب أعداء الله بالضعف والخذلان، وبأوزارهم كاملة، يحملونها على ظهورهم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}! ويخلص لنا ثالثاً: أن من حكمة الله الخالصة أن يترك لشياطن الإنس والجن أن يتشيطنوا -فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترةً من الزمان فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق، بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم، ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضرّاء سواء، وفي المنشط والمكره؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان! ويخلص لنا رابعاً: هَوَان الشياطن من الإنس والجنّ، وهَوَانُ كيدهم وأذاهم، فما يستطيعون بقوّة ذاتيّة لهم، وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم ... والمؤمن الذي يعلم أن ربّه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين، مهما تبلغ قوّتهمِ الظاهرة، وسلطانهم المدَّعى .. ومن هنا هذا التوجيه العلوي: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}! دعهم وافتراءهم، فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدّخر لهم جزاءهم! وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين .. لقد قدّر الله أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء وأن يكون هذا الغرور بالقول

والخداع .. لحكمة أخرى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}! أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .. فهؤلاء يحصرون همّهم كله في الدنيا، وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون لكل نبيّ، وينالون بالأذى أتباع كل نبيّ، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل، فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع، ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشرّ والمعصية والفساد، في ظلّ ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء! وهذا أمر أراده الله كذلك، وجرى به قدرة، لما وراءه من التمحيص والتجربة؛ ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته، ليعمل لما هو ميسّر له، ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس! ثم لتصلح الحياة بالدفع، ويتميّز الحق بالمفاصلة، ويتمحّض الخير بالصبر، ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة .. وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله .. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء .. إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء! والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجنّ من ناحية، وكل نبيّ وأتباعه من ناحية أخرى، ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة .. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة! إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون .. شياطين الإنس والجن .. تتجمّع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقرّرة، هي عداء الحق الممثّل

في رسالات الأنبياء وحربه .. خطة مقرّرة فيها وسائلها: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}! يمدّ بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية، وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضاً! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمّع للشرّ في حرب الحق وأهله .. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم، ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً! إنهم لا يهدون بعضهم بعضاً إلى الحق أبداً، ولكن يزيّن بعضهم لبعض عداء الحق وحربه، والمضيّ في المعركة معه طويلاً! ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً؛ إنه محاط به بمشيئة الله وقدره؛ لا يقدر الشياطين على نبيّ إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره .. ومن هنا يبدو هذا الكيد -على ضخامته وتجمّع قوى الشرّ العالميّة كلها عليه- مقيّداً مغلولاً! إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط، ولا يصيب من يشاء بلا معقّب ولا مراجع، كما يحبّ الطغاة البغاة العتاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلّقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم! كلا! إن إرادتهم مقيّدة بمشيئة الله، وقدرتهم محدودة بقدر الله .. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله -في حدود الابتلاء- ومرد الأمر كله إلى الله! ومشهد التجمّع على خطّة مقرّرة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق، ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها .. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطّة الشياطين وتدبيرهم، وجدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلّق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من

التعلّق بما يريده أو لا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم .. أمّا عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة، والقدر النافذ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)}! ويطالعنا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} (الأنعام)! إنها سنة جارية (¬1)، أن ينتدب في كل قرية (وهي المدينة الكبيرة والعاصمة) نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله، ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبيّة التي يتعبّدون بها الناس، ومن الحاكميّة التي يستذلّون بها الرقاب، ويردّ هذا كله إلى الله وحده .. ربّ الناس .. ملك الناس .. إله الناس! إنها سنة من أصل الفطرة .. أن يرسل الله رسله بالحق .. بهذا الحق الذي يجرّد مدّعي الألوهية من الألوهيّة، والربوبيّة، والحاكميّة، فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله، ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويتعاونون مع شياطين الجنّ في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي! إنها سنّة جارية، ومعركة محتومة؛ لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل ¬

_ (¬1) السابق: 1202 بتصرف.

بين القاعدة الأولى في دين الله -وهي ردّ الحاكميّة كلها لله- وأطماع المجرمين في القرى، بل بين وجودهم أصلاً! معركة لا مفرّ للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتّقيها، ولا مفرّ للمؤمنين بالنبيّ أن يخوضوها، وأن يمضوا إلى النهاية فيها .. والله سبحانه يطمئن أولياءه .. إن كيد أكابر المجرمين -مهما ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف .. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليّهم فيها، وهو حسبهم، وهو يردّ على الكائدين كيدهم: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} فليطمئن المؤمنون! ويطالعنا قوله عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} (الفرقان)! ولله الحكمة البالغة (¬1) فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوّي عودها، ويطبعها بطابع الجدّ الذي يناسب طبيعتها .. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدّون لها -مهما كلّفهم من مشقة، ومن تعويق- هو الذي يميّز الدعوات الحقّة من الدعوات الزائفة .. وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القويّة المتجرّدة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى! ¬

_ (¬1) السابق: 5: 2561 بتصرف.

ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طريقاً ممهّدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرّض لها المكذّبون والمعاندون لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت الدعوات .. ووقعت البلبلة والفتنة، ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضيًّا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً، فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا؛ بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها، ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عوداً، وأشدّهم إيماناً، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله، واستهانةً بما عند الناس .. عندئذ تتميّز دعوة الحق من دعاوى الباطل، وعندئذ تُمَحّص الصفوف، فيتميّز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها .. أولئك هم الأمناء عليها، الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته، وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين .. وقد علَّمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور .. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوّة، ونمت ذخيرتهم من المعرفة، فيكون هذا رصيداً للدعوة التي يحملون رايتها على السرّاء والضرّاء! والذي يقع غالباً أن كثرة الناس تقف مشاهدة للصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صفّ أصحاب الدعوات، وهم ثابتون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، أدركت

الكثرة المشاهدة تمسك أصحاب الدعوة بدعوتهم، فعلى الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحّون به وأثمن .. وعندئذ تتقدّم الكثرة المشاهدة لترى هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة، وعندئذ يدخل المشاهدون أفواجاً في هذه العقيدة بعد طول مشاهدة لأحداث الصراع! ومن أجل هذا كله جعل الله لكل نبيّ عدوًّا من المجرمين، وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدّرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله .. إنها الهداية إلى الحق؛ لأنه الانتهاء إلى النصر: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}! وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر معتاد؛ فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشريّة .. فساد في القلوب؛ وفساد في النظم؛ وفساد في الأوضاع .. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلّونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفّس شهواتهم في جوّه الوبيء، والذين يجدون فيه سنداً للرغبات الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها .. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم واستبقاءً للجوّ الذي يستطيعون أن يتنفّسوا فيه، وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون .. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، ويستميتون في كفاحها .. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية؛ لأنها تسير في خط الحياة، وتتّجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتّصل فيه

ابتلاء شديد

بالله، والذي تبلغ عنده الكمال المقدّر لها، كما أراده الله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}! ابتلاء شديد: ويطالعنا قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} (الأنبياء)! وهنا نبصر الابتلاء بالخير -كما أسلفنا- نبصره أشدّ وطأة، وإن خيّل للناس أنه دون الابتلاء بالشرّ .. إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشرّ، ولكن القلّة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير! (¬1) كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكن القليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوّة الهائجة في كيانهم، الجامحة في أوصالهم! كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان، فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن القليلين هم الذين يصبرون على الثراء والجدة، وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع! كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم، ولكن القليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والناصب والمتاع والثراء! كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن القليلين هم الذين يصبرون ¬

_ (¬1) السابق: 4: 2377 بتصرف.

على الدعة والسعة، ثم لا يصابون بالحرص الذي يذلّ أعناق الرجال. وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويكبت الأرواح! إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة، ويجنّد الأعصاب، فتكون القوى كلها معبّأة لاستقبال الشدّة والصمود لها، أما الرّخاء فيوخي الأعصاب ويُنيمُها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة! لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدّة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر، إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم وغيره عن صهيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عجباً لأمر المؤمن، إِن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إِلا للمؤمن إِن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإِن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له". (¬1) واليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشرّ .. والصلة بالله في الحالية هي وحدها الضمان! يروي الشيخان وغيرهما عن عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمرو بن عوف -هو حليف لبني عامر بن لؤي، كان قد شهد بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا عبيدة بن الجرّاح إِلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو صالح أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضْرميّ، فقدم أبو عبيدة بمال من البَحْرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافقت صلاة الصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمّا ¬

_ (¬1) مسلم: 53 - الزهد (2999)، وأحمد: 4: 332، 333، 6: 15، 16، والدارمي: 2: 318، والطبراني (7316، 8317)، وابن حبان (2896)

انصرف تعرّضوا له، فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم، وقال: "أظنّكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة، وأنه جاء بشيء" قالوا: أجل يا رسول الله! قال: "فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فوالله! ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا، كما بُسطَتْ على مَن كان قبلكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوهَا، وتُلْهِيكَم كما أَلْهَتْهُمْ". (¬1) ويطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض" قيل: وما بركات الأرض؟ قال: "زهرةُ الدنيا" فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فَصَمَتَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى ظننت أنه يُنزَلُ عليه ثم جعل يمسح عن جبينه، فقال: "أين السائل"؟ قال: أنا، قال أبو سعيد: لقد حَمِدنَاهُ حِينَ طَلَع لذلك. قال: "لا يأتي الخير إِلا بالخير، إِن هذا المال خَضرَةٌ حُلْوَةٌ، وإِن كل ما أنبت الرَّبِيع يَقتُل حَبَطاً أو يلِمّ، إِلا آكلة الْخَضرَةِ، أَكَلَتْ حتى إِذا امتَدَّت خاصِرتَاهَا استقبلت الشّمس فاجْتَرَّت وثَلَطَتْ وبَالَتْ، ثم عادتْ فأَكَلَتْ، وإِن هذا المال حُلْوَةٌ: مَنْ أَخَذَهُ بحقِّه، ووضَعه في حقّه، فَنِعمَ المعُونَة هو، وإِن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع" (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري: 81 - الرقاق (6425)، ومسلم (2961)، وأحمد: 4: 137، 327، والترمذي (2462)، وابن ماجة (3997)، والنسائي: الكبرى (8766)، والقاسم بن سلام: الأموال (83)، وابن زنجويه (129)، وابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني (1767)، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (2027)، والطبراني: الكبير: 17 (38 - 41)، والبيهقي: 9: 19 - 191، والدلائل: 6: 319. (¬2) البخاري: 81 - الرقاق (6427)، وانظر (921، 1465، 2842)، ومسلم (1052)، وأحمد: 3: 21، 91، والنسائي: 5: 90، والطيالسي (2180)، وعبد الرزاق (20028)، والبغوي (4051)، وابن حبان (3225).

قال ابن حجر (¬1): الرزق ولو كثر هو من جملة الخير، وإنما يعرض له الشرّ بعارض البخل به عين يستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيراً فلا يكون شرًّا، وبالعكس، ولكن يخشى على مَن رُزق الخير أن يعرض له في تصرّفه فيه ما يجلب له الشرّ. ووقع في مرسل سعيد المقبري عند سعيد بن منصور: "أو خير هو؟ ثلاث مرات"، وهو استفهام إنكار، أي أن هذا المال ليس خيراً حقيقيًّا، وإن سمّي خيراً؛ لأن الخير الحقيقيّ هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشرّ الحقيقيّ فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق، والإخراج في الباطل، وما ذكر في الحديث بعد ذلك من قوله: "إِن هذا المال خَضِرة حلوة" كضرب المثل بهذه الجملة. وفي رواية الدارقطني: "ولكن هذا المال .. . إِلخ" ومعناه أن صورة الدنيا حسنة مونقة، والعرب تسمّي كل شيء مشرق ناضر أخضر! وقال ابن الأنباري: قوله: "المال خضرة حلوة" ليس هو صفة المال، وإنما هو للتشبيه، كأنه قال: المال كالبقلة الخضراء الحلوة، والتاء، في قوله: "خضرة وحلوة" باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الدنيا، أو على معنى فائدة المال، أي أن الحياة به أو العيشة، أو أن المراد بالمال هنا الدنيا؛ لأنه من زينتها، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46). ووقع في حديث أبي سعيد -أيضاً- المخرج في السن: "الدّنيا خضرة حلوة"، فيتوافق الحديثان. ¬

_ (¬1) فتح الباري: 11: 246 وما بعدها بتصرف.

ويحتمل أن تكون التاء فيهما للمبالغة .. ثم قال: "أما حبطاً" فبفتح المهملة والموحدة، والطاء المهملة أيضاً، والحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل، يقال: حبطت الدّابّة تحبط حبطاً، إذا أصابت مرعى طيّباً فأمعنت في الأكل، حتى تنتفخ فتموت، وروي بالخاء المعجمة من التخبط وهو الاضطراب، والأوّل المعتمد! وقوله: "يُلِم" بضم أوّله، أي يقرب من الهلاك! ثم قال: قوله: "اجترت" بالجيم، أي استرفعت ما أدخلته في كرشها من العلف فأعادت مضغه، "وثَلَطَت" بمثلثة ولام مفتوحتين ثم طاء مهملة، وضُبطت بكسر اللام، أي ألقت ما في بطنها رقيقاً، زاد الدارقطني: "ثم عادت فأكلت" والمعنى أنها إذا شبعت فثقل عليها ما أكلت تحيّلت في دفعه بأن تجترّ فيزداد نعومة، ثم تستقبل الشمس فتحمي بها فيسهل خروجه، فإذا خرج زال الانتفاخ فسلمت، وهذا بخلاف من لم تتمكّن من ذلك، فإن الانتفاخ يقتلها سريعاً! قال الأزهري: هذا الحديث إذا فُرّق لم يكد يظهر معناه، وفيه مثلان: أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا، المانع من إخراجها في وجهها، وهو ما تقدّم، أي الذي يقتل حَبَطاً. والثاني: المقتصد في جمعها، وفي الانتفاع بها، وهو آكلة الخضر، فإن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع، ولكنها الحبّة، والحبّة ما فوق البقل ودون الشجر التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلاً لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا منعها من مستحقّها،

فهو ينجو من وبالها، كما تحبّ آكلة الخضر، وأكثر ما تحبط الماشية إذا انحبس رجيعها في بطنها! وقال الزين بن المنير: آكلة الخضر هي بهيية الأنعام التي ألف المخاطبون أحوالها في سومها ورعيها، وما يعرض لها من البشم وغيره، والخضر: النبات الأخضر، وقيل: حرار العشب التي تستلذ الماشية أكله، فتستكثر منه، وقيل: هو ما ينبت بعد إدراك العشب وهياجه، فإن الماشية تقتطف منه مثلاً شيئاً فشيئاً، ولا يصيبها منه ألم، وهذا الأخير فيه نظر، فإن سياق الحديث يقتضي وجود الحبط للجميع، إلا لمن وقعت منه المداومة، حتى اندفع عنه ما يضرّه، وليس المراد أن آكلة الخضر لا يحصل لها من آكله ضرر البتّة، والمستثنى آكلة الخضر بالوصف المذكور، لا كل من اتّصف بأنه آكلة الخضر، ولعل قائله وقعت له رواية فيها: "يقتل أو يلم إِلا آكلة الخضر"، ولم يذكر ما بعده، فشرحه على ظاهر هذا الاختصار! ثم قال: قوله: "كالذي يأكل ولا يشبع" زاد هلال: "ويكون شهيداً عليه يوم القيامة" يحتمل أن يشهد عليه حقيقة بأن ينطقه الله تعالى، ويجوز أن يكون مجازاً، والمراد شهادة الملك الموكّل به! ويؤخذ من الحديث التمثيل لثلاثة أصناف: لأن الماشية إذا رعت الخضر للتغذية إمّا أن تقتصر منه على الكفاية، وإمّا أن تستكثر، الأول: الزهاد، والثاني: إمّا أن يحتال على إخراج ما لو بقي لضرّ، فإذا أخرجه زال الضرّ واستمرّ النفع، وإمّا أن يهمل ذلك! الأوّل: العاملون في جميع الدّنيا بما يحب من إمساك وبذل!

والثاني: العاملون في ذلك، بخلاف ذلك! وقال الطّيبي: يؤخذ منه أربعة أصناف: فمن أكل منه أكل مستلذّ مفرط منهمك، حتى تنتفخ أضلاعه، ولا يقلع فيسرع إليه الهلاك. ومن أكل كذلك، لكنه أخذ في الاختيال لدفع الداء، بعد أن استحكم فغلبه فأهلكه! ومن أكل كذلك؛ لكنه بادر إلى إزالة ما يضّره، وتحيّل في دفعه حتّى انهضم فيسلم! ومن أكل غير مفرط ولا منهمك؛ وإنما اقتصر على ما يسدّ جوعته ويمسك رمقه! فالأول مثال الكفار! والثاني مثال العاصي الغافل عن الإقلاع والتوبة، إلا عند فوتها! والثالث مثال للمخلط المبادر للتوبة، حيث تكون مقبولة! والرابع مثال الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. وبعضها لم يصرّح به في الحديث، وأخذه عنه محتمل! ثم قال: وقال الزين بن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات بديعة: أوّلها: تشبيه المال ونموّه بالنبات وظهوره! ثانيها: تشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب!

وثالثها: تشبيه الاستكثار منه، والإدخال له، بالشره في الأكل والامتلاء منه! ورابعها: تشبيه الخارج من المال، مع عظمته في النفوس، حتى أدى إلى البالغة في البخل به، بما تطرحه البهيمة من السلح، ففيه إشارة بديعة إلى استقزاره شرعاً! وخامسها: تشبيه المتقاعد عن جمعه وضمه؛ بالشاة إذا استراحت؛ وحطَّت جانبها، مستقبلة عين الشمس؛ فإنها من أحسن حالاتها سكوناً ومسكينة، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها! وسادسها: تشبيه موت الجائع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها! وسابعها: تشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوًّا، فإن المال من شأنه أن يحرز، ويشدّ وثاقه، حبًّا له، وذلك يقتضي منعه من مستحقّه، فيكون سبباً لعقاب مقتنيه! وثامنها: تشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع! وقال الغزالي: مثل المال مثل الحيّة التي فيها ترياق نافع، وسمٌّ ناقعٌ، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرّها، ويعرف استخراج ترياقها، كان نعمة، وإن أصابها الغبيّ فقد لقي المهلك! قال ابن حجر: وفيه التحذير من المنافسة في الدّنيا، وفيه استفهام عما يشكل، وطلب الدليل لدفع المعارضة، وفيه تسمية المال خيراً، ويؤيده قوِله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} (العاديات)! وقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ...} (البقرة: 180)!

وفيه ضرب المثل بالحكمة، وإن وقع في اللفظ ذكر ما يستهجن، كالبول، فإن ذلك يغتفر لما يترتب على ذكره من المعاني اللائقة بالمقام! وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظر الوحي، عند إرادة الجواب، عما يُسأل عنه، وهذا على ما ظنّه الصحابة! ويجوز أن يكون سكوته، ليأتي بالعبارة الوجيزة الجامعة المفهمة. وقد عدّ ابن دريد هذا الحديث، وهو قوله: "إِن مما ينبت الرّبيع يقتل حبطاً أو يلم" من الكلام المفرد الوجيز، الذي لم يُسبق - صلى الله عليه وسلم - إلى معناه، وكل من وقع شيء منه في كلامه، فإنما أخذه منه! ويستفاد منه: ترك العجلة في الجواب، إذا كان يحتاج إلى التأمل! وفيه لوم من ظن به تعنّت في السؤال، وحمد من أجاد فيه! وفيه تفضيل الغنيّ على الفقير، ولا حجّة فيه؛ لأنه يمكن التمسّك به، لمن لم يرجّح أحدهما على الآخر! والعجيب أن النووي قال: وفيه حجّة لمن يرجّح الغنيّ على الفقير. (¬1) قال ابن حجر: ولا حجّة فيه؛ لأنه يمكن التمسّك به لمن لم يرجّح الغنيّ على الفقير .. ثم قال: والتحقيق أنه لا حجّة فيه لأحد القولين! وفيه أن المكتسب المال من غير حله لا يبارك له فيه، لتشبيهه بالذي يأكل ولا يشبع! وفيه ذمّ الإسراف، وكثرة الأكل والنهم فيه، وأن اكتسابه من غير حلّه، ¬

_ (¬1) السابق: 249، ومسلم بشرح النووي: 7: 144.

وكذا إمساكه عن إخراج الحق منه سبب لمحقه، فيصير غير مبارك كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276)! تلك معالم هذا الحديث، رأيت ضرورة ذكرها لأهميتها! ومعلوم أن القرآن الكريم يخاطب الكينونة البشريّة (¬1)، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفيّ، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك! وهو سبحانه يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة، ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها، ومن هنا ينبّهنا إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد .. لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها، فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء، ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرّقه .. أيشكر عليها ويؤدّي حق النعمة فيها؟ أم يشغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها؟: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35)! فالفتنة -كما أسلفنا- لا تكون بالشدّة والحرمان وحدهما .. إنها كذلك تكون بالرّخاء وبالعطاء أيضاً! ومن الرّخاء والعطاء هذه الأموال والأولاد .. هذا هو التنبيه الأول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} (الأنفال)! فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار كان ذلك عوناً له على الحذر واليقظة والاحتياط، أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .. ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض .. فقد يضعف عن الأداء -بعد الانتباه- ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1498 بتصرف.

لثقل التضحية وضخامة التكليف، وبخاصة في مواطن الضعف في الأموال والأولاد إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى، ليستعين به على الفتنة ويتقوّى: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}! إنه سبحانه هو الذي وهب الأموال والأولاد .. وعنده وراءهما أمر عظيم لمن يستعلي على هذه الفتنة والأولاد، فلا يقعد أحد إذن عن تكليف الأمانة وتضحيات الجهاد .. وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (النساء)! إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصوّر، والتربية والتوجيه، والفرض والتكليف .. منهج الله الذي يعلم؛ لأنه هو الذي خلق: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك)! ويطالعنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} (الأنفال)! ونبصر الهتاف بالتقوى، فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال، إلا وهي على بيّنة من أمرها، ونور يكشف لها الشبهات، ويزيل الوساوس، ويثبّت الأقدام على الطريق الشائك الطويل، وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله! هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق .. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها، وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي، وعدّة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مدّ البصر، فلا تغبشه الشبهات التي

تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة .. ثم هو زاد المغفرة للخطايا .. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار .. وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد، وتقصر الأعمال! إنها حقيقة: أن تقوى الله تجعل في القلب فرقاناً يكشف له منعرجات الطريق، ولكن هذه الحقيقة -ككل حقائق العقيدة- لا يعرفها إلا من ذاقها فعلاً! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها! إن الأمور تظلّ متشابكة في الحسّ والعقل، والطرق تظلّ متشابكة في النّظر والفكر، والباطل يظلّ متلبّساً بالحق عند مفارق الطريق! وتظلّ الحجّة تُفحم ولكن لا تُقنع، وتُسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل، ويظلّ الجدل عبثاً، والمناقشة جهداً ضائعاً .. وذلك ما لم تكن التقوى!! فإذا كانت استنار العقل، ووضح الحق، وتكشّف الطريق، واطمأنّ القلب، واستراح الضمير، واستقرّت القدم وثبتت على الطريق! إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة .. إن هناك اصطلاحاً من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه، والذي خلقت به السماوات والأرض .. ولكنه الهوى الذي يحول بين الحق والفطرة .. الهوى هو الذي ينشر الغبش، ويحجب الرؤية، ويُعمي المسالك، ويُخفي الدروب .. والهوى لا تدفعه الحجّة إنما تدفعه التقوى .. تدفعه مخافة الله، ومراقبته في السرّ والعلن .. ومن ثمَّ هذا الفرقان الذي يُنير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق! وهو أمر لا يقدّر بثمن .. ولكنه فضل الله العظيم، يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب!

ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} ويطالعنا قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} (آل عمران)! وهنا نبصر التفاتة واقعيّة إلى الفتنة المستكنّة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفّار والعصاة المعادين لمنهج الله (¬1) .. التفاتة لإعطاء هذا المنهج وزنه الصحيح، وقيمته الصحيحة، كي لا تكون فتنة لأصحابه، ثم لا تكون فتنة للمؤمنين، الذين يعانون ما يعانون، من أذى وإخراج من الديار، وقتل وقتال! وقبل ذلك نبصر تكاليف العقيدة في النفس والمال، كما نبصر طبيعة الأرض التي يقوم عليها، وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك، وضرورة مغالبة العوائق، وتكسير الأشواك، وتمهيد التربة للنبتة الطيّبة، والتمكين لها في الأرض، أيًّا كانت التضحيات، وأيًّا كانت العقبات: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)} (آل عمران)! وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أوّل مرَّة .. الذين هاجروا من مكّة، وأخرجوا من ديارهم، في سبيل العقيدة، وأوذوا في سبيل الله، لا في أيّ غاية سواء، وقاتلوا وقُتلوا .. ولكنها صورة أصحاب هذه ¬

_ (¬1) السابق: 1: 549 بتصرف

هذا هو الطريق

العقيدة في صميمها في كل أرض، وفي كل زمان .. صورتها وهي تنشأ في الجاهليَّة -أيّة جاهليّة- في الأرض المعادية لها -أيّة أرض- وبين القوم المعادين -أىّ قوم- فتضيق بها الصدور، وتتأذّى بها الأطماع والشهوات، وتتعرّض للأذى والمطاردة، وأصحابها -في أوّل الأمر- قلّة مستضعفة، ثم تنمو النبتة الطيّبة -كما لا بد أن تنمو- على الرغم من الأذى، وعلى الرغم من المطاردة، ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها، فيكون القتال، ويكون القتل .. وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيّئات، ويكون الجزاء ويكون الثواب! هذا هو الطريق .. طريق هذا المنهج الربّانيّ، الذي قدّر الله أن يكون تحقّقه في واقع الحياة بالجهد البشري .. وعن طريق هذا الجهد، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله، ابتغاء وجه الله! وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته، وتكاليفه، ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية، وطريقته في التوجيه، للانتقال من مرحلة التأثّر الوجدانيّ بالتفكّر والتدبّر في خلق الله، إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثّر تحقيقاً للمنهج الذي أراده الله! (¬1) ونبصر في تقلّب الذين كفروا في البلاد مظهراً من مظاهر النعمة والوجدان، ومن مظاهر المكانة والسلطان، وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة .. يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين، وهم يعانون الشظف والحرمان، ويعانون الأذى والجهد، ويعانون المطاردة أو الجهاد .. وكلها مشقات وأهوال، بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون! .. ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة، وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء، ¬

_ (¬1) انظر: منهج التربية الإِسلامية: تربية العقل - محمد قطب.

والباطل وأهله في منجاة، بل في مسلاة! .. ويحيك منه شيء في قلوب الضالّين المبطلين أنفسهم، فيزيدهم ضلالاً وبطرًا ولجاجاً في الشر والفساد! هنا تأتي هذه اللمسة: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}! متاع قليل .. ينتهي ويذهب .. أما المأوى الدائم الخالد، فهو جهنم .. وبئس المهاد! وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنّات وخلود وتكريم من الله: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)} (آل عمران)! وما يشك أحدٌ في أن ما عند الله خير للأبرار، وما تبقى في القلب شبهة في أن كفّة الذين اتقوا أرجح من كفّة الذين كفروا في هذا الميزان، وما يتردّد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب! وفي موضع التربية، ومجال إقرار القيم الأساسية، في التصوّر الإِسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر، ولا يعدهم بقهر الأعداء، ولا يعدهم بالتمكن في الأرض، ولا يعدهم شيئاً من الأشياء في هذه الحياة ممَّا يعدهم به في مواضع أخرى، وممّا يكتب على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائهم! إنه يعدهم شيئاً واحداً، هو {مَا عِنْدَ اللَّهِ}! فهذا هو الأصل في هذه الدعوة، وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة: التجرّد المطلق من كل هدف، ومن كل غاية، ومن كل مطمع -حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته،

وانتصار كلمة الله، وقهر أعداء الله- حتى هذه الرغبة يريد الله من المؤمنين أن يتجرّدوا منها، ويكلوا أمرها إليه، وتتخلّص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها، ولو كانت لا تخصّها! هذه العقيدة: عطاء ووفاء وأداء .. فقط، وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء .. ثم انتظار كل شيء هناك! ثم يقع النصر، ويقع التمكين، ويقع الاستعلاء .. ولكن هذا ليس داخلاً في البيعة .. ليس جزءاً من الصفقة .. ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا، وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء .. والابتلاء! على هذا كانت البيعة، والدعوة مطاردة في مكّة .. وعلى هذا كان البيع والشراء .. ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء .. ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشريّة، إلا حين تحرّدوا هذا التجرّد ووفّوا هذا الوفاء! وهنا نذكر ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح من حديث طويل عن جابر .. وفيه: "فقمنا إِليه وبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة"! (¬1) هكذا "الجنة" .. والجنة فقط! لم يقل: النصر، والعزّ، والوحدة، والقوّة، والتمكين، والقيادة، والمال، والرخاء -مما منحه الله وأجراه على أيديهم- فذلك كله خارج عن الصفقة! ¬

_ (¬1) أحمد: 3: 322 - 323، والبيهقي: 8: 146، والبزار (1755، 1756) كشف الأستار، وأبو يعلى (1887)، وابن حبان (6274، 7012).

لقد أخذوها صفقة بين متبايعين، أنهي أمرها، وأمضي عقدها، ولم تعد هناك مساومة حولها! وهكذا ربّى الله الجماعة التي قدّر أن يضع في يدها مقاليد الأرض، وزمام القيادة، وسلّمها الأمانة الكبرى بعد أن تجرّدت من كل أطماعها، وكل رغباتها، وكل شهواتها، حتى ما يختص بالدعوة التي تحملها، والمنهج الذي تحققه، والعقيدة التي تموت من أجلها، فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه، أو بقيت فيه بقيّة لم تدخل في السلم كافة! (¬1) ويطالعنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} (آل عمران)! إنه النداء العلوي للذين آمنوا (¬2) نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء، والتي تلقي عليهم هذه الأعباء، والتي تؤهّلهم للنداء، وتؤهّلهم للأعباء، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ}! النداء لهم، للصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى. والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة .. إنه طريق طويل شاقّ، حافل بالعقبات والأشواك. مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء .. الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! ¬

_ (¬1) انظر: 206 - 212 في ظلال القرآن. (¬2) السابق: 551 بتصرف.

والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصوّرهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم، واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشرّ، وغلبة الشهوة، وتصغير الغرور والخيلاء! والصبر على قلّة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضّيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة، من الألم، والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحياناً في الخير. وقلّة الرَّجاء أحياناً في الفطرة البشريّة، والملل والسأم واليأس أحياناً والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة. واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السرّاء والضرّاء على صلة بالله، واستسلام لقدره، وردّ الأمر إليه كله في طمأنينة وخشوع! الصبر على هذا كله -وعلى مثله- مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل لا تصوّره حقيقة الكلمات، فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة، إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقّة الطريق، وتذوّقها انفعالات وتجارب ومرارات! والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي، فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء! كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه!

والمصابرة

والمصابرة (وهي مفاعلة من الصبر) مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلّوا من صبر المؤمنين .. مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة، بل يظلّون أصبر على أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء .. فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع. والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار، ثم تكون لهم عاقبة الشوط أن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء .. وإذا كان الباطل يصرّ ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشدّ إصراراً وأعظم صبراً على المضيّ في الطريق! والمرابطة .. الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرّضة لهجوم الأعداء .. وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبداً، ولا تستسلم للرّقاد! فما هادنها أعداؤها قطّ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرّض بها للناس، وما يهادنها أعداؤها قطّ في أيّ زمان أو في أيّ مكان، وما تستغني عن المرابطة للجهاد، حيثما كانت إلى آخر الزمان! إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي .. منهج يتحكّم في ضمائرهم، كما يتحكّم في أموالهم، كما يتحكّم في نظام حياتهم ومعايشهم .. منهج خير عادل مستقيم .. ولكن الشرّ لا يستريح للمنهج الخيّر العادل المستقيم، والباطل لا يحبّ الخير والعدل والاستقامة .. والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة .. ومن ثم ينهد لهذه الدعوة من أصحاب الشرّ والباطل والطغيان .. ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلّوا عن الاستنفاع والاستغلال .. وينهد لحربها الطغاة البغاة العتاة

المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلّوا عن الطغيان والاستكبار .. وينهد لحربها المستهترون المخلّون؛ لأنهم لا يريدون أن يتخلّوا عن الانحلال والشهوات .. ولابدّ من مجاهدتهم جميعاً، ولابدّ من الصبر والمصابرة، ولابدّ من المرابطة والحراسة، كي لا تؤخذ الأمّة المسلمة على غرّة من أعدائها الطبيعيّين، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل عبر التاربخ! هذه طبيعة الدعوة، وهذا طريقها .. إنها لا تريد أن تعتدي، ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم .. وهي واجدة أبداً من يكره ذلك المنهج وهذا النظام، ومن يقف في طريقها بالقوّة والكيد، ومن يتربّص بها الدوائر، ومن يحاربها باليد والقلب واللسان .. ولابدّ لها أن تقبل المعركة بكل تكاليفها .. ولابدّ لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظةً ولا تنام! والتقوى .. التقوى تصاحب هذا كله؛ فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل، ويحرسه أن يضعف، ويحرسه أن يعتدي، ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك! ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق، ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتّى الحالات وشتّى اللحظات! إنه الإيقاع الأخير .. وهو جماعها كلها، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها؛ ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل، وينوط بها الفلاح في هذا المضمار: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}!

تمحيص المؤمنين

تمحيص المؤمنين: والتمحيص عمليّة كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج ما علق بها من دخل ودغل .. وهو درجة بعد الفرز والتمييز، (¬1) وعمليّة تتمّ في داخل النفس، وفي مكنون الضمير .. عمليّة كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقيّةً واضحةً مستقرّةً على الحق، بلا غبش ولا ضباب! وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودوروبها ومنحنياتها .. وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوّتها، وحقيقة ما استكنّ فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} (آل عمران)! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيّام بين الناس بين الشدّة والرخاء يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحكّ المرير، محكّ الأحداث والتجارب والمواقف العمليّة الواقعيّة! ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرّد والخلاص من الشحّ والحرص .. ثم إذا هو يكشف -على ضوء التجربة العمليّة وفي مواجهة الأحداث الواقعيّة- أن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيّأ لمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، ¬

_ (¬1) السابق: 482 بتصرف.

على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! والله سبحانه يربّي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشريّة، ويريد بها أمراً في هذه الأرض، فمحّصها هذا التمحيص، الذي تكشّفت عنه الأحداث في (أُحُد) -كما سيأتي-، لترتفع إلى مستوى الدور المقدّر لها. وليتحقّق على يديها قدر الله الذي ناطه بها: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)}! تحقيقاً لسنّته في دمغ الباطل بالحق، متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب والتمحيص! وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصوّرات المسلمين عن سنّة الله في الدعوأت، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء، ويبيّن لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره -كما أسلفنا- وزاده الصبر على مشاقّ الطريق، وليس زاده التمنّي والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} (آل عمران)! إن صيغة السؤال الاستنكاريّة يقصد بها إلى التنبيه بشدّة إلى خطأ هذا التصوّر .. تصوّر أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت، فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنّة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعيّة، والامتحان العملي .. وإنما هو الجهاد وملاقاة

البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء .. ونبصر لفتة ذات مغزى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)}! فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون .. بل لا بد لهم من الصبر. الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً، التكاليف المستمرّة المتنوّعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان، فربما كان الجهاد في الميدان أخفّ تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان .. إنما هنالك المعاناة اليوميّة التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان، والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك! والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليوميّة! والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد المشقة وكثرة العقبات! والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال! والصبر على أشياء كثيرة، ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها في الطريق المحفوف بالمكاره، طريق الجنّة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}! وهكذا يقفهم السؤال وجهاً لوجه مرّة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه، ليوازنوا في حسّهم بين وزن الكلمة التي يقولها اللسان، ووزن الحقيقة في العيان، فيعلّمهم بهذا أن يحسبوا حساباً لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم!

وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن الكلمات الطائرة، والأمانيّ المرفرفة ليست هي التي تبلغهم الجنّة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتحسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة، حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعاً كائناً في دنيا الناس! ولقد كان الله سبحانه قادراً على أن يمنح النصر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كدّ من المؤمنين ولا عناء .. وكان قادرًا على أن ينزل الملائكة تقاتل معهم دائماً -أو بدونهم- وتدمرّ المشركين، كما دمرّت على عاد وثمود وقوم لوط! ولكن المسألة ليست هي النصر .. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعدّ لتتسلّم قيادة البشريّة .. البشريّة بكل ضعفها ونقصها، وبكل شهواتها ونزاوتها، وبكل جاهليّتها وانحرافها .. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعداداً عالياً من القادة .. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة .. ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوّة في النفس البشريّة، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج .. ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدّة .. وصبر على الشدّة بعد الرخاء، وطعمها يومئذ لاذع مرير! وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة، حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدّها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض .. وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب (الإنسان) الذي استخلفه في هذا الملك العريض!

وقدَرُ الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتّى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع .. يمضي أحياناً عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها -في ظلّ العون الإلهيّ- وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب قوتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله .. ويمضي أحياناً عن طريق الهزيمة والكرب والشدّة، فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوّتها الذاتيّة، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله، وتجرب مرارة الهزيمة، وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحقّ المجرّد، وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها، فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة .. وتخرج من النصر، ومن الهزيمة بالزاد والرصيد .. ويمضي قَدَرُ الله وفق سنّته لا يتخلف ولا يحيد! ويمضي السياق في تقرير حقائق التصوّر الإِسلامي الكبيرة، وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق، متخذاً من أحداث المعركة محوراً لتقرير تلك الحقائق، ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآنيّ العزيز: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ

الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)! الآية الأولى تشير إلى واقعة معيّنة، حدثت في (غزوة أحد) كما سيأتي، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله، والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت، وما ينبغي أن يرتدّ المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل .. وهذه كذلك حقيقة أوّلية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول، وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأوّلية البسيطة! إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقلّ في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدّونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ .. والمسلم هو الذي يحبّ رسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يحبّونه الحبّ الذي لم تعرف له النفس البشريّة في تاريخها كله نظيراً .. الحبّ الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة .. ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المثير: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}! ويلمس القرآن مكمن الخوف من الموت في النفس البشريّة، لمسةً موحيةً، تطرد ذلك الخوف، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير، ومن ابتلاء للعباد وجزاء: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}!

إن لكل نفس كتاباً مؤجّلاً إلى أجل مرسوم .. ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم، فالخوف والهلع، والحرص والتخلّف، لا تطيل آجلاً، والشجاعة والثبات، والإقدام والوفاء، لا تقصر عمراً، فلا كان الجن، ولا نامت أعين الجبناء، والأجل المكتوب لا ينقص منه ولا يزيد! بذلك تستقرّ حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب .. وهي تفكّر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانيّة .. وبذلك تنطلق من عقال الشحّ والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع، وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكّل على الله الذي يملك الآجال وحده! ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضيّة التي حسم فيها القول .. فإنه إذا كان العمر مكتوباً، والأجل مرسوماً .. فلتنظر نفسر ما قدّمت لغد؟ ولتنظر نفس ماذا تريد؟ أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همّها كله في هذه الأرض، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلّع إلى أفق أعلى، وإلى اهتمامات أرفع، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟ .. مع تساوي هذا الهمّ وذاك فيما يختصّ بالعمر والحياة: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}! وشتّان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! -مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها .. إنما يحيى حياة الديدان والدوابّ والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب! والذي يتطلّع إلى الأفق الآخر .. إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرّمه الله واستخلفه، وأفرده بهذا المكان ثم يموت في

موعده المضروب بأجله المكتوب: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}! الذين يدركون نعمة التكريم الإلهيّ للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان! وهكذا يقرّر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت، والجزع من التكاليف -وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة- إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس، في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار، فتختار الدنيا أو تختار الآخرة، وتنال من جزاء الله ما تختار! ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم، من موكب الإيمان اللاحب الممتدّ على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان .. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء، وتأدّبوا -وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيمانيّ في هذا المقام .. مقام الجهاد .. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربّهم، وأن يجسّموا أخطاءهم، فيروها {إِسْرَافاً} في أمرهم، وأن يطلبوا من ربّهم الثّبات والنصر على الكفّار .. وبذلك نالوا ثواب الدّارين جزاء إحسانهم في أدب الدّعاء، وإحسانهم في موقف الجهاد، وكانوا مثلاً يضربه الله للمسلمين:

موعده المضروب بأجله المكتوب: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}! الذين يدركون نعمة التكريم الإلهيّ للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان! وهكذا يقرّر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت، والجزع من التكاليف -وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة- إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس، في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار، فتختار الدنيا أو تختار الآخرة، وتنال من جزاء الله ما تختار! ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم، من موكب الإيمان اللاحب الممتدّ على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان .. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء، وتأدّبوا -وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيمانيّ في هذا المقام .. مقام الجهاد .. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربّهم، وأن يجسّموا أخطاءهم، فيروها {إِسْرَافاً} في أمرهم، وأن يطلبوا من ربّهم الثّبات والنصر على الكفّار .. وبذلك نالوا ثواب الدّارين جزاء إحسانهم في أدب الدّعاء، وإحسانهم في موقف الجهاد، وكانوا مثلاً يضربه الله للمسلمين:

وكم من نبيّ قاتلت معه جماعات كثيرة، فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من النبلاء والكرب والشدّة والجراح، وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء .. فهذا شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}! الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون .. والتعبير بالحبّ من الله للصابرين له وقعه، وله إيحاؤه، فهو الحبّ الذي يأسو الجراح، ويمسح على القرح، ويعوض ويربو عن الضرّ والقرح والكفاح المرير! وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدّة والابتلاء، فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم .. صورة الأدب في حق الله، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس، ويقيّدها بالخطر الراهق لا تتعدّاه؛ ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجّه إلى الله .. لا لتطلب النصر أول ما تطلب -وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس- ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} (آل عموان)! إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء .. لم يطلبوا ثواب الدّنيا ولا ثواب الآخرة .. لقد كانوا أكثر أدباً مع الله، وهم يتوجّهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله، فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام .. والنصر على الكفّار .. حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم؛

تربية إيمانية

إنما يطلبونه هزيمةً للكفر، وعقوبةً للكفار .. إنه الأدب اللاّئق بالمؤمنين في حق الله الكريم! وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً، أعطاهم الله من عنده كل شيء .. أعطاهم من عنده كل ما يتمنّاه طلاّب الدنيا وزيادة .. وأعطاهم كذلك كل ما يتمنّاه طلاّب الآخرة ويرجونه: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)! تربية إيمانيّة: والحماسة الجماعيّة قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها، فيجب أن يضعوها على محكّ التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة (¬1) .. لأن هذه الحماسة البالغة ما تلبث أن تنطفئ شعلتها وتتهاوى على مراحل الطريق .. والتفرق في منتصف الطريق ظاهرة بشرية في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانيّة مبلغاً عالياً من التدريب .. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أيّ جيل .. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} (البقرة)! ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة، والاندفاع الغائر في نفوس الجماعات ¬

_ (¬1) السابق: 262 وما بعدها بتصرف.

ينبغي ألا يقف عند الابتلاء الأول .. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولّوا بمجرّد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلّة مستمسكة بعهدها مع نبيّها، وهم الجنود الذين خرجوا مع (طالوت) بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة ... ! ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى، وضعفوا أمام الامتحان الأوّل الذي أقامه لهم قائدهم: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} (البقرة)! وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحيّ، أمام كثرة الأعداء وقوّتهم، تهاوت العزائم، وزلزلت القلوب: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}! وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة .. اعتصمت بالله ووثقت، وقالت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}! وهذه هي التي رجحت الكفّة، وتلقّت النصر، واستحقّت العزّ والتمكين! وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الحازمة المؤمنة .. وكلها واضحة في قيادة طالوت، تبرز منها خبرته بالنفوس، وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس

جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه .. ثم -وهذا هو الأهم - عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة، فخاض بها المعركة ثقة منه بقوّة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين! والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة .. أن القلب الذي يتّصل بالله تتغيّر موازينه وتصوّراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتدّ وراءه إلى الواقع الكبير الممتدّ الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فبهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقّت النصر، كانت ترى من قلّتها وكثرة عدوّها ما يراه الآخرون الذين قالوا: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}! ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف، إنما حكمت حكماً آخر، فقالت: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}! هكذا .. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}! بهذا التكثير، فهذه هي القاعدة في حسّ الذين يوقنون أنهم ملاقو الله .. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة؛ لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاقّ، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء، والاختيار .. ولكنها تكون الغالبة .. لأنها تتّصل بمصدر القوى، ولأنها تمثّل القوَّة الغالبة، قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده. محطّم الجبّارين، ومخزي الظالمين، وقاهر التكبّرين! وهمِ يكون هذا النصر لله: {بِإِذْنِ اللَّهِ}! ويعلّلون بعلّته الحقيقية: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}! .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل!

وإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمدّ صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمدّ قوتها كلها من الله، وتستمدّ يقينها كله من الثقة في الله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}! إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة التي لم تزلزلها كثرة العدوّ وقوّته، مع ضعفها وقلّتها .. هذه الفئة هي التي تقرّر مصير المعركة، بعد أن تجدّد عهدها مع الله، وتتّجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده وهي تواجه الهول الرهيب: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)} (البقرة)! هكذا .. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} .. وهو تعبير يصوّر مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينةً، واحتمالاً للهول والشقّة .. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}! فهي في يده سبحانه يثبتها فلا تزحزح، ولا تتزلزل ولا تحيد .. {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}! فقد وضح الموقف .. إيمان تجاه كفر، وحقّ إزاء باطل، ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين، فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصوّر، ولا شكّ في سلامة القصد، ووضوح الطريق! وكانت النتيجة التي ترقبوها واستيقنوها: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} (البقرة)!

ويؤكد النص هذه الحقيقة: {بِإِذْنِ اللَّهِ}! ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علماً، وليتضح التصوّر الكامل لحقيقة ما يجرى في هذا الكون ولطبيعة القوّة التي تجريه! إن المؤمنين ستار القدرة، يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار .. بإذنه .. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه .. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين .. إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه منّة من الله وفضل .. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقّق قدر الله النافذ، ثم يكرمه الله -بعد كرامة الاختيار- بفضل الثواب .. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب .. ثم إنه يستيقن من نبل الغاية. وطهارة القصد، ونظافة الطريق .. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي .. إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد .. استحق هذا كله بالنيّة الطيّبة، والعزم على الطاعة، والتوجّه إلى الله في خلوته! ويبرز السياق دور داود: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ}! وداود كان فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قويًّا وقائداً مخوفاً .. ولكن شاء الله أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم .. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبّار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم!

وكانت هنالك حكمة أخرى مغيّبة يريدها الله. فلقد قرر أن يكون داود هو الذي يتسلّم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}! وكان داود ملكاً نبيًّا، وعلّمه الله صناعة الزرد وعدّة الحرب، مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى! ويتجّه السياق إلى هدف آخر من وراء القصة جميعاً .. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة الماديّة، وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العدديّة .. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى .. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات .. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير باندحار الشر: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} (البقرة)! وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى، وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيّار الحياة المتدفّق الصاخب الموّار .. وتتكشف على مدّ البصر ساحة الحياة المترامية لأطراف تموج بالناس، في تداقع وتسابق وزحام إلى الغايات .. ومن ورائها جميعاً تلك اليد الحكيمة المدبّرة تمسك بالخيوط جميعاً، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف!

لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفّن، لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض .. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهريّة القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض، مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة .. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء .. يكون بقيام الجماعة الخيّرة المتجرّدة، تعرف الحق الذي بيّنه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلّفة بدفع الباطل، وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعةً لله وابتغاءً لرضاه .. ! وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح في العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوّة الخيّرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه، وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدّر لها في الحياة! ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر؛ ذلك أنها تمثّل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة .. إنها تنتصر؛ لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار! ويطالعنا خطاب الله للجماعة المسلمة الأولى، يوجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يجتاز هذا الدور العظيم:

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} (البقرة)! وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة (¬1) .. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه .. من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله .. إن سؤالهم: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}! ليصوّر مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال الكروب: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}! وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة .. عندئذ تتمّ كلمة الله، ويجيء النصر من الله: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}! إنه مدّخر لمن يستحقّونه، ولن يستحقّه إلا الذين يثبتون حتى النهاية .. الذين يثبتون على البأساء والضرّاء .. الذين يصمدون للزلزلة .. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة .. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله .. وحتّى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى {نَصْرَ اللَّهِ}!، لا إلى شيء آخر، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله! بهذا يدخل المؤمنون الجنّة، مستحقّين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرّد لله وحده، والانقياد له وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه! ¬

_ (¬1) السابق: 218 وما بعدها بتصرف.

إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوّةً، ويرفعها عند ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوّة وحيويّة، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع، وكما يقع في كل قضيّة حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أوّل الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشدّ المناوئين وأكثر المعاندين! على أنه -حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته .. يقع أن ترتفع أرواح الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية .. وهذا الانطلاق كسب للبشريّة كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء .. كسبٌ يرجح جميع الآلام، وجميع البأساء والضرّاء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته! وهذا الانطلاق هو المؤهّل لحياة الجنّة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق .. هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل! هذا هو الطريق: إيمان وجهاد .. ومحنة وابتلاء .. وصبر وثبات .. وتوجّه إلى الله وحده .. ثم يجيء النصر، ويجيء النعيم! ولنا مزيد بيان عمليّ للتربية الإيمانيّة في واقع الحياة، في ضوء الكتاب والسنة، بعون الله وتوفيقه!

توكل على الله

توكّل على الله: والإيمان بالله تعالى نور يكشف ظلمات الوهم والخرافة، وظلمات الأوضاع والتقاليد، وظلمات الحيرة في تنبيه الأرباب المتفرّقة .. وفي اضطراب التصوّرات والقيم والموازين، يخرج البشريّة من هذه الظلمات كلها إلى النور الذي يكشف تلك الظلمات في عالم الضمير ودنيا التفكير .. وفي واقع الحياة والقيم والأوضاع والتقاليد! (¬1) نور يشرق في القلب، فيشرق به هذا الكيان البشري، المركّب من الطينة الغليظة ومن روح الله؛ فإذا ما خلا من إشراق هذه النفخة، وإذا ما طمست فيه هذه الإشراقة استحال طينة معتمة .. طينة من لحم ودم كالبهيمة، فاللحم والدم وحدهما من جنس طينة الأرض ومادتها، لولا تلك الإشراقة التي تنبض فيه من روح الله، يرفرفها الإيمان ويجلوها، ويطلقها تشف في هذا الكيان المعتم، ويشف بها هذا الكيان المعتم! نور تشرق به النفس، فترى الطريق .. ترى الطريق واضحة إلى الله، لا يشوبها غبش، ولا يحجبها ضباب .. غبش الأوهام وضباب الخرافات، وغبش الشهوات، وضباب الأطماع .. ومتى رأت الطريق سارت على هدى، لا تتعثَّر ولا تضطرب ولا تتردّد ولا تحتار! نور تشرق به الحياة، فإذا الناس كلهم عباد متساوون، تربط بينهم آصرتهم في الله، وتتمحّض دينونتهم له دون سواه، فلا ينقسمون إلى عبيد وطغاة. وتربطهم بالكون كله رابطة المعرفة .. معرفة الناموس المسيّر لهذا الكون وما فيه ومن فيه، فإذا هم في سلام مع الكون وما فيه ومن فيه! ¬

_ (¬1) السابق: 4: 2085 بتصرف.

نور العدل، ونور الحريّة، ونور المعرفة، ونور الأنس بجوار الله، والاطمئنان إلى عدله ورحمته وحكمته في السرّاء والضرّاء .. ذلك الاطمئنان الذي يستتبع الصبر في الضرّاء والشكر في السرّاء، على نور من إدراك الحكمة في البلاء! والإيمان بالله وحده إلهاً وربًّا، منهج حياة، لا مجرّد عقيدة تغمر الضمير وتسكب فيه النور .. منهج حياة يقوم على قاعدة العبوديّة لله وحده، والدينونة لربوبيّته وحده، والتخلّص من ربوبيّات العبيد، والاستعلاء على حاكميّة العبيد! وفي هذا المنهج من المواءمة مع الفطرة البشريّة، ومع الحاجات الحقيقية لهذه الفطرة ما يملأ الحياة سعادة ونوراً، وطمأنينة وراحة، كما أن فيه من الاستقرار والثبات عاصماً من التقلبات والتخبطات التي تتعرّض لها المجتمعات التي تخضع لربوبيّة العبيد، وحاكميّة العبيد، ومناهج العبيد في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والاجتماع، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادات والتقاليد .. وذلك فوق صيانة هذا المنهج للطاقة البشريّة أن تبذل في تأليه العبيد، والإشادة والطاعة العمياء للطواغيت! وصدق الله العظيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)} (إبراهيم)! وإن وراء هذا التعبير لآفاقاً بعيدة، لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب، وفي عالم الحياة والواقع، لا يبلغها التعبير البشري، ولكنه يشير! فليس في قدرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا البلاغ، وليس من وظيفته إلا البيان .. أمّا إخراج

الناس من الظلمات إلى النور، فإنّما يتحقّق بإذن الله، وفق سنّته التي ارتضاها الله بمشيئته، وما الرسول إلا رسول! والصراط بدل من النور .. وصراط الله: طريقه، وسنّته، وناموسه الذي يحكم الوجود، وشريعته التي تحكم الحياة، والنور الذي يهدي إلى هذا الصراط، أو النور هو الصراط وهو أقوى في المعنى، فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون، هو السنّة. هو الناموس، هو الشريعة .. والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطئ الإدراك، ولا تخطئ التصوّر، ولا تخطئ السلوك، فهي على صراط مستقيم: {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}! مالك القوّة القاهر المسيطر المحمود المجيد! والقوّة تبرز هنا لتهديد من يكفرون .. والحمد يبرز لتذكير من يشكرون .. ثم يعقبها التعريف بالله سبحانه .. إنه مالك ما في السموات وما في الأرض، الغنيّ عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه ومن فيه: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)} (إبراهيم)! واستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان، ويتعارض مع الاستقامة على الصراط، وليس الأمر كذلك حين تستحبّ الآخرة؛ لأنه عندئذ تصلح الدنيا، ويصبح المتاع بها معتدلاً، ويراعى فيه وجه الله، فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة! إن الذين يوجّهون قلوبهم للآخرة، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا -كما يقوم

في الأخيلة المنحرفة- فصلاح الآخرة في الإِسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا .. والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض، وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتّع بطيّباتها .. إنه لا تعطيل للحياة في الإِسلام انتظاراً للآخرة، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله، وتمهيداً للآخرة .. هذا هو الإِسلام! فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض، ومن الكسب الحرام، ومن استغلال الناس وغشّهم واستعبادهم .. لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله، وفي ظل الاستقامة على هداه .. ومن ثم يصدّون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً لا استقامة فيها ولا عدالة، يصدّون أنفسهم ويصدّون الناس .. وحين يفلحون في صدّ أنفسهم وصدّ غيرهم عن سبيل الله، وحين يتخلّصون من استقامة سبيله وعدالتها، فعندئذ فقط يستطيعون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشّوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستثناء بخيرات الأرض والكسب الحرام .. والمتاع المرذول، والكبرياء في الأرض، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار! وفي نفس السورة يطالعنا قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)} (إبراهيم)! ونبصر التوكل على الله حقيقة دائمة (¬1)، يطلقها الرسل عليهم السلام، وعلى الله وحده يتوكل المؤمن، لا يتلفّت قلبه إلى سواه. ولا يرجو عوناً إلا منه، ¬

_ (¬1) السابق: 2091 بتصرف.

ولا يرتكن إلا إلى حماه .. ويواجه المؤمنون الطغيان بالإيمان، والأذى بالثبات، ويسألون للتقرير والتوكيد: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}! إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه، المالئ يديه من وليّه وناصره، المؤمن بأن الله يهدي السبيل لابدَّ أن ينصر وأن يعين .. وماذا يهمّ حتى لو لم يتمّ في الحياة الدنيا نصر إذا كان العبد قد ضمن هداية السبيل؟ والقلب الذي يستشعر أن يد الله سبحانه تقود خطاه، وتهديه السبيل، هو قلب موصول بالله، لا يخطئ الشعور بوجوده سبحانه، وألوهيّته القاهرة المسيطرة، وهو شعور لا مجال معه للتردّد في المضيّ في الطريق، أيًّا كانت العقبات في الطريق، وأيًّا كانت قوى الطاغوت التي تتربّص في هذا الطريق .. ومن ثم هذا الربط في ردّ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، بين شعورهم بهداية الله لهم وبين توكّلهم عليه في مواجهة التهديد السافر من الطواغيت، ثم إصرارهم على المضيّ في طريقهم في وجه هذا التهديد! وهذه الحقيقة -حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله بديهية التوكّل عليه- لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلاً في مواجهة طاغوت الجاهليّة، والتي تستشعر في أعماقها يد الله سبحانه، وهي تفتح لها كُوى النور فتبصر الآفاق المشرقة، وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة، وتحسّ الإنس والقربى .. وحينئذ لا تحفل بما يتوعّدها به طواغيت الأرض، ولا تستجيب للإغراء ولا للتهديد، وهي تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل .. وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد؟! {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا}!

لنصبرن، لا نتزحزح ولا نضعف، ولا نتراجع ولا نهن، ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}! وهنا يسفر الطغيان عن وجهه، لا يجادل ولا يناقش، ولا يفكّر ولا يتعقّل، لأنه يحسّ بهزيمته أمام انتصار العقيدة، فيسفر بالقوة الماديّة الغليظة التي لا يملك المتجبّرون غيرها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)} (إبراهيم). هنا تتجلّى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإِسلام والجاهليّة .. إن الجاهليّة لا ترضى من الإِسلام أن يكون له كيان مستقل عنها .. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها! ولذلك لا يرغب الذين كفروا من رسلهم في مجرّد الكفّ عن دعوتهم، ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملّتهم الباطلة، وأن يندمجوا في تجمّعهم الجاهليّ، وأن يذوبوا في مجتمعهم، فلا يبقى لهم كيان مستقل .. وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدّين لأهله، وما يرفضه الرسل من ثمَّ ويأبونه، فلا ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهليّ مرّة أخرى بعد إذ هداه الله للإسلام! وعندما تسفر القوّة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا يبقى مجال لحجة، ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهليّة! إن التجمّع الجاهليّ -بطبيعة تركيبه العضوي- لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمّع الجاهليّ، ولتوطيد جاهليّته! والذين يخيّل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرّب في المجتمع الجاهليّ، والتميّع في تشكيلاته وأجهزته

هم ناس لا يدركون الطبيعة العنصريّة للمجتمع الجاهلي، هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع، ولحساب منهجه وتصوره .. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملّة قومهم بعد إذ نجّاهم الله منها .. وهنا تتدخل القوّة الكبرى فتضرب ضربتها المدمّرة القاضية، التي لا تقف لها قوّة البشر المهازيل، وتضرب الطغاة البغاة العتاة المتجبّرين: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} (إبراهيم)! ولابدّ أن ندرك أن تدخّل القوّة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائماً بعد مفاصلة الرسل لقومهم .. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملّة قومهم بعد إذ نجّاهم الله منها .. عندئذ تتدخّل القوّة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة، ولتدمّر على الطواغيت الذين يتهدّدون المؤمنين، ولتمكّن للمؤمنين في الأرض ولتحقّق وعد الله لرسله بالنّصر والتمكين: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)}! ونون العظمة ونون التوكيد .. كلتاهما ذات ظل في هذا الموقف الشديد .. لنهلكنّ المتجبّرين المهدّدين، والمشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسل وللناس بهذا التهديد: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}! لا محاباة ولا جزافاً، إنما هي السنّة الجارية العادلة: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}! ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي، فلم يتطاول، ولم يستكبر، ولم يتجبّر، وخاف وعيد، فحسب حسابه، واتقى أسبابه، فلم يفسد في

الأرض، ولم يظلم في الناس، فهو من ثم يستحق الاستخلاف، ويناله باستحقاق! وهكذا تلتقي القوّة الصغيرة الهزيلة -قوّة الطغاة البغاة العتاة الظالمين- بالقوّة الجبّارة الطامة -قوّة الجبّار المهيمن المتكبّر- ووقف الطغاة البغاة العتاة بقوّتهم الهزيلة الضئيلة في صفّ، ووقف الرسل الداعون المتواضعون، ومعهم قوّة الله سبحانه في صف، ودعا كلاهما بالنّصر والفتح .. وكانت العاقبة كما يجب أن تكون: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)} (إبراهيم)! والمشهد هنا عجيب .. إنه مشهد الخيبة لكل جبّار عنيد .. مشهد الخيبة في هذه الأرض .. ولكنه يقف هذا الموقف، ومن ورائه تخايل جهنّم وصورته فيها، وهو يُسقى من الصديد السائل من الجسوم، يسقاه بعنف فيتجرّعه غصباً وكرهاً، ولا يكاد يسيغه، لقذارته ومراراته، والتقزّز والتكرّه باديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت، ليستكمل عذابه: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}! إنه مشهد عجيب، يرسم الجبّار الخائب ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروعّ الفظيع، وتشترك كلمة {غَلِيظٌ}! في تقطيع المشهد، تنسيقاً له مع القوّة الغاشمة التي كانوا يهدّدون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين!

نهاية الظالمين

نهاية الظالمين: وفي نفس السورة يطالعنا قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} (إبراهيم)! والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يحسب الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون .. ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتّعون ويسمع بوعيد الله، ثم لا يراه واقعاً بهم في هذه الحياة الدّنيا، فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة، التي لا إمهال بعدها، ولا فكاك منها .. أخذهم في اليوم العصيب التي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرّك .. ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء، ولا يلتفتون إلى شيء .. رافعين رؤوسهم، لا عن إرادة، ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكاً، يمتدّ بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب، فلا يطرف ولا يرتدّ إليهم، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية، لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه، فهي هواء خواء! هذا هو اليوم الذي يؤخّرهم الله إليه، حيث يقفون هذا الموقف، ويعانون هذا الرعب، الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}! فالسرعة المهرولة المدفوعة، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة، مع

القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك .. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه بالأبصار! هذا هو اليوم الذي يؤخرّهم الله إليه، والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك، فأنذر الناس أنه إذا جاء فلا اعتذار إلى الله يومئذ ولا فكاك منه .. وهنا يرسم مشهداً آخر لليوم الرعيب المنظور: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} (إبراهيم)! أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفاً، فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء، يقولون: {رَبَّنَا}! الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل، ويجعلون له أنداداً! {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}! وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب .. كأنهم ماثلون شاخصون ويطلبون .. وكأننا في الآخرة، وقد انطوت الدّنيا وما كان فيها، فها هو الخطاب يوجّه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب، والتذكير بتفريطهم في تلك الحياة: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}! فكيف ترون الآن؟! زلتم يا ترى أم لم تزالوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلاً بارزاً للظالمين ومصيرهم المحتوم: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}!

فكان عجيباً أن تروا مساكن الظالمين أمامكم، خالية منهم، وأنتم فيها خلفاء، ثم تقسمون مع ذلك: {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}! وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد، وندرك أين صاروا، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرَّجاء! وإن هذا المثل ليتجدّد في الحياة، ويقع كل حين .. فكم من طغاة بغاة عتاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم، وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم، ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبّرون، ويسيرون حذو النّعل بالنّعل سيرة الهالكين، فلا تهزّ وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها، والتي تتحدّث عن تاريخ الهالكين، وتصوّر مصائرهم للناظرين، ثم يؤخذون أخذة الغابرين، ويلحقون بهم، وتخلو منهم الديار بعد حين! ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك، إلى واقعهم الحاضر، وشدّة مكرهم بالرسول والمؤمنين، وتدبيرهم الشرّ في كل نواحي الحياة، فيلقي في الرّوع أنهم مأخوذون إلى ذلك الضمير، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}! إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوّة والتأثير حتّى ليؤدّي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصوّر التحرّك والزّوال، فإن مكرهم هذا ليس مجهولاً، وليس خافياً، وليس بعيداً عن متناول القدرة، بل إنه لحَاضر {عِنْدَ اللَّهِ} يفعل به كيفما يشاء: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}!

فما لهذا المكر من أثر، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر، وأخذ الماكر أخذ عزيز مقتدر: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}! لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو .. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظلّ المناسب للظلم والمكر، فالظالم الماكر يستحق الانتقام، وهو من الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم، تحقيقاً لعدل الله في الجزاء، وسيكون ذلك لا محالة: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}! ولا ندري نحن كيف يتمّ هذا، ولا طبيعة الأرض الجديدة، وطبيعة السماوات، ولا مكانها، ولكن النصّ يلقي ظلال القدرة التي تبدّل الأرض وتبدّل السماوات، وفي مقابل ذلك المكر الذي مهما اشتدّ فهو ضئيل عاجز حسير! وفجأة ترى ذلك قد تحقّق: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}! وأحسّوا أنهم مكشوفون لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق .. ليسوا في دورهم، وليسوا في قبورهم .. إنما هم في العراء أمام الواحد القهّار .. ولفظة {الْقَهَّارِ} هنا تشترك في ظلّ التهديد بالقوّة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال! ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل، يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ}! فمشهد المجرمين: اثنين اثنين مقرونين في الوثاق، يمرّون صفًّا وراء، صفٍّ .. مشهد مذلّ دالّ كذلك على قدرة القهّار .. ويضاف إلى قرنهم في

إعداد وثبات

الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة القابليّة للالتهاب، وهي في ذات الوقت قذرة سوداء {مِنْ قَطِرَانٍ} ففيها الذلّ والتحقير، وفيها الإيحاء بشدّة الاشتعال بمجرد قربهم من النار: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}! فهو مشهد العذاب المذلّ المتلظي المشتعل، جزاء المكر والاستكبار: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}! ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذلّ .. والسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم، ويعوق انتصار أحد عليهم .. فها هم أولاء يجزون جزاء ما كسبوا ذلاً وألماً وسرعة حساب! إعداد وثبات: ويطالعنا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ

طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} (النساء)! وهنا نذكر ما رواه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا نبيّ الله: كنا في عزّة، ونحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّة، فقال: "إِني أُمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم"، فلمّا حوّله إِلى المدينة، أمره بالقتال، فكفّوا، فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ}! (¬1) واختلف في سبب النزول! (¬2) ويتضح ذلك فيما يلي: في هذه الآيات نبصر أمر هؤلاء الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال (¬3)، ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد، والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذوناً لهم في القتال، للحكمة التي يريدها الله، فلمّا أن جاء الوقت المناسب الذي قدّره الله، وتهيأت الظروف المناسبة، وكُتب عليهم القتال -في سبيل الله- إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم -وهم ناس من البشر- كخشية الله، القهار الجبّار، الذي لا يعذّب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}! ¬

_ (¬1) الحاكم: 2: 66، 67، 307، وقال: على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، والنسائي: 6: 3، والتفسير (132)، وابن جرير: 5: 108، والبيهقي: 9: 11. (¬2) انظر: تفسير الشوكاني: 1: 579، والواحدي: أسباب النزول: 65، 96. (¬3) في ظلال القرآن: 2: 712 وما بعدها بتصرف.

وإذا هم يقولون -في حسرة وخوف وجزع- {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}؟! .. وهو سؤال غريب من مؤمن، وهو دلالة على عدم وضوح تصوّره لتكاليف هذا الدّين، ولوظيفة هذا الدّين أيضاً .. ويتبعون ذلك التساؤل بأمنية حسيرة مسكينة! {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}! وأمهلتنا بعض الوقت قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف! إن أشدّ الناس حماسةً واندفاعاً وتهوّراً، قد يكونون هم أشدّ الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة .. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهوّر والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثةً عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار .. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة احتمال الضّيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلّة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأيّ شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار، حتى إذا وُوجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدّروا، وأشقَّ مما تصوّروا، فكانوا أوّل الصفّ جزعاً ونكولاً وانهياراً .. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضّيق والأذى بعض الوقت، ويعدّون للأمر عدّته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف، فيصبرون ويتمهّلون ويعدّون للأمر عدّته .. والتهوّرون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهّلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبيّن أيّ الفريقين أكثر احتمالاً، وأيّ الفريقين أبعد نظراً كذلك! وأغلب الظنّ أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكّة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزّة، فيندفع

يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبع في هذا أمر ربّه بالتريّث والانتصار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المناسب، فلمّا أن آمن هذا الفريق في (المدينة)، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص، لم يعد يرى القتال مبرّراً، أو على الأقلّ لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة! {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}! وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلاً، بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا .. فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصوّر الذي لم تتّضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدّين في الأرض، وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان .. إذ إنها في صميمها إقرار منهج الله في الحياة، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوّة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أيّ مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حرّيته -بأيّ لون من ألوان الفتنة- ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو -وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه .. وإذن فلم يكن الأمن في المدينة- حتى على فرض وجوده كاملاً غير مهدّد- لينهي مهمة المسلمين هناك، وينهى عن الجهاد! إن الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس درجة إخراج ذاتها من الأمر، والاستماع فقط إلى أمر الله، واعتباره هو العلّة والمعلول، والسّبب والمسبّب،

والكلمة الأخيرة -سواء عرف المكلّف حكمتها أم لم تتّضح له- والتصوّر الذي لم تتّضح معالمه بعد، ليعرف المؤمن مهمة هذا الدّين في الأرض، ومهمته -شأن المؤمن- بوصفه قدراً من أقدار الله، ينفذ الله به ما يشاؤه في هذه الحياة .. لا جرم أنه ينشأ عنه مثل هذا الوقف، الذي يصوّره السياق القرآنيّ هذا التّصوير، ويعجّب منه هذا التعجيب! وينفر منه هذا التنفير! أمّا لماذا لم يأذن الله للمسلمين -في مكّة- بالانتصار من الظلم، والردّ على العدوان، ودفع الأذى بالقوّة .. وكثير منهم كان يملك هذا، حيث لم يكن ضعيفاً ولا مستضعفاً، ولم يكن عاجزاً عن ردّ الصاع صاعين .. مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلّة! أمّا حكمة هذا، والأمر بالكفّ عن القتال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال .. حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب مالا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته -كما أسلفنا- وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيستشهد تحت وطأته! أمّا حكمة هذا فلسنا في حلّ من الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألّى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً، قد تكون هي الأسباب والعلل الحقيقيّة، أو لا تكون، ولكن وراءها أسباباً وعللاً أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة .. وهذا هو شأن المؤمن أمام أيّ تكليف، أو أيّ حكم في شريعة الله -لم يبيّن الله سببه محدّداً جازماً حاسماً- فمهما خطر للمؤمن من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف، أو لكيفيّة تنفيذ هذا الحكم، أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه .. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرّد احتمال .. ولا يجزم -مهما بلغت ثقته

بعلمه وعقله وتدبّره لأحكام الله بأن ما رآه هو الحكمة التي أرادها الله .. نصًّا .. وليس وراءها شيء، وليس دونها شيء! فهذا التحرّج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله، ومقتضى الفارق ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة! وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكّة وفرضيته في المدينة .. ونذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب .. على أنه مجرّد احتمال .. وندع ما وراءه لله .. لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً، لا يعلمها إلا هو .. ولم يحدّدها لنا ويطلعنا عليها بنصّ صريح! إنها أسباب اجتهاديّة .. تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرّد تدبرّ أحكام الله، وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان: أولاً: ربما كان ذلك لأن الفترة المكيّة كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معيّنة، لقوم معيّنين، وسط ظروف معيّنة .. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئات خاصة، تربية نفس الفرد العربيّ على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضّيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به، وذلك كي يخلص من شخصه، ويتجرّد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محور الحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته .. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يندفع لأوّل مؤثّر -كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأوّل مهيّج، ليتمّ الاعتدال في طبيعته وحركته .. وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظّماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرّف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته-

وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصيّة العربي، لإنشاء (المجتمع المسلم) الخاضع لقيادة موجّهة، المترقّي المتحضّر، غير الهمجيّ! ثانياً: وربما كان ذلك أيضاً؛ لأن الدّعوة السلميّة أشدّ أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش ذات العنجهيّة والشرف، والتي قد يدفع قتالها معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد، وإلى إنشاء ثارات دمويّة جديدة، كثارات العرب المعروفة، والتي أثارت حرب (داحس والغبراء)، و (حرب البسوس) -أعواماً طويلة، تفانت فيها قبائل برمّتها- وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإِسلام، فلا تهدأ بعد ذلك أبداً .. ويتحوّل الإِسلام من دعوة إلى ثارات تنسى الفكرة الأساسيّة وهو ناشئ في مبدئه، فلا تذكر أبداً! ثالثاً: وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت .. فلم تكن هناك سلطة نظاميّة عامة، هي التي تعذّب المؤمنين وتفتنهم .. إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، يعذّبونه هم ويفتنونه و (يؤدّبونه)! ومعنى الإذن بالقتال -في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال: هذا هو الإِسلام! ولقد قيلت حتى والإِسلام يأمر بالكفّ عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمداً يفرّق بين الوالد وولده! رابعاً: وربما كان ذلك أيضاً، لا يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون

أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم، هم أنفسهم سيكونون من جنود الإِسلام المخلصين، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟ خامساً: وربما كان ذلك أيضاً؛ لأن النخّوة العربيّة، في بيئة قبليّة، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم .. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدغنة -كما سبق- لم يرض أن يترك أبا بكر -وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكّة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر -كما سيأتي- نقض صحيفة (الحصار) لبني هاشم في (شعب أبي طالب)، بعد ما طال عليهم الجوع، واشتدّت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذّل، قد يكون السكوت على الأذى .. وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي! ونبصر استخفاف الطغاة البغاة العتاة للعامة .. وهم يعزلونهم عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات، حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثّرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبوا بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنّين! ولا يملك الطاغية أن يفعل بالعامة هذه الفعلة إلا وهم فاسقون، لا يستقيمون على طريق، ولا يمسّكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح، ومن هنا يعلّل القرآن استجابة العامة لفرعون فيقول: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ

إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} (الزخرف)! وقد سجّل التاريخ قديماً وحديثاً سكوتاً على الأذى، بل وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!! سادساً: وربما كان ذلك أيضاً، لقلّة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكّة، حيث لم تبلغ الدعوة بقيّة الجزيرة، أو بلغت أخبارها متناثرةً، إذ كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخليّة بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف .. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة -حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة، ولا يقوم في الأرض للإسلام نظام، ولا يوجد له كيان واقعي .. وهو الدين الذي جاء ليكون منهجاً، نظاماً واقعيًّا عمليًّا للحياة! سابعاً: في الوقت ذاته، لم تكن هناك ضرورةٌ قاهرةٌ ملحةٌ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً وقتها ومحقّقاً .. هذا الأمر الأساسي هو (وجود الدعوة) .. وجودها في شخص الداعية الأول - صلى الله عليه وسلم -. وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتدّ إليه يد إلاّ وهي مهدّدة بالقطع! والنظام القبليّ السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني

هاشم، إذا هي امتدّت يدها لأذى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان شخص الداعية - صلى الله عليه وسلم - من ثمّ محميًّا حمايةً كافيةً .. وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن- في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحدٌ على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي اجتماعات عامة -كما سبق-، ولا يجرؤ أحد على منعه من الجهر بدعوته، ولا يجرؤ أحدٌ على أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، يعلن فيه بعض حقيقة دينه، ويسكت عن بعضها .. وحين طلبوا إليه أن يكف عن سبّ آلهتهم وعيبها لم يكف .. وعلى الجملة كان للدعوة (وجودها الكامل) في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وفي إبلاغه لدعوة ربّه كاملة في كل مكان .. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئيّة التي هي في مجموعها مساندةً للدعوة، ومساعدة في مثل هذه البيئة! هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله، أن يأمر المسلمين بكفّ أيديهم، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .. لتتم تربيتهم ويتم إعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيّات الخطّة في هذه البيئة، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظّ، لتكون خالصةً لله، وفي سبيل الله .. (والدعوة لها وجودها)، وهي قائمة ومؤدّاة ومحميّة ومحروسة! وأيًّا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمّسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}!

وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ حالة من الخلخلة، وينشئ فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة الطمئنة، المستقبلة لتكاليف الجهاد -على كل ما فيها من مشقّة- بالطمأنينة والثقة والحماسة أيضاً، ولكن في موضعها المناسب .. فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقيّة .. أمّا الحماسة قبل الأمر فقد تكون مجرّد اندفاع وتهوّر، يتبخّر عند مواجهة الخطر! والقرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الربّاني: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}! إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة .. ويتمنّون في حسرة مسكينة لو أن الله قد أمهلهم بعض الوقت، ومدّ لهم شيئاً من المتاع بالحياة! والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها، ويجلو غبش التصوّر لحقيقة الموت والأجل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}! متاع الدنيا كله، والدنيا كلها، فما بال أيّام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين؟! ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير، إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلاً؟! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيّام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين، ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل؟! {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}! فالدنيا أوّلاً ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة .. إنها مرحلة .. ووراءها

الآخرة، والمتاع فيها هو المتاع -فضلاً عن أن المتاع فيها طويل كثير- فهي {خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى}! وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها .. التقوى لله، فهو الذي يُتقى، وهو الذي يُخشى، وليس الناس -كما سبق: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}! والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحداً، فماذا يملك أحد إذا كان الله لا يريد؟! {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)}! فلا غبن ولا ضير ولا بخس، إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا، فهناك الآخرة، وهناك الجزاء الأوفى، الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي والآخرة جميعاً! ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه -مع هذا كله- إلى أيَّام تطول به، في هذه الأرض! حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير .. وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانيّة التي كانت فيها هذه الطائفة! هنا تجيء اللمسة الأخرى .. اللمسة التي تصحّح التصور عن حقيقة الموت والحياة، والأجل والقدر، وعلاقة هذا كله بتكليف القتال، الذي جزعوا له هذا الجزع، وخشوا الناس فيه هذه الخشية: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}! فالموت حتم في موعده المقدّر، ولا علاقة له بالحرب والسلم، ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته، ولا يؤخّره أن يؤخَّر عنهم تكاليف القتال إذن، ولا هذا التكليف والتعرّض للناس في هذا الجهاد يعجله عن موعده!

هذا أمر وذاك أمر، ولا علاقة بينهما .. إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل، بين الموعد الذي قدّره الله وحلول ذلك الموعد .. وليست هناك علاقة أخرى .. ولا معنى إذن لتمنّي تأجيل القتال، ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال! وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآنيّ كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر، وكل ما ينشئه التصوّر المضطرب من خوف ومن ذعر! وليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته، وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية .. فقد أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بأخذ الحذر .. وأمر بالاحتياط في صلاة الخوف .. وأمر باستكمال العدّة والأهبة .. ولكن هذا كله شيء، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر .. والتصوّر الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب -رغم كل استعداد واحتياط- أمر آخر يجب أن يطاع، وله حكمته الظّاهرة والخفيّة ووراءه تدبير الله! توازن واعتدال، وإلمام بجميع الأطراف، وتناسق بين جميع الأطراف! هذا هو الإِسلام .. وهذا هو منهج التربية الإِسلامية للأفراد والجماعات! ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثّة في المجتمع الإِسلامي، والتي يتألف منها الصف المسلم .. وإن كان السياق لا انقطاع فيه، ولا فصل: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}!

الوجه الأول

إن الذين يقولون هذا القول، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله، وما يصيبهم من الضرّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل فيهم وجوه: الوجه الأول: إنهم يتطيّرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيظنونه -حاشاه- شؤماً عليهم، يأتيهم السوء من قبله، فإن أجدبت السنة، ولم تنسل البهيمة، أو إذا أصيبوا في موقعة، تطيّروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأمّا حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله! الوجه الثاني: إنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تخلّصاً من التكاليف التي يأمرهم بها .. وقد يكون تكليف القتال منها أو أخصها، فبدلاً من أن يقولوا: إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال، يتّخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر! ويقولون: إن الخير يأتيهم من الله، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن أوامره، وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضرّ القريب الظاهر! الوجه الثالث: هو سوء التصوّر فعلاً لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله، وطبيعة أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم، وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى! وهذا الوجه الثالث -إذا صحّ- ربما يكون قابلاً لأن يوسم به ذلك الفريق الذي كان سوء تصوّرهم لحقيقة الموت ولأجل يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية، ويقولون: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}!

غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى .. تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها، وهذا الوجه الثالث منها! إن القضية التي تتناولها هذه الآيات، هي جانب من قضيّة كبيرة .. القضيّة المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم (قضية القضاء والقدر) أو (الجبر والاختيار) .. وقد وردت في أثناء حكايته ذلك الفريق من الناس، ثم في الردّ عليهم، وتصحيح تصوّرهم .. والقرآن يتناولها ببساطة واضحة، لا تعقيد فيها ولا غموض .. فلنعرضها كما وردت، وكما ردّ عليها القرآن الكريم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}! إن الله هو الفاعل الأول، والفاعل الواحد، لكل ما يقع في الكون، وما يقع للناس، وما يقع من الناس، فالناس يملكون أن يتّجهوا وأن يحاولوا، ولكن تحقّق الفعل -أي فعل- لا يكون إلا بإرادة من الله وقدره؛ فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيّئة وإيقاعها بهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو بشر منهم مخلوق مثلهم نسبة غير حقيقيّة، تدلّ على عدم فقههم شيئاً في هذا الموضوع! إن الإنسان قد يتّجه ويحاول تحقيق الخير بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقّق الخير، ولكن تحقّق الخير فعلاً يتمّ بإرادة الله وقدره؛ لأنه ليست هناك قدرة -غير قدرة الله- تنشئ الأشياء والأحداث، وتحقّق ما يقع في هذا الكون من وقائع، وإذن يكون تحقُّق الخير -بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتّجاه الإنسان وجهده- عملاً من أعمال القدرة الإلهيّة! وإن الإنسان قد يتّجه إلى تحقيق السوء، أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء،

ولكن وقوع السوء فعلاً ووجوده أصلاً لا يتمّ إلا بقدرة الله وقدر الله؛ لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوّة الله! وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحقّقه من عند الله .. وهذا ما تقرّره الآية الأولى! أما الآية الثانية: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}! فإنها تقرر حقيقة أخرى، ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى .. إنها في واد آخر .. والنظرة فيها من زاوية أخرى: إن الله سبحانه قد سنَّ منهجاً، وشرع طريقاً، ودلَّ على الخير، وحذّر من الشرّ .. فحين يتبع الإنسان هذا المنهج، ويسير في هذا الطريق، ويحاول الخير، ويحذر الشر .. فإن الله يعينه على الهدى كما قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} (العنكبوت)! ويظفر الإنسان بالحسنة، ولا يهم أن يكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسباً .. إنما هي الحسنة فعلاً في ميزان الله تعالى .. وتكون من عند الله؛ لأن الله هو الذي سنَّ المنهج، وشرع الطريق، ودلَّ على الخير، وحذَّر من الشرّ .. وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنّه، ولا يسلك الطريق الذي شرعه، ولا يحاول الخير الذي دلّ عليه، ولا يحذر الشرّ الذي حذّره منه .. حينئذ تصيبه السيئة الحقيقيّة، سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، ويكون هذا من عند نفسه؛ لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه!

وهذا معنى غير المعنى الأوّل، ومجال غير المجال الأوّل! ولا يغيّر هذا من الحقيقة الأولى شيئاً، وهي أن تحقِّق الحسنة، وتحقّق السيّئة، ووقوعها لا يتم إلا بقدرة الله وقدره؛ لأنه المنشئ لكل ما ينشأ، المحدث لكل ما يحدث، الخالق لكل ما يكون .. أيًّا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث، وهذا الذي يكون! أمَّا القضيّة التي تمثّل هذه النصوص جانباً منها، أو التي تذكر بها، فهي (قضيّة الجبر والاختيار)، وإلى أيّ حدّ تعمل إرادة الإنسان فيما يحدث منه أو يحدث له؟ وكيف تكون له إرادة يقوم عليها الحساب والجزاء، بينما إرادة الله هي المنشئة لكل ما يحدث، ومنه إرادة الإنسان نفسه واتجاهه وعمله، إلى آخر هذه القضيّة ... وكل ما يحدث بإرادة الله وقدره .. والإنسان يريد ويعمل، ويحاسب على إرادته وعمله .. والقرآن كله كلام الله، ولن يعارض بعضه بعضاً، فلا بدّ إذن أن تكون هناك نسبة معيّنة بين هذا القول وذاك، ولا بدّ إذن أن يكون هناك مجال لإرادة الإنسان وعمله، يكفي لحسابه عليه وجزائه، دون أن يتعارض هذا مع مجال الإرادة الربّانيّة والقدر الإلهيّ .. كيف؟ هذا ما لا سبيل لبيانه؛ لأن العقل البشري غير كفء لإدراك كيفيّات عمل الله! ونبصر حدود وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعمله، وموقف الناس منه، وموقفه من الناس، ورد الأمر كله إلى الله في النهاية: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)}! إن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي أداء الرسالة، لا إحداث الخير، ولا إحداث

السوء، فهذا من أمر الله .. والله شهيد على أنه أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأداء هذه الوظيفة. {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)}! وأمر الناس مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن من أطاعه فقد أطاع الله، فلا تفرقة بين قول الله وقول رسوله .. ومن تولّى معرضاً مكذباً فأمره إلى الله من ناحية حسابه وجزائه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرسل ليجبر أحداً على الهدى، ويكرهه على الدّين، وليس موكلاً بحفظ أحد من العصيان والضلال، فهذا ليس داخلاً في وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا داخلاً في قدرته! بهذا البيان يصحّح تصوّرهم عن حقيقة ما يقع لهم .. فكله لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره .. وما يصيبهم من حسنة أو سيّئة -بأيّ معنى من معاني الحسنة أو السيّئة، سواء حسب ما يرونه هم في الظاهر، أو ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله؛ لأنه لا ينشئ شيئاً ولا يحدثه ولا يخلقه ويوجده إلا الله .. وما يصيبهم من حسنة حقيقيّة -في ميزان الله- فهو من عند الله؛ لأنه بسبب منهجه وهدايته، وما يصيبهم من سيّئة حقيقيّة -في ميزان الله- فهو عند أنفسهم؛ لأنه بسبب تنكّبهم عن منهج الله والإعراض عن هدايته! والرسول - صلى الله عليه وسلم - وظيفته الأولى والأخيرة أنه رسول، لا ينشئ ولا يحدث ولا يخلق، ولا يشارك الله في خاصّيّة الألوهيّة .. وهي الخلق والإنشاء والإحداث .. وهو يبلّغ ما جاء به من عند الله، فطاعته فيما يأمر به إذن هي طاعة لله، وليس هناك طريق آخر لطاعة الله غير طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس الرسول مكلَّفاً أن يحدث الهدى للمعرضين المتولّين، ولا أن يحفظهم من الإعراض والتولّي بعد البلاغ والبيان!

حقائق هذا واضحة مريحة، بيّنة صريحة، تبني التصوّر، وتريح الشعور، وتمضي شوطاً مع تعليم الله لهذه الجماعة، وإعدادها لدورها الكبير الخطير! ونبصر السياق يحكي عند حال طائفة أخرى -في الصفّ المسلم- لعلّها هي طائفة المنافقين، يذكر عنها فعلاً جديداً، وفصلاً جديداً! ومع الحكاية التنفير من الفعلة، ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم .. كل ذلك في آيات قليلة، وعبارات معدودة: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (النساء). إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف قالوا {طَاعَةٌ} قالوها هكذا جامعة شاملة .. طاعة مطلقة، لا اعتراض ولا استفهام، ولا استيضاح ولا استثناء! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تبيّت طائفة منهم غير الذي تقول، وتروح فيما بينها تتآمر على عدم التنفيذ، وعلى اتخاذ خطّة للتخلص من التكليف! ولعل النص يصوّر حال الجماعة المسلمة كلها، ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص .. ويكون المعنى: أن المسلمين يقولون {طَاعَةٌ} بجملتهم .. ولكن طائفة -وهي هذه الطائفة المنافقة- إذا خرجت بيّت أفرادها غير ما قالوا .. وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم، فإن هؤلاء مندسّون فيه على كل حال، وتصرّفهم على هذا النحو يؤدي الصفّ ويخلخله، والجماعة المسلحة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها!

والله عزَّ وجلَّ يطمئن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمخلصين في الصفّ .. يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيّت وتمكر .. وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيِّتين الماكرين يثبت قلوبهم، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرّهم شيئاً بتآمرها وتبييتها .. ثم هو تهديد ووعيد للمتآمرين المبيّتين، فلن يذهبوا مفلحين، ولن يذهبوا ناجين: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}! وكانت الخطّة التي وجّه الله إليها نبيّه - صلى الله عليه وسلم - في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم -لا بحقيقة نواياهم- والإعراض والتقاضي عما يبدو منهم .. وهي خطّة فتلتهم في النهاية، وأضعفتهم، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفاً وخجلاً .. وهنا طرف من هذه الخطّة: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}! ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم، التطمين بكلاءة الله وحفظه مما يبيّتون: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)}! نعم .. وكفى بالله وكيلاً، لا يضارّ من كان وكيله، ولا يناله تآمر ولا تبييت ولا مكيدة! وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع القائلين: {طَاعَةٌ} فإذا خرجت بيَّتت غير هذا الذي تقول .. كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وظنهم أن هذا القرآن من عنده! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة، فهذا السلطان مستمدّ كله من الاعتقاد الجازم الكامل بأن هذا كلام الله، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى .. ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرّر على هذه الحقيقة!

وهنا يعرض عليهم القرآن خطّة، هي غاية ما يبلغه النهج الربّانيّ من تكريم الإنسان، والعقل الإنساني، واحترام هذا الكائن البشري وإدراكه، الذي وهبه الخالق جل شأنه! يعرض عليهم الاحتكام في أمر القرآن إلى إدراكهم هم وتدبّر عقولهم .. ويعين لهم منهج النظر الصحيح، كما يعين لهم الظاهرة التي لا تخطئ إذا اتبعها ذلك المنهج، وهي ظاهرة واضحة كل الوضوح في القرآن من جهة، ويمكن للعقل البشري إدراكها من جهة أخرى .. ودلالتها على أنه من عند الله دلالة لا تمارى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (النساء)! وفي هذا العرض، وهذا التوجيه، منتهى الإكرام للإنسان وإدراكه وشخصيّته .. كما أن فيه منتهى النصفة في الاحتكام إلى هذا الإدراك في ظاهرة لا يعييه إدراكها، وهي في الوقت ذاته ذات دلالة لا تمارى! والتناسق المطلق الشامل الكامل هو الظاهرة التي لا يخطئها من تدبّر هذا القرآن أبداً .. ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف القول والأجيال في إدراك مداها، ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها -بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه- ما يملك إدراكه، في محيط يتكيّف بمدى القدرة والثقافة والتجربة، والتقوى! ومن تمَّ فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية، ومستطيع -عند التدبّر وفق منهج مستقيم- أن يدرك من هذه الظاهرة (ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق) ما تهيّئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه!

وتلك الطائفة في ذلك الجيل كانت تخاطب بشيء تدركه، وتملك التحقّق منه بإدراكها في حدودها الخاصة! تتجلَّى هذه الظاهرة .. ظاهرة عدم الاختلاف، أو ظاهرة التناسق .. ابتداء في التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنيّة .. ففي كلام البشر تبدو القمم والسفوح، التوفيق والتعثّر، القوة والضعف، التحليق والهبوط والرفرفة والثقلة، الإشراق والانطفاء .. إلى آخر الظواهر التي تتجلَّى معها سمات البشر، وأخصّها سمة (التغيّر)، والاختلاف المستمرّ الدائم من حال إلى حال .. يبدو ذلك في كلام البشر، واضحاً عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكّر الواحد، أو الفنّان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد .. أو أيّ كان في صناعته، التي يبدو فيها الوسم البشري واضحاً .. وهو: (التغيّر والاختلاف)! وواضح كل الوضوح أن هذه الظاهرة عكسها هو (الثبات والتناسق)، وهي الظاهرة الملحوظة في القرآن .. ونحن نتحدّث فقط عن ناحية التعبير اللفظي، والأداء الأسلوبي، فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها؛ ولكن يتّحد مستواه وأفقه، بالإضافة إلى الكمال في الأداء بلا تغيّر ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى .. وليس كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان! إنه كتاب يحمل طابع الصبغة الربّانيّة، ويدلّ على الموجود الذي لا يتغيّر من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال! (¬1) وتتجلّى ظاهرة عدم الاختلاف .. والتناسق المطلق الشامل الكامل .. بعد ¬

_ (¬1) انظر: التصوير الفني في القرآن الكريم.

ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات، ويؤدّيه الأداء .. منهج التربية للنفس البشريّة والمجتمعات البشريّة .. ومحتويات هذا المنهج في جوانبه الكثيرة (¬1) .. ومنهج التنظيم للنشاط الإنسانيّ للأفراد وللمجتمع الذي يضمّ الأفراد -وشتّى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشريّة على توالي الأجيال- ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته، وتناول شتّى قواه وطاقاته وإعمالها معاً في عمليّة (الإدراك) ومنهج التنسيق بين الكائن الإنسانيّ بجملته -في جميع مجتمعاته وأحواله ومستوياته- وبين هذا الكون الذي يعيش فيه، ثم بين دنياه وآخرته، وما يشتجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد، وفي عالم (الإنسان) وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام! وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان واضحاً كل الوضوح في جانب التعبير اللفظي والأداء الفنّي، فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير والتنظيم والتشريع .. فما من نظريّة بشريّة، وما من مذهب بشري إلا وهو يحمل الطابع البشري الذي يتسم بجزئيّة النظر والرؤية، والتأثّر الوقتي بالمشكلات الوقتيّة، وعدم رؤية التناقضات في النظريّة أو المذهب أو الخطّة التي تؤدّي إلى الاصطدام بين مكوّناتها -إن عاجلاً وإن آجلاً- كما تؤدّي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصيّة البشريّة الواحدة التي لم يحسب حساب بعضها، أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها .. إلى عشرات ومئات من النقائص والاختلافات الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود، ومن الجهل البشريّ بما وراء اللحظة الحاضرة، فوق جهله بكل ¬

_ (¬1) انظر: منهج التربية الإِسلامية: محمد قطب.

مكوّنات اللحظة الحاضرة -في أيّة لحظة حاضرة- وعكس ذلك كله هو ما يتّسم به المنهج القرآنيّ الشامل الكامل، الثابت الأصول ثبات النواميس الكونيّة، الذي يسمح بالحركة الدائمة -مع ثباته- كما تسمح بها النواميس الكونيّة! وتدبّر هذه الظاهرة، في آفاقها هذه، قد لا يتسنّى لكل إدراك، ولا يتسنّى لكل جيل؛ بل المؤكد أن كل إدراك سيتفاوت مع الآخر في إدراكها، وكل جيل سيأخذ بنصيبه في إدراكها، ويدع آفاقاً منها للأجيال المترقية في جانب من جوانب المعرفة أو التجربة؛ إلا أنه يتبقى من وراء كل الاختلاف البشري الكثير في إدراك هذه الظاهرة -كاختلافه الكثير في كل شيء- بقيّة يلتقي عليها كل إدراك، ويلتقي عليها كل جيل .. وهي أن هذه الصنعة شيء وصنعة البشر شيء آخر، وأنه لا اختلاف في هذه الصنعة ولا تفاوت. وإنما (وحدة وتناسق) .. ثم يختلف الناس بعد ذلك ما يختلفون في إدراك آحاد وآفاق وأبعاد وأنواع ذلك التناسق! (¬1) وإلى هذا القدر الذي لا يخطئه متدبّر -حين يتدبّر- يكل الله تلك الطائفة، كما يكل كل أحد، وكل جماعة، وكل جيل .. وإلى هذا القدر من الإدراك المشترك يكل إليهم الحكم على هذا القرآن، وبناء اعتقادهم في أنه من عند الله، ولا يمكن أن يكون من عند غير الله! ويحسن أن نقف هنا وقفةً قصيرةً، لتحديد مجال الإدراك البشري في هذا الأمر وفي أمر الدّين كلّه، فلا يكون هذا التكريم الذي كرّمه الله للإنسان بهذا التحكيم، سبيلاً إلى الغرور، وتجاوز الحدّ المأمون، والانطلاق من السياج الحافظ على المضيّ في التّيه بلا دليل! ¬

_ (¬1) انظر (خصائص التصوّر الإِسلامي ومقوماته) و (الإِسلام ومشكلات الحضارة) و (هذا الدين).

إن مثل هذه التوجيهات في القرآن الكريم يساء إدراكها، وإدراك مداها. فيذهب بها جماعة من المفكّرين -قديماً وحديثاً- إلى إعطاء الإدراك البشريّ لمملطة الحكم النهائية في أمر الدّين كله، ويجعلون منه ندًّا للشرع، بل يجعلونه هو المسيطر على شرع الله! الأمر ليس كذلك .. الأمر أن هذه الأداة العظيمة -أداة الإدراك البشري- هي بلا شك موضع التكريم من الله، ومن ثم يكل إليها إدراك الحقيقة الأولى: حقيقة أن هذا الدّين من عند الله، وهناك ظواهر يسهل إدراكها، وهي كافية بذاتها للدلالة، دلالة هذا الإدراك البشريّ ذاته، على أن هذا الدّين من عند الله .. ومتى أصبحت هذه القاعدة الكبيرة مسلّماً بها أصبح من منطق هذا الإدراك ذاته أن يسلم -بعد ذلك- تلقائيًّا بكل ما ورد في هذا الدّين -لا يهمّ عندئذ أن يدرك حكمته الخفيّة أو لا يدركها، فالحكمة متحقّقةٌ حتماً ما دام من عند الله، ولا يهمّ عندئذ أن يرى (المصلحة) متحقّقة فيه في اللحظة الحاضرة .. والعقل البشري ليس ندًّا لشريعة الله، فضلاً عن أن يكون الحاكم عليها؛ لأنه لا يدرك إلا إدراكاً ناقصاً في المدى المحدود، ويستحيل أن ينظر من جميع الزوايا إلى جميع المصالح -لا في اللحظة الواحدة ولا في التاريخ كله- بينما شريعة الله تنظر هذه النظرة، فلا ينبغي أن يكون الحكم فيها، أو في حكم ثابت قطعي من أحكامها موكولاً إلى الإدراك البشري .. وأقصى ما يتطلّب من الإدراك البشري أن يتحرّى إدراك دلالة النصّ وانطباقه، لا أن يتحرّى المصلحة أو عدم المصلحة فيه! فالمصلحة متحقّقة أصل أبو جود النصّ من قبل الله تعالى .. إنما يكون هذا فيما لا نص فيه، مما يجدّ من الأقضية، وهذا جاء بيان المنهج فيه، وهو ردّه إلى الله والرسول .. وهذا هو مجال الاجتهاد الحقيقي، إلى جانب الاجتهاد في فهم

النصّ، والوقوف عنده، لا تحكيم العقل البشريّ في أن مدلوله يحمل المصلحة أو لا يحملها! إن مجال العقل البشريّ الأكبر يكمن في معرفة نواميس الكون والإبداع في عالم المادة .. وهو ملك عريض! ويجب أن نحترم الإدراك البشريّ بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يحسنه، ثم لا نتجاوز به هذا المجال، كي لا نمضي في التّيه بلا دليل، إلا دليلاً يهجم على ما لا يعرف من مجاهد الطريق .. وهو عندئذ أخطر من المضيّ بلا دليل! (¬1) ويمضي السياق يصوّر حال طائفة أخرى، أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} (النساء)! والصورة التي يرسمها النص، هي صورة جماعة في المعسكر الإِسلاميّ، لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، وفي النتائج التي تترتّب عليها، وقد تكون قاصمة؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث، ولم يدركوا جدّية الموقف، وأن كلمة عابرة وفلتة لسان، قد تجرّ من العواقب على الشخص ذاته، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال، أو ربما لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر، وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة، والجري بها هنا ¬

_ (¬1) انظر: خصائص التصور الإِسلامي ومقوماته: الربانية، والثبات، والتوازن!

وهناك وإذاعتها حين يتلقّاها لسان عن لسان، سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف .. فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمّرة!، فإن إشاعة أمر الأمن مثلاً في معسكر متأهّب مستيقظ متوقّع لحركة من العدو .. إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعاً من التراخي -مهما تكن الأوامر باليقظة- لأن اليقظة النابعة من التحفّز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرّد الأوامر! .. وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية! كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوّته، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة، قد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكاً، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف .. وقد تكون كذلك القاضية! وعلى أيّة حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه، أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته، أو هما معاً .. ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك، باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان، ومختلفة المستويات في الإدراك، ومختلفة المستويات في الولاء .. وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني! والقرآن يدلّ الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}! أي لو أنهم ردّوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة، واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة! فمهمة الجندي في الجيش المسلم، الذي يقوده أمير مؤمن -بشرط الإيمان ذاك وحدّه- حين يبلغ إلى أذنيه خبر أن يسارع فيخبر به نبيّه أو أميره، لا أن ينقله

ويذيعه بين زملائه، أو بين من لا شأن لهم به؛ لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر- حتى بعد ثبوته أو عدم إذاعته! وهكذا كان القرآن يربّي .. فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة، ويعلم نظام الجنديّة في آية واحدة .. بل بعض آية .. فصدر الآية يرسم صورةً منفرةً للجنديّ وهو يتلقّى نبأ الأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقّلاً، مذيعاً له، من غير تثبّت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة .. ووسطها يعلم ذلك التعليم .. وآخرها يربط القلوب بالله في هذا، ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل، ويحذّرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد، الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)}! آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها، وتتناول القضيّة من أطرافها، وتتعمّق السريرة والضمير، وهي تضع التوجيه والتعليم! ذلك أنه من عند الله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}! وحين يصل السياق إلى هذا الحدّ من تقويم عيوب الصفّ، التي تؤثّر في موقفه في الجهاد وفي الحياة -ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب- عندئذ ينتهي إلى قمّة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس .. قمة التكليف الشخصي، الذي لا يُقعد الفردَ عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق، حيث يوجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقاتل -ولو كان وحيداً- فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الوقت ذاته يحرّض المؤمنين على القتال .. وكذلك يوحي

معالم في الطريق

إلى النفس بالطمأنينة ورجاء النصر: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}! معالم في الطريق: ومن خلال هذه الآية -بالإضافة إلى ما قبلها- تبرز لنا معالم كثيرة في طريق الجماعة المسلمة يومذاك، كما تبرز معالم كثيرة في النفس البشريّة في كل حين: المعلم الأول: يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم، وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه، حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقاتل في سبيل الله -ولو كان وحده- ليس عليه إلا نفسه، مع تحريض المؤمنين، غير متوقّف مُضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم -جملة- أمر لا يكون، ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدلّ على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو، واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة، فوق ما يحمله النصّ من حقيقة أساسيّة ثابتة في التصوّر الإِسلاميّ، وهي أن كل فرد لا يكلّف إلا نفسه! المعلم الثاني: كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرّض لقتال المشركين يومذاك .. حتى ليكون أقصى ما يعلّق الله رجاء المؤمنين: أن يتولّى هو سبحانه كفّ بأس الذين كفروا، فيكون المسلمون ستاراً لقدرته في كفّ بأسهم عن المسلمين .. مع إبراز قوّة الله سبحانه، وأنه {أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)}!

المعلم الثالث

وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوّة بأس الذين كفروا يومذاك، والمخاوف المبثوثة في الصفّ المسلم .. وربما كان هذا بين (أُحُد) و (الخندق) عن قوّة بأس الذين كفروا -كما سيأتي- وأحرج الأوقات التي مرّت بها الجماعة المسلمة في (المدينة)، بين المنافقين، وكيد اليهود (¬1)، وتحفّز المشركين، وعدم اكتمال التصوّر الإِسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين! المعلم الثالث: كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشريّة، وهي تدفع إلى التكاليف التي تشقّ عليها، إلى شدّة الارتباط بالله وشدّة الطمأنينة إليه، وشدّة الاستعانة به، وشدّة الثقة بقدرته وقوّته .. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي، حين يبلغ الخطر قمته .. وهذه كلها حقائق نبصرها في المنهج الرباني .. والله هو الذي خلق هذه النفوس، وهو الذي يعلم كيف تربّى، وكيف تقوّى، وكيف تستجيب! زلزال شديد: ومعلوم أن الشخصيّة المسلمة تصاغ في معترك الحياة ومصطرع الأحداث (¬2)، ويوماً بعد يوم، وحدثاً بعد حدث تنضج وتنمو، وتتضح سماتها .. و (الجماعة المسلمة) تبرز إلى الوجود بمقوّماتها الخاصّة، وقيمها الخاصّة، وطابعها المميّز بين سائر الجماعات! وكانت الأحداث تشتدّ على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب -كما أسلفنا- تفصل بين الجوهر الأصيل ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: "الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه" أربعة أجزاء. (¬2) السابق: 5: 2831 وما بعدها بتصرف.

والزَبَد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تعود خليطاً مجهول القيم! وكان القرآن الكريم يتنزّل في إبان الابتلاء أو بعد انقضائه، يصوّر الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه، فتنكشف المواقف والمشاعر، والنوايا والضمائر .. ثم يخاطب القلوب وهي مكشوفة في النور، عارية من كل رداء وستار .. ويلمس فيها مواضع التأثّر والاستجابة، ويربيّها يوماً بعد يوم، وحادثاً بعد حادث، ويرتّب تأتّراتها واستجاباتها وفق منهجه الرباني! ولم يترك المسلمون لهذا القرآن، يتنزّل بالأوامر والنواهي وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة، إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات، والفتن والامتحانات، فقد علم الله أن هذه الخليقة البشريّة لا تصاغ صياغةً سليمةً، ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيّة الواقعيّة، التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب. وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث! إنه يتنزّل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرةٌ بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة! ولقد كانت فترة عجيبة حقًّا، تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. فترة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً، مبلوراً في أحداث وكلمات .. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه، وأن سمع الله إليه، وأن كلّ كلمة منه وكلّ حركة، بل كلّ خاطر وكلّ نيّة، قد

يصبح مكشوفاً للناس، يتنزّل في شأنه قرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وحينئذ كان كل مسلم يحسن الصلة المباشرة بينه وبين ربّه، فإذا حزبه أمر، أو واجهته معضلة، انتظر أن تفتح أبواب السماء غداً أو بعد غد ليتنزّل منها حلّ لمعضلته، وفتوى في أمره، وقضاء في شأنه .. وحينئذ كان الله بذاته العلية يقول: أنت يا فلان بذاتك قلت كذا، وعملت كذا، وأضمرت كذا، وأعلنت كذا، وكن كذا، ولا تكن كذا .. ويا له من آمر هائل عجيب! .. يا له من أمر هائل عجيب أن يوجّه الله خطابه المعيّن إلى شخص معين .. هو وكل من على هذه الأرض وكل ما في هذه الأرض، وكل هذه الأرض ذرّة صغيرة في ملك الله الكبير! لقد كانت فترة عجيبة حقًّا، يتملاها الإنسان اليوم، ويتصوّر حوادثها ومواقفها، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع أضخم من كل خيال! ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيّهم، وتنضج شخصيّتهم المسلمة، بل أخذهم بالتجارب الواقعيّة، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي، وكل ذلك لحكمة يعلمها، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك)! هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلاً، ندركها ونتدبّرها، ونتلقّى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير! ولنا حديث خاص عن (غزوة الأحزاب) نذكر فيه كيف كان الامتحان لـ (الجماعة المسلمة) الناشئة، وتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم في ردّ الجيش الذي همّ أن يستأصلهم، لولا عون الله وتدبيره اللطيف، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا

عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)} (الأحزاب)! وهنا نبصر القيم الثابتة، والسنن الباقية، التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات .. ومن ثم تبقى قاعدةً ومثلاً لكل جيل ولكل قبيل .. ونبصر ربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص .. ونبصر الكشف عن سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبّات الضمائر، والأسرار والنوايا والخوالج المستكنّة في أعماق الصدور. ونبصر القرآن مُعدًّا للعمل في كل وسط بعد ذلك، وفي كل تاريخ .. معدًّا للعمل في النفس البشريّة كلّما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوّعة عبر التاريخ!

ونبصر تحوّل النصوص القرآنيّة إلى قوى وطاقات .. تعمل في واقع الحياة، وتدفع إلى حركة حقيقية في عالم الضمير! إن هذا القرآن ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة .. وكفى .. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة، وإيحاء متجدّد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيّأة للعمل في كل لحظة، متى وجدت القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السرّ العجيب! وإن الإنسان ليقرأ النصّ القرآني مئات المرّات، ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النصّ القرآنيّ جديد، يوحي إليه بما لم يودع من قبل قطّ، ويجيب على السؤال الحائر ويفتي في المشكلة المعقّدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه المقاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق! وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث! وفي الآيات التي معنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)}! نبصر بدء المعركة وختامها، والعناصر الحاسمة فيها .. مجيء جنود الأعداء، وإرسال الريح .. والجنود التي لم يرها المؤمنون، ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم، وبصره بعملهم .. ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)}!

إنها صورة الهول الذي روّع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها .. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان، واليهود من بني قريظة، من كل جانب، من أعلاها ومن أسفلها، فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنّها بالله، وسلوكها في الشدّة، وتصوّراتها للقيم والأسباب والنتائج .. ومن ثم كان الابتلاء كاملاً، والامتحان دقيقاً، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسماً لا تردّد فيه! وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته، وكل انفعالاته، وكل خلجاته. وكل حركاته، ماثلاً أمامنا، كأننا نراه من خلال هذا النصّ القصير! ننظر فنرى الوقف من خارجه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}! ثم ننظر فنرى أثر الوقف في النفوس: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}! وهو تعبير مصوّر لحالة الخوف والكربة والضّيق، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)}! ولا يفصّل هذه الظنون، ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج، وذهابها كل مذهب، واختلاف التصوّرات في شتّى القلوب! ثم تزيد سمات الوقف بروزاً، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحاً: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}! والهول الذي يزلزل المؤمنين لابدّ أن يكون هولاً مروّعاً رعيباً!

ولقد كان أشدّ الكرب على المسلمين، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم، فلم يكونوا يأمنون في أيّة لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق، وأن تميل عليهم يهود، وهم قلّة بين هذه المجموع، التي جاءت بنيّة استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة! ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)}! فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدّة الآخذة بالخناق فرصةً للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد، وفرصة للتوهن والتخذيل وبثّ الشكّ والرّيبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون، فالواقع بظاهره يصدّقهم في التوهن والتشكيك .. وهم مع هذا منطقيّون مع أنفسهم ومشاعرهم، فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمّل، وروع نفوسهم ترويعاً لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجمّلين! ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة، وموقفهم في الشدّة هو موقف إخوانهم هؤلاء، فهو نموذج مكرّر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)}! ونبصر صورة نفسيّة لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض .. صورة

نفسيّة داخليّة لوهن العقيدة، وخور القلب، والاستعداد للانسلاخ من الصفّ بمجرّد مصادفة، غير مبقين على شيء، ولا متجمّلين لشيء: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)}! هكذا يكشفهم القرآن، ويقف نفوسهم عارية من كل ستار .. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد، وخلف الوعد، ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا، ثم لم يراعوا معِ الله عهداً: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)}! ويقرّر القرآن إحدى القيم التي يقرّرها في أداتها، ويصحح التصوّر الذيِ يدعوهم إلى نقض العهد والفرار: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)}! إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة، والموت أو القتل قدر لا مفرّ من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر .. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ، فإذا فرّوا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب، وكل موعد في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل، ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته، سواء أراد بهم سوءاً أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون الله، يحميهم ويمنعهم من قدر الله! فالاستسلام الاستسلام، والطّاعةَ الطّاعةَ، والوفاءَ الوفاء بالعهد مع الله، في السرّاء والضرّاء، ورجع الأمر إليه، والتوكّل الكامل عليه!!!

مناجاة في ليلة القدر

مناجاة في ليلة القدر: ويطيب لي أن أقدّم هذه المناجاة للأخ العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي، الذي عرفته منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي وصحبته في أشدّ المحن في السجن الحربي عام 1954 - 1956 م، كما صحبته في المحاكمة الظالمة عام 1955 م. وقد نظم هذه القصيدة ليلة 27 رمضان عام 1369 هـ - 1949 م بمعتقل الطور! وكان ختامها دعوات ومناجاة إلى الله سبحانه .. وفرّج الله الكرب .. وسقطت وزارة إبراهيم عبد الهادي، وجاء العيد حاملاً معه البشرى، وبدأ الإفراج عن الدعاة المعتقلين! والقصيدة طويلة .. منها ما يحفظه الأخ الداعية القرضاوي، وهي: (¬1) عشقتها فاسترقّت قلبي العاني ... فقمت أعزف فيها عذب ألحاني سمّوه شعراً وإِنّي لا أراه سوى ... آهات قلبي وإِحساسات وجداني * * * يا ليلة زانها ربّي وشرّفها ... تنزيله في دجاها نور قرآنِ ¬

_ (¬1) نفحات ولفحات: 38 - 40.

دستورُ حق وتشريع وتربية ... يبقى وإِن زال هذا العالم الفاني ربَّى رجالاً مغاوير اهتدوا وغزوا ... إِن الرجولة من نور ونيرانِ أمسى بلال به من ذلّة ملكاً ... وصار سلمان شيئاً غير سلمانِ! لله فتيان حق لو رأيت فتىً ... منهم ترى ملكاً في زيّ إِنسانِ! فمن يداني أبا حفصٍ وصاحبه؟ ... ومن يداني عليًّا وأين عفّانِ؟! هذا الكتاب غدا في الشرق وا أسفاً ... شمساً تضيء ولكن بين عُميانِ! يحاط بالطفل حرزاً من أذىً وردىً ... وفيه حرز الورى من كل خسرانِ! يُتلى على ميِّتٍ في جوف مقبَرةٍ ... وليس يحكم في حيٍّ بديوانِ! فكيف نرقى ومعراج الرّقِيِّ لنا ... أمسى يُجَرُّ عليه ذيل نسيانِ؟!

* * * يا ليلة السِّلم والإِسلام معذرة ... فالسِّلم في مصر والإِسلامُ لفظانِ أين السلام؟ أروني أين موضعه ... قد ضاع ضيعة يُتْمٍ بيبن خُوَّانِ! أين الدساتير فانظرها معلّقة ... مثل التمائم في أحضان صبيانِ! أين الحقوق ولم نلمح لها صوراً ... إِلا سياطاً كأذناب لثيرانِ! * * * نحن النجوم تزين الكونَ طلعتُنا ... ويهتدي بسنانا كل حيرانِ نحن النجوم فلا تعجب إِذا انطلقت ... منّا رجومٌ أخافتْ كل شيطانِ قالوا اسجنوا واغمروا الأقسام واعتقلوا ... فجمّعونا على حبٍّ وإِيمانِ وصادروا ما لنا من جهلهم ونسوا ... أن يحجروا رزق رزّاق ورحمانِ

وأسرفوا وعَلوْا في الأرض واضطهدوا ... وعُكِّر النّيلُ من هاماته الثاني وعذّبوا كي يُذِلوا أنفساً طَمحتْ ... وعزَّت النفس أن تعنو لسلطانِ والليث لن تحني الأقفاص هامته ... وإِن تحكّم فيه ألف سجّانِ * * * يا ربِّ إِن الطّغاة استكبروا وبَغَوْا ... بَغْيَ الذِّئاب على قطعان حُملانِ يا ربِّ كم يوسفٍ فينا تَقِيِّ يدٍ ... دانوه بالسّجن والقاضي هو الجاني! يا ربِّ كم صبيٍّ صفّدوا فمضى ... يبكي كضفدعة في ناب ثعبانِ! يا ربِّ كم أسرةٍ باتت مشرّدة ... تشكو تَجَبُّر فرعون وهامانِ! يا ربِّ رُحْمَاك انجزْ ما وعدت به ... وانصر فنصرك من أهل الهُدى دانِ! * * *

الله والطاغوت

الله والطاغوت: وتحت هذا العنوان قال الأخ الداعية الشاعر (محمد منلا غزيل): (¬1) تاه الدليل! فلا تعجب إِذا تاهوا ... أو ضيّع الركب أشباح وأشباهُ تاه الدليل! فلا تعجب إِذا تركوا ... قصد السبيل وحادوا عن سجاياهُ تاه الدليل! فلا تعجب إِذا انحرفوا ... عن الصراط لِلات الشِّرك عُزّاهُ! والشّعر إِن لم تلح في التّيه جذوته ... نوراً مبيناً فلا كانت عطاياهُ إن لفّه الصمت في أكفانه أمداً ... أو ضمّه الرّمز حيناً في حناياهُ فالحرف مازال يُذكي وهج شُعلته ... وقْع الصّراع فيؤتي بعض نجواهُ هيهات يخبو سنا التّبيان مذ صبغت ... آيُ الكتاب بلون الحقّ معناهُ ¬

_ (¬1) ديوان اللؤلؤ المكنون: 123، وشعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث: 3: 91 - 94.

هيهات ترضي ظلال الزّيف صبغته ... هيهات يعنو لأغلال حناياهُ يسمو تضيء له الآيات وجهتَه ... ويستطير السّنا في أفق مرقاهُ وكم بدت في الدّجى العاتي كنانته ... تُرمى بسهم أصاب الليل أصماهُ * * * يا ربّ! هيّء لنا من أمرنا رشداً ... يهدي السبيل فإِنا قد أضعناهُ وها هو الشرك في أرجاء بقعتنا ... شركٌ بواحٌ وما انفكّت خفاياهُ! وا أمّة أخرجت للناس أثخنها ... مكر العدوّ فكانت من مطاياهُ! إِن العدوّ هو الطاغوت فانعتقي ... من كيد (إِبليس) إِن المكر إِيّاهُ! إِن السبيل سبيل الله فانطلقي ... نحو الجهاد وخوضي غمر دنياهُ

تبَّت يدا مترفيها ضلّ سعيهم ... فكيف يطغى عليك المال والجاهُ؟! * * * يا إِخوة الدّرب نعم الدّين آصرة ... للمؤمنين ونعم الحبل أقواهُ تلك السبيل فلا تنسوا معالمها (¬1) ... ولتحذروا أن تضلّوا إِثر من تاهوا! منهاجنا (الدّين) والتوحيد صبغته ... والعدل شرعته الكبرى ومبناه هيهات ترضى بأوثان عقيدته ... والحق خالصه فيها وأبقاهُ هيهات ترضى بطغيان شريعته ... وما علمتُ تقرُّ الظّلم (شوراهُ)! والفجر مازال وجه الفجر يحجبه ... وجه الضباب وتخفيه طواياهُ كم حاول الكيد مسعوراً ليطمسه ... عَبر الضّلوع فلم يظفر بمسعاهُ ¬

_ (¬1) يشير إلى كتاب الشهيد سيد قطب (معالم في الطريق)!

غداً تطلّ على الدنيا طلائقهُ ... غلاّبةً يا لبشرانا بلقياهُ قد يزحف الصّفّ مرصوص الكيان غداً ... يشتدّ بنيانه يمتدّ ركناهُ إِن طاف في الأرض قلبي في مناكبهما ... يستقبل التّيه بالإشراق يلقاهُ فما أحسّ بغير الفجر مؤذنةً ... أذيالُه يزدهي بالنصر عطفاهُ يا أيها الليل لن تقوى على أمل ... عبر الحنايا بإِذن الله نحياهُ يا أيّها التّيه لن تقوى على قبسٍ ... من جانب الطور بالحق اقتبسناهُ يا أيّها الغيّ لن تقوى على رشد ... في عمق أعماقنا الفرقان آتاهُ غداً نخوض الوغى تترى كتائبنا ... ويزهق الباطل الباغي ودعواهُ غداً سيطوى الهُدى طغيان (قيصره) ... وتنطفي بالهدى نيران (كسراهُ)!

شظايا من الإيمان

الكافرون هوى الطاغوت منهجهم ... والقاصدون الهدى يهديهم اللهُ! * * * شظايا من الإيمان: وقال تحت هذا العنوان: (¬1) بعقيدتي بالحق بالإِيمان يعصف في دمي بالنور بالإِعصار جيّاشاً بوهج الأنجمِ بالرّوح تزخر بالهُدى بهُدى النبيّ الأعظمِ بسنا القلوب الظامئات إِلى اللقاء الملهمِ سيزول ليل الظالمين وليل بغي مجرمِ سيزول بالنور الظلام ظلام عهد معتمِ والباطل المنهار فوق دعاة ليل مظلمِ وسيشرق الفجر المبين ويرتوي القلب الظمي والدعوة السمحاء تزحف بالهُدى والبلسمِ بشريعة الله العظيم وبالنظام المحكمِ بشريعة القرآن دستور الحياة الأكرمِ ¬

_ (¬1) مجلة الشهاب السوريّة: 25، 26، عام 1384 هـ، وشعراء الدعوة الإِسلامية في العصر الحديث: 3: 95 - 97.

بالنعمة الكبرى من الربِّ الرحيم المنعمِ أنا مؤمن بالنصر للإِسلام للنهج السويّ الأقومِ أنا مؤمن بالنصر للإِيمان للوعي الأبيّ السلمِ * * * أنا مؤمن بالزاحف المهدار يجتاح الحنايا أنا مؤمن بالحقّ بالإِعصار يعصف بالشّظايا أنا مؤمن بالصبر يهزأ بالخطوب وبالرزايا أنا مؤمن بالحق يصرع باطلاً ظلم الرعايا أنا مؤمن بالمجد نزرع دربه أبداً ضحايا بكتيبة التوحيد يسطع نورها بين البرايا علويّة المنهاج ربانيّة يا للمزايا أنا مؤمن وتموج في الأعماق دنيا من رؤايا فتفجر القمم الظماء دورب مجدٍ أو منايا وتثور بالشعل الوضاء فيستقي منها غنايا والآخرون تنكّروا للنور وانتظموا (مطايا) للشرق أو للغرب يا للعار ويل للمطايا راموا انطفاء النور نور الله سحقاً للنوايا

هذا لهيب الشِّعر يحرق زيفها يا للشظايا سحقت ضلال الملحدين وأخرست صوت الدنايا أنا مؤمن بالحق نزرع دربه أبداً ضحايا * * * أنا مؤمن بالزاحف الوضاء عبر الكوّةِ أنا مؤمن بالحق بالنصر المبين لدعوتي وبحسب أفئدة تموج بلهفة لله طهر اللهفةِ وبحسب أفئدة بنجواها لرب الناس أعظم نشوة وبحسب أفئدة وعَت معنى الفدا والعزّةِ وبحسب أفئدة رأت في السجن أصدق خلوةِ فبحسبها الوضاء يزحف رغم أنف الظلمةِ ليمزّق الطغيان شرّ ممزّق بالحقّ يا للقوّةِ ويزفّها للأمّة الظمأى شفاء الغلّةِ سنعيدها غرّاء إِسلامية يا أمّتي لا الشرق تعرفه ولا الغرب اللئيم الشّرةِ أنا مؤمن يا أمة الإِسلام تملأ مهجتي نبضات أمجاد توحّد خافقي للكعبةِ

وتبثّ في الوجدان والأعماق أطهر نفحةِ فتفيض في الأصداء والأشعار أطهر نغمةِ بشريعة القرآن تحكم رغم أنف الشهوة سنعيدها غرّاء إِسلاميّة يا إِخوتي أنا مؤمن بالفجر يزحف رغم أنف الظلمةِ بالغد بالفجر المضيء بفجر هذي الدعوةِ بشريعة القرآن تحكم رغم أنف الثورةِ * * * جمعنا الله في مستقر رحمته إخواناً على سرر متقابلين، آمين آمين آمين! * * *

الهجرة إلى الحبشة

الهجرة إلى الحبشة

الهجرة إلى الحبشة • أول هجرة في الإِسلام • السابقون إلى الإِسلام • مكانة السابقين • غيظ قريش وحنقها • إشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة • هجرة تبليغ الرسالة • البعد عن مواطن الفتنة • البعد عن إثارة المعوقات في طريق الرسالة • تخفيف الأزمات النفسية • إفساح طريق التبليغ • سجل المهاجرين • حكمة سياسة الاستسرار • سفارة المشركين إلى النجاشي • سياسة تبليغ الدعوة • إخفاق سفارة المشركين • تملك النجاشي على الحبشة • إسلام النجاشي • عالميّة الدعوة الإِسلاميّة • مكانة المرأة المسلمة • عودة المهاجرين إلى المدينة • هجرة مواجهة واختبار

أول هجرة في الإسلام

الهجرة إلى الحبشة أول هجرة في الإِسلام: سبق أن عرفنا كيف كانت الحياة في مكّة جهاداً للنفس، وصبراً على الأذى .. ومع ذلك مضت الدعوة إلى الله تشقّ طريقها الصعب، بين قبائل قريش رجالاً ونساءً، وقريش تحبس من قدرت على حبسه. وتعذّب من استطاعت تعذيبه! ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سنتين من الجهر بالدعوة أن الجاهليّة ماضية في عنفها واضطهادها وتعذيبها، مصمّمة على استخدام كل أسلوب لوقف الدعوة الإِسلاميّة، وهي بعد في المهد! وهنا أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمنح المضطهدين فترةً من الوقت، يستردّون فيها أنفاسهم، ويعودون ثانيةً إلى ساحة الصراع وهم أقدر وأصلب .. وعسى الله أن يجعل بعد عسر يسراً، فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة! روى ابن إسحاق وغيره (¬1): فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يُصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 397 معلقاً، والبيهقي: الدلائل: 2: 283 من طريق موسى بن عقبة، ولم يسمّ من حدثه، والطبري: التاريخ من طريق ابن إسحاق: 2: 230 - 331 قال الذهبي: السيرة: ورواه يحيى بن أبي طالب عن بشار عن عبد الله بن إدريس، ثنا ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن وعروة وعبد الله بن أبي بكر وصل الحديث عن أبي بكر عن أم سلمة قالت: وذكر الحديث، قال البغوي: تاسع المخلصيات: وروى ابن عوف عن عمير بن إسحاق عن عمرو بن العاص بعض هذا الحديث: السيرة للذهبي: 183 - 184 فيكون صحيحاً بالسند الذي ذكره الذهبي!

السابقون إلى الإسلام

وأنه لا يقدر على أن يمنعهم ممّا هم فيه من البلاء، قال لهم: "لو خرجتم إِلى أرض الحبشة، فإِن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه" فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إِلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإِسلام! ويروي أحمد عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً، قال في المواهب اللدنية: ثم أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في الهجرة إِلى الحبشة، وذلك في رجب سنة خمس من النبوة" (¬1). وهذا موافق لقول ابن إسحاق من أن وقوع الهجرة الأولى قبل المقاطعة وذلك خلافاً لموسى بن عقبة! (¬2). السابقون إلى الإِسلام: ومعلوم أن السابقين إلى الإِسلام من الأوّلين، لم يكونوا كلّهم ولا أكثرهم من الضعفاء والأرقّاء والفقراء، وحواشي بيوتات مكّة، وأتباعها الملتقطين فتات موائدها -كما شُهر ذلك على ألسنة وأقلام السطحيّين من الباحثين- بل كانوا في كثرتهم الكاثرة من صميم أبناء بيوت قريش وبطونها، وعِلْيَة شبابها! (¬3) وهم معروفون بأسمائهم وأنسابهم، وبيوتهم وقبائلهم، فما شُهر من أن ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 188، والفتح الرباني: 20: 225. (¬2) انظر: ابن هشام: 1: 430، وابن كثير: البداية: 3: 74. (¬3) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 5 وما بعدها بتصرف.

الذين سبقوا إلى الإيمان بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومتابعته على دينه، وتصديق رسالته، كانوا الأرقّاء والموالي، والمستضعفين والمحرومين كلام لا تحقيق فيه، فلا يصحّ أن يؤخذ على إطلاقه -اغتراراً بما فيه من بريق مناصرة الإِسلام للضعفاء، وتخليص الأرقّاء من رق العبوديّة الظالمة، وتحرير الفقراء من أغلال الاستغلال الاجتماعيّ الجائر- تأثراً بالمذاهب الاجتماعيّة الضالة الفاسدة التي غرّرت بطوائف الشّعب الغرّيرة الكادحة تحت اسم (العمال والمحرومين)، وأقاموا على دعائم هذا التغرير الخبيث الماكر الثورات الاجتماعيّة الخادعة الشرّيرة المفسدة الملحدة، متمثّلةً في الشيوعيّة الفاجرة التي تسوق الشعوب بسياط من بشاعة القسوة والعذاب الذي لا يطاق! فهذا وإن كان في واقع الإِسلام ومبادئه وشرائعه التي أنزلها الله لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، ونصرة المظلوم، وإتاحة العيش الكريم لكل إنسان على أرض الله، ولكنه ليس هو واقع السابقين الأوّلين من طلائع المؤمنين بدعوة الإِسلام الذين أسلموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستجابوا له أوّل من استجاب لدعوته، فكانوا أوّل من آمن برسالته واهتدوا بهديه، وكانوا اللبنات الأولى في بناء صرح هذا (الدين القيّم) دين الإِسلام! وليس هو واقع الإِسلام في هدايته العامّة التي جاءت لهداية الإنسانيّة كلها، وتحريرها من ربقة الشرك والوثنيّة، وإدخالها في حظيرة التوحيد وإفراد الله تعالى بالعبوديّة الخالصة، وتخليصها من ذلّ الظلم الاجتماعيّ الذي فرضه عليها حفنة من الطغاة الظالمين، فساقوها بسياط الظلم إلى مهاوي العبوديّة لهم، ولما في أيديهم من حطام الدنيا! فهذا رأي -على شهرته- مدخول، وضعه من يريد أن يقول إن الإِسلام

مكانة السابقين

يتملّق الضعفاء والأرقّاء والمحرومين، ليستنصر بهم في نشر دعوته، ويخلّصهم من الاستعباد الاجتماعي، فكانوا أسرع استجابة لدعوته، وأشدّ إقبالاً على اعتناقه! فلا يصح أن يغفل الذين يكتبون عن صدارة الإِسلام وطلائعه عن لهذه الدخيلة المغلّفة بالبريق في هذا الرأي، ولا يصح أن نُسلّم لقائلها إلا بعد النظر فيها نظرةً فاحصةً، تتبيّن بها دوافعه الاجتماعيّة، وعوامله السياسيّة في سير الدعوة، مما أدى بكثير من كتاب السيرة النبوية قديماً وحديثاً إلى الإيمان بهذه القضيّة المشهّرة، التي يردّها واقع التاريخ، وحقائق الأحداث التي احتفت بها! مكانة السابقين: بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى العالمين، وأمره بالإنذار العام -كما عرفنا- في قوله جلّ شأنه: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (المدثر). فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربّه، لا يُبالي بما يلقاه من شديد الأذى، وفادح البلاء، لا يتّقي أحداً من الناس! ورأى - صلى الله عليه وسلم - بتسديد الله وتوفيقه، وحكمة توجيه دعوته في سيرها، وتبليغ رسالته -كما أسلفنا- أن لا يبادي قومه بعداوة، وأن لا يُعلن إليهم دعوته في أول خطواتها، وهو وحيد منفرد في قومه، ليس معه من ينصره منهم، ولا من غيرهم، وهم جميعاً، ومن ورائهم سائر العرب، بل سائر الدنيا، إلْبٌ على هذه الدعوة الهادية الراشدة، التي تعيب وثنيّتهم، وتَنْعَى عليهم شركهم، وتسفّه أحلامهم .. وتندّد بحياتهم الماديّة الظالمة التي يحبّونها، دون رادع

غيظ قريش وحنقها

يردعهم عن فجور ظلم يرتكبونه، أو عتوّ بغي يأتونه، حيث لا قانون ولا دين، ولا نظام ولا ضمير! ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماض في دعوته، لا يصدّه عنها صادّ، ولا يردّه عن سبيلها رادّ، فاستجاب له أوّل من استجاب -بعد زوجه النجيبة الأريبة الحسيبة النسيبة، سيّدة قومها، وسيّدة نساء العالمين إسلاماً، السيّدة خديجة بنت خويلد الأسديّة القرشيّة- أبو بكر الصدّيق، الحليم العليم، أعلم قريش بقريش وأحسابها ومفاخر بطونها، المؤثل ثراء، المؤمّل نجدةً، صاحب حمائل قريش، وأثقالها في دياتها، وما ينوبها في منافراتها، الذي لا يردّ قوله عندها، ولا تخذله إذا تحمّل! كان أبو بكر - رضي الله عنه - دخل في الإِسلام قوّاماً بالدعوة إلى الله، ما دعا أحداً إلا استجاب له، وما كان يدعو إلا من يستجيب له من أبناء قمم قريش، وذرا أحسابها، وشباب بيوتها! غيظ قريش وحنقها: واتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار الأرقم في أصل الصفا -كما سبق- دار دعوته، ومعهد تلقّي رسالته، جعلها مجمع السابقين إلى الإيمان من أصحابه، وأقبل عليه أهل الصّدق من شباب قريش، وغير قريش، مؤمنين بدعوته، متّبعين له في دينه، مصدّقين برسالته، مهتدين بهديه، أعزّةً في قومهم، كرماء على أنفسهم، وكثروا وتكاثروا، وهم مستخفون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشعرت قريش بهم وبخطرهم عليها وعلى حياتها الجاهليّة، ومادت الأرض تحت أقدامها، والتفت رجال كل بيت في قريش إلى أنفسهم وأسرهم، وأبنائهم

إشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة

وإخوتهم، فإذا بهم يرون أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد اجتذب منهم زهرات شبابهم، ومصدر قوّتهم، وعدّة مستقبلهم، فهم عنده ومعه مسلمون، مؤمنون، واعتنقوا عقيدته، عقيدة التوحيد، وهجروا آلهة آبائهم وأسلافهم .. وأصبحوا جند دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتائب رسالته، ودخلوا معه بشظف العيش، ويبس الحياة وفقرها، بعد الترف والمتعة في بيوتهم بين أهليهم، وفارقوا المال والولد، والإخوة والآباء .. وتبدّلوا بهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. لا يخالفون عن أمره، يلحظون مواضع إشارته، ويرمقون نظراته، ويتأدّبون بأدبه، يحبّونه أكثر مما يحبّون أنفسهم، لا يتردّدون في تحقيق رغبة من رغباته، ولو كانت فيها حياة أحدهم، فكانوا منه ومعه، بما لم يكونوا به من أمهّاتهم وآبائهم، ومع أولادهم! وطارت عقول قريش شعاعاً من أدمغتها؛ إذ تمثّلوا هذا في واقعهم، ودارت أفئدتهم في حنايا أضلعهم، وتنفّسوا الصعداء غمًّا وهمًّا وكمداً، وما يغني غمّ الدنيا وهمّها وكمدها شيئاً، فليركبوا رأس الشيطان فجوراً وعتواً، وبغياً وكفراً، وليفكتوا بكل ما يقدرون عليه من فلذات أكابدهم الذين تابعوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ولتذهب رحمة الأبوّة، وشفقة البنوَّة راغمةً تحت أقدام آلهتهم، لعلها ترضى عنهم! إشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة: وبدأت فوادح البلاء تتوالى على هؤلاء المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته .. وشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ينال أصحابه من شديد الأذى وقواصم البلاء .. وأنهم لن يستطيعوا أن يبلّغوا رسالات ربّهم إذا زجّوا بأنفسهم في مضايقات الإثارات،

هجرة تبليغ الرسالة

والتدافع والتقاتل، فليصبروا، وليصابروا، وليعفوا وليصفحوا، وليغضّوا الطرف عن سفاهة السفهاء، وليغمضوا الأعين علي قذى قسوة الآباء والأمّهات، حتى يقضي الله تعالى بالفرج! ولمعت بارقة الفرج من أفق الغيب، فإذا بها آية من آيات الله لنشر رسالته العامّة الخالدة، في أرض غير أرض العتوّ والجبروت، بطريقة لا تلتزم خطة التبليغ في أرض العتوّ والجبروت! هجرة تبليغ الرسالة: فليبق ملأ قريش على كفره وعتوّه، وفجوره وبغيه، ولتبق -إلى حين- قريش كلها في (مكّة) مطموسة البصيرة، منقادة بسلطان ملئها من الطغاة الذين لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وليخرج المصطفون لتلقّي آية الفرج، إلى حيث يأمنون على أنفسهم الفتنة في دينهم، يعبدون ربّهم في غير خوف ولا إزعاج، ويبلّغون رسالته بلاغاً ترسم له العناية الإلهيّة طريقه في غير إثارة ولا استفزاز، فلا فرار، ولا هرب، ولكنها نقلة يؤدّى فيها حق الدعوة بصورة من صور تبليغ الرسالة، فلتتصوّرها قريش ومن والاها فراراً وهرباً، وليتصوّرها أصحاب العقول السطحيّة الذين لا يتعمّقون الأحداث، ولا يأخذون في حسابهم النتائج مرتبطةً بالمقدّمات، ولكنهم ينظرون إلى الوقائع فرادى، منقطعة الصلات بين مباديها ونهاياتها، هجرة لمجرّد الراحة من مسّ الأذى ومرّ العذاب، هجرة للأمن والسلام! والراحةُ والأمنُ قد يكونان مقصودين، ولكن قصدهما لا يمنع أن يؤاخيهما في القصد أساس الإيمان بالدعوة، بل لا يمنع أن يكون الأمن والراحة مقصودين

البعد عن مواطن الفتنة

تبعاً لأساس الإيمان بالدعوة، وهو تبليغها بصورة توائم الجوّ الجديد الذي تتنسّمه الدعوة في رياحين حملتها! وهل يستطيع من وجد الراحة والأمن وبيده دعوة تكلفه أن لا يختزنها لنفسه، وأن يبلّغها لكل من يستطيع إبلاغها له، أن يقعد دون قيامه بحق هذا التبليغ إذا سنحت له الفرصة، في غير إزعاج أو إثارة لمن آووه، وأمّنوه، وأراحوه؟ إن المؤمنين الذين هاجروا إلى الله، منتقلين من (مكّة) إلى الحبشة، يحملون في أفئدتهم آيات دعوتهم إلى الله -ويحملون معها دلائل حقّها عليهم في تبليغها، أينما وجدوا من أرض الله، فكيف إذا كانت هذه الأرض التي آوَوْا إليها أرض صدق وأمن، لا يجدون فيها ظلماً يزعجهم، ولا عداوة ترعبهم، ولا نفوساً تكره دعوتهم وتناهضها؟ إنهم حينئذ يكونون مسؤولين عن تبليغ هذه الدعوة، كلما وجدوا مجال التبليغ مهيّئاً لكلمتهم كلمة الحق والخير. يجهرون بها في غير عنت لأحد، ولا إثارة للمزعجات، وهم آمنون مطمئنون! وكذلك كانت الأرض التي وجّههم إلى الهجرة إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله السابق، وهو يرى ما يصبّ عليهم من البلاء: "لو خرجتم إِلى أرض الحبشة، فإِن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه". البعد عن مواطن الفتنة: وهنا نبصر البعد عن مواطن الفتنة في الدّين للذين لا يستطيعون ردّ الاعتداء تمسّكاً بعرى الصبر، إلى أن تتمكّن الدعوة من توطيد أقدامها في السير إلى

البعد عن إثارة المعوقات في طريق الرسالة

غايتها قويّة منتصفةً، فهي هجرة إلى عودة، ونقلة إلى رجعة، ومخرج من ضيق إلى فرج! البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة: ونبصر البعد عن إثارة العوّقات في طريق سير الرسالة، وتبليغ دعوتها؛ لأن المؤمنين المهاجرين كانوا في كثرتهم من شباب قريش خاصّة، وشباب قبائل العرب عامّةً، تملؤهم النّخوة والحميّة والأنفة من الرضا بالضّيم، والاستسلام للظلم، وربما نفد صبرهم، وضاقت أنفسهم مما يلقونه من جَوْر واستبداد بهم، فتدفعهم طبيعتهم البشريّة، وحميَّتهم العربيّة، إلى مقاومة الظلم، وردّ الاعتداء، كما وقع في قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، فيما قال ابن إسحاق: (¬1) وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلّوا ذهبوا في الشّعاب فاسْتَخْفَوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعْبٍ من شعاب مكّة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون، فناكَروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون، حتّى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحْي (¬2) بعير فشجّه، فكان أوّل دم أهريق في الإِسلام! فلو تكرّر ذلك (¬3) -وفي المسلمين كثرة من أمثال سعد حميّة وأنفة- لكان ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 326. (¬2) اللحي: العظم الذي على الخد، وهو من الإنسان العظم الذي تنبت عليه اللحية. (¬3) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 11 بتصرف.

تخفيف الأزمات النفسية

فيهم شغل شاغل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأصحابه عن السير بالدعوة في طريق التبليغ، بعيدة عن المعوّقات. ولكان فيه مصادمة لحكمة الاستسرار بالدعوة، لتجتذب إلى ساحاتها أصحاب القلوب الواعية، والعقول السليمة، الذين تتكون منهم كتائبها، عندما تسنح الفرصة لظهورها والجهر بها، وهي قويّة الشكيمة، ثابتة الدعائم، وطيدة الأركان! تخفيف الأزمات النفسيّة: ونبصر تخفيف الأزمات النفسيّة التي كانت -لو استمرّ المهاجرون في إبقائهم بمكّة، لم يهاجروا- تضيف أعباء جديدة إلى الأعباء التي يتحملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلقي الوحي برسالته، وحمل أمانة تبليغها والإنذار بها، وهو - صلى الله عليه وسلم - يرى أصحابه رضي الله عنهم يُؤذَوْن أشدّ الأذى، ويعذّبون أقسى العذاب، ولا يستطيع منعهم وحمايتهم مما يلاقون، دون أن يؤذن لهم -كما أسلفنا- في رد الاعتداء! إفساح طريق التبليغ: ونبصر إفساح المجال أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسير بالدعوة قدُماً في طريق التبليغ، ولا شك أن هجرة من هاجر من المسلمين كان فيها هذا الإفساح الذي يخفّف من الأعباء النفسيّة التي تشغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتفكّر في أمرهم، وهم يتعرضون للفتنة في دينهم بما ينالهم في أنفسهم من شديد الأذى، وفادح البلاء! والذين يقرؤون أسماء من هاجر إلى الحبشة أوّلاً وثانياً، يعرفون أنسابهم وبيوتهم، وأحوالهم الاجتماعيّة، ومكانتهم في أقوامهم، يعلم علم اليقين أن

سجل المهاجرين

هجرتهم أرفع من أن تكون لمجرد الفرار من الأذى، أو لمجرد الهرب ممّا يلقون من البلاء .. وإنما كانت هجرة قوم آمنوا بالله ربًّا، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، فأوذوا بما لا طاقة لبشر على احتماله، ولم يجدوا للدفاع عن أنفسهم سبيلاً؛ لأنه لم يؤذن لهم في ردّ الاعتداء بل أُمروا بالصبر والصفح، لا عجزاً ولا ضعفاً، ولكن حكمة تدبير، وسياسة تقدير! وحسبنا في البرهنة على أن الذين هاجروا إلى الحبشة، أوّلاً، وثانياً، كانوا من أعزّ بيوت العرب وقبائلها -قريش فمن دونها- ليس فيهم ضعيف أو مستضعف، ولا مولى، ولا تبع، والقلة التي لم تكن بهذه المثابة نسباً وعصبيّة، كانت منها حلفاً، وحليف القوم منهم نجدة وحماية! سجل المهاجرين: قال ابن إسحاق (¬1): وكان أول من خرج من المسلمين من بني أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف (عثمان بن عفان ومعه امرأته رقيّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). ثم ذكر ابن إسحاق سجلاً مسهباً مفصّلاً بأسماء وأنساب جميع المهاجرين إلى الحبشة، في مرّيتها: الأولى، والثانية، وكانوا سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين رجلاً، أكثرهم قرشيّون من طلائع بيوتها وأشراف بطونها! فهل من المعقول أن يخرج هذا العدد العظيم من الرجال، ذوي الأنفة والحميّة عن بلادهم، وأهليهم وعشائرهم، تاركين ديارهم وأموالهم وأولادهم، لمجرد الفرار والهرب من وجوه المشركين؟ ¬

_ (¬1) ابن هشام: 1: 398 وما بعدها، وانظر سبل الهدى والرشاد: 2: 485.

حكمة سياسة الاستسرار

أفما كان هذا العدد الكثير بمستطيع أن يتجمع أفراده، ويقفوا في وجه العدوان عليهم، ويردّوه عنهم بقوّة القتال خفيةً وعلانية؟ نعم، إنهم بالقياس إلى أعدائهم قلة عدديّة، وكان أقوامهم وعشائرهم يأخذونهم فرادى، يعذّب كل قوم من يسلم منهم، لكن هؤلاء المؤمنين كانوا مستطيعين -لو أرادوا- أن يكيدوا لأعدائهم، ويجمعوا أمرهم، للدفاع عن أنفسهم، ويغتالوا الكثير من رؤوسهم، ولو واجههم أعداؤهم في قتال لنالوا منهم، وساجلوهم، وانتصفوا، وفي الوقائع الجزئية ما يؤيّد ذلك، وقد أشرنا إلى قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، وذكرنا غيرها من الحوادث التي استبسل فيها المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم! حكمة سياسة الاستسرار: وهذا كله يؤيد أن سياسة الحكمة التي سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوفيق الله في استسراره بالدعوة، وهي مشرقة في أفق الحياة، كانت سياسة حكيمة محكمة، أثمرت ثمراتها في تجميع قوّة من المؤمنين الراسخين في إيمانهم، الصادقين في يقينهم، الذين تولاّهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوّل ما تولّى بالتربية والتوجيه، حتى فشا الإِسلام في مكّة، وتسامع به الناس في أنديتهم ومحافلهم، وبدأت قريش -وهي سيّدة مكّة- تحس بخطر هذه القوّة يدخل عليها في بيوتها، ويجتذب منها شبابها، ويأخذ بحلاقيمها، فشنت على المؤمنين حرباً خسيسةً، لا مواجهة فيها! ووقف المؤمنون من هذه الحرب الفاجرة موقف الصبر والاحتمال، بل موقف الصفح والعفو والإجمال، مما أدّى أو كاد يؤدي إلى تجميد حركة الدعوة وإبلاغ الرسالة!

سفارة المشركين إلى النجاشي

وفي نفوس المؤمنين قوى تتفاعل مكتومة مكبوتة، يراها رسول - صلى الله عليه وسلم -، ويرى آثارها مرسومةً على وجوه أصحابه، وهم من الشباب المفعم حماسةً وقوةً وحركةً، وتحفّزاً لردّ الاعتداء، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن له بالمقاومة وردّ الاعتداء بالقتال، فكان من أحكم التدبير، وحكمة السياسة أن يفتح - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه باب الهجرة، حتى يجدوا لأنفسهم متنفّساً في حركاتهم وهم آمنون على أنفسهم، يعبدون ربّهم وهم مطمئنّون، لا يهيجهم أمر، ولا يفزعهم شيء! سفارة المشركين إلى النجاشي: وقد عزّ على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم (¬1)، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إِن نفراً من بني عمّنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنّا وعن ملّتنا، قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك، فابعث إِليهم، فبعث إِليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه، فسلّم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إِنا لا نسجد إِلا لله عَزَّ وَجَلَّ، قال: وما ذاك؟ قال: إِن الله بعث إِلينا رسولاً، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إِلا لله عَزَّ وَجَلَّ، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو: فإِنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، قال: فما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه؟ قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إِلى العذراء البتول، التي لم يمسّها بشر، ولم يفرضها ولد، قال: فرفع عوداً من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة والقسّيسين والرهبان، والله! ما يزيدون على الذي نقول: ما سوى هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه ¬

_ (¬1) الهجرة النبويّة ودورها في بناء المجتمع الإِسلامي 92 ط ثانية.

سياسية تبليغ الدعوة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه الذي نجد في الإِنجيل، وأنه الرسول الذي بشّر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله! لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه، وأمر بهديّة الآخرين فردّت إِليهما .. هذا ما رواه أحمد وابن كثير بإسناد جيد قوي وسياق حسن! (¬1) وسيأتي تفصيل ذلك في حديث أم سلمة رضي الله عنها! سياسية تبليغ الدعوة: ولا شك أن هذا لون من ألوان السياسة في تبليغ الدعوة، بدأ هادئاً هامساً، فلمّا حُرّك تحرّك معبراً أصدق تعبير عن هداية الإِسلام في أعظم محفل من محافل الحوار، الذي هيّأ الله له أسبابه وعوامله ودوافعه، ونصب له معالمه، وأقام منائره، وقد اقتضى هذا الحوار من المسلمين المهاجرين في أعظم فرصة سانحة أن يعرضوا رسالة نبيّهم - صلى الله عليه وسلم - وحقيقة دينهم عرضاً حرًّا، أكمل ما تكون الحريّة، صادقاً أبلغ ما يكون الصدق، يعقده ويشهده ملك البلاد التي آوتهم، ويحضره معه بطارقتها وأهل العلم فيها، ويحضره ذوو رأيها ووجوهها، ويحضره راغميْنِ رسولا قريش إلى النجاشي ملك الحبشة، ليردّ عليها هؤلاء المهاجرين، فيسمع هذا الحشد الحافل في صراحة وقوّة صوت الإِسلام، يعلن عن حقيقته، ويشرح دعوته، ويبلّغ رسالته، فيؤمن الملك إيماناً يبخع به بأو الغرور، ويبطّ دمل الحقد في أنفس قريش ورسوليْها إلى النجاشي .. ¬

_ (¬1) السابق، والفتح الرباني: 20 - 224 - 226، وابن كثير: البداية: 3: 69.

إخفاق سفارة المشركين

إخفاق سفارة المشركين: وروى أحمد وغيره بسند حسن عن أم سلمة ابنة أبي أميّة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لمَّا نزلنا بأرض الحبشة، جاورنا بها خير جار، النجاشيّ، أمِنّا على ديننا، وعبدْنا الله لا نُؤذَى، ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلمّا بلغ ذلك قريشاً، ائْتَمَرُوا أن يبعثوا إِلى النجاشيّ فينا رجلين جلْدَين، وأن يُهْدُوا للنجاشيّ هدايا مما يستطرف من متاع مكّة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إِليه الأَدَم، فجمعوا له أدَماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إِلا أهْدَوْا له هديّةً، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السّهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إِلى كلّ بطريق هديّته قبل أن تكلّموا النجاشيّ فيهم، ثم قدّموا للنجاشيّ هداياه، ثم سلوه أن يُسلمهم إِليكم قبل أن يكلّمهم! قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير داره وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إِلا دفعا إِليه هديّته قبل أن يكلّما النجاشيّ، ثم قالا لكل بطريق منهم: إِنه قد صَبَا إِلى بلد الملك منّا غلمانٌ سفهاءُ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إِلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردَّهم إِليهم، فإِذا كلّمْنا الملك فيهم، فتُشيروا عليه بأن يسْلمهم إِلينا، ولا يكلِّمهم، فإِن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم!

ثم إِنهما قرّبا هداياهم إِلى النجاشيّ فقبلها منهما، ثم كلّماه، فقالا له: أيها الملك، إِنه قد صبا إِلى بلدك منا غلمان سفهاءُ، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثَنَا إِليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردَّهم إِليهم، فهم أعلى بهم عَيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبْغض إِلى عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص، من أن يسمع النجاشيّ كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صَدَقوا أيّها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمْهم إِليهما، فليرُدّاهُم إِلى بلادهم وقومهم، فقالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا هَيْم (¬1) الله إِذاً لا أُسلمهم إِليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهُم ما يقول هذان في أمرهم، فإِن كانوا كما يقولان، أسْلَمتهم إِليهما وردَدْتُهم إِلى قومهم، وإِن كانوا على غير ذلك، مَنعْتُهم منهما، وأحسنْتُ جوارهم ما جاوروني! قالت: ثم أرسل إِلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلمّا جاءهم رسوله، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إِذ اجئتموه؟ قالوا: نقول والله! ما علمنا، وما أمرنا به نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -، كائنٌ في ذلك ما هو ¬

_ (¬1) قال في اللسان: العرب تقول: ايم الله وهيم الله، الأصل: ايمن الله، وقلبت الهمزة هاء، فقيل: هيم الله، وقال الجوهري وأيمن الله: اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون، وألفه ألف وصل عند أكثر النحويّين، وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: ايْمُنُ الله قسمي .. وفي رواية ابن إسحاق عند ابن هشام: لاها الله إذاً. قال الجوهري: الصحاح: (ها) للتنبيه، وقد يقسم بها، يقال: لاها الله ما فعلت كذا .. انظر أحمد: 3: 264 - 265 مؤسسة الرسالة.

كائن، فلما جاءوه، وقد دعا النجاشيّ أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم، فقال: ما هذا الدّين الذي فارقْتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحدٍ من هذه الأمم؟! قالت: فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك، حتى بعث الله إِلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافَه، فدعانا إِلى الله لنوحِّده ونعبَده، ونخلَعَ ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان! وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة! وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدّد عليه أمور الإِسلام- فصدّقناه، وأمنّا به، واتبعناه على ما جاء به! فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلّ لنا، فَعَدَا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليرُدُّونا إِلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنا نستحلّ من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إِلى بلدك، واخترناك على مَن سواك، ورغِبنا في جوارك، ورجَوْنا أن لا نُظْلم عندك أيّها الملك!

قالت: فقال له النجاشيّ: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نَعَم، فقال له النجاشي: فاقْرَأْ عليّ، فقرأ عليه صدْراً من {كهيعص} قالت: فبكى، والله! النجاشيّ حتى أخضل لْحيته، وبكتْ أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال له النجاشي: إِن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله! لا أسلمهم إِليكم أبداً، ولا أكاد! قالت أم سلمة: فلمّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله! لأنبئنّه غداً عَيْبَهم عنده، ثم أستأصِل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله ابن أبي ربيعة، وكان أتْقَى الرجلين فينا: لا تفعل، فإِن لهم أرحاماً، وإِن كانوا قد خالفونا، قال: والله! لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدًا عليه الغد، فقال له: أيّها الملك: إِنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأَرْسِلْ إِليهم فاسألهُمْ عما يقولون فيه، قالت: فأرسَل إِليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إِذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله! فيه ما قال الله وما جاء به نبيّنا، كائناً في ذلك ما هو كائن، فلمّا دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبيّنا: هو عبد الله ورسوله ورُوحه، وكلمته ألقاها إِلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشيّ يده إِلى الأرض، فأخذ منها غوداً، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العُودَ. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإِن نَخَرْتُم والله! اذهبوا فأنتم سيومٌ بأرضي (والسُّيُوم: الآمنون) هَنْ سَبَّكُم غُرِّمَ، ثم من سبّكم

غُرِّم، ثم من سبّكم غُرِّم، فما أحِبُّ أن لي دبْراً ذهباً وإِنِّي آذيت رجلاً منكم (والدّبر بلسان الحبشة: الجبل) رُدّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله! ما أخذ الله منّي الرِّشْوة حين رَدَّ عليّ مُلكي، فآخُذَ الرَّشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه، قالت فخرجا من عنده مقْبوحين، مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار! قالت: فوالله! إِنا على ذلك إِذْ نَزَل به، يعني من يُنازعه في حُكمه، قالت: فوالله! ما علمنا حُزْناً قطّ كان أشدَّ من حُزن حَزِنّاه، عند ذلك، تخوّفاً أن يظهر ذلك على النجاشيّ، فيأتي رجل لا يعرف من حَقّنا ما كان النجاشيّ يعرف منه، قالت: وسار النجاشيّ وبينهما عرْض النّيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ رجلٌ يخرج حتى يحضر وقعة القوم، ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزّبير بن العوام: أنا، قال: وكان من أحدث القوم سِناً، قالت: فنفخوا له قِربةً، فجعلها في صدره، ثم سَبَح عليها، حتى خرج إِلى ناحية النيّل التي بها مَلْتَقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعوْنا الله للنجاشيّ بالظّهور على عدوّه، والتمكين له في بلاده، واستَوْسَق عليه أمر الحبشة، فكنّا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة (¬1). ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 202 بسند حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين، غير محمد بن إسحاق، فقد روى له مسلم متابعة، وهو صدوق حسن الحديث، إلا أنه مدلس وقد صرح هنا بالتحديث. وابن هشام: 1: 357 - 362، وأبو نعيم: الدلائل: 2: 301 - 304 من طريق يونس ابن بكير. وقسماً منه الطبراني (1479)، وقوله: (هو روح الله وكلمته) قال السهيلي: كلمته: أي قال له كما قال لآدم حين خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون، ولم يقل: فكان، لئلا يتوهّم وقوع الفعل بعد القول بيسير، وإنما هو واقع للحال، فقوله: (فيكون) مشعراً بوقوع =

تملك النجاشي على الحبشة

تملك النجاشيّ على الحبشة: ونجد أنفسنا أمام قول ابن إسحاق: قال الزهري: فحدّثتُ عروة بن الزبير حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هل تدري ما قوله: ما أخذ الله منّي الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟ قال: قلت: لا، قال: فإِن عائشة أم المؤمنين حدّثتني أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إِلا النجاشي، وكان للنجاشيّ عمّ، له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشيّ وملّكنا أخاه، فإِنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإِن لأخيه من صلبه اثني عشر رجلاً، فتوارثوا ملكه من بعده، بقيت الحبشة بعده دهراً، فغدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حيناً! ونشأ النجاشي مع عمه، وكان ليباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه، ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله! لقد غلب هذا الفتى على أمر عمّه، وإِنا لنتخوّف أن يملّكه علينا، وإِن ملّكه علينا لقتلنا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه، فمشوا إِلى عمّه فقالوا: إِمّا أن تقتل هذا الفتى وإِمّا أن تخرجه من بين أظهرنا، فإِنّا قد ¬

_ = الفعل في حال القول، وتوجه الفعل بيسير على القول، لا يمكن مستقدم ولا مستأخر، فهذا معنى الكلمة، وأما روح الله، فإنه نفخة روح القدس في حبيب الطهارة المقدّسة، والقدس: الطهارة من كل ما يشين أو يعيب أو تقذره نفس، أو يكرهه شرع، وجبريل -عليه السلام- روح القدس؛ لأنه روح ولم يخلق من منيّ، ولا صدر عن شهوة، وعيسى عليه السلام روح الله على هذا المعنى!

خفنا على أنفسنا، قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم، قالت: فخرجوا به إِلى السوق، فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه في سفينة، فانطلق به، حتى إِذا كان العشيّ من ذلك اليوم، هاجت سحابة من سحائب الحريف، فخرج عمّه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، قالت: ففزع الحبشة إِلى ولده، فإِذا هو محمق (¬1)، ليس في ولده خير، فمرج (¬2) على الحبشة أمرهم! فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك، قال بعضهم لبعض: تعْلموا والله! أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم غدوةً، فإِن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه الآن، قالت: فخرجوا في طلبه، وطلب الرجل الذي باعوه منه، حتى أدركوه فأخذوه منه، ثم جاؤوا به، فعقدوا عليه التاج، وأقعدوه على سرير الملك، فملّكوه! فجاءهم التاجر الذي كانوا باعوه منه فقال: إِما أن تعطوني مالي، وإِما أن أكلّمه في ذلك؟ قالوا: لا نعطيك شيئاً، قال: إِذن والله! أكلّمه، قالوا: فدونك وإِيّاه، قالت: فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعتُ غلاماً من قوم بالسوق بستمائة درهم، فأسْلموا إِليّ غُلامي، وأخذوا دراهمي، حتى إِذا سرت بغلامي أدركوني، فأخذوا غلامي، ومنعوني دراهمي، قالت: فقال لهم النجاشي: لتعْطُنَّه دراهمه، أو ليضعَنّ غلامُه يده في يده، فليذهبن به حيث شاء، قالوا: بل نعطيه دراهمه، قالت: فلذلك يقول: ما أخذ الله منّي رشوة حين ردّ عليّ مُلكي، فآخذ الرشوة فيه، وما ¬

_ (¬1) المحمق: الذي يلد الحمقى. (¬2) أي قلق واختلط.

إسلام النجاشي

أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، قالت: وكان ذلك أول خبر من صلابته في دينه، وعدله في حُكمه! (¬1) إسلام النجاشي: ولعلّ من أسباب اختيار الحبشة أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر بن أبي طالب متصلاً بهذا الأمل .. وإذا كنا قد عرفنا في حديث أم سلمة في إخفاق المشركين، فإنا نذكر ما رواه الحاكم بسند صحيح عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننطلق إِلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا إِلى عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدايا، فقدمنا وقدموا على النجاشي، فأتوه بهدية، فقبّلها وسجدوا له! ثم قال عمرو بن العاص: إِن قوماً منّا قد رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك، فقال لهم النجاشي: في أرضي، قال: نعم، قال: فبعث إِلينا. فقال لنا جعفر: لا يتكلّم أحد، أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إِلى النجاشي، وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون من الرهبان جلوس سماطين (¬2)، فقال له عمرو وعمارة: إِنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا إِليه زبرنا من عنده من القسّيسين والرهبان: اسجدوا للملك. فقال جعفر: لا نسجد إِلا لله، فقال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إِن ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة: ابن هشام: 1: 418 - 420. (¬2) أي صفّين.

الله بعث فينا رسوله، وهو الرسول الذي بشّر به عيسى برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فأعجب الناس قوله، فلمّا رأى ذلك عمرو قال له: أصلح الله الملك، إِنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم، فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم، قال يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء، لم يقربها بشر، قال: فتناول النجاشي عوداً من الأرض، فرفعه فقال: يا معشر القسّيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزيد هذه! مرحباً بكم، وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولولا أنا ما فيه من الملك لأتيته، حتى أحمل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لهم بطعام وكسوة وقال: ردّوا على هذين هديتهم (¬1)! وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إِلى المصلّى فصفّ بهم وكبر أربعاً!. (¬2) ¬

_ (¬1) المستدرك: 2: 309 - 310 وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي! (¬2) البخاري: 23 - الجنائز (1245)، وانظر (1318، 1327، 1338، 1333، 3880، 3881)، ومسلم (951)، ومالك: 1: 226، وأحمد: 2: 438، 439، والشافعي: 1: 208، وأبو داود (3204)، والنسائي: 4: 69 - 70، 72، وابن الجارود (453)، والبيهقي: 4: 35، والمعرفة (2165)، والطحاوي: شرح معاني الآثار: 1: 495، والبغوي (1489)، وابن حبان (3068، 3098).

عالمية الدعوة الإسلامية

وتعددت الروايات فيمن كان رفيقاً لعمرو بن العاص في سفارة المشركين إلى النجاشي .. ونرى أنه يبعد أن يتكرر الحوار بصورته وموضوعه -كما أسلفنا- ولعلّ وحدة الحوار، تفيدنا أن الحوار كان مرّتين: إحداهما في الهجرة الأولى، والثانية في الهجرة الثانية، وأن سفارة المشركين الأولى كانت استطلاعاً وتعرّفاً .. وعلى كل، فهذا ما نراه في هذا المقام! هذا، وقصة إسلام النجاشي وغلبة وفد المسلمين على الكافرين عنده قصة واضحة الدلالة في أن الجاهليّة قد عقدت العزم على أن تمضي قدماً في عنفها واضطهادها وتعذيبها للمسلمين .. ولعل حادثة انتصار الأحباش لنصارى اليمن التي كانت حاضرةً في أذهان العرب كانت ذات تأثير في توجيه الهجرة إلى هذه البلاد، فالمسلمون يكسبون حليفاً قويًّا، والمشركون يقع في نفوسهم شيء من الخوف والتوجس والجنوح إلى الارعواء؛ بسبب توثّق الصلة بين المسلمين وهذا الحليف القوي! (¬1) عالميّة الدعوة الإِسلاميّة: وبمجرد إلقاء نظرة سريعة على عدد المهاجرين إلى الحبشة تتبدّى لنا سعة الدائرة البشريّة التي امتدت إليها الدعوة الإِسلاميّة؛ لكي تجذب إليها عناصر من شتّى القبائل المكيّة، وتجاوزت بذلك دائرة العصبيّة الضيّقة في طريقها الطبيعي صوب الاتساع والشمول، لتضم الأجناس والألوان. وهذا التنوع يقدّم دليلاً آخر على رفض الدافع المادّي للانتماء إلى الدعوة أو مقاومتها! ويطالعنا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! ¬

_ (¬1) الهجرة النبوية: 97 بتصرف.

مكانة المرأة المسلمة

وقوله جل شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (الأعراف)! وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} (سبأ)! إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عالميّة الدعوة الإِسلامية! ويروي الشيخان وغيرهما عن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيتُ خمساً لم يُعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيَّما رجلٍ من أُمتي أدركته الصلاة فلُيصَلِّ، وأحِلَّت لي الغنائمِ ولم تَحِل لأحد قبلي، وأُعْطيتُ الشفاعة، وكان النبيّ يبعث إِلى قومه خاصَّةَ وبعثتُ إِلى الناس عامَّةً" (¬1). مكانة المرأة المسلمة: ولا ننسى مكانة المرأة المسلمة التي تحمّلت أعباء الاضطهاد والهجرة مع الرجل المسلم في سبيل نصرة الحق الذي آمنت به .. ولا ننسى ما قامت به في هذه الهجرة وغيرها في السلم والحرب -كما سيأتي- وهنا يتبدّى لنا المدى الواسع الذي أفسحه (الدّين القيّم) للمرأة، وتتبدّى لنا المكانة العالية التي رفعها إليها! ¬

_ (¬1) البخاري: 7 - التيمم (335)، وانظر (438، 3122)، ومسلم (521)، وابن أبي شيبة 2: 402: 11: 432، والدارمي: 1: 322، وأحمد: 3: 304، وعبد بن حميد (1154)، والنسائي: 1: 209 - 211، 2: 56، وأبو عوانة: 1: 395، واللالكائي: أصول الاعتقاد (1438، 1439)، والبيهقي: 1: 212، 2: 329، 433، 6: 291، 9: 4، والدلائل: 5: 472 - 473، والبغوي (3616)، وابن حبان (6398).

عودة المهاجرين إلى المدينة

وباستثناء النفر من حلفاء قريش ونسائهم لا تذكر الروايات أسماء أرقّاء ومساكين في جملة المهاجرين، وتعليل ذلك يعود إلى أن ضغط زعماء قريش كان أكثر شدّةً على أبناء أسرهم؛ لأنهم تحّسبوا من عواقب إسلامهم بالنسبة لعامة الناس وسائر شباب الأسر، في حين أنه لم يكن ما يخشونه من مثل ذلك من المساكين والأرقاء والفقراء والغرباء، وهذه صورة مخالفة لما قد يكون في الأذهان! (¬1) عودة المهاجرين إلى المدينة: وظل معظم المهاجرين في أرض الحبشة إلى أن وافق قدوم جعفر بن أبي طالب، ومن معه من المهاجرين إلى الحبشة فتح خيبر! يروي الشيخان وغيرهما عن أبي بردة عن أبي موسى - رضي الله عنه -: بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إِليه: أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم: أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رُهم -إِمّا قال: في بضعٍ، وإِمّا قال: في ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي- فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إِلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعاً، فوافقْنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، وكان أناسٌ من الناس يقولون لنا -يعني لأهل السفينة- سبقناكم بالهجرة، ودخلتْ أسماء بنت عُميس -وهي ممن قدم معنا- على حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زائرةً. وقد كانت هاجرت إِلى النجاشيّ فيمن هاجر، فدخل عُمر على حفصة -وأسماء عندها- فقال عُمر حين رأى أسماء: مَنْ هذه؟ قالت: أسماء بنت عُميس، ¬

_ (¬1) دراسة في السيرة: 81 نقلاً عن: سيرة الرسول: 1: 272، وانظر: الهجرة النبوية: 98.

قال عُمر: آلحبشيّة هذه؟ آلبحريّة هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبَتْ وقالت: كلاّ والله، كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطعم جائِعكم، وَيعظُ جاهلكُمْ، وكنّا في دار -أو في أرض- الْبُعَدَاء البُغَضَاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وايم الله! لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً، حتّى أذكر ما قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن كنّا نُؤْذَى ونُخاف، وسأذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأله، والله لا أكذبُ ولا أزِيغُ ولا أزيدُ عليه! فلمّا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا نبيّ الله، إن عُمر قال كذا وكذا. قال: "فما قلت له"؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال: "ليس بأحقّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان" قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هُمْ به أفرح ولا أعظم في أنفسهم، ممّا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى، وإِنه ليستعيد هذا الحديث منّي. وتعدَّدت الروايات في ذلك. (¬1) وقد سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيّما سرور لمجيء هؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين .. هؤلاء الذين يعودون بعد هذه الفترة الطويلة، وأمر الإِسلام ¬

_ (¬1) البخاري: 64 - المغازي (4230، 4231)، ومسلم (2503)، وانظر: أحمد: 4: 395، 412، والطيالسي (526)، والحاكم: 3: 212، وانظر: البخاري: (3136، 3876، 4230، 4232).

هجرة مواجهة واختبار

يعلو، وسلطانه يمتدّ شمال شبه الجزيرة وجنوبها .. وعندما نزلوا بالمدينة قام الرسول مبتهجاً، وقال فيما يرويه الحاكم بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: لمَّا قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "ما أدري بأيّهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر" (¬1). وجعفر وإخوانه مكثوا في الحبشة بضعة عشر عاماً، نزل خلالها قرآن كثير، ودارت معارك شتّى مع الكفار، وتقلّب المسلمون قبل الهجرة النبويّة وبعدها في أطوار متباينة -كما سيأتي-، ولم يمض وقت على أولئك العائدين حتى اندمجوا في معارك القتال مع من سبقوهم، وقد أشركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغانم خيبر .. ففي رواية للبخاري عن أبي موسى - رضي الله عنه - من حديث طويل -كما سبق أن أشرنا في تعدّد الروايات .. - قال: فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر، فأسهم لنا- أو قال: فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إِلا لمن شهد معه، إِلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم! (¬2) هجرة مواجهة واختبار: تلك هي قصة الهجرة إلى الحبشة بإيجاز .. وتلك هي أهم نتائجها .. وهنا نلحظ أنها لم تكن هجرة استقرار لنشر الإِسلام، واتخاذ الحبشة منطلقاً جديداً لدعوة الإِسلام، وإنما كانت هجرة مؤقتة، هجرة إيواء وانتظار، وهجرة اكتشاف وترصّد .. وهجرة امتحان وانتظار .. وهجرة مواجهة بالفكرة .. وهجرة ¬

_ (¬1) المستدرك: 2: 624، وقال: صحح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. (¬2) انظر: البخاري: 57 - فرض الخمس (3136، 3876، 4230، 4232).

اختبار عملي لمدى الصراع بين الحق والباطل في النفوس، ومدى التحمّل للصعاب المرتقبة، والشدائد المنتظرة! ولم تكن الحبشة في عصورها التاريخيّة منطقة انطلاق، بقدر ما هي منطقة إيواء .. ولم تستطع أن تسيطر حتى على السهول الساحليّة التي تقع إلى شرقها أو تتوسَّع في الغرب والشمال الغربي .. أمّا الجنوب فلم يكن هناك ما يدفع الأحباش إلى التوسّع فيه، لوجود نطاق جافّ نسبيًّا، تليه منطقة هضبة شرق أفريقيا المرتفعة .. ولو جاز لنا أن نتخيّل الهجرة إلى الحبشة هجرة استقرار لنشر الإِسلام، واتّخاذها منطلقاً جديداً لدعوة الإِسلام، لتسابقت إلى الذهن عدة أسئلة: - من يحفظ القرآن العربيّ؟! - وما عدد هؤلاء الحفظة؟! - وإلى أيّ مدى سيسمح لهذا الدّين أن ينتشر؟! - وما موقف الرومان من الحبش حين يعلمون أن فيها ديناً عالميّ الانتشار آوى إليها؟! - وهل تصلح الحبشة لتكون منطلقاً جديداً، وهي مناطق مزّقتها الأنهار إلى بيئات منعزلة؟! - أليس من الأقرب إلى الذهن أن يتابع الإِسلام نموّه في مهده الأوّل، الذي اختاره الله له .. ومن ثمَّ يخرج دعاة الإِسلام من هذه البيئة المختارة، ليدخلوا أفريقيا وغيرها من أوسع الأبواب وأقواها؟!

أسطورة الغرانيق

أسطورة الغرانيق

أسطورة الغرانيق • أكذوبة متزندقة • المبشّرون والمستشرقون • المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق • المستشرق (بروكلمان) وغيره • ردود العلماء • بطلان الأسطورة سنداً ومتناً • قول الحافظ ابن حجر • قول الدكتور (أبو شهبة) • قول الإِمام محمد عبده • البطلان من حيث الزمان • سبب سجود المشركين • لا سبيل للشيطان • رأي أهوج للكوراني • أمران باطلان: - الأمر الأول - الأمر الثاني • مفاسد رأي الكوراني: - المفسدة الأولى - المفسدة الثانية - المفسدة الثالثة - المفسدة الرابعة - المفسدة الخامسة - المفسدة السادسة • آيات القرآن • درس للدعاة • اعتباران: - الاعتبار الأول - الاعبتار الثاني • وصية أخويّة

أكذوبة متزندقة

أسطورة الغرانيق أكذوبة متزندقة: أقحم بعض كتّاب السيرة النبويّة، وجماعة من المفسّرين، وطوائف من المحدّثين في كتبهم ودواوينهم ومؤلفاتهم (أقصوصة الغرانيق) (¬1)، وألصقوها بهجرة الحبشة، وجعلوها سبباً لعودة المهاجرين الأوّلين إلى (مكّة)، وهي (أقصوصة مختلقة باطلة في أصلها وفصلها، وأكذوبة خبيثة في جذورها وأغصانها، وفرية متزندقة) اخترقها (غِرْنَوق) أبله جهول، أو حاقد على الإِسلام زنديق، أو منافق فاجر عربيد، ألقى بها إليه شيطان عابثٌ مريد، يتلعّب بعقول البُلْه المغفَّلين، الذين يتكثّرون تعالماً، ويتلقّفون كل شوهاء فجور، فجرت إلى مجتمعات أعداء الإِسلام، ومن كل يهودي خبيث، وكل ملحد عتيّ، وسرت منهم إلى كل مسلم أبله مغرّر، وكل متعالم مغفّل، وكل جدلي متفيهق، وكل مغرور مخدوع بكواذب المدح والثناء، وكل حفّاظ (صمّام)، وكل جمّاع لا يفقه ولا يتفقّه، وكل جامد مقلّد، وكل حرفيّ متعصّب، وكل ملبّس عليه يزعم أنه مجتهد، وكل خابط هنا وهناك يتكذّب، وكل حاطب في ظلمات الجهل، (يتلقّف العلم) من وراء طنين الأسماء، دون تمحيص ناقد، أو بحث مسددّ، وكل مدّع دعيّ، وكل متسقِّط يزعم أنه مجدّد، وكل ملتقط يزعم أنه متنق، وكل مزهو بالغرور يزعم أنه وحيد دهره، وفريد عصره، بل واحد أمته، لو قيل له إن الشيطان يلبّس عليك في علمك، فيوهمك ما ليس بحق أنه حق لانتفخت أوداجه غضباً لنفسه، ولكنه يقبل ويدافع دفاع المستميت ¬

_ (¬1) محمد رسول - صلى الله عليه وسلم -: 2: 30 وما بعدها بتصرف.

عن قصة مزوّرة تهدم أصول الإِسلام، وتخرق سياج النبوّة، وتحبط عصمة الأنبياء، اعتماداً على مراسيل واهية لا تثبت! فباضت هذه الأكذوبة البلهاء بين أحضان هؤلاء، وفرّخت في أعشاشهم، وزقزقت أفراخها في أوكارهم، وطارت بأجنحة الافتراء الأبله إلى آفاق التاريخ الإِسلامي المظلوم، فتلقّفها كل (رواندي) ملحد، وحملها كل زنديق مفسد، ليطعن بها في سويداء قلب القرآن الكريم، الحكيم المحكم، ويفتك بخنجرها بالسنة المطهّرة المبيّنة، وهما أصل أصول الإِسلام اللذان قام على دعائمهما شامخ صرح هذا (اللّين القيّم)، ليزعزع الثقة بأصْلَيْه، فينفلت من أيدي المسلمين زمام دينهم الذي أنزله الله تعالى هدىً ورحمةً للعالمين، ليهدم به كل بناء للوثنيّة والإلحاد، ويقضي بهدايته على معالم الشرك والإفساد، ويضعضع بآياته كل تفلسف متزندق، وكل زندقة متفلسفة، ويقيم بشرائعه وأحكامه منائر التوحيد الخالص لله تعالى وحده، وينشر بآدابه في آفاق الحياة نور الحق والخير! هذه الأكذوبة (الغرنوقيّة الخبيثة) تريد من المسلمين أن يجعلوا من سيّد المرسلين، خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - في يد الشيطان، وأن يجعلوا منه - صلى الله عليه وسلم - معبثة للشرك والمشركين، وأبطولة يرقص من حولها الملاحدة والحاقدون، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يجعل من دينه، دين الإِسلام الذي رضيه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حصناً حصيناً، لا تقتحمه الأباطيل والترّهات، ولا تنطلي على حذّاق حملته من الجهابذة زندقة المتزندقين، وقد أخبر سبحانه إخباراً لا يتخالجه الريب، ولا يحوم حول حماه الشك، بأنه هو الذي تولى بنفسه حفظ دستوره (القرآن الحكيم المحكم)، فلا يدخل في ساحته افتراء المفترين، ولا يلج إلى حظيرة قدسه عبث الشياطين، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (الحجر)!

وليتأمل المتأمّلون في هذه الآية الحكيمة المحكمة، وفي قول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44)! ليروا ما أضفى ربّ العزّة تبارك وتعالى على كتابه القرآن الحكيم المحكم من حفاوة الاختصاص بتولّي حفظه، وإسناد ما أفاضه على التوراة من فضله. فوكل حفظه إلى الربانيّين والأحبار! قال أبو حيّان في البحر: وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب -أي التوراة- من وجهين: أحدهما: حفظه في صدورهم، ودرسه بألسنتهم! والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه، واتباع شرائعه! وهؤلاء ضيّعوا ما استحفظوا، حتى تبدّلت التوراة .. وفي بناء الفعل للمفعول، وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفّل بحفظ التوراة، بل طلب منهم حفظها، وكلّفهم بذلك، فغيّروا وبدّلوا، وخالفوا أحكام الله، بخلاف كتابنا فإن الله تعالى تكفّل بحفظه، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}! أفلا يعقل الغِرنوقيّون؟! هذه الأكذوبة الخبيثة البلهاء كانت إحدى الفرى الحاقدة التي طوّفت ببعض مؤلّفات الجمّاعين للغثّ والسّمين، فرواها في غفلة من العقل والعلم بعض المفسدين، وأدخلت على بعض المحدّثين، مغلّفةً بأغلفة الأسانيد، محاطة

بهالات بريق الأسماء، فردّدها بأساليب مختلفة، وفرطحها كثير ممن تلقّفها بالبله والغفلة، ورتعت في أسفار المؤرخين، فأعادوا فيها وأبدوا، وزادوا ونقصوا، وأثبتوا وحذفوا، وشوّهوا وزيّنوا، ومسخوا وحرّفوا، وتلقّاها القصّاصون فغنّوا بها، وكان إبليس هو عازف موسيقاها في أنديتهم ومجالسهم، وعازفاً لسماع أباطيلها شفاه الجاهلين من غوغاء العامّة، وعامّة الغوغاء الذين تكبر في صدورهم الغرائب والأعاجيب من المضحات المبكيات، فيهشون لها، ويتزاحمون على محافلها! بيد أن هذه الأقصوصة الخبيثة والأكذوبة البلهاء، لم تفلت من سياط النقد الممحّص، فنهض إليها من الجهابذة المهرة، والحذّاق العيالم من أئمة الإِسلام المشهود لهم بالفضل والصّدق والتبحّر، والتفقّه في الدين مَنْ طعنها في مقاتلها، فبهرج زيفها، وكشف عن سوأتها، وعرّاها شوهاء متزندقة، وجلاّها بلهاء ملحدة، وأظهرها فريةً مستخبثة، ولكنها ظلّت تعيش في أودية الشياطين تتربّص للوثبة، لتفسد على المجتمع المسلم حياته الإيمانيّة بتشكيكه في أصل من أصول دينه، ودستور حياته (القرآن الحكيم المحكم)، وتزعرع ثقته في صدق نبيّه، سيّد الأنبياء والمرسلين، محمد خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، ليصبح هذا المجتمع المسلم الذي اكتسح حياة الوثنيّة، والإلحاد المشرك، بهُدى قرآنه، وسنّة نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فريسة الإلحاد الجديد على ألسنة المستشرقين والمبشّرين الصليبيّين واليهود السبائيّين، والزنادقة الراونديين، والمتحلّلين من فجّار الشيوعيّن الذين عجزوا عن مواجهة القرآن في مواجهة فكريّة، ومحاجّة علميّة، فلاذوا إلى الافتراء يختلقونه، وإلى الأباطيل يزرعونها في أرضه في غفلة من حرّاسه الغرّ الميامين، ليغيّروا معالم هدايته، ويشوّهوا حقائق دستوره -ويخلعوا عن نبيّه سيّد الأنبياء

المبشرون المستشرقون

والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - خلعة العصمة التي حفظه الله بها عن أيّ خطأ فيما يبلّغه الرسول عن الله تعالى من الشرائع والأحكام إلى الخلق كافّةً، فكانت عاصماً له - صلى الله عليه وسلم - من أن يكون للشيطان عليه سبيل! والعصمةُ عن الخطأ فيما يبلّغه الرسول عن الله تعالى ثابتة بإجماع طوائف الأمّة خلفاً عن سلف، لم يعرف في هذا مخالف إلا من أوّل وحرّف وبدّل، وذلك أمره إلى الله، يتولّى جزاءه بما يستحقّ من جزاء! المبشرون المستشرقون: وقد أصدر المبشّرون والمستشرقون ما يُسمَّى (دائرة المعارف الإِسلاميّة) بعدة لغات، لينشروا بواسطتها طعونهم في القرآن الكريم، والسنة النبويّة، ويعدّ هذا في مقدّمة أخطر عمل لهم! وأصدروا موجزاً لها بنفس تلك اللغات، كما بدأوا في الوقت الحاضر في إصدار طبعة جديدة، ظهرت في أجزاء .. ومصدر هذه الخطورة أن المستشرقين جمعوا كل ما يستطيعون لإصدار هذه الدائرة التي تعتبر مرجعاً لكثير من المسلمين الجاهلين، وغيرهم في دراساتهم، على ما فيها من خلط وتحريف وتعصبّ سافر ضد الإِسلام والمسلمين! إنهم يفتحون عيونهم لكل الاتجاهات، وهم يقظون لكل حركة قد تفوق سيرهم أو تفسد خططهم .. فإن حاول أحدهم أن يبدو محايداً، أو يتخفّف من أثقال التعصبّ تجد بقية المستشرقين يهبّون في وجهه .. ولا يعرف العقل ولا النطق حدًّا لا يقوم به هؤلاء من تحريف للتاريخ الإِسلامي، وتشويه لمبادئ الإِسلام وثقافته، وتقديم المعلومات الخاطئة عنه وعن أهله!

المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق

والمستشرقون جميعاً فيهم قدر مستشرك من هذا الجانب، والتفاوت -إن وجد بينهم- إنما هو في الدرجة فقط، فبعضهم أكثر تعصّباً ضدّ الإسلام وعدواةً له من البعض الآخر، ولكن يصدق عليهم جميعاً أنهم أعداؤه! وإذا كان الاستشراق قد قام على أكتاف الرهبان والمبشّرين في أوّل الأمر، ثم اتصل من بعدهم بالمستعمرين، فإنه مازال حتى اليوم يعتمد على هؤلاء وأولئك، ولو أن أكثرهم يكرهون أن تنكشف حقيقتهم، ويؤثرون أن يختفوا وراء مختلف العناوين والأسماء! (¬1) المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق: ومن هنا نستطيع أن نتصوّر ما قاله المستشرق اليهودي (يوسف شاخت)، في (دائرة المعارف الإِسلامية) تحت مادة (أصول): إن أول مصادر التشريع في الإسلام، وأكثرها قيمة (هو الكتاب)، وليس هناك من شك في قطعيّة ثوبته وتنزّهه عن الخطأ، على الرغم من إمكان سعى الشيطان لتخليطه .. ثم استشهد بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} (الحج)! المستشرق (بروكلمان) وغيره: ولم ينفرد هذا المستشرق بهذا الزعم، فقد شاركه المستشرق (بروكلمان) ¬

_ (¬1) المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإِسلام، للدكتور محمد البهي: 2 وما بعدها بتصرف، وانظر: السنة بين أنصارها وخصومها، للمؤلف: 619 وما بعدها.

السبب الأول

في كتابه (تاريخ الشعوب الإِسلاميّة) (¬1)، والمستشرق (الفريد جيوم) في كتابه (الإِسلام) (¬2) حيث صرّحا بأن اعتمادهما على ما جاء في كتب التفسير .. وحيث ذكرا تلك المزاعم الإسرائيلية المزعومة لإثبات زعمهما! يقول الدكتور هيكل: (¬3) الحجج التي يسوقها من يقولون بصحّة حديث الغرانيق، هي حجج واهية، لا تقوم أمام التمحيص، ونبدأ بدفع حجة المستشرق (موير) فالمسلمون الذين عادوا من الحبشة إنما دفعهم إلى العود إلى (مكة) سببان: السبب الأول: أن عمر بن الخطاب أسلم بعد هجرتهم بقليل، وقد دخل عمر - رضي الله عنه - في دين الله بالحميّة التي كان يحاربه من قبل بها، لم يُخف إسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلنه على رؤوس الملأ ويقاتلهم في سبيله، ولم يرض عن استخفاء المسلمين وتسلّلهم إلى شعاب مكّة، يقيمون الصلاة بعيدين عن قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلّى عند الكعبة، وصلّى المسلمون معه، هنالك أيقنت قريش أن ما تنال به محمداً وأصحابه من الأذى يوشك أن يثير حرباً أهليّة، لا يعرف أحد مداها، ولا على من تدور دائرتها، فقد أسلم من مختلف قبائل قريش وبيوتاتها رجال تثور لقتل أيّ واحد منهم قبيلته، وأن كانت على غير دينه؛ فلا مفرّ إذن من الالتجاء في محاربته إلى وسيلة لا يترتّب عليها هذا الخطر! وإلى أن تتّفق قريش على هذه الوسيلة فقد هادنت المسلمين فلم تنل أحداً ¬

_ (¬1) انظر: تاريخ الشعوب الإِسلامية، للمستشرق (بروكلمان): 37 وما بعدها، وأيضاً: السابق: 620 وما بعدها. (¬2) انظر: الإِسلام، للمستشرق (الفريد جيوم): 35 - 36. (¬3) حياة محمد: 162 وما بعدها، ط الثالثة عشرة، النهضة المصرية.

السبب الثاني

منهم بأذى، وهذا هو ما اتصل بالمهاجرين إلى الحبشة، ودعاهم إلى التفكير في العودة إلى مكة! وربما ترددوا في هذا العود! السبب الثاني: الذي ثبّت عزمهم، أن الحبشة شبّت بها يومئذ ثورة على النجاشيّ، لتُهمٍ وُجهت إليه في دينه ولما أبدى من عطف على المسلمين، ولقد أبدى المسلمون أحسن الأمانيّ أن ينصر الله النجاشيّ على خصومه، لكنهم لم يكونوا ليشاركوا في هذه الثورة، وهم أجانب، ولم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة زمن قليل، أما وقد ترامت إليهم أنباء الهدنة بين محمد وقريش، هدنة أنجت المسلمين مما كان يصيبهم من الأذى، فخيرٌ لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم، وأن يلحقوا بأهليهم، وهذا ما فعلوه كلّهم أو بعضهم، على أنهم ما كادوا يبلغون (مكّة)، حتّى كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد وأصحابه، واتفق عشائرها وكتبوا كتاباً تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم مقاطة تامة، فلا ينكحوا إليهم -كما سيأتي- وبهذا الكتاب عادت الحرب العنوان بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع اللحاق بهم، وقد وجدوا هذه المرّة عنتاً من قريش؛ إذ حاولت أن تمنعهم من الهجرة! ليس الصلح الذي يشير إليه المستشرق (موير) هو إذن الذي دعا المسلمين إلى العودة من بلاد الحبشة، إنما الذي دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر - رضي الله عنه - وحماسته في تأييد دين الله، فتأييد حديث الغرانيق إذن بحجّة الصلح تأييد غير ناهض! ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ - فقد تلقّفت ألسن المستشرقين تلك الأباطيل، وقاموا بنشرها، مما يضيق عنه المقام!

ردود العلماء

ردود العلماء: هذا، وكتب كثير من علماء التفسير والحديث في ردّ هذه القصة المختلقة المصنوعة الموضوعة، وأثبتوا بطلانها سنداً ومتناً بالأدلة الدامغة والحجج القاطعة، ومن هؤلاء: 1 - محمد بن إسحاق، فقد صنّف في تفنيدها كتاباً. 2 - البيهقي، فقد تكلّم في رواة هذه القصة، وأبان أنها غير ثابتة. 3 - أبو حيّان في (البحر المحيط). 4 - ابن العربي في (أحكام القرآن). 5 - القاضي عياض في (الشفا في حقوق المصطفى). 6 - الفخر الرازي في (مفاتيح الغيب). 7 - القرطبي في (أحكام القرآن). 8 - (الكرماني على البخاري) وقد نقل كلامه الحافظ في (الفتح). 9 - العيني في (عمدة القاري). 15 - الشوكاني في (فتح القدير). 11 - الآوسي في (روح المعاني). 12 - محمد عبده في (مسألة الغرانيق) تفسير الفاتحة مع ثلاث مقالات، المقالة الثانية. 13 - صديق خان في (فتح البيان). 14 - محمد ناصر الدين الألباني في (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق).

بطلان الأسطورة سندا ومتنا

بطلان الأسطورة سنداً ومتناً: يطالعنا في المقدمة بطلان هذه القصة المزعومة سنداً ومتناً .. وسبق أن ذكرت ذلك بالتفصيل في كتاب (السنة بين أنصارها وخصومها) (¬1). والخلاصة أن بعض الناس يزعم أن سبب رجوع المهاجرين من الحبشة كان لوقوع هدنة حقيقيّة بين الإِسلام والوثنيّة، أساسها أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - تقرّب إلى المشركين بمدح أصنامهم، والاعتراف بمنزلتها؛ إذ زعموا أنه قرأ على المشركين سورة (النجم) حتى وصل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} (النجم)! ألقى الشيطان في آذن المشركين قوله: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى)! فسجد وسجد كفار مكّة، فلمّا بلغهم ذلك في الحبشة ظنوا أن القوم قد أسلموا لهذه القصة المزعومة! وممن روى هذه القصة المزعومة ابن سعد، والطبري، والبيهقي. (¬2) ولم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة والإمام أحمد، ولا غيرهم من أصحاب الكتب المعتمدة على التحرير! قال ابن كثير: (¬3) وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، ¬

_ (¬1) السنة بين أنصارها وخصومها للمؤلف: 2: 622 وما بعدها، رسالة دكتوراة عام 1976، تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى والتوصية بطبعها على نفقة جامعة الأزهر وتداولها مع الجامعات. (¬2) الطبقات: 1: 205 - 206 من طريق الواقدي، والطبري: التفسير: 17: 131 - 132، وفي إسناده أبو معشر، والبيهقي: الدلائل: 2: 285 - 287 بسند ضعيف. (¬3) التفسير: 3: 229.

ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم! وللقاضي عياض (¬1) عدّة مآخذ، وفي ذلك يقول: أما المأخذ الأول أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، وإنما أولع به وبمثله المفسّرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم! وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، وتعلّق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته، فقائل يقول: إنه في الصلاة، وآخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة! وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنَةٌ! وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها! وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: والله! ما هكذا نزلت، إلى غير ذلك من اختلاف في الرواة! ومَن حُكيَتْ هذه الحكاية عنه من المفسّرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم، ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن ¬

_ (¬1) الشفا: 2: 132 وما بعدها، دار الأرقم.

قول الحافظ ابن حجر

عباس، قال فيما أحسب -الشك في الحديث- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكّة، وذكر القصة! قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عند شعبة إلا أميّة بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فقد بيّن أبو بكر -رحمه الله- أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا هذا! وفيه من الضعف ما نبّه عليه، مع وقوع الشكّ فيه، كما ذكرناه، الذي لا يوثق به، ولا حقيقة معه! وأما حديث الكلبي فممّا لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لضعفه الشديد وكذِبه، كما أشار إليه البزار رحمه الله! قول الحافظ ابن حجر: وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر بعض مصادر القصّة وأسانيدها وطرقها (¬1): وكلها سوى طريق سعيد بن جبير، إمّا ضعيف، وإمّا منقطع، ولكن كثرة الطرق تدلّ على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين، رجالهما على شرط الصحيحين: أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب ... والثاني: ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة ... ¬

_ (¬1) فتح الباري: 8: 439.

وسبق أن ذكرنا أن للألباني رسالة في هذا المقام خرّج فيها أحاديث هذه القصة وحكم عليها بالبطلان، مشيراً إلى أن هناك عدّة روايات مرسلة أسانيدها صحيحة إلى مرسليها، ومن ثمَّ يتّفق في هذا مع ابن حجر، ولكنه يختلف معه في النتيجة، فقد ذهب ابن حجر إلى تقوية تلك الأحاديث الرسلة، حيث قال: فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلَّ ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالرسل، وكذا من لا يحتجّ به لاعتضاد بعضها ببعض! (¬1) أما الألباني فإنه يرى أن تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، وله منطقه وحجته في هذا، وخلص إلى ردّ تلك الآثار المرسلة لكونها لا تعتضد عنده (¬2). وهنا قال الدكتور الأعظمي (¬3): ونقل الألباني (¬4) عن ابن تيمية في مسألة الاحتجاج بالمرسل ما مفاده (.. وإن جاء المرسل من وجهين، كل من الروايين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ وتعمّد الكذب ...). وهنا نذكر ما قاله السيوطي (¬5): فإن صحّ مخرج المرسل بمجيئه أو نحوه من وجه آخر، مسنداً أو مرسلاً أرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل ¬

_ (¬1) السابق. (¬2) نصب المجانيق: 20 وما بعدها. (¬3) حاشية مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن الزبير: 107. (¬4) نصب المجانيق: 23. (¬5) تدريب الراوي: 1: 198 - 199، دار الكتب العلمية.

قول الدكتور (أبو شهبة)

الأول كان صحيحاً، هكذا نص عليه الشافعي في (الرسالة)، مقيّداً له بمرسل كبار التابعين، ومن إذا سمّى من أرسل عنه سمّي ثقة، وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لم يخالفوه، وزاد في الاعتضاد أن يوافق قول صحابي أو يفتي أكثر العلماء بمقتضاه، فإن فقد شرط مما ذكر لم يقبل مرسله! قول الدكتور (أبو شهبة): ويطالعنا ما ذكره أستاذنا الدكتور أبو شهبة -رحمه الله- على ما ذكره الحافظ وتابعه عليه السيوطي وغيره قائلاً: (¬1) 1 - إن جمهور المحدّثين لم يحتجوا بالمرسل، وجعلوه من قسم الضعيف، لاحتمال أن يكون المحذوف غير صحابي، وحينئذ يحتمل أن يكون ثقة أو غير ثقة، وعلى الثاني فلا يؤمن أن يكون كذّاباً، وقد قرّر الإِمام مسلم هذه الحقيقة فقال: (والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) (¬2). وقال ابن الصلاح (¬3): (وما ذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو الذي استقرّ عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث وتداولوه في تصانيفهم، والاحتجاج به مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما في طائفة، أما الشافعي فيحتج به بشروط ذكرها في رسالته، وقد نقلها العراقي في شرح ألفيّته وغيره! 2 - الاحتجاج بالمرسل إنما هو في فروع اللّين التي يكتفي فيها بالظن، أما الاحتجاج به على شيء يصادم العقيدة، وينافي دليل العصمة فغير ¬

_ (¬1) السيرة النبويّة في ضوء القرآن والسنة: 1: 368 - 369. (¬2) مقدمة صحيح مسلم: 1: 3. (¬3) مقدمة ابن الصلاح: 58.

قول الإمام محمد عبده

مسلّم، وقد قال علماء التوحيد: إن خبر الواحد لو كان صحيحاً لا يؤخذ به في العقائد؛ لأنه لا يكتفي فيها إلا بما يفيد اليقين، فما بالك بالضعيف أو المختلف فيه! هذا إضافة إلى أن القصّة لم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة أو الإِمام أحمد، ولا غيرهم من أصحاب الكتب المعتمدة على التحرير! قول الإِمام محمد عبده: وقال الشيخ محمد عبده: إن وصف العرب لآلهتهم بـ (الغرنيق) لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جارياً على ألسنتهم، إلا ما جاء في معجم ياقوت من غير سند، ولا معروف بطريق صحيح، والذي تعرفه اللغة أن الغُرنوق والغِرْنوق، والغُرنيق، والغِرنيق اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل، ويطلق على غير ذلك، ولا شيء من معانيه اللغويّة يلائم معنى الإلهيّة والأصنام، حتى يطلق عليها في فصيح الكلام الذي يعرض على أمراء الفصاحة والبيان! ووجه آخر لبطلان هذه القصّة من حيث الأسلوب اللغوي السليم هو قول المفترين: إن آيات الغرانيق جاءت بين الآيات: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} (النجم)! والآيات: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} (النجم)!

البطلان من حيث الزمان

ما هذا؟ ذمّ ثم مدح ثم ذمّ لذات الشيء، فلو أن القصّة صحيحة لما كان هناك تناسب بينها وبين ما قبلها وما بعدها، ولكان النظم مفككاً والكلام متناقضاً، وهو مما لا يخفى على المبتدئين في تعلّم اللغة العربيّة، دعك عن عرب قريش، أهل الفصاحة والبيان. (¬1) أمّا الآية التي اقترن تفسيرها بقصة الغرانيق: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} (الحج)! فخلاصة ما يُقال عنها: إن تفسير البخاري (التمنّي) بما نقله عن ابن عباس غير ملزم لتعيين تفسير (التمنّي) في الآية بـ (التلاوة والقراءة)، وهو التفسير الذي كان مفتاحاً لباب اختراع أكذوبة الغرانيق، وما اشتملت عليه من طامات وبلايا لأن التمنّي جاء في الآية مطلقاً عن قيد الإضافة إلى الكتاب، فلم يذكر له مفعول قيّد به. (¬2) البطلان من حيث الزمان: قال ابن حجر: هذه القصة وقعت بمكّة قبل الهجرة اتفاقاً، فتمسّك بذلك من قال: إن سورة الحج مكّية، لكن تعقّب بأن فيها أيضاً ما يدلّ على أنها مدنيّة .. فالذي يظهر أن أصلها مكّي، ونزل فيها آيات بالمدينة، ولها نظائر! (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 371 - 372، وفقه السيرة: الغزالي: 118. (¬2) انظر: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 73 وما بعدها. (¬3) فتح البخاري: 8: 440.

سبب سجود المشركين

وقال الدكتور الشامي: آية التمنّي هذه إن لم تكن مدنيّة، فهي ممّا نزل بين مكّة والمدينة، والحادثة حسب زعم رواتها مكّية، فهل يعقل أن يكون ذلك الزمن غير القصير بين الحادثة وبين نزول الآية التي جاءت تعقيباً عليها؟ (¬1) سبب سجود المشركين: وهنا نذكر ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والأنس. تابعه ابن طهمان عن أيوب، ولم يذكر ابن عليّة ابن عباس. وفي رواية عن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) قال: فسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسجد مَن خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفًّا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قُتل كافراً، وهو أميّة بن خلف. (¬2) قال ابن حجر (¬3): أما متابعة إبراهيم بن طَهمان فوصلها الإسماعيلي من طريق حفص بن عبد الله النيسابوري عنه بلفظ: (أنه قال حين نزلت السورة التي فيها النجم سجد لها الإنس والجن). وأما حديث ابن عليّة فالمراد به أنه حدّث به عن أيّوب فأرسله، وأخرجه ¬

_ (¬1) معين السيرة: 76. (¬2) البخاري: 65 - التفسير (4862، 4863)، وانظر (1071)، والترمذي (575)، والبغوي (763)، والدارقطني: 1: 409، وابن حبان (2764). (¬3) فتح الباري: 8: 614.

ابن أبي شيبة عنه، وهو مرسل، وليس ذلك بقادح، لاتفاق ثقتين عن أيّوب على وصله، وهما عبد الوارث وإبراهيم بن طَهمان. وقوله (والجنّ والإنس) إنما أعاد الجنّ والإنس مع دخولهم في المسلمين لنفي توهّم اختصاص ذلك بالإنس .. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين؛ لأنها أول سجدة نزلت، فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المسجد من مخالفتهم. قال ابن حجر: والاحتمالات الثلاثة فيها نظر، والأوّل منها لعياض، والثاني يخالفه سياق ابن مسعود، حيث زاد فيه أن الذي استثناه منهم أخذ كفًّا من حصى فوضع جبهته عليه، فإن ذلك ظاهر في القصد، والثالث أبعد؛ إذ المسلمون حينئذ هم الذين خافوا من المشركين لا العكس، قال: وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا صحة له عقلاً ولا نقلاً! ثم قال: لكن روى النسائي بإسناد صحيح عن المطّلب بن أبي وداعة قال: قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكّة (والنجم) فسجد وسجد من عنده، وأبيت أن أسجد، ولم يكن يومئذ أسلم .. وقال: وقد وافق إسرائيل على تسميته زكريّا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عند الإسماعيلي، وهذا هو المعتمد، وعند ابن سعد أن الذي لم يسجد هو الوليد بن المغيرة، وقيل: سعيد بن العاص بن أميّة، قال: وقال بعضهم كلاهما جميعاً، وجزم ابن بطّال في (باب سجود القرآن) بأنه

لا سبيل للشيطان

الوليد، وهو عجيب منه، مع وجود التصريح بأنه أميّة بن خلف، ولم يقتل ببدر كافراً من الذين سمعوا عند غيره، ووقع في تفسير ابن حبان بأنه أبو لهب، وفي (شرح الأحكام لابن بزيزة) أنه منافق، وردّ بأن القصّة وقعت بمكّة بلا خلاف، ولم يكن النفاق ظهر بعد، وقد جزم الواقدي بأنها كانت في رمضان سنة خمس، وكانت المهاجرة الأولى إلى الحبشة قد خرجت في شهر رجب، فلما بلغهم ذلك رجعوا فوجدوهم على حالهم من الكفر، فهاجروا الثانية، ويحتمل أن يكون الأربعة لم يسجدوا، والتعميم في كلام ابن مسعود بالنسبة إلى ما اطلع عليه، كما قلته في المطّلب، لكن لا يفسّر الذي في حديث ابن مسعود إلا بأميّة؛ لما ذكرته، والله أعلم! لا سبيل للشيطان: هذا، وقد دلّت النصوص الناطقة نقلاً وعقلاً على أنه لا سبيل للشيطان قط على أنبياء الله ورسله، لعصمتهم من تسلطه عليهم (¬1)! أما من جهة النقل: فقد قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} (الإسراء)! وقوله حكايته عن إبليس في نفيه استطاعة التضليل لعباد الله المخلَصين: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} (الحجر)، (ص: 83)! وبإزالة هذه الوساوس الشيطانيّة، والشُّبه الإضلاليّة، يتميّز الحق، وهو ما جاءت به الرسل من الهُدى والتوحيد عن الباطل، وهو ما يلقيه الشيطان من الوسوسة والأباطيل في أنفس المشركين، والذين في قلوبهم مرض، ليصدّهم ¬

_ (¬1) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 98 وما بعدها بتصرف.

قال الشيخ عرجون

عن قبول الحق، وفي صدور ضعفاء المؤمنين، ليشككهم في عقائد التوحيد والإيمان والهداية، وبهذا التمييز لا تختلط آيات الله ودلائل توحيده، وبراهين صدق أنبيائه ورسله ومحكم شرائعه بغيرها من أباطيل الشّبه الشيطانيّة .. قال الإِمام ابن تيمية: وجعل ما ألقى الشيطان فتنةً للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ظاهراً يسمعه الناس، لا باطناً في النفس! قال الشيخ عرجون: إذا كان ما ألقاه الشيطان إنما ألقاه في أسماع أوليائه من الكفرة الفجرة، ولم يلفظ به النبي - صلى الله عليه وسلم - لعصمته عن تلبيس الشيطان -كما هو منزع الإِمام ابن تيمية- وقد وقعت الفتنة بما سمعوه، وهم بمعزل عن إحكام آيات الله- فلا قيمة لنسخ ما ألقاه الشيطان في مسامعهم، ولم يختلط بآيات الله الموحَى بها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصونها وإحكامها عن زيادة الشيطان! على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية: وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ظاهراً يسمعه الناس، لا باطناً في النفس، دعوى مجرّدة من الدليل؛ لأن ما يلقي الشيطان من الشبهة والأضاليل في قلوب أعداء الإِسلام أشدّ فتنةً للقاسية قلوبهم من المشركين المعاندين، والذين في قلوبهم مرض من المنافقين؛ لأن الشبهة والأضاليل تؤثر في القلب، وتغطّيه بالرّان وظلمة الكفر، وحيرة الشك، وتؤثر في العقل فتفسد إدراكاته، وأمّا ما يسمع ظاهراً ففتنته ضعيفةٌ موقوتةٌ بسماعه، والسماع لايستقرّ أثره، بل يذهب مع تيّار النسيان، ونزغات الشيطان! ثم قال الإِمام ابن تيمية: والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل من نوع آخر من النسخ، وهذا النوع -أي الفتنة بإلقاء الشيطان في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات الكفر، ومدح الأوثان، ثم نسخ ذلك بعد

زمن قد يطول وقد يقصر -أدلّ على صدق الرسول وبعده عن الهوى من ذلك النوع- أي النسخ الاصطلاحي المعروف في أصول الفقه المتفق على جوازه ووقوعه من جمهور الأئمة، ولم يخالف فيه جوازاً أو وقوعاً سوى شذوذ من الناس، وقد شهر بهذه المخالفة أبو مسلم الأصفهاني ومن تقيّله من المتأخّرين! وهذا النوع هو المعروف بإزالة حكم شرعي بحكم شرعي آخر لحكمة تشريعيّة، كتخفيف لحكم الأول، أو انتهاء زمن العمل به، أو زوال أثر الحكم الأوّل، أو كون الحكم الثاني أزجر منه عند كثرة الفساد وشيوعه! قلنا: إن جعل نوع نسخ ما ألقاه الشيطان من كلمات الكفر أدلّ على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نوع النسخ الاصطلاحي أمر عجيب في قياس الاستقامة العلميّة ومنطق العقل، وإلا فكيف يكون نسخ ما ألقى الشيطان من كلمات الشرك والكفر على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في قراءته لآيات الله بعد استقراره زمناً -وهو محال- أدلّ على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبُعده عن الهوى، وهذا النسخ بهذا المعنى يدلّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل من الشيطان كلمات الكفر وأدخلها في آيات الله على أنها وحي من الله تعالى وقرآنه، واستقرّ عنده زمناً حتى نسخ وأزيل بوحي جديد!! ولو صحّ هذا -وما زعمه (الغرنوقيّون) - فماذا بقي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من معالم العصمة، وثقة الأمّة المأمورة بمتابعته في جميع ما يبلّغه عن الله تعالى، وقد بلّغها هذا الكفر الخبيث في زعم (الغرنوقيّين) القائلين بثبوت (أكذوبة الغرانيق)، كما جاءت بها المراسيل الواهية الباطلة؟! وما الضمان عند الأمّة في أن تقبل وتصدّق أن الوحي الناسخ لأكذوبة الشيطان هو وحي صادق من عند الله، وليس من تلبيس الشيطان؟! وما هو الضمان عند الأمّة فيما ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك من الوحي لتتقبّله وتمتثل لأحكامه تحقيقاً لوجوب المتابعة؟!

أمّا نسخ حكم شرعي بحكم شرعي آخر لحكمة اقتضت ذلك، وكلاهما -بالقطع- من عند الله فهو الدّالّ على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده عن الهوى؛ لأن الناسخ والمنسوخ كلاهما من عند الله تعالى بوحيه القاطع بلا افتراء، وكلاهما شرع صادق واجب الامتثال في زمنه، وليس للشيطان فيه أيّ مدخل، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - متبع في هذا النوع من النسخ أمر الله تعالى محقق لقول الله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} (الأحقاف)! وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم)! ثم قال الإِمام ابن تيمية: فإنه -أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يأمر بأمر، ثم يؤمر بخلافه وكلاهما من عند الله، وهو مصدّق في ذلك، فإذا قال عن نفسه: إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدلّ على اعتماده للصّدق وقوله الحق! قلنا: هذا الكلام مغلق غامض، بل ظاهر التناقض، فعبارة الشيخ الإِمام السابقة تقرّر أن نوع النسخ فيما يلقيه الشيطان أدلّ على صدق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وبعده عن الهوى، وعبارته هنا تقرّر أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه، وكلاهما من عند الله، وهو مصدّق في الأمرين -هذا مسلّم في نوع النسخ الشرعي الذي هو إزالة حكم شرعيّ بحكم شرعيّ آخر لحكمة مقتضية لذلك! أمّا نوع النسخ الذي أزال فيه الوحي الصادق حكماً شيطانيًّا بحكم آخر منزل من عند الله -في زعم مثبتي أكذوبة الغرانيق- فإن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأمر ثم أمر بخلافه، وإنما الذي اعتمده مثبتو (أكذوبة الغرانيق الخبيثة الباطلة) أن الشيطان هو صاحب الأمر الأول بإلقائه -كما تقول روايات الأكذوبة، على

لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات أخبث الكفر، وأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك، وتلاه فيما تلا من آيات الله، واستقرّ ذلك عنده اعتقاداً حتى سجد في آخر السورة، وسجد معه المشركون، تعظيماً لآلهتهم التي مدحت بهذا الكلام الخبيث حتى نزل ملك الوحي بعد مضيّ قدر من الزمن، فاستقرأ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - آيات السورة التي جاء بها إليه، فقرأ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وزاد (في زعم مثبتي أكذوبة الغرانيق) كلمات الشيطان في مدح الأوثان، فنبّهه جبريل -عليه السلام- ... فكيف ينسب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المحفوظ بالعصمة من تلبيس الشيطان أنه يأمر بأمر، ثم يأمر بخلافه في (قصة الغرانيق الكاذبة الماطلة)؟! وكيف يكون مصدّقاً في الأمرين؟ الأمر الأوّل، وهو زعم إلقاء الشيطان على لسانه أخبث الكفر! والأمر الثاني، وهو إزالة هذا الضلال الكفور الذي يستحيل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله بلْه أمر به! وإذا صدق في الأمرين في (أكذوبة الغرانيق)، فماذا يبقى له - صلى الله عليه وسلم - من الثقة به في النفس، لتتلقّى عنه ما يبلّغه من رسالته عن الله تعالى من الهداية؟ وإذا قال بعد ذلك أنه أمر بالأمرين: أمر الحق الذي أزال به ما ألقاه الشيطان، وأمر الباطل الذي لبّس به عليه الشيطان، إذن فالأمر الثاني -أي الناسخ لما ألقاه الشيطان من الكفر والضلال هو من عند الله، وأن الأمر الأوّل المنسوخ ليس كذلك -أي ليس من عند الله- فكيف يكون ذلك أدلّ على اعتماده الصدق وقوله الحق، ولا شكّ أن الأمر الأوّل كذب وافتراء على الله تعالى ويستحيل وقوعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -!

فإذا قال (الغرنوقيّون) إنه قد وقع فقد نسبوا الكذب المتعمّد على الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -! فيما بلّغه عنه، فأين الصدق الذي يدلّ عليه؟ وإذا نسب إليه - صلى الله عليه وسلم - الكذب في الأمر الأوّل المنسوخ فما برهان صدقه في الأمر الثاني، وهو الناسخ الذي نزل لمحو الباطل، وأنه ليس من عند الله، وإنما هو من عمل الشيطان وتلبيسه! هذه كلها أباطيل حكيت من نسج الزندقة وأخبث الكفر، وخدع بها الأغرار -إن صحت بعض روايات المراسيل في أكذوبة الغرانيق- فكيف قبلها الشيخ الإِمام ابن تيمية، وهو صاحب الرسوخ في فقه الرواية ونقد الأسانيد؟! وقد انتهى الشيخ الإِمام ابن تيمية إلى القول بأن الذين يثبتون العصمة بمعنى عدم وقوع الذنب من الأنبياء والمرسلين، ولاسيّما فيما يبلّغونه عن الله تعالي تأوّلوا بمثل تأويلات (الجهميّة) و (القدريّة) و (الدّهريّة) لنصوص (الأسماء والصفات) ونصوص (القدر) ونصوص (المعاد)، بل أوسع الشيخ في التهمة للنافين وقوع الذنب من الأنبياء والرسل فرماهم بـ (القرمطة) إلى أن قال: وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم! وتهمة (الجهميّة) و (القدريّة) و (القرمطة) تهمة تقليديّة شائعة، ولا سيّما في عصر الشيخ الإِمام ابن تيميّة على ألسنة المنتحلين لطريقته ومذهبه، يُرمى بها كل من يفهم نصوص الأسماء والصفات فهماً تنزيهيًّا يليق بجلال الله وكمال ألوهيَّته! يقول الشيخ عرجون: وإنما عرضنا رأي الشيخ الإمام وناقشناه مناقشة

رأي أهوج للكوراني

تفصيليَّة بعد ما منّ الله به في إبطال (أقصوصة الغرانيق)؛ لأن دويّ سمعة الشيخ وهالات الإجلال من حوله جعل كثيراً من الناس لا يتفقّهون فيما قيل، ولكنهم يكتفون بمن قال، فأردنا أن ننبّه على ما في إثبات (أكذوبة الغرانيق) من خطورة على العقيدة التوحيديّة التي كان الشيخ الإِمام أحرص عليها، وعلى دعائمها بني مريدوه، والآخذون بآرائه، مجده التاريخيّ بين أعلام أئمة علماء الأمة! ويقول: وقد ناقشنا رأي الشيخ الإِمام في (أقصوصة الغرانيق) مناقشة بحث علمي، وهي أشدّ هدماً للعقيدة التوحيديّة، من كثير من القضايا والمسائل التي قرن بها اسمه في اجتهاديّاته، ولقي في سبيلها كثيراً من البلاء والمحن- لئلا يقع في خطئها من يتمسّك بالتقليد والاغترار بهالات الأسماء! ويقول: والبحث العلميّ لا يقف هيّاباً لهالات الأسماء، وإنما يقف مع الحجّة والبرهان، وقد حُذِّرْنا من زلة العالم، وعثرة الأكابر، والله يهدي من يشاء وإليه المصير! قلت: معلوم أن كل إنسان مهما علا قدره يؤخذ منه ويرد، مع تقديرنا لجهود ومكانة شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى! رأي أهوج للكوراني: هذا، وللشيخ إبراهيم بن حسن الكوراني ... رأي متزيّدٌ جريء أهوج، حاول فيه تصحيح (أسطورة الغرانيق الكاذبة الباطلة) حتى كأنه هو واضعها، لم يكتف فيه بالبحث في أسانيد روايات القصّة، كما صنع غيره من مثبتيها، ولم يبال بما تؤدي إليه من معان خطيرة في

سيرة سيّد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه تزيّد باجتهاده متعالماً، واختلق للقصّة سبباً وحكمةً، لم يسبقه إليهما أحدٌ من ملّة الإِسلام، زعم أنها وقعت لهذا السبب، بتلك الحكمة، وخف على نفسه ودينه أن يقيم منهما حكماً على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليكشف أنه كان مفتقراً إلى (التأديب) لأنه افتأت على إرادة الله وقدره، فأراد إيمان الناس جميعاً، والله لم يرد ذلك ولا قدّره، فكان - صلى الله عليه وسلم - محلاً للتأديب والتصفية من آثار هذه الإرادة حتى تفنى إرادته في إرادة الله تعالى، فلا يريد إلا ما يريد الله، ويقدّره، فسلّط عليه الشيطان ليغويه، ويلقي على لسانه في أثناء تلاوته لآيات الله المنزلة من عند الله كلمات كافرة تمدح الأوثان، وتجعل منهم شفعاء لعابديهم، تُرضي شفاعتهم وتُرتجى، وإذا كان شيء غير أكفر الكفر وصفاً يمكن أن يوصف به هذا الهوج الأحمق فليكن هذا الوصف مستعاراً لنعت موقف الكوراني إبراهيم بن حسن (خاتمة المتزندقين في عصره)! فإذا قيل للشيخ إبراهيم الكوراني: إن الله تعالى عصم أنبياءه عن تسلّط الشيطان عليهم، وأخبر عن هذه العصمة في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} (الحجر)! وفي قوله تعالى حاكياً على لسان إبليس استثناءهم من إغوائه: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} (ص)! قال: في تأويل آيات الله في (فلسفة متزندقة) لم يجرؤ أحد من مثبتي (أبطولة الغرانيق) على القول بمثله: إن السلطان المنفي هو الإغواء، أعني التلبيس المخلّ بأمر الدّين، وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه، وأما الإغواء غير المخلّ بأمر الدّين فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه، إذن هناك إغواء للشيطان في زعم هذا الكوراني، إغواء يخلّ بأمر

الدّين، وإغواء لا يخلّ بأمر الدّين! قلنا: أليس هذا تحريفاً في تفسير آيات الله تعالى المنزِّهة لعباده المخلصين عن تسلّط الشيطان عليهم بإغوائه وإضلاله وتلبيسه؟! والآيات مطلقة في نفي سلطان الشيطان وإغوائه، والإطلاق هو اللائق بعصمة الأنبياء! فمن أين للشيخ الكوراني هذا التقسيم المخترق، الذي جعل من إغواء الشيطان إغواءً مخلاً بأمر الدّين، هو فقط مخلّ العصمة عنده، وأما الإغواء الذي لا يخلّ بأمر الدّين، فليس هو مخلاً لعصمة تمنع من وقوعه وتسلّط الشيطان على الأنبياء به؟! ثم كيف يكون إغواء الشيطان غير مخلّ بالدّين، وعداوة الشيطان كلها للإنسان مرجعها إلى إفساد الدّين بتزيين الكفر والفسوق والعصيان؟! وإذْ فرض الشيخ الكوراني هذا التقسيم المبتدع واقعاً، فليكن شرعاً وديناً تسري أحكامه على الناس الأنبياء فمن دونهم، وليكن الإغواء الذي لا يخلّ بأمر الدّين -وإن كان لا وجود له في واقع الحياة- هو الذي لا تتعلّق به العصمة، وبه يتسلّط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلّهم ويلبّس عليهم، ويريهم أن الشيطان ملك، وأن الملَك شيطان، وأن الأوثان آلهة تشفع لعابديها، وشفاعتها مرجوّة مرتضاة! وبهذا الإغواء -الذي لا يخلّ بأمر الدّين- وقعت (أخلوقة الغرانيق لتأديب النبي - صلى الله عليه وسلم - على افتئاته على الله تعالى) وفرض إرادته في إيمان الناس جميعاً، مراغمة لإرادة الله تعالى الذي لم يرد إيمان جميع الناس ولا قدره! هكذا منطق (فلسفة الشيخ إبراهيم الكوراني المتزندقة) الذي أراد به

أمران باطلان

الكلام في (أكذوبة الغرانيق المتزندقة)، فالشيطان أغوى سيّد الخلق محمداً - صلى الله عليه وسلم - إغواءً لا يخلّ بأمر الدّين، ولبّس عليه وأراه أنه أمن الوحي جبريل، وألقى على لسانه، وهو - صلى الله عليه وسلم - يتلو آيات الله المنزلة عليه في سورة (النجم) كلمات أخبث الكفر من الكلمات التي تمدح الأوثان، وتؤكد أن لها شفاعةً مرجوّة مرتضاة، فيتقبّل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الكلمات الخبيثة الكافرة على أنها مما نزل عليه من آيات الله -من قبيل الإغواء الذي لا يخلّ بأمر الدّين في شرعة الشيخ إبراهيم الكوراني- ويبقى النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الإغواء زمناً لا يُدرى مدى طوله، حتى ينزل عليه أمين الوحي جبريل فيستقرئه ما أنزله عليه من آيات الله، فيقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات من أول سورة (النجم) إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)}! ثم يقول بعدها: (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى) فيقول أمين الوحي جبريل: ما جئتك بهذا، هذا من الشيطان! هذا هو الإغواء الذي تزعم (أخلوقه الغرانيق) في رواياتها الباطلة أنه وقع للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لتأديبه في فلسفة الشيخ الكوراني، وأنه لم يعصم منه؛ لأنه إغواء لا يخلّ بأمر الدّين في شرعة الشيخ إبراهيم الكوراني، وإذا كانت زيادة كلمات الكفر بأبشع صورة في آيات القرآن الكريم إغواء غير مخلّ بأمر الدّين، والشعبي - صلى الله عليه وسلم - غير معصوم منه، فأين الإغواء المخلّ بأمر الدّين الذي يعصم منه؟! أمران باطلان: وقد انفرد الشيخ إبراهيم الكوراني في سبيل (تصحيح أكذوبة الغرانيق الباطلة بأمرين، لم يقل بهما أحدٌ من متقدّمي أهل العلم ولا متأخّريهم):

الأمر الأول

الأمر الأول: هذا التقسيم لإغواء الشيطان إلى إغواء لا يخلّ بأمر الدّين، فلا يُعصم منه الأنبياء فمن دونهم، وإغواء يخلّ بأمر الدّين، فيعصم منه الأنبياء! فالقسم الأول يكون للشيطان فيه سلطانه المطلق الذي يعبث في العقائد والعبادات، وسائر الفضائل، يضلّ به الأنبياء فمن دونهم من خلّص المؤمنين! والقسم الثاني هو المنفي فيه سلطان الشيطان في القرآن الكريم، وهو الذي وقع الإجماع على أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه! الأمر الثاني: إن الشيخ إبراهيم الكوراني في سبيل تصحيح (أكذوبة الغرانيق الباطلة) ابتدع حكمةً لوقوعها بصورتها التي حكتها الروايات الواهية الواهنة -ولا ندري- وهو العالم الذي يصفه العلاّمة الآلوسي بخاتمة المتأخّرين -كيف خفّ على نفسه ودينه اختلاقها، ورضيها على علمه ودينه لتصحيح (أكذوبة ضالة مضلة كافرة خبيثة)! وكلام الشيخ إبراهيم الكوراني اعتمدنا في نقله ومناقشته على نقل العلاّمة المفسّر الجامع شهاب الدّين محمود الآلوسي في تفسيره (روح المعاني)؛ لأننا رأيناه يقول عنه (شيخنا)، ولكنه كان في سوق كلامه ومناقشته حرّ الكلمة منطقي الجدل، لا يمنعه توقير فضل (المشيخة) من الجهر بالحق! قال الآلوسي (¬1): وذهب إلى صحة القصة -أي أكذوبة الغرانيق- خاتمة ¬

_ (¬1) انظر: روح المعاني: 9: 169 وما بعدها، دار الكتاب العربي.

المتأخّرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني، وذكر -أي الكوراني- بعد كلام طويل: أنه تحصّل من ذلك أن الحديث -أي في رواية قصة الغرانيق- أخرجه غير واحد من أهل الصحة -وهذا كذب- وأن رواته ثقات بسند سليم- وهذا تضليل - متصل عن ابن عباس، وبثلاثة أسانيد صحيحة عن ثلاثة من التابعين من أئمة التفسير، الآخذين عن الصحابة، وهم سعيد بن جبير، وأبو بكر ابن عبد الرحمن، وأبو العالية! قال الشيخ عرجون: وهذا استدلال فاسد .. وأشار إلى روايات الأقصوصة والحديث مع الإمامين: الحافظ ابن حجر، وشيخ الإِسلام ابن تيمية .. وقال: وما نظن أن أحداً يعتقد أن طائر خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني يقع في أفق الحافظ ابن حجر، وهو المتفق على إمامته في فنون الحديث والأثر، وله فيها المؤلفات التي تقوم عليها دراسة علوم الحديث في معاهد الإِسلام وجامعاته! وقد قال البيهقي: هذه الثقة غير ثابتة من جهة النقل، فهل يُقال هذا الكلام من إمام لا يختلف الناس في سعة علمه بالحديث وفنونه، في حديث يخرجه غير واحد من أهل الصحة، ويرويه ثقات بسند سليم متّصل؟ وإذا كان في كلمة الإِمام البيهقي إجمال، فإليك قول جهبذ المحدّثين الثاني من داء الإجمال في شفائه، القاضي عياض بن موسى اليحصبي: يكفيك في توهن هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متّصل، وإنما أولع به وبحث له المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، المتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم، أي من ضراب الكوراني!

مفاسد رأي الكوراني

هذا نص مفصل الكلمات في ردّ ادّعاء الشيخ إبراهيم الكوراني! فالحديث لم يخرجه أحد قط من أهل الصحة، ولا رواه قط ثقة بسند صحيح سليم من النقد والوهن، متّصل بصحابي، فضلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -! ونضيف إلى كلام هؤلاء الأئمة في ردّ ادّعاء الشيخ إبراهيم الكوراني أن حديث الغرانيق أخرجه غير واحد من أهل الصحة ورواته ثقات بسند صحيح متّصل ما سبق لنا، وهو كلام نردّ به على من تمسّك بمراسيل الروايات -ولو صحت أسانيدها- في تصحيح قصة الغرانيق، وقد قدّمناه، ولكنا نعيده لنؤكّد أن (قصة الغرانيق أكذوبة باطلة خبيثة من وضع الزنادقة أعداء الإِسلام)! ذلك أن هذه (الأقصوصة الغرنوقية أكذوبة أحاديثها كلها مرسلة، والحديث المرسل من قبيل الضعيف عند جمهور المحدّثين) كما صرّح به ابن الصلاح، والمتّصل منها بابن عباس، وهو حديث سعيد بن جبير (دخله الشك)، وهذا قطعاً يضعفه، ويوهن الاحتجاج به، وهو مع هذه العلّة القادحة له علّة أخرى، هي أنه موقوف على ابن عباس، لم يرفع قط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -! وقصّة الغرانيق تدخل في صميم العقيدة؛ لأنها (تناقض التوحيد وتبطل عصمة الأنبياء وترفع الثقة بالنبوّة والوحي) وكل ذلك لا يقبل في ثبوته مثل ذلك! مفاسد رأي الكوراني: قال الآلوسي (¬1): وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإِمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوّية فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنّف في ذلك ¬

_ (¬1) روح المعاني: 9: 169 وما بعدها.

المفسدة الأولى

كتاباً، وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء: أن قوله: تلك الغرانيق العلا، من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة، حتى يلقوا بين الضعفاء، وأرقّاء الدّين، ليرتابوا في صحّة الدّين، وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية)! وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بسبب إلقاء الشيطان الملبّس بالملك أمور - وهي هذه المفاسد: المفسدة الأولى (¬1): تسلّط الشيطان عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالإجماع معصوم من الشيطان؛ ولا سيّما في هذا في أمر من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} (الحجر)! وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} (النحل)! قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة: إن السلطان المنفيّ عن العباد المخلصين هو الإغواء -أعني التلبيس المخلّ بأمر الدّين، وهو الذي وقع الإجماع على أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه، وأمّا غير المخلّ فلا دليل على نفيه- قلنا: ولا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول- ولا إجماع على العصمة منه-، قلنا: هذا افتراء، وإلا فأين من خالف؟ وما هنا غير مخلّ لعدم منافاته للتوحيد، بل فيه تأديب وتصفية، وترقية للحبيب الأعظم - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - تمنّى الهُدى للكل، وليس عليه - صلى الله عليه وسلم - حالة الإلقاء ¬

_ (¬1) السابق: 110 وما بعدها بتصرف.

قال الشيخ عرجون

تمنّي هدي الكل المصادم للقدر المنافي لما هو الأكمل، ليترقّى إلى الأكمل، وقد حصل ذلك بهذه المرّة، ولذا لم يقع التلبيس مرّة أخرى، بل يُرسَل بعد من بين يديه ومن خلفه رصداً .. إلخ. قال الشيخ عرجون: وقد قدّمنا بعض القول في مناقشة هذه المفسدة، وها نحن أولاً، نسوق ما ساقه الألوسي في ردّ هذه المفسدة، مع ما يسنح الفكر، فنضيفه إلى كلامه! قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى (¬1): إن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيعتقد أن الشيطان ملَك مخل بمقام النبوّة ونقص فيه، فإن الوليّ الذي دونه - صلى الله عليه وسلم - بمراتب، لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي، فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية، فكيف بمن هو سيّد الأنام، ونور عيون قلوب الأولياء، يلتبس عليه من هو محض نور بمن هو محض ديجور .. ولذلك قال المحقّقون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه، بل كان مجرّد إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع - وإلا فما دليله؟ ألا ترى أنه قال: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}! دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية، لا أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أوّلاً، ثم يذكرها شيئاً فشيئاً، وأيضاً حفظه لذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات، فنبّهه جبريل عليهما السلام، يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنّا لو سلّمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يلق في قلبه، كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} (الشعراء)! ¬

_ (¬1) انظر: السابق: 171.

وقلنا: إن ذلك ممَّا يعقل- للزم أن يعلم - صلى الله عليه وسلم - من خلو قلبه واشتغال لسانه أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام! والقول بأنه لُبِّس عليه الحال - صلى الله عليه وسلم - للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبوديّة، وهو فناء إرادته - صلى الله عليه وسلم - في إرادة مولاه عَزَّ وَجَلَّ، حيث تمنّى إيمان الكلّ وحرصه عليه، ولم يكن مراداً لله تعالى ممّا لا ينبغي الالتفات إليه؛ لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} (الأنعام)! ولا شك أن التأديب به لم يُبق ولم يذر، ولم يُقرن بما فيه تسلية أصلاً، فإذا قيل -والعياذ بالله- إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه؟! وأيضاً أيّة دلالة في الآية على (التأديب)، وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه، عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلّم أن ترتيب الإلقاء على التمنّي، مع ما في السباق والسياق مما يدلّ على التسلية عن ذلك يجدي نفعاً في هذا الباب، كما لا يخفى على ذوي الألباب! ويرد على قوله أنه بعد حصول التأديب بما ذكر، كان يُرسَل من بين يديه ومن خلفه رصدٌ يحفظونه من إلقاء الشيطان، أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك، بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات، فقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} (الجن)!

المفسدة الثانية

قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبّه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن- كان- في ذلك للاستمرار! (¬1) وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إِلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة! وهذا صريح في ذلك، ولاشك أن الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي .. ثم ساق الآلوسي حديث ابن عباس من طريق العوفي عند ابن جرير وابن مردويه، للاستدلال على أن الإلقاء كان عند نزول الوحي! وهذا الحديث في أحاديث الدر المنثور .. ثم قال الآلوسي معقّباً على الحديث، فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجوداً مع عدم ترتّب أثر عليه .. ثم أيّة فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ؟ بل كيف يسمّى رصداً؟ المفسدة الثانية (¬2): من المفاسد اللازمة على القول بأن الناطق بما ألقاه الشيطان هو النبي - صلى الله عليه وسلم -: زيادته - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ما ليس منه، وذلك مما يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - لمكان العصمة! وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال: إن المستحيل النافي للعصمة أن يزيد - صلى الله عليه وسلم - أي في القرآن- من تلقاء نفسه- هذا افتراء -أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه، وما هنا ليس كذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أَتبع فيه الإلقاء الملبّس عليه في حالة خاصّة فقط، تأديباً أن يعود لمثل تلك الحالة! ¬

_ (¬1) انظر: الشوكاني: 5: 309 دار الوفاء. (¬2) انظر: الآلوسي: 9: 170.

قال العلامة الآلوسي

قال العلاّمة الآلوسي: وما ذكر في هذا الاعتراض -أي على المفسدة الأولى- يعلم منه ما في الجواب الثاني من الاعتراض، وهو ظاهر! يقول الشيخ عرجون: ونحن نقول: يالله، من علم يفرّق بين زيادة في القرآن، يزيدها الشيطان، ويلقيها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتقبلها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها من القرآن معتقداً قرآنيّتها -كما يزعم الغرنوقيون من أمثال الكوراني- بعد أن لبّس عليه الشيطان، وأراه أنه ملك الوحي، ويتلوها النبي - صلى الله عليه وسلم - ملبِّساً بها على الأمة، ويدعوها- بمقتضى وجوب التأسّي به، ومتابعته فيما يبلّغه عن الله تعالى -وهو في غمرة التلبيس عليه إلى اعتقاد ما فيها من الشرك، ومدح الأوثان بما يناقض عقيدة التوحيد التي هي أساس للرسالة التي بعثه الله بها، (هذا منطق مأفون)! وبين زيادة في القرآن الكريم تكون من النبي صلى الله عليه وسلم -كما زعم الكوراني- فنجعل الزيادة الشيطانية الخبيثة ممكنة الوقوع بل واقعة -في زعم الغرنوقيّين- ولا تنافي العصمة، والزيادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مستحيلة الوقوع- هي التي تنافي العصمة، فالشيطان يزيد في القرآن ما يشاء من الكفر والشرك، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتقبّل زيادات الشيطان، ويبلّغها لأمّته، على أنها من عند الله، وتسلب عنه - صلى الله عليه وسلم - خاصة العلم بالقرآن، وبراعة أسلوبه ومعانيه الإيمانيّة، وحقائقه التوحيديّة! (هذا هو البلاء الذي ليس فوقه بلاء)، وا رحمةً للإسلام والمسلمين من هذا العلم الكفور الذي يصيب كبد الإِسلام فيزهق روحه، ويقضي على أصوله، تحت ظلال تكوير العمائم الضخمة!

وقد لمح العلاّمة الآلوسي أن ردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثاني سن المفاسد اللازم على صحة أخلوقة الغرانيق، يحمل في طيّاته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قبل ما ألقى الشيطان على لسانه لم يكن على علم بإعجاز القرآن، فأخذ في بيان هذا فقال: وقد يقال إن إعجاز القرآن معلوم له - صلى الله عليه وسلم - ضرورة، كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعريّ، بل قال القاضي: إن كل بليغ بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلّق بسورة أو قدرها من الكلام، بحيث يتبيَّن فيه تفاصيل قوى البلاغة! فإذا كانت آية بقدر حروف سورة، وإذا كانت (سورة الكوثر) فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة، ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدّم، ولم يخف على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه، فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلاً، ولا شكّ أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر، بل أزيد إن اعتبر الحرف المشدّد بحرفين، وهو: (وإنهن لهن الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن، لهي التي ترتجى)، الواردة فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب! فإن كان ما ذكر ممّا يتعلّق به الإعجاز، فإن كان معجزاً لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه، ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلّق به الإعجاز فهو كلام غير يسير، يتنبه البليغ الحاذق إذا سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب، لكونه ليس منه، فيبعد كل البعد أن يخفى

قال العلامة الآلوسي

عليه - صلى الله عليه وسلم - قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن، سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة، كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة، أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي، فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام، لا سيّما وقد تكرّرت على سمعه الشريف حلاوة الآيات، ومازجت لحمه ودمه، والواحد منّا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا سمع شعر شاعر وتكرّر على سمعه يعلم إذا دُسّ بيت أو شطر في قصيدة له أن ذلك ليس له، وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النَّفَس مختلف! قال العلاّمة الآلوسي: وهذا البعد متحقّق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة: وهو (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى)، أيضاً لا سيّما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلّق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة، لقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)} (الطور)! والقول بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - خفي عليه ذلك التأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب، بل أبلغ التعزير، إذا لم يكن هذا الذي قاله الكوراني داخلاً في الإطار العام للارتداد عن الدّين! ونقول إذ فتح العلاّمة الآلوسي (باب الجزاء في هذه القالة الهوجاء): إن القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خفي عليه ذلك لتأديبه يستحق صاحبه أقصى مراتب التعزير، الذي يصحّ أن يبلغ به ما تبلغ خطورة الجرم وما يترتّب عليها من آثار جسام، ولو انتهى إلى عقوبة بتقدير الشرع!

المفسدة الثالثة

المفسدة الثالثة: ومن المفاسد اللازمة على كون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الناطق بما ألقاه الشيطان: اعتقاده - صلى الله عليه وسلم - ما ليس بقرآن أنه قرآن، مع كونه بعيد الالتئام متناقضاً، ممتزج المدح بالذّم، وهو خطأ شنيع، لا ينبغي أن يتساهل في نسبته للنبي - صلى الله عليه وسلم -! (¬1) وقال الشيخ عرجون (¬2): وشناعة خطئه تظهر فيما يأتي: أولاً: نسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه لا يفرق في أسلوب الكلام بين كلام الله المعجز ببراعة أسلوبه وروعة بيانه، وهو - صلى الله عليه وسلم - القيّم الأعلى، والعقل الأوّل في معرفة إعجاز القرآن، وذلك الإعجاز الذي عرفه آحاد الأعراب، وأفراد العرب، فسجدوا له عند سماعه، ولم يكونوا قد آمنوا به، فقد روي مشهوراً أن أحد الأعراب سمع قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} (يوسف: 85)! فسجد، فقيل له في ذلك، ولم يكن مؤمناً، فقال: إنما سجدت لروعة بلاغته! وسبق أن ذكرنا قصة الوليد بن المغيرة، وقد سمع بعض آيات القرآن فقال قولته المشهورة: (والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما هو بقول بشر)! وموقف عتبة بن ربيعة، حين سمع في وفادته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعرض عليه المال والجاه والملك، ويكفّ عن تبليغ رسالته .. ورجع إلى قومه بوجه غير وجهه الذي فارقهم عليه، لما لحقه من الأخذة والدهش، لسماعه ما لم يسبق له ¬

_ (¬1) روح المعاني: 9: 169. (¬2) محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 116 وما بعدها.

أن سمع مثله روعةً وبلاغةً وحقائق كونيّةً، وأمثالها من الأحداث المشهورة المعروفة في تاريخ مطلع الرسالة، وأيّام كفاحها الأولى في نضالها المرير! هؤلاء الأجلاف أهل الجهالة الجاهلة، والوثنيّة الضالّة، يدركون إعجاز القرآن، ويفرقون بينه وبين سائر الكلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سيّد البشر لقانة وعقلاً، وأفضلهم فضلاً، وأنبلهم نفساً، وأصفاهم طبيعة، يُدخل عليه الشيطان أقبح الكلام عقيدة، وأسقطه أسلوباً، وأحطّه معاني، فيتقبّله -في زعم الغرنوقيّين- وما فيه من التناقض، وامتزاج المدح بالذم، والكفر بالإيمان، والتوحيد بالشرك، هذا الذي لم يكن ولا يكون، وهو المستحيل عقلاً ونقلاً، ولا يعتقده مؤمن، ولا يقبله إلا عقل ممرور! أمّا من جهة العقل فلما يلزمه لزوماً بيّناً من نسبة الجهل بإعجاز القرآن إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولما يلزمه لزوماً بيّناً من الافتراء على الله وتقويله ما لم يقل، وما ينزله في وحيه .. ولما يلزمه لزوماً بيّناً من سلب العصمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلّغه عن الله تعالى، والعصمة في هذا مما أجمع عليه الناس سوى (الغرنوقية) .. ولما يلزمه لزوماً بيّناً تبليغ الكفر في مدح الأوثان إلى الأمّة، والأمة مأمورة بالتأسّي بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومتابعته فيما يبلّغه إليها .. وهذا يتضمّن هدم الرسالة التوحيديّة، ويرفع أعلام الشرك .. ولما يلزمه لزوماً بيّناً من رفع الثقة بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - والوحي كله فيما يستقبل من الزمان! وأمّا من جهة النقل، فلقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الإسراء: 65)! ولما يلزمه من تصديقه للكافرين في قولهم عن القرآن: {بَلِ افْتَرَاهُ} (الأنبياء: 5)! وفي قولهم: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الشورى: 24)! ولقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ

ويرد الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقية، فيقول الآلوسي

لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} (الحاقة)! ولقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} (الأحقاف)! وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم)! إلى غير ذلك من النصوص القرآنيّة، والآيات التي تتحدّث عن تبليغ رسالة الله تعالى إلى الخلق صدقاً وعدلاً! لكن الشيخ إبراهيم الكوراني (وأئمته الغرنوقيين) لا يقتنعون بهذا كله، ويضربون به لفح الأعاصير في سبيل تصحيحهم (أكذوبة الغرانيق)، ولا نقتحم الغيب فنتظنَّن لالتفات النيّات والمقاصد، وإلي الله الملتقى وهو عليم بذات الصدور! ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي (¬1): وما ذكره في الجواب من أنه لابدّ من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول، وهو دون الأوّل -إذا صحّ الخبر- لكن إثبات صحّة الخبر أشدّ من خرط القتاد، فإن الطاعنين فيه من حيث النقل -كما عرفنا- علماء أجلاّء، عارفون بالغثّ والسمين من الأخبار، وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحقّ فيه، فلم يرووه إلا مردوداً، أو ممّا ألقى الشيطان إلى أوليائه معدوداً، وهم أكثر ممن قال بقبوله، ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في الطرق فرأوهم مجروحين، وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة -أي المغفّلين- ثم وفّق الله تعالى جمعاً من خاصّته لإبطاله لأهون من ¬

_ (¬1) انظر: روح المعاني: 9: 170.

قال الشيخ عرجون

القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نسخه سبحانه وتعالى كما يقول الغرنوقيّون، ولا سيّما وهو ممّا لا يتوقّف على صحته أمر دينيّ، ولا معنى آية، ولا، ولا، سوى أنها حصول شُبَه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين، لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد! قلنا: وسوى أنها تفتح لأعداء الإِسلام المتربّصين به من الملاحدة، وشراذم المستشرقين، ولمائم المبشّرين المتعصّبين، وهم أكثر الناس عدداً وأقواهم عدّة، وأقدرهم على ترويج الباطل بما يملكون من وسائل الترويج -كما أسلفنا- ولو لم يكن من فوائد القضاء عليها ودفنها في أحشاء مختلقيها سوى سدّ هذا الباب الشرير المفسد لكفى، فضلاً للأقلام التي تشرع أسنّتها، لهدم باطلها، وتبيين خبثها! قال الشيخ عرجون: ونضيف إلى نقض العلاّمة الآلوسي لردّ الشيخ إبراهيم الكوراني دقيقةً تهدم بنيان (الغرنقة) في كلام الشيخ الكوراني: ذلك أنه يقول: لابدّ من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول -أي في رواية القصّة الغرنوقية -ومعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلبّسْ عليه- ولم يُلْق الشيطان على لسانه شيئاً، ولم يُسلب العصمة، ولكنّه - صلى الله عليه وسلم - فيما يتصوّر الغرانقة حين يتأوّلون في روايات القصّة - حين تلا - صلى الله عليه وسلم - آيات ذمّ الأوثان وعابديها من المشركين الوثنيّن بأسلوب الإنكار والتوبيخ في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)} (النجم)! عجيب من شناعة أمرهم، وقبح اعتقادهم، وسوء قالتهم، فبيّن عن إنكاره وتعجّبه بحكاية ما يصفون به أوثانهم بجملة استفهاميّة إنكاريّة مقرعة، محذوفة أداء الاستفهام، أو بجملة إخبار تحكي قولهم بحذف القول!

وهذا الذي ذهب إليه الشيخ الكورانيّ يهدم أصل اختراقه لأقصوصة (التأديب) الذي زعمه حكمة لتلبيس الشيطان في إلقائه كلمات الكفر على لسان النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كما هو نصّ مرسل سعيد بن جبير، أصح ما تمسّك به الغرنوقيّون! وإذا كان ذلك كذلك فلا وجه لطنطنة الشيخ الكورانيّ بأخلوقة (التأديب) الجافية والتصفية والترقية؛ لأن لاحق كلامه هنا يهدم سابقه، وعندئذ يرجع الكلام إلى مجرّد النظر في ثبوت صحة الحديث، وقد أثبتنا ضعفه؛ بل بطلانه، وقال عنه الآلوسي: ودون إثبات صحته خرط القتاد، ويؤيّد عدم ثبوته مخالفته لظواهر الآيات، فقد قال سبحانه في وصف القرآن: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (فصلت)! والمرابط بالباطل ما كان في نفسه، وذلك الملقى كذلك، وإن سوّغ نطق النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تأويله بأحد التأويلين، والمراد بـ {لَا يَأْتِيهِ} استمرار النفي، لا نفي الاستمرار، وقال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (الحجر)! فجيء بالجملة الاسميّة مؤكّدة بتأكيدين، ونسب الحفظ المحذوف متعلّقه إفادة للعموم إلى ضمير العظمة، وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه، وقد استدلّ بالآية من استدلّ على حفظ القرآن من الزيادة والنقص! وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ، ولم يبق إلا زماناً يسيراً لا يخلو من نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة، لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية، على ما يقتضيه ذلك الاعتناء، تم إن قُبِل بما روي عن

قال العلامة الآلوسي

الضحاك من أن سورة (الحج) مدنيّة لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآناً في اعتقاد النبي - صلى الله عليه وسلم - زماناً طويلاً والمؤمنين زماناً طويلاً، والقول بذلك من الشناعة بمكان، بل هو أكبر من الشناعة، وأقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان! وقال جل وعلا: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (النجم)! والظاهر أن الضمير لما ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج الدارمي وغيره عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي، عن حسان قال: كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنّة، كما ينزل بالقرآن. (¬1) والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ليس عند إلقاء الشيطان، كما أنه ليس عن هوى! قال العلاّمة الآلوسي: وبقيت آيات كثيرة أخرى في هذا الباب، ظواهرها تدلّ على المدّعي أيضاً، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحّة الخبر المنافي لها، مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته، مما لا يميل إليه القلب السليم، ولا يرتضيه الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضاً عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار، له في شيء من الكتب الستة، مع أنه مشتمل على قصّة غريبة، وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته! المفسدة الرابعة: ومن المفاسد اللازمة على كون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الناطق بما ألقى الشيطان من كلمات الكفر والشرك، أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما ¬

_ (¬1) الدارمي: فتح المنان (617)، وانظر: ابن عبد البر: الجامع: 2: 234، والمروزي: السنة: 32 - 33 (103) وصححه الحافظ في الفتح.

يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه - صلى الله عليه وسلم - على غير بصيرة فيما يوحى إليه، وفيما يبلّغه عن الله تعالى، ويقتضي أيضاً جواز تصوّر الشيطان بصورة الملك، ملبّساً على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح ذلك -كما قال في الشفاء- لا في أوّل الرسالة ولا بعدها، والاعتماد في ذلك على دليل المعجزة! وقال ابن العربي: تصوّر الشيطان في صورة الملك ملبّساً على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتصوّره في صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ملبّساً على الخلق، وتسليط الله تعالى له على ذلك كتسليطه في هذا، فكيف يسوغ في لبّ سليم استجازة ذلك؟ ولكن الغرنوقيّين استجازوه وقالوا بوقوعه لسيّد الخلق خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا ألباب لهم! وأجاب الشيخ الكوراني على هذه المفسدة، فقال: إن هذا الاشتباه في حالة خاصّة للتأديب لا يقتضي أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير بصيرة، فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة! قلنا: أيّ (تأديب) هذا الذي يردّده الكوراني، وقد أبطل وجوده بوجود أساسه في زعمه، وكان أساسه التمسّك بنصّ مرسل سعيد بن جبير وأمثاله من المراسيل الواهية الواهنة التي زعمت أن الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمات الكفر الخبيث بمدح الأوثان، وأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نطق بما ألقاه الشيطان على لسانه، ملبّساً عليه بأنه ملك الوحي، وملبّساً عليه أن ما ألقاه على لسانه قرآن أوحي إليه به في البين من آيات سورة (النجم)، وكان هذا التلبيس (تأديباً) للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتصفية له، وترقيةً إلى الأكمل؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد إيمان الجميع، وهذا على خلاف إرادة الله وتقديره! ثم ذهب الشيخ الكوراني في ردّه على الوجه الثالث من وجوه المفاسد في

قصّة الغرانيق إلى التنصّل من نصّ رواية المراسيل، وقال: إنه لابدّ من حمل الكلام الشيطاني على الاستفهام وحذف أداته، أو على إضمار القول من المشركين، وهذا بلا شكّ تطويح بمصدر (التأديب) إلى هاوية البطلان؛ لأنه حينئذ لا تلبيس على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المقام مقام (تأديب)، كما زعم من لم يرجُ لله وقاراً في عصمة الأنبياء! على أن ردّ الشيخ الكورانيّ يحمل دلائل الإمعان والاستمساك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس معصوماً من تلبيس الشيطان، ولا من اشتباه ما يلقيه من خبيث الكلمات، وفجور الكفر بآيات القرآن، ويكون - صلى الله عليه وسلم - مسلوب البصيرة في معرفة ما يوحى إليه من آيات الله وشرائعه، وليحكم على هذا أهل العقول من سائر الفرق والطوائف والنحل: لأنه أمر فوق إدراك العقول! ولا وزن لتخصيصهم -الغرنوقيّين- هذا السلب ببعض الأحوال، وهي كما يزعمون الحالة الموجبة لـ (التأديب)؛ لأن ما جاز في بعض الأحوال، لا دعاء سبب باطل له يجوز أن يكون في غيرها الادعاء سبب له؛ لأن سبب (التأديب مختلق باطل)؛ لأنه مبنيّ على باطل، وهو ادّعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد هدي الكلّ، وهذه الإرادة منافية لإرادة الله عدم هداية الكلّ، فاستحق النبي - صلى الله عليه وسلم - في زعم الكوراني- التأديب من أجل إرادته هدي الكلّ، والغرنوقيون يتحكّمون في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي إرادته، وفي تبليغ رسالته إلى الخلق، ليفرضوا كما فرض الخوارج المارقون من الدّين نقائص توجب -في زعمهم- التأديب، ولا شكّ أن هذا منزع جاف منكر خبيث، هو منزع الخوارج! ثم قال الشيخ الكوراني: وأما قول عياض: لا يصحّ أن يتصوّر الشيطان بصورة الملك، ويلبّس عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإن أراد به أنه لا يصحّ أن يلبّس تلبيساً قادحاً

فهو مسلّم، لكنه لم يقنع، دن أراد مطلقاً ولو كان غير مخلّ فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخلّ بأمر النبوّة المنافي للتوحيد، القادح في العصمة، وما ذكره غير مخل، بل فيه تأديب! وافتراءات أن في تلبيس الشيطان تلبيساً قادحاً مخلاًّ بالنبوّة والعصمة، وتلبيساً غير قادح ولا مخلّ بالنبوّة والعصمة، قد بيّنا أنها فرىً كاذبةً مختلقةً، ويستحيل أن يلبّس الشيطان على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويريه أنه ملكَ الوحي، ويعتقد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يلبّس عليه -فيلقي على لسانه كلمات الكفر والشرك، ويعتقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ينبه على افترائها! وقد عرضنا فيما سبق لـ (أخلوقة التأديب) التي اخترقها الشيخ الكوراني عند تملّصه من رأيه في (أكذوبة الغرانيق)، إذ هبّ عندما سدّت عليه المسالك إلى القول بأنه لابدّ من حمل الكلام الشيطانيّ على الاستفهام أو إضمار القول، وحينئذ فلا إلقاء من الشيطان على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تأديب لسيّد الكاملين! ثم قال الشيخ إبراهيم الكوراني: وأمّا ما ذكره ابن العربي فقياس مع الفارق؛ لأن تصوّر الشيطان في صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقماً منفيّ بالنصّ الصحيح، وتصوّره في صورة النبي ملبّساً على الخلق إغواء يعمّ، وهو سلطان منفيّ بالنصّ عن المخلصين، وأمّا تصوّره في صورة الملك في حالة خاصّة ملبّساً على النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس من السلطان المنفيّ ولا بالتصوّر الممنوع، نعوذ بالله من الحور بعد الكور! سبحان الله .. تلبيس يغوي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشبِّه عليه أخبث الكفر فيما ألقاه الشيطان -بزعم الغرنوقيّين- بآيات الله من القرآن المجيد جائز عند الشيخ

المفسدة الخامسة

الكوراني لـ (التأديب)، وتلبيس يغوي العامة ممنوع منفيّ بالنصّ عن المخلَصين؟ فهل في دنيا العقل السليم أبشع من هذا أو أقبح اعتقاداً منه؟ ولكن التعصّب لا يبالي بصاحبه أن يخرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق! المفسدة الخامسة: ومن المفاسد اللازمة على كون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو الناطق بما ألقاه الشيطان على لسانه من كلمات الكفر ومدح الأوثان، التقوّل على الله إمّا محمداً، وإما خطأ، أو سهواً، وكل ذلك محال في حقّه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمعت الأمّة -على ما قال القاضي عياض- على عصمته - صلى الله عليه وسلم - فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الأخبار، بخلاف الواقع، لا قصداً ولا سهواً! قال الشيخ الكوراني (¬1): التقوّل تكلّف القول، ومن لا يتبع إلا ما ألقي إليه من الله تعالى حقيقة، أو اعتقاداً -فاسداً- ناشئاً عن تلبيس غير مخلِّ، لا تكلّف للقول عنده، فلا تقوّل على الله تعالى أصلاً! هذا منطق (¬2) الغرنوقيّين، فهم يرون أن قولاً لبّس به الشيطان على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدخله عليه على أنه من القرآن، وبلّغه النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة كذلك بعد أن قبله واعتقده، وهو أخبث القول وأشدّه مناقضة لعقيدة التوحيد، وأسرعه هدماً ونقضاً لأصول الرسالة لا يعدّ (في نظر الغرنوقيّين) تقوّلاً على الله تعالى؛ لأن التقوّل تكلّف القول وهذا لا تكلّف فيه، وإنما ألقي إليه إلقاء أشبه بالزحلقة، فلم يميز بينه وبين كلام الله المنزل بالوحي الصادق في إعجازه الأسلوبيّ والمعنويّ، ¬

_ (¬1) انظر: روح المعاني: 9: 171. (¬2) السابق: 124 بتصرف.

رغم ما في القول المزحلق من الشيطان على لسان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من مراغمة ومناقضة لحقائق القرآن وهدايته! لكن المفسّرين والثقاة من أئمة اللغة يأبون تخريج الغرنوقيّين للفظ التقوّل في القرآن ويقولون: التقوّل هو الافتراء على الله، وتقويله ما لم يقل، قال أبو حيان في (البحر) -وهو من أساطين العربيّة وأئمّة اللغة- والتقوّل: أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئاً لم يقله، فمن اتّبع ما ألقى إليه ملبّساً عليه على أنه من عند الله، وليس هو من الله، مفتر على الله، متقوّل عليه؛ لأنه قوّله ما لم يقل! وقال ابن منظور في (لسان العرب): وأقوله ما لم يقل، وقوّله ما لم يقل كلاهما ادّعى عليه .. وتقوّل فلان عليّ باطلاً: أي قال عليّ ما لم أكن قلت، وكذبَ عليّ، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} (الحاقة)! فزعم الشيخ الكوراني أنه لا تقوّل أصلاً فيما ألقاه الشيطان من خبيث الكلم، وقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - في زعمه- وبلّغه إلى الأمّة على أنه موحى إليه مراغمة لأهل اللغة، ومجازفة في قضايا العلم، بل هو تقوّل مفضيّ قطعاً وقوعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنص الآية! ومما يضحك الثكالى قياس الشيخ إبراهيم الكوراني قصّة الغرانيق، وما وقع فيها من أكاذيب ومفاسد خطيرة على قصّة السهو في الصلاة، ثم ختم هذه الأضحوكة فقال: فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوّة كذلك الاشتباه في الإلقاء لـ (التأديب) غير قادح! (¬1) أليس كذلك يقول (أرسطو شيخ الفلسفة الكورانيّة والمنطق الهلاهيلي)، ¬

_ (¬1) انظر: السابق: 125.

المفسدة السادسة

وما بعد منطق أرسطو حجّة لقائل، وقد نسي الشيخ الكورانيّ أن أرسطو وتلاميذه عجماً وعرباً يشترطون لصحة نتيجة القياس الأرسطي صحة قضاياه وصدقها، وقياس الشيخ الكوراني باطل، فالصغرى فيه كاذبة؛ لأن كون ما يلقي الشيطان من الكفر والشرك صدقاً، بناء على اعتقاد أن المُلْقي ملك باطل؛ لأن الملْقي شيطان وليس ملكاً، والاعتقاد الفاسد لا يجعل الكذب والباطل صدقاً وحقًّا، وإذا أبطلت صغرى قياس الشيخ الكوراني فقد انهدم بنيان قياسه كله، وتبرأ منه أرسطو وإخوانه من المتفلسفة العقلانيّين! المفسدة السادسة: ومن المفاسد اللازمة على كون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الناطق بما ألقاه الشيطان على لسانه، الإخلال بالوثوق بالقرآن، فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع هذا الإخلال بالوثوق بقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (الحج: 52)! لأن هذا القول ينسخ ما يلقي الشيطان، يحتمل أنه -أي الناسخ- مما ألقاه الشيطان؛ إذ لا فرق -كما قال العلاّمة البيضاوي- قال الكورانيّ: يرد على ذلك لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا؛ لأن وثوق كل منهم تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين، فإذا جزم بأمر أنه كذا جزموا به، وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا عنه، كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظاً ومعنى، إذ قبل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبّدون بتلاوته، وبعد النسخ جزموا بأنهم متعبّدون بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلّفون بحكمه، وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلّفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ} إلخ؛ لأنه أيضاً يحتمله ليس بشيء؛ لأنه إن أراد أنه

قال العلامة الآلوسي

يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات، وهم الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، والذين أوتو العلم، والذين آمنوا، فهذا ممنوع لدلالة قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (الحج: 54)! على انتفاء الاحتمالين عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والإحكام! وإن أراد البيضاوي أنه يحتمله في الجملة، أي عند بعض دون بعض، فهو مسلّم، وغير مضرّ، لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم، والذين آمنوا، وأمّا إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عَزَّ وَجَلَّ! قلنا: هذا الترديد فاسد؛ لأن قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} إلخ محتمل أن يكون من إلقاء الشيطان؛ لأن جواز التلبيس والاشتباه رفع الثقة إطلاقاً، وليس لنصّ دون نصّ، فكل ما يدّعى قرآنيّته فالاحتمال قائم فيه، فلا ثقة عند أيّة فرقة من الفرق المذكورة في الآية؛ لأن ثقة الذين أوتوا العلم، والذين آمنوا، متابعة لوثوق متبوعهم، وهو في -زعم الغرنوقيّين- ملبّس عليه في الْمُلْقِي والْمُلْقَى، فهو لا جزم عنده إلى أن يبين له بوحي جديد، وهو أيضاً موضع احتمال، وهكذا تصبح -الرسالة والوحي والنبيّ والقرآن- في زعم الغرنوقيّين- معبثة وشكوكاً! قال العلاّمة الآلوسي: إنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلاً، لجواز أن يكون كل وثوق ناشئاً عن تلبيس، كالوثوق بأن (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى)، قرآن، فلما تطرّق الاحتمال إلى الوثوق جاز أن يتطرّق إلى الرجوع عنه، ولا يظهر فرق بينهما، فلا يعوّل حينئذ على جزم، ولا على رجوع!

ثم قال العلامة المفسر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقبا على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقية)

وقول الكوراني فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء، هو ليس بشيء؛ لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة، والآية التي ادّعى دلالتها على انتفاء الاحتمالين عند الفريقين بعد النسخ والإحكام فيها ذلك الاحتمال، والحقّ أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسدّ هذا الباب، ولا يجدي نفعاً كون الحكمة المشار إليه بقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} (الحج)! آبية عن بقاء التلبيس، فلا أقلّ من أن يتوقّف قبول معظم ما يجيء به النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يتبيّن كونه ليس داخلاً في باب التلبيس، مع أنا نرى الصحابة رضي الله عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره - صلى الله عليه وسلم - إيّاهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها، مما يحقّق أنها ليست عن تلبيس! ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة): وتوسّط جمع في أمر هذه القصّة، فلم يثبتوها كما أثبتها الكورانيّ كافأة الله بما يستحق من أنه - صلى الله عليه وسلم - نطق بما نطق محمداً للتلبيس أنه وحي، حاملاً له على خلاف ظاهره- مختلقاً ما يجافي الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ادّعائه أن هذا التلبيس كان لـ (تأديب) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سيّد الكَمَلة من الأنبياء والمرسلين الذي خصّه ربّه بأعظم الثناء، وبارع المدحة، فقال له يخاطبه مواجهةً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} (القلم)! ولم ينفوها بالكليّة كما نفاها أجلّة أثبات، قال الآلوسي: وإلى النفي كلية أميل، بل أثبتوها على وجه غير الوجه -الجافي المنتفج- الذي أثبته الكوراني، واختلفوا في إثباتهم للقصّة على الوجه المغاير لإثبات الكوراني، على أوجه من التأويل، وكلها أوجه مما لا ينبغي عندي أن يلتفت إليها!

ثم قال الآلوسي

ثم قال الآلوسي: وفي شرح الجوهرة الأوسط، أن حديث الغرانيق ظاهره مخالف للقواطع، قال الآلوسي: وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب، وأظهرها فساداً أنه - صلى الله عليه وسلم - أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه، حرصاً على إيمان قومه، ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} (الكهف)! وأنت تعلم أن تفسير الآية، أعني قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} (الحج: 52) إلخ! لا يتوقف على ثبوت أصل هذه القصة! قال شيخنا عرجون رحمه الله: وإنما أطلنا رشاء القول في البحث مع الشيخين الإمامين: ابن تيمية، وابن حجر، لمكانهما من العلم والمعرفة، ولما لهما من التوقير والتقدير بين رعيل الأئمة الأعلام، دفعاً للخشية على قلوب كثير من المؤمنين خاصّةً وعامّةً أن يخونها الاعتقاد في مكانة الشيخين، فتذهب بها إلى هاوية من الحيرة والشكّ فيما تقتضيه هذه الأقصوصة الغرنوقيّة من مخاطر ومخاطر على العقيدة التوحيديّة، وأصول الإيمان، ومعرفة قدر القرآن العظيم، وتقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - في قداسة نبوّته ورسالته، وفتح باب التقوّل على الله وعلى كتابه ورسوله عند أعداء الإِسلام، ولأن نغلط بعض الرواة أو نزيّف رأي بعض أصحاب الشهرة الداوية التي تحمل فوق هاماتها هالات التقديس الذي لا يقبل النقد والمناقشة عند مقلّديهم -وذلك وفق قواعد التحديث، رواية ودراية ورد الشيهات ودحض المفتريات- خير ألف مرّة من تسليم ما ينسب إليهم في هذه الأقصوصة الخبيثة الباطلة التي تعصف بالإيمان عصفاً يلقيه في مهابّ الشكوك والحيرات! فكل أحد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجوز في حقه الوهم والخطأ والنسيان، وقد

آيات القرآن

وقى الله الأمّة شرّ هذه الأقصوصة المتزندقة فلم تثبت برواية مسندة صحيحة، فلم يتدنّس بروايتها صحابي قط، ولا تابعي من ذوي الثقة الأعلام! أمّا مصابرتنا للشيخ الكوراني، وبيان زيف كلامه، وخروجه عن جادّة الصواب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهوّره في حماقة لا يعرفها أهل العلم والإيمان، فخشية أن ينخدع بأباطيله وأكاذيبه من يقرأ كلامه في سياق الآلوسي الذي كبا به جواد الحقّ فغلط، فقال في وصف هذا الكوراني (إنه خاتمة المحقّقين)! والله تعالى وحده العلم بالنيّات، وهو المجازي بعدله كل عمل اكتسبه عبدٌ من عباده، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل! آيات القرآن: ومعلوم أن الرسل عندما يكلّفون حمل الرسالة إلى الناس (¬1)، يكون أحبّ شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتّبعوه .. ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة .. والرسل بشر محدودو الأجل، وهم يحسّون هذا ويعلمونه، فيتمنَّون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق .. يودون مثلاً لو هادنوا الناس فيما يعزّ على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات، فيسكتوا عنها مؤقّتاً، لعلّ الناس أن يفيئوا إلى الهُدى، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة! ويودّون مثلاً لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2433 وما بعدها بتصرف.

استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتمّ فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة! ويودّون، ويودّون .. من مثل هذه الأماني والرغبات البشريّة المتعلّقة بنشر الدعوة وانتصارها .. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالكسب الحقيقيّ للدّعوة في التقدير الإلهيّ الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أوّل الطريق، فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيلة أن تثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مُثُل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء! ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشريّة، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرّفات أو كلمات فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس .. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبيّن الحكم الفاصل فيما وقع من تصرّفات أو كلمات .. ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة، كما حدث في بعض تصرّفات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بياناً في القرآن! بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هناك شبهة في الوجه الصواب: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج)! فأمّا الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف، والقاسية قلوبهم من

الكفّار المعاندين، فيجعلون في مثل هذه الأحوال مادّةً للجدل واللّجاج والشقاق: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} (الحج)! وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} (الحج)! وفي حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي تاريخ الدعوة الإِسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار إليه الإِمام ابن جرير رحمه الله! وهنا نذكر ما رواه الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قال: أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} (عبس)! في ابن أمّ مكتوم الأعمى، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول: يا رسول الله! أرشدني، وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ من عظماء المشركين، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرض عنه، ويُقبل على الآخر، ويقول: "أترى بما أقول بأساً" فيقول: لا، ففي هذا أنزل! (¬1) وقد أجمع المفسّرون على أن سبب نزول الآية: أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد طمع في إِسلامهم، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع عليه ابن أمّ مكتوم كلامه، فأعرض عنه فنزلت. (¬2) وتطالعنا الآيات: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) ¬

_ (¬1) الترمذي (3331)، وعلله الكبير (667)، وصحيح الترمذي (2651)، وأبو يعلى (4848)، والطبري: التفسير: 30: 50، والحاكم: 2: 514، وابن حبان (535). (¬2) انظر: الشوكاني: 5: 378.

وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} (عبس)! وهذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً، أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة .. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتّبت على إقرارها بالفعل في حياة البشريّة، ولعلّها هي معجزة الإِسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك، ولكن هذا التوجيه يرد هكذا، تعقيباً على حادث فردي، على طريقة القرآن الإلهيّة في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصةً لتقرير الحقيقة المطلقة، والمنهج المطرد! (¬1) وبهذا ردّ الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة، وصحّح تصرّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي دفعته إليه رغبته في هداية صناديد قريش، طمعاً في إسلام مَن وراءهم وهم كثيرون .. فبيّن الله له أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهمّ من إسلام أولئك الصناديد، وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة، وأحكم الله آياته، واطمأنّت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين! ويروي مسلم عن سعد -هو ابن أبي وقاص- قال: (¬2) كنّا مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ستّة نفر، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرد هؤلاء لا يجترؤن علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجلٌ من هذيل، وبلال، ورجلان لَسْتُ أُسميهما، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، ¬

_ (¬1) انظر: السابق: 6: 3822 وما بعدها. (¬2) مسلم: 44 فضائل الصحابة (2413).

فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52)! وهكذا ردّ الله للدّعوة قيمها المجرّدة، وموازينها الدقيقة، وردّ كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة، ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وقيم الدعوة أهمّ من أولئك الكبراء، وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم، وتقوية الدعوة في نشأتها بهم -كما كان يتمنّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم بمصدر القوّة الحقيقيّة، الكامنة في الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيًّا ولا عُرفاً جارياً! ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمّين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} (الأحزاب: 37)! نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة! (¬1) وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (جاء زيد بن حارثة) يشكو، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك". قال أنس: لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوّجكنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سموات! (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4787). (¬2) البخاري: 97 - التوحيد (7420).

قال ابن حجر (¬1): أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السّدّي، فساقها سياقاً واضحاً حسناً، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يزوّجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم إِنها رضيت بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزوّجها إِيّاه، ثم أعلم الله عزّ وجلّ نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بعد أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمر بطلاقها. وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه، ويقولوا: تزوّج امرأة ابنه، وكان قد تبنّى زيداً). ثم قال ابن حجر: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم، والطبري، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد! والحاصل أن الذي كان يخفيه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هو إخبار الله إيّاه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوّج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهليّة عليه من أحكام التبنّي بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوّج امرأة الذي يُدعى ابناً، قال: ووقوع ذلك من إمام المسلمين، ليكون أدعى لقبولهم، قال: وإنما وقع الخبط في تأويل متعلّق الخشية، والله أعلم! (¬2) وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر: الفتح: 8: 523 - 524. (¬2) وانظر: أحمد: 6: 241، 266، والطبري: التفسير: 22: 13 عن عائشة رضي الله عنها.

درس للدعاة

من كراهية القوم لزواجه من زينب، ولم يكن للشيطان أن يدخل من هذه الثغرة، وترك الذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، يتخذون من هذه الحادثة، مادّة للشقاق والجدال .. ما تزال! درس للدعاة: ولقد تدفع الحماسة والحرارة أصحاب الدعوات -بعد الرسل- (¬1) والرغبة الملحة في انتشار الدعوات وانتصارها .. تدفعهم إلى استمالة بعض الأشخاص أو بعض العناصر بالإغضاء في أوّل الأمر عن شيء من مقتضيات الدعوة، يحسبونه هم ليس أصيلاً فيها، ومجاراتهم في بعض أمرهم، كي لا ينفروا من الدّعوة ويخاصموها! ولقد تدفعهم كذلك إلى اتخاذ وسائل لا تستقيم مع موازين الدعوة الدقيقة، ولا منهج الدعوة المستقيم، وذلك حرصاً على سرعة انتصار الدعوة وانتشارها، واجتهاداً في تحقيق (مصلحة الدعوة)! و (مصلحة الدعوة الحقيقيّة) في استقامتها على المنهج دون انحراف قليل أو كثير، أمّا النتائج فهي غيب لا يعلمه إلا الله، فلا يجوز أن يحسب حملة الدّعوة حساب هذه النتائج؛ إنما يجب أن يمضوا على نهج الدّعوة الواضح الصريح الدّقيق، وأن يدعوا نتائج هذه الاستقامة لله، ولن تكون إلا خيراً في نهاية المطاف! وها هو ذا القرآن الكريم ينبّههم إلى أن الشيطان يتربص بأمانيّهم تلك، لينفذ منها إلى صميم الدّعوة! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2435.

وإذا كان الله عزّ وجلّ قد عصم أنبياءه ورسله، فلم يمكن الشيطان أن ينفذ من خلال رغباتهم الفطريّة إلى دعوتهم، فغير المعصومين في حاجة إلى الحذر الشديد من هذه الناحية، والتّحرّج البالغ، مخافة أن يدخل عليهم الشيطان من ثغرة الرّغبة في نصرة الدعوة، والحرص على ما يسمونه (مصلحة الدعوة)! إن كلمة (مصلحة الدعوة) يجب أن ترتفع من قاموس أصحاب الدعوات؛ لأنها مزلة، ومدخل للشيطان يأتيهم منه، حين يعزّ عليه أن يأتيهم من ناحية (مصلحة الأشخاص)! ولقد تتحوّل (مصلحة الدعوة) إلى صنم يتعبّده أصحاب الدعوة، وينسون معه منهج الدعوة الأصيل! إن على أصحاب الدّعوة أن يستقيموا على نهجها، ويتحرّوا هذا النهج، دون التفات إلى ما يعقبه هذا التحرّي من نتائج، قد يلوح لهم أن فيها خطراً على الدّعوة وعلى أصحابها! فالخطر الوحيد الذي يجب أن يتقوه هو خطر الانحراف على النهج لسبب من الأسباب، سواء كان هذا الانحراف كثيراً أو قليلاً، والله أعلم منهم بالمصلحة وهم ليسوا بها مكلّفين، إنما هم مكلفون بأمر واحد، ألا ينحرفوا عن المنهج، وألا يحيدوا عن الطريق! ويعقب السياق على تلك الآيات، وما فيها من صيانة لدعوة الله من كيد الشيطان بأن الذين يكفرون بها مدحورون، ينتظرهم العذاب المهين: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)} (الحج)!

اعتباران

ذلك شأن الذين كفروا مع القرآن كله، يذكره السياق بعد بيان موقفهم مما يلقي الشيطان في أمنيات الأنبياء والرسل، لما بين الشأنين من تشابه واتصال، فهم لا يزالون في ريبة من القرآن وشك .. منشأ هذه الرّيبة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، فتدرك ما فيه من حقيقة وصدق، ويظل هذا حالهم {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)}! بعد قيام الساعة .. ووصف هذا اليوم بالعقيم وصف يلقي ظلاً خاصاً، فهو يوم لا يعقب .. إنه اليوم الأخير! في هذا اليوم الملك لله وحده، فلا ملك لأحد، حخى الملك الظاهري الذي كان يظنّه الناس في الأرض ملكاً .. والحكم يومئذ لله وحده، وهو يقضي لكل فريق بجزائه المقسوم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}! جزاء الكيد لدين الله، وجزاء التكذيب بآياته البيّنات، وجزاء الاستكبار عن الطاعة لله والتسليم! اعتباران: والسجود -كما عرفنا- يرجع إلى اعتبارين: (¬1) الاعتبار الأول: أن الذي كان يقرأ السورة هو محمد - صلى الله عليه وسلم - النبيّ، الذي تلقى هذا القرآن مباشرةً من مصدره، وعاشه وعاش به! وفي سورة (النجم) خاصةً كان يعيش لحظات، عاشها في الملأ الأعلى، ¬

_ (¬1) السابق: 6: 3421 بتصرف.

وعاشها مع الروح الأمين .. مكشوفة عنه الحجب (¬1)، مزاحة عنه الأستار .. يتلقَّى من الملأ الأعلى .. يسمع ويرى .. ويحفظ ما وعى .. وهي لحظات خصّ بها ذلك القلب المصفّى، ولكن الله يمنّ على عباده، فيصف لهم هذه اللحظات وصفاً موحياً مؤثراً، ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم .. حتى لكأنهم كانوا شاهديها! وتطالعنا نفحات مباركات طيبات .. تمسّ القلوب، ويرتجف لها الكيان تحت وقع اللمسات المتتابعة .. والغيب المحجوب لا يراه إلا الله، والعمل المكتوب لا يندّ ولا يغيب عن الحساب والجزاء .. والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد، والحشود الضاحكة، والحشود الباكية .. وحشود الموتى، وحشود الأحياء .. والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها وتبرز أسرارها فإذا هي ذكر وأنثى .. والنشأة الأخرى ومصارع الغابرين {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}! {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)}! وتجيء الصيحة الأخيرة التي تهزّ الكيان هزًّا: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}! وفي هذه الصيحة الأخيرة يهتزّ الكيان كله .. وذلك سرّ من أسرار القرآن الكريم! ¬

_ (¬1) السابق: 3406 بتصرف.

الاعتبار الثاني

والشأن في المؤمن أن يتلقَّى هذا الذكر في وجل وارتعاش، وفي تأثر شديد تقشعرّ منه الجلود، ثم تهدأ النفوس، وتأنس القلوب بهذا الذكر، فتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} (الزمر)! وتلك صورة حيّة حسّاسة ترسمها الكلمات، فتكاد تشخص فيها الحركات! الاعتبار الثاني: معلوم أن المشركين لم تكن قلوبهم ناجية من الرعشة والرجفة -كما أسلفنا- وهم يستمعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان العناد المصطنع هو الذي يحول بينهم وبين الإذعان .. ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة (النجم) من محمد - صلى الله عليه وسلم - أقرب ما يقبله العقل ويؤيّده النقل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التي لا يملكون أنفسهم إزاءها، وأن يؤخذوا بسلطان القرآن الكريم فيسجدوا مع الساجدين .. بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين! ومن فضل الله على الدعاة أن القرآن دستورهم .. وأن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلةً ولا تطوّعاً ولا موضع اختيار (¬1) .. إنما هو الإيمان .. أو فلا إيمان: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (الأحزاب). {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) ¬

_ (¬1) انظر مقدمة في ظلال القرآن.

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} (الجاثية)! والأمر إذن جد .. إنه أمر العقيدة من أساسها .. ثم هو أمر سعادة هذه البشريّة أو شقائها .. والبشريّة -وهي من صنع الله- لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدّمه هذا القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82} (الإسراء)!، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} (الإسراء)! هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهُدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان، ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان، وعصر ومصر، وجيل وقبيل! يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشريّة الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعيّة ونواميس الفطرة البشريّة في تناسق واتّساق! ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلّعة إلى أعلى وهي مستقرّة على الأرض، وإذا العمل عبادة، متى توجّه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة! (¬1) ¬

_ (¬1) السابق: 4: 2215 بتصرف.

وصية أخوية

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشقّ التكاليف على النفس حتى تملّ وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخّص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال، وحدود الاحتمال! ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأزواجاً، وحكومات وشعوباً، ودولأَ وأجناساً، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثّر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودّة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض .. الأسس التي أقامها العلم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، ونظام التعامل الدّولي اللائق بعالم الإنسان! ويهدي للتي أقوم في تبنّي الرسالات السماوية جميعها، والربط بينها كلها، وتعظيم مقدّساتها، وصيانة حرماتها، بجميع عقائدها السماويّة في سلام ووئام! وصيّة أخويّة: وأوصي الدعاة إلى الله تعالى بأن يحفظوا القرآن في صدورهم ويتفقّهوا في معانيه، وأن يكونوا قرآناً حيًّا متحرّكاً في حياتهم! قال الشاعر وليد الأعظمي (¬1): ¬

_ (¬1) شعراء الدعوة الإسلاميّة في العصر الحديث: 5: 7.

الله غاتُنا وهل من غايةٍ ... أسمى وأغلى من رضى الرحمنِ وزعيم دعوتنا الرسول وما لنا ... غير الرسولِ محمدٍ من ثانِ دستورنا القرآن وهو منزّل ... والعدل كل العدل في القرآنِ وسبيل دعوتنا الجهاد وإِنه ... إِن ضاع ضاعت حرمة الأوطانِ والموت أمنية الدعاة فهل ترى ... ركناً يعاب بهذه الأركانِ * * * رجاء أن نكون مصاحف في هذه الحياة، وتهبّ نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد، يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد! وقال الأخ العلامة الدكتور القرضاوي تحت عنوان: (فتى القرآن): أنا إِن سألت القوم عنّي من أنا؟ ... أنا مؤمن سأعيش دوْماً مؤمنا! فليعلم الفجّار أني ها هنا ... لن أنحني لن أنثني لن أركنا!

* * * إِنّي رأيت الله في أكوانه ... وسمعت صوت الحق في قرآنهِ ولست حكمته وفيض حنانه ... في سيرة المختار في إِيمانهِ * * * أنا مسلم هل تعرفون السلما ... أنا نور هذا الكون إِن هو أظلما! أنا في الخليقة ريّ من يشكو الظما ... وإِذا دعى الداعي أنا حامي الحمى! * * * أنا مصحف يمشي وإِسلام يُرى ... أنا نعمة علويّة فوق الثرى الكون لي ولخدمتي قد سُخِّرا ... ولمن أنا؟ أنا للذي خلق الورى * * * أنا من جنود الله حزب محمّد ... وبغير هدي محمَّد لا أهتدي

حاشاي أن أُصغي لدعوة مُلْحد ... وأنا فتى القرآن وابن المسجدِ! أنا كوكب يهدي القوافل في السّرى ... وأنا الشهاب إِذا رأيت المنكرا ما لي سوى نفسٍ تعزّ على الشّرَا ... قد بِعْتُها لله والله اشترى (¬1) جمعنا الله في مستقرّ رحمته إخواناً على سرر متقابلين، آمين آمين آمين! ¬

_ (¬1) نفحات ولفحات: 118.

محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة * قوّة عزيمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - * التآمر على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - * تدبير أبي طالب لحماية الرسول - صلى الله عليه وسلم - * سبب كتابة الصحيفة * شدّة حرص أبي طالب وشعره * آية الله في الصحيفة * سعي أبي طالب * كاتب الصحيفة * شدّة الحصار * كاتبها ماحيها * تحرّك العواطف * لؤم نحيزة أبي جهل * شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة * المقاطعة في الصحيح * دروس للدعاة * إعداد لتحمل أثقال الدعوة * مسيرة الدعوة

محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة سبق أن عرفنا قول ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث بدء الوحي: (هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حَيًّا إِذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أومخرجيَّ هُمْ"؟! قال: نعم، لم يأت رجل قطّ بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإِن يُدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً، ثم لم يلبث ورقة أن توُفِّي، وفتر الوحي). وأبصرنا معالم الابتلاء في: - الاضطهاد والتعذيب! - والمساومة والإِغراء! - والهجرة إِلى الحبشة! وأبصرنا قوّة الإِيمان في مواجهة هذا الابتلاء الذي يعجز الخيال عن تصوّره .. وأن الحسّ لا يتلقّاه إِلا بهول وروع .. ! وهذا هو الطريق! قوّة عزيمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ومع ذلك لم يفتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحظة واحدة عن القيام بأمر ربّه في تبليغ رسالته، ونشر دعوته (¬1)، وهو يلقى من عن البلاء وفوادح الإيذاء وسفاهة ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 293 وما بعدها بتصرف.

التآمر على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -

السفهاء، وإقامة العقبات في سبيل سير الدعوة إلى أهدافها، والوصول بها إلى غايتها، صابراً محتسباً، عفوًّا صفوحاً، كريماً حليماً؛ مما جعل دعوة الحق والهداية تدخل إلى كل مجتمع ومحفل وناد في مواسم العرب وأسواقهم حتى أصبح لها في كل قبيلة ذكر، وعند كل قوم أثر ومشهد، وتحدّث الناس عن هذه الدعوة بين موافق معجب ومخالف مقلّد! التآمر على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد أحفظ ذلك عتاولة الشرك، وغطارفة الوثنيّة، وملأ الكفر من المستكبرين في قريش، فاشرأبّت أعناق الحقد الأسود في قلوبهم، وتعرّجت طرائق المقاومة، وأبلسوا في متائه الحيرة، وعُمِّي عليهم الرأى، وغُمِّيَتْ عليهم دلائل الهداية فلم يعرفوا إلاّ الشرّ وذرائعه، وإلاّ سوء المكر ووسائله، وانتهوا إلى مجثم الشيطان يستنزلون أوامره، وتلقّوها من وحيه سوداء مظلمة، حاقدةً مضطغنةً، وراحوا يمكرون ويدبّرون، لينفذوا أبشع جريمة غادرة، بعد أن أعيتهم مواقف العزيمة الصارمة الماضية، التي لا ينحسر مدّها، ولا يتوقّف توثّبها، في ثبات ورسوخ من اليقين الذي ملأ حياة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحياة أصحابه رضي الله عنهم، فاستهانوا بكل بلاء، واحتملوا كل إيذاء وتعذيب، وسخرية واستهزاء، فلم يبق أمام ظلم ذوي القربى إلا قاصمة الظهر، فقد طرقوا كل باب من أبواب الشرّ والفجور، فلم يُجدهم شيئاً، وانتثروا آخر سهامهم، فلم يجدوا فيها إلًا سهماً واحداً لم يجرّبوه! ذلك أن يقتلوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - علانيةً، ليجعلوا قومه بني هاشم أمام عاصفة لا قبل لهم بالوقوف أمام زمجرتها وتدميرها!

تدبير أبي طالب لحماية الرسول - صلى الله عليه وسلم -

فقد أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب فيما رواه عنه موسى بن عقبة صاحب المغازي، وهذا لفظ حديث القطان، قال: (¬1) ثم إِن المشركين اشتدّوا على المسلمين كأشدّ ما كانوا، حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتدّ عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيةً! تدبير أبي طالب لحماية الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شِعبهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك، مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حميّةً، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً .. وذلك في المحرّم من السنة السابعة من النبوّة! ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان بمكّة من المؤمنين أن يخرجوا إلى الحبشة، وهذه هي الهجرة الثانية -كما أسلفنا- ومن قوي على البقاء بمكّة دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقومه الحصار بالشّعب! سبب كتابة الصحيفة: فلمّا عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم إلا أن يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل! ¬

_ (¬1) دلائل النبوة: 2: 311، وما بعدها بتصرف، وانظر: ابن هشام: 1: 371، وابن سعد: 1: 1: 139، والطبري: 2: 335، والبداية: 3: 84، والنويري: 16: 258، والحلبية: 1: 449، والدرر: 53، وسبل الهدى والرشاد: 2: 502.

شدة حرص أبي طالب وشعره

وكتبوا بمكرهم صحيفةً وعهوداً ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموا محمداً - صلى الله عليه وسلم - للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتدّ عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركون طعاماً يقدم مكّة، ولا بيعاً، إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! شدّة حرص أبي طالب وشعره: وكان من شدّة حرص أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالغ حياطته وحفظه أنه كان مدّة زمن الحصار إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع على فراشه المعدّ لنومه، حتى يرى ذلك من أراد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مكراً لاغتياله، فإذا نوّم الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه! قال ابن إسحاق: (¬1) فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا، قال أبو طالب: ألا أبلغا عنّي على ذات بيننا ... لؤيًّا وخصّا من لؤيّ بني كعب ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً ... نبيًّا كموسى خُطَّ في أوّل الكتبِ ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 432 - 434، والبداية: 3: 87، والروض الآنف: 2: 102 - 103.

وأن عليه في العباد محبّة ... ولا خير (¬1) ممن خصه الله بالحبَّ وأن الذي ألصقتمو من كتابكم ... لكم كائن نحساً كراغبة السّقَبِ أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفَر الثّرى ... ويصبحَ من لم يجن ذنباً كذي الذّنبِ ولا تتبعوا أمر الوُشاة وتقطعوا ... أواصِرنا بعد المودّة والقُربِ وتستحيلوا حرباً عواناً وربما ... أمرَّ على من ذاقَهُ جَلَبُ الحربِ فلسْنا وربِّ البيت نسلم أحمداً ... لعزَّاء من عضّ الزمان ولا كرّبِ ولمّا تَبِنْ مِنّا ومنكم سوالف ... وأيْدٍ أثّرت بالقساسيّة الشُّهْبِ بمعترك ضيّق ترى كسر القنا ... به والنسورَ الطغم يعكفن كالشّربِ ¬

_ (¬1) قوله (ولا خير) البيت، قال السهيلي: مشكل جدًّا، وقوله (ممن) من متعلّقه، كأنه قال: لا خير أخير ممن خصه الله إلخ: البداية: 3: 87 هامش، وانظر: الغريب في: ابن هشام: 1: 432 - 434.

نقض ما تعاهدوا عليه

كأن محِال الخيل في حجراته ... ومعمعة الأبطال معركة الحبِّ أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره ... وأوصى بنيه بالطّعان وبالضّزبِ ولسنا نملّ الحرب حتّى تملّنا ... ولا نشتكي ما قد ينوء من النّكبِ ولكننا أهل الحفاظ والنُّهىَ ... إنا طار أرواحُ الكُماة من الرُّعبِ نقض ما تعاهدوا عليه: فلمّا كان رأس ثلاث سنين (¬1) -أي من ابتداء دخولهم الشِّعب- تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن بني قصيّ، ورجال سواهم من قريش، قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم، واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر، والبراءة منه! آية الله في الصحيفة: وبعث الله عَزَّ وَجَلَّ على صحيفتهم التي كان المكر فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرَضَةَ فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق! ¬

_ (¬1) قيل: كان العقد في هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وظلوا محاصرين إلى السنة العاشرة، وقيل إلى السنة التاسعة!

سعي أبي طالب

ويقال: كانت معلّقةَ في سقف البيت، ولم تترك اسماً لله عَزَّ وَجَلَّ فيها إلا لحسته،، وبقي ما كان فيها من شرك أو ظلم، أو قطيعة رحم! وفي رواية لابن سيد الناس عن ابن هشام قال: (¬1) وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طالب: "يا عم، إِن ربِّي قد سلّط الأرَضَةَ على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً لله إِلا أثبتته، ونفت منها القطيعة، والظلم، والبهتان". قال: أربّك أخبرك بهذا؟ قال: "نعم" قال: فوالله! ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إِلى قريش فقال: يا معشر قريش؛ إِن ابن أخي أخبرني، وساق الخبر. بمعنى ما ذكرناه! سعي أبي طالب: قال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطّلب، حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلمَّا رأرهم عامدين إليهم أنكروا ذلك، وظنّوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتَوْهُم ليعطوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتكلّم أبو طالب، فقال: قد حدثت أمور بينكم لم تُذكر لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها، فلعلّه أن يكون بيننا وبينكم صلح -وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة، قبل أن يأتوا بها- فأتوا بالصحيفة معجبين بهلالا يشكون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدفوع إِليهم، فوضعوها بينهم، وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع ¬

_ (¬1) عيون الأثر: 1: 128، ويلاحظ الاختلاف في بعض الألفاظ، نقلناه بنصه! كما يلاحظ أن النقل هنا قد اكتفينا فيه بالإشارة إلى المصدر ومن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر لمعرفة درجة تلك النصوص والمقارنة بينها.

كاتب الصحيفة

قومكم وعشيرتكم، فإِنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطراً لمهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم! فقال أبو طالب: إِنما أتيتكم لأعطيكم أمراً لكم فيه نصَف! إِن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني أن الله عَزَّ وَجَلَّ بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إِيّانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإِن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا، فوالله! لا نسلمه أبداً حتى نموت من عند آخرنا، وإِن كان الذي قال باطلاً دفعناه إِليكم فقتلتم أو استحييتم! قالوا: رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب، قالوا: والله إِن كان هذا قطّ إلا سحر صاحبكم فارتكسوا، وعادوا بشرّ ما كانوا عليه من كفرهم، والشدّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين! كاتب الصحيفة: وهذه الرواية تقول: إن الصحيفة كانت عند هشام بن عمرو بن الحارث العامري، وقيل: هو كاتبها، والمعروف أن الصحيفة علّقت في جوف الكعبة تأكيداً للتمسك بما فيها من عهود ومواثيق، وفي كاتبها بعد هذا القول اختلاف، قيل: إنه منصور بن عكرمة، وقيل إنه بغيض بن عامر، وقيل: إنه النضر بن الحارث، وفي هؤلاء الثلاثة قيل: فشلّت يده أو أصابعه! وذكر أن كاتب الصحيفة (¬1) منصور بن عكرمة فشلّت يده .. وللنُّساب من ¬

_ (¬1) انظر: الروض الأنف: 123.

شدة الحصار

قريش في كاتب الصحيفة قولان: أحدهما: أن كاتب الصحيفة هو بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد الدار، والقول الثاني: منصور بن عبد بن شرحبيل بن هاشم من بني عبد الدار، وهو خلاف ابن إسحاق الذي ذهب إلى أن كاتب الصحيفة هو منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي! شدة الحصار: وكانت المحنة في هذا الحصار الظلوم شديدة، قاسية، موجعة، مؤلمة، قابلها المؤمنون بالصبر الجميل، والتحمّل الكريم! قال السهيلي: إنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخَبط وورق الشجر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة، وكان فيهم سعد بن أبي وقّاص، روي أنه قال: لقد جعت حتى إنّي وطئت على شيء فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو إلى الآن! وفي رواية يونس: أن سعداً قال: خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قَعْقَعَةً تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها وسفسفتها بالماء، فقويت بها ثلاثاً! وكان طغاة المشركين وهم مستغرقون في عتوّهم وفجورهم إذا قدمت العير مكّة، يأتي أحد هؤلاء المحصورين السوق، ليشتري شيئاً من الطعام لعياله، فيقدم المتبوب بلعنة الله أبو لهب عدوّ الله فيقول: يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمَّد، حتى لا يدركوا معكم شيئاً، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن من أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً، حتى يرجع إلى أطفاله، وهم يتضاغَوْن من

كاتبها ماحيها

الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به، ويغدو التجار على أبي لهب، فيزكّيهم فيما اشتروا من الطعام واللباس، حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً! كاتبها ماحيها: ومن عجائب حكمة العلم الحكيم عزّ شأنه أن أحسن القوم بلاءً، في كشف هذه الغمّة، ونقض الصحيفة الظالمة الفاجرة هو أشدّهم لها في بدء أمرها حماسة، كاتبها كما قيل، والأمين على حفظها، كما قيل أيضاً: هشام بن عمرو بن لؤيّ. وأبو عمرو أخو نضلة بن هشام لأمّه، الذي بدّل الله شدّته على المؤمنين رأفة ورحمة، وجفاءه عطفاً، وقطيعته وصلاً، فكان من أوصل القوم للمؤمنين ومن معهم، وكان شريفاً في قومه ذا مروءة ونخوة! كان -كما يقول ابن إسحاق- يأتي بالبعير ليلاً قد أوقره طعاماً، حتى إذا أقبل به فم الشِّعب خلع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه، فيدخل الشِّعب عليهم، ثم يأتي قد أوقره بزًّا، أو برًّا فيفعل به مثل ذلك! تحرك العواطف: قال محمَّد بن سعد: كان هشام بن عمرو العامري أوصل قريش لبني هاشم، حين حُوصروا في الشَّعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاماً، فعلمت بذلك قريش، فمشوا إِليه حين أصبح فكلّموه في ذلك، فقال: إِني غير عائد لشي خالفكم، فانصرفوا عنه، ثم عاد الثانثة، فأدخل عليهم ليلاً حملاً أو حملين، فغالظته قريش، وهمّت به، فقال أبو سفيان ابن حرب: دعوه رجل وصل أهل رحمه، أما إِني أحلف بالله! لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا!

وهو أول من نهض في نقض الصحيفة الظالمة، جمع إِليه من صناديد قريش ثلّةً لم يزل يفتل لهم في الذّروة والغارب، حتى استنزلهم إِلى رأيه، فمشى إِلى زهير بن أبي أميّة بن المغيرة، وأمّه عاتكة بنت عبد المطّلب، أخت أبي طالب، وعمّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه سياسة في الرأي تدلّل على ثقوب فكرة، وذكاء قريحة، وتأتسّيه للأمور من قبلتها ووجهها، فقال له: يا زهير: أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثّياب، وتنكح النساء، وأخوالك قد علمت لا يُباع لهم، ولا يُبتاع منهم، ولا ينكحون ولا يُنكح إِليهم، أما إِنّي أحلف بالله! أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إِلى ما دعاك إِليه منهم ما أجابك إِليه أبداً! فانظر إِلى معرفته بدخائل النفوس، وإِثارة حفائظها لتقدم على ما تريد غير مبالية بما يكون من كوائن الأخطار في سبيل الوصول إِلى الهدف! فقال زهير وقد استهواه منطقه: ويحكم يا هشام!! فماذا أصنع؟ إِنما أنا رجل واحد، والله! لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها! وقال هشام: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: ابغنا رجلاً ثالثاً! فذهب هشام إِلى المطعم بن عدي، فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه، أما والله! لو أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إِليهم منكم سراعاً، قال مطعم: ويحك فماذا أصنع؟ إِنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثاً، قال قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن

لؤم نحيزة أبي جهل

أبي أميّة، قال: ابغنا رابعاً، فذهب هشام إِلى أبي الْبَخْتَرِي ابن هشام، فقال له نحواً ممّا قال لمطعم بن عديّ، فقال أبو الْبَختَرِي: وهل من أحد يُعين على ذلك؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أميّة، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال: ابغنا خامساً، فذهب هشام إِلى زمعة بن الأسود بن عبد المطَّلب بن أسد، فكلّمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إِليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمَّى له القوم، فاتعدوا خَطْم الْحجُون ليلاً بأعلى مكّة، فاجتمعوا هناك، فأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم، فأكون أوّل من يتكلّم، فلمّا أصبحوا غدوا إِلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أميّة عليه حلّة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكّة، أنأكل الطعام، ونلبس الثّياب، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم، ولا يُبتاع منهم، والله! لا أقعد حتى تشقّق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! لؤم نحيزة أبي جهل: قال أبو جهل -وكان في ناحية المسجد- كذبت، والله! لا تشق! قال زمعة ابن الأسود: أنت والله! أكذب، ما رضينا كتابها، حيث كتبت، قال أبو الْبَخْتَرِي صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نقرّ به، قال المطعم ابن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إِلى الله منها، ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، فقال المخذول الفاجر أبو جهل: هذا أمر قُضي بليل، تُشوور فيه بغير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم إِلى الصحيفة ليشقّها، فوجد الأرَضة قد أكلتها، إِلا (باسمك اللهم)!

وكانت تلك الوثبة في القيام لنقض الصحيفة الظالمة القاطعة بعد أن أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّه أبا طالب بما أخبر به بالوحي في شأن الصحيفة، وتحدّث به أبو طالب إِلى ملأ قريش، فوجدوه كما قال الصادق المصدوق، عندما أتوا بالصحيفة ونظروا فيها، فقالوا عناداً وفجوراً: هذا سحر، وعزموا على المضيّ في عتوّهم وعنادهم، ولكنهم فوجئوا بهشام بن عمرو ومن قام معه من صناديدهم ينكرون ما في هذه الصحيفة القاطعة من الظلم، وغلظ الأكباد، وهمّ المطعم بتشقيق الصحيفة، فلم يجدوا فيها إِلا (باسمك اللهم)! وباء ملأ قريش بالخزي والخذلان، ونصر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -! وقد استفحل فجور أبي جهل في هذه المحنة، فكان يترصّد كل شيء يدخل إِلى الشِّعب، ليمنع ما عسمى أن يكون فيه بعض الإِسعاف للمحصورين، وهم يقاسون مع نسائهم وأطفالهم مرارة الجوع والعري في محبسهم وعزلتهم! فقد ذكر سائر الرّواة أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد، ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمّته خديجة، وهي في الشِّعب، فتعلّق به، وقال: أتذهب بالطعام إِلى بني هاشم، والله! لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكّة، فجاءه أبو الْبَخْتَري بن هشام، فقال: مالك وله، قال: يحمل الطعام إِلى بني هاشم، قال أبو الْبَخْتَري: طعام كان لعمته عنده، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خَلِّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه! فأخذ له أبو البَخْتري لحى بعير ففربه به فشجّه، ووطئه وطأ شديداً،

شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة

وحمزة رضي الله عنه يرى ذلك، ويكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيشمتوا بهم! ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائب يدعو قومه ليلاً أو نهاراً وسرًا وجهرًا! شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة: قال ابن إِسحاق: (¬1) فلمّا مزّقت -أي الصحيفة- وبطل ما فيها قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض صحيفتهم يمدحهم: ألا هل أتى بَحَريَّنا (¬2) صنع ربِّنا ... على نأْيهم والله بالناس أَروَد فيُخْبِرهم أن الصحيفة مُزِّقَتْ ... وأن كُلَّ ما لم يرضَه الله مفسد تراوحَها إِفكٌ وسحرٌ مُجَمَّع ... ولم يَلْفَ سِحْراً آخر الدهر يصعدُ تداعَى لها من ليس بقرقر ... فطائرها في رأسها يتردّدُ ¬

_ (¬1) البداية والنهاية: 3: 97 - 98، والروض الأنف: 2: 124 - 125. (¬2) السابق: قال السهيلي: بحريّنا: يعني الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إيّاه، وشرح الألفاظ الغريبة لهذه القصيدة، وقد قابلناها على شرح غريب السيرة للخشني.

وكانت كفاءً وقعة بأثيمة ... ليُقطع منها ساعدٌ ومقلدُ ويظعن أهل المكّتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشرّ ترعدُ ويترك حراث يقلّب أمره ... أيُتَّهَم فيها عند ذاك ويُنْجِدُ وتصعد بين الأخشبين كتيبة ... لها حدجٌ سهم وقوس ومرهدُ فمن ينش من حضار مكة عزّة ... فعزتنا في بطن مكّة أتلدُ نشأنا بها والناس فيها قلائل ... فلم ننفك تزداد خيراً وتحمدُ ونُطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إِذا جعلت أيدي المفيضين ترعدُ جزى الله رهطاً بالحجون تجمّعوا ... على ملأ يهدي لحزْم ويُرشد قعوداً للذي خطم الحجون كأنهم ... مقاولةٌ بل هم أعزّ وأمجدُ

أعان عليها كل صقر كأنه ... إِذا مشى في رفرف الدّرع أحردُ جرئٌ على جلّ الخطوب كأنه ... شهاب بكفيّ قابس يتوقدُ من الأكرمين من لؤي بن غالب ... إِذا سيم خسفاً وجهه يتربدُّ طويل النّجاد خارجٌ نصف ساقه ... على وجهه يسقي الغمام ويسعدُ عظيم الرّماد سيّد وابن سيّدٍ ... يحضّ على مقري الضيوف ويحشدُ ويبني لأبناء العشيرة صالحاً ... إِذا نحن طفنا في البلاد ويمهدُ ألظَّ بهذا الصلح كل مبرّأ ... عظيم الواء أمره ثمّ يُحمدُ قضَوْا ما قَضوْا في ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رُقدُ هم رجعوا سهل بن بيضاء راضياً ... وسُرَّ أبو بكر بها ومحمَّدُ

المقاطعة في الصحيح

متى شرك الأقوام في حل أمرنا ... وكنّا قديماً قبلها نتودّدُ وكنا قديماً لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا ولا نتردد فيا لقصيّ هل لكم من نفوسكم ... وهل لكم فيما يجيء به غدُ فإِني وإِيّاكم كما قال قائلٌ ... لَدَيْكَ البيان لو تكلّمت أسودُ قال السهيلي (¬1): أسود اسم جبل قتل به قتيل، ولم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول: لديك البيان لو تكلّمت أسود، أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتله! المقاطعة في الصحيح: وإذا كنا قد ذكرنا نصوص المقاطعة، كما وردت، فحسبنا أن هذه المقاطعة قد وردت الإشارة إليها فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد قدوم مكّة: "منزلنا غداً إِن شاء الله، بخَيْفِ بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر". وفي رواية عنه - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغد يوم النحر -وهو بمنى- ¬

_ (¬1) السابق: النسخة المصرية، والبداية: 3: 98، وسبل الهدى والرشاد: 425.

إعداد لتحمل أثقال الدعوة

"نحن نازلون غداً بِخيفِ بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر يعني بذلك المحصّب، وذلك أن قريشاً وكنانة تَحالَفَتْ علي بني هاشم وبني عبد المطّلب -أو بني المطّلب- أن لا يناكحوهم ولا يُبايعوهم حتى يسْلمُوا إِليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -". (¬1) إعداد لتحمّل أثقال الدعوة: قد كان خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من محنة الحصار، وتقاسم المشركين على فجور الكفر، هو ومن معه من المؤمنين الذين بقوا في مكّة، ولم يهاجروا مع إخوانهم أصحاب الهجرة الثانية إلى الحبشة -كما أسلفنا- ومن دخل معه من بني هاشم والمطّلب حميّة قوميّة، وهم على دين قومهم من الشرك والوثنيّة في السنة العاشرة من البعثة قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين! وقد كان الدخول إلى الشَّعب وبدء الحصار هلال المحرم سنة سبع من النبوّة -كما عرفنا- وكانت مدّة هذا الحصار الظلوم ثلاث سنين في رواية موسى بن عقبة، أو سنتين في رواية محمَّد بن سعد، وقد ذكر ابن إسحاق الروايتين على الشك، فقال: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، وقد كانت هذه المحنة لوناً من ألوان التربية التي تعهّد الله بها نبيّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليعدّه لتحمّل أثقال ¬

_ (¬1) البخاري: 25 - الحج (1589، 1590)، وانظر (3882، 4284، 4285، 7479)، ومسلم (1314)، وأحمد: 2: 237، 263، 322، 353، 540، 5: 202 عن أسامة بن زيد، والبخاري: (3058)، وابن خزيمة (2981، 2982، 2984) من طرق، وأبو داود (2011)، والنسائي: الكبرى (4202)، والبيهقي: 5: 160، وابن ماجه (2942) عن أسامة بن زيد. وانظر: القصة في: طبقات ابن سعد: 1: 208 - 210، والطبري: التاريخ: 2: 335 - 336، والبيهقي: الدلائل: 2: 11 - 315، وابن كثير: السيرة: 2: 43 - 51.

دروس للدعاة

الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالاته، بما كان فيها من شدائد ومحن وتمحيص لعزائم أهل الإيمان! دروس للدعاة: ونبصر عبر التاريخ أنه لا يخلو زمان ولا مكان من أهل المروءة، وعلى الدعاة أن يسعوا دائماً إلى الاهتمام بمن يتوسّم فيهم هذه الخصلة للاستفادة منهم في أوقات الشدائد والمحن! (¬1) ونبصر أعداء الله في كل زمان ومكان وجيل وقبيل وعصر ومصر يلجؤون إلى استخدام سلاح محاربة الدعاة في أرزاقهم، ليستكينوا ويرجعوا عما يدعون إليه، وهو أسلوب يتّفق عليه المشركون والمنافقون عبر التاريخ .. ولو كان الدعاة إلى الله موظّفين أو عاملين في دولة تخالفهم فيما يدعون إليه، للجأت تلك الدولة إلى فصلهم من أعمالهم، كوسيلة من وسائل الحرب التي تتخذها ضدّهم، ولكن الوسيلة المتاحة في ذلك الوقت في هذا الميدان كانت المقاطعة بتلك الكيفيّة التي وقفنا عليها .. وعلى الدعاة أن يعوا هذه الحقيقة بأبعادها المختلفة! ونبصر فيما أصاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ابتلاءات، وما أصاب أصحابه رضي الله عنهم -كما أسلفنا -عزاء لكل مؤمن فيما يصيبه في هذه الحياة من بلاء ومصائب! ونبصر -أيضاً- أنه لا تخلو جاهليّة من الجاهليّات القديمة أو الحديثة من قيم يمكن الاستفادة منها، فقد ضحّى بنو هاشم تضحيات كبيرة في سبيل قيمهم ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: 321 بتصرف.

مسيرة الدعوة

الجاهليّة الخاصة بحماية الغريب .. وإذا وُجدت قيم في مجتمعاتنا المعاصرة، مثل قوانين حقوق الإنسان، أو اللجوء السياسي، أو الحريّة الفكريّة، فلا ضير من الاستفادة منها، كما استفاد المسلمون الأوائل من مؤازرة بني هاشم لهم في حصار الشعب! مسيرة الدعوة: ولما انتهى أمر هذه الصحيفة (¬1) الظالمة القاطعة، وأفسدها الله بتدبيره، إذ جعل فسادها على أيدي قوم من صناديدهم وغطاريفهم، وفتَّ ذلك في أعضادهم، وفرّق كلمتهم، وجلّلهم بالعار والشنار، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورهطه، فعاشوا وخالطوا الناس، وعادت دعوة الإِسلام إلى سيرتها الأولى، يحملها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مضارب القبائل ومجتمعات الناس في المواسم والأسواق، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى محافل العرب يسأل عن أشراف الناس وساداتهم، ويجلس إليهم يدعوهم إلى إيوائه، حتى يؤدّي رسالة ربّه، حتى قيّض الله له من ادّخرهم في أزل الغيب لنصرة دينه، والتشرّف بإيواء نبيّه - صلى الله عليه وسلم - .. أولئك أنصار الله، وأنصار رسوله وكتائب الإسلام! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 300 بتصرف.

توالي اشتداد المحن

توالي اشتداد المحن * خُسران ملأ قريش * مواقف الجمهور من الدعوة * منهج الدعوة إلى الله * رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب * شعر أبي طالب في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - * وصيّة أبي طالب لقومه * وفاة أبي طالب * رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها * حقيقة الرسالة * تسامي حياة الصديقيّة المؤمنة * ورقة يؤكّد فراسة خديجة * دور خديجة رضي الله عنها * موت خديجة رضي الله عنها وتسليم الله عليها وتبشيرها * الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطائف * قدوم الجنّ وإسلامهم * توجيه ربّاني

توالي اشتداد المحن

توالي اشتداد المحن خُسران ملأ قريش: وقد حزَّ في أنفس طغاة الشرك أن يبوء بالخُسران المبين تدبيرهم السيّء، ومكرهم الحقود، إذ ردّ الله كيدهم في نحورهم، وحاق بهم سوء مكرهم، فشرقوا بما دبّروا، وازدادوا عتوًّا وفجوراً في عتوّهم فافتنّوا في تعذيب من تمكّنوا من تعذيبه من المؤمنين، ومنعوهم من كل ما يحفظ عليهم دماء الحياة ويسدّ الرمق .. والمؤمنون صابرون محتسبون، لا يزيدهم هذا الطغيان إلا رسوخاً في يقينهم، وإيماناً برسالة دينهم، واستمساكاً بعقيدتهم .. واستشرى الحقد في صدور أحلاس الوثنيّة فأحرق قلوبهم، وزئر كل قبيل منهم بكل من كان يمتّ إليهم من المؤمنين بصلة قرابة، أو ولاية أو حلف، فلم ينل ذلك من إيمانهم شيئاً، فكان هذا الثبات على الإيمان تحت أسواط التعذيب أغيظ لملأ الكفر من عتاة المشركين، ولاسيّما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن خرج بمن معه من المؤمنين من محنة الحصار مظفَّراً قويًّا، ماضي العزيمة، لا يصدّه عن المضيّ في نشر دعوته فادح البلاء، ولا يثنيه عن تبليغ رسالته زمجرة الطغيان .. ازداد تحرّكه وازداد اتّصاله بالناس في مجتمعاتهم ومحافلهم وأنديتهم، يدعو إلى الله، ويسمعهم آياته، فلم يكن - صلى الله عليه وسلم - يسمع بمنزل شريف من أشراف العرب إلا جاءه ودعاه وقومه إلى الله، فازداد بذلك انتشار الدعوة، وتسامعوا بتفاصيل محنة الحصار، وتقاسم الطغاة البغاة العتاة على الكفر والقطيعة، وعرفوا تأييد الله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - في نقض تلك الصحيفة الظالمة التي تعاهد فيها الظالمون، وتقاسموا على القتل والفتك بأبشع صوره .. وذاع في أسواق العرب ومواسمهم ما وقع في الحصار من معجزات باهرات وآيات قاهرات!

مواقف العامة من الدعوة

مواقف العامة من الدعوة: ونبصر مواقف العامة من الدعوة، ونحن نذكر مواقف الذين كان منهم من يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤخذ بما يسمع من هداية فيحسن الرد .. ومنهم من يقف حائراً لا يخطو إلى ساحة الإيمان ... ومنهم من كان يسيء الردّ في جفوة جاهلة، وعنجهيّة فاجرة، وبأو مغرور .. مع أدب الدعوة المعروف .. ومنهم من طمع واشرأبّ للدنيا، ورأى في عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه عليهم في مضاربهم ومنازلهم يدعوهم إلى أن يؤوه حتى يبلّغ رسالة ربّه -كما أسلفنا- فرصةً سانحةً لتحقيق مآربه من العلوّ في الأرض، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُفهمهم في هدوء ويقين أن أمره وأمر دعوته ورسالته ليس أمر دنيا تحاز، ولا مطامع فيها تنجز، ولا مآرب من مظاهرها تحقَّق .. وإنما أمره أمر دعوة إلى الله الحق، مالك الدنيا والآخرة، وهو - صلى الله عليه وسلم - ليس له من الأمر شيء، والأمر كله بيد الله يضعه حيث يشاء، وهو في أشدّ الحاجة إلى من يحرزه ويأويه ويحفظه مما يُراد به من القتل والفتك .. إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس عليه إلا بلاغ رسالة الله، وليس أن يعد أحداً بأن الأمر بعده له؛ لأن الملك لله تعالى يؤتيه من يشاء، وليس وراء ذلك منزلة من منازل الصدق والأمانة والإخلاص! قال ابن إسحاق (¬1): حدثني الزهري أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى بني عامر بن ععصعة، فدعاهم إلي الله عزَّ وجلَّ، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم- يقال له: (بَيحرة بن فراس)، قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة (الخير) ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 76، صرح ابن إسحاق بالسماع، وسنده مرسل، والطبري: التاريخ: 2: 350 - 351، وأبو نعيم: "الدلائل": 10 وفيه الكلبي، وابن سعد: الطبقات مختصراً: 1: 216 من طريق الواقدي.

ابن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: والله! لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إِن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأمر لله يضعه حيث يشاء"! قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإِذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأَبَوْا عليه! قال ابن إِسحاق: فلما صدر الناس رجعتْ بنو عامر إِلى شيخ لهم، قد كانت أدركتْه السنّ، حتّى لا يقدر أن يوافي معهم الواسم، فكانوا إِذا رجعوا إِليه حدّثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلمَّا قدموا عليه ذلك العام سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتىَ من قريش، ثم أحدُ بني عبد المطَّلب، يزعم أنه نبيّ، يدعونا إِلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إِلى بلادنا، قال: فوضع الشيخ يديه على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلافٍ؟ هل لذُناباها من مطلب؟ والذي نفسُ فلان بيده! ما تقوّلها إِسماعيلي قطّ، وإِنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم! قال ابن إِسحاق: فكان رسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالوسم أتاهم يدعو القبائل إِلى الله، وإِلى الإِسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الله من الهُدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكّة من الدرب، له اسم وشرف، إِلا تصدَّى له، فدعاه إِلى الله، وعرض عليه ما عنده! قال ابن إِسحاق: وحدثني عاصم بن عُمر بن قَتادة الأنصاريّ، ثم الظّفَريّ، عن أشياخ من قومه، قالوا:

قدم سويد بن صامت، أخو بني عمرو بن عوف، مكّة حاجًّا أو معتمراً، وكان سويد إِنما يسمّيه قومه فيهم: (الكامل)، لجَلده وشعره، ونسبه، وهو الذي يقول: ألا ربَّ مَنْ تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالتَه بالغيب ساءك ما يفري (¬1) مقالته كالشهد ما كان شاهداً ... وبالغيب مأثور (¬2) على ثُغْرة النحر (¬3) يسرُّك باديه وتحت أديمه ... نميمةُ غِشٍّ تَبْتَرِي (¬4) عَقب (¬5) الظهر تبين لك العينان ما هو كاتِمٌ ... من الغِلِّ والبغضاء بالنّظر الشّزر (¬6) فرِشْني (¬7) نجير طالما قد بَرَيْتَنِي (¬8) ... فخير الموالي من يريش ولا يَبْرِي ¬

_ (¬1) أي ما يقطع في عرضك. (¬2) المأثور: السيف الموشّى. (¬3) الثغرة: الحفرة: التي في الصدر. (¬4) أي تقطع. (¬5) العقب: عصب الظهر. (¬6) النظر الشزر: نظر العدو. (¬7) أي قوِّني. (¬8) أي أضعفتني.

وهو الذي يقول: ونافرَ (¬1) رجلاً من بني سُلَيْم، ثم أحد بني زِعب بن مالك مائة ناقة، إِلى كاهنة من كهّان العرب، فقضت له، فانصرف عنها هو والسُّلميّ، ليس معهما غيرها، فلمَّا فرقت بينهما الطريق، قال: ما لي يا أخا بني سُلِيم، قال: أبعث إِليك به، قال: فمن لي بذلك إِذا فتَّني به؟ قال: أنا، قال: كلاّ، والذي نفس سويد بيده، لا تفارقني حتى أوتَى بمالي، فاتخذا، فضرب به الأرض، ثم أوثقه رباطاً ثم انطلق به إِلى دار بني عمرو بن عوف، فلم يزل عنده، حتى بعثت إِليه سُليم بالذي قال، فقال له في ذلك: لا تحسبَنِّي يا بن زعب بن مالك ... كمن كنت تِرْدى بالغُيوبِ وتَخْتِل (¬2) تحوَّلتَ قِرْناً إِذ صُرِعتَ بِعزَّةٍ ... كذلك إِن الحازم المتحوِّل ضربْتُ به إِبطَ الشمال فلم يزل ... على كل حَالٍ خدُّه هو أسفل في أشعار كثيرة كان يقولها: فتصدّى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع به، فدعاه إِلى الله وإِلى الإِسلام. فقال: له سويد: (فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي) فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما الذي معك؟ " قال: مجلة لقمان -يعني حكمة لقمان- فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعْرِضْها عليّ" فَعرَضَها عليه، فقال له: "إِن هذا الكلام ¬

_ (¬1) أي حاكم. (¬2) أي تخدع.

منهج الدعوة إلى الله

حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هُدى ونورٌ. فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاه إلى الإِسلام، فلم يَبعُد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزْرج، فإِن كان رجال من قومه ليقولون: إِنا لنراه قد قُتل وهو مسلم، وكان قتله يوم بعاث! (¬1) منهج الدعوة إلى الله: تلك المحن القاسية كانت صيقَلاً لعزائم المؤمنين (¬2)، ومدداً لرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودروساً للتربية، في مستقبل الدعوة القريب والبعيد، وتأسيساً لمنهج الوراثة في الدعوة إلى الله! ومن ثم لم تكن تلك المحن سوانح تمرّ، ولكنها كانت ثوابت تتوالى صورها وتتابع ألوانها، فلم تكن تمضي محنة حتى تتبعها شدّة، ولم تكد تذهب شدّة حتى تليها محنة، وكان الاعتصام بالصبر الصبور هو الدّرع الحصينة التي يلجأ إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولم يعرف أن موقفاً من هذه المواقف استفزَّه - صلى الله عليه وسلم -، فغيّر من هدوئه ووداعته، ولم يعرف أن أحداً من أصحابه الأوَّلين آثر العافية على مرارة الصبر، والرضا بمحن البلاء! ولهذا كان لابدّ أن تستوفي المسيرة نصيبها من (التمحيص الذي يصنع حياة المجتمع المسلم)، ليقوى على الإمساك بزمام القيادة الإنسانيِّة إلى آفاق العزَّة وصادق الإيمان بالله إلهاً واحداً، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد! ¬

_ (¬1) السابق: 77 - 79، وانظر: الإصابة: 2: 98 وقد صرح ابن إسحاق بالسماع، وفيه جهالة الأشياخ من قومه، والبيهقي: "الدلائل": 2: 418، والطبري: التاريخ: 2: 351 - 352. (¬2) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 305 بتصرف.

رزء الحمية القومية بوفاة أبي طالب

رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب: كان أبو طالب -واسمه عبد مناف بن عبد المطّلب (¬1) - عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخو أبيه عبد الله بن عبد المطّلب شقيقه لأبيه وأمّه - وريث مكانة أبيه عبد المطّلب في زعامة بني عبد مناف وهاشم، سادة قريش، القوّامين على خدمة البيت الحرام بمكة! وكان أبو طالب وصيّ أبيه في كفالة حفيده محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بالقيام على رعايته وحفظه وحمايته، وكانت سنُّ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يوم مات جدّه عبد المطّلب ثماني سنوات، وقد ضمّ أبو طالب ابن أخيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى حضْنِ كفالته، وجعله مع عياله، يحوطه ويحفظه ويحرص على راحته أشدّ الحرص، وقام بكفالته أحسن القيام، وأحبّه حبًّا لم يحبّه أحداً من ولده، وصبّ به صبابةً شديدة، لم يكن يطيق معها أن يفارقه، فكان ملازماً له في غدوّه ورواحه، وحلّه وترحاله، وسفره وإقامته، ونومه ويقظته، وقد ثبت -كما أسلفنا- أنه صحبه في بعض أسفاره للتجارة، وهو غلام يَفَعة، حتى شبّ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في ظلّ هذه الكفالة شاباً رويًّا، ونشأ نشأة عزيزة كريمة حبيبة، واشتدّ ساعده، وبدرت رجولته مبكره، وشارك عمومته وأبناءهم في العمل ليكسب رزقه، وأبو طالب لا يغفل عنه لحظة، يسدّده في عمله، ويوجّهه في سعيه، راعياً، أو تاجراً، أو مقارضاً .. واستوى شباب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في ظلّ هذه الكفالة الموفَّقة رجلاً، ضرباً من الرجال لا تعرفه الجاهليّة في أخلاقها، وعاداتها، ومعارفها، فكان فيهم الأمين الصدوق، الوفيّ، الكريم الودود الألوف .. وكان أبو طالب كثير ¬

_ (¬1) السابق: 312 بتصرف.

العيال، قليل المال، وكان يهوى أن يرى ابن أخيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - يعيش عيشةً سويّةً، لا يشر فيها بضائقات الحياة، وشظف العيش مع عياله! ولمَّا بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى الناس كافّةً، وقف ملأ الشرك والوثنيّة موقف العناد المستكبر، والمكابرة العاتية، والفجور الطاغي، فكذّبوه، وآذوه، وأغروا به ليقتلوه -كما أسلفنا- ووقف عمه أبو طالب يذود عنه، وينصره ويحميه، بكل ما أوتي من وسيلة وقوّة .. جعل نحوه دون نحوه، وحياته فداء لحياته .. في مواقفه الكثيرة. فلم ينالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نيلاً إلا في غيبة من عمه ونصيره .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائب النهوض في نشر دعوته إلى الله وتوحيده، لا يصدّه عن سيره شيء، فلا يهاب وعيداً، ولا يرهب زمرجة .. واشتدَّ حقد المشركين، وتعدّدت شكاواهم إلى أبي طالب من ابن أخيه الذي سفّه أحلامهم .. وعاب ديانتهم، فكان أبو طالب يردّهم ردًّا رفيقاً، ويكلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما كلموه في شأنه، فيرى منه عزيمة ماضية، لا يصدّها عن وجهها صادّ ولا يردّها عن مضيتها رادّ، إيماناً منه برسالة نفسه، ووجوب تبليغها إلى الناس، مهما تكن الحوائل والعقبات، فكانت هذه القوّة القاهرة في عزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفص عن كاهل أبي طالب ما يثقله من أعباء الذود عن ابن أخيه في دعوته ورسالته، وتغسل عن قلبه ما يعتريه أمام تألّب قومه عليه، وتجمّعهم ضدّه، فيشتدّ في نصرة رسول الله، ويعلن ذلك في شعره الرصين، لا يبالي في غضبة ملأ الشرك وتهديدهم!

شعر أبي طالب في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -

شعر أبي طالب في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ولأبي طالب في مواقفه هذه قصائد مشهورة، تعدّ من غرر أجود الشّعر العربي في أقوى عصوره .. ومن أشهر ذلك لاميّته الذائعة التي يقول فيها في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحوطه وحمايته، وحقيقة ما جاء به من رسالة خالدة: كذبتم -وبيت الله- نُبْزَى ... ولمَّا نُطاعِن دونه ونناضِل ونُسْلمه حتى نُصرَّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحوائل وينهض قومٌ في الحديد إِليكم ... نُهوض الروايا تحت ذات الصلاصل وما ترك قوم -لا أبالك- سيّداً ... يحوط الذّمار غير ذربٍ مواكل إلى أن قال: وأبيض يُستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلَّاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل

لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمد ... وإِخوته دأب المحبّ المواصل إلى أن قال: فلا زال في الدّنيا جمالاً لأهلها ... وزيناً لمن والاه ربّ المثاكل فمن مثله في الناس أيّ مؤمل ... إِذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إِلهاً ليس عنه بغافل لقد علموا أن ابننا لا مكذّب ... لدينا ولا يُعني بقول الأباطل إلى أن قال: فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصّر عنه سَوْرة المتطاول حديث بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذّرى والكلاكل فأيّده ربّ العباد بنصره ... وأظهر ديناً حقّه غير باطل

ومن قوله في قصيدة طويلة: والله لن يصلوا إِليك بجمعهم ... حتى أوسّد في التراب دفينا هذه صورة من مواقف أبي طالب في حياطته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمايته، ومناصرته، والغضب له، إذا ضمَّت إلى مواقفه العظيمة منذ كفالته له - صلى الله عليه وسلم - شاباً يافعاً، وغلاماً فارهاً، ورجلاً مسدّداً، عاملاً في الحياة، ثم نبيًّا ورسولاً، ائتلفت من ذلك كله صورة كاملة في إطار كفاح أبي طالب ونضاله دونه - صلى الله عليه وسلم - للذّود عنه وحمايته! وقد توّج أبو طالب مواقفه بأشرف موقف، وأنبله وأشجعه، وأقواه، وأوجعه لقلوب الملأ الوثنيّ من طغاة المشركين! ذلك هو موقفه في النهوض لكبح جماح المستكبرين التمرّدين من عتاة الكفر، وقد تقاسموا على قتل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - علانية .. وموقفه للقضاء على صحيفة الفجور التي تعاهدت فيها قريش على استئصال شأفة بني عبد مناف صبراً في حصار الشَّعب لوقوفهم جانب أبي طالب، ينصرونه في مناصرته لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بتجميعه رجالات قومه من بني هاشم الذين انضمّ إليهم بنو المطلب، ودخلوا معهم في هذا الحصار الظلوم -كما عرفنا- وبتدبيره حياطة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والحفاظ عليه، وحمايته من الاغتيال والفتك به، حتى قضى الله أمره بنقض الصحيفة الفاجرة، وتمزيقها شرّ ممزّق! وخرج أبو طالب مع قومه ومن ناصرهم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشِّعب ظافراً منصوراً، مؤيّداً من الله تعالى بما أيّده به من معجزاته القاهرة، وآياته

وصية أبي طالب لقومه

الباهرة، يتابع سيره في نشر دعوته، وتبليغ رسالته إلى الناس في محافلهم ومجتمعاتهم ومواسمهم وأسواقهم، يعرضها على كل شريف قوم يُذكر له، لا يناله من الأذى ما يصدّه عن قصده وغايته، تهيّباً لعمه وناصره أبي طالب، السيّد المطاع في قومه، القويّ في حميّته وحمايته، الشجاع في غضباته، الجسور في مواقفه! وصيّة أبي طالب لقومه: وقد ظلَّ أبو طالب على حدبه وحرصه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر لحظة من حياته، بل أراد أن يبقى أثر ذلك بعد وفاته .. قال السهيلي (¬1): وحُكي عن هشام بن السائب أو ابنه أنه قال: لمَّا حضرت الوفاة أبا طالب جمع إِليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيّد المطاع، وفيكم المقدّم الشجاع، والواسع الباِع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إِلَّا أحرزتموه، ولا شرفاً إِلاّ أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة. ولهم به إِليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم أَلْب، وإِنّي أوصيكم بتعظيم هذه الْبنِيّة، فإِن فيها مرضاة للربّ، وقواماً للمعاش، وثباتاً للوطاة، صِلُوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإِن في علة الرحم منسأة في الأجل، وسعة في العدد، واتركوا البغي والعقوق، ففيهما مهلكة القرون قبلكم، أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، فإِن فيهما شرف الحياة والمات، عليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، فإِن فيهما محبّة في الخاص ومكرمة ¬

_ (¬1) السابق: 317 بتصرف.

وفاة أبي طالب

في العام، وإِنّي أوصيكم بمحمد خيراً، فإِنه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجاهع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن، وايم الله! كأنّي أنظر إِلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظَّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً، وإِذا أعظمهم عليه أحوجهم إِليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله! لا يسلك أحد منكم سبيله إِلا رشد ولا يأخذ أحد يهديه إِلا سعد، ولو كان لنفس في مدّة، ولأجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي، ثم هلك أبو طالب! وفاة أبي طالب: ومات أبو طالب سنة عشر من المبعث، بعد الخروج من الشِّعب بزمن يسير (¬1)، وقيل: توفي في رمضان، قبل خديجه رضي الله عنها بثلاثة أيام (¬2)، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين (¬3)، وقيل: كان بين وفاته ووفاة خديجة شهر وخمسة أيام! (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: ابن سعد: 8: 18 من رواية الواقدي. (¬2) انظر: سيرة الذهبي: 237 عن الحاكم وأنساب الأشراف: 1: 406. (¬3) ابن سعد: 8: 18 من طريق الواقدي. وابن هشام: 2: 66. (¬4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: 222.

وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن سعيد بن المسيّب عن أبيه أنه أخبره: (¬1) أنه لمَّا حضرتْ أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب: "يا عمّ، قل لا إِله إِلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة، أترغب عن ملّة عبد المطّلب، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إِله إِلا الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى فيه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيَ} (التوبة: 113)! زاد مسلم: فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] (التوبة)! وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (القصص)! وهذا صريح على وفاته كافراً (¬2)، وشاء الله عزَّ وجلَّ أن يموت أبو طالب قبل ¬

_ (¬1) البخاري: 23 - الجنائز (136)، وانظر (3884، 4675، 4772، 6681)، ومسلم (24، 25)، وأحمد: 5: 433، وعبد الرزاق: التفسير: 1: 288، وابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني (720)، والبيهقي: "الدلائل": 2: 342 - 343، والأسماء والصفات: 97 - 98، وابن الأثير: أسد الغابة: 5: 177 - 178، والنسائي: 4: 90 - 91، والكبرى (2162، 11230، 11383)، والطبري: التفسير: 20: 92، وأبو عوانة (23)، والواحدي: أسباب النزول: 176 - 177، 227 - 228، وابن حبان (982). (¬2) انظر البداية: 3: 123 وما بعدها ففيه الرد على من زعم أن أبا طالب قد مات مسلماً، والبيهقي: "الدلائل": 2: 353. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الهامش ورد في المطبوع بعد صفحتين، وليس له مناسبة هناك]

الهجرة، حتّى لا يتوهّم أحدٌ أن له مدخلاً في دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يظن أن المسألة قبليّة أو أسريّة، أو زعامة ومنصب! وحينئذ نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً (¬1)، ودخل على بيته ووضع على رأسه التراب، فغسلته عنه إحدى بناته، وهي تبكي، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: "لا تبكي يا بنيّة، فإِن الله مانع أباك"، ويقول: "ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب" (¬2). وسبق ذكر بعض الروايات في ذلك! وقد سمّى بعض المؤرّخين هذا العام (عام الحزن)، لشدة ما كابد في هذا العام من الشدائد في سبيل دعوة الحق، وتضييق قريش الخناق عليه في محاولة منهم لإغلاق أبواب الدعوة في وجهه - صلى الله عليه وسلم -! ولا نميل إلى الموافقة على هذه التسمية (عام الحزن) لأنها وردت في حديث رواه القسطلاني في المواهب، ومن رواته (صاعد)، وهو غير ثقة؛ ولأن حياته - صلى الله عليه وسلم - كانت شدائد يعجز الخيال المحلّق ذاته في تصوّر أحداثها، وقد تواترت الأدلة في ذلك. (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: ابن هشام: 2: 66 بدون إسناد. (¬2) السابق: 67 بإسناد حسن، ولكنه مرسل. (¬3) انظر: الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: 8.

رزء الإسلام ونبيه بوفاة خديجة رضي الله عنها

رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها: وقد كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وزيرة صدق للنبي - صلى الله عليه وسلم -، على دعوته، تواسيه وتخفّف عنه مواجع ما يلقى من الناس، فيسكن إليها، وتطمئن نفسه إلى مواساتها، ويستعيد نشاطه بما تصبه في قلبه من حنان الزوجة التي تقدر حياة هذا الزوج الأكرم قدرها، وتعرف له مكانته في حمله أعظم أمانة حملها كاهل بشر في الحياة، وقد شهدت منه مشرق رسالته ما لم يشهده غيرها من الناس، فآمنت به وصدّقته رسولاً أميناً لله تعالى -كما أسلفنا- يتلقّى وحيه، ويبلّغ رسالته، فيلقى من البلاء ما تنوء تحت ثقله ثوابت الرواسي، فتنفّس عنه وتشجّعه وتعينه على الصبر، وتفتح له باب الأمل، وتمسح عن صدره ضائقات الصدور، وتعيد إليه البسمة الحانية، وتهمس له بلواطف العواطف، فينهض من عندها وهو أكمل الناس يقيناً، وأرضاهم نفسها، وأرهفهم حسًّا، وأقواهم عزيمة، وأصدقهم صبراً، وأرسخهم إيماناً برسالته، وأعرفهم بموجبات حمل هذه الرسالة وأرضاهم بتحمّل أثقالها! وقد قضت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها في كنف رسول الله أشقّ مراحل الدعوة، فكانت حياتها معه أوفى حياة زوجة لزوجها، وأبرّ حياة شريكة لشريكها، كانت تشاركه مباهجه ومسرّاته، وتهيّئ له أسباب تفرّغه لعبادة ربّه، تخدمه في بيته بقلبها وعقلها وروحها وبدنها، وتردّ عنه عاديات الحياة بين قومه، حتى إذا جاءته النبوّة بطلائعها ووحيها كانت أوّل من آمن به

حقيقة الرسالة

وصدّقته، وزادته من حبّها وحنانها ما كان له نعم المعين في هذه المرحلة التي كانت مرحلة إعداد للرسالة الخاتمة الخالدة! حقيقة الرسالة: ورسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليست كالرسالات التي سبقتها في المنهج العملي؛ لأنها رسالة عامة خاتمة لجميع الرسالات الإلهيّة .. بدأت بالتصفية لعلائق البشريّة بالطبيعة الروحانيّة التي يتلقّى بها وحي التبليغ عن الملأ الأعلى -كما سبق في حديثنا عند بدء الوحي- وحدّث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما رآى، ولقي وتلقّى، فعرفت أم المؤمنين خديجة بفراستها الواحية، وحسّها المرهف، وشعورها المستشرق أن هذا الأمر لم يعد أمر حياة زوجيّة، يملؤها الحنان والوفاء، ولكنها وثبت إلى حياة جديدة في معالمها التي تنبئ عنها إرهاصاتها .. إلى حياة رسالة ورسوله، وحياة دعوة إلى ما لم تعرفه البيئة التي يعيش فيها محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وما لم يعرفه المجتمع العام الذي يتقلّب بين جنباته محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. إلى حياة تهدم وتبني، تهدم الشرك والوثنيّة، وتبني التوحيد .. تهدم الظلم وتبني العدالة .. تهدم الباطل في جميع صوره ومظاهره وتبني الحق بأدلّته وبراهينه .. تهدم الاستعباد الماديّ وتبني الحريّة الروحانيّة .. تهدم الشرّ وتبني الخير .. تهدم التقليد البليد الأبله وتبني انطلاق العقل إلى المعرفة والهداية! تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة: فلترتفع خديجة الصدّيقة الأولى بحياة الزوجيّة الوفيّة إلى حياة الصدّيقيّة العظمى، حياة الإيمان بالرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -،ولتنهض بالعبء المثقل في

ورقة يؤكد فراسات خديجة

حياتها الجديدة مع زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولتكن معه وزيرة صدق، ورفيق إخلاص وفداء، ولتكتشف الطريق بأسلوبها الخاص، لتزيده تثبيتاً في النهوض بحياته الجديدة، ولتضاعف له حبّها وحنانها، وقد ذكر لها -كما سبق- مخاوفه من ألا يستطيع النهوض بعبء ما حمله في حياته الجديدة، فكشفت له - صلى الله عليه وسلم - ما يعلمه من نفسه، من أنه مجمع مكارم الأخلاق، وموئل الفضائل، ومنتجع الشمائل، ومنبع المحامد، ومصدر الخير .. هو الصادق الأمين، الذي لا يُخْزى ولا يُخذل، سنة الله في الحياة، فليهدأ روعه، وليزدد إيماناً بأنه المنصور المنتصر، وليزدد يقيناً بأنه سينهض بعبء رسالته؛ لأن الله أجتباه لها: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124)! ورقة يؤكد فراسات خديجة: وهؤلاء أهل العلم الأوّل، فلتذهب خديجة إلى عليمهم وقارئ الكتاب الأول: ورقة بن نوفل، ليخبرها بما عنده، بعد أن تحدّثه بما رأت وسمعت، وكان تصديق ورقة آية من فراسة خديجة رضي الله عنها، وأنبأ ورقة محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالنبأ العظيم .. نبأ الرسالة الخاتمة وأثقالها -كما أسلفنا-، فكان ذلك إيذاناً بأن حياة الدّعة والرّاحة قد ولت، وأن حياة الجهاد والنّضال والشدّة قد بدأت، فلتكن وقفتها إلى جانب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في حياته الجديدة .. حياة الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - وقفة تتسامى إلى مستوى ما ينتظره من شدّة وكفاح! وصدقت خديجة الصدّيقة بسبقها إلى الإيمان سبقاً لم يشاركها فيه أحد .. ومضتْ -رضي الله عنها - في طريق هذا السبق تقفو أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتتبع خطواته، لتحيط بخبره علماً، حريصة عليه أشدّ ما يكون حرص زوجة أمينة

دور خديجة رضي الله عنها

وفيّة على زوج حبيب، حفيظةً عليه أشدّ ما يكون الحفظ من صدّيقة راسخة اليقين برسالة رسول كريم! ومرَّت الحياة في ظل وفاء الزوجيّة وصدّيقيّة الإيمان بين محمَّد الزوج الحبيب، ومحمد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وبين خديجة الزوجة والوفيّة، وخديجة الصدّيقة المؤمنة، برسالة هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -! دور خديجة رضي الله عنها: وبدأ الكفاح الصارم، والنضال العتيّ بين الحق والباطل .. الحق الذي تمثله رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والباطل الذي يصوّره فجور الشرك والوثنيّة في ملأ الكفر .. ولم يكن لخديجة في هذا الكفاح المرير صوت يُسمع؛ لأنها رضي الله عنها كانت معتصمة بأدب أدّبها الله به، وعلم علّمها الله إيّاه .. فهي زوج محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأم ولده قبل أن تأتيه رسالة ربّه، فعملها في البيت، وهو عمل كبير عظيم، يسدي للرسالة فضلاً، ويمدّها بقوّة تستجدّ بها ثباتها أمام عتوّ الكفر؛ لأن محمداً الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحوج ما يكون وهو يخوض نضالاً مريراً في سبيل نشر دعوته وتبليغ رسالته إلى عاطفة الوفاء في زوجة صادقة الإيمان برسالته، تنسكب في قلبه برداً وسلاماً؛ إذ يؤوب إلى بيته، فيحدث ويتحدّث في جوّ عاطفي يظلّله الإيمان والحب، وتهوّن عليه الصعاب، وتجدّد عزائمه، ويقوى صبره -ويجتمع أمره، ويخرج إلى حياة الناس مجتمع الإرادة، سويّ الشخصية، مسيح الآلام، فسيح الآمال، رويّ الفؤاد بالصفح والعفو والإحسان! وبهذا الأدب الإلهي الذي اعتصمت بعواصمه خديجة رضي الله عنها عاشت في كنف محمَّد الزوج - صلى الله عليه وسلم -، ومحمد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تتقاسم معه الشعور

بالسعادة في التطلّع إلى آمال المستقبل في آفاق الحياة، وتقاسمه الإحساس بأعباء الحاضر وآلامه، في ظل أثقال نشر الدعوة، وتبليغ الرسالة، معتصمة بالصبر الجميل، تأسّياً به - صلى الله عليه وسلم - في مجالات الحياة، فيما ترى بين يديها من حاله - صلى الله عليه وسلم - بعد إذ أنزلت عليه الرسالة بشدائدها، وقوّة دفعها الذي استحوذ على إحساساته ومشاعره، وسائر قواه الفكريّة والروحيّة والبدنيّة! حتى إذا بلغ طغيان أحلاس الشرك من ملأ الكفر ذروة الفجور العتيّ، إذ تعاقدوا فيما بينهم، وتعاهدوا بعد أن يئسوا من أن ينالوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نيلاً، وكتبوا بهذا التعاهد وثيقة في صحيفة ظالمة، ضمنوها مقاطعة بني عبد مناف ممن يقف إلى جانب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لنصره وحمايته من سوء ما يريد الطغاة الفجّار -وفي المقدمة سائر المؤمنين بدعوته، المصدّقين برسالته من غيرهم، فلا يبيعوهم ولا يناكحوهم، ويمنعون عنهم كل ما يرفقهم في حصارهم، وألا تأخذهم بهم رأفة أبداً، حتى يسلموا محمداً للقتل أو يموتوا صبراً! ودخلت خديجة رضي الله عنها حصار الشِّعب مع زوجها محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشاركه آلام المحنة ومرارتها راضية صابرة محتسبة .. وظلّت معه تواسيه وتخفّف عنه وقع هذا الظلم الفاجر بما تبديه من احتمال ورضا، وهو - صلى الله عليه وسلم - ساكن القلب إلى وفائها ومودّتها، وحبّها له حبّ جدّ وإجلال، وحرص وحفاظ! حتى قضى الله تعالى قضاءه في هذه المقاطعة الظالمة، التي مكثت سيفاً مصلتاً على أعناق كل من يئل إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إيماناً به وتصديقاً برسالته، أو حميّةً قوميّةً له، فمزّقت صحيفتها بعد ثلاث سنين من كَتْبها بأيدي مَنْ كتبها، وقيام من عاهد على ما فيها من ظلم وفجور وقطيعة! وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحصار ظافراً منصوراً بما صنع الله له من تدبير

موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها

حكيم مُحْكم، يتابع سيره في نشر دعوته، وتبليغ رسالته، وخرجت معه زوجه الوفيّة خديجة إلى بيتها تتابع سيرها في الحياة زوجة أمينة، مستظلة بظل الوفاء وصادق الإيمان! موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها: ولكنها رضي الله عنها لم تلبث إلا قليلاً بعد الخروج من الحصار حتى لبّت نداء ربّها راضية مرضيّة، وسبق أن ذكرنا الأقوال في تاريخ وفاتها! يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله!، هذه خديجة قد أتت ومعها إِناء فيه إِدام، أو طعام، أو شراب، فإِذا هي أتَتْك، فاقرأْ عليها السلامَ من ربّها ومِنِّي، وبشِّرها ببيت في الجنة، من قصب، لا صَخَب فيه ولا نصب". (¬1) قال ابن حجر: قوله (¬2) "فاقرأ عليها السلام من ربّها ومنّي" زاد الطبراني: (هو السلام، ومنه السلام، وعلى جبريل السلام)، والنسائي من حديث أنس قال: (قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إِن الله يقرئ خديجة السلام) يعني فأخبرها (فقالت: إِن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته)، زاد ابن السنّي من وجه آخر: (وعلى من سمع السلام، إِلا الشيطان). ¬

_ (¬1) البخاري: 63، مناقب الأنصار: (3820)، وانظر (7497)، ومسلم (2432)، وأحمد: 2: 231، والفضائل (1588)، والحاكم: 3: 185، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم منه، وابن أبي شيبة: 12: 133، والبغوي (3953)، والنسائي: الكبرى (8358)، وأبو يعلى (6089)، وابن حبان (7009). (¬2) فتح الباري: 7: 139 بتصرف.

قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها؛ لأنها لم تقل (وعليه السلام) كما وقع لبعض الصحابة، حيث كانوا يقولون في التشهد: (السلام على الله)، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إِن الله هو السلام، فقولوا: التحيات لله ... " فعرفت خديجة لصحة فهمها، أن الله لا يردّ عليه السلام، كما يردّ على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسماء الله، وهو أيضاً دعاء بالسلامة، وكلاهما لا يصح أن يردّ به على الله، فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام، والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل؛ فيستفاد منه أن لا يليق بالله إِلا الثناء عليه، فجعلت مكان ردّ السلام عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: (وعلى جبريل السلام) ثم قالت: (وعليك السلام). أجل! إنها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وأم ولده، إلا إبراهيم عليه السلام، فأمه السيدة مارية القبطيّة رضي الله عنها .. وماذا يستطيع القلم أن يكتب وهو سابح في آفاق هذه الحياة المباركة الطيّبة ليستشفّ ويرى ويكتب؟! وسبق أن ذكرنا في حديثنا عن بدء الوحي تصديقها للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أوّل وهلة، وثباتها في الأمر مما يدل على قوّة يقينها، ووفور عقلها، وصحة عزمها رضي الله عنها!

الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطائف

الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطائف: سبق أن عرفنا عاليّة الدعوة الإسلاميّة .. وأن منافذ تبليغ الرسالة بمكة قد سدّت بعد وفاة خديجة وأبي طالب، وأن الجوّ قد خلا لأحلاس الشرك، وفجّار الوثنيّة في مكة التي أظلمت فجاجها أمام الدعوة إلى الله تعالى، وضاقت بمواسمها، وأسواقها، ومحافلها ومجتمعاتها، وأنديتها ومضارب القبائل في بطحائها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومن ثم لم يجد فيها متنفّساً لدعوته، ولا منتجعاً لتبليغ رسالته؛ لأن سفهاء قريش، ومن وراءهم من أهل العتو والطغيان، والجحود والكفران طمعوا فيما لم يكونوا يطمعون فيه، وأبو طالب على قيد الحياة -كما عرفنا! وكان لابدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السير قدماً في القيام بنشر دعوته، وتبليغ رسالة ربّه، وأرض الله واسعة .. وهي بجميع أرجائها ومواطنها منازل للدّعوة إلى الحقّ والهدى، وأينما يُشرق النور فهناك الأفق الذي تطلع منه شمس الهداية، فلتذهب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ مذاهبها في الأرض، حيث يتاح لها، ولتفارق مكة إلى عودة ظافرة، تطهّرها من أرجاس الفجور في أشباح البأو العنيد، والاستكبار البليد! والنبي - صلى الله عليه وسلم - في حدود أقصى استطاعته، وأبلغ مدى طاقته يدأب في تبليغ وحي الله تعالى إلى عباد الله، لا يني، ولا يتوقّف، فإذا سدّت منافذ التبليغ في جانب من الأرض بقيت سائر الجوانب والواطن مهْيَعاً يجب سلوكه! فمكّة بمن فيها من العتاة الطغاة البغاة العاندين، والفجّار المستكبرين وما ¬

_ (¬1) محمَّد رسول - صلى الله عليه وسلم -: 2: 319، وما بعدها بتصرف.

فيها من مهانة الشرك وأوثانه، أبت أن تستجيب إلى الإيمان بدعوة الحقّ، وأبت أن تقبل هداية الله، وأعرضت مدبرة ماكرة، ووقفت سدًّا عنيداً دون نشر الدّعوة إلى الحق والخير، بل طغت وتجاوزت كل حدّ من العتوّ والفجور، ودبّرت مؤتمرةً لتفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقتله غيلة وغدراً -كما أسلفنا- لا لشيء إلا لأنه يدعوهم إلى أن يقولوا ربّنا الله، لا ندّ له ولا شريك في ملكه: {يُرِيدُونَ أَن يطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْركُونَ (33)} (التوبة). {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} (الصف). ومن ثم سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى (الطائف) -وفيها (ثقيف)، وكانوا كما قال المقريزي- أخواله، ولم تكن بينه وبينهم عداوة، يلتمس من أهلها النصرة والمنعة، والاستجابة إلى توحيد الله وهدايته، فأقام فيهم - صلى الله عليه وسلم - شهراً، يجتمع بسادتهم وأشرافهم، يدعوهم إلى قبول الحق ونصرته! روى ابن إسحاق قال: (¬1) لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الطائف، عمد إِلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إِخوة ثلاثة: ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 70 - 72، وإسناده مرسل عن محمَّد بن كعب القرظي، وابن سعد: 1: 211 - 212، مختصراً، وفي سنده الواقدي، والطبري: 2: 344 - 346. والطبراني وفيه ابن إسحاق، وبقية رجاله ثقات، انظر: المجمع: 6: 35 مختصراً، والبيهقي: الدلائل: 2: 415 - 417، من غير طريق ابن إسحاق مرسلاً.

عبد ياليل بن عمرو بن عُمير، ومسعود بن عمرو بن عُمير، وحبيب بن عمرو بن عُمير بن عفو بن عقدة بن نميرة بن عوف بن ثقيف. وعند أحدهم امرأة من قريش، من بني جُمح! فجلس إِليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاهم إِلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نُصرته على الإِسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه! فقال أحدهم: هو يمرط (¬1) ثياب الكعبة إِن كان الله أرسلك. وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم، وقد يئس من خبر ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذُكر لي- "إِذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنّي"، وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه، فيؤذِرَهم (¬2) ذلك عليه (¬3). قال ابن هشام: قال عبيد بن الأبرص: ¬

_ (¬1) أي يمزّق. (¬2) قال ابن هشام: السابق: يريد يُحرش بينهم، وفي الحديث "ذئر النساء على الرجال فأمر بضربهن". (¬3) انظر: الدارمي: 2: 147، وابن ماجه (1985)، والشافعي: 2: 28، وعبد الرزاق (17945) والحميدي (876)، وأبو داود (2146)، وابن حبان (4189)، والطبراني (784، 785). والبيهقي: 7: 305، والبغوي (2346)، والحاكم: 2: 188، 189، وانظر: ابن سعد: 1: 221 - 212 مختصراً، وفيه الواقدي، وفتح المنان: 8: 435 وما بعدها.

ولقد أتاني عن تميم أنهم ... ذئروا لقتلي عامر وتعصّبوا فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إِلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إِلى ظلّ حبلة (¬1) من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إِليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- المرأة التي من بني جمح فقال لها: "ماذا لقينا من أحمائك؟ ". فلما اطمأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال- فيما ذكر لي: "اللهم! إِليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إِلى من تكلني؟ إِلى بعيدٍ يتجهمُني؟ أم إِلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إِن لم يكن بك عليّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسَعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وَصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. من أن تنزِل بي غضبَك، أو يَحِلَّ عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إِلا بك" (¬2). ¬

_ (¬1) الحبلة: طاقات من قضبان الكرم. (¬2) انظر البيهقي: الدلائل: 2: 414 - 417، من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، وهو مرسل، ولم يذكر الدعاء، وأورد السيوطي الدعاء: الجامع الصغير، وعزاه للطبراني ورمز له بالحسن، وقال الألباني: حاشية فقه السيرة: 132، ودفاع: 19 وروى هذه القصة الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر مختصراً، وفيه الدعاء بنحوه. وقال الهيثمي: المجمع: 6: 35، وفيه ابن إسحاق. وهو مدلس، وبقية رجال ثقات، وانظر فيض القدير: 2: 150 - 151 (1483).

قال: فلما رآه ابنا ربيعة: عتبة وشيبة، وما لقي، تحرّكت له رحمهما، فدعَوَا غلاهاً لهما نصرانيًّا، يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قِطفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إِلى هذا الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال له: كل، فلمّا وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه يده قال: "باسم الله" ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إِن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن أهل أيّ البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك؟ " قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متَّى" فقال له عدّاس: وما يُدريك ما يونس بن متَّى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيّ، فأكبّ عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّل رأسه ويديه وقدميه! (¬1) قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك، فلمّا جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس! (¬2) ما لك تقبّل رأسه هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيّدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إِلاّ نبيّ، قالا له: ويحك يا عدّاس، ولا يصرفنّك عن دينك. فإِن دينك خير من دينه! ¬

_ (¬1) صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده مرسل، وانظر: ابن سعد: 1: 211 - 212 مختصراً وفيه الواقدي، والطبري: التاريخ: 2: 344 - 346، والطبراني. وفيه ابن إسحاق، وانظر المجمع: 6: 35، والبيهقي: الدلائل: 2: 415، من غير طريق ابن إسحاق مرسلاً. (¬2) انظر ترجمته في: الإصابة: 2: 466 - 467 (5468).

وفي رواية موسى بن عقبة، (¬1) أن سفهاء الطائف قعدوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - صفّين على طريقه فلمّا مرّ بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، وكانوا أعدوها، حتى أدموا رجليه، وكان ذلك من أشدّ ما لقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جهاده! وسبق أن ذكرنا ما رواه الشيخان وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إِذ عرفت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إِلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إِلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإِذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإِذا جبريل، فناداني، فقال: إِن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إِليهم ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمَّد، إِن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"! وهنا نبصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اختياره الثلاثة الذين كانوا سادة ثقيف يومذاك يعطينا الدليل على أهمية دعوة الزعماء الذين ينساق الناس وراءهم .. وبعد أن رفضوا قبول دعوته تبيّن أن غيرهم في الغالب سيرفضها، ومن ثم لم يستغرق مقامه في الطائف وقتاً طويلاً! ¬

_ (¬1) انظر: البيهقي: الدلائل: 2: 414 وفيه محمَّد بن فليح، صدوق يهم، انظر: التقريب: 502.

قدوم الجن وإسلامهم

ونبصر صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء الذين واجهوه بسوء العاملة -كما عرفنا- ومع ذلك كله لم يطلب من الله أن ينتقم منهم، بل دعا الله تبارك وتعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده .. ومن ثم كان قدوم ثقيف مسلمة -كما سيأتي بعد حصار الطائف ورجوعه إلى المدينة! قدوم الجنّ وإسلامهم: قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة، حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلّي، فمرّ به النّفر من الجنّ الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم -فيما ذكر لي- سبعة نفر من جنّ أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلمّا فرغ من صلاته ولّوْا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا، وأجابوا إلى ما سمعوا، فقصّ الله خبرهم عليه - صلى الله عليه وسلم -، قال الله عزّ وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلى قوله تعالى: {ويُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}! (الأحقاف). وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ}! (الجن) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة (¬1). وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود قال: هبطوا، يعني: الجنّ، على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلى قوله: {ضَلالٍ مُّبِينٍ (32)}! (¬2). ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 73 وصرح بالسماع، وهو مرسل عن محمَّد بن كعب القرظي. (¬2) الحاكم: 2: 456، وصححه ووافقه الذهبي، وأبو نعيم: الدلائل: 304، والبيهقي: الدلائل: 2: 228.

وأخرج أحمد وغيره عن الزبير: {وَإِذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَستَمِعونَ الْقُرآنَ} قال: بنخلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي العشاء: {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)}! (الجن). (¬1) ويروي الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه، عامدين إِلى سوق عُكاظ، وقد حِيلَ بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسِلَت عليهم الشُّهب، فرجعت الشياطين إِلى قومهم، فقالوا: مَا لكمْ؟ فقالوا: حيلَ بيننا وبين خبر السماء، وأُرسِلَتْ علينا الشُّهب! قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إِلا شيءٌ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومَغَارِبها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء! فانصرف أولئك الذين توجَّهوا نحو تِهامة إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بنخلَةَ، عَامدينَ إِلى سوق عُكَاظ، وهو يُصَلِّي بأَصْحَابِهِ صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله! الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إِلى قومهم، وقالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}! فأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِليَّ}! وإِنما أوحي إِليه قول الجن! (¬2). ¬

_ (¬1) الشوكاني: 5: 28، وأحمد: 1: 167، قال الهيثمي: المجمع: 7: 132 ورجاله رجال الصحيح، وابن جرير: 26: 22، عن عكرمة عن ابن عباس، وإسناده معقّد كما قال أحمد شاكر: انظر: أحمد: 3: 46 مؤسسة الرسالة. (¬2) البخاري: 10 الأذان (773)، وانظر (4921)، ومسلم (449)، وأحمد: 1: 252، والترمذي (3323)، والنسائي: الكبرى (11624، 11625)، والتفسير (644)، وأبو يعلى (2369)، والطبري: التفسير: 29: 102، والطحاوي: شرح المشكل (2330)، والبيهقي: الدلائل: 2: 225، والبغوي: معالم التنزيل: 4: 173، والطبراني: الكبير: (12449)، والحاكم: 2: 503، وابن حبان (6526).

ويروي مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، أنهم بينما هم جلوسٌ ليلةً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رُمِيَ بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ماذا كنتم تقولون في الجاهليّة إِذا رُمِيَ بمثل هذا؟ "! قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: وُلِدَ الليلة رجل عظيمٌ، ومات رجل عظيمٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإِنها لا يُرْمَى بها لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكنْ ربُّنا تبارك وتعالى اسمه، إِذا قضَى أمْراً سَبَّحَ حَملةُ الْعَرْش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونَهُمْ، حتى يَبْلُغَ التّسْبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلُونَ حَمَلَة العَرْش لحملة العَرْش: ماذا قال ربّكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، قال فَيَسْتَخْبرُ بعض أهل السموات بَعْضاً، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدُّنْيا، فَتَخْطَفُ الجِنُّ السّمْعَ، فيقذفون إِلى أوليائهم، ويرْمُون به، فما جاؤوا به على وجهه فهو حقٌّ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدُون"! (¬1) ويروي أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان الجن يسمعون الوحي، فيستمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً، فيكون ما سمعوا حقًّا، وما زادوه باطلاً، وكانت النجوم لا يُرمى بها قبل ذلك، فلما بُعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان أحدُهم لا يأتي مَقْعَدَه إِلا رُمِيَ بشهاب يُحرق ما أصاب، فَشَكَوْا ذلك إِلى إِبليس، فقال: ما هذا إِلا من أمر قدْ ¬

_ (¬1) مسلم: 39 - السلام (2229)، والبخاري: خلق أفعال العباد (469)، وأحمد: 1: 218، والترمذي (3224)، والنسائي: التفسير (292) والكبرى (11272)، والطحاوي: شرح المشكل (2332، 2333، 2334)، وأبو نعيم: الحلية: 3: 143، والبيهقي: الدلائل: 2: 236، والأسماء والصفات: 1: 327، وابن إسحاق: السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 265.

حدثَ، فبثَّ جنوده، فإذا هم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بين جَبَلَيْ نَخْلَة، فأتَوهُ فأخبروه، فقال: هذا الحدثُ الذي حدثَ في الأرض! (¬1) ويطالعنا قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)} (الأحقاف)! ومقالة النفر من الجنّ (¬2) - مع خشوعهم عند سماع القرآن- تتضمن أسس الاعتقاد الكامل: تصديق الوحي، ووحدة العقيدة بين التوراة والقرآن، والاعتراف بالحق الذي يهدي إليه، والإيمان بالآخرة وما ينتهي إلى المغفرة وما ينتهي إلى العذاب من الأعمال، والإقرار بقوّة الله وقدرته على الخلق، وولايته وَحْده للعبادة والربط بين خلق الكون وإحياء الموتى! وذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجنّ ليستمعوا القرآن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكاية ما قالوا وما فعلوا .. هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجنّ، ولتقرير وقوع الحادث، ولتقرير أن الجنّ هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 274، 323، والترمذي (3324)، والنسائي: الكبرى (11626)، والتفسير (646)، وأبو يعلى (2502)، والطحاوي: شرح المشكل (2331)، والطبراني: الكبير (12431)، والبيهقي: الدلائل: 2: 239. (¬2) في ظلال القرآن: 6: 3270.

العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولتقرير أن الجنّ خلق قابلون للإيمان وللكفران، مستعدّون للهُدى وللضلال، وليس هناك من حاجة إلى تثبيت أو تأكيد لهذه الحقيقة؛ فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقرّرها الله سبحانه ثبوتاً! وهذا الكون من حولنا حافل بالأسرار .. حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنهاً وصفةً وأثراً .. ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار .. نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرّف إلى بعض هذه الخلائق تارةً بذواتها. وتارةً بصفاتها، وتارةً بمجرّد آثارها في الوجود من حولنا! ونحن ما نزال في طريق المعرفة لهذا الكون، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا، ويعيش أبناؤنا وأحفادنا، على ذرّة من ذرّاته الصغيرة .. هذا الكوكب الأرضيّ الذي لا يبلغ أن يكون شيئاً يذكر في حجم الكون أو وزنه! وما عرفناه اليوم -ونحن مانزال في الطريق- يعدّ بالقياس إلى معارف البشريّة قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجنّ، ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرّة التي نتحدّث عنها اليوم لظنّوه يتحدّث عمّا هو أشدّ غرابةً من الجن قطعاً! ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشريّة، المعدّة للخلافة في هذه الأرض، ووفق مقتضيات هذه الخلافة، وفي دائرة ما سخّره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره، وليكون لنا ذلولاً، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض .. ولا نتعدّى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها -مهما امتدّ الأجل بالبشريَّة،

ومهما سخّر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره، لا نتعدّى تلك الدائرة .. دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض، وفق حكمة الله وتقديره! وسنكشف كثيراً، وسنعرف كثيراً، وستفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته .. مما قد تعتبر أسرار الذّرة بالقياس إليه شيئاً يسيراً .. ولكننا سنظلّ في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة، وفي حدود قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (85)} (الإسراء)! قليلاً بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيّومه. وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود، ووسائل المعرفة البشريّة المحدودة بقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27)!. فليس لنا -والحالة هذه- أن نجزم بوجود شيء أو نفيه، وتصوّره أو عدم تصوّره، من عالم الغيب المجهول، ومن أسرار هذا الوجود وقواه، لمجرّد أنه خارج عن مألوفنا العقليّ أو تجاربنا المشهودة، ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها، فضلاً على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا! وقد تكون هناك أسرار ليست داخلةً في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلاً، وأسرار ليست داخلةً في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده .. لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض! فإذا كشف الله تبارك وتعالى عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى. عن طريق كلامه -لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقاتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضاً- فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقّى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم .. نتلقّاها كما هي؛ فلا نزيد عليها ولا ننقص منها؛ لأن

المصدر الوحيد الذي نتلقّى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة، وليس هنالك مصدر آخر نتلقّى عنه مثل هذه الأسرار! ومن هذا النصّ القرآني، ومن نصوص سورة الجنّ، والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه، ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجنّ، ومن الآثار النبوية الصحيحة -التي قدّمنا بعضها عن الجنّ- نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن .. ولا زيادة: هذه الحقائق تتلخّص في أن هنالك خلقاً اسمه الجنّ، مخلوق من النار، لقول إبليس في الحديث عن آدم: {قَالَ أَنَا خَيرٌ مِّنْه خَلَقتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ (76)} (ص)! ويروي مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلقت الملائكة من نور، وخُلق الجانّ من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم" (¬1). وإبليس كان من الجنّ (¬2)، كما قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف)! وهذا الخلق له تجمعات خاصة، وأصناف خاصة! يروي الحاكم وغيره عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قال ¬

_ (¬1) مسلم: 53 - الزهد (2996)، وأحمد: 6: 153، 168، والبيهقي: الأسماء والصفات: 385 - 386، وابن حبان (6155)، وأورده السيوطي: الدرر المنثور: 7: 695 وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذري، وابن مردويه. (¬2) انظر: تفسير الشوكاني: 3: 297.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): "الجنُّ ثلاثة أصناف، صنفٌ لهم أجنحة يطيرون في الهواء .. وصنف حيّات وكلاب، وصنف يحلّون ويظعنونَ". وله تجمعّات تشبه تجمّعات البشر في قبائل وأجناس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} (الأعراف)! وله قدرة على الحياة على هذا الكوكب -لا ندري أين- قال تعالى لآدم وإبليس معاً: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} (البقرة)! ويطالعنا ما رواه مسلم وغيره عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال فوجدته يُصلِّي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكاً في عراجين (¬2) في ناحية البيت فالتفتُّ فإِذا حيَّةٌ، فوثبْت لأقتلها، فأشار إِليّ: أن اجْلِس، فجلسْت، فلمّا انصرف أشار إِلى بيت في الدّار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فيه فَتًى منّا حديث عهد بِعُرْسٍ. قال: فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنْصاف النّهار، فيرجع إِلى أهله، فاستأذنه يوماً، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذ عليك سلاحك، فإِنِّي أخشى عليه قريظة" فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع فإِذا ¬

_ (¬1) الحاكم: 2: 456 وصحح إسناده ووافقه الذهبي، والبيهقي: الأسماء والصفات: 388، وأبو نعيم: الحلية: 5: 137، والطحاوي: شرح مشكل الآثار: 4: 95 - 96، وابن حبان (6156)، وانظر: المجمع: 8: 136. (¬2) أي الأعواد التي في سقف البيت.

امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إِليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيْرةٌ فقالت له: اكْفُفْ عليك رُمْحَك، وادخُل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإِذا بحيّة عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إِليها بالرمّح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدّار، فاضطربت عليه، فما يُدري أيّهما كان أسرع موتاً، الحيّة أم الفتى؟ قال فجئنا إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادْعُ الله يُحْييه لنا، فقال: "استغفروا لصاحبكم" ثم قال: "إِن بالمدينة جنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيّام، فإِن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإِنما هو شيطان". وفي رواية: "إِن لهذه البيوت عوامر، فإِذا رأيتم شيئاً منها فحرّجوا عليها ثلاثاً، فإِن ذهب، وإِلا فاقتلوه، فإِنه كافر"، وقال لهم: "اذهبوا فادفنوا صاحبكم" (¬1). وفي رواية للشيخين وغيرهما عن ابن عُمر رضي الله عنهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يقول: "اقتلوا الحيّات، واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر، فإِنهما يطمسان البصر، ويستسقطان الحبل" (¬2). هذا، والجنّ الذين سخّروا لسليمان عليه السلام (¬3)، كانوا يقومون بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزوّدين بالمدرة على الحياه فيها، وأن للجن قدرةً ¬

_ (¬1) مسلم: 39 - السلام (2236)، ومالك: 2: 976 - 977، وأبو داود (5259)، والترمذي بعد الحديث (1484)، وابن حبان (5637). (¬2) البخاري: 58 - بدء الخلق (3297)، وانظر (3310، 3312، 4016)، ومسلم (2233)، والحميدي (620)، وأحمد: 2: 12109، والبغوي (3263)، وابن حبان (5638). (¬3) في ظلال القرآن: 6: 3271 وما بعدها بتصرف.

كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب، لقول الله تعالى حكايته عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} (الجن)! وأنه يملك التأثير في إدراك البشر، وهو مأذون في توجيه الضالّين منهم -غير عباد الله- للنصوص السابقة، ولقوله تعالى في حكاية إبليس اللعين: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} (ص)! وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثّر به، وأنه قابك للهدى والضلال، بدلالة قول هذا النفر: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} (الجن)! وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين، يدعونهم إلى الإيمان بعد ما وجدوه في نفوسهم، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد! ونعود إلى قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} (الأحقاف)! نعود فنرى تدبيراً من الله تعالى أن يصرف هؤلاء النفر من الجنّ إلى استماع القرآن في هذا الوقت، بعد تلك الظروف القاسية التي عرضنا لها، لا مصادفةً عابرةً، وكان في تقدير الله أن تعرف الجنّ نبأ الرسالة الخالدة الخاتمة الأخيرة، كما عرفت من قبل رسالة موسى عله السلام، وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدّة لشياطين الجنّ، كما هي معدّة لشياطين الإنس سواء!

ويرسم النصّ مشهد هذا النفر وهم يستمعون إلى هذا القرآن، ويصوّرون لنا ما وقع في حسّهم منه، من الرّوعة والتأثّر والرهبة، والخشوع: {فَلَمَّا حَضرُوهُ قَالُوا أَنصتُوا}! وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله مدّة الاستماع: {فَلَمَّا قضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَومِهِم مُّنذِرِينَ (29)}! وهذه كتلك تصوّر الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية .. فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعاً إلى الحركة به، والاحتفال بشأنه وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)}! ولّوا إلى قومهم مسارعين يقولون: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى}! يصدّق كتاب موسى في أصوله، فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى، فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن؛ لأن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى. وشهادة هؤلاء الجن البعيدين -نسبياً- عن مؤثّرات الحياة البشرية، بمجرد تذوقهم لآيات من القرآن، ذات دلالة وذات إيحاء عميق! ثم عبّروا عما خالج مشاعرهم منه، وما أحسته ضمائرهم، فقالوا عنه: {يَهدِي إِلَى الْحَقِّ وَإلَى طَرِيقٍ مسْتَقِيمٍ (30)}! ووقع الحق والهدى في هذا القرآن هائل ضخم، لا يقف له قلب غير

مطموس، ولا تصمد له روح غير معاندة ولا مستكبرة ولا مشدودة بالهوى الجامح اللئيم .. ومن ثمّ لمس هذه القلوب لأوّل وهلة، فإذا هي تنطق بهذه الشهادة، وتعبّر عما مسّها منه هذا التعبير! ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماية المقبنع المندفع، الذي يحسِّ أن عليه واجباً في النذارة، لا بد أن يؤديه: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}! فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجنّ، واعتبروا محمداً - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له، فنادوا قومهم بهذا النداء، وآمنوا كذلك بالآخرة، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب، والإجارة من العذاب، فبشّروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه! ويطالعنا قوله جلّ شأنه: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}! وهنا نبصر تكلة طبيعية لنذارة النفر لقومهم، فقد دعوهم إلى الاستجابة والإيمان، فالاحتمال قويّ وراجح أن يبيّنوا لهم أن عدم الاستجابة وخيم العاقبة، وأن الذي لا يستجيب لا يعجز الله أن يأتي به ويوقع عليه الجزاء، ويذيقه العذاب الأليم، فلا يجد له من دون الله أولياء ينصرونه أو يعينونه، وأن هؤلاء المعرضين ضالون ضلالاً بيناً عن الصراط المستقيم! وكذلك الآية التي بعدها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}!

وهنا نبصر تعجيباً من أولئك الذين لا يستجيبون لله، حاسبين أنهم سيفلتون، أو أنه ليس هناك حساب ولا جزاء! وتلك لفتة إلى كتاب الكون المنظور .. وكثيراً ما يتضمّن السياق القرآني مثل هذا التناسق .. فيتم التطابق على الحقيقة الواحدة في السورة الواحدة! وكتاب الكون يشهد بالقدرة البدعة ابتداء لهذا الخلق الهائل: السماوات والأرض، ويوحي للحسّ البشريّ بيسر الإحياء بعد الموت .. وهذا الإحياء هو المقصود، وصياغة القضية في أسلوب الاستفهام، والجواب أقوى وآكد في تقرير هذه الحقيقة .. تم يجيء التعقيب التالي: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} فتضم الإحياء وغيره في نطاق هذه القدرة الشاملة لكل شيء كان أو يكون! وعند ذكر الإيحاء يرتسم مشهد الحساب كأنه شاخص للعيون: {{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}! ويبدأ المشهد حكايته أو مقدمة لحكاية: {وَيَوْمَ يعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ}! وبينما السامع في انتظار وصف ما سيكون، إذا المشهد يشخص بذاته، وإذا الحوار قائم في المشهد المعروض: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقّ}! ويا له من سؤال؟ بل يا لها من قارعة للذين كانوا يكذبون ويستهزئون ويستعجلون .. واليوم تتلوَّى أعناقهم على الحق الذي كانوا ينكرون، والجواب في خزي وفي مذلّة وفي ارتياع: {بَلَى وَرَبِّنَا}! هكذا هم يقسمون: {وَرَبِّنَا}! .. ربهم الذي كانوا لا يستجيبون لداعيه، ولا يستمعون لنبيه ولا يعترفون بربوبيته، ثم هم اليوم يقسمون على الحق الذي أنكروه!

توجيه رباني

عندئذ يبلغ السؤال غاية من الترذيل والتقريع .. ويقضى الأمر، وينتهي الحوار: {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)}! سؤال تقريع ورد قصير! الجريمة ظاهرة، والجاني معترف، فإلى الجحيم! وسرعة المشهد مقصودة، فالمواجهة حاسمة، ولا مجال للأخذ والرد، لقد كانوا ينكرون، فالآن يعترفون، والآن يذوقون! توجيه ربّانيّ: وعلى هذا المشهد الحاسم في مصير الذين كفروا، وعلى مشهد الإيمان من أبناء عالم آخر ... يجيء الإيقاع الأخير، توجيهاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر عليهم، ولا يستعجل لهم، فقد رأى ما ينتظرهم، وهو منهم قريب: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}! وكل كلمة في الآية ذات رصيد ضخم، وكل عبارة وراءها عالم من الصور والظلال، والمعاني والإيحاءات، والقضايا والقيم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}! توجيه يقال لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي احتمل ما احتمل، وعانى من قومه ما عانى -كما سبق -وهو الذي نشأ يتيماً، وجرّد من الوليّ، والحامي، ومن كل أسباب الأرض واحداً بعد واحد: الأب، والأمّ، والجدّ، والعمّ، والزوجة الوفيّة رضي الله عنها .. وخلص لله ولدعوته مجرّداً من كل شاغل، كما هو مجرّد من كل سند أو ظهير .. وهو الذي لقي من قومه أشدّ ما لاقى من الأبعدين، وهو الذي خرج يستنصر القبائل والأفراد بلا نصرة،

ولقي استهزاء السفهاء ورجمهم له بالحجارة، حتى دميت قدماه الطاهرتان، فما يزيد على أن يتوجه إلى ربّه بذلك الابتهال الخاشع النبيل -كما عرفنا! وبعد ذلك كله يحتاج إلى توجيه ربّه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}! ألا إنه لطريق شاق .. طريق جهاد هذه الدعوة .. طريق مرير،، حتى لتحتاج نفس كنفس النبي - صلى الله عليه وسلم - في تجرّدها وانقطاعها للدعوة، وفي ثباتها وصلابتها، وفي صفائها وشفافيتها .. تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنّتين! نعم وإن مشقّة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة .. وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر .. وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهيّ المختوم .. تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية .. ثم تطمين: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يوعَدُونَ لَمْ يلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَار}! إنه أمد قصير .. ساعة من نهار .. وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الواقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار .. ! ثم يلاقون المصمير المحتوم! تم يلبثون في الأبد الذي يدوم! وما كانت تلك الساعة إلا بلاغاً قبل أن يحقّ الهلاك والعذاب الأليم: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}!

لا. وما الله يريد ظلماً للعباد! لا. وليصبر الداعية على ما يلقاه! فما هي إلا ساعة من نهار! تم يكون بعد ذلك ما يكون! ونبصر في إيمان الجنّ بهذه الصورة، بعد أن نال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ناله على أيدي (ثقيف) تسليةً أنسته آلامه، وأن أهل الأرض لو تخلّوا عن قبول الرسالة فذلك إلى حين، وفي العوالم الأخرى من يشدّ أزره! ونبصر من مآثر الجاهلية العرف الذي له مكانته في نفوسهم، ويعرف بـ (حق اللجوء السياسي) وفق مصطلح (الدبلوماسيّة الحديثة)، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا انصرف عن الطائف .. صار إلى حراء -كما نقل ابن هشام - (¬1) ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يُجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عديّ، فأجابه إلى ذلك، ثم تسلّح المُطعم وأهل بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ادخل، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله، فذلك الذي يعني حسّان بن ثابت! وقال حسان بن ثابت: (¬2) ¬

_ (¬1) السيرة النبوية: 2: 24: ابن إسحاق معلقاً، وابن سعد: 1: 212 من طريق الواقدي، والطبري: التاريخ: 2: 347 - 38 من طريق ابن إسحاق. (¬2) ديوان حسان بن ثابت: 239 تحت عنوان: "سيد الناس"، وانظر: ابن هشام: 2: 23 ففيه بعض اختلاف.

أعين ألا ابكي سيّد الناس واسفحي ... بدمع فإِن أنزفته فاسكبي الدمّا وبكّي عظيم المشْعَرَين وربَّها ... على الناس معروفٌ له ما تكلّما فلو كان مجدٌ يُخلد اليومَ واحداً ... من الناس أبقى مجده اليوم مُطعِما أجرتَ رسول الله منهم فأصبحوا ... عبادك ما لبيَّ ملبٍّ وأحْرَما فلو سُئِلَتْ عنه معدٌّ بأسرها ... وقحطانُ أو باقي بقيّة جُرْهُما لقالوا هو المْوُفِي بخُفره جاره ... وذِمَّته يوماً إِذا ما تذمَّما فما تطلُع الشمس المنيرة فوقَهم ... على مِثْله منهم أعزَّ وأكرما إِباءً إِذا يأبى وأكرم شيمَةً ... وأنْومَ عن جارٍ إِذا الليل أظْلَما

وقال أحمد محرّم: (¬1) ما رأينا كالمطعم بن عديّ ... جافياً واصلاً هُيوماً جسُورا آثر الكفْرَ ملةً وأجار الدّينَ ... مستضعفاً يدور شطيرا (¬2) رام بالطائف المقام فأعيا ... فانثنى يطلب الأمان حسيرا (¬3) وكّل الله بالنبوّة منه ... أسداً يملأ القضاء زئيرا قائماً في السلاح يجمع حَولَيْـ ... ـه شبُولاً تحمي الحمى ونمُوُرا يمنع القوم أن يصدّوا رسولَ ا ... لله عن بيته ويأبى الخُفُورا (¬4) ¬

_ (¬1) ديوان مسجد الإِسلام: 48 - 49 ط مكتبة الفلاح. (¬2) الشطير: الغريب والبعيد. (¬3) حسيراً: كالاً متعباً. (¬4) الخفور: نقض العهد والغدر.

نقض الحلف من قريش فأمسى ... أسلمتْهُ العربي وكان مريرا (¬1) عجباً للغويّ يعطيك منه ... عملاً صالحاً ورأياً فطيرا (¬2) ما رأينا من ظنّ بالزّرع شرًّا ... فحمى أرضه وصان البذورا لو جزى الله كافراً أجر ما أحْـ ... سن يوماً لخلته مأجورا ونبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحفظ للمطعم بن عديّ هذا الصنيع، فيقول فيما رواه البخاري وغيره عن محمَّد بن جبير بن مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عديًّ حيًّا، ثم كلّمني في هؤلاء النَّتْنَى لَتَركتُهم له" (¬3). ونبصر هذا الجوار لم يقيد حركة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الدعوة إلى الله تعالى! ¬

_ (¬1) المرير: ما اشتد فتله من الحبال، والراد حلف قريش كما سبق. (¬2) أي بديهاً من غير روية. (¬3) البخاري: 57 - فرض الخمس (3139)، وانظر (4024)، والحميدي (558)، وابن الجارود: المنتقى (1091)، وأبو داود (2689)، وأبو يعلى (7416)، وأحمد: 4: 80، والبغوي (2713)، والبيهقي: 6: 319، 320، 9: 67، والشعب (9124)، والطبراني: الكبير (1505، 1507).

ونعود إلى الهجرة إلى الحبشة، لنبصر ذلك فيما رواه البخاري وغيره من حديث طويل، أن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لم أعقل أبويّ قطّ إِلاّ وهما يدينان الدّين، ولم يمرَّ علينا يومٌ إِلاّ يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طَرَفي النّهار: بُكرةً وعَشِيَّةً، فلما ابتُلي المسلمون، خرج أبو بكر مُهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغمام لقيه ابن الدّغِنَّة -وهو سيّد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأُريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربِّي! قال ابن الدّغنّة: فإِن مِثلك يا أبا بكر لا يخْرُج ولا يُخْرَج، إِنك تكسب المعدوم، وتصل الرّحم، وتحمل الْكلَّ، وتقري الضّيف، وتُعين على نوائب الحقّ، فأنا لك جار، ارْجِع واعبد ربَّك ببلدك! فرجع، وارتحل معه ابن الدّغّنة، فطاف ابن الدغنّة عشيّة في أشراف قريش فقال لهم: إِن أبا بكر لا يخرج مثْله ولا يُخرج، أتُخرجون رجلاً يكسب المعْدُوم، ويصل الرّحم، ويحمل الكلّ، ويَقْري الضّيْف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذِّبْ قريش بجوار ابن الدّغنّة، وقالوا لابن الدّعنة: مُرْ أبا بكر فليعبُدْ ربّه في داره، فليُصلِّ فيها وليقرأْ ما شاء، ولا يُوذينا بذلك، ولا يَستَعْلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدّغنّة لأبي بكر! فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربّه في داره، ولا يَسْتعلن بصلاته. ولا يقرأ في غير داره!

ثم بَدَا لأبي بكر، فابْتَنَى مسجداً بفناء داره، وكان يُصليِّ فيه ويقرأ القرآن، فيتعرف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إِليه! وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إِذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إِلى ابن الدّغنّة، فقدم عليهم، فقالوا: إِنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربّه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإِنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإِن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإِن أبى إِلا أن يُعلن بذلك فسله أن يرد عليك ذمّتك، فإنا قد كرهنا أن يخْفِرك، ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان! قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إِلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإِما أن تقتصر على ذلك وإِما أن ترجع إِليّ ذمتي فإِني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخْفِرتُ في رجل عقدت له! فقال أبو بكر: فإِني أرد إِليك جوارك، وأرضى بجوار الله عَزَّ وَجَلَّ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة. (¬1) وهذا الموقف يشبه موقف عمر بن الخطاب في رد جوار خاله العاصي، رغبة أن يكون كغيره من المسلمين. (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3905)، وعبد الرزاق: 5: 384 - 389، والبيهقي: الدلائل: 4712 - 473، وابن إسحاق: ابن هشام: 2: 24 معلقاً، وابن سعد: 1: 212، والطبري: التاريخ: 2: 347 - 348 من طريق ابن إسحاق، وانظر: السير والمغازي: 235. (¬2) انظر: ابن هشام: 1: 425 بدون إسناد، والذهبي: السيرة: 179، وابن سعد: 3: 267 =

هذا، وحق اللجوء يستفيد منه الدعاة إلى الله لتبليغ الدعوة، كما نرى ونشاهد في عالمنا الإِسلامي المعاصر! ونبصر في إسلام من أسلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجع إلى مكة بما هو خير كله، بما فيه من معالم على طريق الدعوة والدعاة! وهنا يطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه، فقاموا يرجون لذلك أيهم يُعطى، فغدوا وكلهم يرجو أن يُعطى فقال: "أين علي؟ " فقيل: يشتكي عينيه، فأمر فدُعي له، فبصق في عينيه، فبرأ مكانه، حتى كأنه لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: "على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إِلى الإِسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله! لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم". (¬1) تلك إشارات إلى أهم معالم طريق جهاد الدعوة .. رجاء أن تكون زاداً للدعاة إلى الله! وتعود إلينا سيرتنا الأولى، وتهب نفحات القرن الأول، ويولد للإسلام عالم جديد يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يُرد! ¬

_ = 269، من غير طريق ابن إسحاق بسند ضعيف، انظر: المجمع: 9: 63 - 65، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 241، وفيه: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، مترك، وقد استفاض هذا الخبر! (¬1) البخاري: 56 - الجهاد (2942)، وانظر (3009، 3701، 4210)، ومسلم (2406)، وأحمد: 5: 333، والفضائل: (1037)، وأبو داود (3661)، والبيهقي: 9: 106 - 107، وسعيد بن منصور (2472، 2473، 2482)، والنسائي: الفضائل (46)، والخصائص (17)، والطبراني (3991)، والبغوي (3906)، وأبو نعيم: الحلية: 1: 62، وابن حبان (6932)

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة الطَّبعة الأولى 1430 هـ - 2009 م مكتبة ابْن كثير ص. ب: 1106 حَولي 32012 الكويت تليفون: 22631298 - فاكس: 22657046

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (الأعراف)! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء)! {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب)!

(في علم المغازي خير الدنيا والآخرة)! الزهري (كنا نعلّم مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما نعلم السورة من القرآن الكريم)! زين العابدين علي بن الحسين (كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها)! إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص

مقدمة

مقدمة الإسراء والمعراج من أعظم الأحداث في تاريخ الإِسلام؛ إذ يتضمَّن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشَّف عن النظرة الأولى لتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان، وتربط بين عقيدة التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- إلى خاتم النبيِّين محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وتربط الأماكن المقدَّسة لرسالات التوحيد جميعاً، معلنة وراثة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - لمقدّسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدّسات وارتباط رسالته بها جميعاً! وإذا كان اليهود قد ترهَّلت نفوسهم، وأسنت ورتعت في الفسق والمجانة، واستهتروا بالقيم والمقدّسات، وولغوا في الأعراض والحرمات، وعاثوا في الأرض فساداً، فإنهم بذلك قد أخذوا بأسباب الهلاك الحتميّة ليحق القول عليهم، وتجري فيهم سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً! فها هي أمة الإِسلام تستيقظ من جديد وتمسح عن عينيها غشاوة البعد عن منهج رسالتها، وتضع قدميها على طريق الفئة المؤمنة الأولى ليتحقق لها وعد نطق الشجر والحجر، ويعود لها تمكينها وتفرض هيبتها، وليس هذا ببعيد، بل قريب قريب! والله أسأل: التوفيق والسداد! والعون والرشاد! إنه سميع مجيب! الكويت في: غرة ربيع الآخر 1430 هـ 27 من مارس 2009 م راجي عفو ربه سعد محمَّد محمَّد الشيخ (المرصفي) أستاذ الحديث وعلومه كلية الشريعة والدراسات الإِسلامية جامعة الكويت. سابقاً

منحة ربانية

منحة ربَّانيَّة

منحةٌ ربَّانية * طريق الدعوة: * أعظم آيات الإعجاز الكوني: * تشريف وتكريم: * آيات الأنبياء: * رسالة عقليَّة علميَّة خالدة: * القرآن آية التحدي العظمى: * الآيات الحسيَّة لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - * انشقاق القمر: * نبع الماء من بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -: * تكثير الطعام القليل: * حنين الجذع: * التحدِّي بالقرآن: * آية الإسراء أرفع المراتب: * مفهوم الإسراء: * مفهوم المعراج: * حكم الإسراء والمعراج: * أهم الأحاديث: - الحديث الأول: - الحديث الثاني: - الحديث الثالث: * الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء: * صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء: * بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش: * حقيقة الإسراء والمعراج: - القول الأول: - القول الثاني: - القول الثالث: - قول باطل: * الإسراء ووحدة الوجود: * إنكار النصوص وتحريفها: * إغراب وتشويش: * دعاء على الطريق: * طريق الكفاح في مسيرة الدعوة: * وقت الإسراء والمعراج: * بدء الإسراء:

طريق الدعوة

منحةٌ ربَّانيَّة طريق الدعوة: سبق أن عرفنا -في طريق جهاد الدعوة- كيف وقفت قريش موقف العناد والجحود، والضلال والكنود، وعادت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وظلَّت عقبةً كؤوداً في سبيل دعوة الحقّ، ولجّت في العداوة والكفران، وتمادت في الإيذاء والطغيان! وهنا تطالعنا أعظم آيات الإعجاز الكونيّ لنبيِّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، التي كُتب بمداد نورها الحرف الأوّل في سطر الحفاوة الربَّانيَّة الذي افتتحت به نفحات الفرج، وانكشاف غُمم المحن والبلاء، وضائقات المعوّقات التي كان يقيمها طغاة الشرك، وعتاولة الوثنيّة أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طريق تبليغ رسالته، ونشر دعوته .. دعوة الهُدى والنور، إعلاءً لكلمة الله .. كلمة الحق والعدل، والخير والإصلاح، والإخاء بين أبناء الإنسانيَّة كافّة، وزرع المحبَّة بين الناس من كل جنس ولون، وعصر ومصر، وجيل وقبيل، أينما وجدوا من أرض الله؛ لأن هذه المنحة الربَّانيَّة جاءت بعد مقتضياتها التي كان من أظهرها العام الذي ابتُلي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفقد زوجه ومأنس قلبه، ومطمئن فؤاده، وزيرة الصدق له في دياجير المحن، وهي تخفّف عنه آلامه، وتمسح عن نفسه ما كان يلمُّ به من حزن، لما يلقاه من عتوّ الشرك، وفجور الوثنيّة على أيدي أحلاسها من المستكبرين الطغاة البغاة العتاة (¬1)، ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 327 وما بعدها بتصرف.

ربائب الجهل الظلوم، من ملأ قريش، الذين كان يدعوهم إلى النجاة، ويأبون إلا أن يكون مأواهم النار، لا يخفّف عنهم من عذابها، وما هم منها بمخرجين! تلك زوجه الصّدِّيقة المصدَّقة، الأمينة الطاهرة، سيّدة نساء العالمين، السيّدة خديجة أمّ المؤمنين رضي الله عنها! ثم بفقد الحفيّ القويّ الحميّ الجريء، المطاع في قومه، العظيم في حياته، الحدب المدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حميّةً قوميّة .. العزيز في حسبه، الفارع في نسبه .. الذي إذا دعا لنضال الحماية لدفع مذلة الضّيم أجابته السيوف المنافية الهاشميّة، شاكيةً تأبى أن تقرّ في أغمادها، حتى يُقضى بينها وبين من يتلمّظ لعداوتها، ويتعرض لملاقاتها وسخطها! ذلك الفحل لا يُجدع أنفه، ولا يطمع في مهادنته إذا اسْتُغضب .. أبو طالب بن عبد المطّلب، سيّد البطحاء، عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنو أبيه، صاحب المواقف التي أرعبت أفئدة ملأ قريش، وروّعت أمنهم، وذهبت باستقرارهم، وأذلت استكبارهم، دفاعاً عن سياج العزّة الهاشميّة التي أبى عليها تعزّزها بالسؤدد والمجد والشرف في العرب قاطبةً، أن تقبل ضَيماً في شخص وحيد الدنيا في عليا المكارم محمَّد الأمين - صلى الله عليه وسلم -، حفيّها، ونور حياتها، ولباب أفئدتها، يهبّون إذا أهبهم شيخهم أبو طالب، ويسكنون متحفّزين إذا سكّنهم، فهم طوع إرادته، ورهن إشارته! وهاتان المحنتان المتعاقبتان في زمن يسير -كما أسلفنا- من أشدّ ما لقي محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحزان الدّنيا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فقد بفقدهما حنان

الأنس، وعاطفة الحبّ في الزوج المحبّة الأمينة، وفقد القوّة الحامية، والحدب في عمّه الذي وقف إلى جانبه يُدافع عنه، ويقوِّي عزيمته، ويردّ عنه سفه السفهاء، وعتوّ البغاة العتاة الطغاة، وفجور الفجّار! ولا سيما كان فقدهما عقب محنة مريرة قاسية، تجلّت فيها بشاعة اللؤم العتيّ، وفظاعة الحقد الوثنيّ، والاستكبار العنيد .. تلك هي محنة الحصار الاقتصادي، والمقاطعة الصارمة، والإجاعة المميتة ثلاث سنين، بين البؤس والحرمان، وأنين الأطفال، ودموع النساء .. هذا الحصار الذي تعاهدت عليه قريش، وأفقدها كل عاطفة حيوانيّة، بَلْه إنسانيّة، كان أشدّ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- ومن دخل معهم حميّة من الهاشميّين والمطّلبيين، إيلاماً ومضاضة وقسوة -من سنيّ يوسف عليه السلام-، وكانت أيّامها أظلم الحوالك في دنيا الظلم والفجور، حتّى أكل المحصورون ما لم يؤكل، وصبروا على ما لم يصبر عليه الصُّبَّر من أولي البلاء والمحن، مع ما سبق ذلك من سفه سفهاء قريش، وفجور ملئها في إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في صور متعدّدة، وأشكال مختلفة، تدلّ على حنق مغيظ، وغيظ حانق حقود! وكان من آثار ذلك في تبليغ الرسالة، وقوّة الحميّة القوميّة، أن خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد يأسه من طغاة الوثنيّة البليدة لدعوة الحقّ والهُدى، ويأسه - صلى الله عليه وسلم - أن يتركوه يبلّغ رسالة ربّه، ويخلّوا بينه وبين الناس في محافلهم وأسواقهم وتجمّعاتهم، ليدعوهم إلى الله الواحد الأحد، الذي يجب أن يفرد بإخلاص العبادة -إلى الطائف حيث ثقيف .. ليؤوه وينصروه، حتى

يُبلِّغ رسالة ربّه .. فلقي منهم -كما عرفنا- أفراداً وجماعات، السّفه الطائش، ولؤم الضيافة، وشراسة الخلق، ورذالة الطبع، وخسّة المروءة، فقد فَظِع بكبرائهم أن يسمعوا منه أنه رسول الله، وأنّه يدعو إلى توحيد الله، وخلع الأصنام والأوثان، فأساؤوا ردّه من أوّل وهلة، وتنمّروا له من أوّل كلمة .. وسلّطوا عليه غلمانهم وسائر سفهائهم، فوقفوا له في الطريق سِمَاطَيْن، يرمونه بالحجارة، حتى لقي من سوء ما لقي .. وبلغ مأمناً يهابه جبناء ثقيف، فرجعوا عنه .. وْعاد - صلى الله عليه وسلم - إلى مكّة وملؤها وسفهاؤها على أخبث ما كانوا من غيظ حقود! وهكذا تجمّعت غمامات الآلام على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وتكاثفت سحب العوائق أمام نهوضه بتبليغ رسالة ربّه، وانتشر الشر في آفاق الحياة، واحلولك الظلام في جنباتها، وتقاصر الأمل عن غايته، وضاقت حلقات العزائم عند كثير، واستحكم الشرُّ في نفوس الشرّيرين، وتثاءب اليأس المظلم، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحيداً يُقلِّب وجهه في السماء، انتظاراً للفرج، وترقّباً لانجلاء غمامات المحن والبلايا!! لقد كانت هذه المرحلة الكفاحيّة غير المتكافئة تمحيصاً للمؤمنين .. ودروساً لتربية صدق العزائم عند طلائع السابقين .. وإعداداً لكتائب الدعاة إلى الله تعالى في التأسّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صبراً جميلاً، واحتمالاً لنوازل البلاء، وتوجيهاً للأحداث بفكر حكيم محكم، وسياسة رحيمة، تجعل من العدوّ صديقاً حميماً، ومن السفيه الجهول حكيماً عليماً!

أعظم آيات الإعجاز الكوني

أعظم آيّات الإعجاز الكوني: وهنا نبصر القدم التي سال منها الدم الطاهر في الطائف -كما عرفنا- تستقيم على الطريق (¬1)، من أوّل بيت وُضع للناس إلى بيت بارك الله تعالى حوله .. ثمّ إلى السماوات العُلا! ونبصر رحمة الله الرحمن الرحيم بعبده وحبيبه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. حيث شاهد من آيات ربّه ما شاهد، وعاين من أمارات العناية به وبدعوته ما زاده يقيناً إلى يقين بنجاح دعوته، وتبليغ رسالته، والنصر على أعدائه .. وأطلعه الله على ما زاد النفس رضًى، والقلب نوراً، والرّوح أنساً، فقد جاءت تلك المنحة الربّانيّة تثبيتاً له على طريق المقاومة الطويل، وتكريماً في أعقاب سنين طويلة من الصبر والمصابرة، والصمود والكفاح! وجاءت تتويجاً لهذه السنين الصعبة، فقد رفعه إلى السماوات، وأطلعه على جوانب الإعجاز في الكون الكبير .. ! وجاءت امتحاناً لإيمان الصحابة وتصديقهم بكل ما يخبر به، ويدعو إليه! وجاءت اختباراً لمدى ثباتهم على الإيمان، واستجابتهم إلى تحقيق الغاية من رسالته، وهي إخراج الناس من عبوديّة الشيطان إلى عبادة الرحمن! وهو مدى رحب تتجاوز أبعاده الملموس والمحسوس والمسموع ¬

_ (¬1) انظر: أضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: للمؤلف، بتصرف.

والمنظور .. ويتأتَّى عن الوقائع، ويمتدّ بعيداً بعيداً صوب الآفاق التي ترفع قدر الإنسان! وهكذا كانت آية الإسراء في جوّها الخاصّ والعامّ (¬1) بلسماً لجراح بشريّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - التي نالها أعداء الحقّ والخير بالإيذاء .. وكانت سراجاً وهّاجاً أضاء الطريق أمام دعوته إلى الله! وكانت نوراً تبلج من آفاق العناية الربّانيّة علماً ومعرفة، وشرفاً وفضلاً، ليقيم له - صلى الله عليه وسلم - ولدعوته ورسالته الخالدة الخاتمة معالم الطريق الذي أسّس على الكفاح الصبور، في سبيل الحقّ والخير والهُدى والإصلاح، بغير إعجاز مادّيّ يُكرِه الناس على الاستجابة إلى الإيمان بالدّعوة، ليكون ذلك رسماً لطريق الدّعوة إلى الله أينما كانت، ومَعْلَماً للدّعاة إلى الله، حيثما كانوا وكيفما كانوا! وهكذا كانت -أيضاً- آية الإسراء في حقيقتها ومقاصدها صورةً جامعةً للقدوة في العلم والمعرفة، والعمل لإصلاح الحياة .. وبُشرى بابتداء عهد البناء والمعرفة، ومطالعة آيات الله في ملكوت السماوات والأرض المسخّرة للإنسان، وتحقيقاً لخلافة الأمّة التي يربّيها نبيّ الإِسلام - صلى الله عليه وسلم - بعقيدته وتعبّداته وشرائعه وأحكامه، وسياسته، وآدابه، ونظمه ومناهجه في الحياة، لتقيم من هذه العقائد والتعبّدات والشّرائع والآداب والنّظم والمناهج بناءً شامخاً تأوي إليه الإنسانيّة إخوةً متحابّين، لتكون خير أمّة أُخرجت من ضمير الغيب للناس! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 230 وما بعدها بتصرف.

تشريف وتكريم

تشريف وتكريم: ومن ثمَّ كانت آية الإسراء أشرف آية مادّيّة حسيّة أوتيها نبيٌّ من رسل الله، وهي أجلّ ما أعطيه محمَّد الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين من الآيات الحسّيّة، والكرامات المادّيّة، وهي في فضلها وعظمة الحفاوة تالية للقرآن الكريم في روعة دلالتها على صدق نبوّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وعموم رسالته وخلودها، وما له عند الله من مكانة ورفعة شأن، ممَّا فُضِّل به على جميع الأنبياء والمرسلين بعد القرآن العظيم! وقد كانت آيات الأنبياء والمرسلين -التي جعلها الله برهان صدقهم في دعواهم أنهم رسل من عند الله إلى قومهم، يدعونهم إلى توحيد الله وإلى الهُدى والخير- آيات ماديّة حسّيّة تخرق نواميس نظام الترابط المادّي بصورة قاهرة، لا طاقة للبشر بها، ولو اجتمعوا بعلومهم وأفكارهم وتجاربهم وحيلهم على معارضتها بوسائلهم البشريّة المادّيّة، فلا يجدون ذريعةً لردّها، إلا المكابرة والعناد، وأعناقهم لها خاضعة! وآيات الأنبياء والمرسلين ومعجزاتهم إنما تجري على مقتضى سنن إلهيّة خاصّة، لا سبيل لتحكّم العقل فيها، وفي إدراك حقائقها، وتعرّف أسبابها .. والعقل بمعزل تام عن تحكيمه في ثبوتها .. ومدار التصديق بها على صحة ثبوتها هو الإخبار بها في واقع الوجود بسند صحيح، لا يعتريه ريب، ولا يعارض متنه أصل أثبت منه وأدخل في أصول الإسلام!

آيات الأنبياء

آيات الأنبياء: وقد ضرب الله المثل في القرآن الكريم لهذه الآيات الحسّيّة المادّيّة التي أوتيها مَن ذُكِروا في القرآن من المرسلين .. وكان من أبينها وأكثرها ذكراً آيات موسى وعيسى عليهما السلام، وآياتهما أهدى الآيات الحسّيّة المادّيّة سبيلاً، وأظهرها إعجازاً، وأقواها حجّةً، وأبلغها أثراً! فعصا موسى -عليه السلام- لها خصائص سائر العصيِّ في بعدها عن حلول نوع من الحياة فيها، وقد أخبر عنها موسى حين سئل من رب العزّة- سؤال تأنيس وتمهيد، لا سؤال استخبار- بقوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى (17)} (طه)! بما يعلمه عنها من حقيقتها الأصيلة، ومن الأسباب التي اتخذها لها، فقال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخرَى (18)} (طه)! من كل مأرب تؤديه عصا، فيدفع بها عن نفسه صولة عدوّ، ويقيمها عموداً ليسدل عليها ما يقيه من الحرّ والبرد، ولكنها حيثما أريد لها أن تجري على السنن الإلهيّة الخاصّة خرجت عن طبيعة العصا التي لا تحيلها الحياة إلى طبيعة أخرى قابلة للحياة، فانقلبت جانًّا يتحرّك، وثعباناً يلقف ما يأفك سحرة فرعون، بكل ما فيه من وسائل مادّيّة، وإلى أن ضرب بها موسى البحر فانفلق فلقتين، فكانت كل فلقة منه كالطّود العظيم في قوّة تماسك ذرّاته، والماء طبيعته سيّالة يستحيل عليها هذا التماسك في نواميس السنن

العامّة للكون، وإلى أن يضرب بها الحجر الصلد فينبجس منه الماء اثنتي، عشرة عيناً، لكل قوم من بني إسرائيل شرب معلوم منها! وتصوير عيسى -عليه السلام- قطعةً من الطّين الذي له خصائص الطّين، بكل ما فيها من بعد ومنافاة للحياة على هيئة طائر، ثم ينفخ فيه فيصير طائراً بإذن الله، يتحرّك ويطير، ويذهب ويجيء، ويأكل ويشرب، ويغرّد ويرفرف! ومسّه بيده الأكمه الذي لم ير النّور ببصره قطّ يجعله بصيراً بإذن الله! ومسحه على الأبرص الذي ابتلي بداء عجز عنه طبّ عصره يشفيه من مرضه العضال! ونداؤه الميّت الذي غير عليه من الزّمن ما غير، يقيمه من قبره بإذن الله إنساناً حيًّا، يتحرّك ويمشي ويتكلّم، ويفكّر ويخبر ويرشد ويسترشد! والمقصود بذلك من هذه الآيات التي وقعت على يد هذين الرسولين الكريمين بيان أن سنن الله في الكون لا يقيّدها نظام الترابط الكونيّ في نواميس السنن العامّة! ويطالعنا قوله جل شأنه: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا

وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} (آل عمران)! ونبصر حسم التعقيب في حقيقة عيسى -عليه السلام- وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشئ كل شيء .. ولكن أيّة غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر .. وتتجلّى حقيقة الخلق كله، وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح ... وتلك هي طريقة {الذِّكرِ الْحَكِيمِ} في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي في أعقد القضايا، وهي اليسر الميسور! وما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممترياً ولا شاكاً فيما يتلوه عليه ربّه في لحظة من لحظات حياته، وإنما هو التثبيت على الحق، ندرك عنه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة في بعض أفرادها في ذلك الحين، كما ندرك ما تتعرض له الأمّة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد، وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين، ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد .. ! ونبصر الحقائق التي تقرّرها الآيات واضحة الدلالة! ونبصر معجزات عيسى -عليه السلام- تتعلّق بإنشاء الحياة أو ردّها، أو ردّ العافية وهي فرع عن الحياة، ورؤية غيب بعيد عن مدى الرؤية .. وهي

رسالة عقلية علمية خالدة

في صميمها تتسق مع مولد عيسى، ومنحة الوجود والحياة على غير مثال إلا مثال آدم عليه السلام! {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)} (آل عمران)! وإذا كان الله قادراً أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه، فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال .. ولا حاجة إذن لكل الشبهات والأساطير التي نشأت عن هذا المولد الخاص متى ردّ الأمر إلى مشيئة الله الطليقة! (¬1) وهكذا كانت آيات الأنبياء والرسل قبل رسالة خاتم النبيين محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حسّيّة ومادّيّة؛ لأن مدارك الإنسان وقوى تفكيره كانت مجذوبةً إلى الأرض، بقوّة التماسك العنصري في ترابط ذرّات الكون! رسالة عقليّة علميّة خالدة: وحين بلغت النبوّة مداها في التآخي مع العقل الإنساني -وهو قوّة لا سلطان للمادّة عليها- وقد بلغ العقل رشده واستوى تفكيره، أرسل الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - برسالة كاملة المعالم في أصول العقائد والتعبّدات، ¬

_ (¬1) انظر: في ظلال القرآن: 1: 397 وما بعدها.

وأنظمة الحياة، ختم بها رسالات المرسلين، قامت على دعائم من القواعد والأصول العامة المحكمة، جعلها هاديةً للعقل في مسيرته مع الحياة، يسترشد بها، ليستخرج من أصولها أحكام الأحداث والوقائع المتجدّدة التي لا تتناهى، دون حاجة إلى الوقوف عند نصّ ربما لا يفي بالمقصود! ومن ثمَّ كانت خصّيصة هذه الرسالة الخاتمة في خلودها بخلود الحياة في تآخيها مع العقل الإنسانيّ الذي اكتمل رشده، وشبّ عن طريق المحاكاة والتقليد والتبعيّة! ومن هذه الخصّيصة لهذه الرسالة الخاتمة في تآخيها مع العقل، كان لا بدَّ في آيات صدقها، وبراهن حقّيّتها، ودلائل إعجازها من أن تكون مسايرةً لهذا التآخي العقلي، مناسبة له في منابعه الإدراكيّة، هاديةً له في أسس التشريع، مهتديةً به في تطبيق الوقائع، على تلك الأسس والأصول! وعندئذ لم يبق للإعجاز الحسيّ وآياته المادّيّة قوّة دلالته على حقّيّة ماجاءت به من الهُدى والخير، فكانت الآية العظمى، والمعجزة الكبرى التي وقع بها التحدّي والاستدلالّ على صدق حامل أمانتها آية عقليّة، علميّة، فكريّة .. يجد فيها كل عقل مجاله الإدراكي .. ويجد فيها كل عالم طريقه إلى المعرفة واليقين .. ويجد فيها الفكر (المتطوّر) مجالاً لسبحات أطواره، بعيداً عن الجمود المادّيّ .. ليستصفي من أصولها الحقّ خالصاً من شوائب الخداع والتضليل!

القرآن آية التحدي العظمى

القرآن آية التحدّي العظمى: تلك هي آيات الكتاب المبين، القرآن العظيم، الجامع لمنازل الخير وجوامع الهُدى والنّور، الذي تحدّى بذاته وإعجازه كل عَيْلم عليم، وكل عقل محكم حكيم، وكل فكر غوّاص عميق، بما جاءت به آياته من حقائق ومعان هادية، ومقاصد مستهدفة للحق، كما تحدّى كل فصيح بليغ، وكل ذي بيان وبراعة في روعة الإحسان، بأسلوبه ونظمه وجزالة ألفاظه، ونصاعة جمله وكلماته، ونسق آياته، فكان آية الصدق على دعوى الرسالة الخالدة، بما فيه من ألوان الهداية، فهو معجزتها الكبرى، وآيتها العظمى التي كانت به خاتمة الرسالات الإلهيّة، فلا رسالة لله تعالى إلى الخلق بعدها، ولا كتاب ينزل بعد كتابها من السماء، وقد صبّ الله تعالى فيض إحسانه في آيات كتابها، خالدةً لا تنتهي وباقيةً لا تنفد! ومن هنا كانت فيوضات الله لا تنقطع، ولكنها مستمرّة سرمديّة عن طريق آياتها في كتابها الحكيم المحكم، فالنظر فيه، وتدبّر حقائقه ومعانيه، ومعرفة هدايته، والغوص في حكَمه هي طريق الإيمان، وهذه سبيل ممهّدة للعقل، وطريق موطأة للفكر، يَهتدي بها السالكون إلى مشارع الإيمان، وهي عامرة بالسائرين فيها الذين أقيمت لهم منائر الحق، ونصبت لهم معالم الهداية، وأنيرت لهم آفاقها، ليهتدوا بها في دياجير أوهام العلم التجريبيّ وتخيّلاته وتخرّصاته وظنونه إلى نور الحقّ واليقين! لا تتوقّف مسيرته، ولا تخدو عن الراغبين مشارعه، فهو داعٍ مستجاب، وهادٍ خِرِّيت لا يضلّ الطريق أبداً، ومرشد لا يملّ ولا يعيا،

الآيات الحسية لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -

مشارعه مفعمةٌ بالواردين، ومسالكه مليئةٌ بالقاصدين، وروّاده قوافلهم متواصلةٌ لا تنقطع، وداخلو ساحته متوافدون، لا قوّة تدفعهم إليه إلَّا قوّة الحق فيه، ولا وسائل تجذبهم إليه إلَّا وسيلة الرّغبة فيه! وإلى هذه الحقائق والمعاني أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله الجامع فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أعْطي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحْياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" (¬1). الآيات الحسيّة لخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -: وإذا كان القرآن العظيم هو الآية العظمى، والمعجزة الكبرى التي وقع بها التحدّي للدلالة على صدق نبيّنا محمَّد- صلى الله عليه وسلم -، ولا يزال هذا التحدّي قائماً إلى يوم القيامة، في كل زمان ومكان، وجيل من الناس وقبيل، مهما بلغت الحياة من أطوار التقدّم العلميّ، لما فيها من أبديّة الهداية التي لا تنتهي، كما انتهت الآيات الحسّيّة المادّيّة التي أوتيها رسُل الله تعالى برهاناً على صدق دعواهم في رسالاتهم -فقد أوتي نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الحسّيّة المادّيّة، وعجائب خرق نواميس الترابط المادّيّ في عناصر الكون ما لم يؤت مثله كيفاً وكمًّا نبيّ من الأنبياء عليهم السلام! ¬

_ (¬1) البخاري: 66: فضائل القرآن (4981)، وانظر (7274)، ومسلم (152).

ومن الآيات الحسّيّة المادّيّة التي أوتيها نبيّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والتي لم تدخل في إطار التحدّي بها، ما ثبت وفق قواعد التحديث روايةً ودرايةً! وإذا كانت معجزات الأنبياء السابقين في صورها العامّة ملائمة لما اشتهر في زمان كل رسول، حتى إذا ما عجز الناس عن الإتيان بمثلها كان ذلك أكبر شاهد على صدق من ظهرت على يديه .. فقد شاء الحق جلّ شأنه أن يجمع الفضل من أطرافه، لخاتم رسله، فأعطاه معجزات حسّيّة؛ لأن الناس ليسوا سواء في الإدراك والتفكير، ومن ثم أوتي من الآيات المتكاثرة ما لم يؤت غيره من الأنبياء .. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر المعجزات! ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: ما أعطى الله نبيًّا إلا أعطى الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ما هو أكثر منه، فقيل له: أعطى عيسى ابن مريم إحياء الموتى، فقال الشافعي: حنين الجذع أبلغ؛ لأن حياة الخشبة أبلغ من إحياء الميّت، ولو قيل: كان لموسى فلق البحر، عارضناه بفلق القمر، وذلك أعجب؛ لأنه آية سماويّة، وإن سئلنا عن انفجار الماء من الحجر، عارضناه بانفجار الماء من بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خروج الماء من الحجر معتاد، أمّا خروجه من اللحم والدم فأعجب، ولو سئلنا عن تسخير الرياح لسليمان عارضناه بالمعراج! (¬1) وفي القرآن الكريم قصص لهذه المعجزات .. ومن تتبّع منهج القرآن ¬

_ (¬1) مناقب الشافعي: 38، وأضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: 7 وما بعدها.

وجد أنه اعتمد في الإقناع على المحاكمة العقليّة، والمشاهد المحسوسة لعظيم آلاء الله، والمعرفة التامّة بالرسول النبيّ الأمّيّ بما يجعل نزول القرآن عليه دليلاً على صدق دعوته: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)} (العنكبوت)! ومقالة هؤلاء عن الآيات يعنون بها الخوارق المادّيّة التي صاحبت الرسالات من قبل، والتي لا تقوم حجّة إلَّا على الجيل الذي شاهدها .. بينما تقوم حجّة الرسالة الخاتمة على كل من بلغته الدّعوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. ومن ثم جاءت آياتها متلوّة في الذكر الحكيم الذين لا تنفد عجائبه، والذي تتفتّح كنوزه لجميع الأجيال في جميع الأحوال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} (العنكبوت)! وقد أرادت قريش أن تتحدّى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يأتيهم بالخوارق الكونيّة، وسجّل القرآن الكريم ذلك في سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ

فكان الرد عليهم

يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}! فكان الردّ عليهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء)! والأمر ليس مجرّد خوارق كونيّة، فالتحدّي قائم بالقرآن الكريم، وفي نفس السورة نقرأ قبل هذه الآيات: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}! ونقرأ التعقيب في الآية التالية: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} (الإسراء)! وفي نفس السورة نبصر أن التحدّي الأكبر إنما هو بالقرآن الكريم، وأن الهدف الكبير من الإيمان أن يعمل الناس صالحاً وفق ما أراده الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} {الإسراء: 59)! ونبصر منهج القرآن في بيان أن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجاحدة القاسية، والنفوس الميّتة الجاسية، ونحن نقرأ في نفس السورة:

ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} (الإسراء)! ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (الإسراء)! وهكذا تصوّر الآيات مشهد الذين أوتوا العلم من قبله، وهم لا يتمالكون أنفسهم .. وتنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس عميق بالحق، ويغلبهم التأثّر البالغ، فلا تكفي الكلمات في تصوير ما يجيش في صدورهم، فإذا القطرات التي تكوّنت خشوعاً، وتجمّعت خضوعاً، تتساقط دموعاً! ونبصر تسجيل القرآن الكريم لهذه الآية في أول سورة الإسراء:

انشقاق القمر

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء)! ونبصرها منحةً ربَّانيَّة بعد اشتداد المحن .. ونبصر التنزيه والتقديس في مطلع تلك الآية .. كما نبصر الحمد في ختام السورة: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} (الإسراء)! انشقاق القمر: ويطالعنا قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)} (القمر)! إنه مطلع باهر مثير، على حادث كونيّ كبير، وإرهاص بحادث أكبر، لا يُقاس إليه ذلك الحدث الكونيّ الكبير: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}!

يا له من إرهاص! ويا له من خبر! لقد رأوا الحدث الأوّل فلم يبق إلا أن ينتظروا الحدث الأكبر .. وتمضي الآيات واضحة الدلالة .. والروايات عن انشقاق القمر، ورؤية العرب له في حالة انشقاقه ثابتة وفق قواعد التحديث رواية ودراية .. يروي الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود - صلى الله عليه وسلم - قال: انشقّ القمر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - شقّين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشهدوا" (¬1)! وفي رواية عن أنس - صلى الله عليه وسلم -: أن أهل مكّة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. (¬2) وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أن القمر انشقّ زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) ¬

_ (¬1) البخاري: 61 - المناقب (3636)، وانظر (3869، 3871، 4864، 4865)، ومسلم (2800)، والنسائي: التفسير 572، 573، والطبري: التفسير: 27: 85، والطحاوي: شرح المشكل (698، 699، 702، 703)، وابن حبان (6495). (¬2) البخاري (3637)، وانظر (3868، 4867، 4868)، ومسلم (2802)، والطيالسي (1960)، وأحمد: 3: 165، 207، 220، 275، وعبد بن حميد (1185). (¬3) البخاري (3638)، وانظر (3870، 4866)، وأحمد: 1: 377، 447، 456)، والنسائي: الكبرى (11553)، والتفسير (573)، وأبو يعلى (4968)، والبيهقي: =

تلك أهم روايات انشقاق القمر .. تحددّ مكان الحادث وزمانه وهيئته .. وهي آية واجه بها القرآن الكريم المشركين في حينه، ولم يرو عنهم تكذيب لوقوعه، فلا بد أن يكون قد وقع فعلاً بصورة يتعذَّر معها التكذيب (¬1)، ولو على سبيل المراء الذي كانوا يمارونه في الآيات، لو وجدوا منفذاً للتكذيب، وكل ما روي عنهم أنهم قالوا: سحرنا! ولكنهم هم أنفسهم اختبروا الأمر، فعرفوا أنه ليس بسحر، فلئن كان قد سحرهم فإنه لا يسحر المسافرين خارج مكة الذين رأوا الحادث وشهدوا به، حين سئلوا عنه، كما في بعض الروايات! ونبصر توجيه القلب البشريّ إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق، وفي أحداث التاريخ سواء .. ومن ثم نبصر الإشارة إلى اقتراب الساعة، باعتبار هذه البشارة لمسة للقلب البشريّ ليستيقظ ويستجيب! وانشقاق القمر إذن كان آيةً كونيّةً يوجه القرآن الكريم القلوب إليها، كما يوجّهها دائماً إلى الآيات الكونيّة الأخرى، ويعجب من أمرهم وموقفهم إزاءها، كما يعجب من مواقفهم تجاه آيات الله الكونيّة الأخرى! إن الخوارق الحسّيّة قد تدهش القلب البشريّ في طفولته، قبل أن يتهيأ لإدراك الآيات الكونيّة القائمة الدائمة والتأثر بإيقاعها الثابت الهادئ .. ¬

_ = الدلائل: 2: 264، 265، وعبد الرزاق: التفسير: 2: 257 مطوّلاً، والحاكم: 2: 471 - 472، والترمذي (3285، 3286، 3287)، والطبري: التفسير: 27: 85، وانظر: فتح القدير للشوكاني: 5: 123. (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3426 وما بعدها بتصرف.

وكل الخوارق التي ظهرت على أيدي الرسل عليهم صلوات الله وتسليماته، قبل أن تبلغ البشريّة الرشد والنضوج يوجد في الكون ما هو أكبر منها وأضخم، وإن كان لا يستثير الحسّ البدائي كما تستثيره تلك الخوارق! والقمر في ذاته آية أكبر! هذا الكوكب بحجمه، ووضعه، وشكله، وطبيعته، ومنازله، ودورته، وآثاره في حياة الأرض، وقيامه هكذا في الفضاء بغير عمد! هذه هي الآية الكبرى القائمة الدائمة حيال الأبصار وحيال القلوب، توقع إيقاعها، وتلقي ظلالها، وتقوم أمام الحسّ شاهداً على القدرة المبدعة التي يصعب إنكارها إلا عناداً أو مراءً! وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشريّ في مواجهة الكون كله، وما فيه من آيات الله القائمة الثابتة، ويصله بهذا الكون وآيات الله فيه في كل لحظة لا مرّة عارضة في زمان محدود، يشهدها جيل من الناس في مكان محدود! والكون كله هو مجال النظر والتأمّل في آيات الله التي لا تنفد، ولا تذهب، ولا تغيب، وهو بجملته آية، وكل صغيرة فيه وكبيرة آية .. والقلب البشريّ مدعوّ في كل لحظة لمشاهدة الخوارق القائمة الدائمة، والاستماع إلى شهادتها الفاصلة الحاسمة .. وعجائب الإبدل الممتعة، التي يلتقي فيها الجمال بالكمال، والتي تستجيش انفعال الدهش والحيرة مع وجدان الإيمان والاقتناع الهادئ العميق! ونبصر في مطلع السورة تلك الإشارة إلى اقتراب الساعة وانشقاق

نبع الماء من بين أصابع النبي - صلى الله عليه وسلم -

القمر، إيقاعاً يهزّ القلب البشريّ هزًّا، وهو يتوقّع الساعة التي اقتربت، ويتأمّل الآية التي وقعت، ويتصوّر أحداث الساعة في ظل هذا الحدث الكونيّ الذي رآه المخاطبون بهذا الإيقاع المثير! ومع اقتراب الموعد المرهوب، ووقوع الحادث الكونيّ المثير، وقيام الآيات التي يرونها في صور شتّى .. فإن تلك القلوب كانت تلج في العناد، وتصرّ على الضلال، ولا تتأثّر بالوعيد كما لا تتأثّر بإيقاع الآيات الكثيرة الكافية للعظة والكفّ عن التكذيب! (¬1) نبع الماء من بين أصابع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ويطالعنا نبع الماء من بين أصابع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن سالم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قد رأيتني مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد حضرت العصر. وليس معنا ماءٌ غير فضلة، فجعل في إناء، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - به، فأدخل يده فيه، وفرّج أصابعه، ثم قال: "حيَّ على أهل الوضوء، البركة من الله" فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه، فتوضّأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه، فعلمت أنه بركة. قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألف وأربعمائة! (¬2) ¬

_ (¬1) انظر: السابق 3428 وما بعدها. (¬2) البخاري: 74 - الأشربة (5639)، ومسلم (1856)، وابن حبان (6538)، والبيهقي: الدلائل: 4: 117.

وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحانت صلا العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضّؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، حتّى توضّؤوا عن آخرهم. (¬1) وفي رواية عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا نعدّ الآيات بركةً، وأنتم تعدّونها تخويفاً، كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فَقَلَّ الماء، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخَل يده في الإناء، ثم قال: "حَيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله" فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري: 4 - الوضوء (169)، وانظر (195، 200، 3572، 3573، 3574، 3575)، ومالك: 1: 32، ومسلم (2279)، والشافعي: 2: 186، وأحمد: 3: 132، والترمذي (3631)، والنسائي: 1: 60، والفريابي: الدلائل (19، 20)، وابن حبان (6539). (¬2) البخاري: 61 - المناقب (3579)، وأبو يعلى (5372)، وأحمد: 1: 460، والدارمي: 1: 14 - 15، والترمذي (3633)، وابن خزيمة (204)، وأبو الشيخ: العظمة (1212، 1213)، واللالكائي: أصول الاعتقاد (1479)، والبيهقي: الدلائل: 4: 129، 6: 62، والبغوي: شرح السنة (3713)، والتفسير: 4: 162، وابن أبي شيبة: 11: 474، والطحاوي: شرح مشكل الآثار: 4: 332، وأبو نعيم: الدلائل: 2: 521.

تكثير الطعام القليل

تكثير الطعام القليل: ويطالعنا تكثير الطعام القليل فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس قال: قال أبو طلحة لأمّ سُليم: لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفاً، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجتْ خماراً لها، فلفّت الخُبز ببعضه، ثم دسّته تحت يدي، ولا ثتني ببعضه، ثم أرسلتْني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهبْتُ به، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ومعه الناس، فقمْتُ عليهم، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آرْسَلَكَ أبو طلحة؟ " فقلت: نعم، قال: "بطعام" قلت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه: "قوموا". فانطلق وانطلقْتُ بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أمّ سُليم، قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة معه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلُمِّي يا أمّ سُليم ما عندك"، فأتتْ بذلك الخُبْز، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففُتَّ، وعصرت أمّ سُليم عُكَّةً فأدَمَتْه، ثم قَال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة"، فأذن لهم، فأكلوا حتى

حنين الجذع

شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: "ائذن لعشرة" فأكل القوم كلهم حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً! (¬1) وتعددت الروايات في ذلك! حنين الجذع: ويطالعنا حنين الجذع فيما رواه البخاري وغيره عن جابر عبد الله رضي الله عنهما قال: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار - أو رجل: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: "إن شئتم" فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصّبيّ، ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمّه إليه، يئن أنين الصَّبيّ الذي يُسكَّن، قال: "كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها"! وفي رواية: كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب يقوم إلى جِذْع منها، فلما صُنع له المنبر فكان عليه، فسمعنا ¬

_ (¬1) البخاري: 61 - المناقب (3578)، وانظر (422، 5381، 5450، 6688)، ومسلم (2040)، ومالك: 2: 927 - 928، وأحمد: 3: 218، 232، 242، واللالكائي: أصول الاعتقاد (1483)، والفريابي (6، 7)، وأبو نعيم (322)، كلاهما في الدلائل، والبيهقي: 7: 373، والدلائل: 6: 88 - 89، والاعتقاد: 80، والبغوي (3721)، وابن حبان (6534).

لذلك الجذعِ صَوْتاً كصوت العِشَارِ، حتى جاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها، فسَكنت! وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم إلى أصل شجرة -أو قال: إلى جذع- ثم اتخذ منبراً، قال: فحنّ الجذع، قال جابر: حتى سمعه أهل المسجد، حتى أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسحه فسكن، فقال بعضهم: لو لم يأته، لحَنَّ أبداً إلى يوم القيامة! (¬1) قال ابن حجر (¬2): وفي حديث أبي الزبير عن جابر عند النسائي في الكبير: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج - والخلوج: الناقة التي انتزع منها ولدها. وفي حديث أنس عند ابن خزيمة: فحنّت الخشبة حنين الوالد! وفي روايته الأخرى عند الدارمي: خار ذلك الجذع كخوار الثور! وفي حديث أبيّ بن كعب عند أحمد والدارمي وابن ماجه: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدعّ وانشق! ¬

_ (¬1) البخاري: 61 - المناقب (3584 - 3585)، وانظر (918)، وأحمد: 3، 293، 295، 300، 306، 324، وعبد الرزاق (5254)، والبيهقي: 3: 195، والدلائل: 2: 556، 560، 561، 562، 563، والبغوي (3724)، والدارمي (33، 35، 1570)، وأبو يعلى (1068، 2177)، وابن ماجه (1417)، وابن حبان (6508)، والشافعي: 1: 142 - 143، وابن أبي شيبة: 11: 485 - 486، والنسائي: 3: 102، وأبو نعيم: الدلائل: (303). (¬2) فتح الباري: 6: 603 بتصرف.

وفي حديثه: فأخذ أبيّ بن كعب ذلك الجذع لمَّا هدم المسجد، فلم يزل عنده، حتى بلي وعاد رفاتاً! ثم قال: وفي حديث بريدة عند الدارمي، أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه، فتكون كما كنت -يعني قبل أن تفسير جذعاً- وإن شئت أن أغرسك في الجنّة، فتشرب من أنهارها، فيحسن نبتك وتثمر، فيأكل منك أولياء الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اختار أن أغرسه في الجنة". قال البيهقي: قصّة حنين الجذع من الأمور الظاهرة، التي حملها الخلف عن السلف ... وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لقول من يحمل {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّح بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44)! على ظاهره، وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال: -كما سبق- ما أعطى الله نبيًّا ما أعطى محمداً، فقلت: أُعطي عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى الله محمداً حنين الجذع، حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذاك! ويطول بنا الحديث لو حاولنا ذكر الأحاديث في استجابة الجمادات لدعائه - صلى الله عليه وسلم - لها وإتيانها إليه .. وإبراء المرضى وردّ ما انفصل من أعضاء الإنسان .. وغير ذلك من الروايات الصحيحة وفق قواعد التحديث رواية ودراية!

التحدي بالقرآن

التحدّي بالقرآن: وهذه الآيات المعجزة، والعجائب الخارقة للعادة، على كثرتها وتنوّعها، وصحة وقوع حوادثها، لم يقع بها التحدّي العام لإثبات دعوى الرسالة، كما وقع بالقرآن الكريم، الذي تحدّى العالمين، فكان هو بذاته ونصّه موطن الدعوة والشاهد على صدقها شهادة بلغت مبلغ اليقين (¬1)، فقد أهاب القرآن الكريم بغطارفة المشركين الوثنيين، وكانوا أرفع البشر فصاحة، وأبلغهم بياناً، وأروعهم بلاغة، وأبرعهم منطقاً، وأذربهم ألسنة، وأهداهم إلى طريق البراعة البيانيّة سبيلاً، وكانوا يدلّون على الناس بصفاء قرائحهم وحدّة مداركهم، فتحدّاهم أن يأتوا بحديث مثله، آية فما فوقها، وقد تدرّج معهم التحدّي بعشر سور من مثله، ثم إلى سورة واحدة، ولم يتركهم بعد هذه المراتب المتدرّجة حتى غمز قناتهم، وأذلّ استكبارهم، وسخر بغرورهم، وهزأ بتنفّجهم وغطرستهم، فأنبأهم وهو يتحدّاهم بأنهم عاجزون عن معارضته عجزاً لا تواتيهم فيه قدرة على هذه المعارضة، في أي صور التحدّي المتدرجّ، فقال لهم: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} (البقرة)! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 341 وما بعدها بتصرف.

ثم أيأسهم بما وخز عنجهيّتهم وخزاً موجعاً، لا أمل من ورائه قطّ في المعارضة، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ لرسوله محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} (الإسراء)! وذكر الجنّ في هذه الآية بيان لبلوغ التحدّي والتعجيز غاية يقف عندها غرور التفاصح الأجوف ذليلاً خزيان لا يبين! فالآيات الحسّيّة المادّيّة التي أعطيها نبيّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كانت تشريفاً وتكريماً له، وإشارةً بمنزلته عند ربّه، وتنبيهاً للغافلين الذين لم تتبوأ عقولهم مكانتها من الرشد في الإدراك، حتى تتكامل له - صلى الله عليه وسلم - دعائم تبليغ رسالته في عمومها وخلودها، ليجد فيها وفي وسائل عرضها كل عقل إنسانيّ طلبته المصاحبة لاستعداده، حتى إذا نهض من كبوة جهله، واستشرف آفاق العلم والمعرفة وجد أمامه القرآن العظيم كتاباً محكماً حكيماً، صدوق الدّلالة، عميق البرهنة، سيّال الفكرة، منطلق الحقائق، غزير المعاني، لطيف المأخذ، خالد التحدّي، أَبَديّ الإعجاز بهدايته، مهيمناً على ما جاء به الأنبياء والمرسلون من آيات قاهرة، على مثلها يؤمن البشر: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (فصلت)! {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (فصلت)!

قال الدكتور دراز (¬1) - رحمه الله: إن التاريخ سجّل على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغويّة في أمّة من الأمم ما بلغته العربيّة في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتّى أدركت هذه اللغة أشدّها، وتمّ لها بقدر الطاقة البشريّة تهذيب كلماتها وأساليبها؟! ما هذه المجموع المحتشدة في الصحراء؟! وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟! إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم، وأجود صناعتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها، واختيار أحسنها، والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمْرُ حسَّان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدّب! فما هو إلا أن جاء القرآن .. وإذا الأسواق قد انفضّت، إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى! ذلك على أنه لم يسدّ عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفراداً أو جماعات، بل تحدّاهم وكرّر عليهم ذلك التحدّي في صور شتّى، متهكّماً بهم، متنزّلأَ معهم إلى الأخفّ فالأخفّ: فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله! ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله! ¬

_ (¬1) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: 83 وما بعدها بتصرف.

ثم بسورة واحدة من مثله! انظر كيف تنزّل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل، كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة، بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، وبما يكون مثلاً على التقريب لا التحديد! وهذا أقصى ما يمكن من التنزّل، ولذا كان هو آخر صنيع التحدّي نزولاً، فلم يجيء التحدّي بلفظ (من مثل) إلا في سورة البقرة المدنيّة، وسائر المراتب بلفظ (مثله) في السور التي نزلت قبل ذلك بمكّة! فتأمّل هذا الفرق فإنه طريف، وأسأل الله أن يوفقنا وإيّاك لفهم أسرار كتابه والانتفاع بهدايته وآدابه! وأباح لهم في كل مرّة أن يستعينوا بمن شاؤوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} (الإسراء) وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} (البقرة: 24)! فانظر أيّ إلهاب! وأيّ استفزاز!

لقد أجهز عليهم بالحكم الباب المؤبد في قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}! ثم هدّدهم بالنار! ثم سوّاهم بالأحجار! فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرّك لما صمتوا عند منافسته، وهم الأعداء الألدّاء، وأباة الضيم الأعزّاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلماً يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً .. حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيف بدل الحروف، وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كلّ مغلوب! الحجّة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعاً عن نفسه بالقلم واللسان! ومضى عصر نزول القرآن، والتحدّي قائم، ليجرّب كل امرئ نفسه .. وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغيّر سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدّين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن، على ما عجز عنه أوائلهم لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل! ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون .. غير أن هؤلاء الذين جاؤوا من بعد، كانوا أشدّ عجزاً، وأقلّ طمعاً، في هذا المطلب العزيز، فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان هذا الإعجاز قائماً أمامهم من طريقين:

آية الإسراء أرفع المراتب

وجداني! وبرهاني! ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن، حتى يرث الله الأرض ومن عليها! آية الإسراء أرفع المراتب: وقد كان فيما أوتيه نبيّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الحسّيّة المادّيّة آيات جمعت أرفع مراتب التشريف، وأعلى درجات التكريم، وأبلغ منازل التعظيم، لم يعط مثلها نبيّ من الأنبياء، انفردت بنصّ قرآنيّ، أثبتها منوِّهاً بخطر قدرها، وهو نصّ صريح لا يقبل التأويل، ولا يحتمل الجدل، ذلك هو آية الإسراء، التي يقول الله تعالى في شأنها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء)! ومن ثمَّ كان جحود وقوع آية الإسراء، وإنكار وجودها مُخرجاً عن ملّة الإِسلام بإجماع المسلمين؛ لأنه إنكار لنصّ قرآنيّ صريح، وخرق لإجماع الأمّة إجماعاً لم يعرف له مخالف من المسلمين كافة، عامّتهم وخاصّتهم، والتأوّل في كيفيّة وقوع هذه الآية العجيبة العظيمة، وكونها وقعت بالجسد والرّوح معاً، أي بالصورة البشريّة التي يطلق عليها لفظ (عبد) كما هو اعتقاد جمهور المسلمين، من عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلى أن يرث

مفهوم الإسراء

الله الأرض ومن عليها .. أو وقعت بالرّوح فقط، أو رؤيا مناميّة رآها - صلى الله عليه وسلم -، كما نسب إلى آحاد في روايات لا تقوم لها أسانيد- لا يخدش إجماع المسلمين على أن الله تعالى أسرى بعبده محمَّد - صلى الله عليه وسلم -! مفهوم الإسراء: والإسراء مصدر أسرى، مأخوذ من السرى، وهو سير الليل، تقول: أسرى وسرى إذا سار ليلاً بمعنى، هذا قول الأكثر، وقال الحوفي: أسرى: سار ليلاً، وسرى: سار نهاراً، وقيل: أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار من آخره، وهذا أقرب! (¬1) مفهوم المعراج: أمَّا المعراج فهو مفعال من العروج، ويطلق على الصعود، وكأنه آلة له، وأصله: عَرَج -بفتح الراء-يعرُج- بضمّها: إذا صعد، وسيأتي في الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عُرج به إلى السماوات السبع فما فوقها، ورجع من ليلته، وبهذا يتضح أن المعراج يطلق على صعود النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات السبع وما فوقها، ورجوعه في جزء من الليل! (¬2) ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط "سرى"، وفتح الباري: 7: 198، وشرح المواهب اللدنيّة: 6: 10، وأضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: 13. (¬2) السابق، وانظر: عمدة القاري: 4: 43.

حكم الإسراء والمعراج

حكم الإسراء والمعراج: والإسراء -كما عرفنا- ثابت بالقرآن الكريم، وثابت أيضاً بالأحاديث الكثيرة (¬1) التي رواها الشيخان وغيرهما -كما سيأتي-، وقد تواترت (¬2) الأخبار بأنه - صلى الله عليه وسلم - أسري به على البراق، وعليه فالإسراء، متواتر، وكونه على البراق كذلك! ونقل ابن كثير (¬3) عن أبي الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) قوله: تواترت الروايات في حديث الإسراء ... ثم قال: فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} (الصف)! أما المعراج فقد أشار إليه القرآن الكريم -كما سيأتي- وثبت بالأحاديث الصحيحة التي رواها الشيخان وغيرهما، ولذلك لا يجوز إنكاره! ولا شك أن قطع مسافة تضرب أكباد الإبل لقطعها شهراً مصعدةً، وشهراً آيبةً، في جزء من الليل أمر خارق لنواميس الطبيعة وقوانينها، ونظمها التي أقامها الله على سنن عامّة في ترابط ذرّات الكون وعناصره، تسير عليها منذ أوجد الله تعالى بقدرته هذا الكون العظيم! ¬

_ (¬1) انظر: شرح المواهب اللدنيّة: 6: 12 - 14. (¬2) انظر: نظم المتناثر في الحديث التواتر: 133، وأضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: 14. (¬3) تفسير ابن كثير: 3: 24.

ونعود إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء)! نعود فنبصر سورة الإسراء تبدأ بتسبيح الله، وهو أليق حركة نفسيّة تتَّسق مع جوّ الإسراء اللطيف، وأليق صلة بين العبد والرّبّ في ذلك الأفق الوضيء! وهذا لا يقال إلا في الأمور المستبعدة عادة لتعاظمها (¬1)، والتي لا تألفها مدارك العقول في متعارف الحياة، وقد تنكرها لأوّل وهلة، نظراً للسنن العامّة التي قام عليها نظام الكون وطبيعة الترابط بين عناصره ومكوّناته، فإذا رُميت بسهم التأمّل ومعرفة اقتدار الله تعالى وقهره لكل مخلوق له من مادّة أو نظام، رجعت العقول إلى التصديق والقبول، ما لم يصدّها العناد المستكبر، وآمنت بأن لله تعالى في عظمة اقتداره وقهر سلطانه سنناً خاصّة لها أسبابها ومناسباتها وأزمانها وأحداثها ودواعيها؛ لأن الألوهيّة الحقّة القاهرة القادرة المدبّرة الحكيمة لا تقيّدها من مخلوقة لها مرئيّة أو معلومة، لدى العقول، أو معتادة في متعارف الحياة ومألوفاتها، بل إن هذه الألوهيّة الحقّة تقتضي أن يكون الإطلاق الكامل حقًّا لها في مشيئة كينونة ما تشاء كونه! ولكن ذلك يجري على نظام خاصّ مقدّر -وهو ما سمّيناه بالسنن الخاصّة التي تقتضيها مناسباتها في أزمانها وأشخاصها وأحدائها- شُرِّف به ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 344 بتصرف.

نبيّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ووقع له بحالته الطبيعيّة الكاملة بشريّةً وروحاً، فلم تفقد روحه جسمه، ولم يُفارق جسمه روحَه، بل أسرى بهما ربّ العزة جل شأنه، وهذه الحالة الكاملة لشخص النبيّ - صلى الله عليه وسلم - التي لا تفارق فيها الرُّوح جسمَها المقدور لها في الحياة به ومعه في تلازم امتزاجيّ لا يعرف حقيقته إلا الله تعالى هي التي يطلق عليها في لغة العرب عند التفاهم، وفي عرف الناس كافّةً عند التعامل تعريفاً لفظ (عبد)، كما جاء في آية الإسراء ويتأكّد ذلك بإضافة التشريف والتكريم لهذا العبد المكرّم التي خصّه الله بها في هذا المقام، فقال: {سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ}! لاستشعار وقوع ما لم يكن في حسبان العقول، وقد جرى عرف القرآن الأسلوبي على ذلك، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبدُ اللهِ يَدْعُوهُ} (الجن: 19)! والقائم الذي يدعو الله هو الشخص المؤلف من روح وجسد، ويزيد ذلك تأكيداً تحديد مبدأ الإسراء ونهايته، وهذا في المتعارف لدى العقول لا يقال إلا في أمر مادّيّ يفيد الانتقال من مكان إلى مكان! فالإسراء كان قطعاً بمقتضى منطوق الآية الكريمة ومفهومها وإشاراتها ولوائحها بأكمل ما يطلق عليه لفظ (عبد)، وهو شخص النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المكوّن من روحه وجسده، لم تُفارق روحُه جسدَه، ولم يفقد جسدُه روحَه في جميع لحظات الرحلة المباركة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ذهاباً وأوبةً، فلا وجه مطلقاً لصرف هذه الحقيقة عن وجهها الذي تدلّ عليه الآية دلالةً بيّنةً!

أهم الأحاديث

أهم الأحاديث: والأحاديث في الإسراء والمعراج كثيرة، يطالعنا منها ما يلي: الحديث الأول: ونجد أنفسنا أمام الحديث الأول، وهو أجود أحاديث الإسراء والمعراج وأتقنها -كما يقول السيوطي (¬1) - وهو حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، فإنه أجود وأتقن، وقد سلم ممَّا في غيره من التعارض -كما سيأتي: قال مسلم: حدّثنا شيبان بن فرّوخ. حدّثنا حمّاد بن سلمة. حدّثنا ثابت البُنَاني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُتيتُ بالبُراق (وهو دابةٌ أبيض طويلٌ فوق الحمار ودون البَغْل، يضع حافره عند فنتَهى طَرفه) قال: فركبتُه حتى أتيتُ بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي يَربِطُ به (¬2) الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جُبريل عليه السلام بإِناء من خمر وإِناء من لَبنٍ، فاخترت اللّبن، فقال جبريل - صلى الله عليه وسلم -: اخترت الفطرة! ثم عرج بنا إِلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: ¬

_ (¬1) الآية الكبرى: 45. (¬2) قال النووي: كذا هو في الأصول (به) بضمير المذكر، أعاده على معنى الحلقة، وهو الشيء، قال صاحب التحرير: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس: مسلم بشرح النووي: 2: 211.

جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بُعِت إِليه؟ قال: قد بُعث إِليه، فَفُتِحَ لنا، فإذا أنا بآدم، فرحّب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إِلى السماء الثانية، فاستفتح جبريلُ عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بُعِثَ إِليه؟ قال: قد بُعِثَ إِليه، فَفُتِحَ لنا، فإِذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن ذكريَّاءَ صلوات الله عليهما، فرحَّبَا ودعَوَا لِي بخير. ثم عَرَج بِي إِلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بُعِثَ إِليه؟ قال: قد بُعِثَ إِليه، فَفُتِحَ لنا، فإِذا أنا بيوسف - صلى الله عليه وسلم -، إِذا هو قد أُعطي شَطر الحُسْن، فرحّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إِلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام؟ قيل: مَنْ هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قال: وقد بُعِثَ إِليه؟ قال: قد بُعثَ إِليه، فَفُتِح لنا، فإِذا أنا بإِدريس، فرحّب ودعا لي بخير، قال الله عزَّ وجلّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} (مريم)! ثم عرج بنا إِلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بُعِثَ إِليه؟ قال: قد بُعِث إِليه، ففتح لنا، فإِذا أنا بهارون - صلى الله عليه وسلم -، فرحّب ودعا لي بخير.

ثم عرج بنا إِلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بُعِثَ إِليه؟ قال: قد بُعِثَ إِليه، فَفُتِحَ لنا، فإِذا أنا بموسى - صلى الله عليه وسلم -، فرحَّب ودعا لي بخير! ثم عرج (¬1) إِلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد بُعِثَ إِليه؟ قال: قد بُعِثَ إِليه، فَفُتِحَ لنا، فإِذا أنا بإِبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، مسنداً ظهره إِلى البيت المعمور، وإِذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إِليه! ثم ذهب بي إِلى السِّدرة المنتهى (¬2)، وإِذا ورقُها كآذان الفِيَلَةِ، وإِذا ثمرها كالقِلال (¬3)، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت، فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن يَنْعتها من حُسْنها، فأوحى الله إِليَّ ما أوحى، ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إِلى موسى - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ¬

_ (¬1) في مسلم بشرح النووي: 2: 213 (بنا). (¬2) هكذا وقع في الأصول، السدرة: بالألف والسلام، وفي الروايات بعد هذا (سدرة المنتهى)، قال ابن عباس والمفسرون وغيرهم: سميت سدرة المنتهى؛ لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحكي عن عبد الله بن مسعود، - رضي الله عنه -: أنها سمّيت كذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى! (¬3) جمع قلة، وهي جرة كبيرة تسع قربتين أو أكثر!

ارجع إِلى ربّك، فاسأله التخفيف، فإِن أمّتك لا يطيقون ذلك، فإِنّي قد بَلَوْت بني إِسرائيل وخَبَرْتُهُم! قال: فرجعت إِلى ربّي فقلت: يا ربِّ! خَفِّف على أمّتي، فحطَّ عنِّي خمساً، فرجعتُ إِلى موسى فقلت: حطّ عَنِّي خمساً! قال: إِن أمّتك لا يطيقون ذلك، فارجع إِلى ربّك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربّي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام، حتى قال: يا محمَّد! إِنّهن خمسُ صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومَن هَمَّ بحسنة فلم يعْملها كُتِبَتْ له حسنة، فإِن عملها كُتِبَتْ عشراً، وَمَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فلم يعملها لم تكتب شيئاً، فإِن عملها كُتِبَتْ سَيِّئَةً واحدة! قال: فنزلت حتى انتَهَيتُ إِلى موسى - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: ارجع إِلى ربِّك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: قد رجَعْت إِلى ربِّي حتى استَحيَيْتُ منه! " (¬1) ¬

_ (¬1) مسلم: 1 - الإيمان (162)، وأحمد: 3: 148 - 149، وأبو يعلى (3375، 3450، 3451، 3499)، وأبو عوانة: 1: 126 - 128، والبيهقي: الدلائل: 2: 382 - 384، والبغوي (3753) من طرق عن حماد بن سلمة، وعند أبي يعلى منقطع، وأبو عوانة: 1: 125 - 126 من طريق شريك عن أنس، وانظر: أحمد: 3: 153، وعبد بن حميد: (1210)، والنسائي: الكبرى (11530)، وأبو يعلى (3447)، والطبري: التفسير: 27: 17، والحاكم: 2: 468 من طرق، وأحمد: 5: 392 بسند حسن عن حذيفة، وفيه عاصم ابن بهدلة، وباقي رجاله ثقات، والطيالسي (411)، والبيهقي: الدلائل: 2: 364، والطحاوي: شرح المشكل (5014)، وانظر: الفتح الرباني: 20: 251 أو ما بعدها.

الحديث الثاني

قلت: سلم هذا الحديث من التعارض الذي سيأتي -كما قال السيوطي- ولذا قدّمته على غيره في الترتيب، وأيضاً ذكر الإسراء إلى بيت المقدس قبل المعرج، وفيه إثبات أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أتى بيت المقدس في ليلة المعراج، وبه قال الجمهور! الحديث الثاني: يروي الشيخان وغيرهما عن ابن شهاب عن أنس بن مالك، قال: كان أبو ذرٍّ يحدّث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فُرِجَ (¬1) عن سقف بيتي وأنا بمكّة، فنزل جبريل ففرج (¬2) صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بِطسْتٍ (¬3) من ذهب ممتلئٍ حكمةً وإِيماناً، فأفرغَه في صدري، ثم أطبقه! ثم أخذ بيدي، فَعَرَجَ بي إِلى السماء الدنيا، فلمَّا جئت إِلى السماء الدّنيا، قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: مَنْ هذا؟ قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم، معي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أرسل إِليه؟ قال: نعم، فلمّا فَتَحَ علونا السماء الدنيا، فإِذا رجلٌ قاعدٌ على يمينه أسودَةٌ (¬4)، وعلى يساره أسودةٌ، إِذا نظر قِبَل يساره بكى، ¬

_ (¬1) أي انفتح: فتح الباري: 1: 460. (¬2) أي شقّ: المرجع السابق. (¬3) أي إناء: السابق. (¬4) أسودةٌ: كل شخص من إنسان وغيره يسمَّى سواداً، وجمعه أسودة.

فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح، والابن الصالح، قلت لجبريل: مَن هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بَنِيه، فأهل اليمين منهم هم أهل الجنّة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإِذا نَظر عن يمينه ضحك، وإِذا نَظَر قبَل شماله بكى! حتى عرج بي إِلى السماء الثانية فقال لخازنها: افْتَحَ، فقال له خازنها مثل ما قال الأول، ففتح"! قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم، وإِدريس، وموسى، وعيسى، وإِبراهيم، صلوات الله عليهم، ولم يثْبِتْ كذلك منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدّنيا، وإِبراهيم في السماء السادسة! قال أنس: فلمّا مرَّ جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مرحباً بالنبيّ الصالح، والأخ الصالح، فقلت: "مَن هذا؟ " قال: هذا إِدريس! ثمَ مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح، والأخ الصالح، قلت: "من هذا؟ " قال: هذا موسى! ثمَّ مررت بعيسى فقال: مرحباً بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح، "من هذا؟ " قال: هذا عيسى! ثمّ مررت بإِبراهيم فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح، والابن الصالح، قلت: "من هذا؟ " قال: هذا إِبراهيم - صلى الله عليه وسلم -!

قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس، وأبا حَبَّةَ الأنصاري، كانا يقولان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثم عُرِجَ بي حتّى ظهرتُ لِمُستَوى أسمع فيه صَرِيف (¬1) الأقلام"! قال ابن حزم، وأنس بن مالك: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فَفَرض الله على أمّتي خمسين صلاة، فرجعتُ بذلك، حتى مررْتُ على موسى، فقال: ما فَرَضَ الله لك على أُمَّتِك؟ قلت: فرض خمسين صلاةً، قال: فارجِعْ إِلى ربّك، فإِن أُمَّتَك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضَع شَطرها (¬2)، فرجعت إِلى موسى، قلت: وضعَ شطْرها، فقال: راجع ربّك، فإِن أمّتك لا تُطيق، فراجعت فوضَعَ شَطرَها، فرجعت إِليه، فقال: ارجِعْ إِلى ربّك، فإِن أمّتك لا تُطيق ذلك، فراجعتُه فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يُبَدّل القول لديَّ، فرجعت إِلى موسى فقال: راجِع ربّك، فقلت: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ ربِّي، ثم انطلق إِلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدْرِي ما هيَ، ثم أُدخِلْتُ ¬

_ (¬1) الصريف: الصوت، وصريف الأقلام: تصويتها حال الكتابة. والمراد ما تكتبه الملائكة من أقضية الله سبحانه وتعالى: فتح الباري: 1: 462. (¬2) قال ابن المنير: ذكر الشطر في الحديث أعم من كونه وقع في دفعة واحدة، أو المراد بالشطر في الحديث البعض .. قال ابن حجر: فتح الباري: 1: 462 وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمساً خمساً، وهي زيادة؛ معتمدة يتعيّن حمل باقي الروايات عليها، وأما قول الكرماني: الشطر هو النصف ففي المراجعة الأولى وضع خمساً وعشرين، وفي الثانية ثلاثة عشر، يعني نصف الخمسة والعشرين يجبر الكسر، وفي الثانية سبعاً، كذا قال.

الجنَّة، فإِذا فيها حبايل (¬1) اللؤلؤِ، وإِذا تُرَابُها الْمِسْكُ". (¬2) ¬

_ (¬1) قال ابن حجر: السابق: 463 - 464 كذا وقع لجميع رواة البخاري في هذا الموضع، بالحاء المهملة ثم الموحدة وبعد الألف تحتانيّة ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف، وإنما هو (جنابذ) بالجيم والنون وبعدها الألف موحدة ثم ذكر معجمة كما وقع عند المصنف في أحاديث الأنبياء من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة، ووجدت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر في هذا الموضع (جنابذ) على الصواب، وأظنه من إصلاح بعض الرواة. وقال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاري فتشت على هاتين اللفظتين فلم أجدهما ولا واحدة منهما، ولا وقفت على معناهما. وذكر غيره أن الجنابذة شبه القباب، واحدها جنبذة بالضم، وهو ما ارتفع من البناء، فهو فارسي معرب، وأصله بلسانهم كنبذة بوزنه، لكن الموحدة مفتوحة الكاف ليست خالصة، ويؤيده ما رواه المصنف في التفسير من طريق شيبان عن قتادة عن آنس قال: لما عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ". وقال صاحب المطالع في الحائل، قيل: هي القلائد والعقود، أو هي من حبال الرمل، أي فيها لؤلؤ مثل حبال الرمل، جمع حبل، وهو ما استطال من الرمل، وتعقّب بأن الحبائل لا تكون إلا جمع حبالة، وحبالة جمع حبل، على غير قياس. والمراد أن فيها عقوداً أو قلائد من اللؤلؤ. (¬2) البخاري: 8 - الصلاة (349)، وانظر (1636، 3342)، ومسلم (163)، وأحمد: 5: 121، 288، وفيه عبد العزيز بن محمَّد، وشيخه شريك، وعطاء بن يسار عن أبيّ بن كعب، وسنده قوي، إن ثبت سماع عطاء من أبي، وابن ماجه (1111)، وفيه محرز، وابن خزيمة (1807، 1808)، والحاكم: 1: 287 - 288، 2: 229 - 230، والبيهقي: 3: 219 - 220 من طرق، وانظر: الضياء: المختارة (1126)، والبخاري تعليقاً (1636، 3342)، ومسلم (163)، والنسائي: الكبرى (314)، وأبو عوانة (354)، وابن حبان (7406)، وانظر: الفتح الرباني: 20: 349 وما بعدها، والمجمع: 1: 65 - 66.

الحديث الثالث

الحديث الثالث: ويروي الشيخان وغيرهما عند قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "بينا أنا عند البيت، بين النائم واليقظان -وذكر-يعني رجلاً بين الرجلين- فأُتيتُ بطستٍ من ذهبٍ ملآن حكمةً وإِيماناً، فشقَّ من النحر إِلى مراقّ (¬1) البطن، ثم غُسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمةً وإِيماناً. وأُتِيتُ بدابّة أبيض، دون البغل وفوق الحمار: البراق، فانطلقت مع جبريل، حتى أتينا السماء الدّنيا، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أُرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على آدم، فسلّمت عليه، فقال؛ مرحباً بك من ابن ونبيّ! فأتينا السماء الثانية، قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: أُرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى، فقالا: مرحباً بك من أخٍ ونبيّ! فأتينا السماء الثالثة، قيل مَن هذا؟ قيل: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد أرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ¬

_ (¬1) مارق منه ولان، ولا واحد له من لفظه: الصحاح (رقق).

ولنعم المجيء جاء، فأتيت على يوسف، فسلّمت، فقال: مرحباً بك من أخٍ ونبيّ! فأتينا السماء الرابعة، قيل: مَن هذا؟ قيل: جبريل؟ قيل: من معك؟ قيل: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد أُرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إِدريس، فسلّمت عليه، فقال: مرحباً بك من أخٍ ونبيّ! فأتينا السماء الخامسة، قيل: مَن هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قيل: وقد أُرسل إِليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على هارون فسلّمت عليه، فقال: مرحباً بك من أخٍ ونبيّ! فأتينا على السماء السادسة، قيل: مَن هذا؟ قيل: جبريل، قيل: مَن معك؟ قيل: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قِيل: وقد أُرسل إِليه؟ مرحباً به، نعم المجيء جاء، فأتيت على موسى فسلّمت عليه، فقال: مرحباً بك من أخٍ ونبيّ، فلمَّا جاوزت بكى، قيل: ما أبكاك؟ قال: يا ربّ! هذا الغلام الذي بُعث بعدي، يدخل الجنّة من أمّته أفضل مما يدخل من أمّتي! فأتينا السماء السابعة، قيل: مَن هذا؟ قيل: جبريل، قيل: مَن معك؟ قيل: محمَّد، قيل: وقد أُرسل إِليه؟ مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إِبراهيم، فسلّمت عليه، فقال: مرحباً بك من ابن ونبيّ!

فَرُفِع لي البيت العمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلّي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا لم يعودوا إِليه آخر ما عليهم! ورُفعَت لي سدرة المنتهى، فإِذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيلة، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسألت جبريل، فقال: أما الباطنان ففي الجنّة، وأمّا الظاهران النيل والفرات! ثم فُرضتْ عليّ خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: فُرضتْ عليَّ خمسون صلاة، قال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني إِسرائيل أشدّ المعالجة، وإِن أمّتك لا تُطيق، فارجع إِلى ربّك فَسَلْه، فجعلها أربعين، ثم مثله، ثم ثلاثين، ثم مثله، فجعل عشرين، ثم مثله، فجعل عشراً. فأتيت موسى، فقال: مثله، فجعلها خمساً، فأتيتُ موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: جعلها خمساً، فقال مثله، قلت: فسلّمت، فنُودي: إِنّي قد أمضيت فريضتي، وخفّفت عن عبادي، وأجزي الحسنة عشراً". (¬1) ¬

_ (¬1) البخاري: 59 - بدء الخلق (3207)، وانظر (3393، 3430، 3887)، ومسلم (164)، وأحمد: 4: 208، والفتح الرباني: 20: 244، والنسائي: 1: 217 - 221، والكبرى (313)، والبيهقي: الدلائل: 2: 377، وابن منده: الإيمان (715)، وأبو عوانة: 1: 120 - 124، والطبراني: 19 (599)، والترمذي مختصراً (3346).

الحكمة في اختصاص كل نبي بسماء

الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء: وأمّا عن الحكمة في اختصاص كل نبيّ بالسماء التي التقاه بها، فقد اختلف في ذلك، كما يقول ابن حجر (¬1) فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلّق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه من أوّل وهلة، ومنهم من تأخّر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي فأصاب، وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له - صلى الله عليه وسلم - مع قومه، من نظيرما وقع لكل منهم: فأمّا آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنّة إلى الأرض، بما سيقع للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - من الهجرة إلى المدينة، والجامع ما حصل لكل منهما من المشقّة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان مآل كل منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه! وبعيسى ويحيى على ما وقع له من أول الهجرة من عداوة اليهود وتماديهم في البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه! وبيوسف على ما وقع له من قريش في نصبهم الحرب له، ولإرادتهم هلاكه، وكانت العاقبة له! وبإدريس على رفيع منزلته عند الله! وبهارون على أن قومه رجعوا إلى محبّته بعد أن آذوه! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 210 - 211 بتصرف.

وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه! وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم له - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته من إقامة مناسك الحج، وتعظيم البيت! قال ابن حجر: وهذه مناسبات لطيفة، أبداها السهيلي، فأوردتها منقحة ملخصة. (¬1) وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في كون آدم في السماء الدّنيا؛ لأنه أوّل الأنبياء، وأوّل الآباء، وهو أصل، فكان أوّلاً في الأولى، ولأجل تأنيس النبوّة بالأبوّة! وعيسى في الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء عهداً من محمَّد! ويليه يوسف؛ لأن أمّة محمَّد تدخل الجنة على صورته! وإدريس في الرابعة، لقوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيَّا (57)} (مري)! والرابعة من السبع وسط معتدل! وهارون لقربه من أخيه موسى! وموسى أرفع منه لفضل كلام الله! وإبراهيم؛ لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدّد للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلقيه أُنساً، لتوجّهه بعده إلى عالم آخر، وأيضاً فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع منزلته، فلذلك ارتفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى! ¬

_ (¬1) انظر: الروض الأنف: 2: 157 - 158.

صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء

صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء: يروي أحمد وغيره بسند حسن عن زرّبن حبيش، عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُتِيتُ بالبراق، وهو دابّة أبيض طويل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فلم نُزايل (¬1) ظهره أنا وجبريل، حتى أتيت بيت المقدس، ففُتحت لنا أبواب السماء، ورأيت الجنّة والنار"! قال حذيفة بن اليمان: ولم يُصَلِّ في بيت المقدس، قال زرّ: فقلت له: بلى، قد صلى - صلى الله عليه وسلم - قال حذيفة: ما اسمك يا أصلع؟ فإِنّي أعرف وجهك، ولا أدْرِي ما اسمك؟ فقلت: أنا زِرّ بن حُبَيش، قال: وما يدريك أنه قد صلّى؟ قال: فقلت يقول الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}! فقال: فهل تجده صلّى؟ لو صلّى لصلّيتم فيه كما تصلّون في المسجد الحرام! قال زرّ: وربط الدابّة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء! فقال حذيفة: أو كان يخاف أن تذهب منه، وقد أتاه الله بها! (¬2) ¬

_ (¬1) أي نفارق. (¬2) أحمد: 5: 387، 390، 392، 394 وفيه عاصم بن بهدلة، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح، والطيالسي (411)، والحميدي (448)، وابن أبي شيبة: 11: 460، 461، =

وفي رواية لأحمد عنه عن حذيفة - صلى الله عليه وسلم -، وهو يحدّث عن ليلة أسري بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. إلى أن قال: دخله - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ وصلَّى فيه ... الحديث. (1) قال ابن كثير: وهذا الذي قاله حذيفة نفي، وما أثبته غيره من الصلاة وربط الدابّة مقدّم عليه! (¬2) وحذيفة رضي الله تعالى عنه يحكي ما بلغه، وقد ثبت عند غيره من الصحابة رضي الله عنهم -كما سبق- في حديث مسلم وأحمد عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيت المقدس، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. (¬3) وجاء في رواية لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ليلة أُسرِي بنبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -، ودخل الجنّة، فسمع في جانبها ونجساً (¬4)، قال: "يا جبريل ما هذا؟ " قال: هذا بلال المؤذّن، فقال نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاء إِلى الناس: "قد أفلح بلال، رأيت له كذا وكذا! ". ¬

_ = 14: 306، والطبري: التفسير: 15: 15، والطحاوي: شرح المشكل (5014)، والحاكم: 2: 359، والبيهقي: الدلائل: 2: 364، والترمذي (3147)، وصحيح الترمذي (2515)، وابن حبان (45)، وأبو داود الطيالسي: منحة المعبود: 2: 91 (2331) (1) الفتح الرباني: 20: 253 - 254. (¬2) الآية الكبرى: 100. (¬3) انظر: الفتح الرباني: 20: 254. (¬4) أي صوتاً خفيًّا.

قال: فلقيه موسى - صلى الله عليه وسلم - فرحّب به، وقال: مرحباً بالنبيّ الأمّي، فقال: "وهو رجل آدمٌ طويلٌ، سَبطٌ شعرُه مع أُذُنَيه أو فوقهما" فقال: "مَنْ هذا يا جبريل؟ " قال: هذا موسى عليه السلام! قال: فمضى فلقيه عيسى، فرحّب به، وقال: "مَنْ هذا يا جبريل؟ " قال: "هذا عيسى" قال: فمضى فلقيه شيخٌ جليلٌ مهيبٌ، فرحّب به، وسلّم عليه، وكلهم يُسَلِّم عليه، قال: "مَن هذا يا جبريل؟ " قال: هذا أبوك إِبراهيم! قال: فنظر في النار، فإِذا قوم يأكلون الجِيَف، قال: "مَنْ هؤلاء يا جبريل؟ " قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس" (¬1)، ورأى رَجُلاً أحمر أزرق جعداً (¬2) شَقِيًّا إِذا رأيته قال: "منْ هذا يا جبريل؟ " قال: هذا عاقر الناقة! قال: فلمّا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد الأقصى قام يُصلِّي، ثم التفت فإِذا النبيّون أجمعون يُصلّون معه، فلما انصرف جيء بِقَدَحَينِ، أحدهما عن اليمين، والآخر عن الشمال، في أحدهما لَبَن، وفي الآخر عَسَلٌ، فأخذ اللبن فشرب منه، فقال الذي كان معه القدح: أصبْتَ الفطرة! (¬3) وجاء ذلك صريحاً في رواية مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً -كما سيأتي: ¬

_ (¬1) أي الذين يغتابون الناس، قال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (الحجرات: 12)! (¬2) الظاهر: أزرق العينين (جعداً) قال في النهاية: الجعد في صفات الرجال يكون مدحاً وذماً، والمراد: الثاني. (¬3) السابق: 254 - 255، وانظر: أحمد (2324) تحقيق أحمد شاكر، وأورده ابن كثير.

حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة

حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة: وانطلاقاً من ضرورة الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، وفق ما جاء صريحاً في الكتاب والسنة، ومن اجتماع الأنبياء في الصلاة -كما عرفنا- نبصر وجهاً من وجوه الحكمة في كون معجزة الإسراء والمعراج تبدأ من المسجد الحرام، أول بيت وضع للناس في مكّة، إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، ثم إلى السماوات العلى .. وفي هذا ربط بين رسالات التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام، إلى محمَّد خاتم النبيّين، عليهم صلوات الله وتسليماته أجمعين! وربط كذلك بين الأماكن المقدّسة لرسالات الرسل جميعاً! ومن هنا نبصر الدعوة تمتدّ زماناً ومكاناً .. ونبصر التكامل الإنسانيّ في رحاب هذه المعجزة، في صورة اجتماع الأنبياء في صلاة واحدة .. والصلاة في حقيقتها صلةٌ بالله، وتوجّه إليه بالجَنان واللسان والحركة! ونبصر توجيهاً إلى الإنسانيّة عبر آباد الزمان وأبعاد المكان أن تكون على طريق واحد، هو طريق الخير للجميع .. بيد أن الواقع الإنسانيّ يندى له الجبين، والبشريّة مازالت تتعثّر وتتعثّر -كما يشهد الواقع الأليم! كما نبصر الألوان في حديث الإسراء والمعراج تتساقط دونها حواجز ¬

_ التفسير: 5: 26، وعزاه لأحمد وصحح إسناده، وقال: لم يخرجوه، والسيوطي: الدر المنثور: 5: 214، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وأبي نعيم: الدلائل، والضياء: المختارة، وصحح إسناده، وانظر: فتح التاريخ: 7: 208 - 209.

بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش

اللون والتفرقة العنصريّة .. تلك التي مازالت تعاني منها المجتمعات التي قطعت مراحل ومراحل من التقدّم المادّيّ، بينما ظلّت في طفولة عقليّة إزاء الألوان والأجناس! بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش: وحدّث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس بما حدث. فقد روى أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكّة، فظعت (¬1) بأمري، وعرفت أن الناس مكذِّبِيّ"! فقعد معتزلاً حزيناً، قال: فمرّ عدوّ الله أبو جهل، فجاء فجلس عليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" قال: ما هو؟: "إِنه أُسري بي الليلة" قال: إِلى أين؟ قال: "إِلى بيت المقدس" قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ (¬2) قال: "نعم" قال: ¬

_ (¬1) أي اشتدّ عليّ وتعبت: الفتح الرباني: 20: 262، وفي المجمع: 1: 64 (فضعت) قال: وفي زوائد البزار (ففظعت)، وفي النهاية (فظعت بأمري)، وفي إيراده بالضاد نظر! (¬2) بفتح النون، قال ابن فارس: ولا تكسر، وقال جماعة: الألف والنون زائدتان للتأكيد، وبين ظهرانيهم وبين أظهرهم كلها بمعنى بينهم، وفائدة إدخاله في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وكأن المعنى أن ظهراً منهم قدامه وظهراً وراءه، فكأنه مكنوف من جانبيه، هذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم: الفتح الرباني: 20: 263، وانظر: أحمد: 5: 29، هامش الرسالة.

فلم يُرِه أنه يكذّبه مخافة أن يجحد الحديث إِن دعا قومه إِليه، قال: أرأيت إِن دعوتُ قومك تحدّثهم ما حدّثتني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي، حتى قال: فانتفضَتْ إِليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إِليهما، قال: حدِّث قومك بما حدثتني! فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنّي أُسريَ بي الليلة" قالوا: إِلى أين؟ قال: "إِلى بيت المقدس" قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم"، قال: فمن بين مُصَفِّقٍ، ومن بين واضعٍ يده على رأسه، مُتَعَجِّباً للكذب زَعَم!! قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد، وفي القوم من قد سافر إِلى ذلك البلد، ورأى المسجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذهبت أنعتُ، فما زلت أنعتُ حتى التبس عليَّ بعض النّعت" قال: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر، حتى وُضع دون دار عِقال -أو عقيل- فنعتّه وأنا أنظر إِليه" قال: "وكان مع هذا نعتٌ لم أحفظه" قال: فقال القوم: أمّا النعت فوالله لقد أصاب! (¬1) وفي رواية للشيخين وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 309، والبزار: 56 كشف الأستار، وابن أبي شيبة: 11: 461 - 462، والنسائي: الكبرى (11285)، والطبراني (12782)، والبيهقي: الدلائل: 2: 363 - 364، وأورده السيوطي: الدر المنثور: 5: 222، وزاد نسبته إلى ابن مردويه وأبي نعيم: الدلائل، والضياء: المختارة، وابن عساكر، وصحح إسناده.

"لمَّا كذّبتني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا انظر إِليه". (¬1) وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت القدس، لم أُثْبِتهَا (¬2)، فكرِبْتَ كُربةً ما كربت مثله قط (¬3)، قال: فرفعه الله لي أنظر إِليه، ما يسألوني عن شيء إِلَّا أنبأتُهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإِذا موسى قائمٌ يُصَلِّي، فإِذا رجلٌ ضَربٌ جَعدٌ كأنه من رجال شنوءة، وإِذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يُصلّي، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثّقفي، وإِذا إِبراهيم عليه السلام قائمٌ يُصلّي، أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأمَمْتُهم، فلمّا فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمَّد! هذا مالك صاحب النار، فسلِّمْ عليه، فالتفتُّ إِليه فبدأني بالسلام". (¬4) ¬

_ (¬1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3886)، وانظر (4710)، ومسلم (170)، وأحمد: 3: 377، وعبد الرزاق (9719)، والترمذي (3133)، والنسائي: الكبرى (11282)، وأبو عوانة: 1: 124 - 125، 131، وأبو يعلى (2091)، والطحاوي: شرح المشكل (4852، 4853)، وابن منده (738، 739)، والبيهقي: الدلائل: 2: 359، والبغوي (3762)، والطبري: التفسير: 15: 6، وابن حبان (55). (¬2) أي لم أحفظها. (¬3) الضمير يعود على معنى الكربة، وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشيء. قال الجوهري: الكربة: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذا الكرب، وكربه الغم: إذا اشتدَّ عليه. (¬4) مسلم: 1 - الإيمان (172).

وفي رواية لأحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُسرِيَ بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدّثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس، قال حسن (¬1): نحن نصدّق محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فارتدّوا كفّاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يخوّفنا محمدٌ بشجرة الزّقُّوم! هاتُوا تمرًا وزبْداً، فتزقّموا، ورأى الدجال في صورته رؤيا عَيْن، ليس رؤيا منام، وعيسى، وموسى، وإِبراهيم، صلوات الله عليهم، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدّجَّال؟ فقال: "أقمرُ هِجان -قال حسن: قال: رأيته فَيْلَمانيًّا أقمر هِجاناً- إِحدى عينيه قائمة، كأنّها كوكبٌ دُرِّيٌّ، كأن شعر رأسه أغْصانُ شجرة، ورأيت عيسى شابًّا أبيضَ، جَعْد الرّأس، حديد البصر، مُبَطَّنَ الخَلْق، ورأيت موسى أسحَمَ آدَمَ، كثير الشّعر -قال حسن: الشَّعْرَة- شديدَ الخلْق، ونظرت إِلى إِبراهيم، فلا أنظر إِلى إِربٍ من آرابه، إِلاّ نظرت إِليه منِّي، كأنّه صاحبكم، فقال جبريل عليه السلام: سلِّم على أبيك، "فسلّمت عليه"! (¬2) ¬

_ (¬1) قوله: (قال حسن) ليس في الفتح الرباني: 20: 263. (¬2) أحمد: 1: 374، وصححه ابن كثير: التفسير: 5: 26، وأبو يعلى (2720) باختلاف يسير، وأخرج قول أبي جهل في الزقّوم النسائي (11484). قوله (الأقمر): الشديد البياض، و (الهجان): الأبيض، و (الفيلماني): العظيم الجثة، والعين القائمة: الباقية في مكانها، وفقدت الأبصار، والكوكب الدّرّي: المضيء، وجعد الرأس: أي جعد الشعر، وهو ضدّ الشعر المسترسل، وحديد البصر: قويّه، والمبطّن: الضامر البطن، =

وأخرج البيهقي من طريق عباد بن حنيف، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال (¬1): لمّا ذكر الله الزّقوم خوّف به هذا الحيّ من قريش، فقال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوّفكم به محمَّد؟ قالوا: لا، قال نتزبّد بالزّبدة، أما والله لئن أمكننا لنتزقَمها تزقيماً، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه: {وَالشَّجَرَةَ الْملْعُونَةَ في الْقُرآن} يقول: المذمومة: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُم إِلَّا طُغيَانًا كَبِيرًا (60)} (الإسراء)! وأخرج الطبري (¬2) بسنده عنه - رضي الله عنه -، قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْملْعُونَةَ في الْقُرآن}! قال: هي شجرة الزّقوم، قال أبو جهل: أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزّقوم، ثم دعا بتمر وزبد، فجعل يقول: زقمني، فأنزل الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} (الصافات)!، وأنزل فيهم: ¬

_ = والأسحم: الأسود، وهو الآدم أيضاً، والإرب: العضو. الزّقّوم: قال ابن الأثير: من الزَّقْم: اللَّقْم الشديد، والشرب المفرط. (¬1) البيهقي: كتاب البعث والنشور (546)، وأورده السيوطي: وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وابن أبي حاتم: الدر المنثور: 5: 310. (¬2) التفسير: 15: 113، وأورده السيوطي بهذا اللفظ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)}! قال ابن حجر (¬1) في بيان ما رآه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء: من ذلك ما وقع عند النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُتيت بدابّة فوق الحمار ودون البغل ... " الحديث، وفيه: "فركبت ومعي جبريل، فسرت، فقال: أنزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صلّيت؟ صلّيت بطيبة، وإِليها المهاجَرة" يعني بفتح الجيم! ودفع في حديث شدّاد بن أوس عند البزّار، والطبراني، أنه: أول ما أُسري به مرّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصلّ، فنزل فصلّى، فقال: صلّيت بيثرب. ثم قال في رواية، ثم قال: انزل فصلّ مثل الأول، قال: صلّيت بطور سيناء، حيث كلَّم الله موسى، ثم قال: أنزل -فذكرت مثله، قال: صلّيت ببيت لحم، حيث ولد عيسى. وقال في رواية شدّاد بعد قوله يثرب، ثم مرّ بأرض بيضاء، فقال: انزل فصلّ، فقال: صلّيت بمدين! وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليماني، فصلَّى في المسجد! وفيه أنه مرّ في رجوعه بعير لقريش فسلّم عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمَّد! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 199 - 201 بتصرف.

وفيه أنه أعلمهم بذلك، وأن عيرهم تقدم يوم كذا، فقدمت الظهر، يقدمهم الجمل الذي وصفه! وزاد في رواية يزيد بن أبي مالك: "ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدّمني جبريل حتى أممتهم"! وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس، عند البيهقي في الدلائل: أنه مرّ بشيء يدعوه متنحّياً عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وأنه مر على عجوز فقال: "ما هذه؟ " فقال: سر، وأنه مرّ بجماعة فسلّموا، فقال له جبريل: اردد عليهم! وفي آخره فقال له: الذي دعاك إِبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلّموا إِبراهيم وموسى وعيسى! ثم قال بعد أن ذكر بعض المشاهد التي سنتحدث عنها -كما سيأتي: وفي حديث أبي هريرة عند البزار والحاكم: "أنه صلّى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتي هناك بأرواح الأنبياء، فأثنوا على الله، وفيه قول إِبراهيم: "لقد فضلكم محمَّد"!

وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس: "ثم بعث له آدم فمن دونه، فأمّهم تلك الليلة" أخرجه الطبراني. ثم قال: وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: "ثم أقيمت الصلاة، فتدافعوا، حتى قدموا محمداً"، ثم قال: وفي حديث ابن عباس: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر إِليه حتى وضع عند دار عقيل، وأنا أنظر إِليه" وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه، حتى أحضر إِليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز! ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد: "فخيّل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، فإِن لم يكن مغيراً من قوله "فجلى" وكان ثابتاً احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريب منه، وأشار إِلى حديث "أريت الجنة والنار" وتأوّل قوله: "جيء بالمسجد" أي جيء بمثاله، والله أعلم! ووقع في حديث شدّاد بن أوس عند البزّار والطبراني ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه:

"ثم مررت بعير قريش -فذكر القصة- ثم أتيت أصحابي بمكّة قبل الصبح، فأتاني أبو بكر، فقال: أين كنت الليلة؟ " فقال: "إِني أتيت بيت المقدس"، فقال: إِنه مسيرة شهر، فصفه لي، قال: "ففتح الله لي شراكاً كأنّي أنظر إِليه، لا يسألني عن شيء إِلا أنبأته عنه". وفي حديث أم هانئ أيضاً أنهم قالوا له: كم للمسجد من باب؟ قال: "ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إِليه وأعدها باباً باباً"! وفيه عند أبي يعلى أن الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدي، والد جبير بن مطعم، وفيه من الزيادة: فقال رجلٌ من القوم: هل مررتَ بإِبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: "نعم، لهم ناقة حمراء" قالوا: فأخبرنا عن عدتها، وما فيها من الرعاة، قال: كنت عن عدّتها مشغولاً"، فقام فأتى الإِبل فعدّها وعلم ما فيها من الرعاء، ثم أتى قريشاً فقال: "هي كذا وكذا، وفيها من الرعاء فلان وفلان، فكان كما قال"! قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي جمرة: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء، إرادة

إظهار الحق، لمعاندة من يريد إخماده؛ لأنه لو عرج به من مكّة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فإنه لمّا ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيّات من بيت المقدس، كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء في ليلة، وإذا صحّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيّة ما ذكره، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد المعاند! وقال ابن حجر (¬1): اختلف في حال الأنبياء عندما لقي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إيَّاهم ليلة الإسراء، هل أُسري بأجسادهم لملاقاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرّة في الأماكن التي لقيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرواحهم مشكلة بحسب أجسادهم، كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل، واختار الأوّل بعض شيوخنا، واحتجّ بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت موسى ليلة أسري بي قائماً يصلّي في قبره" فدلّ على أنه أسري به لا مرّ به! قال ابن حجر: وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسد الأرض، فلذلك يتمكّن من الصلاة وروحه مستقرّة في السماء .. ¬

_ (¬1) السابق: 212 وما بعدها بتصرف.

وقال القرطبي في المفهم: ظاهر حديث أنس أنها -أي سدرة المنتهى- في السابعة، لقوله بعد ذكر السماء السابعة: "ثم ذهب بي إلى السدرة"، وفي حديث ابن مسعود، أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبيّ مرسل، وكل ملك مقرّب على ما قال كعب، قال: وما خلفها فغيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد، وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجّح حديث أنس بأنّه مرفوع، وحدث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يعرج على الجمع، بل جزم بالتعارض! قال ابن حجر: ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلّت عليه بقيّة الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السادسة؛ لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها! وأشار إلى حديث أبي ذر أوّل الصلاة "فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وبقيّة حديث ابن مسعود المذكور، قال تعالى: {إِذ يَغشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} (النجم)!

قال: فراش من ذهب، كذا فسر المبهم في قوله: {مَا يَغْشَى} بالفراش! ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها اهـ. ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، ويخلق فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك! وفي حديث أبي سعيد وابن عباس: "يغشاها الملائكة"! وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: "على كل ورقة منها ملك"! ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فلمّا غشيها من أمر الله ما غشيها تغيّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها"! وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه، لكن قال: تحوّلت قوتاً، ونحو ذلك! وقوله: "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وسكونها أيضاً، قال ابن دحية: والأوّل هو الذي ثبت في الرواية، أي التحريك، والنبق معروف، وهو تمر السدر!

وقوله: "مثل قلال هجر" قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قُلّة. بالضم -هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الماء قلّتين ... " (¬1). قال محمَّد بن إسحاق (¬2): القلّة هي الجرار، والقلّة التي يستقى فيها، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: (إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ما لم يتغيّر ريحه أو طعمه، وقالوا: يكون نحواً من خمس قرب)! قال ابن حجر: قال ابن دحية: واختيرت السدرة دون غيرها؛ لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظلّ ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة ذكيّة، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنيّة، والظلّ بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النيّة، والرائحة بمنزلة القول! ¬

_ (¬1) يشير إلى ما رواه أحمد وغيره عن ابن عُمر رضي الله عنهما بعدة روايات قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن الماء، يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كَان الماء قدر قلّتين لم يحمل الخبث" أحمد: 2: 12، 23، 26، 38، 107، وابن أبي شيبة: 1: 144، عبد بن حميد (818)، والدارمي (737، 738)،؛ أبو داود (64، 65)، والترمذي (67)، وابن ماجه (317)، والدارقطني: 1: 19 وغيرهم، وفيه ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع عند الدارقطني، ورواه الجم الغفير من الثقات عنه. (¬2) الترمذي (67) عقب الحديث.

وفي قوله: "أربعة أنهار ... "، قال ابن حجر: يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، تخرج من تحتها، فيصح أنها من الجنة .. قال ابن أبي جمرة: فيه أن الباطن أجل من الظاهر؛ لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثمّ كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". (¬1) قوله: "وأما الظاهران فالنيل والفرات"، ووقع في رواية شريك -كما سيأتي- "أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان" فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما، والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى، مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنّة، وأراد بالعنصر عنصو امتيازهما بسماء الدنيا! قال ابن دحية: ووقع في حديث شريك أيضاً: "ومضى به يرقى السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربّك". ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال: ¬

_ (¬1) الحديث رواه مسلم: 45 - البر (2564)، وأحمد: 2: 284، 285، 539، (والزهد: 59)، والبغوي (4150)، وابن ماجه (4143)، وأبو نعيم: الحلية: 4: 98، وابن حبان (394).

"ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك"! وفي حديث أبي سعيد: "فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة"، قلت: فيمكن أن يفسّر بهما النهران الباطنان المذكوران في الحديث! وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر، وأما الحديث الذي رواه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان، والنيل والفرات، من أنهار الجنّة، فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنّة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأمّا الباطنان المذكوران في الحديث فهما غير سيحون وجيحون، والله أعلم! قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنّة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى

الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الحديث فليعتمد! وأما قول عياض: إن الحديث يدلّ على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لكونه قال: إن النّيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما بالشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقّب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، والحاصل أن أصلها من الجنّة، وهما يخرجان أوّلاً من أصلها، ثم يسيران إلى أن يستقرّا في الأرض، ثم ينبعان، واستدلّ به على فضيلة ماء النّيل والفرات، لكون منبعهما من الجنّة، وكذا سيحان وجيحان! قال القرطبي: لعلّ ترك ذكرهما في حديث الإسراء، لكونهما ليسا أصلاً برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرّعا عن النّيل والفرات، قال: وقيل إنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنّة تشبيهاً لها بأنهار الجنّة، لما فيها من العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم!

حقيقة الإسراء والمعراج

حقيقة الإسراء والمعراج: وبعد أن عرضنا -إجمالاً- لأهم الأدلّة، نبصر دعوةً تنادي المسلم، وتدعوه أن يتحرّك ويرتفع، فالإسراء لم يكن لغير محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والمعراج كذلك .. والمسلم من أتباع هذا النبيّ الذي أسرى الله به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في لحظات، وعرج به إلى السماوات العلا في لمحات، إلى أن جاوز مرتبةً وقفت عندها الخواطر والأماني .. ومن ثم يتحرّك المؤمن في طريق الصعود، فقد عبّد الرسول - صلى الله عليه وسلم - طريق الحق، وذلّل سبيل الهُدى، وتحمّل ما تحمّل .. وقد فتحت هذه الآية الربّانيّة عوالم، وقدّمت معالم، وأبصرتنا آفاق المجد واسعة! ونبصر المسلم الصادق لا يختص بأرض دون أرض، ولا يحدّه مكان دون مكان، فهو كالشمس تشرق لتضيء الدنيا كلها، ومكانها في العلياء .. ونبصره يتحرّك لتبليغ دعوة الله إلى خلق الله، عسى أن يفتح الله به قلوباً غلفاً، وآذاناً صمًّا، وأعيناً عمياً! وإذا ما كانت هذه الآية عوضاً عن جفوة الأرض وفقد النصير فإن مطلع سورة الإسراء -كما أسلفنا- يبصّرنا بالتنزيه والتقديس، وختامها يدعونا إلى الحمد، ووسط البدء والختام نقرأ عقب دعاوى المشركين عن الآية: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} (الإسراء)!

ونبصر كل شيء يتوجّه إلى الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة شجيّة نديّة، تنبض بها كل ذرّة في هذا الكون، وتنتفض تسبّح الله، وترتفع في جلال وكمال إلى الخالق جلّ شأنه! ونبصر إعلان وراثة خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - لمقدّسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدّسات، وارتباط رسالته بها جميعاً، فهي رحلة مباركة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان (¬1)، وتتضمّن معاني أكبر من المعاني الغريبة التي تتكشَّف عنها للنظرة الأولى! ونبصر السياق ينتقل في مفتتح سورة الإسراء من صيغة التسبيحِ لله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} إلى صيغة التقرير: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} إلى صيغة الوصف: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وفقاً لدقائق الدلالات التعبيريّة بميزان دقيق حسّاس! فالتسبيح يرتفع موجّهاً إلى ذات الله سبحانه، وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصًا، والوصف بالسميع البصير في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهيّة، وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدّي دلالتها بدقّة كاملة! وإنه لمشهد كونيّ فريد، حين يتصوّر المؤمن كل شيء يسبّح بحمد الله .. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستغرق تلك الحقيقة في كل ما حوله ممّا يراه وممّا لا يراه! ¬

_ (¬1) انظر: في ظلال القرآن: 4: 2212.

وحين تشفّ الروح وترفّ وتصفو تدرك سراً من أسرار هذا الوجود! ونبصر مطلع السورة ووسطها وختامها يتّسق مع جوّ الإسراء اللطيف، والرحلة من المسجد الحرام -أول بيت وضع للناس- إلى المسجد الأقصى، وهي تربط عقيدة التوحيد في موكب الأنبياء والأماكن المقدّسة! ونبصر اتجاهاً إلى الهدف الواحد الذي بعث الله النبيّين لدعوه الناس إليه، وسجوداً لله الذي كرّم الإنسان، ووقوفاً وراء خاتم النبيّين الذي جاء ليتمّم البناء، ويضع اللبنة المحكمة الأخيرة! وفي سَبَحَات من الجلال والجمال والكمال، وفضاء لا يعلم مداه إلا الله، نبصر المعراج إلى مستوى لم يكن لغير محمَّد - صلى الله عليه وسلم -! ونبصر تشويقاً للمسلم، ليصعد معارج الكمال، وليلقى كل صعب، ويعلو كل مركب خطر! وفي هذا نداء قويّ يهزّ أعطاف المؤمن هزاً، ويهمس في أذنه: لست مجرد إنسان في هذه الحياة! لست مجرد كائن في هذا الوجود! فلك روح دونها كل روح لا تؤمن بالله! ولك همة عالية دونها قمم الجبال! وقد خلقت لتحلّق وتعلو دائماً! ومن ثم يعلو ويعرج بروحه، ويسمو بفكره، ويتحرّك في طريق الصعود!

القول الأول

وهنا نبصر في الإنسانيّة خلفاً صالحاً لسلف صالح، يحمل الراية، ويؤمن بالرسل، ويمثّل الوحدة الكبرى بين الرسالات والرسل جميعاً! وتلك هي قاعدة التصوّر الإيماني التي تجعل من خير أمّة أخرجت للناس الأمّة الوارثة لتراث العقيدة الحقّة، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في طريق الحق، على هدى ونور .. وفي الوقت ذاته تقدّم هذه الحقيقة التي تبصرها في سلوك المسلمين وعقيدتهم، وفي معالم عرض الدعوة الإسلاميّة على الناس .. فتلك رسالتنا، وتلك مسؤوليتنا، وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمّة المسلمة، لتعرف حقيقتها، وتعرف مكانتها، وأنها أخرجت لتكون لها القيادة! {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143)! وقد اختلفوا في حقيقة الإسراء والمعراج اختلافاً كثيراً، وكلمة (حقيقة) اقتبستها من قول السيوطي تحت عنوان (في حقيقته) (¬1) -أي الإسراء والمعراج- هل كانا في ليلة واحدة أم لا؟ وأيهما كان قبل الآخر؟ وهل كان في اليقظة أو المنام، أو بعضه في اليقظة وبعضه في المنام؟ وهل كان مرّة أو مرتين أو مرّات؟ القول الأول: وهو قول الجمهور من المفسّرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلّمين: أنهما وقعا في ليلة واحدة في اليقظة! ¬

_ (¬1) الآية الكبرى: 105.

وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، وفي المقدمة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء)! لأن التسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، ولو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء! ولمَّا بادرت قريش إلى إنكاره -كما أسلفنا- ولأن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد -كما عرفنا- ولو كان مناماً لم يقل {بِعَبدِهِ} بل (بروح عبده)! قال ابن حجر: ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل! (¬1) قال السيوطي: ولأنه حمل على البراق، والرّوح لا تحمل، وإنما يحمل البدن! (¬2) وقال ابن القيّم: أُسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقَدس، راكباً على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلّى بالأنبياء إماماً! (¬3) ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 197. (¬2) الآية الكبرى: 105. (¬3) زاد المعاد: 3: 34.

وفي شرح المواهب اللدنيّة، قال الرازي (¬1): قال أهل التحقيق: الذي يدلّ على أنه تعالى أسْرى بروح سيّدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وجسده معاً يقظةً من مكّة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر! أما القرآن، فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}! وتقرير الدليل أن العبد اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلاً بجميع الجسد والروح، إذ لو كان مناماً لقال بروح عبده، ويدلّ عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} (العلق)! ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح؛ لأن العبد هنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، والناهي له عن الصلاة أبو جهل، وهو لا ينهاه عن الصلاة بروحه! وأيضاً قال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبدُ اللهِ يَدعُوهُ} (الجن: 19)! والمراد جميع الجسد والروح! وفي قوله: {أَسرَى بِعَبدِهِ لَيْلاً}! إذ الآيات تحمل على نظيرها! ¬

_ (¬1) شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنيّة للقسطلاني: 6: 7 وما بعدها بتصرف.

واحتجّوا أيضاً بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُسْري بي" لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة، حتى يدلّ دليل على خلافه عقلي أو شرعي! قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السماوات استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل، إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان مناماً لقال (بروح عبده)، ولم يقل {بِعَبْدِهِ}! وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} (النجم)! أي ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها، لصراحة ظاهره، في أنه بجسده يقظة؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم)! ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة دالَّة على صدقه، وإن كانت رؤيا الأنبياء وحياً؛ إذ ليس فيها من الأبلغيّة وخرق العادة ما فيه يقظة، على أن ذلك إنما يعرفه من صدقه وصدق خبره! وإن ذلك لو كان مناماً لما كان فيه فتنة للضعفاء الذين وقعوا في بليّة عظيمة توقعهم في العذاب -كما أسلفنا- لتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، ولا استبعده الأغبياء، ولا كذّبوه فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره

_ (1) انظر ما أخرجه أبو نعيم، كما في: الآية الكبرى: 105 - 106. [قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم يتبين لي موضع هذا الهامش]

القول الثاني

إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ ولأن الدواب لا تحمل الأرواح، وإنما تحمل الأجسام! وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق، وهو دابّة، فوجب كونه بالجسد والروح معاً! (¬1) وقال ابن القيم: أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلّى بالأنبياء إماماً (¬2)، وربط البراق بحلْقة باب المسجد. وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم، وصلّى فيه، ولم يصحّ ذلك عنه البتة! ثم عُرِجَ به تلك الليلة من بيت المقدس ... إلخ! (¬3) القول الثاني: وذهب جماعة إلى أن الإسراء كان بروحه في المنام! (¬4) قال ابن إسحاق (¬5): حدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كانت تقول: ما فُقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الله أسرى بروحه! قلت: هذا غير ثابت، وإن صرح ابن إسحاق بالسماع، فسنده ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 3: 34. (¬2) انظر: السيرة النبوية: ابن كثير: 2: 153، 154. (¬3) انظر: زاد المعاد 3: 34 وما بعدها. (¬4) انظر: الآية الكبرى: 106. (¬5) الروض الأنف: 2: 143.

منقطع (¬1)، وقد رواه الطبري (¬2)، قال عياض (¬3): وأمّا قول عائشة ما فقد جسده، فعائشة لم تحدّث عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن حينئذ زوجة، ولا في سنّ من يضبط، ولعلها لم تكن ولدت بعد .. ويقول: وأيضاً فليس حديث عائشة بالثابت، والأحاديث الأخرى أثبت. (¬4) قال الكوثري (¬5): وأمّا ما يروى عن عائشة من قولها: ما فُقد جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه أسري بروحه، فغير ثابت عنها البتة؛ لأنه من رواية ابن إسحاق بلفظ: حدّثني بعض آل بكر، فمن هو هذا؟ وأين ابن إسحاق المتوفى في منتصف القرن الثاني الهجري من إدراك زمن عائشة (¬6)! وفي هذا دحض لمن يرى أن الإسراء كان في المنام! وفي شرح المواهب أن الشاميّ نقل في قول عائشة: (ما فُقد) بالبناء للمفعول، وما (فقدتُ) بالبناء للفاعل، وإسناد الفعل لتاء المتكَلم، وقد حكاهما في الشفاء روايتين، فقال أولاً: وأما قول عائشة (ما فُقد جسده) فهي لم تحدّث عن مشاهدة ... إلخ .. ثم قال: وأيضاً فقد روي (ما فَقدتُ) قال: ولم يدخل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالمدينة! ¬

_ (¬1) ابن هشام: 2: 46. (¬2) التفسير: 15: 16. (¬3) الشفا: 1: 255. (¬4) السابق: 256. (¬5) انظر: السيرة للذهبي: 166. (¬6) انظر: الشفا: 1: 245 وما بعدها، والسيرة للذهبي: 166 هامش.

وكل هذا يوهنه، بل الذي يدلّ عليه صحيح قولها إنه بجسده الشريف، لإنكارها رؤيته لربّه رؤية عين، ولو كانت عندها مناماً لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثابت عنها .. يعني لما في متنه من العلّة القادحة، وفي سنده من انقطاع، وراو مجهول! وقال ابن دحية في التنوير (¬1): إنه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير، قال إمام الشافعيّة أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، وإنما وضع ردًا للحديث الصحيح! وأجيب على تقدير صحته بأن عائشة لم تحدّث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجاً، ولا في سنّ من يضبط .. قال عياض: وإذا لم تشاهد ذلك عائشة دلّ على أنها حدّثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها! وكان الظاهر أن يقول: فرجح خبر غيرها، على خبرها: أي لعدم تبوثه عنها، كما أفصح به! وقال التفتازاني في الجواب على تقدير الصحة: أي ما فُقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والرّوح جميعاً! وهو جواب حسن، على ما فيه من كونه خلاف المتبادر من اللفظ! قال السيوطي: فلم يرجح خبرها، مع قول أم هانئ بخلافه (¬2)! ¬

_ (¬1) الزرقاني على المواهب اللدنية: 6: 4 وما بعدها بتصرف. (¬2) الآية الكبرى: 108.

وقال ابن إسحاق (¬1): حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن معاوية بن أبي سفيان قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة! قلت: يعقوب بن عتبة هذا مات سنة 128 هـ بينما معاوية - رضي الله عنه - توفي سنة 60 هـ، فالحجة منقطعة؛ لأنه لم يدرك معاوية (¬2). وقال ابن القيّم بعد أن ذكر قول ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية، والحسن (¬3): ولكن ينبغي أن يُعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه قد عُرج به إلى السماء، أو ذُهب به إلى مكّة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما تلك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عُرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طائفتان: طائفة قالت: عُرج بروحه وبدنه! وطائفة قالت: عُرِج بروحه ولم يفقد بدنه! وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أُسري بها، وعُرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر به بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماءً ¬

_ (¬1) ابن هشام: 2: 46. (¬2) الإصابة: 6: 114. (¬3) زاد المعاد: 3: 40 - 41.

سماءً، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ، فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض، والذي كان لرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة! ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم، لكن لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقام خَرْق العوائد، حتى شُقَّ بطنه، وهو حيٌّ لا يتألم بذلك، عُرِج بذات روحه المقدّسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة، فالأنبياء إنما استقرّت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان، ورُوح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت، وبعد وفاته استقرّت في الرّفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! ومع هذا، فلها إشراف على البدن، وإشراق وتعلّق به، بحيث يردّ السلام على مَن سلّم عليه (¬1)! وبهذا التعلّق رأى موسى قائماً يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يُعرج بموسى من قبره، ثم رُدّ إليه، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها. وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها، فرآه يُصَلِّي في قبره، ورآه في السماء السادسة! ¬

_ (¬1) الحديث رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحد يسلِّم عليَّ، إلَّا ردّ الله عَزَّ وَجَلَّ إليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام" أحمد: 2: 527، وفيه أبو صخر -حميد بن زياد الخراط- حسن الحديث، روى له مسلم، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، وأبو داود (2041)، والبيهقي: 5: 245، والطبراني: الأوسط (3116).

القول الثالث

كما أن وجه - صلى الله عليه وسلم - في أرفع مكان في الرّفيق الأعلى مُستقرّة هناك، وبدنه في ضريحه غيرُ مفقود، وإذا سلّم عليه السلم ردّ الله عليه روحه حتّى يردّ عليه السلام، ولم يفارق الملأ الأعلى! ومن كثُفَ إدراكه، وغلظت طباعُه عن إدراك هذا، فلينظر إلى الشمس في علوّ محلّها، وتعلّقها، وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها! هذا، وشأن الرُّوح فوق هذا، فلها شأن، وللأبدان شأن! وهذه النار تكون في محلّها، وحرارتها تؤثّر في الجسم البعيد عنها، مع أن الارتباط والتعلّق الذي بين الروُح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتمّ، فشأن الرُّوح أعلى من ذلك وألطف! فقل للعيون الرُّمْدِ إِيّاكِ أن تَري ... سَنَا الشَّمس فاستغشي ظلام اللّياليا القول الثالث: بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح (¬1)، واستدلوا بآية الإسراء .. وقالوا: جعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجّب به من الكفّار تعجّب استحالة، ومن المؤمنين تعجّب تعظيم، بعظيم قدرة الله الباهرة، والتمدّح بتشريف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى مكان زائد عن المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ ¬

_ (¬1) انظر: شرح المواهب اللدنية: 6: 5.

في المدح، فلمّا لم يقع ذكر المعراج في هذا الموضع مع كون شأنه أعجب، وأمره أغرب بكثير من الإسراء، دلّ على أنه كان مناماً، وأما الإسراء فلو كان مناماً لما كذّبوه ولا استنكروه! وأجيب كما ذكر ابن المنير بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الامتحان، على ما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين -كما سبق- ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة، وكذلك وقع! ولهذا لم يسألوه عما رأى في السماء، ولا عهد لهم بذلك! وفي الشامي: وأجاب الأئمّة عن ذلك بأنه استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء، فلمّا ظهرت أمارات صدقه، ووضحت لهم براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية، أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج، فحدّثهم به، وأنزله الله في سورة النجم! قال ابن حجر (¬1): ويؤيد وقوع المعراج عقب الإسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم -الحديث الأول الذي سبق- ففي أوّله: "أتيت بالبُراق .. " إلى أن قال: "ثم عرج بنا ... ". قال ابن القيم (¬2): وكان الإسراء مرّة واحدة، وقيل: مرّتين (¬3): مرّة يقظة، ومرّة مناماً، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك -الآتي- وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات! ¬

_ (¬1) فتح البارى: 7: 198، وفي شرح المواهب: (وقوع الإسراء عقب المعراج)، وهو خطأ ظاهر. (¬2) زاد المعاد: 3: 42. (¬3) انظر: الآية الكبرى: 109.

ومنهم من قال: بل كان هذا مرّتين، مرَّة قبل الوحي، لقوله في حديث شريك: (وذلك قبل أن يوحى إليه) ومرّة بعد الوحي، كما دلّت عليه سائر الأحاديث! ومنهم من قال: بل ثلاث مرّات: مرّة قبل الوحي، ومرّتين بعده! وكلّ هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات، جعلوه مرّة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع! والصواب الذي عليه أئمّة النقل أن الإسراء كان مرّة واحدة بمكّة بعد البعثة! ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في صلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردّد بين ربّه وبين موسى، حتى تفسير خمساً، ثم يقول: "أمضيت فريضتي، وخفّفت عن عبادي" ثم يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشراً عشراً، وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظه من حديث الإسراء -كما سيأتي! تلك هي الأقوال المشهورة، وهناك أقوال أخرى نتحدث عنها في حديث شريك بعون الله وتوفيقه! ونعود إلى كلام الإِمام ابن القيّم، نعود لنرى تشييده بكلام فلسفي لا يقبله الشيخ عرجون (¬1)، الذي قال: ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 354 وما بعدها بتصرف.

لابدّ من التساؤل حينئذ أمام الحماسة المتدفّقة في تشييد بناء هذا القول المتداعي: هل كان التصوّر للإسراء على قول القائلين بالرّوح ولم يفقد جسده - صلى الله عليه وسلم - موجوداً في ذهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين أخبر مجتمع الكفر من قريش برحلته الإعجازيّة، فاستمعوا له ما بين مصفّق وضاحك وساخر، إنكاراً وتكذيباً لما قال لهم، وحين استوصفوه المسجد الأقصى، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت في ذاكرته بعض أشياء منه، فكرب كرباً شديداً، فجلاّه ربّ العزّة في الحجر، فجعل ينظر إليه ويخبر عمّا يسألون، فلمّا وافق وصفه ما عندهم ممّا عرفوه عن المسجد الأقصى، لكثرة تردّدهم عليه للتجارة وغيرها، قال قائلهم: أمّا الوصف فقد صدق فيه؟ وهل المسلمون وهم يستمعون إلى نبيّهم - صلى الله عليه وسلم - يتحدّث عن رحلته الإعجازيّة يفهمون أنها رحلة روح فقط، تركت جسدها وانسلخت منه، ثم عادت إليه؟ ففيم إذن كان موقف الذين لم يصدقوا، وهم يعلمون أن الرُّوح لها شأنها الخاص الذي لا تقيّده المادّيّات، فتنطلق إلى أقصى المشرق ثم تعود إلى أقصى المغرب في لحظات من الزمن، وتباشر من الأمور المادّيّة ما يقتضي أعواماً وشهوراً، لو كان حصوله حصولاً ماديًّا؟ وهل كان ملأ قريش حين استمعوا إليه - صلى الله عليه وسلم -، وهو يحدثّهم عن رحلته، وعجائب ما رأى فيها من آيات الله في ملكوته في طريقه ذهاباً وجيئةً يفهمون أنها رحلة روح انسلخت عن جسدها، وتركته حيًا، حتى عادت إليه، وامتزجت به، كما كان حالها قبل الرحلة؟

وإذن ففيم كان الإنكار والتكذيب والاستسخار؟! وهم يعلمون أن الأرواح لا ينكر عليها قطع المسافات البعيدة جدًا في زمن يسير، وقد قالوا في إنكارهم: إننا نضرب لها أكباد الإبل شهراً مصعدةً وشهراً آيبةً، وأنت تقول: إنك ذهبت إليها في لحظة من ليل، ثم عدت إلينا تحدّثنا؟ وهل لهذا الطراز من التخيّلات سند من أمثاله وشواهده في آثار الأنبياء ومعجزاتهم مثل ما وجد من الشواهد لنقل جسم عظيم من مكان قصيّ البعد في لحظة من ارتداد طرف العين، كنقل عرش ملكة سبأ، وهو ثابت بنصّ القرآن الكريم؟ وانسلاخ الروح عن الجسم وبقاؤه حيًّا ينتظرها هوس إشراقي متفلسف، انتقل إلى بعض الفارغين من أدعياء التصوّف الإشراقي الفلسفي، وقد جاء في بعض شروح عينيّة ابن سينا أن بعض متقدّمي متفلسفة الإشراق الوثنييّن قال: انسلخت عن بدني فعرفت من أنا، فهل هذا الهوس المأفون يتفق في شيء مع منهج الإِسلام وشريعته؟! ومن العجيب أن الإِمام ابن القيّم افتتح حديثه عن الإسراء -كما أسلفنا- بقوله: ثم أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام! ففي قوله على الصحيح دليل على أن مقابله ليس صحيحاً، وإذا كان ذلك كذلك ففي أيّ شيء كانت الحماسة لتشييد قول غير صحيح، وإهمال القول الصحيح لمجرد السرد، وقصص الروايات؟

قول باطل

إن آية الإسراء والمعراج كانت إعجازاً من الله تعالى، كرّم به نبيّه وحبيبه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، أسرى به من المسجد الحرام بمكّة إلى المسجد الأقصى بإيلياء من الشام بروحه وجسده، وهو - صلى الله عليه وسلم - كامل البشريّة، فأراه من عجائب آياته في ملكوته ما أراه، حفاوة به، وتشريفاً له ولأمّته، وعرج به جسماً وروحاً في كامل بشريّته، فسما في عروجه حتى سمع صريف أقلام الغيب تجري بمقادير الخلق في الكون، وفرضت عليه الصلاة، وأوتي من المنح الإلهيّة علماً وعملاً وبهاءً ما لم يؤت مثله أخذ من العالمين! هذا اعتقاد المسلمين كافة، وهو ما ندين الله عليه ونعتقده، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين! قول باطل: ومع هذا فقد قال الدكتور هيكل بعد أن قدّم قول القائلين بأن الإسراء والمعراج إنما كانا بروح محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وفي رأي آخرين أن الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس كان بالجسد، مستدّلين على ذلك بما ذكر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أنه شاهده في البداية .. وأن المعراج إلى السماء كان بالروح، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الإسراء والمعراج كانا جميعاً بالجسد. قلت: سبق بيان قول الجمهور مع الأدلة في هذا! وقال: ولنا في حكمة الإسراء رأي نبديه، ولسنا ندري أسبقنا إليه أم لم ¬

_ (¬1) حياة محمَّد: 189 وما بعدها بتصرف.

نُسبق، لكنا قبل أن نبدي هذا الرأي، بل لكي نبديه، يجب أن نروي قصّة الإسراء والمعراج على نحو ما جاءت به كتب السيرة! وذكر تصوير المستشرق (درمنجم) هذه القصّة ... ! ولا أدري كيف ينقل عن هذا المستشرق آية الإسراء والمعراج، ولا يذكر الأحاديث السابقة أو بعضها مما يثبت تواتر الحديث -كما قال المرتضى الزبيدي (¬1) - حيث رواه من الصحابة سبعٌ وعشرون نفساً، وأوصلهم الكتاني إلى خمسة وأربعين صحابيًا (¬2)! وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬3): وأحاديث المعراج، وصعوده إلى ما فوق السماوات، وفرض الربّ عليه الصلوات الخمس حينئذ، ورؤيته لما رآه من الآيات، والجنّة والنار، والملائكة والأنبياء في السماوات، والبيت المعمور، وسدرة المنتهى وغير ذلك مما هو معروف متواتر في الأحاديث، وهذا النوع لم يكن لغيره من الأنبياء مثله، يظهر به تحقيق قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (البقرة: 253)! ¬

_ (¬1) لفظ اللآلئ: 224. (¬2) نظم المتناثر: 207 - 208. (¬3) الجواب الصحيح: 4: 165.

الإسراء ووحدة والوجود

فالدرجات التي رُفعَها محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج -وسَيُرْفَعُها في الآخرة، كالمقام المحمود الذي يغَبطه به الأوّلون والآخرون- ليس لغيره مثلها .. ! قلت: ومع هذا التواتر للأحاديث لم يجد الدكتور هيكل إلا تصوير هذا المستشرق، وفيه ما فيه من طعن في الروايات المتواترة للإسراء والمعراج، مع أنه اعترف صراحة بأن في تصوير (درمنجم) خلافاً بزيادة أو نقص! أمّا عن هذا الرأي الذي أبداه، فقد أشار إليه بعنوان: الإسراء ووحدة والوجود: وقال: ففي الإسراء والمعراج في حياة محمَّد الرُّوحيّة معنى سام غاية السمو، معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلّمة الخصب حظّ غير قليل، فهذا الرُّوح القويّ قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج (وحدة هذا الوجود) بالغةً غاية كمالها، لم يقف أمام ذهن محمَّد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيًا محدوداً بحدود قوانا المحسّة والمدبِّرة والعاقلة، تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمَّد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده وصوره في تطوّر وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلّبها على الشرّ والنقص، والقبح والباطل، بفضل من الله ومغفرة! وليس يستطيع هذا السموّ إلا قوّة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانيّة، فإذا

جاء بعد ذلك ممن اتّبعوا محمداً مَن عجز عن متابعته، في سموّ فكرته، وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال، فلا عجيب في ذلك ولا عيب فيه، والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات، وبلوغنا الحقيقة معرّض دائماً لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها! وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصّة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرّفوا الفيل ما هو؟ فقال أحدهم: إنه حبل طويل؛ لأنه صادف ذنبه! وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة؛ لأنه صادف رجله! وقال ثالث: إنه مدبّب كالرمح؛ لأنه صادف سنّه! وقال رابع: إنه مستدير ملتو؛ كثير الحركة؛ لأنه صادف خرطومه! فإن هذا المثل، مقروناً إلى الصورة لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمَّد عنه (وحدة الكون والوجود)، وتصويره في الإسراء والمعراج؛ حيث يتّصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان، إذ يُطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديماً، وبين ما يستطيع الكثير إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج، إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرّات الجسم، بل كالذرّات العائقة به من غير أن يتأثّر بها نظامه، أين الواحدة من هذه الذرّات من حياة هذا الجسم، ومن

نبض قومه، وإشراق روحه، وضياء ذهنه، وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدًّا؛ لأنها تتّصل من الوجود بكل حياة الوجود! والإسراء بالرّوح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالرّوح جميعاً، سموًا وجمالًا وجلالاً، فهو تصوير قويٌّ للوحدة الرّوحيّة من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء، حيث كلم الله موسى تكليماً، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الرّوحيّ ضمّت الصلاة فيه محمدًا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قويٌّ لوحدة الحياة الدّينيّة، على أنها من قوام وحدة الكون في مَوْره الدائم إلى الكمال! والعلم في عصرنا الحاضر يقرّ هذا الإسراء بالرُّوح، ويقرّ المعراج بالرُّوح، فحيث تتقابل القوى السليمة يشعّ ضوء الحقيقة، كما أن تقابل قوى الكون في صورة معيّنة قد طوّع لـ (ماركوني)، إذ سلّط تيّاراً كهربائيًا خاصًا من السفينة التي كانت راسيةً بـ (البندقيّة)، وأن يضيء بقوّة موجات الأثير مدينة (سدني) في (أستراليا)! وفي عصرنا هذا يقرّ العلم نظريات قراءة الأفكار، ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقرّ انتقال الأصوات على الأثير ب (الراديو)، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال! وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشّف لعلمنا كل يوم عن جديد .. فإذا بلغ روح من القوّة، ومن السلطان، ما بلغت نفس محمَّد، فأسرى به الله ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله، ليريه من آياته، كان ذلك مما يقرّ العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القويّة

السامية في جمالها وجلالها، والتي تصوّر الوحدة الرّوحيّة، ووحدة الكون في نفس محمَّد تصويراً صريحاً، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السموّ بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة العليا، ليعرف مكانه، ومكان العالم كله منها! لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني، لذلك ما لبثوا حين حدّثهم محمَّد بإسرائه أن وقفوا عند الصورة المادّيّة من أمر هذا الإسراء، وإمكانه أو عدم إمكانه! ثم ساور أتباعه والذين صدّقوه أنفسهم بعض الرّيب فيما يقول! وقال كثيرون: هذا، والله إن العير لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أيذهب محمَّد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكّة؟! ثم قال: وذهب من أخذتهم الرّيبة في الأمر إلى أبي بكر وحدّثوه حديث محمَّد، فقال أبو بكر: (والله لئن كان قاله لقد صدق، وما يعجبكم من ذلك! فوالله! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فهذا أبعد مما تعجبون منه) ثم أقبل على النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن وصفه، وكلما ذكر شيئاً قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وأنت يا أبا بكر الصدّيق، فيومئذ سماه الصدّيق"! (¬1) قال: ويدلل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشاً لمّا ¬

_ (¬1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: وانظر: الحاكم: 3: 62 - 63 وصححه الذهبي ووافقه.

إبطال وحدة الوجود

سمعت بأمر سراقة سألته وسأله الذين آمنوا به عن آية ذلك، فإنهم لم يسمعوا بشيء من مثله، فوصف لهم عيراً مرّ بها في الطريق، فضلّت دابّة من العير فدلهّم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطّى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش في ذلك فصدّقت العير ما روى محمَّد عنهما! وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالرُّوح في هذا لما رأوا فيه عجباً بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدّث عن أشياء واقعة في جهات نائية، ما بالك بروح يجمع وحدة الحياة الرّوحيّة في الكون كله، ويستطيع بما حباه الله من قوّة يتّصل بسرّ الحياة من أزل الكون إلى أبده! إبطال وحدة الوجود: هذا، والقول بـ (وحدة الوجود) قول شيطاني قديم، أبان بطلانه كثير من المحققين، كما أبان إبطاله والردّ على القائلين به، شيخ الإِسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى! (¬1) وحسبنا أن نذكر قول شيخنا الأستاذ الدكتور محمَّد أبو شهبة - رحمه الله (¬2): إن فكرة (وحدة الوجود) فكرة خاطئة وافدة إلى الإِسلام فيما وقد إليه ¬

_ (¬1) انظر: إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها، تحقيق محمَّد بن حمود النجدي، ط: مكتبة الذهبي. (¬2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة: 1: 414 وما بعدها بتصرف.

من آراء فاسدة، لا يشهد لها عقل ولا نقل، وهي من مخلّفات الفلسفات القديمة، وفيها ما فيها من أخطاء وأباطيل، وقد انتصر لها وتشيّع بعض المتصوفة الذين ينتسبون إلى الإِسلام، وكتبوا فيها فكان عاقبتهم الإلحاد في الله وصفاته! وقد أبان بطلانها كثير من علماء الأمة الراسخين في العلم، المتثبّتين في العقيدة، والقول بها يؤدّي إلى القول بالطبيعة، وقدم العالم، وإنكار الألوهيّة، وهدم الشرائع السماويّة التي قامت على أساس التفرقة بين الخالق والمخلوق، وبين وجود الربّ، ووجود العبد، وتكليف الخالق للخلق بما يحقّق لهم السعادة! ومقتضى هذا المذهب أن الوجود واحد، فليس هناك خالق ومخلوق، ولا عابد ومعبود، ولا قديم وحادث، وعابدو الأصنام والكواكب والحيوانات حين عبدوها إنّما عبدوا الحق؛ لأن وجودها الحق .. إلى آخر خرافاتهم التي ضلّوا بسببها، وأضلّوا غيرهم، والتي أضرّت بالمسلمين، وجعلتهم شيعاً وأحزاباً .. ولقد بلغ من بعضهم أنه قال: إن النصارى ضلّوا لأنّهم اقتصروا على عبادة ثلاثة، ولو أنهم عبدوا الوجود كله لكانوا راشدين، وقال بعض المعتنقين لهذه الفكرة: العبد حق والرّبّ حق ... يا ليت شعري من المكلّف؟ إِن قلت عبدٌ فذاك ربّ ... أو قلت ربٌّ أنّى يكلّف؟

قال الإِمام تقيّ الدين أحمد بن تيمية الحراني في بعض كتبه، بعد أن ذكر الفناء المحمود، والفناء المذموم: ولهذا لمَّا سلك ابن عربي، وابن سبعين، وغيرهما هذه الطرق الفاسدة أورثهم ذلك (الفناء) عن وجود السويّ، فجعلوا الوجود واحداً، ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق، وحقيقة الفناء عندهم أن لا يرى إلا الحق، وهو الرائي والمرئي، والعابد والمعبود، والذاكر والمذكور، والناكح والمنكوح، والأمر الخالق هو الأمر المخلوق، وهو المتّصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم، وعبّاد الأصنام ما عبدوا غيره، وما ثمّ موجود مغاير له البتة عندهم، وهذا منتهى سلوك هؤلاء الملحدين!! وأكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون: فرعون أكمل من موسى، وإن فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} لأن الوجود فاضل ومفضول، والفاضل يستحق أن يكون ربّ المفضول، ومنهم من يقول: (إنه مات مؤمناً، وأن تغريقه كان ليغتسل غسل الإِسلام) (¬1)!! فالحق أن فكرة (وحدة الوجود) فكرة زائفة، تصادم نصوص الدّين القطعية، ولا يدل عليها شيء، من قرآن أو سنّة، وأن العقيدة الإِسلاميّة السمحة براء من مذهب (وحدة الوجود)! ¬

_ (¬1) الرد على المنطقيِّين: 521 ط الهند.

إنكار النصوص وتحريفها

إنكار النصوص وتحريفها: ثم إن تفسير الإسراء والمعراج بهذه الفكرة، وتصويرها هذا التصوير الذي ارتضاه (هيكل) يقتضي إنكارها، على حسب ما جاء به القرآن القطعيّ، والسنّة الصحيحة المشهورة -كما أسلفنا- فليس ثمّة إسراء حقيقة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بذات النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وليس هناك عروج بالنبيّ من بيت المقدس إلى السماوات السبع وما فوقهن، ولا صلاة بالأنبياء، ولا لقاء ولا تسليم، ولا تكليم الله لنبيّه، وإنما كل ذلك تمثيل وتقريب! وما الداعي إلى ذلك ما دام الكون كله قد اجتمع في روح النبي - صلى الله عليه وسلم -كما قال صاحب هذا الرأي: فالمسجد الحرام في وجه، والأقصى في روحه، والسماوات وما فيهنّ في روحه، ووجودها في وجوده. إغراب وتشويش: ثم ما الداعي إلى كل هذا التكلّف والإغراب من الدكتور هيكل في فهم نصوص صريحة، جاءت بلسان عربيّ مبين؟ وما الذي حدا به إلى أن (يشطح) هذه (الشطحات) التي لا داعي إليها! إن الإسراء والمعراج كما جاء بهما القرآن والأحاديث الصحاح المتواترة أقرب منالًا، وأشدّ استساغة لعقول الناس مما ذهب هو إليه .. ولو جلست زماناً لتفهم رجلاً أميًّا أو متعلّماً، بالإسراء والمعراج -على ما رأى الدكتور-

طريق الكفاح في مسير الدعوة

ما أنت بمستطيع إفهامه هذه الألغاز والطلاسم التي حاول بها إحداث رأي جديد، لا يدري أسبق إليه أم لا! وهل تصوير الإسراء والمعراج بهذا التصوير إلا إشكال على عقول الكثرة من الناس، ومخاطبة لهم بما لا تبلغه عقولهم ومداركهم، وقد أُمرنا أن نحدّث الناس بما يعقلون، وأن ندع ما ينكرون، وفي الحكم الذهبية عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - صلى الله عليه وسلم -: (ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). (¬1) الحق أن الإغراب على القراء بمثل هذه الأفكار المسمومة، والآراء الشاذّة الغريبة تشكيك لهم في عقائدهم الصحيحة، وتسميم لعقولهم، وانحراف بهم عن فطرتهم السليمة، والحق أبلج لا يحتاج إلى تكلّف، وتعمّل وتفلسف، من غير داع: {وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ (86)} (ص)! كما أنه أثر من آثار مجاراة المستشرقين ومتابعتهم في أفكارهم! طريق الكفاح في مسير الدعوة: ومعلوم أن آية الإسراء والمعراج من أعجب ما أوتي الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وتسليماته، رسمت في إطارها الإعجازي طريق مسير الرسالة في تشريعها، وتطبيق أحكامها، بما شاهد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) صحيح مسلم: المقدمة: 3: باب النهي عن كل ما سمع.

ورأى من آيات ربّه في ملكوته من عجائب الكون التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صور من عالم الغيب، تتضاءل أمام جلالها وعظمتها كل صور المشاهد الأرضيّة! (¬1) وهذه الآيات لعجائب الملكوت هي في الحقيقة موطن الحفاوة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ليمسح الله بها كل أثر لقيه - صلى الله عليه وسلم - من آثار الفجور الوثنيّ، وطغيان الشرك، وعتوّ العناد، وبأو الاستكبار، والبغي في معاملة هؤلاء الفجرة له - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، ليزداد - صلى الله عليه وسلم - علماً بأن رسالته في عمومها الأشمل، وخلودها المؤبّد، رسالة كفاح صبور أبديّ مستمر، ما قامت الحياة على ظهر هذه الأرض، وأنها دعوة نضال لا يعرف التوقّف والمهادنة؛ لأنها دعوة تستهدف إخراج الإنسانيّة من ظلمات الظلم والجهل إلى نور العدل والعلم، وتطهير هذه الإنسانيّة من أوضار الشرك، ورجس الوثنيّات، في صورها كافة وأشكالها، مهما ألبست من لبوس العلم الزائف والمعرفة المتهافتة -كما عرفنا في دعوى وحدة الوجود- وإنقاذ الحياة من ظلم الطغيان الممثل في جبروت المستعبدين للبشريّة في صورة زعماء وحكام وأباطرة، وثراء في المال، يسخّرونهم لقضاء شهواتهم الفاجرة، ويعملون على سرمدة الجهل فيهم، لتدوم لهم طاعتهم وتسخيرهم عبيداً لا يعرفون طعم الحريّة في حياتهم، حتى يعلم الناس كل الناس في مشارق الأرض ومغاربها أن التأسّي بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتمثّل في إقامة منهجه في رسالته علماً وعملاً، وصبراً وجهاداً! ¬

_ (¬1) محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 2: 361 وما بعدها بتصرف.

وحتى يعلم وارثو منهجه - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الحق من حملة دعوته ورسالته المنتصبين للدعوة .. أنهم يحملون أثقال ما حُمّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تطبيق منهجه على أنفسهم، وأقرب المقرّبين إليهم، وأبعد الأبعدين عنهم، ليكونوا مُثلاً حيّةً لحياته - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ رسالته، ونشر دعوته، تتحرّك بين الناس، حاملة لواء الوراثة النبويّة، يخفق في آفاق الأرض منادين: أن رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عقد لواء انتصارها على عتوّ المعاندين المستكبرين في الأرض في ظلّ (سدرة المنتهى) ليلة شرّفه الله بالإسراء والمعراج، وما عقد في السماء فلن يحلّ في الأرض! فلتسمع الدنيا بمن فيها وما فيها صوت الحق والخير والهدى في هذه الرسالة السرمديّة، وليستجب الذين يسمعون إلى دعوة العدل والحبّ والإخاء الإنسانيّ لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يدعوهم لما يحييهم! وعندئذ تتحقّق لهؤلاء الدعاة إلى الله، وراثة منهج محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في مشاهدة آثار آيات الله، وأعاجيب ملكوته، وأسرار ملكه في خزائنها في قلوب العباد؛ لأن كل قلب يفتح للحق والخير والتراحم الإنسانيّ هو سماء من سماوات البشريّة، تنحدر منه غيوث بشائر الإيمان والهدى والإخاء المواسي، بل المؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة! هكذا كان واقع رسالة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، بعد أن شرّفه الله تعالى بآية الإسراء والمعراج؛ لأنها كانت مبدأ التمكين في التطبيق العملي .. وهكذا كان تطبيق منهجه - صلى الله عليه وسلم - الذي رجع به من رحلة السماء بين الناس والأشياء!

دعاة على الطريق

دعاة على الطريق: والدعاة إلى الله بأيديهم مفاتيح القلوب التي أنزلت مع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من سماء العزّة ليلة الإسراء والمعراج .. أمانة يتقلّدها العلماء بالله في أعناقهم، ليؤدّوها إلى أهلها، منهجاً وسلوكاً، كما أدّاها خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم - في حياته المباركة! ويوم تقاعس حاملو أمانة الوراثة في تبليغ الرسالة، ونشر دعوة الحق والنور والهدى، مُخْلدين إلى الأرض، تَلَمُّظاً للدّنيا، وغروراً بزخارفها وشهواتها .. وليس لهم منها إلا ما يتساقط من فتات موائد المفتونين بها من المترفين -لم يبق لهم من هذه الوراثة إلا عبء التحمّل في الدنيا وعسير الحساب في الآخرة، وقد ضُربت ليلة الإسراء والمعراج لهم الأمثال -كما سيأتي- لو كانوا يعقلون: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} (العنكبوت)! هذه حقائق يجب أن تستخلص من واقع آية الإسراء والمعراج ووقائعها وأحداثها في الأرض وفي السماء .. والروايات -كما سبق أن عرفنا- تصوّر ذلك أكمل تصوير!

وقت الإسراء والمعراج

وقت الإسراء والمعراج: وأما عن الوقت فقد قال ابن حجر (¬1): اختلف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ، إلا إن حُمل على أنه وقع حينئذ في المنام! قلت: وسيأتي بيان ذلك في ردّ الشبهة الأولى في حديث شريك! قال: وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا، فقيل: قبل الهجرة بسنة، قاله ابن سعد وغيره (¬2)، وبه جزم النووي، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه، وهو مردود، فإن في ذلك اختلافًا كثيرًا يزيد على عشرة أقوال! وسيأتي مزيد بيان في الرد على ما ذهب إليه ابن حزم في ردّ الشبهة الثانية في حديث شريك! وقال: منها ما حكاه ابن الجوزي أنه كان قبلها بثمانية أشهر، وقيل: بستة أشهر، وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم (¬3)، وحكى ابن حزم مقتضى الذي قبله؛ لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوّة، وقيل: بأحد عشر شهرًا، جزم به إبراهيم الحربي، حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورجّحه ابن المنير في شرح السيرة لابن عبد البر، ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 203 بتصرف. (¬2) انظر الطبقات الكبرى: 1: 214، وشرح المواهب اللدنية: 1: 307. (¬3) انظر: الآية الكبرى: 111.

وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس، وقيل: بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي، وأخرجه من طريقه الطبريّ، والبيهقيّ، فعلى هذا كان في شوال أو في رمضان، على إلغاء الكسرين منه، ومن ربيع الأوّل، وبه جزم الواقدي، وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة، وحكاه ابن عبد البر، أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرًا، وعند ابن سعد (¬1) عن ابن أبي سبرة أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وقيل: كان في رجب، حكاه ابن عبد البر، وجزم به النوويّ في الروضة. (¬2) قال السيوطي: المشهور أنه في رجب. (¬3) وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير، وحكى عياض وتبعه القرطبي والنوويّ عن الزهري أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ورجّحه عياض ومن تبعه. (¬4) قال السيوطي (¬5): وأما تعيين تلك الليلة، فعيّنها ابن سعد (¬6) ليلة السبت لسبع عشرة من رمضان وقال ابن المنير كالحربي: إنها ليلة سبع ¬

_ (¬1) انظر: الطبقات الكبرى: 1: 213. (¬2) انظر: شرح المواهب اللدنيّة: 1: 308. (¬3) الآية الكبرى: 112. (¬4) انظر احتجاجه ورد ابن حجر في: فتح الباري: 7: 203، وشرح المواهب اللدنية: 1: 307، والآية الكبرى 111 - 112. (¬5) الآية الكبرى: 112. (¬6) الطبقات الكبرى: 1: 213.

بدء الإسراء

وعشرين من ربيع الآخر، وبذلك رجّح القول بأنّه في ربيع الآخر قبل الهجرة بأحد عشر شهرًا؛ لأنه أحاط بتفصيل القضيّة وحرّرها بخلاف غيره، قال: -أي ابن المنير- ويمكن أن يعين اليوم الذي أسفرت عنه هذه الليلة، ويكون يوم الإثنين، استقراء من تاريخ الهجرة، فإنها على الأصح كانت يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأوّل .. ثم قال: ويكون أول ربيع الآخر، وهو شهر الإسراء الأربعاء، بفرض ربيع الأوّل تامًا، وحينئذ فالسابع والعشرون منه الإثنين، وهو اليوم الذي أسفرت ليلة الإسراء عنه إن شاء الله، وحينئذ يوافق مولده يوم الإثنين، ومبعثه يوم الإثنين، وكذا هجرته ووفاته، فإن هذه الخمسة أطوار الانتقالات النبويّة، واتفق على أربعة منها أنها يوم الإثنين، فيقرب جدًا في الخامس أن يكون أسوتها، ويكون يوم الإثنين في حقّه - صلى الله عليه وسلم - كيوم الجمعة في حق آدم عليه السلام! وقيل (¬1): الجمعة، وقيل: السبت، وقيك: ليلة السابع والعشرين من رجب، وعليه عمل الناس .. ثم قال: ذلك مما يغلب على الظنّ كونه راجحًا، واختاره المقدسي! بدء الإسراء: هذا عن الزمان، وأمّا ما ورد في المكان الذي بدأ منه الإسراء، فقد سبق في رواية الحديث الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فرُجّ عن سقف بيتي، وأنا بمكة" الحديث. وفي الحديث الثالث: "بينا أنا عند البيت" الحديث، لكن ورد ¬

_ (¬1) شرح المواهب اللدنية: 1: 308.

في رواية للبخاري: "بينا أنا في الحطيم (¬1) - وربما قال في الحجر (¬2) - مضطجعًا". (¬3) والمراد بقوله: "في الحطيم" كما قال ابن حجر: الحجر (¬4)، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفًا في الحطيم هل هو الحجر أم لا .. لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدّد؛ لأنّ القصّة متّحدة؛ لاتّحاد مخرجها! وقيل: من شعب (¬5) أبي طالب، وقيل: من بيت أم هانئ، وقيل: غير ذلك. (¬6) قال ابن حجر بعد أن ذكر طرفًا من ذلك (¬7): والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه، لكونه كان يسكنه، فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعًا، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك ¬

_ (¬1) الحطيم: الجدار، والمراد جدار حجر الكعبة، وإنما سمّي حطيمًا؛ لأنّ البيت رفع وترك ذلك محطومًا: لسان العرب، ومختار الصحاح (حطم). (¬2) حجر الكعبة، السابق. (¬3) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3887). (¬4) فتح الباري: 7: 204. (¬5) الشّعب: ما انفرج بين جبلين، والشِّعب: الطريق، وقيل: الطريق في الجبل. والجمع شعاب: لسان العرب. والمصباح المنير (شعب). (¬6) انظر: الآية الكبرى: 114. (¬7) فتح الباري: 204.

إلى باب المسجد، فأركبه البراق، وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه، فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيّد هذا الجمع!

شبهات .. وردها

شبهات .. وردُّها

شبهات ... وردُّها * حديث شريك. * الشبهة الأولى وردّها. * الشبهة الثانية وردّها. * الشبهة الثالثة وردّها. * الشبهة الرابعة وردّها. * الشبهة الخامسة وردّها. * الشبهة السادسة وردّها. * الشبهة السابعة وردّها. * الشبهة الثامنة وردّها. * رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربَّه ليلة المعراج. * ثلاثة أقوال. - القول الأوّل. - القول الثاني. - بين القولين. - القول الثالث. - الراجح من الأقوال. * الشبهة التاسعة وردّها. * الشبهة العاشرة وردّها. * بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

حديث شريك

شبهات ... وردُّها حديث شريك: كثر الكلام حول حديث شريك -كما أسلفنا- وأثيرت شبهات كثيرة! وإليك الحديث: قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله أنه قال: سمعت ابن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يُوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أوّلهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال أحدهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه، وتنام عينه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمز، فتولاه منهم جبريل، فشقّ جبريل ما بين نحره إلى لبّته، (¬1) حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أتى ¬

_ (¬1) لَبّته -بفتح اللام وتشديد الموحّدة- وهي موضع القلادة من الصدر، وقال الداوودي: (إلى لبّته) أي إلى عانته؛ لأنّ اللبة العانة، وقال ابن التّين: وهو الأشبه، وفيه الرد على من أنكر شقّ الصّدر، وعدد الإسراء: عمدة القاري: 25: 171.

بطست من ذهب فيه تَوْرٌ (¬1) من ذهب، محشُوًّا إيمانًا وحكمةً، فحشا به صدره ولغاديده -يعني عروق حلقه- (¬2)، ثم أطبقه! ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء، من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمَّد، قال: وقد بُعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبًا به وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض، حتى يعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك فسَلِّمْ عليه، فَسَلَّمَ عليه، وردّ عليه آدم، وقال: مرحبًا وأهلًا بابني، نعم الابن أنت! فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطّردان، فقال: "ما هذان النهران يا جبريل؟ " قال: هذان النِّيل والفرات، عنصرهما (¬3)، ثم مضى في السماء، فإذا نهر آخر عليه قصرٌ من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا هو مسك أذْفر (¬4)، قال: "ما هذا يا جبريل؟ " قال: هذا الكوثر الذي خَبَأ لك ربّك! ¬

_ (¬1) توْرٌ -بفتح التاء المثناة من فوق وبالراء- هو إناء يشرب فيه: السابق، وانظر: فتح الباري: 13: 481 ففيه زيادة بيان. (¬2) قال أهل اللغة: هي اللحمات التي تكون بين الحنك وصفحة العنق، واحدها لغدود ولغديد، ويقال: لغد، وجمعه ألغاد: مجمل اللغة (لغد) وفتح الباري: 13: 481. (¬3) أي عنصر النيل والفرات، والعُنصر -بضم العين والصاد المهملتين بينهما نون ساكنة- هو الأصل، انظر: السابق. (¬4) أي جيد إلى الغاية، شديد ذكاء الريح: عمدة القاري: 25: 172.

ثم عرج إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى، من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به وأهلًا! ثم عرج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية! ثم عرج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك! ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك! ثم عرج به إلى السادسة، فقالوا له مثل ذلك! ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سمّاهم! فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه. وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، بفضل كلام الله، فقال موسى: ربّ لم أظنّ أن ترفع عليّ أحدًا! ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبّار ربّ العزّة، فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى خمسين صلاةً على أمّتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال: يا محمَّد! ماذا عهد إليك ربُّك؟ قال: عهد إليّ خمسين صلاةً كلّ يوم وليلة. قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليُخفِّف عنك ربّك وعنهم!

فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم، إن شئت، فعلا به إلى الجبّار، فقال وهو مكانه: يا ربِّ! خفف عنّا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يُردّده موسى إلى ربّه، حتى صارت إلى خمس صلوات! ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمَّد! والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه، فأمّتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع فليُخفِّف عنك ربّك، كل ذلك يلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل، ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل! فرفعه عند الخامسة فقال: يا ربّ! إن أمّتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم فخفِّف عنّا، فقال الجبّار: يا محمَّد! قال: لبَّيك (¬1) وسَعْدَيْك (¬2)، قال: إنه لا يبدّل القول لديّ، كما فرضت عليك في أم الكتاب، قال فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أمّ الكتاب، وهي خمسٌ عليك! فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ فقال: خَفَّفَ عنّا، أعطانا ¬

_ (¬1) يقال: لبّيك لزومًا لطاعتك، أو إلبابًا بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة، وإجابة بعد إجابة، أو معناه اتجاهي إليك وقصدي وإقبالي على أمرك: الصحاح، والمعجم الوسيط، ومجمل اللغة (لب). (¬2) يقال في الدعاء: لبّيك وسعديك: أي إسعادًا لك بعد إسعاد: الصحاح، والمعجم الوسيط (سعد).

بكل حسنة عشر أمثالها، قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربّك فليخفف عنك أيضًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا موسى قد والله اسْتَحييتُ من ربِّي مما اختلفت إليه"، قال: فاهبط باسم الله. قال: واستيقظ وهو في المسجد الحرام (¬1). وقال مسلم: حدثنا هارون بين سعيد الأيلي: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني سليمان، وهو ابن بلال، قال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة أُسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفرٍ قبل أن يُوحى إليه، وهو نائمٌ في المسجد الحرام، وساق الحديث بقصّته نحو حديث ثابت البناني، وقدّم فيه شيئًا وآخر، وزاد ونقص! (¬2) قلت: سبق أن قدمنا الحديث الأوّل من رواية مسلم وغيره، وعرفنا أنه أجود وأتقن، وقد سلم ممّا في غيره من الأحاديث! أما حديث شريك فقد قال ابن حجر: (¬3) مجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك! ¬

_ (¬1) البخاري: 67 - التوحيد (1517). (¬2) مسلم: 1 - الإيمان (162). (¬3) فتح الباري: 13: 485.

الشبهة الأولى وردها

الشبهة الأولى وردّها: قال عبد الحق في الجمع بين الصحيحين: زاد فيه -يعني شريكًا- زيادةً مجهولةً، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفّاظ .. فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. وسبق إلى ذلك أبو محمَّد بن حزم فيما حكاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في جزء سماه (الانتصار لأيامى الأنصار) فنقل عنه الحميدي عن ابن حزم قال: لم نجد للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئًا لا يحتمل مخرجًا إلا حديثين، ثم غلبه في تخريجه (¬1) الوهم، مع إتقانهما وصحة معرفتهما، فذكر هذا الحديث، وقال: فيه ألفاظ معجمة، والآفة من شريك، من ذلك قوله (قبل أن يوحى إليه)! (¬2) قال ابن حجر (¬3) في جملة (قبل أن يوحى إليه): وهو غلط لم يوافق عليه! وأجمع العلماء أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحي؟ وقال: صرّح المذكورون بأن شريكًا تفرّد بذلك، وفي دعوى التفرّد نظر، فقد وافقه كثير بن خنيس -بمعجمة ونون مصغّر- عن ¬

_ (¬1) كذا في فتح الباري: 13: 484 ولعلها تخريجهما ليتسق مع المعنى! (¬2) السابق: 484 - 485، وانظر: مسلم بشرح النوويّ: 2: 210. (¬3) فتح الباري: 13: 480، وانظر: إكمال إكمال المعلم: 1: 314.

أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في (كتاب المغازي) من طريقه! وقال ابن حزم: الآفة من شريك (¬1)، ورد أبو الفضل بن طاهر على ذلك بقوله: (¬2) تعليل الحديث بتفرّد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكًا قبله أئمة الجرح والتعديل ووثّقوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، وروى عبد الله بن أحمد الدورقي، وعثمان الدارمي، وعباس الدوري، عن يحيى بن معين: لا بأس به، وقال ابن عديّ: مشهور من أهل المدينة. حدّث عنه مالك وغيره من الثقات، وحديثه إذا روى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف، قال ابن طاهو: وحديثه هذا رواه عنه ثقة، وهو سليمان بن بلال، قال: وعلى فرض تسليم تفرّده (قبل أن يوحى إليه) لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في تاريخ لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين، ولعله أراد أن يقول: بعد أن أوحي إليه، فقال: (قبل أن يوحى إليه)! قلت: ومما يقوّي هذا قوله في نفس الحديث (وقد بعث؟ قال: ¬

_ (¬1) توجيه النظر: 137. (¬2) فتح الباري: 13: 485.

نعم)، ومن هنا كان هذا التأويل أولى، حتى يمكن الجمع، ومع هذا يمكن أن يكون الملائكة الذين أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه، أتوه ليلة أخرى، كما جاء في الحديث أيضًا (حتى أتوه ليلة أخرى)، ولم يعيّن المدّة التي بين الحديثين -كما يقول ابن حجر- (¬1) فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج! وإذا كان بين المجيئين مدّة فلا فرق في ذلك بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة أو ليالي كثيرة أو عدة سنين، وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق، أن الإسراء كان في اليقظة، بعد البعثة، وقبل الهجرة، ويسقط تشنيع الخطَّابي وابن حزم وغيرهما بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثه! وأما ما ذكره بعض الشرّاح: أنه كان بين الليلتين اللتين أتاه فيهما الملائكة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، وقيل: عشر. وقيل: ثلاث عشرة، فيحمل على إرادة السنين، لا كما فهمه الشارح المذكور أنها ليال، وبذلك جزم ابن القيمّ في هذا الحديث نفسه! قلت: وبهذا يتبيّن أن شريكًا قبله كثير من أئمة الجرح والتعديل وأن هذا الحديث رواه عنه ثقة، وأنه لم يتفرّد به، ولا إشكال في الجمع بين قوله: (قبل أن يوحى إليه) وقوله: (وقد بعث؟ قال: نعم)! وأجاب بعضهم عن قوله: (قبل أن يوحى إليه) بأن القبليّة هنا في ¬

_ (¬1) السابق، بتصرف.

الشبهة الثانية وردها

أمر مخصوص، وليست مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلًا، أي أن ذلك وقع بغتةً قبل أن ينذر به، ويؤيّده في حديث الزهري: "فرج عن سقف بيتي" (¬1). الشبهة الثانية وردّها: زاد ابن حزم على قوله السابق: الآفة من شريك، من ذلك قوله: (قبل أن يوحى إليه)، قال: وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة، قال: وهذا لا خلاف بين أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد أن أوحي إليه بنحو اثنتي عشرة سنة! (¬2) قلت: وتلك أيضًا شبهة مردودة، حيث اختلفوا في تاريخ الإسراء والمعراج -كما سبق- اختلافًا كثيرًا! ومردودة أيضًا، حيث ذهب بعض العلماء إلى أن ذلك وقع مرّتين: مرَّة في المنام، توطئة وتمهيدًا أو تسهيلًا عليه، كما كان بدء نبوّته الرؤيا الصادقة -كما أسلفنا- ليسهل عليه أمر النبوّة! ومرّة ثانية في اليقظة .. قالوا: وبذلك يجمع بين الأحاديث. وممن اختار هذا القول أبو نصر القشيري، وابن العربي، والسهيلي! وجوّز بعض أصحاب هذا القول أن تكون قصّة المنام وقعت قبل البعث، لأجل ما في رواية شريك (وذلك قبل أن يوحى إليه)! ¬

_ (¬1) السابق: 485. (¬2) السابق.

قال السهيلي: (¬1) وهذا القول هو الذي يصحّ، وبه تتفق معاني الأخبار! قلت: سبق أن عرفنا أن الجمهور من المفسّرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلّمين قد ذهبوا إلى أنهما وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي -صلى الله عليه وسلم- وروحه بعد المبعث، فكيف يقول السهيلي عن القول بأن ذلك وقع مرّتين (هو الذي يصح؟!) وعلى كل فهو قول محتمل للجمع بين الأحاديث! وقال ابن كثير: (¬2) تنبيه: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء، طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدّم مثل ذلك في حديث بدء الوحي (¬3) أنه رأى مثل ما وقع له يقظةً منامًا قلبه، ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت والإيناس! قال ابن حجر: (¬4) وقوع التعدّد في قصّة المعراج التي فيها سؤاله عن كل نبيّ، وسؤال أهل كل باب: هل بعث إليه؟ وفرض الصلوات الخمس، وغير ذلك، فإن تعدّد ذلك في اليقظة لا يتّجه، فيتعيّن ردّ بعض الروايات المختلفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه لا ¬

_ (¬1) الروض الأنف: 2: 149. (¬2) البداية: 3: 114. (¬3) سبق ذكر ذلك، وانظر: البخاري 1 - بدء الوحي (3)، ومسلم (160). (¬4) فتح الباري: 7: 198.

الشبهة الثالثة وردها

يعد في جميع وقوع ذلك في الشام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه .. ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: كان الإسراء في النوم واليقظة، ووقع بمكة والمدينة، فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم، ويكون كلامه على طريق اللفّ والنّشر غير المرتّب، فيحتمل، ويكون الإسراء الذي اتّصل به المعراج، وفرضت الصلوات فيه في اليقظة بمكة، والآخر في الشام بالمدينة! الشبهة الثالثة وردّها: جاء في رواية شريك: (وهو نائم في المسجد الحرام)، ومن ثم ذهب بعضهم إلى أن ذلك وقع في المنام! قال البغوي: (¬1) هذا الاعتراض الذي اعترض به على رواية شريك لا يصح عندي؛ لأنّ ذلك كان رؤيا في النوم أراه الله تعالى عزّ وجلّ قبل الوحي، بدليل آخو الحديث -أي حديث شريك الذي معنا- (واستيقظ وهو في مسجد الحرام) (¬2)، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي، تحقيقًا لرؤياه من قبل، كما أنه عليه الصلاة والسلام فتح مكّة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقه سنة ثمان، ونزل قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] ¬

_ (¬1) شرح الشفا: 1: 387. (¬2) في السابق: (فاستيقظ وهو بالمسجد الحرام).

قلت: سبق الردّ على قوله (قبل الوحي)، وتدفعنا ضرورة البحث إلى أن شريكًا لم ينفرد بتلك الرواية، وأن لفظ (نائم) يطلق على حال النبي -صلى الله عليه وسلم- أوّل وصول الملك إليه، كما سيأتي من قول عياض! أمّا عن عدم انفراد شريك بالرواية، فقد سبق ذكر رواية الشيخين وغيرهما عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان .. " الحديث، وتعدّدت الروايات في ذلك! وأمّا عن حال النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المقام، فقد قال عياض: وأما قولهم إنه قد سمّاها في الحديث منامًا، وقوله في حديث آخر "بين النائم واليقظان"، وقوله: "واستيقظ" (¬1) فلا حجة فيه؛ إذ قد يحتمل أن وصول الملك إليه كان وهو نائم، أو أوّل حمله والإسراء به وهو نائم، وليس في الحديث أنه كان نائمًا في القضيّة كلها، إلا ما يدلّ عليه (واستيقظ وهو في مسجد الحرام)، وفي لفظ (استيقظت) بمعنى أصبحت، واستيقظ من نوم آخر بعد وصول بيته، ويدل على أن مسراه لم يكن طول ليله! وقد يكون قوله: (واستيقظت وأنا في المسجد الحرام) لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض، وخامر باطنه من ¬

_ (¬1) في الأصل: (ثم استيقظت) وما ذكرته هو نصّ حديث شريك الذي معنا.

الشبهة الرابعة وردها

مشاهد الملأ الأعلى، وما رأى من آيات ربّه الكبرى، فلم يستفق ويرجع إلى حال البشريّة إلّا وهو بالمسجد الحرام .. أو يعبّر بالنوّم هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع، ويقوّيه قوله في رواية عبد بن حميد عن همام: (بينا أنا نائم، وربما قال مضطجع)، وفي رواية هدبة عنه: (بينا أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر مضطجع)، وقوله في الرواية الأخرى: (بين النائم واليقظان) سمّى هيئته بالنوّم، لما كانت هيئة النائم غالبًا! (¬1) الشبهة الرابعة وردّها: قال عياض: قد ذكر في أوله -أي حديث شريك- مجيء الملك له، وشق بطنه، وغسله بماء زمزم، وهو إنما كان وهو صبيّ، وقبل الوحي، (¬2) وادّعى ابن حزم وعياض أن ذلك من تخليط شريك! (¬3) قلت: وأيضًا لم ينفرد شريك بذلك، فقد سبق في رواية الشيخين وغيرهما عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن صعصعة رضي الله عنهما: " .. فأتيت بطست من ذهب ملآن حكمةً وإيمانًا، فشقّ من النحر إلى مراق البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وإيمانًا .. " الحديث. قال ابن حجر: وقد استنكر بعضهم وقوع شقّ الصدر ليلة ¬

_ (¬1) الشفا: 1: 411 - 413 بتصرف. (¬2) السابق: 387. (¬3) شرح المواهب اللدنيَّة: 6: 23.

الإسراء، وقال: إنما كان ذلك، وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواترت الروايات به، وثبت شقّ الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في (الدلائل) ولكل منهما حكمة! فالأول: وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس -كما سبق- "فاستخرج منه علقة (¬1) فقال: هذا حظ الشيطان منك"! (¬2) وكان هذا في زمن الطفوليّة، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان! ثم وقع شقّ الصدر عند البعث، زيادةً في إكرامه، ليتلقّى ما يوحى إليه بقلب قويّ في أكمل الأحوال من التطهير! ثم وقع شقّ الصدر عند إرادة العروج إلى السماء، ليتأهّب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرّة الثالثة، كما تقرّر في شرعه - صلى الله عليه وسلم -! ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شقّ صدره، وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرّر بها! وجميع ما ورد من شقّ الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له، دون التعرّض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك! ¬

_ (¬1) العلقة: الدم الغليظ، المصباح، والمعجم الوسيط (علق). (¬2) مسلم: 1 - الإيمان (162).

الشبهة الخامسة وردها

وقال القرطبي في (المفهم): لا يلتفت لإنكار الشقّ ليلة الإسراء، لأنّ رواته ثقاة مشاهير! (¬1) الشبهة الخامسة وردّها: تتعلّق بأمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد أفصح بأنّه لم يضبط منازلهم، (¬2) فقد جاء في رواية شريك: (فوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، بفضل كلام الله). بينما رواية قتادة وغيرها -كما سبق- تذكر في السماء الأولى آدم، وفي الثانية عيسى ويحيى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم! قلت: لم ينفرد شريك أيضًا في هذا، فقد سبق أن ذكرنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كان أبو ذرّ يحدّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فرج سقف بيني، وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري .. " إلى أن قال: قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، صلوات الله عليهم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة .. الحديث! ¬

_ (¬1) فتح الباري 7: 204 - 205، وانظر: شرح المواهب اللدنيَّة: 6: 25. (¬2) انظر: فتح الباري: 13: 485.

وبهذا نتبيّن أن رواية الشيخين هذه قد وافقت رواية شريك في أن إبراهيم في السماء السادسة .. بينما هو -كما سبق- في السابعة! وفي رواية للنسائي (¬1) عن يزيد بن أبي مالك، عن أنس بن مالك .. وفيه: " .. ثم صعد بي إلى السماء الدنيا، فإذا فيها آدم عليه السلام، ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فإذا فيها يوسف عليه السلام، تم صعد بي إلى السماء الرابعة، فإذا فيها هارون عليه السلام، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فإذا فيها إدريس عليه السلام، ثم صعد بي إلى السماء السادسة، فإذا فيها موسى عليه السلام، ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فإذا فيها إبراهيم عليه السلام، ثم صعد بي فوق سبع سماوات، فأتينا سدرة المنتهى .. " الحديث. قال النوويّ: فإن كان الإسراء مرّتين فلا إشكال فيه، ويكون في كل مرّة وجده في سماء، وإحداهما موضع استقراره ووطنه، والأخرى كان فيها غير مستوطن، وإن كان الإسراء مرّة واحدة فلعلّه وجده في السادسة، ثم ارتقى إبراهيم أيضًا إلى السابعة! (¬2) وقال ابن حجر: فمع التعددّ لا إشكال، ومع الاتحاد فقد جمع بأن ¬

_ (¬1) النسائيّ: 1: 221 - 222. (¬2) مسلم بشرح النوويّ: 2: 219 - 220.

الشبهة السادسة وردها

موسى كان في حالة العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة، على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط كان موسى في السابعة؛ لأنه لم يذكر في القصة أن إبراهيم كلّمه في شيء مما يتعلّق بما فرض الله على أمّته من الصلاة، كما كلّمه موسى، والسماء السابعة هي أوّل شيء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها، لأنه هو الذي خاطبه في ذلك، كما ثبت في جميع الروايات، ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة، فأصعد معه إلى السابعة، تفضيلًا له على غيره، من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع المصطفى فيما يتعلّق بأمر أمّته في الصلاة (¬1). الشبهة السادسة وردّها: وجاء في رواية شريك: (ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى). قال ابن حجر: كذا وقع في رواية شريك، وهو ممّا خالف فيه غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة! (¬2) قلت: لم ينفرد شريك أيضًا بهذه الرواية، ففي رواية الشيخين ¬

_ (¬1) فتح الباري: 13: 482. (¬2) السابق: 483.

وغيرهما -كما سبق- عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة: " .. ورفعت إلى سدرة المنتهى .. " الحديث! وفي رواية لهما -أيضًا كما سبق- عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك: " .. ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى .. " الحديث. وفي رواية يزيد التي سبق ذكرها عن أنس: " .. ثم صعد بي فوق سبع سماوات، فأتينا سدرة المنتهى .. " الحديث! قلت: وهذا صريح في كون سدرة المنتهى فوق سبع سماوات، ومع هذا فقد روى مسلم وغيره من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (لمّا أُسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتُهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرُجُ به من الأرض، فيُقبض منها، وإليها ينتهي ما يُهبط به من فوقها، فيقبض منها، قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 16]! ..) الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) مسلم: 1 - الإيمان (173)، وأحمد: 1: 387، 423، وأبو يعلى (5303)، وابن أبي شيبة: 11: 460، والنسائيُّ: 1: 223 - 224، والكبرى (315)، والطبري: التفسير: 27: 52، 55، والبيهقي: الدلائل: 5: 474، والترمذي (3276).

قال ابن حجر: (¬1) ولعلّ في السياق تقديمًا وتأخيرًا؛ وكان ذكر سدرة المنتهى قبل، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله! ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد بما تضمّنته هذه الرواية من العلوّ البالغ لسدرة المنتهى صفة أعلاها، وما تقدّم صفة أصلها! وقال: (¬2) ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلت عليه بقيّة الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة؛ لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها! وقال القاري: (¬3) يمكن الجمع بأن مبدأها في الأرض، ومعظمها في السماء السادسة، وانتهاءها ومحلّ أثمارها، وغشيان أنوارها، في السماء السابعة، ويؤيّده قوله (إليها) أي إلى السدرة (ينتهي ما يعرج به من الأرض) بصيغة المجهول، وكذا قوله (فيقبض منها) أي تقبضه الملائكة الموكلون فيها بأخذ ما صعد به من الأعمال، والأرواح إليها (وإليها ينتهي ما يهبط) أي ينزل (من فوقها فيقبض منها) أي فيقبض من أذن له، وإيصاله إلى من قضي له به! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 13: 483. (¬2) السابق: 7: 213. (¬3) شرح الشفا: 1: 393.

الشبهة السابعة وردها

الشبهة السابعة وردّها: وجاء في الرواية أيضًا: (فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، فقال: (ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذان النّيل والفرات عنصرهما). قال ابن حجر: (¬1) وظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة -أي الذي سبق ذكره- فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى (فإذا في أصلها أربعة أنهار) ويجمع بأن أصل نبعها من تحت سدرة المنتهى، ومقرّها في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض! وقال أيضًا: (¬2) والجمع بينهما هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما لسماء الدنيا، كما قال ابن دحية! قال النوويّ (¬3)، والمراد من أصل سدرة المنتهى، كما جاء مبيّنًا في صحيح البخاري وغيره، قال مقاتل: الباطنان هما السلسبيل والكوثر، قال عياض: هذا الحديث يدلّ على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لخروج النيّل والفرات من أصلها، وقال النوويّ: هذا الذي قاله ليس بلازم، بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها، ثم تسير حيث أراد الله ¬

_ (¬1) فتح الباري: 13: 482. (¬2) السابق: 7: 214. (¬3) مسلم بشرح النووي: 2: 224 - 225.

الشبهة الثامنة وردها

تعالى، حتى تخرج من الأرض، وتسير فيها، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع، وهو ظاهر الحديث، فوجب المصير إليه! وقال الأبيّ: (¬1) ووجه الجمع أن يكون أصلها في السماء، وأنزل من أصلها إلى الأرض النيل والفرات! الشبهة الثامنة وردّها: وجاء قوله: (ودنا الجبّار، ربُّ العزّة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى) قال الخطابي (¬2): ليس في هذا الكتاب -يعني صحيح البخاري- حديث أشنع ظاهرًا، ولا أشنع مذاقًا من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا إلى ما في التدلّي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلّق من فوق إلى أسفل، قال: فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعًا عن غيره، ولم يعتبره بأول القصّة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه إمّا رد الحديث من أصله، وإمّا الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما! وأمّا من اعتبر أوّل الحديث بآخره فإنه يزول عنه الإشكال، فإنه مصرّح فيهما بأنّه كان رؤيا لقوله في أوله (وهو نائم) وفي آخره (استيقظ)، وبعض الرؤيا مثل يضرب ليتأوّل على الوجه الذي يجب أن ¬

_ (¬1) إكمال إكمال المعلم: 1: 318. (¬2) فتح الباري: 13: 483 - 484 بتصرف.

يصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة! ثم قال الخطابي مشيرًا إلى رفع الحديث من أصله بأن القصّة بطولها إنما هي حكايته يحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يعزها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا نقلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي إمّا عن أنس، وإمّا من شريك، فإنه كثير التفرّد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة .. وقال: إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلّي للجبّار عزّ وجلّ مخالف لعامّة السلف، والعلماء، وأهل التفسير، ومن تقدّم منهم ومن تأخّر .. قال: والذي قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه دنا جبريل من محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فتدلّى، أي تقرّب منه، وقيل: هو على التقديم والتأخير: أي تدلّى فدنا؛ لأنّ التدلّي بسبب الدنو. الثاني: تدلّى له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع، حتى رآه متدلّيًا، كما رآه مرتفعًا، وذلك من آيات الله، حيث أقدره على أن يتدلّى في الهواء من غير اعتماد على شيء، ولا تمسّك بشيء. الثالث: دنا جبريل، فتدلّى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا لربّه تعالى، شاكرًا على ما أعطاه.

قال: وقد روي هذا الحديث عن أنس من غير طريق شريك، فلم يذكر هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوّي الظنّ أنها صادرة من جهة شريك! قال ابن حجر: وما نفاه من أن أنسًا لم يسند هذه القصة إلى النبي لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابي، فإمّا أن يكون تلقّاها عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو عن صحابي تلقاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي، فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلًا، وهو خلاف عمل المحدّثين قاطبةً، فالتعليل بذلك مردود .. قال: وقد أخرج الأموي في مغازيه من طريق البيهقي، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}! [النجم] قال: دنا منه ربه، وهذا سند حسن، وهو شاهد قويّ لرواية شريك! وقال: وأمّا ما جزم به من مخالفة السلف والخلف لرواية شريك عن أنس في التدلّي ففيه نظر، فقد ذكرت من وافقه، وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: (دنا الله سبحانه وتعالى)! (¬1) ثم قال وقد أزال العلماء إشكاله، فقال القاضي عياض: إضافة ¬

_ (¬1) السابق: 484، وانظر: الدر المنثور: 6: 123، والبيهقيُّ: الدلائل: 2: 130، 132، ففيه متابع آخر لرواية شريك!.

الدنوّ والقرب إلى الله تعالى أو من الله، ليس دنوّ مكان، ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إبانة لعظيم منزلته، وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ تأنيس لنبيّه وإكرام له، ويتأوّلُ فيه ما قالوه فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له؛ ومن يسألني فأعطيَه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟ " (¬1). وفي رواية: "ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدّنيا كلّ ليلة، حين يمضي ثلث الليل الأوّل، فيقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأُعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر". وفي رواية: "إذا مضى شطرُ الليل أو ثلثاه، ينزل الله جلّ وعلا، إلى سماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني أستجيب له؟ ¬

_ (¬1) البخاري: 19 - التهجد (1145)، وانظر (6321، 7494)، ومسلم (758)، ومالك: 15 - القرآن (30)، وأحمد: 2: 267، 282، 419، 433، والترمذي (446)، والدارمي (1487)، وأبو داود (1315، 4733)، وابن ماجه (1366)، وابن أبي عاصم: السنة (492)، وابن حبّان (920).

من ذا الذي يسترزقني أرزقه؟ من ذا الذي يستغفرني أغفر له؟ حتى ينفجر الصبح". وفي رواية: "ينزل الله عزّ وجلّ حين يبقى ثلث الليل الآخر". قال الترمذي: وقد رُوي هذا الحديث من أوجه كثيرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-! وقال: وفي الباب عن عليّ بن أبي طالب، وأبي سعيد، ورفاعة الجهني، وجبير بن مطعم، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وعثمان بن أبي العاص! والأحاديث في هذا كثيرة، وعليه فإذا كان كل حديث متشابه يردّ فإن تلك الأحاديث تردّه، وهذا أمر مردود! وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: (دنا الله سبحانه وتعالى) قال: والمعنى دنا أمره وحكمه، وأصل التدلّي النزول إلى الشيء، حتى يقرب منه، قال: وقيل تدلّى الرفرف لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس عليه، ثم دنا من ربّه، وقيل: الدنوّ مجاز عن القرب المعنوي، لإظهار عظيم منزلته عند ربّه تعالى، والتدلّي: طلب زيادة القرب، وقاب قوسين بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عبارة عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة، وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله، ورفع درجته! (¬1) ¬

_ (¬1) فتح الباري: 13: 484.

رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة المعراج

وقال السهيلي: وأمّا الدنوّ والتدلّي فهما خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن بعض المفسّرين، وقيل: إن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام، تدلّى إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، حتى دنا منه، وهذا قول طائفة أيضًا، وفي الجامع الصحيح في إحدى الروايات منه (فتدلّى الجبّار)، وهذا مع صحة نقله، لا يكاد أحد من المفسّرين يذكره، لاستحالة ظاهره، أو للغفلة عن موضعه ولا استحالة فيه؛ لأنّ حديث الإسراء إن كان رؤيا رآها بقلبه، وعينه نائمة كما في حديث أنس فلا إشكال .. ثم قال: وقد بيّنا آنفًا أن حديث الإسراء كان رؤيا، ثم كان يقظة، فإن كان قوله: (فتدلّى الجبار) في المرّة التي كان فيها غير نائم، وكان الإسراء بجسده فيقال فيه من التأويل ما يقال في قوله: "ينزل ربنا .. " الحديث، فليس بأبعد منه في باب التأويل، فلا نكارة فيه، كان في نوم أو يقظة! (¬1) رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربّه ليلة المعراج: وهنا تدفعنا منهجيّة البحث إلى بيان موقف العلماء من رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربّه ليلة المعراج: هل حصلت للنبي-صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ ¬

_ (¬1) الروض الأنف: 2: 156 بتصرف.

القول الأول

ثلاثة أقوال: وفي هذا ثلاثة أقوال: القول الأوّل: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ربّه ليلة المعراج، وقد روي -كما يقول عياض- (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه، ومثله عن أبي ذر، وكعب رضي الله عنهما، والحسن رحمه الله، وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأحمد بن حنبل، وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه! ووقف بعض مشايخنا في هذا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة، وسؤال موسى إيّاها دليل على جوازها، إذ لا يجهل نبيّ ما يجوز أو يمتنع على ربّه! وقد اختلفوا في رؤية موسى ربّه في مقتضى الآية ورؤية الجبل، ففي جواب القاضي أبي بكر ما يقتضي أنهما رأياه! وكذلك اختلفوا في أن نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كلّم ربّه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟! فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلّمين أنه كلّمه، وعزا بعضهم هذا إلى جعفر بن محمَّد، وابن مسعود، وابن عباس! ¬

_ (¬1) مسلم بشرح النوويّ: 3: 4 - 5، بتصرف، وانظر: إكمال إكمال المعلم: 1: 326 - 327.

وكذلك اختلفوا في قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم]! فالأكثرون على أن هذا الدنوّ والتدلّي منقسم ما بين جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو مختصّ بأحدهما من الآخر، ومن السدرة المنتهى! وذكر عن ابن عباس، والحسن، ومحمد بن كعب، وجعفر بن محمَّد، وغيرهم: أنه دنوّ من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ربّه سبحانه وتعالى، أو من الله تعالى! وعلى هذا القول يكون الدنوّ والتدلّي متأوّلًا، ليس على وجهه، بل كما قال جعفر بن محمَّد، الدنوّ من الله تعالى لا حدّ له، ومن العباد بالحدود، فيكون معنى دنوّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ربّه سبحانه وتعالى، وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته عليه، وإطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته، على ما لم يطلع سواه عليه! والدنوّ من الله سبحانه له إظهار ذلك له، وعظيم بره وفضله العظيم لديه، ويكون قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]! على هذا عن لطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ومن الله إجابة الرغبة، وإبانة المنزلة، ويتأوّل في ذلك ما يتأوّل في قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن

أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإن تقرّب إليّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" (¬1). قال النوويّ: وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة وإن كانت كثيرة، ولكنا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أتعجبون أن تكون الخلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -! وعن عكرمة، سئل ابن عباس رضي الله عنهما: هل رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربّه؟ قال: نعم، وقد روي بإسناد لا بأس به، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه -: رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه! وكان الحسن يحلف: لقد رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربّه! ¬

_ (¬1) البخاري: 97 - التوحيد (7405)، وانظر (7505، 7537)، وخلق أفعال العباد (55)، ومسلم (2675)، وأحمد: 2: 251، 413، 480، 516، 517، 524، 534، والترمذي (3603)، وابن ماجه (3822)، والنسائيّ: الكبرى (7730)، وابن خزيمة: التوحيد: 6، 7، وابن حبّان (811، 812)، وأبو نعيم: الحلية: 9: 26 - 27، والبغويّ (1251).

القول الثاني

والأصل في الباب حديث ابن عباس، حبر الأمة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر رضي الله عنهم في هذه المسألة وراسله: هل رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربّه! فأخبره أنه رآه! وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها؛ فإنها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد. قال النوويّ: فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى ربّه بعيني رأسه ليلة الإسراء، لحديث ابن عباس وغيره مما تقدّم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه! القول الثاني: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربّه، فقد أنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها، وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدّثين والمتكلّمين! يروي الشيخان وغيرهما عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه! هل رأى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ربّه؟ فقالت: لقد قفّ (¬1) شعري مما قلت: أين أنت من ثلاث من حدّثكهن فقد كذب: ¬

_ (¬1) أي قام من الفزع، لما حصل عندهما من هيبة الله، واعتقدته من تنزيهه، واستحالة وقوع ذلك، =

من حدّث أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربّه فقد كذب، ثم قرأت: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام]! {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى]! ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]! ومن حدّثك أنه كتم فقد كذب، تم قرأت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]! ولكن رأى جيريل عليه السلام في صورته مرّتين! (¬1) ¬

_ = قال النضر بن شميل: القفّ -بفتح القاف وتشديد الفاء، كالقشعريرة، وأصله (القبض) والاجتماع؛ لأنّ الجلد ينقبض عند الفزع، فيقوم الشعر لذلك: فتح الباري: 8: 607 وما بين القوسين هكذا في الفتح، وصوابه (التقبّض) و (يتقبّض) كما في مقاييس اللغة، والمعجم الوسيط، ولعل ما في الفتح يرجعه إلى الخطأ الطباعي! (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4855)، ومسلم (177)، وانظر: إسحاق بن راهويه: (1421، 1422، 1439)، وأحمد: 6: 236، 241، والترمذي (3068)، وأبو يعلى (4900، 4901)، والطبري: التفسير: 27: 50، 51، وابن خزيمة: التوحيد: 222، 223، 224، 225، وأبو عوانة: 1: 153، 154، 155، والطحاوي: شرح المشكل (5599، 5600)، وابن حبّان (60)، وابن منده (763، 764، 765، 767، 768)، والبيهقيّ: الأسماء والصفات: 2: 180، 181.

وفي رواية عن الشيباني قال: سألت زِرًّا عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم]! قال: أخبرنا عبد الله أنه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من رأى جبريل له ستمائة جناح! (¬1) قال ابن حجر: (¬2) والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة، والتقدير على رأيه {فَأَوْحَى} أي جبريل: {إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله محمَّد؛ لأنه يرى أن الذي دنا فتدلّى هو جبريل، وأنه هو الذي أوحى إلى محمَّد! وكلام أكثر المفسّرين من السلف يدلّ على أن الذي أوحى هو الله، أوحى إلى عبده محمَّد! ومنهم من قال: إلى جبريل! وفي رواية عن أبي هريرة في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم] قال: رأى جبريل (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري: 65 - التفسير (4857)، ومسلم (174). (¬2) فتح الباري: 8: 610 - 611. (¬3) مسلم (175).

قال ابن القيم: (¬1) وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} فهو غير الدنوّ والتدلّي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو جبريل وتدلّيه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدلّ عليه، فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم]! فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوي، وهو الذي دنا فتدلّى، فكان من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قدر قوسين أو أدنى! بين القولين: قال النوويّ عقب ذكره أدلة القول الأوّل: (¬2) ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنّ عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: لم أر ربّي، وإنما ذكرت متأوّلة لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]! ولقول الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]! ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 31: 38. (¬2) النوويّ على مسلم: 3: 5.

والصحابي إذا قال قولًا، وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة! وذكر ابن حجر تعليقًا على قول النوويّ: وجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه ابن خزيمة (¬1)، فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه: النفي لا يوجب علمًا، ولم تحلّ عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرها أنه لم ير ربّه، وإنما تأوّلت الآية. قال ابن حجر: وهو عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي، عن مسروق في الطريق المذكور قال مسروق: وكنت متكئًا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} فقالت: أنا أوّل هذه الأمة سأل رسول الله عن ذلك، فقال: "إنما هو جبريل". وأخرجه ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بهذا الإسناد، فقالت: أنا أول من سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذا، فقلت: يا رسول الله! هل رأيت ربّك؟ فقال: "لا، إنما رأيت جبريل منهبطًا"! نعم، احتجاج عائشة بالآية المذكورة خالفها فيه ابن عباس، فأخرج الترمذي من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: (¬2) رأى محمَّد ربّه. ¬

_ (¬1) فتح الباري: 8: 607 - 608. (¬2) انظر: الترمذي (3279)، (3278 - 3280)،

قلت: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]! قال: ويحك، ذاك إذا تجلّى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربّه مرتين! قال ابن حجر: وحاصله أن الراد بالآية نفي الإحاطة به عند رؤياه، لا نفي أصل رؤياه! واستدل القرطبي في (المفهم) لأنّ الإدراك لا ينافي الرؤية بقوله تعالى حكايته عن أصحاب موسى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} [الشعراء]! وهو استدلال عجيب؛ لأنّ متعلق الإدراك في آية الأنعام البصر، فلما نفى كان ظاهره نفي الرؤية، بخلاف الإدراك الذي في قصّة موسى، ولولا وجود الإخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن الظاهر! ثم قال القرطبي: الأبصار في الآية جمع محلّى بالألف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعًا في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين]. فيكون المراد الكفّار، بدليل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة]!

قال: وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي! قال ابن حجر: وهو استدلال جيّد! وقال عياض: رؤية الله سبحانه وتعالى جائزة عقلًا، وثبتت الأخبار الصحيحة المشهورة بوقوعها للمؤمنين في الآخرة، وأمّا في الدنيا، فقال مالك: إنما لم يُر سبحانه في الدنيا لأنه باق، والباقي لا يرى بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارًا باقيةً رأوا الباقي بالباقي! قال عياض: وليس في هذا الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة، فإذا قدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع! قال ابن حجر: لكن من أثبتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- له أن يقول: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه! ثم قال: يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب، ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بالله على الدّوام، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما يخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلًا، ولو جرت العادة بخلقها في العين، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي عن أنس قال:

وعند مسلم من حديث أبي ذر أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال: "نور أنّى أراه" (¬1). وفي رواية لأحمد عنه قال: "رأيت نورًا". وقال ابن كثير في قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} [النجم]! معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمَّد ما أوحى، أو فأوحى الله إلى عبده ما أوحى بواسطة جبريل، وكلا المعنيين صحيح! (¬2) قلت: سبق في رواية ثابت عن أنس بن مالك: "فأوحى الله إليّ ما أوحى .. " وهو صريح في هذا، اللهم إلا أن يقال: لأنّ الإيحاء الوارد في هذه الرواية كان في ليلة الإسراء، بدليل نصّ هذا الحديث، فهو في الإسراء والمعراج، والإيحاء الآخر الذي سبق ذكره في بدء الدعوة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد أسري به! وفي هذا يقول ابن القيمّ بعد أن ذكر أن الدنوّ والتدلّي في سورة النجم غيره في قصة الإسراء: فأمّا الدنوّ والتدلّي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنوّ الربّ تبارك وتدلّيه، ولا تعرّض في سورة النجم بذلك، بل فيها أنه ¬

_ (¬1) مسلم (178). (¬2) تفسير ابن كثير: 4: 249.

رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على صورته مرّتين: مرّة في الأرض، ومرّة عند سدرة المنتهى! (¬1) ويقول القسطلاني: وهذا الدنوّ والتدلّي المذكور في هذا الحديث وغيره من أحاديث المعراج غير الدنوّ والتدلّي المذكور في قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} [النجم: 8، 9]! وإن اتفقا في اللفظ، فإن الصحيح أن المراد في الآية جبريل؛ لأنه الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} هكذا فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح -الذي سبق ذكره- ثم دلّل على ذلك! (¬2) ويقول ابن كثير: فأمّا قول شريك عن أنس في حديث الإسراء: (ودنا الجبّار ربّ العزّة، فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث .. وإن كان محفوظًا فليس بتفسير للآية الكريمة، بل هو شيء آخر، غير ما دلّت عليه الآية الكريمة! (¬3) ¬

_ (¬1) زاد المعاد: 3: 38. (¬2) المواهب اللدنيِّة: 6: 98. (¬3) البداية: 3: 112.

القول الثالث

القول الثالث: أمّا القول الثالث فهو التوقّف في هذه المسألة، وقد رجّحه القرطبي في (المفهم)، وعزاه لجماعة من المحقّقين، وقوّاه بأنّه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدلّ به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل قال: وليست المسألة من العمليات، فيكتفي فيها بالأدلة الظنّيّة، وإنما هي من المعتقدات، فلا يكتفي فيها إلا بالدّليل القطعي! (¬1) الراجح من الأقوال: وبعد هذا التطواف أرجح إثبات الرؤية، لأدلة المثبتين من جهة، ولما سبق في (بين القولين) من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة لما أخرجه البخاري (¬2) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]! قال: هي رؤيا عين أُريها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أُسري به إلى بيت المقدس. قال: والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم! قال ابن حجر: إضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن فقال: ¬

_ (¬1) فتح الباري: 8: 608. (¬2) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3888)، وانظر (4716 - 6613).

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)}! ورؤيا العين فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)}! وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس، قال: (رأى محمَّد ربّه مرتين)! ومن وجه آخر قال: (نظر محمَّد إلى ربه)! جعل الكلام لموسى، والخلّة لإبراهيم، والنظر لمحمد! فإذا تقرّر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤية العين المذكورة جميع ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة من الأشياء التي تقدّم ذكرها" (¬1) وفي رواية للحاكم بسند صحيح عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أتعجبون أن تكون الخلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -! (¬2) قال ابن حجر (¬3): وجنح ابن خزيمة في (كتاب التوحيد) إلى ترجيح الإثبات، وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره، وحمل ما ورد عن ابن عباس على أن الرؤيا وقعت مرّتين، مرّة بعينه، ومرّة ¬

_ (¬1) فتح الباري: 7: 218. (¬2) المستدرك: 1: 65، وقال: على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. (¬3) فتح الباري: 8: 608.

الشبهة التاسعة وردها

بقلبه، وفيما أوردته من ذلك مقنع، وممن أثبت الرؤيا لنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - الإمام أحمد، فروى الخلال في (كتاب السنة) عن المروزي، قلت لأحمد: إنهم يقولون: إن عائشة قالت: من زعم أن محمدًا رأى ربّه فقد أعظم على الله الفرية، فبأيّ شيء يدفع قولها؟ قال: بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت ربِّي"، قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أكبر من قولها (¬1). الشبهة التاسعة وردّها: وقد جاء في رواية شريك: (فعلا به الجبّار فقال: وهو مكانه: يا ربّ! خفّف عنّا). قال الخطابي: (¬2) وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرّد بها شريك أيضًا، لم يذكرها غيره، وهي قوله: (فعلا به -يعني جبريل- إلى الجبّار تعالى، فقال وهو مكانه: يا ربّ! خفّف عنا). قال: والمكان لا يضاف إلى الله تعالى! إنما هو مكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقامه الأوّل الذي قام به قبل هبوطه! قال ابن حجر: وهذا الأخير متعيّن، وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى! قلت: واضح أن القائل هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الضمير المذكور (هو) ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 285 عن ابن عباس بلفظ: "رأيت ربّي تبارك وتعالى"، ورجاله رجال الصحيح، وانظر: مجمع الزوائد: 1: 78، وأحمد: 4: 350 وما بعدها (2580). (¬2) فتح الباري: 13: 484.

الشبهة العاشرة وردها

معطوف على الضمير في (قال)، ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي سأل ربّه التخفيف، وعليه يتعيّن ما قاله ابن حجر، وينتفي الإشكال! الشبهة العاشرة وردّها: وجاء في شريك: (ارجع إلى ربّك فليخفّف ..) بعد قوله تعالى: (إنه لا يبدلّ القول لديّ ..). قال ابن حجر: (¬1) أنكر ذلك الداودي فيما نقله ابن التين فقال: الرجوع الأخير ليس بثابت، والذي في الروايات أنه قال: "استحييت من ربّي فنودي أمضيت فريضتي، وخفّفت عن عبادي". وقوله هنا: (فقال موسى: ارجع إلى ربك) قال الداودي: كذا وقع في هذه الرواية أن موسى قال له: ارجع إلى ربّك بعد أن قال: (لا يبدّل القول لديّ) ولا يثبت، لتواطؤ الروايات على خلافه، وما كان موسى ليأمره بالرجوع بعد أن يقول الله تعالى له ذلك! قلت: سبق في رواية ابن شهاب عن أنس عن أبي ذر "لا يبدّل القول لديّ، فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك، فقلت: استحييت من ربّي .. ". وبهذا يتبيّن أن قول الداودي: (ولا يثبت لتواطؤ الروايات على خلافه) قد ثبت في هذه الرواية ما يردّه! ¬

_ (¬1) السابق: 486.

بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام

وفي رواية للنسائي عن يزيد بن أبي مالك عن أنس: (فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإنه فرض علي بن بني إسرائيل صلاتين، فما قاموا بهما، فرجعت إلى ربي عَزَّ وَجَلَّ فسألته التخفيف، فقال: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمّتك خمسين صلاة، فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمّتك، فعرفت أنها من الله تعالى صرّي، فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال: ارجع، فعرفت أنها من الله صرّى -أي حتم- فلم أرجع! (¬1) وهذا يردّ قول الداودي أيضًا! (¬2) بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام: وأمّا عن الحكمة فيما جرى بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، حيث جاء في رواية البخاري عن قتادة عن أنس بن مالك عن صعصعة: "فلمّا خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه، فردّ ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والشعبي الصالح، فلمّا ¬

_ (¬1) النسائيُّ: 1: 221 - 223 وفيه صرّى -بكسر الصاد المهملة وفتح الراء المشدّدة، آخرها ألف مقصورة- أي عزيمة باقية لا تقبل النسخ، قال في النهاية: أي حتم واجبة وعزيمة وجد، وقيل: هي مشتقة من صر: إذا قطع، وقيل: هي مشتقة من أصررت الشيء: إذا لزمته، فإن كان من هذا فهو بالصاد والراء المشدّدة، وقال أبو موسى: إنه صرّي بوزن جنّي، وصري العزم: أي ثابتة ومستقرّة، وقال ابن فارس: الإصرار: الثبات على الشيء والعزم عليه، يقال: هذا يمين صري: أي جد: انظر معجم مقاييس اللغة. (¬2) انظر: فتح الباري: 1: 462 - 463، وأضواء على أحاديث الإسراء والمعراج: 73.

تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنّ غلامًا بُعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممن يدخُلها من أمّتي ... ". وفي رواية شريك: (فقال موسى: ربّ لم أظنّ أن ترفع عليّ أحدًا ..)! قال ابن حجر: وفي حديث أبي سعيد (قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكرم على الله، وهذا أكرم على الله منّي)! زاد الأموي في روايته: (ولو كان هذا وحده وإن عليّ، ولكن معه أمّته، وهم أفضل عند الله)! قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى؛ بل كان أسفًا على ما فاته من الأجر الذي يترتّب عليه رفع الدرجة، بسبب ما وقع من أمّته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره؛ لأنّ لكل نبيّ مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمّته في العدد دون من أَتبع نبيّنا - صلى الله عليه وسلم -، مع طول مدّتهم بالنسبة لهذه الأمة! وأمّا قوله (غلامًا) فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذا أعطى لمن كان في ذلك السنّ ما لم يعطه أحدًا قبله ممن هو أسنّ منه! وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمّة من أمر الصلاة ما لم يقع

لغيره. ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كان موسى أشدّهم عليّ، حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت إليه". وفي حديث أبي سعيد: "فأقبلت راجعًا، فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك؟ .. " الحديث. قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمةً لأمّته! وأمّا قوله (هذا الغلام) فأشار إلى صغر سنّه بالنسبة إليه! قال الخطّابي: العرب تسمّي الرجل المستجمع السنّ غلامًا، ما دامت فيه بقيّة من القوّة! قال ابن حجر: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبيّنا عليه الصلاة والسلام من استمرار القوّة في الكهوليّة، وإلى أن دخل في سنّ الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعترى قوّته نقص .. ! وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أمر الصلاة، لعلّها لكون أمّة موسى كلّفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمّة محمَّد من مثل ذلك، ويشير إلى ذلك قوله: (إني قد جرّبت الناس قبلك)!

وقال غيره: لعلّها من جهة أنه ليس في الأتباع من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة، فناسب أن يتمنّى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه، من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له، وينصحه فيما يتعلّق به، ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظّ أمته بالنسبة لأمّة محمَّد، حتى تمنّى ما تمنّى أن يكون، استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم، والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء! وذكر السهيلي: (¬1) أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم .. ! قال ابن حجر: (¬2) وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة من مراعاة جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمسك عن جميع ما وقع له، حتى فارقه النبي -صلى الله عليه وسلم- أدبًا معه، وحسن عشرة، فلمّا فارقه بكى وقال ما قال! تلك أضواء على ردود تلك الشبهات وفق قواعد التحديث رواية ودراية .. رجاء أن يعلم من يريد أن يعلم .. وبخاصة الذين يدرسون سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للتأسّي: أن المحدّثين كانوا ملهمين، تحقيقًا لمعجزة ¬

_ (¬1) انظر: الروض الأنف: 2: 162. (¬2) فتح الباري: 7: 212.

سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، حين استنبطوا القواعد المحكمة لنقد رواية الحديث، ومعرفة الصحاح من الزّياف، وأنهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين، وأنهم كانوا جادّين وعلى صراط مستقيم، وأن القواعد التي ارتضوها رواية ودراية أحكم القواعد وأدقّها!

مكانة المسجد الحرام

مكانة المسجد الحرام

مكانة المسجد الحرام * أول بيت للعبادة. * دين السلام. * ليلة القدر يكتنفها السلام. * أخوّة إنسانيّة. * الأسرة قاعدة الحياة البشرية. * أساس السلام. * {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. * أخص خصائص التحرّر الإنساني. * حرية الدعوة. * إدراك العجز إدراك. * مكانة المسؤوليّة. * سلام عالمي. * ملّة إبراهيم. * سؤال الأمن يوم الخوف. * الأمن عبر التاريخ. * {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}. * {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. * حقوق الإنسان. * دعوة إبراهيم.

أول بيت للعبادة

مكانة المسجد الحرام أول بيت للعبادة: وإذا كان الإسراء والمعراج آية من آيات الله، ونقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر -كما عرفنا- ورحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقيدة التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمَّد خاتم النبيين صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين .. وتربط الأماكن المقدّسة لرسالات التوحيد جميعًا .. رجاء أن نبصر إعلان وراثة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - لمقدّسات الرسل قبله .. واشتمال رسالته على هذه المقدّسات .. وارتباط رسالته بها جميعًا .. فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان .. وتشمل آمادًا وآفاقًا أوسع من الزمان والمكان .. وتتضمّن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى! ويطالعنا قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} [آل عمران]! وهنا نبصر أول بيت عبر التاريخ (¬1) وضع في الأرض للعبادة، وخصّص لها، منذ أمَر الله إبراهيم عليه السلام أن يرفع قواعده، وأن يخصّصه للطائفين والعاكفين والرّكع السجود، وجعله مباركًا وجعله هُدى للعالمين، يجدون عنده ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 434 وما بعدها بتصرف.

الهُدى في رحاب ملة إبراهيم، وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم .. وقبل ذلك يطالعنا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)} [آل عمران]! ونبصر أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ليكون مثابةً للناس وأمنًا، وليكون للمؤمنين قبلةً ومصلّى .. ومن ثم يجيء الأمر باتباع إبراهيم في ملّته، وهي التوحيد الخالص المبرّأ من الشرك في كل صوره: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}! واليهود كانوا يزعمون أنهم ورثة إبراهيم، فها هو ذا القرآن الكريم يدلّهم على حقيقة دين إبراهيم، وأنه الميل عن كل شرك، ويؤكّد هذه الحقيقة مرّتين: مرّة بأنّه كان حنيفًا! ومرّة بأنّه ما كان من المشركين! فما بالهم هم غير مقرّين! ثم يقرّر أن الاتجاه للكعبة هو الأصل، فهي أول بيت وضع في الأرض للعبادة وخصّص لها .. ومن دخله كان آمنًا، وحتى في جاهليّة العرب، وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن التوحيد الخالص الذي يمثّله هذا الدّين .. حتى في هذه الفترة بقيت حرمة هذا البيت سارية، كما قال الحسن البصري وغيره: (كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة، ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول، فلا يهيجه حتى يخرج)!

دين السلام

دين السلام: وما أحوجنا كأمّة أن نفقه عظمة هذا (الدّين القيّم) في ذوات أنفسنا، وفي الصغير والكبير من أمورنا، وأن نستسلم الاستسلام الذي لا تبقى معه بقيّة ناشزة من تصوّر أو شعور، ومن نيّة أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله، ولا ترضى بحكمه .. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنّة الراضحة .. الاستسلام للمنهج الذي يقول خطانا، ونحق واثقون أنه يريد بنا الخير والنصح والرشاد .. مطمئنّون إلى معالم الطريق والمسير والصير، في الدنيا والآخرة سواء! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة]! إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان بهذا الوصف المحبّب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم إلى أن يدخلوا في السلم كافة (¬1) .. ونبصر نفوسًا ما تزال يثور فيها بعض التردّد في الطاعة المطلقة في السرّ والعلن .. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة مدى الحاجة إلى توجيه الدعوة للذين آمنوا، ليخلصوا ويتجرّدوا، وتتوافق خطرات نفوسهم، واتجاهات مشاعرهم، مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير ما تلجلج ولا تردّد ولا تلفّت! والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وسلام، ¬

_ (¬1) السابق: 1: 206 وما بعدها بتصرف، وكتابنا: الإِسلام دين السلام العالمي وحاجة الإنسانية إليه: مقدمة.

وأمن وأمان .. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضي واستقرار .. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال! سلام مع النفس والضمير! وسلام مع العقل والمنطق! وسلام مع الناس والأحياء! وسلام مع الوجود كله! وسلام يرفّ في حنايا السريرة! ويظلّل الحياة والأحياء على سواء! وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحّة تصوّره لله عزّ وجلّ، ونصاعة هذا التصوّر ويسره! إله واحد جلّ شأنه يتجه إليه المسلم .. وجهة واحدة يستقرّ عليها جَنَانه، فلا تتفرّق به السبل، ولا تتعدّد به الجهات، ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك -كما في الوثنيّة والجاهليّة قديمًا وحديثًا عبر التاريخ- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح! إله واحد قويّ قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوّة الحقّة الوحيدة في هذا الوجود، وقد أمن كل قوّة زائفة، واطمأن واستراح .. ولم يعد يخاف أحدًا أو يخشى شيئًا، وهو يعبد الله القويّ القادر العزيز القاهر .. ومن ثم لم يخشَ فوت شيء! إله واحد عادل حكيم، فقوّته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من

الهوى، وضمان من البخس ومن ثم يأوي المسلم إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والأمان! إله واحد رحيم ودود، منعم وهّاب، غافر الذنب، وقابل التوب، يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السوء .. فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب! وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربّه التي يعرفه بها الإِسلام، فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن له الحماية والوقاية، والعطف والرحمة، والعزّة والنعة، والاستقرار والسلام! هكذا يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصوّر العلاقة بين العبد والربّ، وبين الخالق والكون، وبين الكون والإنسان! فالله عَزَّ وَجَلَّ خلق هذا الكون بالحق، وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة .. والإنسان مخلوق قصدًا، وغير متروك سدىً، ومهيّأ له كل الظروف الكونيّة المناسبة لوجوده، ومسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا، وهو كريم على الله، وخليفة في الأرض، والله معينه على هذه الخلافة، والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله، وهو مدعوّ إلى الحياة في هذه الرحاب، والتعاطف مع كل شيء، ومع كل حيّ في هذا الوجود الكبير! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام معالم الحياة عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة تسكب في روحه السلام، وتطلقه يعانق الوجود، ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحبّ والسلام! والاعتقاد بالآخرة يؤدي الدور الأساسيّ في إفاضة السلام على روح المؤمن

وعالمه، ونفي القلق والسخط والقنوط .. ذلك أن الحساب الختاميّ ليس في لهذه الحياة الدنيا، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة! إنه هناك في الآخرة، والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب .. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقّق في الأرض أو لم يلق جزاءه! ولا قلق على الأجر إذا لم يوفّ في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفّاه بميزان الله، ولا قنوط من العدل إذا توزّعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بدّ واقع: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)} [غافر: 31]! والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم، وتداس فيه الحرمات، بلا تحرّج ولا حياء، فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عمّا يفوت! وهذا التصوّر من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة، وأن يخلع التجمّل على حركات المتسابقين، وأن يخفّف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات]! مخلوق ليعبد الله .. ومن شأن هذه الغاية -ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء .. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته .. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله، وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه، وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها .. فأولى به ألا يغدر

ولا يفجر، وأولى به ألا يفسق ولا يخدع، وأولى به ألا يطغى ولا يتجبّر، وأولى به ألا يستخدم أداة مدنّسة ولا وسيلة خسيسة، وأولى به ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور، فهو بالغ هدفه من العبادة بالنّيّة الخالصة، والعمل الدائب في حدود الطاقة! ومن شأن هذا كله ألا تثور المخاوف والمطامع في نفسه، وألا يستبدّ به القلق في أيّة مرحلة من مراحل الطريق، فهو يعبد في كل خطوة، وهو يحقّق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدًا إلى الله في كل نشاط، وفي كل مجال! وشعور المؤمن بأنّه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار، والمضيّ في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق، وبلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء! ومن ثم يحسّ بالسّلام في روحه، حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه -كما سيأتي- فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله .. ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض من أعراض هذه الحياة! كذلك شعوره بأنّه يمضي على سنّة الله مع هذا الكون كله .. قانونه، ووجهته، فلا صدام ولا خصام، ولا تبديل للجهد، ولا بعثرة للطاقة، وقوى الكون كله تتجمّع إلى قوّته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله! والتكاليف التي يفرضها الإِسلام على المسلم كلها من الفطرة، ولتصحيح السلوك .. لا تتجاوز الطاقة، ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه، ولا تهمل

طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء، ولا تنسى حاجة من حاجات تكوينه الجسمانيّ والرّوحيّ لا تلبّيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء! ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه .. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله، في طمأنينة وروح وسلام! والمجتمع الذي ينشئه هذا النهج الربّاني، في ظلّ النّظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم. وينشر روح السلام! هذا المجتمع المتوادّ المتحابّ المترابط المتكامل المتناسق! هذا المجتمع الذي حقّقه الإِسلام مرّة في أرقى وأصفى صورة .. ثم ظلّ يحقّقه في صور شتّى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه .. ولكنه يظل في جملته خيرًا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهليّة في الماضي والحاضر، وكل مجمع لوّثته هذه الجاهليّة بتصوراتها ونظمها الأرضيّة! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة -آصرة العقيدة -حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضيّة التي لا علاقة بها بجوهر الإنسان! هذا المجتمع الذي يسمع الله تبارك وتعالى يقول له: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات]! والذي يرى صورته في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرّج عن مسلم كُربةً فرّج الله عنه كُربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" (¬1). وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "المؤمن مرآة أخيه، إِذا رأى فيه عيبًا أصلحه" (¬2). وفي رواية أخرى: "المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه" (¬3). وفي رواية لمسلم عن النعمان بن بشير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلمون كرجل واحد، إِن اشتكى عينه اشتكى كلّه، وإِن اشتكى رأسه اشتكى كله" (¬4). هذا المجتمع المثاليّ النظيف الشريف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة، ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرّج، ولا تتلفّت فيه الأعين علي العورات، ولا ترفّ فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق ¬

_ (¬1) البخاري: 46 - المظالم (2442)، وانظر (6951)، ومسلم (2580)، وأحمد (5646)، وانظر (4749، 5357)، وأبو داود (4893)، والترمذي (1426)، والنسائيُّ: الكبرى (7291)، والبيهقي: 6: 94، 201، 8: 330، والشعب (7614)، والآداب (104)، والقضاعي (168، 169، 477)، والبغوي (3518)، والطبراني: الكبير (3137، 3549)، وابن حبّان (533). (¬2) البخاري: الأدب المفرد (238). (¬3) البخاري: الأدب المفرد (239)، وأبو داود (4897) عون المعبود، وإسناده حسن، كما قال العراقي في تخريج الإحياء: 2: 182 وأقره المناوي، وهو كما قالا. (¬4) مسلم: 45 - البر (2586).

فيه سعار الجنس، وعرامة اللحم والدم، كما تنطلق في المجتمعات الجاهليّة قديمًا وحديثًا! هذا المجتمع الذي تكفل فيه حريّات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم كفالتها بالتشريع الربّاني المطاع .. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنّة، ولا يتسوّر على أحد بيته، ولا يذهب فيه لم هدرًا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقةً أو نهيًا والحدود حاضرة! هذا المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون .. كما يقوم على المساواة والعدالة الحقّة التي يشعر معها كل أحد أن حقّه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير! هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانيّة التي يضيق المقام عن ذكرها .. مجتمع السّلم والسّلام، والأمن والأمان! تلك بعض معانى الأمان التي سبق ذكرها في قوله جلِّ شأنه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}! وقوله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}! ونبصر دعوة الذين آمنوا للدخول في السلم كافة، ليسلموا أنفسهم كلّها لله، فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظّ، وإنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم!

ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان .. في المجتمعات التي لا تعرف الإِسلام، أو التي عرفته ثم تنكّرت له، وارتدّت إلى الجاهليّة تحت عناوين شتّى في جميع الأزمان! هذه المجتمعات الشقيّة الحائرة، على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادّي، والتقدّم الحضاري، وسائر مقوّمات الرّقيّ في عرف الجاهليّة الضالّة التصوّرات، المختلّة الموازين! والمجتمعات الجاهليّة الضالة نبصرها في حياة أمم كثيرة .. ونبصر شعوبها مهدّدة بالانقراض! فالنسل في تناقص مطّرد بسبب فوضى الجنس .. والعلاقات المثليّة الفاجرة، والجيل مدمن على المسكرات والمخدّرات .. كما يشهد الواقع الأليم! والأمراض النفسيّة والعصبيّة والشذوذ بأنواعه هلاك ودمار! وخراب وبوار! ثم انتحار! ولا ننسى أن نشير -مجرّد إشارة- إلى ما حدث في الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالمية الثانية، وما هو معلوم من العدوان الآثم الذي استخدمت فيه أسلحة الدمار الشامل في كثير من الحروب الطاحنة هنا وهناك، والتي ما زالت شعوب كثيرة تعاني منها، والعالم الإِسلامي كذلك! ومع هذا الواقع الأليم يفتري بعض الجاهلين الضالّين المعاصرين بأن الإِسلام دين الإرهاب! (¬1) إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب خلا من بشاشة الإيمان، وطمأنينة ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: الوسطيّة والإرهاب العالمي.

العقيدة، فلا يذوق طعم السلم الذي نبصره حين نذكر أوّل بيت للعبادة عبر التاريخ، ودعوة المؤمنين للدخول فيه كافة، لينعموا بالأمن والسلام والظل والراحة والقرار! ونبصر في الدعوة إلى الدخول في السلم كافة تحذيرًا بعد ذلك أن يتبعوا خطوات الشيطان الرجيم، فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان: إمّا الدخول في السلم كافةً! وإمّا اتباع خطوات الشيطان! إمّا إسلام وإمّا جاهليّة! إما هدى وإمّا ضلال! ومن ثم ينبغي للمسلم أن يلزم الهُدى، فلا يتلجلج ولا يتردّد، ولا يتحيّر بين شتّى الاتجاهات! إنه ليست هناك مناهج متعدّدة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدًا منها بآخر! كلا، إنه من لا يدخل في السلم بكلّيّته، ومن لا يسلم نفسه خالصةً لمنهج الله وشريعته، ومن لا يتجرّد من كل تصوّر آخر، ومن كل منهج آخر .. يسلك سبيل الشيطان لا محالة! ليس هناك حلّ وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطّة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك: حق، وباطل! وهدى، وضلال! والله -عزّ وجلّ- يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافّة،

ويحذّرهم في الثانية من اتّباع خطوات الشيطان، ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم .. تلك العداوة الواضحة البيّنة، التي لا ينساها إلا غافل .. ثم يخوّفهم عاقبة الزلل بعد البيان: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}! وتذكيرهم بأن الله تعالى {عَزِيزٌ} يحمل التلويح بالقوّة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرّضون لقوّة الله حين يخالفون عن توجيهه! وتذكيرهم بأنّه جلّ شأنه {حَكِيمٌ} فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشرّ، وأنهم يتعرّضون للخسارة، حين لا يتبعون أمره، ولا ينتهون عما نهاهم عنه، فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام! هذا وحسبنا أن كلمة (سلام) قد وردت في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرّة، فضلًا عن مادّة تلك الكلمة التي ذكرت أكثر من ذلك في الكتاب والسنة الصحيحة! وهي تحمل أواصر القربى بين الناس، وتدعوهم إلى أن يعيشوا على هذه الأرض إخوة متعاونين لا متعادين، ومتراحمين لا متزاحمين! والسلام اسم من أسماء الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 23]!

والسلام مصدر بمعنى المسالمة (¬1)، وُصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر، للمبالغة في الوصف، أي ذو السلام، أي السلامة، وهي أنه تعالى سالم الخلق من الظلم والجور! وأوّل خطاب من الحق تبارك وتعالى لأوّل رسول بعد أن انحسر الطوفان كان دعوةً إلى السلام، وحثًّا على نشره في الآفاق: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)} [هود: 48]! ولم يرسل الله رسولًا، إلا ومنحه السلام، وأفاض عليه، ليكون شعاره في حياته، وأساسًا لتعامله مع الناس: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79]! {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109]! {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} [الصافات: 120]! {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات]! {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان]! إنهم لا يتلفّتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتراك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفّعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين! ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير: 28: 120.

لا عن ضعف ولكن عن ترفّع! ولا عن عجز إنما عن استعلاء! وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالمسلم المشغول بما هو أهم وأكرم وأرفع! والسلام تحيّة المسلمين عند لقائهم وتزاورهم كما هو معلوم، ومن شأن هذه التحيّة أن تؤلّف القلوب، وتوثق الصلات، وتربط بين المسلمين برباط المحبّة والمودّة، ومن ثم فهي شعار دائم، ومفتاح للخير! وفي كل صلاة تشهّد، وفي كل تشهّد يطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: كنّا إِذا صلّينا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إِلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِن الله هو السلام، فإذا صلّى أحدكم فليقل: التحيّات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -فإِنكم إِذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"! (¬1) ¬

_ (¬1) البخاري: 10 - الأذان (831)، وانظر (835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381)، والأدب المفرد (990)، ومسلم (402)، وأحمد: 1: 349، 382، 394، 413، 414، 418، 423، 427، 440، 464، والدارميّ: 1: 308، والطيالسي (249)، وابن أبي شيبة: 1: 291، 292، وأبو داود (968، 969)، والنسائيّ: 2: 239، 240، 3: 40، 51، 50، والكبرى (664، 668، 1109، 111، 1130، وابن ماجه (899)، وابن خزيمة (703، 704)، وأبو عوانة: 2: 229، 230، والطحاوي: 1: 262، 263، والطبراني: (9886، 9902، 9903)، والبيهقي: 2: 103، 138، والبغويّ: (644، 645، 678)، وابن حبّان (1948، 1949).

يقول المسلم هذه التحيات المباركات الطيّبات تسمع مرات على الأقل في اليوم، فضلًا عن النوافل! إنها تحيّات طيّبات مباركات لله عَزَّ وَجَلَّ، متجدّدات في كل صلاة، تعبق بأريج الحبّ، وشذى العبوديّة، تتصاعد من أعماق الجَنان في الإنسان! تحمل روح الحياة وطهرها، ومعنى العبوديّة وجلالها، والإنسانيّة وكمالها، وخشوع الإنسان وخضوعه .. تنقل المسلم من اللصوق بالمادّة إلى التحليق في رحاب الكون، بفكر طموح، وعقل ثاقب! وإنها روح الحبّ، وصفاء الوجدان! تعرج بقائلها إلى أن يعلو على الزمان والمكان، فيرسل سلامًا طيّبًا مباركًا بكاف الخطاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسلامًا عليه وعلى عباد الله الصالحين، ممن أطاعوا الله وعبدوه في السماء والأرض، يضيء معالم الطريق إلى الآخرة ونعيمها الخالد العظيم! وتأتي شهادة التوحيد، وعقيدة الإِسلام، ورسالة الإيمان، ومبعث الخير للحياة! وفي التشهد الأخير يجد السلم نفسه أمام الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها عشرة مذاهب، كما نقل الحافظ ابن حجر! (¬1) وحسبنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب بن عُجرة فقال: ألا أهدي لك هديّة سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عنكم أهل البيت؟ فإِن الله قد علّمنا كيف نسلم، قال: ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري: 11: 152 - 153.

"قولوا: اللهم! صلّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على إِبراهيم وعلى آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على إِبراهيم، وعلى آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد" (¬1). وفي رواية لمسلم وغيره عن أبي مسعود الأنصاري قال: "أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نُصلي عليك، يا رسول الله! فكيف نصلّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى تمنّينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قولوا: اللهم! صلّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على آل إِبراهيم، وبارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إِبراهيم، في العالمين إِنك حميد مجيد. والسلام كما علمتم"! (¬2) ¬

_ (¬1) البخاري: 60 - الأنبياء (3370)، وانظر (4797، 6357)، والشافعي: 1: 192، وعبد الرزاق (3105)، والحميدي (711، 712)، وأحمد: 4: 241، 243، 244، وعبد بن حميد (368)، والدارمي: 1: 309، وأبو داود (976، 977، 978)، والنسائيّ: 3: 47، 48، والكبرى (1119، 1120، 1121)، وعمل اليوم والليلة (54، 359)، والترمذي (483)، وابن ماجه (904)، والبيهقي: 2: 147 - 148، والطبري: التفسير: 22: 43، وأبو عوانة: 2: 213، والطبراني: الكبير: 19 (270، 273، 275 - 279)، وانظر (283، 284، 285، 292)، والأوسط (4478، 6834)، والبغوي (681)، والتفسير: 5: 274، والجعديات (141)، والطحاوي: شرح المشكل (234)، وابن حبّان (912)، وانظر (1957). (¬2) مسلم: 4 - الصلاة (405)، ومالك: 16501 - 166، والشافعي: 9001 - 191، وعبد الرزاق (3018)، وأحمد: 4: 118، 119، 5: 273، وعبد بن حميد (234)، والدارميّ: 1: 310، وأبو داود (980، 981)، والنسائيّ: 3: 45، والكبرى (1117)، وعمل اليوم والليلة (48، 49)، والدراقطني: 35401، والحاكم: 1: 268، والبيهقي: 2: 146، 378، وابن حبّان (1958، 1959).

وتعدّدت الروايات مع اختلاف يسير! وفي فضل الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة، منها ما رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلّى عليّ واحدة، صلّى الله عليه عشر صلوات، وحطّ عنه عشر خطيئات" (¬1). وفي فضل السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم -أيضًا- أحاديث كثيرة، منها ما رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحد يسلِّم عليّ إِلا ردّ الله عزّ وجلّ إِليّ روحي حتى أردّ عليه السلام" (¬2). وهنا يطالعنا قول الله عزّ وجلّ: ¬

_ (¬1) أحمد: 3: 102، 261، وابن أبي شيبة: 2: 517، والضياء المختارة: (1564، 1566، 1567، 1568)، والبخاري: الأدب المفرد (643)، والنسائيُّ: 3: 50، وعمل اليوم والليلة (62، 362، 363)، والحاكم: 1: 550، والبيهقيّ: الشعب (1554)، والبغويّ (1365)، وابن حبّان (904)، وانظر: مسلم (408) عن عبد الله بن عمرو، والترمذي (3614)، والنسائي: 2: 65، وعمل اليوم والليلة (45). (¬2) أحمد: 2: 527، فيه أبو صخر: حميد بن زياد الخراط، حسن الحديث، روى له مسلم، وباقي رجاله ثقات، رجال الشيخين، وأخرجه أبو داود (2041)، والبيهقيّ: 5: 245 من طريق عبد الله بن يزيد المقري، والطبراني: الأوسط (3116) عن عكرمة بن سهل الدمياطي، عن مهدي بن جعفر الرملي، عن عبد الله بن يزيد الإسكندراني، عن حيوة بن شريح، وعن عبد الله بن يزيد الإسكندراني، لم نجد له ترجمة، ولعله المقرئ والمكي نفسه، وإنما وهم في نسبته، شيخ الطبراني بكر بن سهل الدمياطي، أو شيخه مهدي الرملي، فكلاهما تكلّم في حفظه، والله أعلم! وانظر: أحمد: 2: 367، وأبو داود (2042)، والطبراني: الأوسط (8026)! وانظر معنى الحديث في: عون المعبود: 6: 26 وما بعدها!

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]! قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء! (¬1) وقال ابن عباس: يصلّون: يبرّكون! (¬2) وروى الترمذي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الربّ: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار! والصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه، وقد أفاض ابن القيّم في بيان ذلك، فأجاد وأفاد! (¬3) ويا لها من مرتبة سنيّة، حيث تردّد جنبات الوجود ثناء الله عزّ وجل على نبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم -! (¬4) ويشرق الكون كله، وتتجاوب أرجاؤه، ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم، الأبديّ الباقي! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 8: 532 - 533 قال ابن حجر: أخرجه ابن أبي حاتم، ومن طريق آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع، وهو ابن أنس بهذا، وزاد في آخره (له). (¬2) قال ابن حجر: وصله الطبري من طريق عليَّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قال: يبرّكون على النبي، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخصّ منه، وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله، دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان: التحية والانقياد، فأمر به المؤمنون، لصحّتها منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهما، دفعًا للإيهام، والعلم عند الله: المرجع السابق! (¬3) انظر: تفسير ابن كثير: 3: 506، والشوكاني: 4: 292، والقاسمي: 13: 4901، وجلاء الأفهام: 157 وما بعدها! (¬4) في ظلال القرآن: 5: 879 بتصرف.

وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة، وذلك التكريم! وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العليّ، وصلاة الملائكة في الله الأعلى؟ إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلويّ الكريم، الأزليّ القديم! وما يكاد المسلم ينتهي من صلاته حتى يسلّم عن يمينه وعن شماله! يروى أحمد وغيره بسند صحيح عن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلِّم على يمينه، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" حتى يُرى -أو نرى- بياض خدّيه! (¬1) وما يكاد ينتهي من التسليم حتى يدعو بهذا الدعاء الذي رواه مسلم وغيره عن عائشة قالت: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِذا سلّم لم يقعد إِلا مقدار ما يقول: "اللهم! أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإِكرام". وفي رواية: "يا ذا الجلال والإِكرام" (¬2). ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 390، 408، 409، 444، 448، والطيالسي (308)، وعبد الرزاق (3130)، وابن أبي شيبة: 1: 299، وأبو داود (996)، والترمذي (295)، والنسائي: 3: 63، والكبرى (1154، 1155، 1156)، وابن ماجه (914)، وأبو يعلى (5102، 5114)، وابن خزيمة (728)، والطحاوي: 1: 268، والبيهقيّ: 2: 177، والطبراني: الكبير (1073)، وابن حبّان (1993). (¬2) مسلم: 5 - المساجد (192)، والطيالسي (1558)، وابن أبي شيبة: 1: 302، 304، وأحمد: 6: 62، 184، 235، والدارميّ (1354)، وأبو داود (1512)، والترمذي (298، 299)، والنسائيُّ: 3: 69، والكبرى (1170)، وعمل اليوم والليلة (95، 96، 97، 367)، وابن ماجه (924)، وأبو يعلى (4721)، وأبو عوانة: 2: 241، 242، والبيهقيّ: 2: 183، والبغوي (713) وابن حبّان (2000).

ليلة القدر يكتنفها السلام

ليلة القدر يكتنفها السلام: والليلة المباركة التي أنزل الله عزّ وجلّ فيها القرآن الكريم ليلة يكتنفها السلام من أولها إلى آخرها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [سورة القدر]! إنها ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل القرآن، (¬1) وإفاضة النور على الوجود كله، وإسباغ السلام الذي فاض على الضمير البشري والحياة الإنسانيّة، وبما تضمنّه هذا القرآن من عقيدة وتصوّر وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير، وتنزيل الملائكة وجبريل خاصة بإذن ربّهم .. وانتشارهم فيما بين السماء والأرض! وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المباركة السعيدة، ونتصوّر ذلك الموكب العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة، ونتدبّر حقيقة الأمر الذي تمّ فيها، ونتملّى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان، وفي واقع الأرض، وفي تصوّرات القلوب والعقول .. نرى أمرًا عظيمًا حقًا، وندرك طرفًا من الإشارة إلى تلك الليلة، ونحن نقرأ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}! {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)} [الدخان]! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 6: 3945.

ولقد تغفل البشريّة -لجهالتها- عن قدر ليلة القدر، وعن حقيقة وعظمة هذا الأمر .. وهي منذ جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها، وخسرت السعادة والسلام! سلام الضمير! وسلام البيت! وسلام المجتمع! وسلام الإنسانية! ولم يعوّضها عمّا فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من الحضارة الماديّة والعمارة .. فهي شقيّة على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش! لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرّة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي أفاض على الأرواح والقلوب، فلم يعوّضها شيء عن فرحة الرّوح ونور السماء، وطلاقة الرفرفة إلى علّيّين! وفي موقف من مواقف الكافرين الجاحدين يشكو الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر هؤلاء وعدم إيمانهم: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)} [الزخرف]! ويطالعنا عقب ذلك مباشرة توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفح والإعراض، وعدم الاحتفال والمبالاة، والشعور بالطمأنينة، ومواجهة الأمر بالسلام في القلب والسماحة: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} [الزخرف]! ونبصر الجنّة التي أعدّت للمتقين دار السلام: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)} [الأنعام]!

والمؤمن حين ينظر إلى هذا الثواب يعيش دنياه في سلام حقيقيّ مع ضميره والناس من حوله .. ينتظر هذا الفضل من الله عزّ وجل: والمؤمنون حين يدخلون الجنّة يكتنفهم السلام والأمان: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر]! وتحيّة الملائكة لأهل الجنّة هي السلام: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73]! {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرعد: 23، 24]! وأهل الجنّة حين يتزاورون تحيّتهم هي السلام: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 9، 10]! وتحية المؤمنين حين يلقون ربّهم السلام: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)} [الأحزاب: 44]! ونبصر المؤمنين مشغولين بما هم فيه من النعيم، في ظلال مستطابة يستروحون نسيمها .. على أرائك متّكئين، في راحة ونعيم، هم وأزواجهم، لهم فيها فاكهة ولهم كل ما يشاءون، ولهم كل ما يدعون .. وفوق ذلك سلام يتلقونه من ربّهم الكريم:

أخوة إنسانية

{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} [يس: 55 - 58]! أخوّة إنسانيّة: ونجد أنفسنا أمام بيان أن الناس جميعًا خُلقوا من نفس واحدة، ومن ثم تجمع بينهم الأخوة الإنسانيّة التي تقتضي سلامًا عالميًّا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]! وتلك حقيقة فطريّة، يعرفها الناس جميعًا .. ولو ألقوا أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بمراعاة الأخوّة الإنسانيّة بمالها من حقوق وما عليها من واجبات! ولو تذكّروا هذه الحقيقة لتضاءلت في حسّهم كل الفروق الطارئة، التي نشأت في حياتهم متأخّرة (¬1)، ففرّقت بين أبناء النفس الواحدة، ومزّقت وشائج الرحم الواحدة .. وكلها ملابسات طارئة، ما كان يجوز أن تطغى على مودّة الرحم وحقّها في الرّعاية، وصلة النفس وحقّها في المودّة، وصلة الربوبيّة وحقّها في التقوى! واستقرار هذه الحقيقة كفيل باستبعاد الاستعباد الطبيعي السائد في كثير من الدول، والذي ما تزال الجاهليّة تعتبره قاعدة فلسفتها، ونقطة انطلاقها إلى ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 574.

الأسرة قاعدة الحياة البشرية

تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية أو متناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والرّبوبيّة الواحدة التي يرجع إليها الجميع! وكفيل بأن يقرّر للمرأة كرامتها؛ لأنها من النفس الواحدة فطرةً وطبعًا، خلقها الله عزّ وجلّ لتكون لها زوجًا، وليبثّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً! ولقد خبطت البشريّة في هذا التّيه طويلًا، حين جرّدت المرأة من كل خصائص الإنسانيّة وحقوقها .. تحت تأثير تصوّر سخيف لا أصل له، فلما أن أرادت معاني هذا الخطأ الشنيع اشتطت وأطلقت للمرأة العنان، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنهما زوجان متكاملان! الأسرة قاعدة الحياة البشريّة: وكفيل بأن يقرّر أن الأسرة قاعدة الحياة البشريّة .. ولو شاء الله لخلق -في أوّل النشأة- رجالًا كثيرًا ونساء، وزوّجهم، فكانوا أسرًا شتى من أوّل الطريق، لا رحم بينها من مبدأ الأمر، ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق جلّ شأنه، وهي الوشيجة الأولى، ولكنه عَزَّ وَجَلَّ شاء لأمر يعلمه ولحكمة يريدها أن يضاعف الوشائج، فيبدأ بها من وشيجة الرّبوبيّة -وهي أصل وأوّل الوشائج- ثم يثني بوشيجة الرحم، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى، من نفس واحدة، وطبيعة واحدة، وفطرة واحدة! ومن هذه الأسرة الواحدة يبثّ رجالًا ونساءً، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الرّبوبيّة، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة، التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني!

ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإِسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثّرات التي توهن هذا البناء! في أوّل هذه المؤثّرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة، وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها بعضًا، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى! وإن نظرةً إلى التنوّع في خصائص الأفراد واستعدادتهم -بعد بثّهم من نفس واحدة وأسرة واحدة- على هذا المدى الواسع، الذي لا يتماثل فيه فردان قطّ تمام التماثل، على توالي العصور، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأحوال! التنوّع في الأشكال والسمات والملامح! والتنوّع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر! والتنوّع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف! إن نظرةً إلى هذا التنوّع المنبثق من ذلك التجمّع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال، المدبّرة عن علم وحكمة .. وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك التنوّع الحيّ العجيب، يتملّيان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد، والتي دائمًا تتجدّد، والتي لا يقدر عليها إلا الله .. ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله، فالإرادة التي لا حدّ لما تريد، والتي تفعل ما تريد، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي، من ذلك الأصل الواحد الفريد! والتأمل في (الناس) على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادًا من الأنس والمتاع، فوق زاد الإيمان والتقوى، وهو كسب فوق كسب، وارتفاع بعد ارتفاع!

وفي ختام الآية التي معنا نبصر إيحاء بكل هذه الحشود من الخواطر، وما يتصل بها، يردّ (الناس) إلى تقوى الله، الذي يسأل بعضهم بعضًا به، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعًا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}! واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه، وتتعاقدون باسمه، ويسأل بعضكم بعضًا باسمه، ويحلف بعضكم لبعض باسمه .. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات! وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن .. أما تقوى الأرحام فهي تعبير عجيب يلقي ظلاله الشعوريّة في النفس .. اتقوا الأرحام .. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها .. والإحساس بحقها .. وتوقي هضمها وظلمها .. والتحرّج من خدشها ومسّها .. توقوا أن تؤذوها، وأن تجرحوها، وأن تغضبوها .. أرهفوا حساسيتكم لها، وتوقيركم إياها، وحنينكم إلى نداها وظلّها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}! وما أهولها من رقابة! والله عزّ وجل هو الرقيب! وهو الربّ الخالق الذي يعلم من خلقه، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب!

أساس السلام

أساس السلام: وهنا نبصر أساس سلام الضمير، وسلام الأسرة، وسلام الإنسانيّة! ونبصر الناس قد اختلفوا هكذا للتعارف والوئام، لا للتناحر والخصام! وأمّا اختلاف الألسن والألوان، والطباع والأخلاق، والمواهب والاستعدادات، فتنوّع يقتضي التعارف والتآلف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} [الحجرات: 13]! وهكذا تسقط جميع الفوارق (¬1) .. ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان! وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم واضح للتآلف والتعاون: ألوهيّة الله للجميع! وأصل واحد للناس! كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته! لواء تقوى الله .. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإِسلام لينقذ البشريّة من عقابيل العصبيّة للجنس، والعصبيّة للأرض، والعصبيّة للقبيلة، والعصبيّة للبيت .. وكلها من الجاهليّة وإليها، تتزيّا بشتّى الأزياء، وتسمّى بشتّى الأسماء .. جاهليّة عارية عن الإِسلام! ¬

_ (¬1) السابق: 6: 3348 بتصرف.

{لا إكراه في الدين}

وتلك هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإِسلامي .. المجتمع العالمي .. المجتمع الذي يحاول العقلاء من الناس في الخيال المحلّق أن يحقّقوا لونًا من ألوانه، ولكن هيهات؛ لأنهم لم يسلكوا إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم .. الطريق إلى الله .. الدخول في الدّين القيّم .. والحياة وفق المنهج الربانيّ! {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}: ونجد أنفسنا أمام تقرير الحريّة في (الدّين القيّم) .. تلك الحريّة التي تطلق على التحرّر من العبوديّة والاسترقاق، والخلوص من القيد، كما تطلق على الشرف وطيب الأرومة وكرم المنبت! وهي من الحقوق التي وهبها الله عَزَّ وَجَلَّ للإنسان، كحق الحياة، والعلم، والتملّك، والكرامة! والحريّة ليست انطلاقًا من كل قيد وراء الأهواء والشهوات .. وليست انفلاتًا من كل نظام، وخروجًا على العادات الصالحة والتقاليد القويمة! ذلك أن حريّة الفرد لا تصان إلا حين تتقيّد ببعض القيود الضروريّة التي لا بدّ منها، لتسلم حريّات المجتمع! وهنا يطالعنا قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} [البقرة: 256]! وقد وردت روايات في سبب النزول، أوردها الطبري وغيره (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري: 3: 16 وما بعدها، وابن كثير: 1: 30 وما بعدها، والنار: 3: 36 وما بعدها، والتحرير والتنوير: 3: 26 وما بعدها.

أخص خصائص التحرر الإنساني

والآية على عمومها في كل كافر! (¬1) وهي صريحة في قضيّة العقيدة، وكيف أنها قضيّة اقتناع بعد البيان والإدراك (¬2)، وليست قضيته إكراه وغصب وإجبار! ذلك أن (الدّين القيّم) يخاطب الإدراك البشريّ بكل قواه، يخاطب العقل المفكر، والبداهة الناطقة، والوجدان المنفعل .. كما يخاطب الفطرة المستكنّة! وهنا يتجلّى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهُدى والضلال في الاعتقاد، وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه! أخص خصائص التحرّر الإنساني: وتلك هي أخص خصائص التحرر الإنساني .. التحرر الذي تنكره على الإنسان في هذا العصر مذاهب متعسّفة، ونظم مذلّة، لا تسمح للإنسان الذي كرّمه الله باختياره لعقيدته أن ينطوي ضميره على تصوّر للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه دول تلك المذاهب بشتى أجهزتها، وما تمليه بقوانينها وأوضاعها، فإمّا أن يعتنق ما يحرمه من الإيمان بالله، وإمّا أن يتعرّض للموت بشتّى الوسائل والأسباب! إن حرية الاعتقاد هي (أولى حقوق الإنسان) التي يثبت له بها وصف إنسان .. والذي يسلب إنسانًا حريّة الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيّته ابتداء! ¬

_ (¬1) انظر: بدائع التفسير: 1: 414 وما بعدها. (¬2) في ظلال القرآن: 1: 291 بتصرف.

حرية الدعوة

حرّية الدعوة: ومع حريّة الاعتقاد حريّة الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة .. وإلا فهي حريّة بالاسم، لا مدلول لها في واقع الحياة! والإسلام -وهو أرقى تصوّر للوجود والحياة، وأقوم منهج للمجتمع الإنسانيّ بلا مراء- هو الذي ينادي بأن {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}! وهو الذي يبيّن لأصحابه قبل سواهم أنهم ممنوعون من إكراه الناس على هذا الدّين .. فكيف بالمذاهب والنظم الأرضيّة القاصرة المتعسّفة، وهي تفرض فرضًا بسلطان القانون، ولا يسمح لمن يخالفها بالحياة؟! والتعبير هنا يرد في صورة النفي المطلق: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}! نفي جنس الإكراه .. والنهي في صورة النفي، والنفي للجنس أعمق إيقاعًا، وآكد دلالة! ولا يزيد السياق على أن يلمس الضمير لمسة توقظه، وتشوقه إلى الهُدى، وتهديه إلى الطريق، وتبيّن حقيقة الإيمان التي أعلن أنها أصبحت واضحة: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}! فالإيمان هو الرشد الذي ينبغي للإنسان أن يتوخّاه، ويحرص عليه، والكفر هو الغيّ الذي ينبغي للإنسان أن ينفر منه، ويتّقي أن يوصم به! والأمر -كذلك- فعلًا، فحين يتدبّر الإنسان نعمة الإيمان بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولًا، وما تمنحه هذه النعمة للإدراك البشريّ من تصوّر ناصع واضح، وما تمليه للقلب البشريّ من طمأنينة وسلام، وما تثيره في النفس البشريّة من اهتمامات رفيعة، وما تحققه في المجتمع الإنسانيّ من نظام سليم قويم دافع إلى تنمية الحياة .. !

حين يتدبر الإنسان نعمة الإيمان على هذا النحو، يجد الرشد الذي لا يرفضه إلا سفيه .. يترك الرشد إلى الغيّ، ويدع الهُدى إلى الضلال، ويؤثر التخبّط والقلق والهبوط والضآلة على الطمأنينة والسلام، والرفعة والاستعلاء! ثم يزيد حقيقة الإيمان إيضاحًا وتحديدًا وبيانًا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}! إن الكفر ينبغي أن يوجّه إلى ما يستحق الكفر، وهو (الطاغوت)! وإن الإيمان يجب أن يتّجه إلى من يجدر الإيمان به، وهو (الله)! والطّاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق .. ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله، ومن الشريعة التي يسنّها الله، ومن كل منهج غير مستمدّ من الله .. فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره، ويؤمن بالله وحده، ويستمدّ من الله وحده فقد نجا .. وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها! ونجد أنفسنا أمام صورة حسيّة لحقيقة شعوريّة ومعنويّة .. ذلك أن الإيمان بالله عزّ وجلّ عروة لا تنفصم أبدًا .. متينة لا تنقطع .. والذي يمسك بتلك العروة يمضي على هُدىً إلى ربّه، فلا يرتطم ولا يتخلّف، ولا تتفرّق به السبل، ولا يذهب به الشرود والضلال: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}! يسمع منطق الألسنة، ويعلم مكنون القلوب! ومن تأمّل سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، تبيّن له بجلاء ووضوح أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكره أحدًا على الإِسلام .. وأنه صالح اليهود حين قدم على المدنية وأقرّهم على دينهم

إدراك العجز إدراك

-كما سيأتي- ولكنهم ما لبثوا أن أعلنوا الحرب على الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم كانت ضرورة الدفاع والمواجهة -كما سبق أن عرفنا (¬1)! إدراك العجز إدراك: والإنسان الذي يحيا في دائره الإيمان بالله عزّ وجلّ، ويشرق قلبه بنور الله، ويحقّق معنى الإنسانيّة بسلوكه يسمو قدره، وتزكو منزلته! ومن ثم فهو يتصرّف في جميع أحواله بحريّة تامّة، موافقة لطبيعته إلى التحرّر .. لكن روابط المجتمع وعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، وصلة كل منهم في المحيط المحدود والنطاق الواسع .. كل أولئك يفرض عليه أن يساير النظم والقوانين، وفي ذلك متسع، طالما ذلك في المباح .. وهذا من شأنه أن يجعله مسؤولًا تجاه التصرّفات التي تسيء إليه وإلى المجتمع الذي يعيش فيه! ومع أن الله عزّ وجل قد كرّمه وفضّله على كثير من خلقه، بالتكوين والاستعدادات التي أودعها فطرته، وبمكانه في الكون، وبما لا يُحصى ولا يعدّ من الآلاء والنعم .. وخصّه بالعقل الذي هو مناط التكليف، والذي هو عين مبصرة، يرى بها عظمة الخالق جلّ شأنه! ومعلوم أن العقل هو المركز الذي يبدأ منه التفلسف، ويتركّز النظر، فيرتفع بسهولة ويسر إلى المنصب الذي رشّح له، ويرتقي إلى الغاية المنوطة به .. ومن ثم يدرك مشاعر الخشية والجلال، والعظمة والكمال! والإنسان مطالب بأن ينتفع بالعقل في حدود ما يدرك؛ لأنه عاجز وقاصر دون الحقيقة .. وعليه أن يدرك ما أدركه الصّدّيق - رضي الله عنه - في قوله: ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهًا لوجه) أربعة أجزاء 1927 صفحة.

مكانة المسؤولية

(إن إدراك العجز إدراك) (¬1). ومطالب -أيضًا- بأن ينتفع به في دائرة النقل، لا يحيد ولا يزيغ .. وبأن يدرك أنه إذا استبدّ به الغرور، ولم يقبس من النور، ضلّ وغوى، وسقط وهوى، وصدق الله العظيم: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 40]! ومن ثم كان النقل هو الشعاع الذي يضيء لهذه العين المبصرة أن تنظر وترى آثار ومظاهر هذا النور في القلوب والأرواح، ممثّلةً في معالم الحياة، تنير القلوب، وتنير الحياة .. مرتبطة بالنور الكونيّ الشامل الكامل .. ومن ثم يفيض النور على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]! وهما معًا متعاضدان .. ولذا سلب الحق اسم العقل من الذين حادوا عن الفطرة السليمة التي فطرهم الله عليها: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]! مكانة المسؤوليّة: والكون الذي سخره الله عزّ وجّل للإنسان، هو ميدان نشاطه، ومجال تأمّلاته، وحقل تجاربه، ومرمى آماله ورغائبه، ومن ثم فهو عضو في المجتمع، مسؤول عن تصرّفاته! وفي الآخرة نقرأ في سورة الإسراء: ¬

_ (¬1) الأربعين في أصول الدين: 68.

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)} [الإسراء: 13، 14]! ويروي الشيخان وغيرهما عن ابن عُمر رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: "ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيّته، فالإِمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيّته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيّته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيّته" (¬1). وفي حديث أنس مثل حديث ابن عمر، وزاد في آخره: "فأعدوا للمسألة جوابًا" قالوا: وما جوابها؟ قال: "أعمال البر". أخرجه ابن عديّ، والطبراني في الأوسط، وسنده حسن. ¬

_ (¬1) البخاري: 93 - الأحكام (7138)، وانظر (893، 2409، 2554، 2558، 2751، 5188، 5200)، والأدب المفرد (206، 212، 214، 416)، ومسلم (1829)، وأحمد: 2: 5، 54 - 55، 111، 121، ومالك (291، 21211) رواية أبي مصعب الزهري، وعبد الرزاق (20649)، وعبد بن حميد (745)، وابن الجارود (1094)، وأبو يعلى (5831)، وأبو عوانة: 4: 415 - 418، 419 - 421، والبغويّ (2469)، والطبراني: الأوسط (4267)، والكبير (13284)، والبيهقي: 6: 287، 7: 291 والشعب (7360، 8703)، والشهاب (209)، والخطيب: 11: 402، وأبو نعيم: أخبار أصبهان: 2: 318، وأبو داود (2928)، والترمذي (1705)، وابن حبّان (4490).

وفي رواية لابن عديّ بسند صحيح عن أنس: "إِن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ ذلك أو ضيّعه" (¬1). ويروي الشيخان وغيرهما عن معقل بن يسار، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعيّة، فلم يحطه بنصحه، إِلا لم يجد رائحة الجنّة". وفي رواية: "ما من وال يلي رعيَّةً من المسلمين فيموت وهو غاشٌ لهم إِلا حرّم الله عليه الجنّة" (¬2). وهناك حالات يجازى فيها الإنسان على عمل غيره، يطول فيها الحديث! (¬3) ومعلوم أن (الدّين القيّم) يحرص على مودّة المخالفين في العقيدة. ومجادلة أهل الكتاب: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} [العنكبوت: 46]! ومعلوم -كذلك- أن السلام يهدف إلى حقن الدماء، وإشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس .. ومن ثم فهو سلام قويٌ عزيز، لا استسلام فيه ولا تفريط في الحقوق المغتصبة! ¬

_ (¬1) فتح الباري: 13: 113. (¬2) البخاري: 93 - الأحكام (7150، 7151)، ومسلم (142)، والبيهقيُّ: 9: 41، والدارمي: 2: 324، والبغوي (2478)، وابن حبّان (4495)، وانظر: الطيالسي (928، 929)، وأحمد: 5: 25، 27، والطبراني: 20 (449، 455 - 459، 469، 472، 473، 474، 476، 478، 506، 513، 519، 524، 533، 534). (¬3) انظر كتابنا: (المسؤولية الوطنية في الإِسلام): 32 وما بعدها.

وقد مكث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالحكمة والموعظة الحسنة .. في الوقت الذي كان يصبّ عليه الأذى، ويتعرّض أصحابه رضي الله عنهم لأقسى أنواع العذاب، وأفدح ألوان الاضطهاد -كما أسلفنا- حتى كانت الهجرة إلى الحبشة! ومع ذلك كله كان - صلى الله عليه وسلم - يصفح الصفح الجميل! ويطالعنا القرآن بأن قوم ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحًا فكذّبوه .. كانت عاقبتهم صاعقة العذاب: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} [فصلت: 17]! {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)} (الحاقة)! وقوم عاد الذين أرسل إليهم هودًا فكذبوه .. كانت عاقبتهم الريح الصرصر العاتية: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)} [فصلت: 16]! {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} [الحاقة: 6]! وقوم نوح أهلكهم الله بالطوفان: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)} [الشعراء]! في الوقت الذي نبصر فيه رفع العذاب عن قريش، مع كل ما فعلوه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33]! إنها رحمة الله تمهلهم، عسى أن يستجيب للهدى من تخالط بشاشة الإيمان قلبه -ولو بعد حين- وما دام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم يدعوهم، فهنالك توقّع

سلام عالمي

لاستجابة البعض منهم، فهم إكرامًا لوجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم يمهلون، والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال مفتوح! وبعد الهجرة إلى المدينة -كما سيأتي- أذن الله للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين، بعد أن بلغ أقصاه، وليحقّقوا لأنفسهم ولغيرهم حريّة العقيدة، وحريّة العبادة في ظل دين الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج: 39، 40]! والصوامع أماكن العبادة للرهبان، والبيع للنصارى عامّة وهي أوسع من الصوامع، والصلوات أماكن العبادة لليهود، والمساجد للمسلمين! هكذا في جلاء ووضوح، نبصر أماكن العبادة للرهبان، والنصارى، واليهود، والمسلمين! سلام عالمي: وهنا نبصر السلام في الإِسلام عالميًّا لا يعدّ القتال غاية لذاته، ولا يأذن به إلا للضرورة التي لا بدّ منها .. مع مراعاة الآداب الإِسلاميّة التي يتفرّد بها هذا (الدّين القيّم)! ولنا بعون الله وتوفيقه حديث خاص في هذه الدراسات عن معالم تلك الآداب!

ملة إبراهيم

هذا، والسلام -كما عرفنا- دين الأمن والسلام منذ أوّل بيت للعبادة وضع في الأرض إلى أن تقوم الساعة! ملّة إبراهيم: وهنا يطالعنا موقف إبراهيم عليه السلام من قومه الكلدانيّين الذين كانوا يعبدون الأصنام، كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، ونحن نقرأ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: 74 - 79]! إنه مشهد رائع باهر، مشهد الفطرة تنكر تصوّرات الجاهليّة وتستنكرها (¬1) تنطلق على لسان إبراهيم عليه السلام. واختار سبيل العقل، وطريق الحجة .. وسلك طريقًا في الحوار حكيمًا، ومنهجًا في البيان قويمًا! ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري: 7: 242 وما بعدها، وابن كثير: 149 وما بعدها، والشوكاني: 2: 138 وما بعدها، والفخر الرازي: 7: 34 وما بعدها، والآلوسي: 7: 183 وما بعدها، وزاد المسير: 3: 70 وما بعدها، وابن عطيّة: 5: 251 وما بعدها، وبدائع التفسير: 2: 151 وما بعدها، والقاسمي: 6: 2368 وما بعدها، والمنار: 7: 533 وما بعدها، والتحرير والتنوير: 7: 310 وما بعدها.

وأعلن براءته من معبوداتهم، وأفاض في الحديث عمن يخصّه بخضوعه، وأقام الأدالة على أن الربّ جلّ شأنه لا يكون كوكبًا يلمع، ولا قمرًا يطلع، ولا شمسًا تسطع! إنها العقيدة، فوق روابط الأبوّة والبنوّة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة .. وهذا هو منطق الفطرة (¬1) .. وعيٌ لا يطمسه الركام، وبصرٌ يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله، وتدبّر يتبع الشاهد حتى تنطق له بسرّها المكنون، وهداية من الله جزاءً على الجهاد فيه! وكانت المواجهة: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}! إنه الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض! الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك! الكلمة الفاصلة واليقين الجازم! فلا تردّد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلّى للعقل من تصوّر مطابق للحقيقة التي في الضمير! ها نحن نشهد ذلك المشهد الرائع الباهر .. مشهد العقيدة وقد استعلنت في النفس، واستولت على القلب، بعدما وضحت وضوحها الكامل، وانجلى عنها الغبش! نشهدها وقد ملأت الكيان الإنساني، فلم يعد وراءها شيء، وقد سكبت فيه الطمأنينة الواثقة بربّه .. في قلبه وعقله وفي الوجود من حوله! وهو مشهد يتجلّى بكل روعته وبهائه في الآيات التالية مباشرة: ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 2: 1141 وما بعدها بتصرف.

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 80، 81]! إن الفطرة حين تنحرف تضل .. ثم تتمادى في ضلالها، وتتّسع الزاوية، ويبعد الخط عن نقطة الابتداء، حتى ليصعب عليها أن تثوب! وهؤلاء يعبدون ما يعبدون، فلا يتفكّرون ولا يتدبّرون هذه الرحلة الهائلة التي تمَّت في نفس إبراهيم عليه السلام! ولم يكن هذا داعيًا لهم للتفكر والتدبّر، بل جاؤوا يجادلونه ويحاجّونه، وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوّراتهم وفي ضلال مبين! ولكن إبراهيم الذي وجد الله في قلبه وعقله، وفي الوجود كله من حوله، يواجههم مستنكرًا في طمأنينة ويقين: {قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}! أتجادلونني في الله تعالى، وهو يأخذ بيدي، ويفتح بصيرتي، ويهديني إليه، ويعرفني به؟! لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود .. وهذا هو في نفسي دليل الوجود .. لقد رأيته في ضميري وفي وعيي، كما رأيته في الكون من حولي، فما جدالكم في أمرانا أجده في نفسي، ولا أطلب عليه الدليل، فهدايته لي إليه هي الدليل! {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ}! وكيف يخاف من وجد الله؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟

وكل قوّة -غير قوّة الله- هزيلة! وكل سلطان -غير سلطان الله- لا يُخاف! ولكن إبراهيم عليه السلام في عمق إيمانه، واستسلام وجدانه، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكنًا إلى مشيئة الله الطليقة، وإلى علم الله الشامل: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)}! إنه يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته، ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئًا؛ لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاء الله، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء! {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 81]! إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق الوجود! إنه إن كان أحد قمينًا بالخوف فليس هو إبراهيم! وليس المؤمن المطمئن الذي يمضي في الطريق! وكيف يخاف ما أشرك هؤلاء، ولا ما يتبدّى -أحيانًا- في صورة جبّارين في الأرض بطاشين، وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون! كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا، ولا قوّةً من الأشياء والأحياء؟ هذا، وأيّ الفريقين هنا أحق بالأمن؟ الذي يؤمن بالله تعالى ويكفر بالشركاء؟

أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوّة؟ وهنا يتنزّل الجواب من الملأ الأعلى، ويقضي الله بحكمه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام)! الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه! هؤلاء لهم الأمن! وهؤلاء هم المهتدون! لقد كشف لهم عن وَهَن ما هم عليه من تصوّرهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه .. وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله، ولا أنه هو صاحب القوّة والسلطان .. ولكنهم كانوا يشركون به هذه لآلهة .. فلما واجههم إبراهيم بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه، فأمّا من يشرك بالله فهو أحق بالخافة .. سقطت حجّتهم، وعلت حجّة إبراهيم عليه السلام، وارتفع على قومه عقيدةً وحجّةً ومنزلةً! يروي الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: لمَّا نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)}. قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} (لقمان)! (¬1) ¬

_ (¬1) البخاري: 2 - الإيمان (32)، وانظر (3360، 3428، 3429، 4629، 4776، 6918، 6937)، ومسلم (124)، وأحمد: 1: 378، 424، 444، والطيالسي (270)، والترمذي (3067)، والنسائي: الكبرى (11165، 11390)، والتفسير (186 ط 410)، =

سؤال الأمن يوم الخوف

وهنا نبصر كيف كان حسّ هذا الرّهط الكريم! وكيف كانت جدية وقعه في نفوسهم! وكيف كانوا يتلقّونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ، وتقريرات حاسمة للطاعة، وأحكام نهائيّة للنفاذ! وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأيّ درجة من درجات التقصير، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف، حتى يأتيهم التيسير! (¬1) هكذا كان يتنزّل القرآن الكريم على هؤلاء الرّهط غضًّا، وتشربه نفوسهم، وتعيش به وله، وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته، في جدّ وفي وعي وفي التزام عجيب، تأخذنا روعته، وتبهرنا جدّيّته، وندرك كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس! وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق، في ربع قرن من الزمان! إنه الإيمان الذي يضفي على أهله الأمن والأمان، واليقين والطمأنينة! سؤال الأمن يوم الخوف: ويطالعنا سؤال الأمن يوم الخوف، فيما رواه الحاكم وغيره بسند رجاله ثقات عن عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي، عن أبيه، قال: لمَّا كان يوم أحد انكفأ المشركون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَوُوا حتى أُثْني على ربِّي عزّ وجل". ¬

_ = والطبري: التفسير: 7: 255، 256، وأبو يعلى (5159)، وأبو عوانة: 1: 73، 74، والشاشي (334 - 337)، وابن منده: الإيمان (266، 267، 268)، والبيهقي: 10: 185، وابن حبان (253). (¬1) في ظلال القرآن: 2: 1143 بتصرف.

فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: "اللهمَّ! لك الحمدُ كلّه، اللهمَّ! لا قابض لما بَسَطْت، ولا باسط لمَا قَبَضتَ، ولا هاديَ لمَا أَضْلَلْتَ، ولا مُضلَّ لمَن هَدَيْتَ، ولا معطِيَ لمَا مَنَعْتَ، ولا مانِعَ لمِا أَعْطَيْتَ، ولا مُقَرِّبَ لمِا باعَدْتَ، ولا مُباعِدَ لمَا قَرَّبْتَ، اللهُم! ابْسُطْ عَلَيْنَا مِن بَرَكَاتِكَ، ورحمتك وفضلِكَ ورزقك، اللهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيْمَ الذي لا يَحُولُ ولا يَزُولُ، اللهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْف، اللهُمَّ! عَائِذٌ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وشَرِّ مَا مَنَعتَنَا، اللهُمَّ! حَبِّبْ إِلينا الإِيْمانَ، وَزَيِّنهُ في قُلُوبِنَا، وَكَرِّهُ إِلينا الْكُفْر والفُسوقَ والعِصْيَان، واجعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِين، اللهُمَّ! تَوَفَّنَا مُسْلِمين، وأَحينَا مُسْلِمِين، وَأَلحِقْنَا بالصَّالحِين، غير خَزَايا ولا مَفْتُونين، اللهُمَّ! قَاتِل الْكَفَرة الذين يكَذِّبُون رُسُلَكَ، وَيَصدّون عن سَبيلكَ، واجعَلْ عليهم رِجْزَكَ وعذابك، إِلَهَ الْحَقِّ، آمِيْنَ". (¬1) ويطالعنا ما رواه ابن حبان وغيره بسند حسن عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا رأى الْهِلالَ قال: "اللهُمَّ! أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بالأَمْنِ والإِيْمَان، والسَّلاَمَةِ والإِسلام، والتوفيق لما تُحبّ وتَرْضَى، رَبّنَا وربّكَ الله" (¬2) ¬

_ (¬1) الحاكم: 3: 23 - 24، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأحمد: 3: 424، والبخاري: الأدب المفرد (699)، والنسائي: الكبرى (10445)، وعمل اليوم والليلة (609)، والبزار: زوائد (1800)، وابن أبي عاصم: السنة (381) مختصراً، والطبراني: الكبير (4549)، والدعاء (1075)، وأبو نعيم: الحلية: 10: 127، وانظر: الحاكم: 1: 506 - 507، والمجمع: 6: 122. (¬2) ابن حبان (888)، وأحمد: 1: 162، وفيه سليمان بن سفيان، ضعّفه ابن معين، وابن المديني، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، والدارقطني، وبلال بن يحيى بن طلحة ليّن، والترمذي (3451)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وعبد بن حميد (103)، والبخاري: التاريخ الكبير: 2: 109، (1861)، والبزار (947)، وابن أبي عاصم: السنة (376)، =

الأمن عبر التاريخ

الأمن عبر التاريخ: ومن هنا نبصر أهميّة بيان الأصل والسلام عبر التاريخ في رحاب أول بيت وضع في الأرض للعبادة إلى أن تقوم الساعة! وصدق الله العظيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} (آل عمران)! {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} (سورة الفيل)! {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} (سورة قريش)! ¬

_ = وأبو يعلى (661، 662)، والعقيلي: الضعفاء: 2: 136، والطبراني: الدعاء (903)، وابن السني: اليوم والليلة (641)، وابن عدي: الكامل: 3: 1121، والخطيب: 14: 324 - 325، والحاكم: 4: 285، والبغوي (1335)، وحسَّنه الحافظ: نتائج الأفكار، ونقله عنه ابن علان: الفتوحات الربَّانية: 4: 329، وقال: إنما حسَّنه الترمذي لشواهده، وقول الترمذي: غريب، أي بهذا السند! وله شاهد عن ابن عمر: الدارمي: 2: 4، والطبراني: الكبير (13330)، وفي إسناده ضعف! وعن عبد الله بن هشام قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعلّمون هذا الدعاء وإذا أدخلت السنة أو الشهر: اللهم! أدْخله علينا .. فذكر نحوه، قال الهيثمي، المجمع: 10: 139، رواه الطبراني: الأوسط، وإسناده حسن. وتعقَّبه الحافظ في الحاشية بقوله: فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف. وانظر: الأحاديث الصحيحة (1816).

وما أحوجنا كأمّة أن نعرف معالم (ديننا القيّم)، الذي يحمل الكثيرون اسمه، ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة والتقليد أكثر مما يجب أن يكونوا عليه من الفهم والسلوك، وأن يكيّفوا حياتهم في دائرة الإذعان والخضوع، والانقياد والخشوع، لأمر الله ورسوله: رجاء أن نرى خير أمّة أخرجت للناس، تدعو إلى هذا (الدّين القيّم)، وترفع راية الأمن والإيمان والسلامة والإِسلام عبر التاريخ! ولا سلام لعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام، ومن ثم فإن الإيمان الحق هو الأساس، ومنهج (الدّين القيّم) هو المنهج الذي يدعو إلى الأمن والسلام! ومعلوم أن التصوّر الإِسلامي للسلام العالمي له خصائص .. انطلاقاً من وحدة الوحي والمصدر: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} (الشورى)! والموُحِي هو الله عزّ وجلّ العزيز الحكيم! والموُحَى إليهم هم رسل الله على مدار الزمان! والوحي واحد في جوهره، على اختلاف الرسل، واختلاف الزمان! (¬1) إنها حقيقة بعيدة البداية، ضاربة في أطواء الزمان، وسلسلة كثيرة الحلقات، ومنهج ثابت الأصول، على تعدّد الفروع! وهذه الحقيقة -على هذا النحو- حين تستقرّ في ضمائر المؤمنين تشعرهم بأصالة ما هم عليه وثباته، ووحدة حقيقته وطريقه، وتشدّهم إلى مصدر هذا الوحي: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)}! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 3139 وما بعدها بتصرف.

كما تشعرهم بالقرابة بينهم وبين المؤمنين أتباع الوحي، عبر آباد الزمان، وأبعاد المكان: فتلك أسرتهم تضرب في بطون التاريخ، وتمتدّ جذورها في شعاب الزمن، وتتصل كلها بالله في النهاية، فيلتقون فيه جميعاً! وهو {الْعَزِيزُ} القويّ القادر {الْحَكِيمُ} الذي يوحي لمن يشاء بما يشاء، وفق حكمة وتدبير! فأنّى يصرفون عن هذا المنهج الإلهيّ الواحد الثابت إلى السبل المتفرّقة التي لا تؤدّي إلى الله، ولا يعرف لها مصدر، ولا تستقيم على اتجاه قاصد قويم؟ وبعد ذلك مباشرة يطالعنا قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} (الشورى)! وكثيراً ما يُخدع الناس فيحسبون أنهم يملكون شيئاً، لمجرد أنهم يجدون أشياء في أيديهم، مسخرةً لهم، ينتفعون بها، ويستخدمونها فيما يشاؤون .. ولكن هذا ليس ملكاً حقيقيًّا، إنما الملك لله عزّ وجل مالك الملك .. الذي يحيي ويميت .. ويملك أن يعطي البشر ما يشاء .. وأن يذهب بما في أيديهم من شيء .. وأن يضع في أيديهم بدلًا مما أذهب! الملك الحقيقي لله الذي يحكم طبائع الأشياء، ويصرفها وفق الناموس المختار، فتلبي وتطيع، وتتصرّف وفق ذلك الناموس! وكل ما في السماوات وما في الأرض من شيء (لله) بهذا الاعتبار الذي لا يشاركه فيه أحد سواه!

{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}! فليس هو المالك فحسب، ولكنه ملك العلوّ والعظمة، على وجه التفرّد كذلك! العلوّ الذي كل شيء بالقياس إليه سفول، والعظمة التي كل شيء بالقياس إليها ضآلة! ومتى استقرّت هذه الحقيقة استقراراً صادقاً في الضمائر، عرف الناس إلى أين يتجهون فيما يطلبون لأنفسهم من خير ومن رزق ومن كسب، فكل ما في السماوات وما في الأرض (لله) الذي بيده العطاء! {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}! الذي لا يصغر ولا يسفل من يمدّ يده إليه بالسؤال، كما لو مدّها إلى مخاليق، وهم ليسوا بأعلياء ولا عظماء! ثم يعرض مظهراً لخلوص الملكيّة (لله) في الكون، وللعلوّ والعظمة كذلك .. يتمثّل في حركة السماوات تكاد تنفطر من روعة العظمة التي تستشعرها (لله)، ومن زيغ بعض من في الأرض عنها! كما يتمثّل في حركة (الملائكة) يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون لمن في الأرض من انحرافهم وتطاولهم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}! السماوات، هذه الخلائق الضخمة الهائلة التي نراها تعلونا، حيثما كنّا على ظهر هذه الأرض، والتي لا نعلم إلا أشياء قليلة عن جانب منها صغير!

وقد عرفنا حتى اليوم أن بعض ما في السماوات نحو من مائة ألف مليون مجموعة من الشموس، في كل منها نحو مائة ألف مليون شمس كشمسنا هذه، التي مبلغ حجمها أكثر من مليون ضعف من حجم أرضنا الصغيرة! وهذه المجموعات من الشموس التي أمكن لنا -نحن البشر- أن نرصدها بمراصدنا الصغيرة متناثرةً في فضاء السماء مبعثرةً، وبينها مسافات شاسعة تحسب بمئات الألوف والملايين من السنوات الضوئيّة، أي المحسوبة بسرعة الضوء التي تبلغ 000/ 168 ميل في الثانية! هذه السماوات التي عرفنا منها هذا الجانب الصغير المحدود يكدن يتفطّرن من فوقهن .. من خشية الله وعظمته وعلوه .. وإشفاقاً من انحراف بعض أهل الأرض، ونسيانهم لهذه العظمة التي يحسّها ضمير الكون، فيرتعش وينتفض، ويكاد ينشق من أعلى مكان فيه! والملائكة دائبون في تسبيح ربّهم، لما يحسّون من علوه وعظمته، ولما يخشون من التقصير في حمده وطاعته. بينما أهل الأرض المقصّرون الضعاف ينكرون وينحرفون، فيشفق الملائكة من غضب الله ويروحون يستغفرون لأهل الأرض، مما يقع من معصية وتقصير! وهنا نبصر تقرير معنى عظمة الله تعالى وجلاله، المدلول عليهما بقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)}! مرتبة واجب الوجود سبحانه، وهو أهل التنزيه والحمد! (¬1) ومرتبة الروحانيّات، وهي الملائكة، وهي واسطة المتصرّف القدير، ¬

_ (¬1) التحرير التنويري: 25: 31.

ومفيض الخير في تنفيذ أمره، من تكوين وهدى وإفاضة الخير على الناس .. فهي حين تتلقّى من الله أوامره تسبّحه وتحمده .. وحين تفيض خيرات ربّها على عباده تستغفر للذين يتقبّلونها تقبّل العبيد المؤمنين بربّهم! وتلك إشارة إلى حصول ثمرات إبلاغها، وذلك بتأثيرها في نظم أحوال العالم الإنساني! ومرتبة البشريّة المفضّلة بالعقل، إذا أكمله الإيمان: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}! ونبصر استغفار الملائكة للدَّين آمنوا ونحن نقرأ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} (غافر)! ويطالعنا إشفاق الملائكة من أيّة معصية تقع في الأرض، حتى من الذين آمنوا .. وكم يرتاعون لها فيستغفرون ربّهم، وهم يسبّحون بحمده استغفاراً لعلوّ عظمته .. واستهوالًا لأيّة معصية تقع في ملكه .. واستدراراً لمغفرته ورحمته، وطمعاً فيهما: {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}! فيجمع إلى العزّة والحكمة العلوّ والعظمة، ثم المغفرة والرحمة .. ويعرف العباد ربهم بصفاته! وتبدو للضمير صورة هؤلاء المناكيد التعساء، وهم يتخذون من دون الله أولياء، وأيديهم مما كسبت خاوية، وليس هنالك إلا الهباء! (¬1). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 5: 3141 بتصرف.

{أم القرى ومن حولها}

تبدو للضمير صورتهم في ضآلتهم وضآلة أوليائهم من دون الله! ولابد أن تستقرّ هذه الحقيقة في ضمائر المؤمنين لتهدأ وتطمئن من هذا الجانب في جميع الأحوال! ومن ثم يسير المؤمنون في طريقهم، مطمئنين إلى أنه الطريق الموصول بوحي الله، وأن ليس عليهم من ضير في انحراف المنحرفين عن الطريق، كائناً ما يكون هذا الانحراف! {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}: ويعود السباق القرآني إلى الحقيقة الأولى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)} (الشورى)! و {أُمَّ الْقُرَى} مكّة المكرمة، بيت الله العتيق فيها .. والتي سبق أن ذكرنا أنها عبر التاريخ مكان الأمن والسلام! وحين ننظر اليوم من وراء الحوادث واستقرائها، ومن وراء الظروف ومقتضياتها .. وبعدما سارت الدعوة في الطريق الذي سارت فيه! حين ننظر اليوم هذه النظرة ندرك طرفاً من حكمة الله تعالى في اختيار {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} في ذلك الوقت من الزمان، لتكون مقرّ الرسالة الخاتمة الأخيرة، التي جاءت للبشريّة كلها .. والتي تتصح عالميّتها منذ أيامها الأولى!

{الله أعلم حيث يجعل رسالته}

ومعلوم أن الأرض المعمورة -عند مولد هذه الرسالة الخاتمة الأخيرة- تكاد تتقسّمها امبراطوريات أربع: الإمبراطوريّة الرومانيّة في أوروبّا وطرف من آسيا وإفريقيا! والإمبراطوريّة الفارسيّة وتمدّ سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقيا! والإمبراطوريّة الهنديّة، ثم الإمبراطوريّة الصينيّة، تكادان تكونان مغلقتين ومنعزلتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسيّة وغيرها، وهذه العزلة كانت تجعل الإمبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوّراتها! ومن ثم جاء (الدّين القيم) لينقذ البشريّة كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد، وجاهليّة جهلاء، وفوضى عمياء، في كل مكان معمور! جاء ليهيمن على حياة البشريّة، ويقودها في الطريق إلى الله، على هدى وعلى نور! ولم يكن هنالك بدٌّ من أن يبدأ الإِسلام رحلته من أرض حرّة، لا سلطان فيها لإمبراطوريّة من تلك الإمبراطوريّات، وأن ينشأ نشأة حرّة لا تسيطر عليه فيها قوّة خارجة عن طبيعته! وكانت الجزيرة العربيّة، و {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} بالذات أصلح مكان على وجه الأرض لتلك النشأة، ليبدأ الإِسلام رحلته العالميّة المباركة، منذ اللحظة الأولى! {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}: ونزل القرآن عربيًّا لينذر {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}!

وعاش الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى خلصت الجزيرة العربية للإسلام، وتمحّض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها عن علم! كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض، حيث بلغت العربيّة نضجها، وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة، والسير بها في أقطار الأرض: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124)! ونبصر السياق القرآنيّ يعود إلى الحقيقة الأولى، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف، وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله عزّ وجلَّ يتضمن حكم الله، كي لا يكون للهوى المتقلّب أثر في الحياة، بعد ذلك المنهج الإلهي القويم: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} (الشورى)! ويعود بعد ذلك مباشرة إلى تلك الحقيقة .. تقرير وحدة المصدر، ووحدة المنهج، ووحدة الاتجاه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} (الشورى)! ونبصر أتباع الرسل قد تفرّقوا شيعًا وأحزاباً: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}! إنهم لم يتفرّقوا عن جهل، ولم يتفرّقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم، ويربط رسلهم ومعتقداتهم! إنما تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم! تفرّقوا بغيًا وحسدًا وظلمًا للحقيقة ولأنفسهم سواء! تفرّقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة والشهوات الباغية! تفرّقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة! ولو أخلصوا لعقيدتهم واتّبعوا منهج تلك العقيدة ما تفرّقوا! ولقد كانوا يستحقّون أن يأخذهم الله أخذاً عاجلاً، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرّق والتفريق، ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها، بإمهالهم إلى أجل مسمى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}!

فحق الحق، وبطل الباطل، وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا, ولكنهم مؤجّلون -كما أسلفنا- إلى يوم الوقت المعلوم! فأمّا الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرّقوا وفرقوا من أتباع كل نبيّ، فقد تلقوّا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثاراً لعدم الجزم بشيء، وللشك والغموض والحيرة بين شتّى المذاهب والاختلافات: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}! وما هكذا تكون العقيدة؛ لأنها هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن، فتميد الأرض من حوله، وهو ثابت راسخ القدمين فوق تلك الصخرة التي لا تميد .. وهي النجم الهادي الثابت، يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع، فلا يضل ولا يحيد! فأمّا حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة، فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها, ولا قرار له على جهة، ولا اطمئنان إلى طريق! لقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله، ويقودوا - من وراءهم- من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال، فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد، وهم أنفسهم حائرون، وكذلك كان أتباع الرسل يوم جاء هذا (الدّين القيّم)! يقول المفكر الإِسلامي (أبو الحسن الندوي) - رحمه الله: (¬1) (أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرّفين ¬

_ (¬1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 37 - 38 دار القلم، ط تاسعة 1393 هـ 1973 م.

والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأوّلون، لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام، وعسف الحكام، وشغلت بنفسها, لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنويّاتها، ونضب معين حياتها, لا تملك مشرعاً صافياً من الدّين السماويّ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري)! ويقول الكاتب الأوروبيّ (ج. هـ. دنيسون) في كتابه (العواطف كأساس للحضارة): (¬1) (في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يك ثمّ ما يعتدّ به مما يقوم مقامها، وكان يبدو إذ ذاك أن المدنيّة الكبرى التي تكلّف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكّك والانحلال، وأن البشريّة توشك أن ترجع ثانيةً إلى ما كانت عليه من الهمجيّة، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام، أما النظم التي خلّفتها المسيحيّة فكانت تعمل على الفرقة والانهيار، بدلاً من الاتحاد والنظام، وكانت المدنيّة كشجرة ضخمة متفرّعة امتدّ ظلّها إلى العالم كله، واقفةً تترنح، وقد تسرّب إليها العطب، حتى اللباب .. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحّد العالم جميعه!). يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم -! ¬

_ (¬1) ترجمة (Emotion as the Basis of Givilisation) نقلاً عن: في ظلال القرآن: 5: 3149.

ولأن أتباع الرسل تفرقوا: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}! ولأن: {الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}! لهذا وذاك، ولخلوّ مركز القيادة البشريّة من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله .. أرسل الله عز وجلّ محمداً - صلى الله عليه وسلم -، ووجّه إليه الأمران يدعو وأن يستقيم على دعوته، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة، وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} (الشورى)! يقول ابن كثير: (اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قالوا: ولا نظير لها إلا آية الكرسي، فإنها -أيضاً- عشرة فصول كهذه) (¬1). إنها القيادة الجديدة للبشريّة جمعاء .. القيادة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت .. القيادة التي تدعو إلى الله على بصيرة .. وتستقيم على أمر الله دون انحراف .. وتنأى عن الأهواء المضطربة من هنا وهناك! القيادة التي تعلن وحدة النهج والطريق .. وتردّ الإيمان إلى أصله الثابت الواحد .. وتردّ البشرية إلى ذلك الأصل الواحد! ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 4: 109، وانظر: بدائع التفسير: 4: 114 - 115 والتحرير والتنوير: 6025 وما بعدها.

وفي ختام تلك السورة نقرأ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} (الشورى)! وهنا نبصر مرّة من بعد مرّة قاعدة التصوّر الإِسلامي للسلام العالمي .. في حقيقة هذا الوحي .. هذا الروح .. هذا النور الذي تخالط بشاشته القلوب الحي يشاء الله لها أن تهتدي! وقد حفظ لنا ديننا كيف ارتبط تاريخ الإِسلام والنبوّة بهذه الرحاب الطاهرة .. وكيف سعى إبراهيم الخليل عليه السلام، وأسكن من ذريته بواد غير ذي زرع .. وكيف كان الفداء! وفوق هذه الأرض سعى خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل .. واستجاب الأنصار للرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وفتحت مكة .. وخطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - داعياً إلى الإيمان، مؤكدًا إكرامه الإنسان! ونبصر في الحج وحدة إسلامية تظهر في أصالتها كل عام (¬1)، وفي بقاء هذا الدّين بعيداً عن التحريف والغموض والالتباس، وبقاء هذه الأمة بعيدة عن الانقطاع عن الأصل والمصدر والأساس، محفوظة من المؤامرات؛ المغالطات التي وقعت أمم كثيرة فريستها في الزمن الماضي، وعن هذا الطريق تبقى الأمّة ¬

_ (¬1) انظر كتابنا {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}: 26 وما بعدها، و"الإِسلام دين السلام العالمي وحاجة الإنسانية إليه": 104 وما بعدها.

الخالدة محتفظةً بالحنيفيَّة السمحة، الثائرة على الباطل، القويّة بالحق، وتتوارثها جيلاً بعد جيل، فكأنها الجَنان القوي الفيّاض الذي يبث الحياة! هذا، والجماعة المسلمة الأولى تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها! (¬1). لقد كانت قريبة عهد بما كان عليه العرب من ضلال في التصوّر والاعتقاد، وضلال في الحياة الاجتماعيّة والأخلاقيّة! تمثله تلك الفوارق الطبقيّة، والمشاحنات القبليّة التي لم تجعل من العرب أمةً يحسب لها حساب في العالم الدولي! وتمثله تلك الفوضى الخلقيّة التي كانوا عليها! وتمثّله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعفاء! وتمثله حياة العرب بصفة عامّة، ووضعهم الذي لم يرفعهم منه إلا هذا الدّين، وحين كانوا يبيتون في مبيت واحد، ويفيضون إفاضة واحدة: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} (البقرة)! كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزّريّة الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله، ثم يتلفّتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه هذا الدّين، والذي هداهم الله إليه بهذا الدّين، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 1: 199 بتصرف.

وهذه الحقيقة ما تزال قائمةً بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل: من هم بغير هذا الدين؟ وما هم بغير هذه العقيدة؟ ويطالعنا قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} (المائدة)! إنها الكعبة الحرام! والأشهر الحرم! منطقة الأمان، يقيمها الحق للبشر في زحمة الصراع بين المتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين! بين الرغائب والمطامع والشهوات! فتحلّ الطمأنينة مكان الخوف! ويحل السلام مكان الخصام! وترفرف أجنحة من الحب والسلام! وتدرّب النفس في واقعها العملي -لا في عالم الله والنظريات- على هذه المشاعر، وتلك المعاني، فلا تبقى مجرّد كلمات مجنحة ورؤى حالمة! لقد جعل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه المحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان بالأمن

في البيت الحرام، وفي فترَة الإحرام بالنسبة للمحرم، حتى وهو لم يبلغ الحرم، كما جعل الأشهر الحرم الأربعة لا يجوز فيها القتل ولا القتال! جعلها الله كذلك؛ لأنه أراد للكعبة -بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام، تقي الناس الخوف والفزع! كذلك جعل الأشهر الحرم، لتكون منطقة أمن في الزمان، كالكعبة منطقة أمن في المكان! ثم مدّ رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقًّا للهدي -وهو النّعم- الذي يطلق ليبلغ الكعبة .. فلا يمسه أحد في الطريق بسوء، كما جعله لمن يتقلّد من شجر الحرم، معلناً احتماءه بالبيت العتيق! لقد جعل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الحرمات، وجعل الكعبة البيت الحرام مثابةً للناس وأمناً! حتى لقد امتنَّ به على المشركين أنفسهم؛ إذ كان بيت الله بينهم -كما أسلفنا- مثابةً لهم وأمناً، والناس من حولهم يتخطفون، وهم فيه وبه آمنون، ثم هم بعد ذلك لا يشكرون الله، ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} (القصص)! إنها النظرة السطحيّة الخاطئة (¬1)، أوحت إلى هؤلاء أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة، ويُغري بهم الأعداء! ¬

_ (¬1) السابق: 5: 2703 بتصرف.

ومع ذلك فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون في الوقت ذاته أن يتخطفهم الناس، وهم لا يدركون أن قوى الأرض لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله، ولا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله، ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم! ولو خالطها لتبدّلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في التزام منهج الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هُداه، وأن هذا الهدى موصول بالعزّة، وأن هذا ليس وهماً، وليس قولًا يقال لطمأنة القلوب .. إنما هو حقيقة عميقة، منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وهداه، والاستعانة بهذه القوّة وتسخيرها في الحياة، والذي يتبع هُدى الله يستمدّ مما في الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد في واقع الحياة! وهُدى الله منهج حياة صحيحة .. حياة واقعة في هذه الأرض .. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضيّة إلى جانب السعادة الأخرويّة! وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة .. ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقّق أهداف الحياة الآخرة، إنما هو يربطهما معاً برباط واحد: صلاح القلب! وصلاح المجتمع! وصلاح الحياة! ومن ثم نبصر الطريق إلى الآخرة، فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة هذه

الأرض وسيادتها وفق المنهج الرباني وسيلة إلى سعادة الآخرة، بشرط اتباع هُدى الله والتوجيه إليه بالعمل، والتطلّع إلى رضاه! وما حدث قطّ في تاريخ البشريّة أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوّة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف، بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة .. أمانة الخلافة في الأرض، وتصريف الحياة! وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله، والسير على هداه .. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم .. ويشفقون من تألّب الخصوم عليهم .. ويشفقون من المضايقات في الحياة! وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}! فلما تبعت هدى الله سيطرت على مشارق ومغاربها في ربع قرن أو أقلّ من الزمان! وقد ردّ الله عليهم في وقتها بما يكذّب هذا العذر الموهوم! فمن الذي وهبهم الأمن في رحاب الحرم الآمن؟ ومن الذي جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعاً؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرّقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا}! فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هُدى الله، والله هو الذي مكّن لهم هذا الحرم منذ أيّام إبراهيم عليه السلام؟

أفمن أمّنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}! لا يعلمون أين يكون الأمن! وأين تكون المخافة! ولا يعلمون أن الأمر لله! وهؤلاء الذين كانوا يدينون بحرمة البلد الحرام والبيت الحرام، ويستمدّون سيادتهم من عقيدة تحريم البيت، كيف لا يوحّدون الله الذي حرّمه وأقام حياتهم عليه! ويطالعنا إعلان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مأمور أن يعبد ربّ هذه البلدة الذي حرّمها، لا شريك له، وأن ربّ هذه البلدة هو ربّ كل شيء في الوجود، وأنه مأمور بأن يكون من المسلمين. والرّعيل الممتدّ في الزمن المتطاول من الموحدّين: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)} (النمل)! ويطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو ابن سعيد. وهو يبعث البعوث إِلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولاً قام به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلّم به: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إِن مكّة حرّمها الله، ولم يُحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضدَ بها شجرةً، فإِن أحد ترخَّص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا: إِن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم،

وإِنما أذن له فيها ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلِّغ الشاهد الغائب". فقيل لأبي شريح: ما قال عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، لا يعيذُ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة! (¬1) وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم افتتح مكّة: "لا هجرة، ولكن جهاد ونيّة، وإِذا استُنفرتم فانفروا، فإِن هذا بلدٌ حرّم الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إِلى يوم القيامة، وإِنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إِلاّ ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إِلى يوم القيامة، لا يعضدُ شوكه، ولا يُنفَّر صيده، ولا يلتقطُ لُقطته إِلاّ من عرّفها, ولا يُختلى خلاها". قال العباس: يا رسول الله! إِلاّ الإِذخر، فإنه لقَيْنهم ولبيوتهم، قال: "إِلا الإِذخر" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري: 3 - العلم (104)، وانظر (1832، 4295)، وخلق أفعال العباد (51)، ومسلم (1354)، وأحمد: 4: 31، 32، 384، 385، وأبو داود (4504)، والترمذي (809، 1406)، والنسائي: 5: 205 - 206، والكبرى (5846)، والفاكهي: أخبار مكة (1493)، والبيهقي: الدلائل: 5: 82 - 83، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (4791)، ومعاني الآثار 2: 261، والطبراني: الكبير: 22 (484). (¬2) البخاري: 28 - جزاء الصيد (1834)، وانظر (2783، 2825، 3077)، ومسلم (1353)، وعبد الرزاق (9713)، وأحمد: 1: 226، 259، 315 - 316، 355، وابن أبي عاصم: الجهاد (261)، والدارمي: 2: 239، والترمذي (1590)، والنسائي: 5: 203، 204، 7: 146، وأبو داود (2018، 2480)، والطحاوي: شرح المشكل (2615، 2616، 3138)، والقضاعي (846)، والطبراني: الكبير (10943، 10944)، وابن حبان (4592).

ومن الطبيعي أن يحنّ المسلم، لا سيما الوافد من مكان بعيد إذا قضى حجّه، (¬1) وأدّى مناسكه، إلى مهجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إلى المسجد الذي انبثق منه النور، وانطلقت منه موجة الهداية والعلم، وقوّة (الدين القيم) في العالم كله! إلى المدينة المنوّرة التي آوى إليها الإِسلام -كما سيأتي- وتمثّلت فصول التاريخ الإِسلاميّ الأوّل، وشهد ترابها جهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحبه رضي الله عنهم، وابتل بدماء الشهداء، فيصلِّي في المسجد الذي تعادل صلاة فيه ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام! يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إِلا المسجد الحرام" (¬2). ويروي البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار: إسناده حسن. (¬3) ويشهد المسلم مواقف الشهداء والصّدّيقين، والسابقين الأوّلين، فيستمدّ ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}: 45 يتصرف. (¬2) البخاري: 20، فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، ومسلم (1394)، ومالك: 1: 196، وابن أبي شيبة: 2: 371، والدارمي: 1: 330، وأحمد: 2: 256، 386، 366، 473، 485، والحميدي (940)، وأبو يعلى (5857)، والطحاوي: شرح المشكل (596، 604)، والترمذي (325، 3916)، والنسائي: 5: 35، 142، والكبرى (684)، وابن ماجه (1404)، وابن حبان (1621، 1625). (¬3) انظر: فتح الباري: 3: 67.

الصدق والإيمان، والحبّ والحنان، والبطولة والشهادة، ويصلي ويسلّم على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتعرّف معالم الطريق إلى الله عزّ وجل! ويعود المسلم بذاكرته إلى مكّة، حين يقرأ ما رواه مسلم وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السلاح" (¬1). وفي رواية قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِن إِبراهم حرّم مكّة، وإِنِّي حرّمت المدينة، ما بين لابَتَيها, لا يُقطع عضاهها, ولا يُصاد صيدها" (¬2). ويقرأ ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي" (¬3). وتسيطر علينا روحانيّة عالية، يعجز القلم عن تصويرها .. وتهبّ نفحات حرمة الزمان والمكان. ونتعرّف معالم الطريق إلى الأمن والسلام، في عالم أحوج ما تكون الإنسانيّة فيه إلى معرفة معالم هذا (الدّين القيم)، ليبصر العالم طريق الهداية إلى السلام الذي يسكبه هذا الدّين في الحياة كلها! ¬

_ (¬1) مسلم: 15 - الحج (1356)، والبيهقي: 5: 155، والبغوي (2005)، وابن حبان (3714). (¬2) مسلم (1362). (¬3) البخاري: 29 - فضائل المدينة (1888)، وانظر (6588، 7335)، ومسلم (1391)، ومالك: 1: 197، وأحمد: 2: 236، 401، 438، وعبد الرزاق (5243)، وابن سعد: 1: 253، وابن أبي شيبة: 11: 439، والبيهقي: 5: 246، وابن عبد البر: التمهيد: 2: 5286، والطحاوي: شرح المشكل (2878)، والطبراني: الصغير (1110)، وأبو نعيم: أخبار أصبهان: 2: 276، 332، والترمذي (3916)، وابن حبان (3750).

حقوق الإنسان

حقًّا، إننا أمّة تملك إنقاذ البشريّة من ويلات الجاهليّة وحربها المشبوبة في شتّى الصور والألوان .. ولكننا لا نملك ذلك قبل أن ننقذ أنفسنا مما نحن فيه، وقبل أن نفيء إلى ظلال الأمن والسلام! السلام الذي لا تجده البشريّة -ولم تجده يوماً- إلاّ في هذا (الدّين القيّم)، وفي منهجه ونظامه وشريعته ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته! وإن محنة الساعة التي تواجهنا، والتي سلبتنا مقدّساتنا، يجب أن نقول فيها كلمة حق، لا رياء فيها ولا زيف، ولا مداراة ولا حيف! وإذا أهملنا قضية (الدّين القيّم) بالمعنى الحقيقي ضاع الإنسان، وضاعت القيم، وضاع الأمن والسلام! حقوق الإنسان: وإن أوروبا عاشت في غفلتها وتأخرّها، وغفوتها وتخلفها، خلال القرون الوسطى في جوّ من التفكك الفكري والاجتماعي، يختلف تماماً عما كان عليه العالم الإِسلاميّ من حضارة زاهرة، حتى فتحت أعينها على روائع الحضارة الإِسلاميّة، وبدأت تحطم القيود والأغلال .. إلى أن كانت نهضتها الحديثة! في الوقت الذي ظهر فيه التخلّف والتفكّك في المجتمع الإِسلامي، والتخلّي عن حمل لواء الحضارة، والأمن والسلام، حتى كان ما كان من بسط النفوذ الاستعماري على مقدّراتنا، كما يشهد الواقع! وقد شهدت أوروبا في العصر الحديث حركات متعدّدة تتوخّى معالجة التخلّف، كما تتوخى مسح جراح الجماهير!

وأفقنا نحن من غفلتنا الطويلة على ضجيج الحضارة الغربيّة الحديثة ومخترعاتها! وكما هي السنة الجارية من افتتان الضعفاء بالأقوياء، ساد الفكر- الثقافي المعاصر جَوٌّ من الإعجاب بالحركات السائدة في عالم الحضارة المعاصرة، يصحبه جَوٌّ من الشك فيما بين أيدينا من تراث عَقَدي وحضاري، وأمان وسلام، من حيث الصلاح للحياة الحديثة! وأخذ هذا الصوت يخفت شيئاً فشيئاً، بعد أن تكشفت الأمور! وجدير بنا أن نتعرّف الذي نام في النور! ونتعرّف حال الذي استيقظ في الظلام! الأول: يصدق على المسلمين، وأشعة الوحي تغمر ما حولهم، وتنير الطريق أمامهم إلى الأمن والسلام، وهم في غفلة! والثاني: يصدق على أولئك الذين استيقظوا في الظلام، وساروا بقوَّة، وهم في حرمان من شعاع يهديهم الطريق! ولا تزال النقائص تترى وتتتابع! وليس هناك ما يحول دون ذلك! وقصّة حقوق الإنسان مثل صادق لهذه المفارقات! وقد ادعت الأمم الأخرى أن العالم الإنسانيّ مدين لها بتقرير حق المساواة، وحق الحريّة، وحق الأمن والسلام! فذهبت أمّة إلى أنها أعرق شعوب العالم في هذا المضمار!

وزعمت أخرى أن هذه الاتجاهات جميعًا وليدة ثورتها! وأنكرت أخرى على هذه وتلك هذا القول وأدعته لنفسها! والحق أن (الدّين القيّم) هو أوّل من قرّر هذه المبادئ، في أكمل صورة وأوسع نطاق! يظهر ذلك واضحاً جليًّا حين نذكر ميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر عام 1948 م! في الوقت الذي تطالعنا فيه حقوق الإنسان منذ بعث الله خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -! ولا وجه للمقارنة بين حقوق الإنسان في الإعلان العالمي وحقوق الإنسان في الإِسلام! يروي مسلم وغيره قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من حدثي طويل عن جابر - رضي الله عنه -: "إِن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهليّة موضوعة، وإِن أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل! وربا الجاهليّة موضوع، وأوّل رباً أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله! فاتّقوا الله في النساء، فإِنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشَكم أحداً تكرهونه، فإِن

فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبَرِّح، ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف! وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إِن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عنِّي، فما أنتم قائلون؟! قالوا: نشهد أنك بلّغت وأدّيت ونصحت، فقال بإِصبعه السبابة، يرفعها إِلى السماء وَينْكُتُها إِلى الناس: اللهم! اشهد. اللهم! اشهد (ثلاث مرات) " (¬1). وإذا كان العصر الحديث قد ألجأته ظروف التوتر المتتابعة، والقلق المتزايد، لإقامة هيئة الأمم، ومجلس الأمن والإعلان العالمي لحقوق الإنسان -كما عرفنا- فإن من معالم (الدين القيّم) إقامة هذا المؤتمر العالمي بخصائصه الحيّة، ووسائله المباركة، على أنه عبادة، وأن المنطقة التي يكون فيها منطقة محرّمة، يحرم فيها الجدال والفسوق، والتنابز والعقوق، كما يحرم التعرّض بالأذى لكل مخلوق، حتى وجدنا الطير يعيش دون ما خوف، في حرمة الزمان، وحرمة المكان! وواضح أن هذه الضمانات لا يمكن أن تكون في المؤتمرات التي هي من صنع البشر، وهي تجعل للقويّ صوتاً نافذاً بما تعطيه من حق الاعتراض (الفيتو) كما يزعمون! ¬

_ (¬1) مسلم: 15 - الحج (1218)، وفيه قصة طويلة .. والدارمي: 2: 44، 45، وابن الجارود (469)، والبيهقي: 5: 7 - 9، 49، والشافعي: 2: 54، والبغوي (1928)، وأبو داود (1905، 1906)، والنسائي: 1: 290، وابن ماجه (3074)، وابن حبان (1457).

دعوة إبراهيم

ومعلوم أن من اعتمد على زاد مثله طال جوعه! ومن نام في مواطن الخطر طال هجوعه! ومن شغلته شهرته عن كرامته كثرت حسرته! ومن صرفته أحلامه عن تحقيق آماله ازدادت ندامته! وعجيب والله أمر من يحاول إطفاء النار بالبنزين! دعوة إبراهيم: ونذكر دعوة إبراهيم عليه السلام! {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (إبراهيم)! {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 126)! واستجاب الله عَزَّ وَجَلَّ دعوة خليله إبراهيم عليه السلام، وهو يتوجّه إلى الله عقب بناء البيت وتطهيره، فجعل هذا البيت آمناً، وجعله عتيقاً من سلطة المتسلّطين، وجبروت الجبّارين، وجعل من يأوي إليه آمنًا والمخافة من حوله في كل مكان .. حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربّهم عبادة الأصنام لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام! ويطول بنا الحديث لو حاولنا الوقوف أمام حادث أصحاب الفيل، وقد أفردناه بالحديث فيما سبق!

كذلك الحديث عن مركز الدعوة العاليّة، وإثبات أن (الكعبة مركز العالم)، و (الإعجاز العلمي في إثبات الوسطيّة في المكان) (¬1). تلك إشارات إلى مكانة المسجد الحرام .. تبصرنا ببعض معالم وجوه الحكمة في اختياره بدء الإسراء .. والله أعلم! * * * ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: (الكعبة مركز العالم) بالعربية والإنجليزية وتحت الترجمة إلى لغات أخرى، وأيضاً كتاب: (الإعجاز العلمي في إثبات الوسطيّة في المكان).

مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ • تاريخ المسجد الأقصى • في رحاب سورة الإسراء. • العصر الذهبي. • عهد الانقسام وزوال الملك. • مع الآيات القرآنيّة. • أشهر أقوال المفسّرين. • نبوءة المسيح عليه السلام. • رأي جديد. • سورة بني إسرائيل. • {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}. • ردّ الكرّة. • فرصة للاختيار. • بشرى للمؤمنين. • تعليق على المقال. • فتح المسلمين للقدس. • القدس الشريف. • خطبة الفاروق رضي الله عنه. • العهدة العمريّة. • أساطير التعصّب والحروب. • قذائف الحق. • نبوءة النصر.

تاريخ المسجد الأقصى

مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ تاريخ المسجد الأقصى: وبعد أن ألقينا الضوء على مكانة المسجد الحرام، وأنه أوّل بيت وضع في الأرض للعبادة .. يطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أيّ مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: "المسجد الحرام". قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: "المسجد الأقصى". قال: قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة فصله، فإن الفضل فيه". وفي رواية: حيثما أدركتك الصلاة فصلِّ، والأرض كلها مسجد" (¬1). قال ابن الجوزي (¬2): فيه إشكال؛ لأن إبراهيم بني الكعبة، وسليمان بني بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة. اهـ ¬

_ (¬1) البخاري: 60 - كتاب الأنبياء (3366)، وانظر (3425)، ومسلم (120)، وعبد الرزاق (1578)، والحميدي (134)، وابن خزيمة (787)، وأحمد: 5: 150، 156، 157، 160، 166، 167، والنسائي: 2: 32، والكبرى (11281)، وابن خزيمة (1290)، وأبو عوانة (1158، 1159، 1160)، وابن ماجه (753)، والبغوي: التفسير: 1: 328، وأبو نعيم: الحلية: 4: 217، وابن حبان (6228). (¬2) فتح الباري: 6: 408 وما بعدها بتصرف.

قال ابن حجر: ومستندة في أن سليمان -عليه السلام- هو الذي بني المسجد الأقصى ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً بإسناد صحيح: "أن سليمان لمَّا بنى المسجد سأل الله تعالى خلالًا ثلاثاً ... " الحديث. وفي الطبراني من حديث رافع بن عميرة: "أن داود عليه السلام ابتدأ ببناء المقدس، ثم أوحى الله إليه: إنّي لأقضي بناء على يد سليمان". وفي الحديث قصة. قال: وجوابه أن الإشارة إلى أوّل البناء، ووضع أساس المسجد! وليس إبراهيم أوّل من بني الكعبة، ولا سليمان أول من بني بيت المقدس، فقد روينا أن أول من بني الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس، ثم بني إبراهيم الكعبة بنص القرآن، وكذا قال القرطبي: إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما. قال ابن حجر: وقد مشى ابن حبان في صحيحه على ظاهر هذا الحديث فقال: في هذا الخبر ردّ على من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة، ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة، وهذا عين الحال لطول الزمان -بالاتفاق- بين بناء إبراهيم -عليه السلام- البيت وبين موسى -عليه السلام. ثم إن في نص القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة. وقد تعقَّب الحافظ الضياء بنحو ما أجاب به ابن الجوزي. وقال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض

أولياء الله قبل داود وسليمان، فزادا فيه ووسعاه، فأضيف إليهما بناؤه. قال: وقد ينسب هذا المسجد إلى إيلياء، فيحتمل أن يكون هو بانيه أو غيره، ولست أحقق لِم أضيف إليه؟ وقيل: الملائكة، وقيل: سام بن نوح عليه السلام، وقيل: يعقوب عليه السلام. فعلى الأوّلين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديداً كما في الكعبة، وعلى الأخير يكون الواقع من إبراهيم أو يعقوب أصلًا وتأسيساً. ومن داود تجديداً لذلك، وابتداء بناء فلم يكمل على يده، حتى أكمله سليمان عليه السلام. لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه. قال ابن حجر: وقد وجدت ما يشهد له، ويؤيد قول من قال: إن آدم هو الذي أسَّس كلاً من المسجدين. فذكر ابن هشام في (كتاب التيجان) أن آدم لمَّا بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه، فبناه ونسك فيه، وبناء آدم للبيت مشهور، وأشار إلى حديث عبد الله بن عمرو: أن البيت المعمور رفع في زمن الطوفان حتى بوأه الله لإبراهيم! وقال: روى ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم لمَّا هبط، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال الله له: يا آدم، إنّي قد أهبطت بيتاً يطاف به، كما يطاف حول عرشي، فانطلق إليه، فخرج آدم إلى مكّة، وكان قد هبط بالهند ومدّ له في خطوه، فأتى البيت فطاف به! وقيل: إِنه لما صلّى إِلى الكعبة أُمر بالتوجه إِلى بيت المقدس، فاتّخذ فيه مسجداً وصلّى فيه، ليكون قبلة لبعض ذرّيّته!

في رحاب سورة الإسراء

وأمّا ظن الخطابي أن إيليا اسم رجل ففيه نظر، بل هو اسم البلد، فأضيف إليه المسجد، كما يقال مسجد المدينة، ومسجد مكّة! وقال أبو عبيد البكري في (معجم البلدان): إيليا مدينة بيت المقدس، فيه ثلاث لغات: مدّ آخره، وقصره، وحذف الياء الأولى! وعلى ما قاله الخطابي يمكن الجمع بأن يقال: إنها سمّيت باسم بانيها كغيرها، والله أعلم! تلك هي الأقوال في بيان معنى الحديث كما أوردها الحافظ ابن حجر، رأيت ضرورة ذكرها لأهميّة ذلك! وقال الحافظ: قيل له الأقصى، لبعد المسافة بينه وبين الكعبة! وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة! وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث، والمقدّس: المطهّر عن ذلك! في رحاب سورة الإسراء: وسبق أن عرفنا فضل الصلاة في المسجد الأقصى .. وأنه قلب الأرض المقدّسة .. ومن ثمَّ نبصر الحديث عن سيرة موسى وبني إسرائيل، ونحن نقرأ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا

أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} (الإسراء)! وهذا الحديث في سورة الإسراء يتضمَّن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها (¬1)؛ ودالت دولتهم بها، وتكشف عن مصارع الأمم وفشوّ الفساد فيها، وفاقاً لسنة الله عَزَّ وَجَلَّ المذكورة في قوله تعالى في نفس السورة: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} (الإسراء)! وتطالعنا الآيات بذكر كتاب موسى -التوارة- وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل، وتذكير لهم بما سبق من ذكر نوح والأوّلين الذين حملوا معه في السفينة، ولم يُحمل معه إلا المؤمنون: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} (الإسراء)! ذلك الإنذار، وهذا التصديق مصدّق لوعد الله الذي يتضمّنه سياق السورة كذلك بعد قليل: ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2212 وما بعدها بتصرف، والرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه: 423 وما بعدها.

{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (الإسراء)! وقد نصّ على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب: {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}! ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح، وهم خلاصة البشريَّة على عهد نوح عليه السلام .. ليذكرهم بهذا النسب، واستخلاص آبائهم الأوّلين .. مع نوح العبد الشكور، وليردّهم إلى هذا النسب المؤمن العريق! ووصف نوحاً بالعبوديّة لهذا المعنى ولمعنى آخر، هو تنسيق صفة الرسل المختارة وإبرازها .. وقد وصف بها محمداً - صلى الله عليه وسلم - من قبل، على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها! ومعلوم أن الذين تترهّل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم، والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات .. إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، ونشروا الفاحشة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب الراقية إلا بها ولها! ومن ثمَّ تتحلّل الأمّة وتسترخي، وتفقد حيويتها، وعناصر قوّتها، وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها! وإذا ما قدّر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تضرب على أيديهم، سلّط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحلّلت وترهّلت، فحقّت عليها سنّة الله، وأصابها الهلاك والدمار، ونزل الضياع والبوار!

وهي المسؤولة عما يحل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي هؤلاء المفسدين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود هؤلاء المتحلّلين، فوجودهم ذاته هو السبب الذي من أجله سلّطهم الله عليهم ففسقوا, ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقّت الهلاك، وما سلّط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك! إن الله قد جعل للحياة البشرية نواميس لا تتخلّف، وسنناً لا تتبدّل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله، وتحق كلمته! والله لا يأمر بالفسق، ولا يأمر بالفحشاء، لكن وجود هؤلاء في ذاته دليل على أن الأمّة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاءً وفاقاً .. وهي التي تعرّضت لما أصابها بسماحها لهؤلاء بالوجود والحياة! فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب؛ ولكنها ترتّب النتيجة على السبب .. الأمر الذي لا مفرّ منه؛ لأن السنّة جرت به .. والأمر ليس أمراً توجيهياً إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعيّة المترتّبة على وجود هؤلاء المترفين، وهي الفسق! وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفرّ منها، وعدم الضرب على أيدي المفسدين فيها، كي لا يفسقوا فيها فيحقّ عليها القول فيدمّرها تدميراً! هذه السنة قد مضت في الأوّلين من بعد نوح، قرناً بعد قرن، كلما فشا التحلّل في أمّة انتهى بها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده، البصير:

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}! ونبصر الحديث في الآيات التي معنا يبدأ بذكر كتاب موسى وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل، وتذكير لهم بهذا النبي -نوح- العبد الشكور، والأوّلين الذين حملوا معه في السفينة: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}! ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمّنه سياق السورة كذلك، وذلك ألاّ يعذّب الله قوماً، حتى يبعث إليهم رسولًا ينذرهم ويذكّرهم .. وقد نصّ على هذا -كما سبق- ومن ثم فلا اعتماد إلا على الله وحده، فهذا هو الهُدى وهذا هو الإيمان .. ولقد خاطبهم باسم الآباء الذين حملهم مع نوح، وهم خلاصة البشريَّة على عهده .. ليذكّرهم باستخلاص الله للأوّلين، مع نوح العبد الشكور، وليردّهم إلى هذا النسب المؤمن العريق! في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى -عليه السلام- ليكون هدى لبني إسرائيل، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض .. وتكرار هذا التدمير مرّتين، لتكرّر أسبابه من أفعالهم .. وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض، كما قضى الله سنته الجارية التي لا تتخلّف: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}!

العصر الذهبي

العصر الذهبي: وتطالعنا قصّة الملأ من بني إسرائيل، ونحن نقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} (البقرة)!

والحديث هنا يطول .. وحسبنا أن نشير بإجمال إلى أن دولة اليهود لم يكن لها وجود من قبل، كما سبق أن بيّنا في حديثنا عن (أسطورة الوطن اليهودي) بما يجعلنا في غنى عن ذلك! وهنا نشير بإجمال إلى أن دولة اليهود قد تأسست برئاسة (طالوت) .. وتولّى الملك بعده (داود عليه السلام)، وقد دام ملكه -كما تقول المصادر التاريخية- زهاء أربعين سنة، وكانت عاصمة ملكه في أول العهد (حبرون) التي تسمَّى (الخليل) الآن، أمّا المدّة الباقية، فكانت (أورشليم) وقد ازدهرت المملكة في عهده ازدهاراً عظيماً، واتسعت رقعتها، وشيّدت فيها المباني الفاخرة، والحصون المنيعة ورأت عهداً زاخراً بالأمان والاطمئنان والرخاء والقوة! (¬1) وبعد (داود عليه السلام)، تولى ملك بني إسرائيل ابنه (سليمان عليه السلام) فازدهرت حالتهم في عهده رقيًّا ومنعة! ويصف أحد الكتاب حال بني إسرائيل في عهد (سليمان عليه السلام) فيقول: وفي عهد "سليمان" اعتزّ شأن الإسرائيليين، وامتدّ ملكهم من البحر الأحمر إلى نهر الفرات الكبير، وهابتهم الأمم المجاورة لهم .. وأرسل سفنه في الآفاق تجوب البحار، وتأتيه بالذهب والفضّة والأحجار الكريمة، وكانت مدّة حكمه أربعين سنة، ذاق فيها الإسرائيليون الهناء والرخاء! (¬2) والخلاصة أن عهد حكم (داود وسليمان عليهما السلام) لبني إسرائيل يعد ¬

_ (¬1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 349 وما بعدها بتصرف. (¬2) السابق نقلاً عن: تاريخ الإسرائيليين: 23 شاهين مكاريوس.

عهد الانقسام وزوال الملك

العصر الذهبي لهم، والفترة الزاهية من تاريخهم، إذ اتسع فيها ملكهم، وعظم نفوذهم، وترادفت النعم والخيرات عليهم، ومع كل هذا لم يسلم (داود وسليمان) من افتراءات اليهود مما يطول فيه الحديث، فتلك هي طبيعة يهود! عهد الانقسام وزوال الملك: وبعد وفاة (سليمان عليه السلام) تولى (رحبعام) فانتشرت في عهده الفتن -كما يقول المؤرخون- وكثرت المنازعات، واضطربت الأحوال فأدّى ذلك إلى انقسامها إلى قسمين: مملكة يهوذا! ومملكة إسرائيل! أما مملكة يهوذا فكانت عاصمتها "أورشليم"، وملكها (رحبعام) وكانت تتكوّن من سبطي يهوذا وبنيامين، وقد تعاقب عليها واحد وعشرون ملكاً! وكانت نهايتها على يد (بخت نصر) الذي غزاها سنة 588 ق. م فدمّرها تدميراً، وساق الأحياء من أهلها إلى "بابل"، ومكثوا في الأسر خمسين سنة، وما فعله (بخت نصر) (يسمّى خراب أورشليم الأول). وأمّا مملكة "إسرائيل" فكانت عاصمتها (السامرة) -نابلس الآن- وقد تأسّست كأختها مملكة "يهوذا" سنة 975 ذ. م، وملكها (يربعام) أخو (رحبعام)، وكانت تتكوّن من بقية الأسباط العشرة، وقد تعاقب عليها تسعة عشر ملكاً، وكانت نهايتها على يد (سرجون) ملك آشور، الذي غزاها وانتصر عليها، وأجلى سكانها من اليهود إلى ما وراء الفرات، وكان ذلك سنة 721 ق. م.

وفي سنة 538 ق. م نشبت حرب بين (فورش) ملك الفرس، و (بخت نصر) ملك بابل، انتهت بانتصار ملك الفرس، فأصدر أمراً سنة 536 ق. م يأذن فيه لليهود بالعودة إلى أورشليم، ولكن أكثر اليهود كانوا قد ألفوا الحياة البابليّة، وامتدّت بها أعراقهم، ومن ثم فقد تردّدوا في العودة إليها, ولم يقبل العودة إلا عدد قليل منهم، أكثرهم من سبطي يهوذا وبنيامين، وقد أعاد هؤلاء العائدون بناء الهيكل بتصريح من (قورش) سنة 415 ق. م تقريباً! ومن ذلك التاريخ أصبحت كلمة (اليهود) تعني من اعتنق اليهوديّة، ولو لم يكن من بني إسرائيل، وهذا هو الفرق بين اليهودي والإسرائيلي! وظلّ اليهود بعد ذلك يتولّى أمرهم كهنة منهم تحت رقابة حكام من الفرس، وكانت المناوشات بينهم لا تنقطع، إلى أن زال حكم الفرس عنهم سنة 322 ق. م! وفي سنة 323 ق. م التي مات فيها الإسكندر المقدوني، قسمت مملكته بين قوّاده، فكانت أورشليم من نصيب بطليموس ملك مصر، فحكمها بالعنف والشدة، رغم مقاومة اليهود له، وقد اضطرّ أمام ثوراتهم المتكرّرة إلى هدم جزء كبير منها، وقتل الكثيرين من سكانها، وإرسال مائة ألف إلى مصر سنة 320 ق. م! وقد تعاقب البطالسة على حكم أورشليم فترة طويلة، بعضهم عامل اليهود فيها بالقسوة والشدة، وبعضهم عاملهم باللين والعطف، حتى استولى السلوقيّون عليها من البطالسة 198 ق. م! وقد أوقع السلوقيّون باليهود أشدّ الضربات وأقساها، فعندما احتل

(أنطوخيوس) السلوقي أوشليم هدم أسوارها، ونهب ما فيها من أموال، وقتل من اليهود ثمانين ألفًا وأذلّ كهنتهم إذلالًا شديداً!! وفي سنة 168 ق. م قام اليهود بقيادة الكاهن (ماتياس) بثورة ضد السلوقيّين لم تنجح، ومات بعدها بعام واحد، فتولى ابنه الكاهن (مكابياس) قيادة الثائرين اليهود من جديد، وإلى هذا الكاهن تنسب أسرة المكابيين، وهم فريق من كهان اليهود اتصفوا بالحنكة وسعة الحيلة، وكانوا أقرب إلى القادة العسكريين منهم إلى رجال الدين، وقد استطاعوا أن يستقلّوا بحكم أورشليم لفترة من الزمان! وفي سنة 63 ق. م بلغ الخلاف أشدّه بين المكابيّين، وضعف مركزهم، فانتهزت الدولة الرومانيّة هذه الفرصة، وانقضت على أورشليم فاحتلتها بقيادة (بمبيوس) الروماني! ومنذ ذلك التاريخ خضعت أورشليم لحكم الرومان، إلى أن استولى عليها الفرس سنة 614 م ثم عادت إلى الرّومان! ولنا حديث خاص عن فتح المسلمين لها سنة 15 هـ 636 م في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وبقيت بعد ذلك إسلاميّة، حتى اقتطع اليهود جزءاً كبيراً منها أقاموا عليه دولتهم سنة 1367 هـ 1948 م ... ومن ثمَّ نتحدّث عن معالم النصر على اليهود في العصر الحاضر! ولعلنا بهذا نكون قد ألقينا الضوء على تاريخ اليهود الإجمالي في فلسطين .. وقد تبيّن بجلاء ووضوح أهم ما تعرّض له اليهود!

مع الآيات القرآنية

مع الآيات القرآنية: ونعود إلى قوله جلَّ شأنه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}! نعود فنبصر هذا القضاء إخباراً من الله تعالى لهم بما سيكون منهم حسب ما سبق في علمه تعالى من مآلهم .. فالله عَزَّ وَجَلَّ قد قضى لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه موسى أنهم سيفسدون في الأرض مرّتين، وأنهم سيعلون بغير حق على الناس ويستكبرون .. وكلما ارتفعوا بغير حق واتخذوا ذلك وسيلة للإفساد سلّط الله عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمّرهم تدميراً. وكان من مظاهر إفسادهم في الأرض تحريفهم للتوراة، وتركهم العمل بما جاء فيها، وقتلهم الأنبياء، وافتراؤهم واعتداؤهم على الذين يأمرون بالقسط من الناس، وشيوع الفواحش والرذائل فيهم! فإن قال قائل (¬1): وما فائدة أن يخبر الله تعالى بني إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرّتين، وأنه يعاقبهم على ما كان منهم بتسليط الأعداء عليهم للتدمير؟! فالجواب: أن إخبارهم بذلك يفيد أن الحق تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، وإنما يعاقبهم على ما يكون منهم من إفساد ويعفو عن كثير، وأن رحمته مفتوحة للمفسدين متى أصلحوا وأنابوا إليه! وهناك فائدة أخرى لهذا الإخبار، نبصرها في تنبيه العقلاء، في جميع الأمم ¬

_ (¬1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 3: 35 وما بعدها بتصرف.

أن يحذروا من مواقعة المعاصي التي تؤدي بالأمة إلى الهلاك، وأن يحذّروا أممهم من ذلك، ويبصّروهم بعواقب العصيان والإفساد في الأرض، حتى لا يعرّضوا أنفسهم لعقوبة الله تعالى! والفائدة الثالثة من هذا الإخبار، بيان أن الأمم المغلوبة تستطيع أن تستعيد قوّتها، وأن تستردّ مجدها السالف، إذا صحت عزائمها على طاعة الله تعالى، والعمل بما جاءهم به الأنبياء عليهم صلوات الله وتسليماته! ومن فوائد إيراد هذا الخبر في القرآن الكريم، تنبيه اليهود المعاصرين للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن على شاكلتهم .. إلى سنّة من سنن الله تعالى في خلقه، وهي أن الإفساد في الأرض، والانصراف عن طاعة الله سبحانه، وتعدّي حدوده، والمخالفة لأوامره، والعصيان لرسله .. كل ذلك يؤدّي إلى الخسران في الدّنيا والآخرة، فعلى اليهود ومن على شاكلتهم أن يؤمنوا بخاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم -، الذي ثبتت نبوّته ثبوتاً لا شك فيه، حتى يسعدوا في دنياهم وأخراهم! ثم بيّن الحق تبارك وتعالى أنه يسلّط عليهم بعد الإفساد الأول من يقهرهم، ويدمّرهم تدميراً، عقوبةً لهم على ما كان منهم فقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}! والمعنى: فإذا جاء وعد عقابكم، يا بني إسرائيل، على أولى المرّتين اللّتين تفسدون فيهما في الأرض، وجّهنا إليكم، وسلّطنا عليكم: {عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ}! ذوي قوة وبطش في الحرب الشديد: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ}! تردّدوا بين المساكن لقتالكم، وسلب أموالكم، وتخريب دياركم: {وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}!

أي كان ذلك العقاب بسبب إفسادكم في الأرض وعداً نافذاً لا مردّ له، ولا مفرّ لكم منه! وهكذا يفسد اليهود في الأرض، فيبعث الله عليهم عباداً من عباده أولي بأس شديد، وبطش وقوة، يستبيحون الديار، ويروحون فيها ويغدون باستهتار، ويطؤون ما فيها ومن فيها بلا تهيّب، وكان ذلك وعداً لا يتخلّف! ثم بيَّن سبحانه أنه إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات العذاب والقهر والذل (¬1)، فرجعوا إلى ربّهم، وأصلحوا أحوالهم، وأفادوا من البلاء المسلّط عليهم .. وحتى إذا استعلى الفاتحون، وغرّتهم قوّتهم، فطغوا هم الآخرون، وأفسدوا في الأرض، أدال الله للمغلوبين من الغالبين، ومكّن للمستضعفين من المستكبرين! {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}! فمن الواجب أن تقدروا هذه النعمة، وتحسنوا الاستفادة منها، فقد جرت سنّة الله تعالى أن يمنّ على الذين استضعفوا في الأرض، ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين، متى استقاموا على طريق الحق، وخافوا مقامه، ونهوا أنفسهم عن الهوى! فعليكم يا بني إسرائيل، أن تذكروا نعمة الله عليكم، وأن تشكروه عليها أجزل الشكر، وأن تؤمنوا بنبيّه محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، الذي تعرفون صدقه كما تعرفون أبناءكم! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2214 بتصرف.

ثم تتكرَّر القصة من جديد! وقبل أن يتمَّ السياق القرآني بقيّة النبوة الصادقة والوعد المفعول، يقرر قاعدة العمل، والجزاء: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}! القاعدة التي لا تتغيّر في الدنيا والآخرة، والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه .. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعيّة للعمل، منه تنتج، وبه تتكيّف، وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومنَّ إلا نفسه حين يحقَّ عليه الجزاء! فإذا تقرّرت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}! ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرّة من إفساد في الأرض، اكتفاء بذكره من قبل: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}! ويثبت ما يسلطه عليهم في المرّة الآخرة: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}! بما يرتكبونه معكم من نكال يملأ النفوس بالإساءة، حتى تفيض على الوجوه، أو بما يجبهون به وجوهكم من مساءة وإذلال .. ويستبيحون المقدّسات، ويستهينون بها: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}! يقال: تبَره وتبَّره، وتبّر الله عمل الكافرين: أي أهلكه (¬1). ¬

_ (¬1) معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب، والمفردات، والمعجم الوسيط (تبر).

قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} (الأعراف)! وقال جل شأنه: {وَلا تَزِد الظَّالمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} (نوح)! وفي دوله: {وَلِيتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتبِيرًا (7)}! يقول ابن جرير: وليدمّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميراً، يقال منه: دمرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله! (¬1) وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء، والذي لا يُبقي على شيء، والذي نرى مشاهده في (غزَّة) الآن! وكان من ضروب إفسادهم في الأرض في هذه المرّة الثانية قتلهم زكريّا ويحيى عليهما السلام -كما تنطق آثارهم- ومحاولتهم قتل عيسى عليه السلام، وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه، واستحلالهم لمحارم الله .. إلى غير ذلك من الرذائل التي فشت فيهم، واشتهروا بها في كل زمان ومكان، وفي كل جيل وقبيل! ثم بيّن الحق تبارك وتعالى أن هذا الدّمار الذي حلّ بهم بسبب إفسادهم في الأرض مرتين، قد يكون طريقاً لرحمتهم، وسبباً في توبتهم وإنابتهم، إن هم فتحوا قلوبهم للحق، واعتبروا بالحوادث الماضية، وفهموا عن الحق سنّته التي لا تتخلّف، وهي أن الإحسان يؤدّي إلى السعادة، والإفساد يؤدي إلى الهلاك! {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرحَمَكُمْ}! إن أفدتم منه عبرة! ¬

_ (¬1) تفسير الطبري: 15: 43.

فأمَّا إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد فالجزاء حاضر، والسنة ماضية: {وَإِنْ عُدتُم عُدنَا}! ولقد عادوا إلى الإفساد، حيث كذَّبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم، وكتموا ما جاء بشأنه في كتبهم، وهمّوا بقتله - صلى الله عليه وسلم - أكتر من مرّة، وقدّموا له السمَّ .. فكانت المواجهة .. وكانت المعارك التي فصَّلنا القول فيها -كما سبق- حتى كان إجلاؤهم من الجزيرة كلها! ثم عادوا إلى الإفساد، فسلّط الله عليهم آخرين، حتى كان العصر الحديث -كما سيأتي- حيث اغتصبوا الأرض، وقتلوا النساء والأطفال، وعاثوا في الأرض فساداً .. وليسلّطنَّ الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد الله القاطع، ووفاقاً لسنّته التي لا تتخلّف! وقد بدت المقدّمات للأيادي المتوضئة التي تستحق نصر الله .. وإنَّ غداً لناظره قريب! {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ...} (الأعراف)! ثم بيَّن سبحانه عقوبتهم ومن على شاكلتهم في الآخرة: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}! مهاداً وبساطاً لهم، وسجناً حاصراً، لا رجاء لهم في الخلاص، بسبب كفرهم وبغيهم، ففي الدنيا لهم ما تقدّم وصفه من الإهلاك والتدمير، وفي

أشهر أقول المفسرين

الآخرة لهم عذاب السعير، المحيط بهم من جميع الجهات، جزاء فسادهم وإفسادهم .. تحصرهم فلا يفلت منهم أحد، وتتّسع لهم فلا يندّ عنها أحد! أشهر أقول المفسِّرين: هذا، مع أنه لم يصح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلّطهم الحق تبارك وتعالى علي بني إسرائيل في مرتيّ هذا الإفساد! ومع أن إفساد بني إسرائيل قد حدث كثيراً، بحيث لا يُحصى ولا يُعدّ -كما أسلفنا- وأن المقصود من الآيات التي معنا إنما هو إظهار مرّتين حدث فيهما الإفساد منهم .. وأن نفس الآيات تدل على أن التسليط عليهم مستمرّ إلى يوم القيامة، بسبب كفرهم وفسوقهم: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}! {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}! ومع أن أقوال المؤرخين والمفسّرين قد اختلفت في المقصود من مرّتي إفسادهم، وفيمن سلّطه الله عليهم، على حسب ما يتراءى لكل قائل فيما حدث من بني إسرائيل من فساد، وما تبعه من عقوبات! ومع أن المقصود من سياق الآيات إنما هو بيان سنّة من سنن الله في الأمم، حال صلاحها وفسادها .. وأن القرآن -كما سبق- قد ساق هذا المعنى بأحكم عبارة! يقول ابن كثير بعد أن ذكر هذه الأقوال وعلّق عليها: (¬1) وفيما قصَّ الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقيّة الكتب قبله، ولم ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 3: 25.

يحوجنا الله ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلّط الله عليهم عدوّهم، فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلّهم وقهرهم، جزاء وفاقاً، وما ربك بظلاّم للعبيد، فإنهم كانوا قد تمرّدوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء! ويروي ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}! قال: بعث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت، فجاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخراج والذّلّ، فسألوا الله تعالى أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله، فبعث الله (طالوت) فنصر الله بني إسرائيل، وقتل جالوت بيد داود، ورجع إلى بني إسرائيل ملكهم، فلمّا أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الآخرة (بخت نصر) فخرب المساجد وتبّر ما علوا تتبيراً، قال الله تعالى بعد الأولى والآخرة: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} قال: فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين (¬1)! وفي رواية لهما -أيضاً- عن قتادة قال: أما المرّة الأولى فسلّط عليهم (جالوت)، حتى بعث (طالوت) ومعه (داود)، ثم ردّ الكرّة لبني إسرائيل: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} ¬

_ (¬1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 362 وما بعدها، نقلاً عن: الدر المنثور: 4: 163، انظر: تفسير الطبري: 15: 28.

أي عدداً، وذلك في زمان (داود): {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ}! آخر العقوبتين: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}! وقال: ليقبحوا وجوهكم: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}! قال: كما دخل عدوهم قبل ذلك: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}! قال: يدمّرون ما علوا تدميراً، فبعث الله عليهم في الآخرة (يخت نصر) البابلي المجوسي، أبغض خلق الله إليه، فسبى وقتل وضرب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب. (¬1) وهذا الرأي الذي نختاره -كما يقول الدكتور طنطاوي (¬2) - نستند في اختيارنا له إلى أمور أهمها ما يلي: أولاً: ذكر القرآن الكريم عند عرضه لقصّة القتال الذي دار بين (طالوت) قائد بني إسرائيل وبين (جالوت) قائد أعدائهم ما يدلّ على أن بني إسرائيل كانوا قبل ذلك مقهورين مهزومين من أعدائهم، ويتجلّى هذا المعنى في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}! فقولهم كما حكى القرآن عنهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}! يدلّ دلالة قويّة على أنهم قبل قتالهم لـ (جالوت) كانوا قد هزموا على أيدي أعدائهم هزائم منكرة، اضطروا معها إلى الخروج من ديارهم ومفارقة أبنائهم! ¬

_ (¬1) السابق. (¬2) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 366 وما بعدها، بتصرف.

ثانياً: صرّح بعض المفسّرين بأن الأعداء الذين أخرجوا بني إسرائيل من ديارهم وأبنائهم هم قوم (جالوت)، وأنهم كانوا قد غلبوا بني إسرائيل، وقتلوا عدداً كبيراً منهم، وذلك قبل أن تعود الكرّة لبني إسرائيل عليهم بقيادة (طالوت)! قال الآلوسي: وكان سبب طلب بني إسرائيل من نبيّهم أن يبعث الله لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، أن أعداءهم وهم العمالقة قوم (جالوت) ظهروا عليهم، وتغلّبوا على كثير من بلادهم، وضربوا عليهم الجزية! (¬1) ثالثاً: قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}! صريح في أن الله تعالى نصر بني إسرائيل بعد أن تابوا وأنابوا على أعدائهم الذين قهروهم وأذلّوهم وجاسوا خلال ديارهم! وهذا المعنى ينطبق على ما قصّه القرآن الكريم علينا من أن بني إسرائيل بقيادة (طالوت) قد انتصروا على (جالوت) وجنوده، ومن أن داود قتل (جالوت)، قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}! ولقد كان هذا النصر نعمة كبرى لبني إسرائيل؛ لأنه أتاهم بعد ما أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن اعترضوا على اختيار (طالوت) ملكاً عليهم، وبعد أن قاتل مع (طالوت) عدد قليل منهم .. ولا شك أن هذا النصر في هذه الحالة أدعى لطاعة الله تعالى وشكره على آلائه! ¬

_ (¬1) السابق: نقلاً عن تفسير الآلوسي: 2: 141 بتصرف.

رابعاً: قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}! أكثر ما يكون انطباقاً على عهد حكم (داود) و (سليمان) عليهما السلام لبني إسرائيل، ففي هذا العهد الذي دام زهاء ثمانين سنة، ازدهرت مملكتهم، وعزّ سلطانهم، وأمدّهم الله خلاله بالأموال الوفيرة، وبالبنين الكثيرة، وجعلهم أكثر من أعدائهم قوة وعدداً! أمّا بعد هذا العصر الذهبي -كما أسلفنا- فقد انقسمت مملكتهم إلى قسمين: مملكة يهوذا! ومملكة إسرائيل! واستمرّتا في صراع ونزاع وتدهور، حتى قضى الآشوريون على مملكة إسرائيل سنة 721 ق. م، وقضى (بخت نصر) على مملكة (يهوذا) سنة 588 ق. م! وتاريخهم بعد ذلك ما هو إلا سلسلة من المآسي والنكبات والعقوبات التي حلّت بهم من الشعوب المختلفة في شتّى مراحل التاريخ، بسبب فسادهم وإفسادهم في الأرض! وأمّا المراد بالعباد الذين سلّطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الثاني في الأرض، فيرى جمهور المفسّرين أنهم البابليّون بقيادة (بخت نصر) .. الذي غزاهم ثلاث مرات: الأولى: سنة 606 ق. م والثانية: سنة 599 ق. م والثالثة: سنة 588 ق. م

وفي هذه المرّة الثالثة قتل الآلاف منهم، وهدم هيكلهم، وساق الأحياء أسارى إلى بابل! وهذا الرأي الذي قاله جمهور المفسّرين ليس ببعيد، لما ذكرنا من تنكيله بهم .. إلا أننا نؤثر على هذا الرأي أن يكون المسلّط عليهم بعد إفسادهم الثاني، هم الرومان بقيادة (تيطس) لأمور، أهمها: أولاً: الذي يتتبَّع التاريخ يرى أن رذائل بني إسرائيل في الفترة التي سبقت تنكيل الرومان بهم أشدّ وأكبر من رذائلهم التي سبقت (بخت نصر) لهم، وبالتالي كان تسليط الرومان عليهم أنكى وأقسى، فهم -على سبيل المثال- قبيل بطش الرومان بهم بقيادة (تيطس) كانوا قد قتلوا من أنبياء الله (زكريا) و (يحيى) -عليهما السلام-كما أسلفنا- وحاولوا قتل (عيسى) -عليه السلام- واتخذوا لذلك كل السبل، ولكنهم لم يفلحوا لأسباب خارجة عن إرادتهم، وكانت الرذائل والمنكرات قد فشت فيهم، مما أدّى إلى لعنهم بسبب ذلك! {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} (المائدة)! فكانت ضربات الرومان القاصمة لهم، والهادمة لكيانهم، عقاباً مناسباً من الحق تبارك وتعالى، نتيجة عصيانهم لأوامره، واعتدائهم على خلقه، وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه! ثانياً: المفسرون يذكرون أن تسليط الله عليهم (بخت نصر) في المرّة الثانية من مرّتي إفسادهم، كان من أسبابه قتلهم لـ (يحيى) عليه السلام، و (بخت

نصر) كان سابقاً على (يحيى) عليه السلام في الزمن بأكثر من خمسة قرون، والذين كانت أورشليم تحت سيطرتهم في عهد (يحيى) عليه السلام هم الرومان وقد قتل بنو إسرائيل (زكريّا) و (يحيى) عليهما السلام في عهدهم كذلك! وإذن فما ذكره المفسّرون من أن الله تعالى سلّط عليهم (بخت نصر) بعد إفسادهم بسبب قتلهم (يحيى) عليه السلام ينطبق على عهد الرومان؛ لأنه كان معاصراً لهم .. ولا ينطبق على عهد (بخت نصر)؛ لأنه قبل (يحيى) عليه السلام بأكثر من خمسة قرون كما ذكرنا! ثالثاً: ضربات الرومان في ذاتها كانت أشدّ وأقسى على بني إسرائيل من ضربات (بخت نصر) لهم، فمثلاً عدد القتلى من اليهود على يد الرومان بقيادة (تيطس) بلغ مليون قتيل، وبلغ عدد الأسرى نحو مائة ألف أسير -كما يقول المؤرخون (¬1) - بينما عدد القتلى والأسرى على يد (بخت نصر) كان أقل من هذا العدد بكثير، ولقد وصف المؤرّخون النكبة التي أوقعها (تيطس) باليهود بأوصاف تفوق بكثير ما وصفوا به ما أوقعه بخت نصر بهم! يقول أحد الكتّاب واصفاً ما حلّ على يد تيطس: كان (تيطس) في الثلاثين من عمره، حينما وقف سنة 70 م أمام أسوار أورشليم على رأس جيشه، وبدأت المدينة تعاني أهوال الحصار، وتقاسي في الوقت نفسه هولًا أكبر، هو هول الحرب الأهليّة، فقد احتلّ المتعصّبون والمتطرّفون ورجال العصابات من اليهود أحياء المدينة، وأخذوا يشنّون هجمات وحشيّة على أحيائها الأخرى، حتى جرت الدماء في الطرقات، وسرت المجاعة ¬

_ (¬1) تاريخ الإسرائيليين: 76.

نبوءة المسيح عليه السلام

اليهوديّة، فكانوا يخرجون على أيديهم وأرجلهم كما لأشباح الذّابلة، تسبقهم الشائعات بأنهم قد ابتلعوا ذهبهم في بطونهم، فكان الجنود يفتحون بطونهم بعد قتلهم بحثاً عن الذّهب .. وبعد أن اقتحم (تيطس) وجنده المدينة أصدر أمره إليهم أن احرقوا وانهبوا واقتلوا؛ فأموال اليهود وأعراضهم حلال لكم .. وقد أحرق الرومان معبد اليهود ودمّروه! نبوءة المسيح عليه السلام: وتحقّقت نبوءة المسيح عليه السلام حين قال: (ستلقى هذه الأرض بؤساً وعنتاً، وسيحلّ الغضب على أهلها وسيسقطون صرعى على حدّ السيف، ويسيرون عبيداً إلى كل مصر وستطأ أورشليم الأقدام). (¬1) رابعاً: النكبة التي أنزلها الرومان بقيادة (تيطس) باليهود -من حيث آثارها- أشنع بكثير من النكبة التي أنزلها بهم (بخت نصر)؛ لأنهم بعد تنكيل (بخت نصر) بهم وسجنهم في أسره زهاء خمسين سنة، عادوا إلى أورشليم مرة أخرى بمساعدة (قورش) ملك الفرس، وبدأوا يتكاثرون من جديد .. أما بعد تنكيل الرومان بهم فلم تقم لهم قائمة، ومزّقوا في الأرض شرّ ممزّق، وانقطع دابرهم كأمّة، وقضي على كيان مجتمعهم .. ولقد وصل بالرومان أنهم في سنة 135 م دمّروا أورشليم تدميراً تاماً، وحرقوا أرضها، وخلطوها بالملح، حتى لا ينبت بها الزرع، وأقام الإمبراطور الروماني (أدريانوس) مكان الهيكل اليهوديّ هيكلاً وثنياً باسم الإله المشترى -إذ لم تكن الكنيسة قد اعترف بها بعد، وبقي هذا ¬

_ (¬1) تدمير أورشليم: مجلة الأزهر: المجلة 21: 47 عمر طلعت زهران.

الهيكل إلى أن قامت المسيحيّة في أورشليم، فدمّره المسيحيّون من أساسه في عهد الإمبراطور (قسطنطين)، وقد صرّح بهذا المعنى صاحب (تاريخ الإسرائيلين) حيث قال بعد وصفه لما أوقعه (تيطس) بهم: (¬1) (إلى هنا ينتهي تاريخ الإسرائيليين كأمّة، فإنهم بعد خراب أورشليم -كما تقدّم- تفرّقوا في جميع بلاد الله، وتاريخهم فيما بقي من العصور ملحق بتاريخ الممالك التي توطّنوا أو نزلوا فيها!). وإذن فما أنزل (تيطس) ومن بعده من الرومان باليهود يعتبر -في رأينا- أشدّ وأقسى في ذاته وفي آثاره، مما أنزله (بخت نصر) بهم، بل لعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن ضربة (تيطس) الروماني هي أكبر عقوبة حلّت بهم منذ موت سليمان عليه السلام، حتى أواخر القرن الأوّل الميلادي! ولهذه الأسباب نرجّح أن يكون المراد بالعباد الذين سلّطهم الله على بني إسرائيل عقب إفسادهم الثاني في الأرض هم الرومان بقيادة (تيطس)! ومع ترجيحنا بأن المسلّط عليهم في المرّة الأولى (جالوت) وجنوده ... وفي المرّة الثانية الرومان بقيادة (تيطس) .. مع ترجينا لذلك .. نعود فنكرّر ما قلناه سابقاً من أن المقصود من الآيات الكريمة إنما هو بيان سنّة من سنن الله الكونيَّة في الأمم حال صلاحها وفسادها! ¬

_ (¬1) تاريخ الإسرائيليين: 77.

رأي جديد

رأي جديد: ونعود إلى تلك الآيات القرآنية التي تتحدّث عن مرّتي إفساد بني إسرائيل. نعود لنجد أقوال المفسرين تتفق على أمرين: الأوّل: أن مرّتي الإفساد في الأرض كانتا قبل الإِسلام! الثاني: أن العباد الذين سلّطهم الله عليهم -أيضاً- قبل الإِسلام! وخلاف المفسّرين إنما هو فيما سوى هذين الأمرين! وسبق أن ذكرنا أشهر أقوال المفسرين في ذلك! ولكن رأياً جديداً في تفسير الآيات القرآنيّة للشيخ عبد المعزّ عبد الستّار (¬1)، خالف فيه إجماع المفسّرين، نعرضه هنا بإيجاز، حيث ذهب إلى أن هاتين المرّتين لم تكونا قبل البعثة، وإنما هي في الإِسلام، وأن المرّة الأولى كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والآخرة هي التي نحن فيها الآن! يقول: أطبق المفسّرون على أن ذلك الإفساد وقع منهم مرّتين في الماضي قبل الإِسلام، أيّام أن علوا وغلوا وقتلوا الأنبياء، وكذّبوا المرسلين، وإن اختلفت أقوالهم في ذلك اختلافاً كبيراً في تحديد نوع إفسادهم الأوّل وزمنه، والمسلّط عليهم، وكذلك في الثاني! والذي يعنيني أن أكشف عنه وأن أثبته في هذا أمران: الأول: أن هاتين المرّتين لم تكونا قبل البعثة، وإنما هما في الإِسلام! ¬

_ (¬1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 373 وما بعدها بتصرف، نقلاً عن مجلة الأزهر: المجلد 28: 689 تحت عنوان: سورة الإسراء تقص نهاية إسرائيل!

الثاني: أن المرّة الأولى كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والآخرة هي التي نحن فيها الآن، والتي سنسوء فيها وجوههم، وندخل المسجد كما دخلناه ... إن شاء الله رب العالمين! وأبادر فأطمئن الذين قد يهولهم هذا التخريج، فيرونه مخالفاً للمأثور أو المعروف من أقوال المفسّرين، إلى أنه لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء وإلى أن المأثور عن بعض الصحابة مضطرب لا تقوم به حجّة، وإلى أن الأمر لا يعدو أن يكون تاريخاً أو تأويلاً! لا يقال في مخالفته إنه تحريف للكلم عن مواضعه! وأعود لأثبت الأمر الأوّل فأقول: الحديث عن الإسراء تبشير وإنباء بمستقبل .. والثابت أن الإسراء وقع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكّة قبل الهجرة، فإن سورة الإسراء أنزلت كذلك، فهي مكيّة، إلا آيات معلومات، وقد كان المسلمون يومئذ بمكّة مستضعفين في الأرض، يخافون أن يتخطّفهم الناس، فلم يكن لبني إسرائيل يومئذ صلة ولا بشأن مع المسلمين، ولم يكن لهم أثر بمكّة، ولا خطر يقتضي أن يتحدّث القرآن عنهم في سورة مكيّة بمثل هذا التفصيل! فما السرُّ في أن يخبر الله عند إسرائه برسوله - صلى الله عليه وسلم - في آية واحدة أول السورة، ينقطع بعدها الحديث عن الإسراء جملة إلى آخرها، ويبدأ الحديث عن بني إسرائيل وما أنعم عليهم وعهد إليهم، وعن دور خطير يكون لهم؟! وما وجه المناسبة بين هذه الآيات والأحداث؟! السرُّ في ذلك أن الله عَزَّ وَجَلَّ يخبر عن الإسراء بمقدار ما يبشر به نبيّه،

والمسلمين المضطهدين: بمكّة، المستضعفين في الأرض، بأن أمرهم سيمتدَّ ويعلو وشيكاً، حتى تدين لهم عاصمة الشرك، وعاصمة أهل الكتاب، فهو سبحانه يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء)! لم يقل من مكّة إلى بيت المقدس، كما هو الحال؛ إذ الكعبة يومئذ لم تكن مسجداً، وإنّما كانت بيتاً تقوم حوله الأصنام، ويطوف به العائذون والمشركون، ولم يكن هيكل دولة داود وسليمان في دولة يهوذا وإسرائيل مسجداً، وإنما كان بيتاً يأكل بنو إسرائيل من حوله السحت، ويعيثون الفساد! ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ أخبر عن هذا الإسراء بأنه انتقال من مسجد إلى مسجد، تبشيراً للمسلمين بأن أمرهم سيعلو ويتم، بحيث يصبح البلد الذي استضعفوا فيه وهانوا، وحلّت حرماتهم فيه مسجداً حراماً ودار أمن وإسلام .. ليس هذا فحسب، بل سيمتد نفوذه وضياؤه، بحيث يصل عاصمة أهل الكتاب، ويصبح هيكل داود وسليمان لهم مسجداً أقصى كذلك، فهم أولى له: {إِن أَولِيَاؤهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} (الأنفال: 34)! وهنا يتضح الجواب، ويظهر وجه المناسبة بين قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} وبين آية الإسراء الأولى! فقد اتصل الحديث، وإن انتقل الكلام من الإنباء بمصير الهيكل إلى الإنباء عن مصير أهله!

سورة بني إسرائيل

سورة بني إسرائيل: وبحق ما سمّيت سورة الإسراء سورة بني إسرائيل؛ فإنها أحق بهذه التسمية وأجدر؛ لأنها لم تتحدّث عن الإسراء إلا بمقدار ما بشرف بصيرورة الكعبة والهيكل للمسلمين حرماً ومسجداً، ثم اتصل الحديث ببني إسرائيل وخطبهم مع المسلمين بعد ذلك فقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}! فإذا لاحظنا أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يخبر عن بني إسرائيل في سورة مكيّة إلا بمقدار ما تساق العبرة من مواقفهم من موسى وصاياه، وموقفهم من فرعون وجنوده، وأخبر عنهم في السور المدنية كثيراً، فسجّل لهم ضروباً من الفساد والإفساد، فأخبر عن نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف، وأخبر عن ظلمهم وصدهم عن سبيل الله كثيراً، وأخذهم الربا وقد نُهُوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وأخبر عن اعتدائهم في السبت، وحذرهم الموت، وسكوتهم عن المنكر، واشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً، وأخبر عن إخراجهم فريقاً من ديارهم، وقولهم ليس علينا في الأميّين سبيل ... إلخ! {لَتُفْسِدُنَّ في الأَرضِ مَرَّتَينِ}: فإذا لاحظنا هُنا أن الله ينصّ على أنه قضى أنهم يفسدون في الأرض مرّتين، فإذا جاء وعد أولاهما كان كذا، وإذا جاء وعد الآخرة كان كذا ... دلّ على أن المرّتين غير ما سبق أن سجّل لهما، وأنهما يقعان في المستقبل، بالنسبة

لمن أنزل عليه الكتاب - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الحديث من أوّله تبشير وإيحاء لمستقبل، فذلك من الأنباء بالغيب، والإخبار بما لم يقع، وإلا فهم قد أفسدوا من قبل .. فالمرّتان المعنيتان في الآية وقعتا بعد، وقد أكّد ذلك إعجاز القرآن وصدق ما جاء به محمَّد - صلى الله عليه وسلم -! أولاهما: قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا}! ... إلخ لا تنطبق هذه المرّة تمام الانطباق إلا على الدّور الذي قاموا به على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وما عاقبهم الله به، وسلط عليهم فيه! فهم أفسدوا في الأرض، ونقضوا عهد الله ورسوله، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد عاهدهم أوّل ما وصل المدينة! (¬1) رغم هذه الرعاية والمصافاة والمواساة، انطلقوا بالبغي والمكر والفساد في الأرض، يشككون في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزاهته ورسالته، ويفتون المشركين أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً! ويفتحون دورهم وصدورهم لأعداء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدلونهم على عورات المؤمنين، وبلغ من أمرهم أن همّوا بقتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير مرة -كما عرفنا- وهيَّجوا قريشاً وغطفان، حتى حاصروا المدينة، للقضاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته وأتباعه، وانضموا لهم، ونقضوا عهد الله ورسوله في ساعة الشدة ويوم الأحزاب، فسلط عليهم عباده المؤمنين، فأجلوا بني قنقاع، وبني النضير، ¬

_ (¬1) ذكر هنا نصوصاً من وثيقة موادعة اليهود، وقد رواها ابن إسحاق: 2: 17 - 18 بدون إسناد: انظر كتابنا: الهجرة النبويّة: 342 وسيأتي تفصيل القول في ذلك!

رد الكرة

وقتلوا المقاتلين من بني قريظة، ثم فتحوا خيبر، ثم منَّ عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستبقاهم عملاء حتى أجلاهم عمر - صلى الله عليه وسلم - في خلافته، وكان وعداً من الله للمؤمنين بالتمكن، وقد فعل، وهذه هي المرّة الأولى، لا تنطبق أوصافها إلا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! فهم الذين يستحقون شرف هذه النسبة {عِبَادًا لَّنَا} لأنهم الموحّدون أتباع عبده الذي أسرى به! أمّا أتباع (بخت نصر) أو غيره مما اضطربت فيه أقوال المفسّرين فقد كانوا عبّاد وثن، لا يستحقّون شرف الاختصاص بالله في قوله {لّنَا}! وهم الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29)! وهم الذين لم يكلفهم تأديب اليهود إلا كما قال: {فَجَاسوا خِلالَ الدِّيَار}! أمّا (بخت نصر) فقد ذكروا أنه قتل على دم زكريا وحده سبعين ألفاً، وأنه دخل المقدس في أهله، وسلب حليّه ... إلخ، فهو اجتياح، وليس جوساً! ردّ الكرة: قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}! ردَّت لليهود الكرّة علينا بعد ألف وثلاثمائة وسبعين سنة من تأديب الله لهم، منذ بعث عليهم عباده المؤمنين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاسوا خلال الدّيار!

فرصة للاختيار

بعد هذه المقدّمة -التي أشار القرآن إلى طولها بقوله: {ثُمَّ} التي تقتضي في العطف تراخياً في الأجل- ردت لليهود الكرّة، وأمدّوا بثلاث ما أمدّوا بمثلها في تاريخهم: 1 - بأموال تتدفَّق عليهم من أقطار الأرض، وعلى ما أرادوا من صعبه أو سهله! 2 - وبنين مهاجرين ومقاتلين، ينتجون بحماسهم وصلاحيتهم لبناء دولتهم! 3 - {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكثَرَ نَفِيرًا (6)}!! ولم يكن اليهود في يوم ما أكثر نفيراً وناصراً منهم اليوم، ولم يتمتّع اليهود في تاريخهم، ولا أمّة في الأرض غيرهم، بمثل ما يتمتّعون به، من كثرة الناصرين لهم، والنافر لنجدتهم، إذا غضبوا غضبت لهم أمريكا، وإنجلترا، وفرنسا، وأمم الغرب جميعاً، وإن دعوا أجابهم الظالمون، وتنادوا لنصرتهم! لقد اتفق الشرق والغرب -ولم يتفق يوماً- على إنشاء إسرائيل، وتقسيم فلسطين، وسكتوا -ولم يسكتوا يوماً- على مأساة اللاجئين والمنكوبين والمشرَّدين. كل هذه الأوصاف تؤكد أن الدّور الذي نعانيه اليوم هو الكرّة المعنيّة في الآية، وكل ما ذكره المفسّرون بعيد، لا تنطبق عليه هذه الصفات! فرصة للاختيار: وقال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}! بعد أن قرّر سبحانه أنه سيرد لليهود الكرّة، قرّر أنها فرصة لهم، ليختاروا

لأنفسهم، وليرسموا نهايتهم، فللذين أحسنوا الحسنى، وللذين أساءوا السوآى، ثم قرّر سبحانه أنهم لن ينفكّوا عن فسادهم وإفسادهم، فقرر بعد ذلك على الفور عاقبة أمرهم؛ لأنها معروفة محتومة، فقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}! يقرّر الله عَزَّ وَجَلَّ أنهم لن يستقبلوا النعمة بالشكر، ولا الكرة بالذكر والانتهاء عن الفساد، وإنما سيعاودون فسادهم الموروث، على نحو يدخلهم في شديد مقت الله ونقمة عباده، بما يبعد أن تدركهم عند ذلك رحمته، فيقول: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ}! سلّطنا عليكم عبادنا الأوّلين الذين دخلوا المسجد، ثم رددت لكم الكرة على خلائقهم: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}! بما ترون من مصارعكم، ومصارع أحلامكم، وما تعاينون من سوء المنظر في المال والأهل والولد: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ}! دخول العزيز الظاهر: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة} ظافرين منصورين: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}! وذلك دورنا المرتقب، وعملنا الذي نرجو أن يشرّفنا الله به في القريب، فإنا لنطمع أن يعذّبهم الله بأيدينا ويخزهم، وينصرنا عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين! وقد قرّر سبحانه أنه سيجمعهم ألفافاً لنبيدهم: {وفَإذَا جَاءَ وَعدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفيفًا (104)}!

بشرى للمؤمنين

بشرى للمؤمنين: ويؤكد هذه النهاية ويبشر بقرب وقوعها قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ} فإن العطف بالفاء يقتضي الترتيب مع التعقيب، فالوعد واقع بعد هذه الكرّة! والتعبير بـ (إذا) يدل على تحقيق المجيء لا محالة! وبشائر النصر التي تحدونا أولاً وأخيراً في هذه السورة! وقال تعالى بعد هذه الآيات: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9)! وقال تعالى في آخر السورة: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} (الإسراء)! تعليق على المقال: والذي يقرأ هذا المقال يتبيّن له أن كاتبه يرى أن المراد من الكتاب في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ}! هو القرآن الكريم لا التوراة! وهذا الفهم لا يمكن أن ينساق إلى ذهن من يقرأ الآيات القرآنيّة بتدبّر، لأن الله يقول: {وَآتَيْنَا مُوسى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ}! ثم يقول بعد ذلك: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}!

فالكتاب في الآية الثانية يقصد به عين الكتاب في الآية الأولى، وهو التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى -عليه السلام- وجعلها هدى لبني إسرائيل! وسبق أن بيّنا ذلك، وأنه المعنى المتبادر من الآيات، والذي لا يمكن أن يفهم المتأمل في كتاب الله غيره، وقد أجمع عليه جمهور المفسّرين، وقليل منهم أضاف إلى ذلك أنه يجوز أن يراد به اللوح المحفوظ، ومنهم القاسمي! (¬1) وقد سبق بيان فائدة إخبار الله بني إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرتّين! وبإثباتنا أن المراد بالكتاب في الآية الثانية هو التوراة، نكون قد رددنا أساس رأيه من أن المراد به هو القرآن (¬2)، ورددنا ما بناه على هذا الرأي من أن مرّتي الإفساد في الإِسلام، وأن ذلك من الإنباء بالغيب الذي يكون في المستقبل بالنسبة لنزول الآية الكريمة على النبي - صلى الله عليه وسلم -! هذا، ولنا تعليقات يسيرة على بعض ما جاء في هذا المقال، منها: أولاً: يقول: ما السرّ في أن يخبر الله عن إسرائه برسوله - صلى الله عليه وسلم - في آية واحدة أوّل السورة، ينقطع بعدها الحديث عن الإسراء جملة إلى آخر السورة، ويبدأ الحديث عن بني إسرائيل، وما أنعم الله عليهم، وعهد إليهم، وعن دور خير يكون لهم، وما وجه المناسبة بين هذه الآيات والأحداث ... ؟ إلخ! ونقول: إن الله تعالى ما ذكر الإسراء إلا يكون آية من الآيات من أول الإسراء مثاراً لتشكيك من في قلوبهم مرض في رسال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصدق نبوّته، ¬

_ (¬1) انظر: تفسير القاسمي: 10: 3902. (¬2) انظر: بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 381 وما بعدها بتصرف.

كما اتّخذها ذريعة للسخرية برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن آمن به، فالله تعالى يقول لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض، ويصدّون عن سبيل الله من آمن، ويهزؤون برسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -: إن لم تنتهوا عن إثارة الفساد في الأرض، ووضع العراقيل أمام الدعوة، ليصيبنّكم ما أصاب بني إسرائيل قبلكم، حين عاثوا فساداً في الأرض مرّتين، وعلو علوًّا كبيراً، فقد سلّط الله عليهم بعد كل من المرّتين من يسومهم سوء العذاب، ومن يجوس خلال ديارهم بالقتل والتّخريب! وتبدأ السورة بتسبيح الله تعالى (¬1)، وتضمّ موضوعات شتّى، معظمها عن العقيدة، وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ... إلى شيء من القصص عن بين إسرائيل يتعلّق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء! ولكن العنصر البارز في كيان هذه السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وموقف القوم منه في مكة .. والقرآن الذي نزل عليه .. وطبيعة هذا القرآن وما يهدي إليه، واستقبال القوم له! واستطرد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم - .. وإلى امتياز الرسالة الإِسلاميّة بطابع غير طابع الخوارق الحسيّة وما يتبعها من هلاك المكذّبين بها .. وإلى تقرير التبعة الفرديّة في الهدى والضلال الاعتقادي، والتبعة الجماعيّة في السلوك العملي في محيط المجتمع! ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه .. ففي مطلعها: ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2208 بتصرف.

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}! وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرّيّة المؤمن مع نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}! وعند دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}! وفي حكايته قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)}! وتنتهي السورة بالحمد: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}! وفي تلك الموضوعات المنوّعة حول ذلك المحور الواحد الذي بيّنا يمضي سياق السورة في مواقف متتابعة: يبدأ الموقف الأول بالإشارة إلى الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}!

مع الكشف عن حكمة الإسراء: {لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا}! وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى، وما قضى الله لبني إسرائيل من نكبة وهلاك وتشريد مرّتين، بسبب طغيانهم وإفسادهم، مع إنذارهم بثالثة ورابعة: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}! ثم يقرر أن القرآن يهدي للتي هي أقوم، بينما الإنسان عجول مندفع، لا يملك زمام انفعالاته .. ويقرّر قاعدة التبعة الفرديّة في الهدى والضلال، وقاعده التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك! وهكذا نجد السياق ينتقل من سيرة بني إسرائيل وكتابهم الذي آتاه الله موسى عليه السلام، ليهتدوا به فلم يهتدوا، بل ضلّوا فهلكوا ... ينتقل إلى القرآن الكريم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)} (الإسراء)! هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم، وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان .. ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج، وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه الشر في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل! يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض .. والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشريّة الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعيّة ونواميس الفطرة البشريّة في تناسق واتّساق!

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله .. فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلّعة إلى أعلى وهي مستقرّة على الأرض .. وإذا العمل عبادة متى توجّه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة، فلا مادّية كما نشهد في عالمنا المعاصر .. ولارهبانية أيضاً! ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشقّ التكاليف على النفس حتى تملّ وتيأس من الوفاء، ولا تترخّص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال! ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأسراً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً! ومعلوم أن (الدين القيّم) يقيم العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة، والشنآن، ولا تصرّفها المصالح والأغراض .. الأسس التي أقامها العلم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، ونظام التعامل الدّولي اللاّئق بعالم الإنسان! ويهدي للتي هي أقوم في تبنِّي الرسالات السماوية -ومنها رسالة موسى عليه السلام- والربط بين هذه الرسالات، وتعظيم مقدّساتها، وفق هدى الحق، وصيانة حرماتها، وفق وحي السماء، فإذا البشريّة بجميع رسالاتها السماويّة في سلام ووئام! ولكن اليهود -كما عرفنا- هم اليهود!

فأمّا الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان .. العجول .. الجاهل بما ينفعه وما يضرّه .. المندفع الذي لا يضبط انفعالاته، ولو كان من ورائها الشرّ كله: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)} {الإسراء)! ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها، ولقد يفعل الفعل وهو شرّ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري، أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه .. فأين هذا من هدي القرآن الثابت الهادئ الهادي؟! ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان .. هدي القرآن، وهوى الإنسان! ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات. والإشارة إلى نوح عليه السلام ومن حُملوا معه من المؤمنين .. والإشارة إلى قصّة بني إسرائيل، وما قضاه الله لهم في الكتاب، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العبادة ومن قواعد العمل والجزاء .. والإشارة إلى القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم! من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها، ينتقل السياق إلى آيات الله الكونيّة في هذا الوجود، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم، وجهودهم وجزاءهم، وكسبهم وحسابهم، فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب، مرتبطة أشدّ ارتباط بالنواميس الكونيّة الكبرى، محكومة بالنواميس ذاتها، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلّف، دقيقة منظمة دقة النظام الكونيّ الذي يصرف الليل والنهار، مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار آيتين!

ويبدأ الموقف الثاني بقاعدة التوحيد .. وهي قد أصابها التحريف اليهودي والتخريف الصهيوني الجهول -كما يشهد الواقع التاريخي- وذلك ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه. ويشدّها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستنداً إليه! ويتحدث في الموقف الثالث عن أوهام الوثنيّة الجاهلية .. وعن استقبالهم للقرآن الكريم، وتقوّلاتهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... ويأمر المؤمنين أن يتكلموا بالتي هي أحسن! وفي الموقف الرابع يبيّن لماذا يرسل الله خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - بالخوارق؛ فقد كذَّب بها الأوّلون، فحقّ عليهم الهلاك اتباعاً لسنة الله .. كما يتناول موقف المشركين من إنذار الله لهم في رؤيا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم وطغيانهم! ويجيء في هذا السياق طرف من قصّة إبليس، وإعلانه أنه سيكون حرباً على ذرّيّة آدم .. يجيء هذا الطرف من القصّة كأنه كشف لعوامل الضلال الديني يبدو من المشركين، والإفساد في الأرض الذي يقوم به اليهود .. ويعقب عليه بالتخويف من عذاب الله، والتذكير بنعم الله في تكريم الإنسان، وما ينتظر الطائعين والعصاة: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} (الإسراء)! وهو مشهد يصوّر الخلائق محشورة .. وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول الذي اقتدت به، أو الإِمام الذي انتمت إليه في الحياة الدنيا!

فهل تبع اليهود موسى عليه السلام؟! إنهم انحرفوا عن رسالته، وكفروا بالحق الذي آمن به ودعا إليه! إن موسى عليه السلام من المسلمين، فهل أتباعه -كما يزعمون- كذلك؟! وهنا في هذا الموقف الرهيب الرعيب تنادي كل جماعة، ليسلّم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة .. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاّه .. ويوفَّى الأجر! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الحق -كهؤلاء اليهود ومن على شاكلتهم- فهو في الآخرة أعمى عن طريق النجاة، وأضلّ سبيلاً .. وجزاؤه معروف! ولكن السياق يرسمه في هذا المشهد المزدحم المهيب، الهائل الرعيب، أعمى ضالاًّ يتخبّط، لا يجد من يهديه ولا من يهتدي به، ويدعه كذلك، لا يقرّر في شأنه أمراً هنا؛ لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب الرهيب هو وحده جزاء مرهوب، يؤثر في القلوب! ويستعرض في الموقف كيد المشركين للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومحاولة فتنته عن بعض ما أُنزل إليه، ومحاولة إخراجه من مكة، ولو أخرجوه قسراً -ولم يخرج هو مهاجراً بأمر الله- لحلّ بهم الهلاك الذي حلّ بالقرى من قبلهم، حين أخرجت رسلها أو قتلتهم، كما عرفنا في تاريخ اليهود! ويأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمضي في طريقه، يقرأ القرآن، ويقيم الصلاة، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه، ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين! بينما الإنسان قليل العلم، وهو يعرض موقفاً من مواقف هؤلاء اليهود -كما

أسلفنا- وهم يسألونه عن الرّوح ما هو؟ .. والمنهج الذي سار عليه القرآن -وهو المنهج الأقوم- أن يجيب الناس عمّا هم في حاجة إليه، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته، فلا يبددّ الطاقة العقليّة التي وهبهم الله إيّاها فيما لا يفيد ولا يثمر، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به، فلما سألوه عن الرّوح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله، واختصّ بعلمه دون سواه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قلِ الرُّوح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيل (85)}! وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل .. ولكنَّ فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدود مجاله، الذي يدركه .. ولكنها سمات يهود! فلا جدوى من الخبط في التّيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه؛ لأنه لا يملك وسائل إدراكه .. ! والرّوح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسرّ من أسراره القدسيّة أودعه هذا المخلوق البشري، وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها .. وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق .. وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود .. والإنسان لا يدبّر هذا الكون، فطاقته ليست شاملة .. إنما وهب منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض، ويحقّق فيها ما شاء الله أن يحقق، في حدود علمه القليل! ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السَّرّ اللطيف -الرّوح- لا يدري ما هو؟ ولا كيف جاء؟ ولا كيف يذهب؟ ولا أين كان؟ ولا أين يكون؟ إلا ما يخبر به العلم الخبير في التنزيل! ويستمرّ في الحديث عن القرآن وإعجازه، بينما هم يطلبون خوارق مادّيّة،

ويطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - بيت من زخرف أو جنّة من نخيل وعنب، يفجّر الأنهار خلالها تفجيراً! أو يفجّر لهم في الأرض ينبوعاً!! وأن يرقى هو في السماء، ثم يأتيهم مادّيّ يقرؤونه! إلى آخر هذه المقترحات التي يصليها العنت والمكابرة -وكما هو شأن اليهود ومن على شاكلتهم- لا طلب الهدى والاقتناع! ويردّ على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطبيعة الرسالة، وبكل الأمر إلى الله .. ويتهكَّم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله -على سعتها وعدم نفادها- لأمسكوا خوفاً من الإنفاق! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبّح الله! {تُسَبّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلَكِن لًا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} (الإسراء)! والآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل، فلم تؤدِّ إلى إيمان هؤلاء المتعنّتين؛ لأن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجامدة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)} (الإسراء)! وهذا المثل من قصّة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة، وذكر المسجد الأقصى في أوّلها، وطرف من قصّة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام!

وكذلك يعقّب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة، ومصير المكذّبين! وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه .. القرآن الذي نزل مفرّقاً ليقرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القوم زمناً طويلاً بمناسبته ومقتضياته، وليتأثّروا به ويستجيبوا له استجابة حيّةً عمليةً، والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخضوع والتأثر إلى حدّ البكاء والسجود: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (الإسراء)! وهو مشهد مونع يلمس الوجدان .. ويرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتّحة لاستقبال فيضه .. العارفة بطبيعته وقيمته .. بسبب ما أوتيت من العلم قبله .. هذا المشهد الموحي للدَّين أوتوا العلم من قبله يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا القرآن أو لا يؤمنوا! يقول ابن كثير: قوله تعالى: {وإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِه}! أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه، ولم يبدّلوه! (¬1) فهل يفهم اليهود ذلك؟! ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 3: 68، وانظر القرطبي: 10: 340، والكشاف: 2: 378، والماوردي: 2: 462.

من هذا العرض الموجز لمقاصد السورة يتبيّن لنا أن الحديث فيها -كما سبق- مسوق لإثبات رسالة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، وحقيقة ما أنزل عليه .. وأن الذين يقترحون غيره من الآيات ما تأمّلوه وما عرفوه حقّ المعرفة، وأنهم إذا استمرّوا في هذا الإعراض سيصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم، وكذلك ما أصاب بني إسرائيل بعد فسادهم وإفسادهم في الأرض! ثانياً: ما قاله من أن الآيات مكيّة، وأن المسلمين بمكة كانوا مستضعفين، فلم يكن لبني إسرائيل يومئذ صلة، ولا شأن مع المسلمين، ولم يكن لهم أثر بمكة يقتضي أن يتحدّث الله عنهم في سورة مكيّة بمثل هذا التفصيل ... إلخ! هذا القول نوافقه عليه في جملته، إلا أننا -كما يقول الدكتور طنطاوي (¬1) - نخالفه فيما ذهب إليه من أنه لم يكن لبني إسرائيل صلة بالمسلمين، تقتضي أن يتحدّث القرآن عنهم بمثل هذا التفصيل! ومن أسباب مخالفتنا له، أن عدم وجود الصلة التجاريّة أو السكنيّة بين مسلمي مكّة واليهود، وعدم وجود الأثر أو الخطر، لا يقتضي أن يترك القرآن الكريم الحديث عن بني إسرائيل بالتفصيل، إذ هناك ما هو أهمّ من كل ذلك، وهو تشابه موقف أهل مكة واليهود من الدين الحق، فكلاهما قد وقف من الرسالات السماوية موقف الجاحد العاصي، فبيّن القرآن الكريم لأهل مكّة أن الله تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام لهداية بني إسرائيل، ولكنهم لم يعملوا بها، بل أفسدوا في الأرض، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التّوْرَاةَ ثُمَّ لَم يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهدِي الْقَوْمَ الظَّالمِينَ (5)} (الجمعة)! ¬

_ (¬1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 374 وما بعدها بتصرف.

فبنو إسرائيل حمّلو التوراة، وكلّفوا أمانة العقيدة والشريعة: {ثُمَّ لَم يَحْمِلُوهَا}! لأن حملها يبدأ بالإدارك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير، وعالم الواقع .. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها -كما يشهد بذلك واقعهم قديماً وحديثاً- ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا الثقل، فهو ليس صاحبها، وليس شريكاً في الغاية منها! وهي صورة رزيّة بائسة، ومثل سيّء شائن، ولكنها صورة معبِّرة عن حقيقة صادقة! ومثل هؤلاء اليهود، هؤلاء الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء، ويرفعون رايات، ولا يعملون عمل المسلمين .. وبخاصة أولئك الذين يقرؤون الكتب، ويقومون بدور العلّم والموجّه والمفكر والأستاذ -مهما كانت مناصبهم- وهم لا ينهضون بما تفرضه عليهم العقيدة، وهم كثيرون كثيرون، وهذا خلق يهود! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس، إنما هي مسألة فقه وعمل في الكتب! وحسبنا أن نذكر مثلاً للانحراف عن سوء الفطرة، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها! ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره، وفكره، ولكنه انسلخ سنها، وتعرّى عنها، ولصق بالأرض، واتبع الهوى، فلم يستمسك بالميثاق

الأول، ولا بالآيات الهادية، فاستوى عليه الشيطان، وأمسى مطروداً من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن إلى قرار! ولكن البيان القرآنيّ المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة، إنما يصوّره في مشهد حيّ متحرّك، عنيف الحركة، شاخص السمات، بارز الملامح، واضح الانفعالات، يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة، إلى جانب العبارات الموحية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف)! روى عبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعام بن باعوراء، رواه شعبة وغير واحد عن منصور به .. وتعدّدت الروايات وتنوَّعت فيمن هو! قال ابن كثير: المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة إنما هو رجل من المتقدّمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف! (¬1) وجاء في النار: والضمير في قوله {عَلَيْهِم} للناس المخاطبين بالدعوة، وأوّلهم كفَّار مكّة، والسورة مكيّة، وقيل: لليهود؛ لأن المثل تابع لقصة موسى في السورة! (¬2) ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 2: 264 - 265 بتصرف. (¬2) تفسير المنار: 9: 405.

وعلى كل، فهو مثل ينطبق تمام الانطباق على اليهود ومن على شاكلتهم .. وعلينا أن نأخذ من الخبر ما وراءه (¬1)، فهو يمثل حالة الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبيّن لهم فيعرفوها، ثم لا يستقيموا عليها! وما أكثر ما يتكرّر هذا النبأ في حياة البشر -وبخاصة اليهود- ما أكثر الذين يُعطون علم دين الله، ثم لا يهتدون به، إنما يتّخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى به .. هواهم وهوى المتسلّطين الذين يملكون لهم -في وهمهم- عرض الحياة الدنيا .. وهو خلق يهود ومن على شاكلتهم! وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله، ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبّت بها هذا السلطان المعنوي على سلطان الحق وحرماته في الأرض جميعاً! لقد رأينا من هؤلاء من يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع ويبارك الجاهليّة .. ويخلع على هذا الفجور رداء الدّين وشاراته وعناوينه! فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟! وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يسجّله القرآن على صاحب هذا النبأ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ}! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 3: 1397 بتصرف.

ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته .. ولكنه سبحانه لم يشأ؛ لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يتبع الآيات! إنه مثل كل من آتاه الله من العلم، فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً ذيلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان، وهو خلق يهود، ومن على شاكلتهم! ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟! إنه -في حسّنا كما توجيه إيقاعات هذا النبأ وتصوبر مشاهده في القرآن- ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها .. وذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً .. والذي لا يترك صاحبه، سواء وعظته أم لم تعظه، فهو منطلق فيه أبداً، وهو خلق يهود، ومن على شاكلتهم! والحياة البشريّة ما تني تطلع علينا بهذا الله في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل جيل وفي كل قبيل .. حتى إنه لتمرّ فترات كثيرة وما تكاد العين تقع إلا على هذا المثل .. فيما عدا الندرة ممن عصم الله ممن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض، ولا يتبعون الهوى، ولا يستذلهّم الشيطان، ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان! فهذا مثل لا ينقطع وروده ووجوده، وما هو بمحصور في قصّة وقعت، في جيل من الزمان، فهو خلق يهود، ومن على شاكلتهم! وقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو هذا النبأ على قومه الذين كانت تتنزّل عليهم آيات الله، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها .. ثم ليبقى من بعده ومن

بعدهم يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدوّ لعدو، فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة! إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصوّرات والتصويرات .. إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع .. ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً .. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلتس بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقّة، انسلاخ الحيّ من أديمه اللاصق به .. لأنه يهوديّ الخلق! أو ليست الكينونة البشريّة متلبّسة بالإيمان بالله تلبّس الجلد بالكيان؟! ومع هذا، ها هو ذا ينسلخ من آيات الله، ويتجرّد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهُدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطّين المعتم، فيصبح غرضاً للشيطان، لا يقيه منه واقع ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه؛ لأنه يهوديّ الخلق! ثم إذا نحن أولاء، أمام مشهد مفزع بائس نكد .. إذا نحن بهذا المخلوق لاصقاً بالأرض، ملوّثاً بالطّين! ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد! كل هذه المشاهد المتحرّكة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثّر .. فإذا انتهى المشهد الأخير منها .. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع .. مع التعليق المرهوب الموحي على المشهد كله:

{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف)! ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبّسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم .. ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً .. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان الإنسان، إلى مكان الحيوان .. مكان الكلب الذي يتمرَّغ في الطّين .. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى علّيّين .. وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون إلى أسفل سافلين: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}! وهل أسوأ من هذا المثل؟! وهل أسوأ من الانسلاخ والتعرّي من الهدى؟! وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟! وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟! من يعرّيها من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق اللاهث لهاث الكلب أبداً! حقاً، إنه خلق يهود، ومن على شاكلتهم! وقد ترتَّب على ذلك أن سلّط الله عليهم من يذلهّم بسبب فسوقهم عن أمر

الله (¬1)، فإذا ما سار أهل مكة على هذا الطريق المعوج الذي سار عليه بنو إسرائيل بعد أن جاءهم خاتم النبيّين - صلى الله عليه وسلم - بالهُدى ودين الحق، فسيصيبهم من العقاب ما أصابهم! وهذا التفصيل الذي تحدّث القرآن به هنا عن بني إسرائيل، قد جاء ما هو أطول منه بكثير في سور مكّية، كسور: الشعراء، والأعراف، وطه، والقصص، وغير ذلك من السور المكّية التي تحدّثت عنهم باستفاضة! وإذن فهناك مقتضى لهذا الحديث المفصّل عن بني إسرائيلَ في سورة الإسراء المكّيّة، وهو تماثل موقف أهل مكّة وبني إسرائيل من الدّين الحق، ومخالفة الفريقين لشريعة سماويّة خالدة، هي شريعة الإِسلام، لا لقانون وضعي أو لعرق دنيوي، وتبشير المسلمين بحسن العقبى، لاستجابتهم لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثالثاً: قال في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا}! لا تنطبق هذه المرّة تمام الانطباق الأعلى الذين قاموا به على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وما عاقبهم الله به، وسلّط عليهم فيه ... إلخ! ونحن لا نوافقه فيما ذهب إليه، للأسباب التالية: 1 - الذي عليه المفسّرون أن المراد بالأرض في قوله تعالى: {وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}! أرض الشام التي كان يسكنها اليهود وقت نزول التوراة، وليس المراد بها أرض الجزيرة العربية؛ لأنها -كما سبق- لم تكن سكناً لهم عند نزول التوراة! 2 - نحن نعرف أنه قد حصل منهم إفساد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو معروف ¬

_ (¬1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 3: 385 وما بعدها بتصرف.

-ولكن هذا الإفساد-رغم ضراوته- كان دون ما قاموا به من إفساد قبل ذلك، بدليل أن الحق تبارك وتعالى قد نعى عليهم في القرآن الكريم، رذائل كثيرة اقترفوها! منها أنهم قتلوا قبل بعثة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - بعض أنبياء الله، وحاولوا قتل عيسى عليه السلام، واتخذوا لذلك كل الطرق والوسائل، إلا أنهم لم يفلحوا في مسعاهم لأسباب خارجة عن إرادتهم! وإذن فإفسادهم في الأرض قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أشدّ وأفحش من إفسادهم بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم -! 3 - إفسادهم في الأرض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، كان يأخذ في غالبه طابع النفاق والمخادعة، وعدم المجاهرة، خوفاً من المسلمين، عدا ما حدث من معارك خيبر، أما إفسادهم قبل ذلك فكان يأخذ طابع الظلم الصريح، والعصيان الواضح، والطغيان المعتمّد، كما يفيده قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}! وهذا يدل على أن المقصود بإفسادهم في الأرض مرّتين ما كان منهم قبل بعثة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -! 4 - قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}! هذا العلوّ الكبير الذي وصفتهم به الآية الكريمة لا ينطبق على حالهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد أصحابه رضي الله عنهم؛ لأن اليهود في هذه الفترة كانوا يمثّلون جزءاً من اليهود المنتشرين في الأرض، وبلغ بهم ضعف الحال أن بعضهم انضمَّ إلى طائفة الخزرج، وبعضهم انضم إلى طائفة الأوس -كما سيأتي- فإذا ما حصل قتال بين

الطائفتين قاتل حلفاء الخزرج من اليهود إخوانهم المنضميّن إلى الأوس، وقاتل حلفاء الأوس من اليهود إخوانهم أبناء عمومتهم حلفاء الخزرج، وقد بيّن القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} (البقرة)! وإذن فقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا}! عقب قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}! ينطق على أدوار الفساد الكبيرة التي قاموا بها قبل الإِسلام أيّام أن طغوا وبغوا وعلوا علوًّا كبيراً في الأرض! 5 - ما أصابهم من عقوبات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد أصحابه رضي الله عنهم، جزاء غدرهم شيء هيّن بالنسبة لما أصابهم من عقوبات قبل ذلك، على أيدي البابليّين والرومان وغيرهم؛ لأن ما أصابهم في العهد النبويّ كان عدلاً، وكان يختلف من موقف إلى آخر، وكان في الوقت ذاته ينطبق على الجزء الخاص الذي يستحق ذلك ممن يسكن الجزيرة من اليهود -كما سيأتي- بينما العقوبات التي نزلت بهم قبل ذلك، على أيدي البابليّن والرّومان -مثلاً- كانت لليهود الذين كانوا متجمّعين في منطقة واحدة، هي أرض الشام! ثم إن العقوبات التي أنزلها المسلمون بهم في صدر الإِسلام، كانت في أوقات متفرّقة، وكانت على قدر إساءة المسيء منهم! ومن هذا ترى أن ما قام به اليهود من إفساد وفي المرّة الأولى ينطبق على الدور الذي قاموا به قبل الإِسلام، وأن العباد الذين سلّطهم الله عليهم لإذلالهم بسبب فسادهم وإفسادهم كانوا أيضاً قبل الإِسلام!

رابعاً: جزم بأن المعاقبين لليهود في المرّة الأولى لا تنطبق أوصافهم إلا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم الذين يستحقون شرف هذه النسبة .. وهم الذين لم يكلفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الديار، أما أتباع (بخت نصر) فقد ذكروا أنه قتل على دم زكريّا وحده سبعين ألفاً .. فهو اجتياح وليس جوساً! ونحن نخالفه في ذلك لأمور، أهمها: أ- أن الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم عباد الله تعالى، والذين سلّطهم الله على بني إسرائيل لإذلالهم بعد إفسادهم الأوّل هم عباد لله مع كفرهم! ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} (الزمر)! ففي هذه الآية نسب الله تعالى العباد إلى نفسه بصيغة العموم التي تشمل مؤمنهم وكافرهم، وهناك آيات أخرى نسب الله فيها العباد جميعاً إلى ذاته، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين! (¬1) ب- يقول: وهم الذين لم يكلّفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الديار .. ولم يبيّن لنا معنى الجوس عنده، إلا أن الذي يفهم من كلامه أن الجوس -في رأيه- معناه التردّد بين الدور والمساكن بدون قتال يُذكر! وهذا التفسير للجوس -في رأينا- يأباه سياق الآيات، ومخالف للمشهور عن أئمّة التفسير واللغة! ¬

_ (¬1) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (عبد).

أمّا أنه يأباه سياق الآيات، فلأن الآية تذكر أن فساداً كبيراً، وطغياناً عظيماً يقع من بني إسرائيل في المرّة الأولى من مرّتي إفسادهم، وأنهم بعد ذلك يؤدّبون على إفسادهم، بأن يبعث الله عليهم عباداً له أقوياء، وقد بيّن الله تعالى مهمّة هؤلاء العباد فقال: {فَجَاسوا خِلالَ الدّيَارِ}! أي فتردّدوا بين مساكنكم يا بني إسرائيل، لقتلكم ولسلب أموالكم، ولتخريب دياركم، وهذا ينطبق على ما نزل باليهود من عقوبات عامّة مدمّرة قبل الإِسلام، على يد البابليّين، والرومان وغيرهم، ولا ينطبق على العقوبات التي أنزلها المسلمون بهم في العهد النبويّ؛ لأنها كانت عقوبات تتّسم بالعدالة -كما هو معلوم- إذ لم تتناول إلا مَن يستحقّها منهم! وأمّا أنه مخالف للمشهور عن أئمّة التفسير واللغة في معنى الجوس، فإليك الدليل: 1 - قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معنى جاسوا: قتلوا، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان: ومنّا الذي لاقى بسيف محمَّد ... فجاس به الأعداء عُرض العسكر قال: وجائز أن يكون معناه: فجاسوا خلال الدّيار، فقتلوهم ذاهبين وجائيين! (¬1) قال القرطبي: فجمع بين قول أهل اللغة! (¬2) ¬

_ (¬1) تفسير الطبري: 15: 27 - 28. (¬2) تفسير القرطبي: 10: 216.

2 - وقال صاحب الكشاف: وأسند الجوس -وهو التردّد خلال الدّيار بالفساد- إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم! (¬1) 3 - وقال البيضاوي: {فَجَاسُوا}! تردّدوا لطلبكم {خِلالَ الدِّيَارِ}! وسطها للقتل والغارة، فقتلوا كبارهم، وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخرَّبوا المسجد! (¬2) 4 - وقال ابن منظور: الجوس مصدر عباس جوساً وجوَساناً: تردّد، وفي التنزيل العزيز: {فَجَاسوا خِلالَ الدّيَارِ}! أي تردّدوا بينها للغارة، وهو الجوسان! وقال القراء: قتلوكم بين بيوتكم! وقال الزجاج: أي فطافوا في خلال الدّيار ينظرون، هل بقي أحد لم يقتلوه؟ (¬3) وبهذا يتبيَّن أن الجوس معناه هنا التردّد للقتل والإفساد! ثم على فرض التسليم برأيه في معنى الجوس، لنا أن نتساءل: هل المسلمون لم يكلفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الدّيار؟! الذي يبدو أن المسلمين كلفهم تأديب اليهود أكثر من ذلك؛ لأنهم بالنسبة ¬

_ (¬1) تفسير الكشاف: 2: 352. (¬2) تفسير البيضاوي: 371. (¬3) لسان العرب (جوس) وانظر: تاج العروس، والمعجم الوسيط.

لبني قينقاع -كما سيأتي- حاصروهم بضعة عشر يوماً، وأجلوهم عن المدينة بعد مفاوضات ومجادلات! وبالنسبة لبني النضير حاصرهم المسلمون -كما سيأتي- حتى اضطرّوهم إلى الجلاء عن المدينة! وبالنسبة لبني قريظة حاصرهم المسلمون -كما سيأتي- ثم قتلوا المقاتلين! وبالنسبة ليهود خيبر دارت معارك ضارية -كما سيأتي- انتهت بالقضاء عليهم عسكرياً! فتأديب اليهود كلّف المسلمين أكثر من جوس الديار بالمعنى الذي يراه! جـ- قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}! يفيد أن المسجد يؤخذ من أيدي اليهود عنوة، ومن يأخذه يخربه ويهدمه، وهذه الأوصاف والأعمال تنطبق على البابليّين والرّومان وغيرهم؛ لأنهم عندما دخلوا أورشليم قبل الإِسلام دمّروها وهدموا هيكلها! أما المسلمون فإنهم عندما فتحوا فلسطين -كما سيأتي- في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنة 15 هـ 636 م، لم يكن لليهود أثر فيها، ولم يأخذوا المسجد الأقصى منهم، وإنما أخذوه من النصارى، وهم الرومان يومئذ، الذين كانوا قد استولوا على بلاد الشام مئات السنين، ثم بعد أن دخلوا أزالوا معالم الوثنيّة والشرك، وطهّروه للعابدين، ولم يحصل من المسلمين تخريب أو تدمير لمسجد أو غيره من بلاد الله كما يفيده قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}! وإذن فالعباد الذين سلّطهم الله علي بني إسرائيل بعد إفسادهم الأوّل في

الأرض، تنطبق أوصافهم وأعمالهم وعقوباتهم المدمّرة لبني إسرائيل على العباد الذين أذلوهم قبل الإِسلام، كالبابليّن والرّومان، ولا تنطبق على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما قال! خامساً: تحدّث تحت عنوان: (ردّ الكرة)!، فقال: قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}! ردّت ليهود الكرّة علينا بعد ألف وثلائمائة ونيّف وسبعين من تأديب الله لهم، منذ بعث عليهم عباده المؤمنين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاسوا خلال الديار ... إلخ! ونحن لا نوافقه لأمور منها: أ- أن قوله تعالى: {ثمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}! يفيد أنه حسنت حالهم، وتركوا ما هم عليه من فساد وإفساد، حتى ردّ الله لهم الكرّة على عدوّهم، وتلك سنّة الله في خلقه، ينصر من تاب إليه وأناب، وهذا المعنى الذي تفيده الآية لا يمكن أن يوسف به اليهود في عصرنا؛ إذ هم مازالوا على فسادهم وإفسادهم وكفرهم وطغيانهم، ولكن يمكن أن توصف به القلّة المؤمنة التي أطاعت طالوت وقاتلت معه -كما أسلفنا-، وأيّدت داود عليه السلام وناصرته، وقالت عندما برزت لجالوت وجنوده: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ ... " (البقرة: 251)! وإذن فقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}! أكثر ما يكون انطباقاً على بني إسرائيل الذين قاتلوا مع طالوت بعزيمة صادقة، وإيمان راسخ، وصبر جميل، ولهذا نصرهم الله على أعدائهم!

ب- ما قاله من أن اليهود ردّت لهم الكرّة علينا، وأمدّوا بثلاث، ما أمدّوا في تاريخهم بمثلها! بأموال تتدفَّق عليهم من أقطار الأرض! وبنين مهاجرين ومقاتلين! وكثرة الناصر لهم ... إلخ! ينطبق على حالهم في عهد داود عليه السلام -كما أسلفنا- لأنهم في ذلك العهد أمدّهم الله بالأموال الكثيرة، والبنين، وصاروا أكثر عدداً من أعدائهم، ولعلّنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن عهد حكم داود وسليمان عليهما السلام لبني إسرائيل هو العهد الذهبي الوحيد لهم طول حياتهم! أمّا ما جاء بعد ذلك من تاريخ بني إسرائيل إلى وقتنا الحاضر، فما هو إلا سلسلة من المآسي والنكبات -كما عرفنا وكما سيجيء- وسيستمر احتقار العالم لهم، وكرهه إيّاهم، وانتقامه منهم إلى يوم القيامة، وإن بدا في عصرنا هذا أنه متعاطف معهم ومساند لباطلهم، وذلك بسبب أنانيتهم وسعيهم في الأرض فساداً، وقد صرح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُم سُوءَ الْعَذَابِ} (الأعراف: 167)! هذا، وإن اليهود مهما أمدّوا وأُعينوا من دول الكفر الكبرى فهم ليسوا أكثر أبناء ولا نفيراً منا نحن المسلمين، وليسوا أيضاً أكثر أموالاً منا إذا وازنا بين ما نملكه

من ثروات فوق الأرض وتحتها، ومن قدرة على العمل الذي يجلب المال بحكم كثرة العدد، لو أحسنا التصرّف فيما نملك! وعندما يطبق المسلمون تعاليم الإِسلام تطبيقاً كاملاً، ويؤدّون رسالتهم في الحياة كما أمرهم الله، ويحسّون الشعور بالمسؤوليّة، ويراقبون الله في كل تصرّفاتهم، عندما ما يكونون كذلك يفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض! سادساً: يقول: وقد قرّر سبحانه أنه سيجمعهم ألفافاً لنبيدهم، فقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}! ويبدو بوضوح أنه يفسر {الآخِرَةِ} هنا بمعنى المرّة الآخرة من مرّتي إفسادهم .. وهو مخالف لأقوال المفسّرين. قال ابن جرير: (¬1) فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً! يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفاً: أي مختلطين، قد التفّ بعضكم ببعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيّه! وقال القرطبي: (¬2) {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ}! أي القيامة: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}! أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون! وقال صاحب الكشاف: (¬3) {فإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَة}! يعني قيام الساعة! ¬

_ (¬1) تفسير الطبري: 5: 176 - 177. (¬2) تفسير القرطبي: 10: 338. (¬3) تفسير الكشاف: 2: 377.

{جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}! جميعاً مختلطين إيّاكم وإيّاهم، ثم يحكم بينكم، ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم! وقال القاسمي: (¬1) أي قيام الساعة! سابعاً: يقول في صدر مقاله: وأبادر فأطمئن الذين يهولهم هذا التخريج فيروله مخالفاً للمأثور والمعروف من أقوال المفسّرين إلى أنه لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، وإلى أن المأثور عن بعض الصحابة مضطرب لا تقوم به حجة، وإلى أن الأمر لا يعدو أن يكون تاريخاً أو تأويلاً، لا يقال في مخالفته إنه تحريف للكلم عن مواضعه! وهذا القول نردّ عليه -أولاً- بأنه خروج عن ظاهر القرآن، بل عن صريحه الذي لا يمكن للمتأمل أن يفهم غيره، وهو أن المراد من الكتاب في قوله تعالى: {وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ}! هو التوراة، لا القرآن الكريم .. وهذا -كما سبق- هو قول جمهور المفسّرين! والخروج عن النصوص الصريحة يعد مجافاة للحق، ولا ينبغي للمسلم أن يتجاوز مدلول الألفاظ القرآنيّة ويخرج عما تقتضيه معانيها! ونردّ عليه- ثانياً- بأن ذلك لا يساعد عليه التاريخ الصحيح -كما أسلفنا-، فإذا ضممنا إلى ذلك أن الآيات تفيد أن ردّ الكرة لليهود يكون نتيجة صلاح في الدين، وإحسان في العمل، وتوبة من الآثام .. كان استيلاء اليهود اليوم على فلسطين نتيجة لذلك! ¬

_ (¬1) تفسير القاسمي: 10: 4008.

فتح المسلمين للقدس

وهذا كله يناقض الواقع الذي نلمسه بأيدينا، من حيث فسادهم وإفسادهم واعتداؤهم وطغيانهم! وعلينا أن نجتمع على العقيدة ونمكّن لدين الله في الحياة حتى ينصرنا الله! {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم: 5)! فتح المسلمين للقدس: ونجد أنفسنا أمام فتح المسلمين للقدس؛ لأنها حرم مقّدس، ربط القرآن الكريم بينها وبين الحرم المكّي -كما عرفنا- في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}! وهي في الدين والعقيدة أولى القبلتين، وثالث الحرمين، وحرمها مع الحرمين: المكّي والمدني يمثلون المساجد الثلاثة التي تنفرد بشد الرحال للصلاة فيها! يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشدّ الرحال إِلا إِلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى". (¬1) وسبق أن عرفنا فضل الصلاة في هذه المساجد .. ! ¬

_ (¬1) البخاري: 19 - التهجد (1189)، ومسلم (1397)، والحميدي (943)، وعبد الرزاق (9158)، وأحمد: 2: 234، 238، وأبو داود (2033)، والنسائي: 2: 37، والبيهقي: 5: 244، والخطيب: تاريخ بغداد: 9: 222، وتعدّدت الروايات في ذلك.

القدس الشريف

وقد حرص المسلمون على فتحه سلمًا وصلحاً، وقد تسلّم مفاتيحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وسار على هذه السنة صلاح الدّين الأيوبي عندما استردّها من الصليبيّين (583 هـ - 1187 م) بعد ما يقرب من تسعين عاماً، وانتهكوا حرمتها وقدسيّتها! (¬1) وكانت القدس -على مرّ تاريخ الصّراع بين الغرب الصّليبي والشرق الإِسلامي- رمز هذا الصّراع، وبوابة الانتصارات .. حتى لقد لخّص الشاعر العماد الكاتب (519 - 597 هـ/ 1125 - 1251 م) هذه الحقيقة من حقائق إستراتيجية هذا الصراع عندما قال لصلاح الدّين الأيوبي: وهيّجت للبيت المقدّس لوعة ... يطول بها منه إِليك التشوّق هو البيت إِن تفتحه والله فاعل ... فما بعده باب من الشام مغلق القدس الشريف: ولقد حرص المسلمون عندما حرّروا القدس (15 هـ/ 636 م) من الاستعمار الرّومانيّ .. الذي دام عشرة قرون -على أن يكون اسمها عنواناً على قداستها وقدسيتها اسم (القدس)، و (القدس الشريف) و (الحرم القدسي)، كما حرصوا على أن تكون السلطة الإِسلاميّة هي الضمان الوحيد لذلك .. فلم تحتكرها للإسلام، كما احتكرها الرومان لأنفسهم -عندما كانوا وثنيّن- ¬

_ (¬1) مجلة المجتمع: العدد 1841 - 3 ربيع الأول 1430 هـ 28/ 2 / 2009 م بتصرف.

خطبة الفاروق - رضي الله عنه -

ولمذهبهم النصراني- عندما تنصّروا- وكما احتكرها الصليبيون الكاثوليك- إبان الاحتلال الصليبي .. وكما يحتكرها اليهود ويهوّدونها هذه الأيام! وكما شأن العقيدة الإِسلاميّة التي تفرّدت وتميّزت وامتازت بالاعتراف بالآخرين .. وبحماية مقدّساتهم! خطبة الفاروق - رضي الله عنه -: وحسبنا أن نذكر خطبة الفاروق عمر - رضي الله عنه -، في المجموع المحتشدة بإيلياء فقال: "يا أهل اللياء، لكم ما لنا وعليكم ما علينا". ثم دعاه البطريرك صفرونيوس لتفقد (كنيسة القيامة) فلبّى دعوته، وأدركته الصلاة، وهو فيها، فالتفت إلى البطريرك وقال له: (أين أصلِّي؟) فقال: مكانك صلّ، فقال: ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة، فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون: هنا صلى عمر، ويبنون عليه مسجداً!!) وابتعد عنها رمية حجر، وفرش عباءته، وصلى، وجاء المسلمون من بعده، وبنوا على مصلاه مسجداً، وهو قائم على رمية حجر من كنيسة القيامة إلى يومنا هذا! العهدة العمرية: وأعطى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - هؤلاء الروم وثيقة أمان، عرفت بالعهدة العمريّة، وهي لم تزل محفوظة في بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس الشريف، وهذا نصّها:

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم: سقيمها وبريئها وسائر ملّتها، إنه لا تسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من خيرها, ولا من صلبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولايضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود! وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية، كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية! ومن أحبّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، فمن شاء منهم قعد، وعليهم مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الرّوم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتّى يحصدوا حصادهم! وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمّة رسوله، وذمّة الخلفاء، وذمّة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية! شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان)! (¬1) ونلاحظ النص على منع اليهود من السكن في إيلياء، بناء على طلب ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: الرسول واليهود وجهاً لوجه: 4: 1717 وخطر اليهودية: 130 - 131.

أساطير التعصب والحروب

البطريرك؛ لأن المسلمين حين فتحوا بيت المقدس لم يجدوا فيها أحداً من اليهود، والنصارى قد حرّموا عليهم العيش في المدينة المقدّسة تخلّصاً من مؤامراتهم ودسائسهم! أساطير التعصّب والحروب: ومعلوم أن أساطير التعصّب الصليبي هي التي دفعت البابا الذهبي (أوريان الثاني 1088 - 1099 م) لتغليف الأطماع الاستعمارية بالأساطير اللاّهوتيّة .. فخطب في أمراء الإقطاع الأوروبّيين - بمدينة (كليرمونت) بجنوبي فرنسا 1095 م مفتتحاً قرنين من الحروب الصليبية (489 - 690 هـ / 1096 - 1291 م) ضد الإِسلام وأمّته وحضارته، فقال: يا من كنتم لصوصاً كونوا اليوم جنوداً! لقد آن الزمان الذي فيه تحوّلون ضدّ الإِسلام تلك الأسلحة التي أنتم الآن تستخدمونها ضد بعضكم بعضاً .. فالحرب المقدّسة المعتمدة الآن .. هي (في حق الله عينه) .. وليست هي لاكتساب مدينة واحدة .. بل هي أقاليم آسيا بجملتها، مع غناها وخزائنها العديمة الإحصاء! فاتخذوا محجة القبر المقدّس، وخلّصوا الأراضي المقدسة أيادي المختلسين، وأنتم املكوها لذواتكم، فهذه الأرض -حسب ألفاظ التوراة- تفيض لبنًا وعسلاً .. ومدينة (أورشليم) هي قطب الأرض المذكورة، والأمكنة المخصبة المشابهة فردوساً سماوياً! اذهبوا وحاربوا البربر (يقصد المسلمين!) لتخليص الأراضي المقدّسة

من استيلائهم - امضوا متسلّحين بسيف مفاتيحي البطرسيّة (أي مفاتيح الجنّة التي صنعها لهم البابا) واكتسبوا بها لذواتكم خزائن المكافآت السماويّة الأبديّة، فإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم، فالملك الشرقيّ يكون لكم قسماً وميراثاً! وهذا هو الحين الذي فيه أنتم تغدون عن كثرة الاغتصابات التي مارستموها عدواناً، من حيث إنكم صبغتم أيديكم بالدم ظلماً، فاغسلوها بدعم غير المؤمنين. (¬1) وعندما اقتحمت الجيوش الصليبية يومئذ - مدينة القدس (492 هـ - 1599 م) أبادوا جميع من بها من المسلمين- ومعهم اليهود -بالقتل والذبح والحرق .. حتى الذين احتموا بمسجد عمر -قبّة الصخرة- ذبحهم الصليبيون في المسجد، حتى تحوّل المسجد إلى بحر من الدماء! .. وبعبارة صاحب (حرب الصليب): إن الصليبيين -خيّالة ومشاة- قد دخلوا المسجد المذكور، وأبادوا بحدّ السيف كل الموجودين هناك، حتى الجامع من الدم بحراً متموّجاً، علا إلى حدّ الركب، بل إلى لجم الخيل!! ولما حلّ المساء تدافع الصليبيون يبكون من فرط الضحك!! بعد أن أتوا المسيح، فأخذ في غسل يديه تخلصاً من الدماء اللاصقة بها، مردداً المزمور التالي: ¬

_ (¬1) انظر: المجتمع: العدد 1841 - 3 ربيع الأول 1430 هـ 28/ 2 / 2009 م، والعدد 1842 - 10 ربيع الأول 1430 هـ - 7/ 3 / 2009 م.

(يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار، ويغسلون أقدامهم بدمهم، فيقول الناس: حقاً إن للصديق مكافأة، وإن في الأرض إلهاً يقضي: المزمور: 58: 10 - 11) ثم أخذ في أداء القداس قائلاً: إنه لم يتقدّم في حياته للرب بأي قربان أعظم من ذلك ليرضى الرب). (¬1) هكذا بدأت الأساطير النصرانيّة حول القدس .. وهكذا وضعها الصليبيّون في الممارسة والتطبيق! وهذه الأساطير النصرانيّة هي التي وضعت (كريستوفر كولومبس) (1451 - 1506 م) بعد هزيمة الحملات الصليبيّة في الشرق، وعقب نجاح الصليبيين في إسقاط غرناطة في يناير سنة 1492 م إلى أن يسعى إلى القيام بغزوة صليبيّة جديدة -يعيد بها اختطاف القدس من الإِسلام والمسلمين، فكتب إلى ملك إسبانيا (فرديناندز) (1479 - 1516 م)، و (إيزابيلا) (1474 - 1504 م) يقول: إن هدفه هو العثور على الذهب بكميات كبيرة، حتى يتسنّى للملكين أن يفتحا الديار المقدّسة خلال ثلاث سنوات .. فقد أعلنت لسموّكما أن كل المغانم التي سيدرها مشروعي هذا سوف تنفق على فتح القدس، وقد ابتسمتما -يا صاحبي الجلالة- وقلتما: إن ذلك يسركما! (¬2) وفي رسالة ثانية تحدث (كولمبس) إلى ملك إسبانيا عن أن هدف حياته ومشاريعه رحلاته هو تجهيز حملة صليبيّة لإعادة القدس إلى الكنيسة الكاثوليكية فقال: ¬

_ (¬1) انظر: السابق. (¬2) انظر: السابق.

لقد مكثت في بلاطكم سبعة أعوام مناقشة هذا الأمر مع العديد من الرجال .. ولهذا فيجب علينا أن نؤمن بأن أمر القيام بحملة صليبيّة لاستعادة مدينة القدس، لهو أمر سوف يتحقّق بالفعل .. لقد قال به يسوع المسيح المخلص، وذكره من قبل عبر رسالة القدّيسين! لقد ذكر الكاردينال (بيير) الكثير عن نهاية المسلمين، كما أن الأب (يواقيم الفيوري) قد ذكر أن الشخص الذي سيقوم بإعادة بناء الضريح المقدس، فوق جبل صهيون بالقدس، سوف يخرج من إسبانيا .. فلتكونوا واثقين من إحراز النصر في مسألة استعادة الضريح المقدس ومدينة القدس إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية! (¬1) تلك هي الأساطير النصرانيّة -حول القدس -كما أمر بها (كريستوفر كولمبس) - الذي ما نزال ندرّسه لأبنائنا في المدارس باعتباره من عظماء المستشكفين الجغرافيين! ولقد أدخلت البروتستانتيّة (البعد اليهودي) إلى هذه الأساطير -المحرّكة لاختطاف القدس- وذلك عندما أصدر (مارتن لوثر) (1483 - 1546 م) سنة 1523 م كتابه (المسيح يهودياً) وقال: إن الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدّس عن طريق اليهود وحدهم، إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف والغرباء، ولذلك فإن علينا أن نرضى أن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها! (¬2) ¬

_ (¬1) انظر: السابق. (¬2) انظر: السابق.

ولقد أدخلت البروتستانتيّة إلى صميم العقيدة المسيحيّة ثلاثة مبادئ -هي ثلاث أساطير- دمجت البعد اليهوديّ في البعد النصراني إزاء قضيّة القدس وفلسطين .. وهذه (المبادئ - الأساطير) هي: أولاً: إن اليهود هم أبناء الله وشعبه المختار! ثانياً: إن ثمة ميثاقاً إلهياً يربط اليهود بالأرض المقدّسة بعودة المسيح بقيام دولة صهيون! وهذه (المبادئ - الأساطير) هي التي أثمرت تيّار (المسيحيّة - الصهيونيّة) في الحضارة الغربيَّة .. ذلك التيّار الذي استغلّته الحركة الصهيونيّة في شراكتها مع الإمبراياليّة الغربيّة .. والذي قال عنه (بنيامين نتنياهو) عندما كان سفيراً للكيان الصهيوني بالأمم المتحدة - في خطابه أمام الجمعيّة العامة في فبراير سنة 1985 م: (إن كتابات المسيحيّين الصهيونيين -من الإِنجليز والأمريكان- أثرت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين، مثل (لويد جورج - 1863 - 1945 م) و (آرثر بلفور - 1848 - 1935 م)، و (درو ولسون - 1859 - 1924 م) في مطلع القرن العشرين! إن حكم اللقاء العظيم (عودة المسيح) أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال الذين لعبوا دوراً رئيساً في إرساء القواعد السياسيّة والدوليّة لإحياء الدولة اليهوديّة .. لقد تفجّر الحلم اليهودي من خلال المسيحيّن الصيهونيّين!) (¬1) ¬

_ (¬1) انظر: السابق.

قذائف الحق

ويطول بنا الحديث إذا حاولنا ذكر ما نقله المفكر الإِسلامي المعاصر الدكتور محمَّد عمارة في ذكر تلك الأساطير .. ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتابه القيم: (في فقه الصراع على القدس وفلسطين). (¬1) قذائف الحق: وإذا كان الأمر كذلك فإن علينا أن ندرس سيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - دراسة موضوعيّة -كما سبق- أن بيّنت كل ما يتصل بقضيّتنا مع اليهود في إذاعة القرآن الكريم من دولة الكويت صباحاً، وأذيعت في البرنامج العام مساء، طيلة سبعة أشهر كاملة! ولقيت الأحاديث بفضل الله وتوفيقه ترحيبًا وتقديراً، مما دفعني إلى تقديمها للطبع في دار الوفاء بالمنصورة بعد المعاهدة المسمَّاة (كامب ديفيد)، اشتملت على الكتب التالية: الأول: أسطورة الوطن اليهودي! الثاني: مفتريات الفكر اليهودي! الثالث: موقف اليهودي من الرسالة والرسول - صلى الله عليه وسلم -! الرابع: فساد الطبيعة اليهودية! الخامس: التآمر اليهودي على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. السادس: اليهود والخيانة عبر تاريخهم! ¬

_ (¬1) ط دار الشروق - القاهرة 2005 م.

السابع: القضاء على اليهود عسكرياً! الثامن: محاكمة اليهود ودورهم في انحطاط الأخلاق! التاسع: هذا هو الخطر اليهودي! العاشر: معالم النصر على اليهود في العصر الحاضر! ونفدت الطبعة بسرعة، ومن ثمّ طلب الكثيرون إعادة الطبع تحت العنوان الذي قدّمتها فيه إلى إذاعة الكويت (الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه: دراسة تحليليّة عبر التاريخ في ضوء الكتاب والسنة - ضرورية لكل مسلم)، وترجمتها إلى اللغات الأخرى، لأهميّة موضوعها! وإذا كنا قد أبصرنا بعض أساطير التعصّب والحروب، فإن علينا أن نوقن بالواقع المقرّر الذي تجري به السنة، ويقتضيه الناموس، وهو غلبة الحق وزهوق الباطل (¬1)، والحق أصيل على الباطل العارض: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18)! والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسّيّة حيّة متحرّكة، فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة، تقذف به على الباطل، فيشق دماغه!، فإذا هو زاهق هالك ذاهب! هذه هي السنة المقرّرة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود، والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلاً، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الحق، ويقذف عليه فيدمغه، ولا بقاء لشيء يطارده الحق، ولا حياة لشيء تقذفه يد الحق فتدمغه! ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن: 4: 2372 بتصرف

ولقد يخيّل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العلم الخبير .. وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزوياً كأنه مغلوب -كما نرى ونشاهد الآن- وإن هي إلا فترة من الزمان، يمدّ الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء .. ثم تجري السنّة الأزليّة الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض، وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء! والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده، وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه، وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه .. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر، عرفوا أنها الفتنة، وأدركوا أنه الابتلاء، وأحسّوا أن ربّهم يربّيهم ويريد أن يعدّهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة الابتلاء .. وكلما سارعوا إلى العلاج قصّر الله عليهم فترة الابتلاء .. وحقّق على أيديهم ما يشاء .. أما العاقبة فهي مقررة: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}! ونبصر الفجر قد أشرقت أنواره، وبدت مطالعه .. ونبصر قلوباً تتطلَّع إلى الخير، والمستقبل المليء بالخير .. ونحسّ بأننا نتطلّع إلى يوم النصر! ويحدونا الأمل والبشر، ونحن نذكر قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه أبو داود وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إِن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل سنة من يجدّد لها دينها"! (¬1) ¬

_ (¬1) أبو داود (4291)، والحاكم: 4: 522، والبيهقي: معرفة السنن والآثار: 520، وانظر الأقوال في معنى التجديد والمجددين في: عون المعبود: 11: 385 - 396.

ويزداد الأمل والبشر، ونحن نعيش في رحاب السيرة النبويّة، في هذه الدراسات التي تصنع أيدينا على معالم طريق النصر على اليهود وغيرهم .. كما تمعَّنا في أطيافها قرأنا شجناً، واستعرضنا جهاداً، وتبيَّنَّا استشهاداً، ولمسنا صدقاً، وأبصرنا يقيناً! وهذه المعالم حين تستقرّ في الجَنان المؤمن، يستحيل أن تظلّ مجرد شعور وجداني في أعماق الضمير .. وإنما تندفع بصاحبها لتحقِّق ذاتها في عالم الواقع، ولتمثل حركة إبداعيّة في عالم المنظور، تبدع الحياة كلها، وما ينشأ عنها من أطياف: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} (البقرة)! وإذا كنا قد أبصرنا كيف اقتحم جيشنا في العاشر من رمضان المعظم 1393 هـ 6 أكتوبر 1973 م خط (بارليف) الذي كان أسطورة من أساطير الفنون الحربيّة في العصر الحديث، باعتباره سدًّا منيعاً لا تتخطاه الجيوش، ولا تنال منه أسلحة الهدم والتدمير -هكذا قال اليهود عن هذا الخط، وهكذا شهد خبراء الحرب في العالم بأنه إن لم يكن على هذا الوصف الخارق، فإنه قريب منه- إذا كنا قد أبصرنا ذلك فإننا يجب ألا ننسى شعار هذه الحرب -كما سبق أن قدمت في الجزء الأول من هذه الدراسات -وهو (الله أكبر) في قصيدة طويلة، ومن ثم فقد رأينا ما كان من إمدادات تفوق كل ما هو متوقّع تقف بجانب اليهود .. حتى لا تكون هزيمتهم؛ لأن هذا الاقتحام كان خطوة لإزالة ما رمتنا به من نكسة 1967 م! ورغم الضباب الذي لفّ القضيّة والمعركة، والقيل والقال، في شأن

الدوافع الكامنة وراء ذلك. فإننا نؤمن بأن هذا الاقتحام كان بلا شك عملاً مميزاً جديراً بالوقوف أمامه طويلاً، وجديراً بأن نذكر الدرس والعبرة، حين رفع الجند شعار (الله أكبر)، هذا الشعار الذي يجب أن نجتمع حوله، ونرفعه عالياً، ونحمل أعناقنا على أكفّنا فداء وتضحية في سبيله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ...} (الروم: 5)! ونبصر معالم قضيّتنا مع أحفاد القردة والخنازير واضحة، يصوّرها الكتاب والسنة، وأنها ليست مجرّد صراع كما يدّعيه الغافلون، ويسمّيه العابثون، بل قذائف حق تدمغ الباطل! - ونرى اليهود في العصر الحاضر قد تجمع منهم كثيرون في الأرض المقدسة: - وهذا التجمع قد أفادنا، حيث تجمّعوا تحت راية عقيدتهم الباطلة، التي أصابها التزييف والتحريف والتخريف! - وهذا يتطلّب مواجهتهم تحت راية الدّين الحق! - ونبصر اليهود قد تملكوا أسباب القوّة والبطش كما يشهد الواقع الأليم! - وهذا يتطلب ضرورة الأخذ بكل الأسباب الممكنة، والأمة الإِسلاميّة تملك القدرة على ذلك! - ونبصرهم قد تجمّعوا من كل أنحاء الدنيا، ليتحقّق فيهم إذن الأمر الذي تحقّق منذ زمن، فبعث الله عليهم في فترات من الزمان من يسومهم سوء العذاب:

نبوءة النصر

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} (الأعراب: 167)! نبوءة النصر: - وهنا تتحقَّق فيهم نبوءة النصر فيما يرويه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة، حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله"! (¬1) وفي رواية عن عبد الله بن عُمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقاتلكم اليهود، فتسلّطون عليهم، حتى يقول الحجر يا مسلم! هذا يهوديّ ورائي فاقتله" (¬2) وقال الشنقيطي (¬3): لا وجه لتقييد شروح البخاري هذا النصر للمسلمين على اليهود، بكونه في زمان قتال اليهود -مع الدجال- للمسلمين، ومعهم عيسى بعد نزوله عليه السلام؛ إذ لا مانع من وقوع ذلك النصر مرّتين، فينصرون عليهم قبل نزول عيسى عليه السلام، ويستمرّ ذلك النصر عليهم إلى نزول عيسى: "حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله"! ¬

_ (¬1) البخاري: 56 - الجهاد (2926)، ومسلم (2922)، وأحمد: 2: 53، والطبراني: مسند الشاميّين: 4: 227 (3236). (¬2) البخاري: 61 - المناقب (3593)، وانظر (2925)، ومسلم (2921)، وعبد الرزاق (20837)، وأ حمد: 2: 121 - 122، 131، 135، 149، والترمذي (2236)، وأبو يعلى (5523)، والبغوي (4246)، والطبراني: الأوسط (9161)، والآجري: الشريعة 381، والبيهقي: 9: 175، وابن حبان (6806). (¬3) زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم: 5: 244 بتصرف.

والتعبير بـ (حتى) في الحديث يدلّ على أن النصر لا يزال من حين قتالنا لليهود، حتى يقول الحجر ذلك القول، سواء كان قبل عيسى عليه السلام أو في زمنه، والعقل قابل لكل ذلك، والإيمان بما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجب، وهو في حديث الصحيحين هذا لم يقيّد بما بعد نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وحينئذ فهو شامل لما قبل نزوله وما بعده، حيث أراد الله ذلك إن شاء! وذكر لفظ مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (¬1): "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إِلا الغرقد، فإِنه من شجر اليهود"! وفي هذا ظهور الآيات قبل قرب قيام الساعة، من كلام الجماد من شجر وحجر، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة، ولا مانع، ويحتمل المجاز بأن يكون المراد أنهم لا يفيدهم الاختبار وراء الشجر والحجر، والحمل على الحقيقة أولى! (¬2) قال ابن حجر: وفيه أن الإِسلام يبقى إلى يوم القيامة! (¬3) ومن أراد المزيد فليرجع إلى معالم النصر على اليهود في العصر الحاضر من كتاب (الرسول - صلى الله عليه وسلم - واليهود وجهاً لوجه: دراسة تحليليّة عبر التاريخ في ضوء الكتاب والسنة فهي ضرورية لكل مسلم. (¬4) ¬

_ (¬1) مسلم: 52 - الفتن (2922). (¬2) زاد المسلم: 5: 245 بتصرف. (¬3) فتح الباري: 6: 61. (¬4) انظر: 4: 1659 وما بعدها.

الأقصى بين الأمس واليوم

الأقصى بين الأمس واليوم

الأقصى بين الأمس واليوم • الأقصى ينادي • شكوى • جواب الشكوى • فلسطين الدامية • أخي • ردّ على الشهيد • نكبة فلسطين • يا أمّتي وجب الكفاح • يا قدس • إلى القدس هيّا نشدّ الرحال • فلسطين الغد الظاهر • مناجاة في رحاب الأقصى • ذبحوني من وريد لوريد • اغضب لله • مشاهد وعبر

الأقصى ينادي

الأقصى بين الأمس واليوم الأقصى ينادي: هذا، والإِسلام حيويّة زاخرة، في روحانيّة باهرة .. وإنسانيّة سامية، في واقعيّة عاملة .. ومن ثم فهو دين ودنيا .. وتشترك في ذلك قوى الإنسان جميعاً، وتتعاون ملكاته كافّة، وتتكامل مواهبه عامّة، فإذا كل أولئك قائم في خدمة الإِسلام، ملحوظ بعنايته، مشارك في حمايته، مؤبّد برعايته .. وهو متجدد باق على الدهر! وواقعنا كأمّة إسلاميّة يندى له الجبين .. ولا يختلف اثنان من العقلاء على ضرورة اليقظة من هذه الغفلة التي تعيشها الأمّة .. رجاء أن تعود إلينا سيرتنا الأولى، وتهب نفحات القرن الأول، ويولد لـ (الدين القيم) عالم جديد، يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد .. ويعود المسجد الأقصى المبارك إلى أيدي المسلمين! المسجد الأقصى يئن بحرقة ... مسرى الرسول يهيب بالعبّاد! لبّوا الندا إِن اليهود بساحتي ... فعلوا خسيس الفحش والإِفساد! فليشهد التاريخ أنّا أمّة ... تحمي الحمى بعقيدة وجهاد!

شكوى

شكوى ويطيب لي أن أقدّم هذه الشكوى للمفكر الإِسلامي المرحوم محمَّد إقبال (¬1) ... نراه في مطلع هذه الشكوى يصوّر أشجانه وآلامه، ثم يوجّه العتب المرير إلى النفس واستسلامها للمحن، ويقول: لماذا أبقى بقاء الزهرة الخرساء، ولا أحلّق كالطير المغرّد .. ثم يستأذن .. وفي فمه التراب، ليعلن صرخة المسلمين، ويجأر بدعواتهم، ولم لا؟! وقيثارته مملوءة بالأنين والأشجان، تريد أن تنطلق على شفتيه بأنفاسه المتصاعدة! ربّاه! إليك شكوى عبيدك الأوفياء الذين لم يتعوّدوا إلا إزجاء الحمد وترتيل الثناء! لقد كانت الدنيا قبل هذا الدين الإِسلاميّ عالمًا من الظلام، تسوده الوثنيّة، وتحكمه الأصنام .. وفي بقاع هذا المعمور كانت سجدات الإنسان لا تعرف غير الأوثان .. ولم يكن الإنسان يعبد غير هذه التماثيل المنحوتة من الأحجار، والصور المصنوعة من الأشجار، وحارت فلسفة اليونان وتشريع الرومان، وضلّت حكمة الصّين في الفلوات، ولكنَّ ساعد المسلم القويّ اقتلع من الأرض شجرة الاتحاد، وأطلع على الإنسانيّة نورًا من التوحيد وظلًّا من الاتحاد! ربّاه! لقد كانت بساتن هذا الكون بغير أنغام، وأزهارها خالية من العطر، وكان هواؤها دوي العاصفة، ونسيمها دمدمة الرعود، حتى إذا جاء ¬

_ (¬1) فلسفة إقبال والثقافة الإِسلاميّة في الهند وباكستان: 77 وما بعدها بتصرف.

رسول مكّة الأمّيّ علّم أهل الأرض حياة أهل السماء، ودلّ سكّان عالم الفناء على طريق عالم البقاء! نحن الذين نشرنا في الأرض العبير، ومحونا آية الليل بآية الصبح المنير، أصبح إيماننا جنون عشق، فوجهنا الإنسانية بنورك في مثل كرة الطرف إلى معرفة الحق والنور والجمال! لقد كانت الدنيا عامرة بشعوب وممالك، وكان بها السلجوقي والتوراني والصيني، وكان بها ملك ساسان وبقايا الرومان واليونان، فرفعنا علم التوحيد، وجمعنا أبناء البشر وأجياله أسرة مؤمنة بك موحّدة لك، أصلحنا الفاسد، وقوّمنا المعوجّ، وناضلنا في البر والبحر، وارتفع صوتنا بالأذان فوق معابد أوروبا، وارتسمت سجداتنا على رمال الصحراء في إفريقيا، لم نخش عسف الأكاسرة، ولا طغيان الجبابرة، ولا سلطان الأباطرة، وأسمعنا العالم كله كلمة التوحيد، وصليل السيوف المشرعات كان يدوّي مع الهاتفين "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدّوس العزيز الحكيم"، لم نكن نحرص على الحياة، ولكن كنا نجاهد من أجل دينك ليحيا إلى الأبد في تفانينا، وما بعنا الأرواح لدنيا نشتريها، بل كنا نطوف حول الكرة، ورؤوسنا على أكفنا، لنجعل اسمك الأعلى مناراً، ونحن نحطم في تطوافنا الهياكل والأصنام، جاعلين فضتها ونضارها تراباً تحت الأقدام، ولو أن أقدام الأسود تزلزلت من هول الميادين، فلقد كانت أقدامنا على الشوك والنار لا تأذن لشمس النهار أن تغرب حتى يضيء لنا هلال الانتصار، لقد نقشنا توحيدك على كل قلب، والإيمان بك في كل ضمير، نرحّب بالحتوف، ونرى الجنّة تحت ظلال السيوف!

من الذي جعل درعه يوم الجهاد باب خيبر؟ ومن الذي حمل مصباح الحق إلى مدينة قيصر؟ من قبلنا هدم التماثيل وقوض صرح الأباطيل؟ من الذي رد الكفَّار وأبطل عبادة النار؟ أما أيقظنا الكون الهاجع بصوت الأذان؟ ألم نقم الصلاة تحت الأسنّة في الميدان؟ حتى سجدت لك على الأرض الأوثان وسمع تكبيرنا في الجنة رضوان؟ لقد كانت وجوهنا إلى الكعبة، وعزائمنا إلى الميدان، وقلوبنا إليك، وصلّى بين يديك السوقة والأمير، والغني والفقير، ووقف محمود الغزوني الملك وخادمه إياز وجسماهما في الهند وقلباهما إلى الحجاز، كنا ندور بكأس الإيمان في محفل الكون والمكان، لم نقف عند الصحارى والقفار، بل امتطينا النجائب من أمول البحار، حتى استضاءت النيّرات بوجوه مجاهدينا في بحر الظلمات، ومحونا الباطل من كتاب الدهر، وحررنا المستعبدين، وملأنا بجباهنا بيتك المعمور، وجعلنا لآياتك مصحفاً في الصدور! إنّي لأرى في شعوب المدنيّة الزائفة من يجترئون على الخطايا، ويقتحمون حرم الفضائل والآداب، وفيهم سكارى الخمر، وسكارى الإلحاد، ولكن الدّنيا ترسل عليهم السحب أمطاراً، وتمطر أرضنا صواعق وناراً!

نظرت إلى الأوثان والطواغيت، فإذا هي راقصة في ملاعب الأهواء، إنها ساخرة منا، وما أمرَ سخرية الأعداء! أقول أَن المؤمنين قد انتثروا، وكاد المخلصون أن يندثروا, ولم تعد الصحراء ترى حدة القوافل ولا المتعبدين في المنازل! ونحن لا نشكو أن فاضت خزائن الكفار بالنضار، ولكن الشكوى أن يصيبنا الفقر والقصور، حتى لا نجد للجنة صداق الحور، ولا ثمن القصور! يا ربّ رحماك! هب لنا ما عودنا فضلك من نصر وتأييد، فقد دارت بنا الكواكب في أفلاكها دورة العكس .. إن قدرتك هي قدرتك، وما لفضلك حدّ، ولا لنعماك عد .. لو شئت أجريت النهر في الصحراء، أو رفعت الجبال من الماء! لم يبق لنا يا ربِّ من ثروة سوى الفقر، ولا من قوّة سوى العجز .. إن ذهاب المسلمين من الدنيا هو ذهاب الدنيا بأسرها، وما نطلب البقاء فيها لحظة إلا للفناء في حبّك يا أرحم الراحمين! لقد ذهب الأغيار بما كان في أيدينا، وبقيت قلوبنا عامرة بك، وما بقاء الدين إلا ببقاء أهله، والجام بما فيه لا يبقى بغير ساقيه! ربّاه! .. أين محافل العشّاق؟ أين الذين توضؤوا للصباح بمدامع الأشواق؟ أين الذين اقتبست الشمس من وجوههم الإشراق؟ لقد مضى زجل المسبّحين، وخف أنين المستغفرين، وخلا ضمير الليل

من دعوات المتبتّلين، وبكاء المصلّين، وهبوك قلوبهم يا ربّ!، وفازوا بأجر العاملين، وأصبحت الأرض بعدهم خالية، والديار خاوية، فكأنهم ما سلموا حين قدموا، أو كأنهم ما أقاموا بعد أن سلموا! مَن لي بنور محمَّد ليكون مصباحي، حين أنقّب عن حفلهم المذاهب، ونورهم الغارب .. لا لا .. إنّي لن أصغي إلى أنّات قلبي المحزون، فما زال من الدنيا سحر ليلى ولا غرام قيس، وما برحت صحراء نجد مرتعاً للمها والغزال، ومبعثاً للهوى والدّلال، ولن يزول جمالها حتى تزول الجبال! إن جمال أمة محمَّد لا يزال يجتذب قلوب الكون بإشراقه الساطع فأنقذنا من ظلمة هذا اليأس الميت! ما زال في قلوبنا وفاء الصّدّيق، وعدل الفاروق، وفي كل قلب للقرآن مصحف عثمان، ولا زالت قلوبنا عامرة بتقوى عليّ، وسلمان، وصوت بلال في الأذان، لم نفقد الإيمان القويم، ولا قياس طرق التسليم! أيقظنا يا رب! بصلصلة الجرس الأوّل، وأحينا بقانون الوفاء! لقد أكملت الدين على قمّة فاران، وأنرت قلوب العاشقين بجذوة الإيمان, فأحرق متاع حب دنيانا بذلك الشرر من وميض محبتك! لقد طرب أعداؤنا بين الجداول، وسكروا بالأنغام في ظل الخمائل، وهم في الأوطان، ونحن خارج البستان، فأرسل فراشك مرة أخرى يطف حول نار حبّك، ومر البرق القديم بإحراق القلوب الجامدة! ربّ! اهد القلوب إلى قبلة الحجاز، وأعطها جناحاً من الإيمان لتعرف قوة الطيران!

إن العبير حائر بين البراعم والأزهار، والألغام محتبسة في الأوتار، والطير في شوق إلى تجلّي أنوارك، وإقبال أسرارك! ربّنا وأنت الحكيم القادر! احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، ألهم النملة الضعيفة حكمة الإيمان, حتى تضع يدها على ملك سليمان، وافتح العيون على ضياء الحق للعالمين، حتى نرى براهمة الهند مسلمين! إن عطر الأزهار قد فاح بسر البستان، ونمت الصرخات عمّا في الوجدان! أعد الطيور المغرّدة إلى أغصان الصنوبر، فقد فرّت من روضها إلا بلبلاً يحمل في قلبه ضجّة القيامة، وهول المحشر! أعد الأوراق الذابلة إلى روضها الأخضر، وجدّد في المسلمين ظمأهم إلى حياض الكوثر! يا ربِّ! إني بلبل تحررت من موسم نيسان لأرسل أنغامي طليقة بالشكوى، في مسمع الزمان، فاجعل ندائي قبساً من وحي الإيمان, إن خمري حجازيّة، وإن كنت أعجميّ الدّنان، ونغمي من الهند، ولكن صوتي من عدنان! * * * وإليك القصيدة: شكواي أم نجواي في هذا الدّجى ... ونجوم ليلي حُسَّدي أم عُوَّدي

أمسيت في الماضي أعيشُ كأنما ... قطعَ الزمانُ طريق أمسي عن غدي والطير صادحةّ على أفنانها ... تُبكي الربى بأنينها المتجدّد قد طال تسهيدي وطال نشيدها ... ومدامعي كالطلِّ في الغصن الندي فإِلى متى صمتي كأني زهرة ... خرساء لم ترزق براعة منشدِ * * * قيثارتي مُلئت بأنات الجوى ... لابد للمكبوت من فيضانِ صعدتْ إِلى شفتي بلابل مهجتي ... ليبين عنها منطقي ولساني أنا ما تعديت القناعة والرضا ... لكنما هي قصة الأشجانِ أشكو وفي فمي التراب وإِنما ... أشكو مصاب الدين للدَّيَّانِ

يشكو لك اللهم قلب لم يعش ... إِلا لحمدِ علاك في الأكوان * * * قد كان هذا الكون قبل وجودنا ... روضًا وأزهاراً بغير شميمِ والورد في الأكمام مجهول الشذى ... لا يُرتجي وردٌ بغير نسيمِ بل كانت الأيام قبل وجودنا ... ليلاً لظالها وللمظلومِ لما أطل (محمدٌ) زكت الربى ... واخضر في البستان كل هشيمِ وأذاعت الفردوس مكنون الشذى ... فإِذا الورى في نضرةٍ ونعيمِ * * * من قام يهتف باسم ذاتك قبلنا ... من كان يدعو الواحد القهارا عبدوا تماثيل الصخور وقدسوا ... من دونك الأحجار والأشجارا

عبدوا الكواكب والنجوم جهالةً ... لم يبلغوا من هديها أنوارا هل أَعلن التوحيد داعٍ قبلنا ... وهدى الشعوب إِليك والأنظارا؟ كنا نقَدِّم للسيوف صدورنا ... لم نخش يوماً غاشماً جبارا * * * قد كان في اليونان فلسفةٌ وفي الـ ... رومان مدرسةٌ وكان المُلكُ في ساسان لم تغن عنهم قوةٌ أو ثروةٌ ... في المالِ أو في العلمِ والعِرفانِ وبكل أرض (سامريٌ) ماكرٌ ... يكفي اليهود مؤونةَ الشيطانِ والحكمة الأولى جرت وثنية ... في الصين أو في الهند أو تورانِ نحن الذين بنور وحيك أوضحوا ... نهج الهدى ومعالم الإِيمانِ * * *

من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ... مك فوق هامات النجوم منارا كنا جبالا في الجبال، وربما ... سرنا على موج البحار بحارا بمعابد الإِفربخ كان أذاننا ... قبل الكتائب يفتح الأمصارا لم تنس إِفريقيا ولا صحراؤها ... سجداتنا والأرض تقذف نارا وكأن ظِل السيف ظِل حديقةٍ ... خضراء تُنبت حولنا الأزهارا * * * لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو ... نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إِله سوى الذي ... صنع الوجود وقدّر الأقدارا ورؤوسنا يا رب فوق أكُفِّنا ... نرجو ثوابك مغنمًا وجوارا

كنا نرى الأصنام من ذهب ... فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لحازها ... كنزاً، وصاغ العلي والدينارا * * * كم زلزل الصخر الأشم فما وهي ... من بأسنا عزم ولا إِيمانُ لو أن آساد العرين تفزَّعت ... لم يلق غير ثباتنا الميدان وكأن نيران المدافع في صدو ... ر المؤمنين الروح والريحانُ توحيدك الأعلى جعلنا نقشه ... نوراً تضيء بصُبحه الأزمانُ فغدت صدور المؤمنين مصاحفاً ... في الكون مسطوراً بها القرآنُ * * *

من غيرنا هدم التماثيل التي ... كانت تقدسها جهالات الورى؟ حتى هوت صور المعابد سُجّداً ... لجلال من خلق الوجودَ وعموّرا ومن الأُلى حملوا بعزم أكُفهم ... باب المدينة يوم غزوة خيبرا؟ أمّن رمى نار المجوس فأطفئت ... وأبان وجه الحق أبلج نيِّرا؟ ومن الذي بذل الحياة رخيصة ... ورأى رضاك أعز شيْءٍ فاشترى؟ * * * نحن الذين استيقظت بأذانهم ... دنيا الخليقة من تهاويل الكرى نحن الذين إِذا دُعُوا لصلاتهم ... والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا جعلوا الوجوه إِلى الحجاز وكبّروا ... في مسمع الروح الأمين فكبرا

محمود مثل إِياز (¬1) قام كلاهما ... لك بالخشوع مصلياً مستغفراً العبد والمولى على قدم التُّقى ... سجدا لوجهك خاشعين على الثرى * * * بلغت نهاية كل أرض خيلنا ... وكأن أبحرها رمال البيد في محفل الأكوان كان هلالنا ... بالنصر أوضح من هلال العيد في كل موقعة رفعنا راية ... للمجد تعلن آية التوحيد أُمم البرايا لم تكن من قبلنا ... إِلا عبيداً في إِسار عبيدِ بلغت بنا الأجيال حُرياتها ... من بعد أصفادٍ وظلِ قُيودِ * * * ¬

_ (¬1) السلطان محمود الغزنوي وإياز خادمه.

رحماك ربّ! هل بغير جباهنا ... عرف السجودُ ببيتك المعمورِ؟ كانت شغاف قلوبنا لك مصحفاً ... يحوي جلال كتابك المسطورِ إِن لم يكن هذا وفاءً صادقاً ... فالخلق في الدنيا بغيرِ شعورِ ملأ الشعوبَ جُناتُها وعُصاتُها ... من ملحدٍ عاتٍ ومن مغرورِ فإِذا السحاب جرى سَقاهم غيثه ... واختصنا بصواعق التدمير * * * قد هبت الأصنام من بعد البلى ... واستيقظت من قبل نفخ الصورِ والكعبة العليا توارى أهلها ... فكأنهم موتى لغير نشورِ وقوافل الصحراء ضل حُداتها ... وغدت منازلها ظلال قبورِ أنا ما حسدت الكافرين وقد غدوا ... في أنعُمٍ ومواكب وقصورِ

بل محنتي ألاّ أرى في أمتي ... عملاً تقدمه صَداق الحورِ * * * لك في البرية حكمةٌ ومشيئةٌ ... أعيت مذاهبها أولي الألبابِ إِن شئت أجريت الصحاري أنهراً ... أو شئت فالأنهارُ موجُ سرابِ ماذا دهى الإِسلامَ في أبنائه ... حتى انطووا في محنةٍ وعذابِ؟ فثراؤهم فقرٌ ودولة مجدهم ... في الأرض نهب ثعالبٍ وذئابِ عاقَبتنا عدلاً فهب لعدونا ... عن ذنبه في الدهر يوم عقابِ * * * عاشوا بثروتنا وعشنا دونهم ... للموت بين الذل والإِملاقِ الدين يحيى في سعادة أهله ... والكأس لا تَبقى بغير الساقي

أين الذين بنار حبك أرسلوا ... الأنوار بين محافل العشاقِ سكبوا الليالي في أنين دموعهم ... وتوضؤوا بمدامع الأشواقِ والشمس كانت من ضياء وجوههم ... تهدي الصباح طلائع الإِشراقِ * * * كيف انطوت أيامهم وهم الأُلى ... نشروا الهدى وعلوا مكان الفرقدِ؟ هجروا الديار فأين أزمع ركبهم ... من يهتدي للقوم أو من يقتدي؟ يا قلبُ حسبك لن تُلِمَّ بطيفهم ... إِلا على مصباح وجه محمدِ فازوا من الدنيا بمجدٍ خالدٍ ... ولهم خلودُ الفوز يوم الموعد يا ربِّ! ألهمنا الرشاد فما لنا ... في الكون غيرك من وليٍّ مرشد * * *

ما زال قيسٌ والغرام كعهده ... وربوع ليلى في ربيع جمالها وهضاب نجد في مراعيها المها ... وظباؤها الخفراتُ ملء جبالها والعشق فياضٌ وأمة أحمد ... يتحفز التاريخ لاستقبالها لو حاولت فوق السماء مكانةً ... رفّت على شمس الضحى بهلالها ما بالها تلقى الجدود عواثراً ... وتصدها الأيام عن آمالها * * * هجْر الحبيب رمى الأحبة بالنوى ... وأصابهم بتصرّم الآمالِ لم يبق في الأرواح غير بقية ... رحماك يا مرآة كل جمالِ لو قد مللنا العشق كان سبيلُنا ... أن نستكين إِلى هوى وضلالِ

أو نصنع الأصنام ثم نبيعها ... حاشا الموحد أن يَذِلَّ لمالِ أيام سلمان بنا موصولة ... وتُقى أويس في أذان بلالِ * * * يا طيب عهد كنت فيه منارنا ... فبعثت نور الحق من فاران وأسرت فيه العاشقين بلمحة ... وسقيتهم راحاً بغير دنانِ أحرقت فيه قلوبهم بتوقد الـ ... إِيمان لا بتلهُّب النيرانِ لم نبق نحن ولا القلوب، كأنها ... لم تحظ من نار الهوى بدخانِ إِن لم يُنر وجه الحبيب بوصله ... فمكان حُزن القلب كل مكانِ * * * يا فرحة الأيام حين نرى بها ... روض التجلي وارف الأغصانِ

ويعود محفلنا بحسنك مسفراً ... كالصبح في إِشراقه الفينانِ قد هاج حزني أن أرى أعداءنا ... بين الطلا والظل والألحانِ ونعالج الأنفاس نحن ونصطلي ... في الفقر حين القوم في بستانِ أشرِقْ بنورك وابعت البرق القديـ ... م بومضةٍ لفراشك الظمآنِ * * * أشواقنا نحو الحجاز تطلعت ... كحنين مغترب إِلى الأوطانِ إِن الطيور وإِن قصصت جناحها ... تسمو بفطرتها إِلى الطيرانِ قيثارتي مكبوتةّ ونشيدها ... قد مل من صمتٍ ومن كتمانِ واللحن في الأوتار يرجو عازفا ... ليبوح من أسراره بمعانِ

والطّورُ يرتقب التجلي صارخاً ... بهوى المشُوق ولهفة الحيرانِ * * * أكبادنا احترقت بأنَّات الجوى ... ودماؤنا نهر الدموع القاني والعطر فاض من الخمائل والربى ... وكأنه شكوى بغير لسانِ أوليس من هول القيامة أن يكو ... ن الزهر نَمَّاماً على البستانِ؟ النمل لا يخشى سليماناً إِذا ... حرست قراه عناية الرحمنِ أرشد براهمة الهنود ليرفعوا ... الإِسلام فوق هياكل الأوثانِ * * * ما بال أغصان الصنوبر قد نأت ... عنها قماريها بكل مكانِ وتعرت الأشجار من حلل الربى ... وطيورها فرَّت إِلى الوديانِ

يا ربِّ! إِلا بلبلاً لم ينتظر ... وحي الربيع ولا صَبا نيسانِ ألحانه بحرٌ جرى متلاطماً ... فكأنه الحاكي عن الطوفانِ يا ليت قومي يسمعون شِكايةً ... هي في ضميري صرخة الوجدانِ * * * أن الجواهر حيَّرت مرآة هـ ... ذا القلب فهو على شفا البركانِ أسمِعهمو يا ربِّ! ما ألهمتني ... وأعدْ إِليهم يقظة الإِيمانِ وأذقهم الخمر القديمة إِنها ... عين اليقين وكوثر الرضوانِ أنا أعجمي الدَّنّ لكن خمرتي ... صُنع الحجاز وكرمها الفينانِ إِن كان لي نغمُ الهنود ولحنهم ... لكن هذا الصوت من عدنانِ * * *

جواب الشكوى

جواب الشكوى أمّا القصيدة الثانية للمفكر الإِسلامي المرحوم محمَّد إقبال (¬1) فهي جواب الشكوى، تخيّلها إقبال صوتاً سماويًّا يدوي بصيحة الحق، جواباً لهذه الشكوى التي تبدو في صرختها المتململة المضطربة كأنها خيال جائر لا يقوم على الحجّة والبرهان، ولا يستقرّ على دليل من الواقع! قال إقبال: كل كلام يصدر عن القلب يترك أثره في القلوب، والأفكار الصادقة لا أجنحة لها, ولكنها تسبق الطيور، وكل كلام قدسي المنبع فهو أبداً يتجه إلى العلا، ومن عجيب أنه نجم من التراب، ومتى صعد كان أول منازله السحاب! كان عشقي فاتناً ساحراً جموحاً، فشق ستار السماء بأنين لا يتهيّب، ولا يرتعد، ولمّا سمع شيخ السماء زفرات الشكوى والبكاء قال: (إنه في مكان ما كائن يتكلّم)، فتساءلت النجوم والسيارات في عجيب وإنكار وكيف اقترب هذا الكائن من بساط العرش الرفيع)، فقال القمر: (إنه إنس من أهل الأرض)، وقالت المجرّة: (عجبت لهذا الإنسان، كيف يستتر عن العيون، ويختفي عن المادة، خلف الظنون)! هكذا كان الجميع يشتجرون في أمري، فلا يهتدون، ولئن كان من بينهم من فهم الشكوى، وعرف النجوى، فهو رضوان .. إذ قال: (إنه قوي العنصر، رفع الله مكانته، وأسجد له ملائكته)! وسأل سائل: كيف تعلمتْ هذه القبضة من التراب أن تخترق من ¬

_ (¬1) السابق: 89 وما بعدها تصرف.

العناصر كل حجاب .. حقاً إن سكان الأرض المستخلصين فيها لمخلوقات جامعة .. ! هذا هو نفس آدم ما أقدره في علم الكيف والكم! ولكن ما أجهله بأسرار العجز والفناء! وأخيراً دوى صوت تفزّعت له الجنبات، واخترق بجلجلته ذرات النيرات: (يا هذا! إن قصتك محزنة شائكة، وقدحك مليء بدموع مضطربة حيرى، ولقد أطافت صيحتك بالسماوات، فما أبعد قلبك المجنون عن قرار السكون، ولكنك على كل حال أعلنت شكواك، فأثبت قدرة الخالق فيك)! لقد مددنا بساط الكرم، فأين السائلون، ومهدنا الطريق إلى المجد، فأين السالكون! لقد أنزلنا الأنوار على الفطر، ولكن الجواهر ظلت غير قابلة، وكأن هذا التراب ليس الذي جبلت منه البداية الأولى للإنسانية العالية! إن الإنس كما ترى قد نسوا ناموس فطرتهم، وتغيّر ترابهم، ولو أنهم أدركوا سرّ خلْقهم، وحكمة وجودهم، لأعطوا فوق ما يطلبون، ونالوا من العظمة فوق ما ينشدون، ولكن الأداة أدركها الفساد، ومالت القلوب إلى الإلحاد .. ! وهؤلاء المتأخرون في هذه الأمّة قد أصبحوا خجلاً لماضيها، وتوهيناً لعظمتها!

لقد انقرض الذين هدموا الأصنام وجعلوها جذاذاً تحت الرغام .. أما هؤلاء فقد جدّدوا لها البنيان، وأصبحوا صنّاعها في هذا الزمان، كانوا هم أبناء إبراهيم، غير أنهم أقرب إلى آزر القديم! الشارب والخمر جديدان، والدنّ أيضاً جديد، وها هي أصنام جديدة، تطبع الأجيال الحديثة على غرارها! لقد انطوى عهد أولئك الذين لهم من سمات الجلال ما هو خليق بالدّلال .. إنهم كانوا مرآة متاع العظمة، وصفاء موسم الورود، وشقائق نعمان الصحراء، وأغنية أحلام البيداء! ويومئذ تفانى كل مسلم في الله .. وكان يوم محمَّد المحبوب مهرجاناً للشعوب! هل لكم في عهد جديد تكونون فيه عبيداً لله، وجنوداً لمحمد، وجواهر في عقد الملّة .. !. أَنَّى وقد أصبح عسيراً عليكم، وثقيلاً على أجفانكم، أن تستقبلوا نور الصباح بتكبيرة صلاتكم، وصحو حياتكم، لكأن الطبائع قد نامت منع الأجفان، وما أشبه نهار المنام بليل الظلام! أليس رمضان يقيّد حرّيتكم، ويخالف مدنيّتكم .. فاشهدوا على أنفسكم، أهذا هو الوفاء لماضيكم وملتكم؟! إن وجود الشعب من وجود الملّة، والدّين في الأمّة هو قوام الدّولة، فإذا ذهب الدّين فما أنتم بباقين!

الدّين هو الذي يجمعكم صفًا واحداً، ولولا التساند بين الكواكب لم ينعقد حفل النجوم، ولم يسطع جمال القمر الساحر! من هؤلاء الذين ضاعت علومهم وفنونهم من الدّنيا؟! ومن أولئك الذين لا يبالون أن يعيشوا بلا مأوى؟ بل ما هذا البيدر الذي لم تجد الصواعق مكاناً تستقرّ فيه نيرانها سواء؟! تم مَن هؤلاء الذين يبيعون تركة الآباء، ويحاولون الشهرة بتجارة القبور؟! لعلكم تستطيعون بأنفسكم أن تدركوا الجواب عما تسألون، فأيّ هذه الحقائق تنكرون؟ ومن أولئكم الأبرار الأخيار الذين محوا الأباطيل من صحائف الأجيال والأمصار؟! مَن الذين حرّروا شعوب الإنسانيّة من الذل؟! من الذين عمروا الكعبة بجباههم؟ ومن الذين ضَمُّوا القرآن إلى صدورهم؟! أليسوا آباءكم وأجدادكم، وقد بقيتم بعدهم تضعون يداً على يد، وترتقبون ما يأتيكم به الغد؟! لقد وُعد المسلمون جمال الحور، ونعيم القصور، ووعدوا خلافة الأرض، وأن تدين لهم الدنيا بكنوزها، والأرض بخيراتها، والسماء بنجومها، وملائكتها، والآخرة بجنّاتها ونعيمها!

ها هي الدنيا قد أفلتت من أيديكم؛ لأن أيديكم قد أصبحت طليقة من سنن الفطرة، ومن عروة الدّين، أليس ربكم هو الذي يقيم العدل والحق، وهو أحكم الحاكمين؟ أكنتم تنتظرون أن يعمل أعداؤكم في الأرض، وأن يتخلقوا بأخلاق أسلافكم في الجهاد، وينفقوا أوقاتهم في الزراعة، ثم يحرموا الحصاد؟! ولقد سار الكافر في طريق المسلم الأوّل فأعطي حظاً من الدنيا، ولكنكم لا تنشدون اليوم محاسن الحور ولا كنوز القصور! ألا لقد بقي تجلّي النور، ولكن ذهب الكليم من الطور! إن أمر المسلمين في الخسارة والربح واحد، والذي يقع لأقصاهم ينال أدناهم .. أليس نبي الجميع واحداً. وكذا الدّين والإيمان والحرم والقرآن؟! وإلهكم إله واحد، فهل كان من الصعب أن تحيوا متّحدين؟ نار العصبية هنا، وجذوة الجنسيّة هنالك .. فحدّثوني عن قوم أدركوا نجاحهم بالفراق، ونالوا سعادتهم بالشقاق! لقد تركتم القرآن، وجعلتم مقياس رقيّكم صلاحية الزمان، واتخذتم من المدنيّة كل شعار، واتبعتم سبيل الأغيار، فلم يبق في القلوب مذاق، ولا للوعة احتراق! ها هي مساجد الله لا يعمرها غير فقرائكم، فهم الصائمون والمصلّون، وهم العابدون الذاكرون، وهم الساترون لعيوبكم، وأنتم ترحمون! أمّا الأغنياء فهم في سكر غفلتهم معرضون!

ومن عجيب أن الملّة البيضاء ما تزال قويمة البناء، ممتدّة النماء بحرارة أنفاس الفقراء! ولقد فقدتم القوّة في سحر الكلام، ومررتم بالمواعظ مرّ الكرام، ولولا روح من بلال ما بقي للأذان جمال! مساجدكم تبكي قلّة صفوفها، والمحراب موحش من المصلّين، والمنابر ساخرة من سيوف تحوّل حديدها إلى خشب لا يقاوم النار! أما دياركم فقد امتلأت بالمفاخر والرتب والألقاب، الميرزا في إيران وفي غيرها الصاحب والخان، ولكننا ننشد رتبة المسلم في هذه الأوطان! عندما كان المسلم ينهض إلى طلب المجد فكم اقتحم الصعاب، وعزمه غير هيّاب!! وكم كان عدله ميزاناً للصواب لم يلوّثه رياء، ولم يفسده دهاء، تخطى بشجاعته الأوهام، وفاق الأحلام!! .. كان خالياً من المقاصد الشخصيّة، والمتع النفسيّة، مثل الكأس المليئة بالشراب وشرابها لغيرها! وكان المسلم مشرطاً لعروق الباطل، وكان العمل في قانون حياته هو الجوهر لا العرض، معتمداً على قوّة ساعده بعد ربّه .. وإذا كنتم تخافون الموت، فقد كان خوفه من الله الذي خلق الموت والحياة! أين فيكم دولة عثمان ورفده؟! وفقر عليّ وزهده؟! وما الذي بقي لديكم من فضائل المسلمين الأوّلين، وتراث المؤمنين السابقين؟! لقد أصبح بعضكم يبغي على بعض، بينما هم كانوا متراحمين! كم تخطئون وتغتابون الصالحين؟! وكم ستروا عيوب الخلق وهم أئمة المتقين؟!

أيطمع كل امرئ منكم أن يبلغ أوج الثّريّا بلا عزم قويم، ولا قلب سليم؟! لقد ملكوا عرش (كسرى) وسرير (كيقباد) وتاج (فخفور) وعظمة القياصر؟! أما أنتم فقد اقتنيتم الكلام وأكثرتم الأوهام! لقد كانوا حكّام أنفسهم قبل أن يكونوا حكّام الخلق! وكانوا بناة الأخوّة والاتحاد في الأمّة، وأنتم تفقدون المودّة حتى في الأسرة! كانت حياتهم عملاً، وأصبحت حياتكم أملاً، تبحثون عن الزهرة فلا تجدونها، أما هم فقد كان لهم من الدنيا بستانها، وصار لهم من الآخرة رضوانها, لا تزال الشعوب تؤلف من مجدهم الأنغام، ولا تزال عاطرة بذكرهم الأيام، فهم نجوم الآفاق ونور الأخلاق! عاشوا أصواتهم أحرار القلوب، وبراهمة بيت المحبوب .. ! ابتعدوا عن الأوكار، وهجروا الدّيار، وأقاموا على النجوم المطار! أمّا شباب اليوم فالعطلة والفقر والشقاء، وينسبون إلى الدّين ما لحقهم من بلاء .. ومنهم بليّتهم، ولكن لا يشعرون .. !! لقد أطلقتهم المدنيّة من القوانين، فعاشوا مستهترين، صنعت لهم هيكل الصنم فألهتهم عن جلال الحرم .. فلم يبق قيس يحن إلى ليلى بين الشعاب .. بل يتمنّى في حرّية العشق أن يرى ليلى بغير حجاب، وأن يشهد جمالها بغير نقاب!

هذا الشباب يستطيع لو شاء في عهد جديد أن يجدِّد قوّة الإيمان, وأن يحمل شعلة الهداية يوقدها من تعاليم خاتم الأنبياء والرسل، فتنشر في الربوع إيمان إبراهيم .. فالنار قد تحرق، وقد تنضج أيها الشاكي الولهان .. لا تحزن من رؤيةَ البستان، وقد فقد زاهي الألوان، فسرعان ما تلمع الأزهار من كواكب البراعم، ويتلألأ دم الشهداء على شفاه الورود .. ألا ترى السماء بلونها العنابي، أليس هذا لمعان الأفق يستقبل اليوم الجديد، ويستبشر بالشمس الطالعة! انظر إلى الأرض .. هلا ترى قوماً يلتقطون الثمار، وآخرين في البوار! ألا ترى مئات النخيل خاوية الأشجار، بينما مئات أخرى في باطن الأرض، في طريقها إلى ربيع الحياة، فلو سقيناها من تعاليم الملة السمحة لأينعت ونمت، فنخيل الإِسلام أنموذج للإثمار والنماء! واستطرد إقبال يبيّن أن المسلم لا وطن له ولا مكان، ولن يفنى مسلم بفناء الأزمنة والأوطان، إذ لا علاقة بين الكأس وسكر الشراب، ولقد تعرّضت الأوطان الإِسلاميَّة لهجمات التتار، وما حدث من غوغاء إثر حملات البلقان، وكان كل ذلك امتحاناً لذاتية المسلم، فما ارتاع، ولكن بقي الإِسلام والمسلم في كل البقاع! فلماذا إذن يرتاع مسلم اليوم من صهيل خيل الأعداء، ولن يطفئ ذلك نور الحق الوضاء! فهيّا أظهر حقيقتك للأقوام والشعوب، فمحافل الأكوان في حاجة إليك ترنو إلى حرارة أنفاسك، ومضاء عزمك .. فلتتدفق دماؤك بالحرارة ليحيا الدهر في حماية دينك!

إن خلافة الأرض لك فكن بها خليقاً .. وقم لتثبت وجودك فيتمّ بك نور التوحيد .. فإنك عطر، ولكن حبستك عن العالم براعم وزهرات .. فقم واحمل الأمانة في عنقك، وانشر أنفاسك، حتى تعطر نسيم البستان! لا تكن كنغمة الأمول حبيسة الشواطئ، ولكن كن فيّاضاً بالعمل، وانشر جناحك حول الآفاق، وأنر الدهر بنور إيمانك، وأرسل الضياء بقوّة يقينك، وباسم نبيّك! فلو لم يكن الزهر في البستان ما تغني قمري على الأغصان، وما صدحت العنادل بأعذب الألحان، ولو لم تبتسم البراعم بين الأوراق ما رأيت ابتسام الزهر في حديقة الدهر، ولو لم يكن اسم محمَّد لما نبض الوجود بالحرارة! وإليك القصيدة: * * * كلام الروح للأرواح يسري ... وتدركه القلوب بلا عناء هتفت به فطار بلا جناح ... وشق أنينه صدر الفضاء ومعدنه ترابي ولكن ... جرت في لفظه لغة السماء

لقد فاضت دموع العشق مني ... حديثاً كان علوي النداء فحلق في ربا الأفلاك حتى ... أهاج العالم الأعلى بكائي * * * تحاورت النجوم وقلن صوت ... بقرب العرش موصول الدعاء وجاوبت المجرة علّ طيفًا ... سرى بين الكواكب في خفاء وتمال البدر هذا قلب شاك ... يواصل شدوه عند المساء ولم يعرف سوى رضوان صوتي ... وما أحراه عندي بالوفاء ألم أك قبلُ في جنات عدن ... فأخرجني إِلى حين قضائي * * * وقيل هو ابن آدم في غرور ... تجاوز قدره دون ارعواء

لقد سجدت ملائكة كرام ... لهذا الخلق من طين وماء يظن العلم في كيف وكم ... وسرّ العجز عنه في انطواء وملء كؤوسه دمع وشكوى ... وفي أنغامه صوت الرَّجاء فيا هذا لقد أبلغت شيئاً ... وإِن أكثرت فيه من المراء * * * عطايانا سحائب مرسلات ... ولكن ما وجدنا السائلينا وكل طريقنا نور ونورٌ ... ولكن ما رأينا السالكينا ولم نجد الجواهر قابلات ... ضياء الوحي والنور المبينا وكان تراب آدم غير هذا ... وإِن يك أصله ماء وطينا

ولو صدقوا وما في الأرض نهر ... لأجرينا السماء لهم عيونا وأخضعنا لملكهم الثّريّا ... وشيّدنا النجوم لهم حصونا ولكن ألحدوا في غير دين ... بني في الشمس ملك الأوّلينا تراث محمَّد قد أهملوه ... فعاشوا في الخلائق مهمَلينا تولّى هادم الأصنام قدما ... فعاد لها أولئك يصنعونا أباهم كان إِبراهيم ولكن ... أرى أمثال آزر في البنينا وفي أسلافكم كانت مزايا ... بكل فم لذكراها نشيد تضوع شقائق الصحراء عطراً ... بريّاها وتبسم الورود

فهل بقيت محاسنهم لديكم ... فيجعل في دلالكم الصدود لقد هاموا بخالقهم فناء ... فلم يكتب لغيرهم الخلود وكوثر أحمدٍ منكم قريب ... ولكن شوقكم عنه بعيد وكم لاح الصباح سناً وبشرى ... وأذَّنت القماري والطيور وكبَّرت الخمائل في رباها ... مصلِّيةً فجاوبها الغدير ونوم صباحكم أبداً ثقيلٌ ... كأن الصبح لم يدركه نور وأضحى الصوم في رمضان قيداً ... فليس لكم به عزمٌ صبور تمدّن عصركم جمع المزايا ... وليس بغائبٍ إِلا الضمير

لقد ذهب الوفاء فلا وفاء ... وكيف ينال عهدي الظالمينا إِذا الإِيمان ضاع فلا أمان ... ولا دنيا لمن لم يُحي دينا ومن رضي الحياة بغير دينٍ ... فقد جعل الفناء لها قرينا وفي التوحيد للهمم اتحاد ... ولن تبنوا العلا متفرقينا تساندت الكواكب فاستقرت ... ولولا الجاذبية ما بقينا غدوتم في الديار بلا ديار ... وأنتم كالطيور بلا وكور وكل صواعق الدنيا سهام ... لبيدركم وأنتم في غرور أهذا الصقر في علم ومال ... وأنتم في القطيعة والنفور

وبَيع مقابر الأجداد أضحى ... لدى الأحفاد مدعاة الظهور سيعجب تاجرو الأصنام قدماً ... إِذا سمعوا بتجار القبور من المتقدّمون إِلى المعالي ... على نهج الهداية والصواب؟ ومن جبهاتهم أنوار بيتي ... وفي أخلاقهم يُتلى كتابي؟ أما كانوا جدودكم الأوالي ... بناة المجد والفن العجاب؟ وليس لكم من الماضي تراث ... سوى شكوى اللغوب والاكتئاب ومن يك يومه في العيش يأساً ... فما غده سوى يوم العذاب أتشكو أن ترى الأقوام فازوا ... بمجد لا يراه النائمونا

مشوا بهدي أوائلكم وجدوا ... وضيعتم تراث الأوّلينا أيحرم عامل وِرد المعالي ... ويسعد بالرّقيّ الخاملونا أليس من العدالة أن أرضي ... يكون حصادها للزارعينا تجلّي النور فوق الطور باق ... فهل بقي الكليم بطورسينا؟ ألم يبعث لأمّتكم نبيّ ... يوحّدكم على نهج الوئام ومصحفكم وقبلتكم جميعاً ... منارٌ للأخوّة والسلام وفوق الكلّ رحمان رحيمٌ ... إِلهٌ واحدٌ رب الأنام فما نهار ألفتكم تولّى ... وأمسيتم حيارى في الظلام

وحسن اللؤلؤ المكنون رهن ... بصوغ العِقد في حسن النظام وكيف تغيّرت بكم الليالي ... وكيف تفرّقت بكم الأماني تركتم دين أحمدَ ثم عدتم ... ضحايا للهوى أو للهوان رقي الشعب قد أضحى لديكم ... تقرّره صلاحية الزمان وكيف تقاس أوهام ولغو ... بحكمة مُنزل السبع المثاني؟ أرى ناراً قد انقلبت رماداً ... سوى ظلّ مريض من دخان أرى الفقراء عباداً تقاةً ... فياماً في المساجد راكعينا هم الأبرار في صوم وفطر ... وبالأسحار هم يستغفرونا

وليس لكم سوى الفقراء ستر ... يواري عن عيوبكم العيونا أضلت أغنياءكم الملاهي ... فهم في ريبهم يترددونا وأهل الفقر ما زالوا كنوزاً ... لدين الله رب العالمينا أرى التفكير أدركه خمول ... ولم تبق العزائم في اشتعال وأصبح وعظكم من غير سحر ... ولا نور يطل من المقال وعند الناس فلسفة وفكر ... ولكن أين تلقين (الغزالي؟) وجلجله الأذان بكل أرض ... ولكن أين صوت من (بلال؟) منائركم علت في كل حيّ ... ومسجدكم من العبّاد خالي

فأين أئمّة وجنود صدق ... تهاب شَباة عزمهم الحراب إِذا صنعوا فصنعهم المعالي ... وإِن قالوا فقولهم الصواب مرادهم الإله فلا رياء ... ونهجهم اليقين فلا ارتياب لأمتهم وللأوطان عاشوا ... فليس لهم إِلى الدنيا طلاب كمثل الكأس نبصرها دهاقاً ... وليس لأجلها صُنع الشراب جهاد المؤمنين لهم حياة ... ألا إِن الحياة هي الجهاد عقائدهم سواعد ناطقات ... وبالأعمال يثبت الاعتقاد وخوف الموت للأحياء قبر ... وخوف الله للأحرار زاد

أرى ميراثهم أضحى لديكم ... مضاعاً حيث قد ضاع الرشاد وليس لوارث في الخير حظ ... إِذا لم يحفظ الإِرث اتحاد لأي مأثر القوم انتسبتم؟ ... لتكتسبوا فخار المسلمينا فأين مقام ذي النورين منكم ... ودولة عزه دنيا ودينا وفقر عليٍّ الأوّاب هلاّ ... ربحتم فيه كنز الفاتحينا أقمتم في الذنوب وفي الخطايا ... وتغتابون حتى الصالحينا وهم ستروا عيوب الحلق فضلًا ... وإِن كانوا أبرّ المتقينا أريكة قيصر وسرير كسرى ... قد احتميا بملكهم العميمِ

وأنتم تطمحون إِلى الثّريّا ... بلا عزم ولا قلب سليمِ تضيعون الإِخاء وهم أقاموا ... صروح إِخائهم فوق النجومِ طلبتم زهرة الدنيا وعدتم ... بلا زهر يضوع ولا شميمِ وكان لديهم البستان محضاً ... وهم أصحاب جنّات النعيمِ يعيد الكون قصتهم حديثاً ... وينشئ من حديثهم الفنونا فكم نزحوا عن الأفكار شوقاً ... إِلى التحليق فوق العالينا ويأس شبابكم أدمى خطاهم ... فظنوا فيه بالدين الظنونا هي المدنية الحمقاء ألقت ... بهم حول المذاهب حائرينا

لقد صنعت لهم صنم الملاهي ... لتحجب عنهم الحق الأمينا لقد سئم الهوى في البيد قيس ... ومل من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى ... يرى ليلاه وهي بلا حجاب يريد سفور وجه الحسن لما ... رأى وجه الغرام بلا نقاب فهذا العهد أحرق كل غرس ... من الماضي وأغلق كل باب لقد أفنت صواعقه المغاني ... وعاثت في الجبال وفي الهضاب هي النار المجديدة ليس يُلقى ... لها حطب سوى المجد القديم خذوا إِيمان إِبراهيم تنبت ... لكم في النار روضات النعيم

ويذكر من دم الشهداء ورد ... سنيّ العطر قدسىّ النسيم ويلمع في سماء الكون لون ... من العناب مخضوب الأديمِ فلا تفزع إِذا الرجان أضحى ... عقوداً للبراعم والكرومِ فكم زالت رياض من رباها ... وكم بادتْ نخيل في البوادي ولكن نخلة الإِسلام تنمو ... على مر العواصف والعوادي ومجدك في حمى الإِسلام باق ... بقاء الشمس والسبع الشداد وانك يوسف في أرض مصر ... يرى كنعانه كل البلاد تسير بك القوافل مسرعات ... بلا جرس ولا ترجيع حادي

ضياؤك مشرق في كل أرض ... لأنك غير محدود المكان بغت أمم التتار فأدركتها ... من الإِيمان عاقبة الأمان وأصبح عابدو الأصنام قدماً ... حماة الحجر والركن اليمان فلا تجزع فهذا العصر ليلٌ ... وأنت النجم يشرق كل آن ولا تخش العواصف فيه وانهض ... بشعلتك المضيئة في الزمان أعد من مشرق التوحيد نوراً ... يتم به اتحاد العالمينا وأنت العطر في روض المعاني ... فكيف تعيش محتبساً دفينا وأنت نسيمه فاحمل شذاه ... ولا تحمل غبار الخاملينا

وأرسل شعلة الإِيمان شمساً ... وصغ من ذرةٍ جبلاً حصينا وكن في قمة الطوفان موجاً ... ومزناً يمطر الغيث الهتونا فباسم محمَّد شمس البرايا ... أقيمت خيمة الفلك المنير تلألأ في الرّياض وفي الصحاري ... وفوق الموج والسير المغير ونبض الكون منه مستمد ... حراراته على مرّ العصور ومن مرّاكش يغزو صداه ... ربوع الصين بالصوت الجهير وما مشكاة هذا النّور إِلا ... ضمير المسلم الحرّ الغيور ورفع الذكر للمختار رفع ... لقدرك نحو غايات الكمال

فكن إِنسان عين الكون واشهد ... مقامك عالياً فوق المعالي بخنجر عزمك الوثاب لاحت ... على الأعلام أنوار الهلال نداؤك في العناصر مستجاب ... إِذا دوى بصوت من بلال وعقلك في الخطوب أجلّ درع ... وعشقك خير سيف للنضال خلافة هذه الأرض استقرت ... بمجدك وهو للدنيا سماء وفي تكبيرك القدسي يبدو ... صغيراً كل ما ضمّ الفضاء فيا من هب للإِسلام يدعو ... وأيقظ صدق غيرته الوفاء سترفع قدرك الأقدار حتى ... تشاهد أن ساعدك القضاء وقيل للث احتكم دنيا وأخرى ... وشأنك والخلود كما تشاء

فلسطين الدامية

فلسطين الدامية وتحت هذا العنوان قال الشهيد الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - وقد سعدت بمعرفته، والاستماع إليه وقراءة كتبه منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي: (¬1) عهد على الأيام ألا تُهزموا ... النصر ينبت حيث يرويه الدّم في حيث تعتبط الدماء فأيقنوا ... أن سوف تحيوا بالدماء وتعظموا تبغون الاستقلال تلك طريقه ... ولقد أخذتم بالطريق فيمّموا وهو الجهاد حميّة جيّاشة ... ما إِن تخاف من الردى أو تحجم إِن الخلود لن يطيق مُيَسَّر ... فليمض طلاب الخلود ويقدموا وطن يقسم للدخيل هديّة ... فعلام يحجم بعد هذا محجم؟ ¬

_ (¬1) جريدة الشباب المصرية - العدد الصادر في 5: 10: 1938 م، وشعراء الدعوة الإِسلاميّة في العصر الحديث: 4: 39 - 40.

والشرق ويح الشرق تلك دماؤه ... والغرب ويح الغرب يضربه الدم وحشيّة كشف الزمان حجابها ... لا بل أشد من الوحوش وأظلم الوحش يفتك جائعاً ويعفَّ عن ... فتكاته إِذ ما يعب ويطعم الشرق ويح الشرق كيف تقحّموا ... حرماته الكبرى وكيف تهجّموا غرّتهمو سنة الكبرى فتوهّموا ... يا للذكاء! فكيف قد غرّتهمو سنة ومرّت والنيام تيقّظوا ... فليعلموا من نحن أو لا يعلموا اليوم قد شربوا الدماء وفي غدٍ ... فليندموا عنها ولات المندم إِخواننا في الحال والعقبى معاً ... إِخواننا فيما يلذّ ويؤلم مصر الشقيقة شيبها وشبابها ... تهفو إِليكم بالقلوب وتعظم

وغداً وما يدري عِداكم ما غداً ... النصر يهزج حولكم ويرنم في كل مطّلع وكل ثنيّة ... نار من الشرق الفتي ستضرم والموت إِن الموت أشرف منهلًا ... مما نسام به ومما نوسم

أخي

أخي وقال تحت هذا العنوان: (¬1) أخي أنت حرٌّ وراء السدود ... أخي أنت حرٌّ بتلك القيود إِذا كنت بالله مستعصماً ... فماذا يضيرك كيد العبيد أخي ستبيد جيوش الظلام ... ويشرق في الكون فجر جديد فأطلق لروحك إِشراقها ... ترى الفجر يرمقنا من بعيد أخي قد أصابك سهم ذليل ... وغدراً رماك ذراعٌ كليل ستُبتر يوماً فصبر جميل ... ولم يَدْمَ بعدُ عرينُ الأسود ¬

_ (¬1) الكفاح الإِسلامي الأردنية - العدد 29 - الصادر في 28/ 12 / 1376 هـ، الموافق 26: 7: 1957 م، وشعراء الدعوة الإِسلامية في العصر الحديث: 4: 43 - 47، ومن الشعر الإِسلامي: جمعية الإصلاح الاجتماعي: 13 - 15.

أخي قد سرت من يديك الدماء ... أبت أن تُشلّ بقيد الإِماء سترفعُ قُربانها للسماء ... مخضبة بوسام الخلود أخي هل تُراك سئمت الكفاح ... وألقيت عن كاهليك السلاح فمن للفحايا يواسي الجراح ... ويرفع رايتها من جديد أخي هل سمعت أنين الترب ... تدُك حَصاه جيوشُ الخراب تُمَزقُ أحشاءه بالحراب ... وتصفعهُ وهو صلب عنيد

أخي إِنني اليوم صلب المراس ... أدُك صخور الجبال الرواس غداً سأشجّ بفأس الخلاص ... رءوس الأفاعي إِلى أن تبيد أخي إِن ذرفت علىّ الدموع ... وبللّت قبري بها في خشوع فأوقد لهم من رفاتي الشموع ... وسيروا بها نحو مسجد تليد أخي إِن نمُتْ نلقَ أحبابنا ... فروضاتُ ربي أعدت لنا وأطيارُها رفرفت حولنا ... فطوبى لنا في ديار الخلود أخي إِنني ما سئمت الكفاح ... ولا أنا ألقيت عني السلاح

وإِن طوقتني جيوشُ الظلام ... فإِني على ثقة ... بالصباح وإِني على ثقة من طريقي ... إِلى الله رب السنا والشروق فإِن عافني الشُّوقُ أو عَقّنِي ... فإِني أمين لعهدي الوثيق أخي أخذوك على إِثرنا ... وفوج على إِثر فجرٍ جديد فإِن أنا مُتّ فإِني شهيد ... وأنت ستمضي بنصر جديد قد اختارنا الله في دعوته ... وإِنا سنمضي على سُنته فمنا الذين قضوا نحبهم ... ومنا الحفيظ على ذِمته

أخي فامض لا تلتفت للوراء ... طريقك قد خضبته الدماء ولا تلتفت ها هنا أو هناك ... ولا تتطلع لغير السماء فلسنا بطير مهيض الجناح ... ولن نستذل .. ولن نستباح وإني لأسمع صوت الدماء ... قوياً ينادي الكفاحَ الكفاح سأثأرُ لكن لرب ودين ... وأمضي على سنتي في يقين فإِما إِلى النصر فوق الأنام ... وإِما إِلى الله في الخالدين

رد على الشهيد

رد على الشهيد وتحت هذا العنوان ردٌّ لشاعر الموصل ذي النون على الشهيد سيد قطب رحمه الله (¬1): أخي سوف تبكي عليك العيون ... وتسأل عنك دموع المئين فإِن جف دمعي سيبكي الغمام ... يرصع قبرك بالياسمين أخي إِن قضيت ستحيا بنا ... كأن لم يمر عليك الفناء فتمرح مهما احتوتك القيود ... وتنعم بالحب ما بيننا أخي عند ذكرك تجري الدموع ... لتربأ صدع الفؤاد الهلوع وتسجد في سيرها للإله ... وتذكركم عنده في الركوع ¬

_ (¬1) من الشعر الإِسلامي: جمعية الإصلاح: 18 - 19.

أخي أنت مصباح هذي الحياة ... تموت لتبعد عنهما الممات فأشعل لها في الظلام الظلوم ... منار الشعوب ونار الطغاة أخي قد مضى ستة بالمثل ... فكان شهيد وكان بطل فإِن ذقت أنت صنوف العذاب ... فإِنك في دربهم لم تزل أخي ما لنا لسكوت سبيل ... فلا يوهمنك صمت طويل فحقك ينشد في كل سمع ... سنثأر يوماً فصبر جميل أخي ستنير الدماء الظلام ... وزرعه رحمة وسلام

فيا سحب غطي شعاع الهلال ... يشرق بعده بدر التمام أخي إِننا ما أسأنا الظنون ... روح قويّ وجسسم طعين فماذا تروم لديك الخطوب ... ماذا يضيرك كيد السنين أخي ما يريدون من مؤمن ... له قبره أفضل السكن هلّمي أيا حادثات الزمان ... فلن تجدي فيه من موهن أخي لن ننام وتحيى السهاد ... أخي سنحرك قلب الجماد أخي إِن إِيماننا لكفيل ... بهزّ الرواسي ومحق الفساد

أخي ما يئسنا ولن نيأسا ... وما طال في القلب لبث الأسى وما حل أفئدة المؤمنين ... سوى أهل في الجَنان رسا أخي لست وحدك في الامتحان ... فكن رابط الجأش عملب الجَنان ستصرخ بالظلم كل الشفاه ... ويهزأ بالموت كل لسان أخي أنت في النار في المرجل ... ونحن على بعدها نصطلي فكن مشعلاً خالداً لا يزول ... فنحن الوقود لذا المشعل

أخي فانتظر ولتعش في غد ... سينبثق الأمل السرمدي فإِن فرقتنا سنيّ الحياة ... فإِنا مع النصر في موعد فِإِنا مع النصرِ في موعد * * *

نكبة فلسطين

نكبة فلسطين وتحت هذا العنوان قال الشاعر أحمد محرم رحمه الله (¬1): في حمى الحق ومن حول (الحرم) ... أمة تؤذى وشعب يُهتضم (فزع القدس) وضجت مكة ... (وبكت طيبة) (¬2) من فرط الألم ومضى الظلم خلياً ناعماً ... يسحب البردين من نار ودم يأخذ الأرواح ما يعصمها ... معقل الحق إِذا ما تعتصم ويرى الناس إِذا أعجبه ... أن يبيدوا كأقاطيع البهم بعثته شهوة وحشية ... تتلظى مثل أجواف الأطم ما تبالي إِن مضت ويلاتها ... ما أصابت من شعوب وأمم ¬

_ (¬1) الحديقة: 2: 22 لمحب الدين الخطيب، وشعراء الدعوة الإِسلامية في العصر الحديث: 4: 79 - 86. (¬2) في الأصل (يثرب).

أهون الأشياء في شرعتها ... أمة تمحى وشعب يلتهم هي من روح الدهاقين الألى ... نشروا النور وطاحوا بالظلم أنقذوا العالم من أرزائه ... وأذاقوه أفاويق النعم وأزالوا ما حوت أرجاؤه ... للأوالي من قبور ورمم فإِذا الدنيا جمال يجتنى ... وإِذا العيش سلام يغتنم زينوها قصة ناعقة ... زينت للناس مكروه الصمم كشف التجريب عن سوآتها ... ومضت عارية ما تحتشم أفسدوا العالم مما عبثوا ... بالدساتير القدامى والنظم

نقض الأرسان واستن العمى ... فهو يمضى في جامحاً أو يرتطم سلبوه العقل مما عربدوا ... وسقوه من خيال ولمم الحياة البغي والدين الهوى ... والضعيف الخصم والسيف الحكم زمن تصدق إِن سميته ... زمن (الطاغوت) أو عصر الصنم يا (فلسطين) اصطليها نكبة ... هاجها للقوم عهد مضطرم واشهديه في حماهم مأتماً ... لو راعوا للفعف حقًّا لم يقم واشربي كأسك مما عصروا ... من زعاف حائل في كل فم أذكري يومك في أفيائهم ... ودعي الأمس فما يغني الندم

آية للبغي من أسمائها ... حكمة الأقدار أو عدل القسم اكشفيها غمة ليس لها ... من كفاء غير كشاف الغمم الجهاد الحر يقضي حقه ... سؤدد العرب ويحميه (العلم) لا تنامي للعوادي وادأبي ... واذهبي طامحة في المزدحم ليس بالدرك حقاً غافل ... نام والأحداث يقظى لم تنم في فؤادي جرحك الدامي وفي ... كبدي ما فيك من حزن وهم كم صريع لك في أشلائه ... مصرع القربى وأشلاء الرحم فجعوني فيه بابن صالح ... وأخ حر السجايا وابن عم

(شهداء الحق) ماتوا دونه ... وهو حي العزّ موفور الشمم واشتروه بنفوس حرة ... بذلوها من سخاء وكرم نهض الملك على أمثالثها ... واستتب الأمر فيه وانتظم إِن رسا البنيان يوماً أو سما ... فهي الأركان فيه والدعم ذهبوا للشرق في مأتمهم ... مرح الخالي وبشر المبتسم سره أن هب من أبنائه ... قضب الهند وآساد الأجم وانتضى من بين جنبيه الأسى ... ما انتضى العدوان من تلك الهمم همم الأحرار تحمي وطناً ... عربياً سليم خسفاً وظلم باعه ذئب لذئب غيلة ... فهو للذئبين نهب مقتسم

تنزع الأرزاق من أبنائه ... وتسل الأرض من فرط النهم يرهق القوم فإِن هم غضبوا ... راحت الأرواح منهم تخترم أخذتهم للأذى عاصفة ... هاجها البغي فهبت من أَمم وارتمت هوجاء ما يردعها ... فاجع الثكل ولا عادي اليتم عصفت ظمأى إلى آجالهم ... فتَروّت من شباب وهرم وأراها من تلظّي جوفها ... تتداعى كالشواظ المحتدم تتمنى من تباريح الصدى ... لو يكون الدم كالبحر الخضم (شعب إسرائيل) ما بال الألى ... حفظوا العهد وبروا بالقسم؟

ذكروكم ونسوا ما عقدوا ... لسواكم من عهود وذمم اذكروا (بلفور) في (تلمودكم) ... واغفروا اليوم لـ (عيسى) ما اجترم واسألوا (موسى) أطابت نفسه ... أم أبى ما كان منكم فنقم ليس من مال عن الحق كمن ... جعل الحق سبيلاً يلتزم هدم (التيه) قديماً ملككم ... فبنى (بلفور) منه ما انهدم أبت الأرض فكنتم شعثاً ... طائراً في كل واد ما يلم فرهى أشتاتكم في وطن ... راعه منكم بشعب ملتئم نبئوا الغرقى وإِن لم يسمعوا ... أهو (الطوفان) أم سيل العرم

(مصر) ناجي من (فسطين) الربى ... وابعثي صوتك من أعلى (الهرم) وإِذا أعوز همٌّ أو أسى ... فاستمدّي الهمّ من هذا القلم وخذي معنى الأسى عنه فما ... لك من معناه إِلا ما نظم نبئيها أننا من وجدها ... نجد العلقم في العذب الشّبم نشتكي الليل ويرمينا الأسى ... إِن مضى الليل بصبح مدلهم فكأنا منهما في ملتقى ... نكبة تطغى وأخرى تستجم أختك الولهى عناها شجوها ... ودهى أبناءها الخطب الملم فزعت تدعوك في محنتها ... (مصر) جل الخطب هبي لا جرم اذكريني أدركيني خففي ... ألمي بوركت من أخت وأم

هد قومي باسم (موسى) ظالم ... لو رأى في القوم (موسى) ما رحم زعم (التوراة) من أنصاره ... فهي تشكو خطبها مما زعم هل رأى الألواح فاستهدى بما ... جاء فيها من عظات وحكم؟؟ أم تلقّى الوحي أم كان امرأً ... جهل الناس جميعًا وعلم؟؟ رب! هل قدرت ألاَ ينجلي ... ما أصاب الشرق من خطب عمم عاث فيه القوم حتى ماله ... حرمة ترعى وحق يحترم اكشف البأساء وارحم أمما ... تتلوى من ملال وسأم عمل الناس فسادوا وعلوا ... وهي فوضى من عبيد وخدم

تحمل الضيم ولولا أنها ... تحسب الموت حياة لم تضم ما لنا من هذه الدنيا سوى ... غارة العادي وعسف المحتكم ساءنا من شرها ما نجتوي ... وعنانا من أذاها ما نذم فسئمناها حياة مرة ... ومللناه وجوداً (كألم)؟ رب! أنت العون إِن طاف بنا ... طائف البغي وأنت المنتقم من يجير القوم إِن صبحهم ... خطب (عاد) و (ثمود) في القدم لا يغرن قويا جنده ... قوة صرعى وجند منهزم

يا أمتي وجب الكفاح

يا أمتي وجب الكفاح وتحت هذا العنوان قال الأخ العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي: حركت الأحداث خواطري، وأنا على فراش المرض، أسمع وأقرأ وأرى ما يجري على الساحة في ديارنا: صليبيّون ولا صلاح الدين، وتتار ولا قطز، ومرتدّون ولا أبا بكر، فكان من هذه المشاعر والخواطر هذه القصيدة (¬1): يا أمتي وجب الكفاح ... فدعي التشدق والصياح ودعي التقاعس ليس يُنـ ... ـصر من تقاعس واستراح ودعي الرياء فقد تكلّ ... ـمت المذابح والجراح كذب الدعاة إِلى السلا ... م فلا سلام ولا سماح ما عاد يجدينا البكا ... ء على الطلول ولا النواح لغة الكلام تعطلت ... إِلا التكلم بالرماح ¬

_ (¬1) نفحات ولفحات: 94 - 98.

إنا نتوق لألسنٍ ... بكم على أيد فصاح يا قوم إِن الأمر جدّ ... قد مضى زمن المزاح سموا الحقائق باسمها ... فالقوم أمرهمو صراح سقط القناع عن الوجو ... هـ وفعلهم بالسر باح عاد الصليبيون ثا ... نيةً وجالوا في البطاح عاثوا فساداً في الديا ... ر كأنها كلأ مباح عادوا يريقون الدما ... ء لا حياء من افتضاح والباطنية مثلوا الدّو ... ر المقرر في نجاح

دور الخيانة وهو معلو ... م الختام والافتتاح من كل حشّاش أعا ... دَ رواية (الحسن الصباح) عادوا وما في الشرق (نو ... ر الدين) يحكم أو (صلاح) كنا نسينا ما مضى ... لكنهم نكؤوا الجراح أرأيت لبناناً وما ... يجري به من كل ساح؟ أرأيت (شاتيلا) و (صَبـ ... را) و (البراجنَ) و (الضّواح)؟ أرأيت من حملوا أنا ... جيل البشارة والسماح؟ ما هم من الإِنجيل إِلا ... مثل أبناء السفاح! لم يخجلوا من ذبح شيـ ... ـخ لو مشى في الريح طاح

أو صبية كالزهر لم ... ينبت لهم ريش الجناح لم يشف حقدهمو دم ... سفحوه في صلف وقاح عبثوا بأجساد الضحا ... يا في انتشاء وانشراح وعدوا على الأعراض لم ... يخشوا قصاصاً أو جناح ما ثم (معتصم) يغيـ ... ـث من استغاث به وصاح أرأيت كيف يكاد للإِسـ ... ـلام في وضح الصباح؟ أرأيت أقصانا وما ... هدم العدو وما استباح؟ أرأيت أرض الأنبيا ... ء وما تعاني من جراح؟ أرأيت كيف بغى اليهو ... د وكيف أحسنّا الصياح؟

غصبوا فلسطينا وقا ... لوا: ما لنا عنها براح كشروا عن الأنياب لَمْ ... يخفوا وجوههم القباح لم يعبؤوا بقرار (أمـ ... ـن) دانهم أو باقتراح ولطالما اجترحوا العَظَا ... ئم لم يُبالوا باجتراح عاد التتار (¬1) يقودهم ... جنكيز ذو الوجه الوقاح عادت جيوشهمو تهدّ ... د بالخراب والاجتياح يا ويل أرض دنَّسُو ... ها إِنهم عُقم الرياح عادوا ولا (قطز) ينا ... دي المسلمين إِلى الكفاح لولا صلابة فتية ... غرٌّ بدينهمو شحاح ¬

_ (¬1) يعني لشاعر بالتتار هنا (الروس) وغزوهم لأفغانستان.

في أرض أفغان العَرِيقـ ... ـة في البطولة والصلاح غَنِمُوا السّلاح من العَد ... وّ وقاتلوه بذا السلاح بذلوا الدماء وما على ... من يبذل الدم من جناح بسيوف (سيَّاف) وحكمتِ ... يَارٍ) أبطال النفاح ورجال (برهان) و (يُو ... نس) والمغاوير الصباح قد بيّضوا وجه الحَنيـ ... ــفة ليس ذلك بامتداح عاد المروق مجاهراً ... ما عاد يخشى الافتضاح نفقت هنا سوق النفاق ... تروج الزور الصراح

فيها يباع الفسق تحـ ... ـت اسم الفنون والانفتاح وترى الفساد يصول جهـ ... ـراً في الغدو وفي الرواح وتطاول المرتدُّ لا ... يخفي من الكفر البواح من كل أكذب مسيـ ... ـلمة وأفجر من سجاح وجد الحصون بغير حرّا ... سٍ لها فغدا وراح ومضى يعربد لا يبا ... لي في حمانا المستباح وتعالت الأصوات تد ... عو للفجور وللسفاح مسعورة إِن رحت تزجر ... ها تمادت في النباح ما من (أبي بكر) يؤد ... بهم ويكبح من جماح

ويعيدهم لحظيرة الإيـ ... ـمان قد خفضوا الجناح يا أمة الإِسلام هبـ ... وا واعملوا، فالوقت راح الكفر جمّع شمله ... فلم النزاع والانتطاح؟ فتجمعوا وتجهزوا ... بالمستطاع وبالمتاح يا ألف مليون وأيـ ... ـن همو إِذا دعت الجراح؟! هاتوا من المليار ملـ ... ـيوناً صحاحاً من صحاح من كل ألف واحداً ... اغزوا بهم في كل ساح من كل صافي الروح يو ... شك أن يطير بلا جناح

ممن يخفّ إِلى صلا ... ة الليل بادي الارتياح ممن يعف عن الحرا ... م وليس يسرف في المباح ممن زكا بالصالحا ... ت وذكره كالمسك فاح ممن يهيم بجنة الـ ... ـفردوس لا الغيد الملاح من همه نصح العبا ... د وليس يأبى الانتصاح يرجو رضا مولاه ... لم يعبأ بمن عنه أشاح بكّاء محراب ولَـ ... ـكنْ في الوغى كبش النّطاح مرٌّ على أعدائه ... ولقومه ماء قراح في الرّوعِ يبذل روحه ... ويقول عند الغنْم صاح (¬1) ¬

_ (¬1) أي يدع المغانم لغيره، وينادي أصحابه ليأخذوها.

إِن ضاقت الدنيا به ... وسعته (سورة الانشراح) لا بد من صنع الرجا ... ل ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علـ ... ـمٌ في التراث له اتضاح من لم يلقنْ أصله ... من أهله فقد النجاح لا يصنع الأبطال إِلاّ ... في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ... ظل الأحاديث الصحاح في صحبة الأبرار ممن ... في رحاب الله ساح من يرشدون بحالهم ... قبل الأقاويل الفصاح

من صمتهم فكر وذكرٌ نطقهم ... ومقالهم شكر ومجلسهم رباح وغراسهم بالحق مو ... صول فلا يمحوه ماح من لم يعش لله عا ... ش وقلبه ظمآن ضاح يحيا سجين الطين لم ... يطلق له يوماً سراح ويدور حول هواه يلهث ... ما استراح ولا أراح لا يستوي في منطق الإِ ... يمان سكران وصاح من همه التقوى وآ ... خر همه كأس وراح شعب بغير عقيدة ... ورق تذرِّيه الرياح من خان (حي على الصلا ... ة) يخون (حي على الفلاح)

يا أمتي صبراً، فليـ ... ـلك كاد يسفر عن صباح لا بد للكابوس أن ينـ ... زاح عنا أو يزاح والليل إِن تشتد ظلـ ... ـمته نقول الفجر لاح والفجر إِن يَبْزُغْ فلا ... نَوْمٌ وحيّ على الفلاح

يا قدس

يا قدس وقال تحت هذا العنوان الأخ الشاعر الداعية يوسف العظم - رحمه الله (¬1): يا قدس يا محراب يا منبر ... يا نور يا إِيمان يا عنبر أقدام من داست رحاب الهدى ... ووجه مَن في ساحها أغبر؟ وكفّ من تزرع أرضي وقد ... حنى عليها ساعدي الأسمر؟ من لوث الصخرة تلك التى ... كانت بمسرى أحمد تفخر؟ وأمطر القدس بأحقاده ... فاحترق اليابس والأخضر ودنس المهد على طهره ... إِلا عدو جاحد أكفر يا سورة الأنفال من لي بها ... قدسيّة الآيات تستنفر ¬

_ (¬1) ديوانه (في رحاب الأقصى): 10، وشعراء الدعوة الإِسلامية في العصر الحديث: 4: 15 - 21.

جنداً يذوق الموت عذب المنى ... كالصبح عن إِيمانه يسفر ومن يبع لله أزكى دم ... يمت شهيد الحق أو ينصر والبغي مهما طال عدوانه ... فالله من عدوانه أكبر * * * يا قدس يا محراب يا مسجد ... يا درّة الأكوان يا فرقد سفوحك الخضر ربوع المنى ... وتربك الياقوت والعسجد كم رتلت في أفقها آية! ... وكم دعانا للهدى مرشد! أقدام عيسى باركت أرضها ... وفي سماها قد سرى أحمد أبعد وجه مشرق بالتقى ... يطلّ وجه كالح أسود؟

وبعد ليث في عرين الشرى ... يحل كلب راح يستأسد؟ وبعد شعب دينه رحمة ... يحل مَن وجدانه يحقد؟ يا أفرع الزيتون في قدسنا ... كم طاب في أفيائها الموعد إِن مزق الغاصب أرحامنا ... وقومنا في الأرض قد شردوا فما لنا غير هتاف العلى ... إِنا لغير الله لا نسجد * * * القدس في أفق العلى كوكب ... تشع بالنور فلا تعجبوا أيّامها بالحقّ وضّاءة ... كانت بأطراف القنا تكتب إِن أطرب القيثار أسماعنا ... فاللحن في أفق الهُدى أعذب

أو حلّت الأمجاد ساح العُلى ... فالمسجد الأقصى لها أرحب والمجد مذ أشرق في قدسنا ... ما باله في قدسنا يغرب؟ يا روضة كانت لنا مرتعاً ... وكوثراً من فيضه نشرب وجنّة فيها ربيع المُنَى ... في ظلّها أكبادنا تلعب مذْ حلّ في أفيائها غاصب ... ما عاد فيها بلبل يطرب مَنْ لي بسيف لا يهابُ الردى ... في كفّ من يزهو به الموكب أَوْ راية في جحفل ظافر ... يقوده الفاروق أو مصعب * * * الوحي والتنزيل والأحرف ... والآي والإِنجيل والمصحف

وسورة الإِسراء ما رتّلت ... إِلا وأسماع الدنا تُرهف تبارك القدس وما حولها ... وصخرة القدس بنا تهتف في كل صدر من دمي دفقة ... وكل عين دمعة تذرف إِن ضمد الأسى جراح الورى ... فالجرح منّي راعف ينزف يا درّةً في جيد تاريخنا ... رباك من كل الربا ألطف كم قد مشت أبكادنا فوقها ... من كل روض زهرة تقطف وكم سقينا تربها أنفساً ... أنقى من الياقوت بل أشرف يا قدس مهما باعدوا بيننا ... ففي غد جيش الهدى يزحف كنائب الإِيمان قد بايعت ... لا فاسق فيها ولا مترف * * *

يا قدس يا أنشودة في فمي ... ويا مناراً في ذرا الأنجمِ في كل أفق منك تسبيحة ... وكل شبر دفقة من دمِ وكل روض نفحة من شذى ... وماؤك الرقراق من زمزمِ وكل صدر زفرة حرّة ... وكل خدر عفّة المبسمِ تحنو بقلب خافق بالمنى ... على برئ رف كالبرعمِ قد أغمض الأجفان في هدأة ... وثغره في الثّدي لم يفطمِ من مزق الطفل بلا رحمة ... فمات بين الصدر والمعصمِ شظية عمياء من حاقد ... ورمية من ساعد مجرمِ قد أطلقت هوجاء في غفلة ... وهلكة من ليلنا المظلمِ

ما كان للهامات أن تنحني ... لو كان فينا عزّة المسلمِ * * * القدس واللطرون والمنتدى ... وبلبل في روضه غرّدا وغابة الزيتون يا حسنها ... تضوّعت زهراً وطابت ندى في ظلّها يحنو على نايه ... فتى كريم الكف عذب الصدى من حطم الناي على ثغره ... وشرد السامع والمنشدا والمسجد الأقصى ومحرابه ... يحنو علينا ركّعاً سجّدا قبابه كانت تناجي العلا ... وأرضه كانت منار الهدى تحدث الأكوان عن زحفنا ... وقد بسطنا للمعالي يدا

وهامة الفاروق مرفوعة ... أكرم بها في قدسنا مشهدا يعلي لواء العدل تكبيره ... ويصنع الأمجاد والسؤددا يا قدس إِن طالت بنا فرقة ... فسيفنا يا قدس لن يغمدا * * *

إلى القدس هيا نشد الرحال

إلى القدس هيّا نشدّ الرحال ويقول رحمه الله تحت هذا العنوان (¬1): إلى القدس هيّا نشدّ الرحال ... ندوس القيود نخوض المحال ونمحو عن الأرض فجّارها ... بعصف الجبال وسيل النضال بعزم الأسود وقصف الرعود ... ونار الحديد ونور الهلال فهلاّ سمعتم أيا إخوتي ... حنين التراب وندب الرمال ونوح المآذن في لوعة ... وآه الحصى وأنين التلال وشعبي الشريد يسيل دماً ... ومسرى الرسول يئن اشتعال * * * إِليَّ إِليَّ أسود الفداء ... فما عاد يجدي مقال وقال ¬

_ (¬1) المجتمع: العدد 1844 - 24 ربيع الأول 1430 هـ 21/ 3 / 2009 م، بتصرف.

لقد حان يوم انتفاض الأسير ... ودقَّت طبول الفدا والنضال ونادت ربا القدس أبطالها ... فأين عليّ؟ وأين بلال؟ فإِما نسر في طريق الإِله ... ننل عزّة فوق شمّ الجبال ولا بدّ للنور يوماً نعود ... ولا بد للقيد من أن يُزال وتعلو المآذن في عزّة ... لتعرف لحناً طوته الليال * * *

فلسطين الغد الظاهر

فلسطين الغد الظاهر ويقول - رحمه الله - تحت هذا العنوان (¬1): فلسطيني فلسطيني فلسطيني فلسطيني ولكن في طريق الله والإِيمان والدينِ أهيم براية اليرموك أهوى أخت حطينِ تفجر طاقتي لهباً غضوباً من براكيني لأنزع حقّي المغصوب من أشداق تنّينِ وأرفع راية الأقصى وربّ البيت يحميني * * * قتلت الحقد من قلبي فأنبت زهر نسرينِ أحبّ القدس والجولان أهوى ثلج جينين أحبّ الأردن المعطاء من كفّيه يسقيني * * * ونار الغدر والطغيان والعدوان تكويني فإِن حفروا لي الأخدود أو قاموا بتسميمى ¬

_ (¬1) السابق.

فلا التعذيب يرهبني ولا الترغيب يغريني وإِن نلت الشهادة بين آلاف القرابينِ فأنبت غاية الشهداء فيها ألف مليونِ * * * سلاح النور في كفّي ورشّاشي وسكّيني أرتّل آية الكرسي وأتلو ربع ياسينِ ولكن دون أوهام لجيفارا ولينينِ ففكر الغرب يتعبني وفكر الشرق يشقيني * * * كفرت بدعوة الإِلحاد من صنع الشّياطينِ وأوثان صنعناها من الأوحال والطّينِ وآمنّا بربِّ البيت والزيتون والتّينِ ليشمخ شعبنا حراً عزيزاً في فلسطينِ ويرفع راية التحرير في كل الميادينِ * * *

مناجاة في رحاب الأقصى

مناجاة في رحاب الأقصى ويقول رحمه الله تحت هذا العنوان (¬1): ربّاه! إِني قد عرفتك خفقةً في أضلعي وهتفت باسمك يا له لحناً يرنّ بمسمعي أنا من يذوب تحرّقاً بالشوق دون توجّعِ قد فاض كأسي حتى سئمت تجرّعي يا ربّ! إِنّي قد غسلت خطيئتي بالأدمعِ يا ربّ! إنّي ضارع أفلا قبلت تضرعي إِن لم تكن لي في أساي فمن يكون إِذن معي؟ * * * يا رب! في جوف الليالي كم ندمت وكم بكيت! ولكم رجوتك خاشعاً وإلى رحابك كم سعيت قد كنت يوماً تائهاً واليوم يا ربّي وعيت إِن كنت تعرض جنَة للبيع بالنفس اشتريت أو كنت تدعوني إلهي للرجوع فقد أتيت ¬

_ (¬1) السابق.

ذبحوني من وريد لوريد

ذبحوني من وريد لوريد ويقول - رحمه الله - تحت هذا العنوان (¬1): ذبحوني من وريد لوريد ... وسقوني المرّ في كل صعيدِ مزّقوا زوجي فلم أعبأ بهم ... ومضوا نحو صغيري ووحيدي غرسوا الحربة في أحشائه ... فغدا التكبير أصداء نشيدي دمّروا بيتي وهل بيتي هنا! ... إِن بيتي خلف هاتيك الحدود وتلفّت فلم أعثر على ... غير أبناء الأفاعي والقرود أين بأس العرب مذخور لمن؟ ... أين أبناء الحمى درع الصمود؟ ودمي سال على تلك الربى ... ينثر العطر في حمر الورود ولغ الغاصب في أحشائنا ... غير أنّا لم نزل سمر الزنود ¬

_ (¬1) السابق.

ولوائي فوق هامات الورى ... يتحدّى في العلا كل البنود قل لمن يحب أنّا أمّة ... أنكرت أمجاد سعد والوليد نحن شعب لم يعد يخشى الردى ... أو يبالي برصاص وحديد كلّما أطفئ منا قبس ... أشرق القرآن بالفجر الجديد قد رجعنا راية زاحفة ... بعد أيّام ضياع وشرود ومضينا نحو آفاق العلا ... نسلم الرايات جدًّا لحفيد إِنها الجنّات تبغي ثمناً ... عزَّ إِلا من شرايين الشهيد قل لمن يلهث في غفلته ... ينشد السلم تمتّع بالصديد ذبحوني من وريد لوريد ... غير أنّي لم أطأطئ ليهودي * * *

اغضب لله

اغضب لله وقال الأخ الشاعر أحمد محمَّد الصديق، تحت هذا العنوان (¬1): اغضب لله ولا ترهب ... فرضاء الله هو المطلب هيّا فخيولك مسرجة ... والزحف قريب يتأهب ورؤى التحرير مُجنّحة ... كنجوم في الأفق الأرحب انهض فسماؤك واعدة ... وعطاء الموسم قد أخصب وشبابك فيض من نور ... يتلظى في وجه الغيهب ويا طرد أشباح الظلما ... ت ويتكسح الزيف الخلب من كان وليًّا للرحمـ ... ـن فسيف القدرة لا يغلب * * * ¬

_ (¬1) المجتمع: العدد 1831 - 22 ذو الحجة 1429 هـ- 20/ 12 / 2008 م.

اغضب لله فلا نامت ... في الذل عيون الجبناء من يخش الموت يعش ميتاً ... والمجد حليف الجرآء قلها كالرعد كبرق السيـ ... ـف تزلزل ركن الظلماء فى صيحة حق لاهبة ... تجتاح غثاء الأهواء أو دفقة عطر من جرح ... تهمي في الأفق المعطاء يغتر بها وجه النعمى ... تستأصل جرثوم الداء وتخط لنا عبر الأيا ... م طريق الفجر المترائي * * * وإِذا ما الروح سرى فيها ... الإِعياء وأقعدها الوهن

وتلاشت جذوتها حتى ... صارت كرماد يمتهن فاغضب لله فإِن الحـ ... ر ذرا الجوزاء له سكن وكتاب الله هو النبرا ... س وأنت الصدر المؤتمن أبداً يدعوك إِلى الفردو ... س فكيف بقيدك ترتهن؟ آفاتك تنضح بالأشوا ... ك ودربك تفرشه المحن فاثبت كي تسقط أوثان ... والحق يعز به الوطن * * * مهد الإِسراء وهل ترضى ... ما يصنع فيه الأعداء أنفاس تزهق أعراض ... تُسبى آهات ودماء

تاريخ يسرق آمال ... تغتال دماء وبلاء ومساجد تحرقها الأحقا ... د ويعبث فيها السفهاء فإِلام الصمت ترى هل نحـ ... ـن من الموتى أم أحياء؟ وإلام سيبقى أطفال ... درعاً يحمينا ونساء؟ والأمة في الدرك الأدنى ... تهوي ويمزقها الداء * * * اغضب لله فأنت لها ... إِذ تدعوك صيحات القدس وتنادي الصخرة والأقصى ... وتمزق أكفان الرمس وتهبّ أعاصير الأبطا ... ل لخوض ميادين البأس

الصحوة بذل وجهاد ... بالمال تجود وبالنفس وتفيض بحار صاخبة ... كي تغسل أدران الرجس بالحجر الثائر بالمقلا ... ع بحدّ المدية بالفأس وغداً لا بد سنعلنها ... بالعودة أفراح القدس * * *

مشاهد وعبر

مشاهد وعبر ونجد أنفسنا أمام ضرورة الوقوف بسرعة أمام أهم المشاهد والعبر والأمثال التي ضربت للنبي -صلى الله عليه وسلم- فى هذه الليلة المباركة، تحمل العبر والعظات، والإشارات والبشارات! وللأمثال عند بني الإنسان -ولا سيّما العرب- شأن وأيّ شأن، فهي ترينا المعقول في صورة المحسوس، والغائب في صورة المشاهد، والمأمول المرتقب في صورة الواقع المحقّق .. وهي بما فيها من دقة التصوير، وسموّ التعبير، وعظمة التقدير، وقوّة التأثير، تستولي على النفس، وتسيطر على الحسّ، وتهزّ أوتار القلوب هزًّا! ومن ثمَّ لا عجب أن ضربت الأمثال للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وصوّرت تصويراً دقيقاً معبّراً، حيث يرى المشهد العجيب، فيستفسر عنه، فيجيبه جبريل عليه السلام! وأوّل ما يطالعنا من هذه المشاهد أمانة الكلمة، ففي الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: "فإِذا قوم يأكلون الجيف، قال: ومن هؤلاء يا جبريل؟ " قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ... " هذا مشهد. (¬1) وفي رواية بسند حسن عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ¬

_ (¬1) انظر: أحمد: 1: 257 وفيه قابوس مختلف فيه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، وصحح إسناده ابن كثير: التفسير: 5: 26 وله شواهد، وأورده السيوطي: الدر المنثور: 5: 214 وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وأبي نعيم: الدلائل، والضياء: المختارة.

"مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب .. أفلا يعقلون؟ " وفي رواية: "من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك"! (¬1) هذا مشهد ثانٍ! ويأتي مشهد ثالث بسند صحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لمّا عرج بي ربِّي عَزَّ وَجَلَّ مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"! (¬2) تلك المشاهد تحذّر الإنسان وتنذره أن يقول غير الحق، وهي ترهب النفس في صور ترتجف لها فرقاً، ويقشعرّ الوجدان رعباً، سواء في صورة هؤلاء الذين يأكلون الجيف، وهؤلاء الذين تقرض شفاههم بمقاريض من نار، وهؤلاء الذين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس! يا للهول! إن الخيال الشاخص يقف عاجزاً عن أن يتصوّر مآل هؤلاء الذين يقولون غير الحق! في آية صورة من صوره! ¬

_ (¬1) أحمد: 3: 120، 231، 239، والفتح الرباني: 20، 257. (¬2) أحمد: 3: 224، والفتح الرباني: 20: 257، وأورده ابن كثير، وعزاه لأحمد، ثم قال: وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرويه من وجه آخر ليس فيه أنس، وانظر: عون المعبود: 223: 13 - 224 (4857 - 4858).

ألا إنه للهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيّله؛ لأنه أشدّ وأغلظ من أن يطيقه! ولكنه الواقع الذي ينتظر هؤلاء الذين يسعون بالفتنة، ويمشون بالسوء من القول! ويزداد الهول البشع شدّة، ويعجز القلم عن التعبير، وترتجف الأوصال، ونحن نقرأ: "خطباء من أمّتك"! وهذه المشاهد -وهي قليل من كثير- تدعو الإنسان إلى أن يرغب في أن يحفظ للكلمة أمانتها! وحسبنا -كذلك- أن نذكر ما رواه الترمذي وغيره عن معاذ بن جبل قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني عن النار، قال: "لقد سألتني عن عظيم، وإِنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت". ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل". قال: "ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} (السجدة)!

ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذورة سنامه"! قلت: بلى يا نبيّ الله! فأخذ بلسانه قال: "كفّ عليك هذا"! فقلت: يا نبيّ الله!، وإِنا لمؤاخذون بما نتكّلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إِلا حصائد ألسنتهم"! (¬1) وهكذا تأتي أمانة الكلمة ملاك هذا كله .. ومع هذا فما يزال الوجدان يرتعش -وهو يتصوّر- مجرّد تصوّر - تلك المشاهد .. وهنا تشفّ الروح ويراقب الإنسان ربّه فيما يقول وفيما يعمل! وفي سورة الإسراء نبصر مكانة الفرد ومسؤوليّته، ونحن نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} " (الإسراء)! وبذلك الناموس تتضح التبعيّة الفرديّة التي تربط كل إنسان بنفسه، وتربط قاعدة العمل والجزاء .. ومن ثمَّ نبصر الربط بين الحركة المسؤولة والكلمة الصادقة، والقول والعمل، والعقيدة والسلوك، والفكرة والتنفيذ! ¬

(¬1) الترمذي (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصحيح الترمذي (2110)، وأحمد: 5: 231، وعبد بن حميد (113)، وابن ماجه (3973).

وسبق أن عرفنا كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار اللبن، وأعرض عن الخمر، وذلك في الحديث الأوّل الذي رواه مسلم عن ثابت عن أنس، وفيه: "فجاءني جبريل -عليه السلام- بإِناء من خمر، وإِناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة". ونبصر في هذا ترفعاً عن الحرام، وبعداً وإعراضاً، واختياراً للفطرة .. هذا مشهد! ومشهد ثان نبصره فيما رواه أحمد، قال: حدّثنا أبو عمر الضرير، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتَتْ عليَّ رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيّبة؟! فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بيْنَا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم، إِذ سقطت المدرَى من يدها، فقالت: بسم الله! فقالت لها ابنةُ فرعون: أبي؟ قالت: لا, ولكن ربِّي وربّ أبيك الله، قالت: أُخْبره بذلك! قالت: نعم، فأخبرتْه فدعاها، فقال: يا فلانة، وإِنّ لك ربًّا غيري؟ قالت: نعم، ربّي وربّك الله، فأمَرَ ببقرةٍ من نحاس فأُحمِيَت، ثم أمر بها أن تُلْقَى هي وأولادها فيها، قالت له: إِنّ لي إِليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحبُّ أن تجمع عظامي وعظامَ ولدي في ثوب واحد، وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأَمَرَ بأولادها فأُلقوا بين يديها، واحداً واحداً، إِلى أن انْتَهَى ذلك إِلى صبِيٍّ لها مُرْضَعٍ، كأنّها تقاعست من أجله، قال: يا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فإِن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقْتَحَمَت".

قال: قال ابن عباس: تكلّم أربعة صغار: عيسى ابن مريم -عليه السلام، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون! (¬1) ونبصر في مشهد الفطرة كل خصائص (الدّين القيّم) وتصوّراته، ومن ثم يتكوّن الفرد في جوّ نظيف شريف عفيف، بعيد عن العلاقة الآثمة، ويوجد الربط بين أمانة الكلمة -كما عرفنا- وأداء الأمانات، وانطلاقاً من أن الدّين القيّم دين الحياة، بكل ما تحمله الحياة المباركة الطيّبة من معان! ونبصر في المشهد الأخير ثبات القلب المؤمن أمام الصعاب، مهما كان شأنها .. ويتضاءل الإنسان أمام هذا الموقف المهيب .. وأمام واقع المسجد الأقصى الذي يئن بحرقة، ويهيب بأتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرفعوا راية الحق. وأخيراً وليس آخراً: نبصر المسجد الأقصى محلّ عناية الله، ومكان رعايته، حيث أسرى بخاتم رسله إليه .. ولئن تاهت البلاد التي سبقت إلى الإِسلام وافتخرت، لأن الفتح كان على أيدي السابقين الأعلام، وجحافل جيوش المسلمين، فإن لموطن المسجد الأقصى أن يعتزّ بأنه قد أسْرى الله عَزَّ وَجَلَّ بخاتم رسله إليه .. وجعل ذلك أمراً محكماً في القرآن الكريم، يتعبّد المسلمون ¬

_ (¬1) أحمد: 1: 310، وسنده حسن، فقد سمع حماد بن سلمة من عطاء بن السائب قبل الاختلاط عند جميع الأئمة، وأبو عُمر الضرير اسمه حفص بن عُمر البصري، روى له أبو داود، وهو صدوق، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح! وأخرجه بنحوه الطبراني (12280) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه بهذا الإسناد! وابن حبان (2903) عن طريق يزيد بن هارون، والطبراني (12279)، وانظر: ابن ماجه (4030).

بتلاوته .. وقد أدرك سلفنا الصالح هذه الحقائق، وتلك المعاني، فكانت الشهادة أمنية رفيعة الشأن، جليلة القدر، عظيمة الأثر، وكان الشهداء في مؤتة وحطّين وغيرهما، وقوافل المقاتلين إلى أرض فلسطين، أرض المسجد الأقصى .. وكأنّ هذه الدماء على أرض فلسطين الآن لم تكن كافية، على ما يظهر، أن نجدّد العزم على تحرير المسجد الأقصى .. وكأنه لم يبق لدى الكثير اسم ولا رسم، ولا روح ولا جسم، بيد أن الأمل قائم، ومعادلة النصر حق، والله لا يخلف الميعاد، وصدق الله العظيم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور: 55)! ونبصر ضرورة دراسة السيرة النبويّة، وفق هذا المنهج الموضوعي في تلك الدراسات، رجاء أن نرى أنفسنا أمام تفسير الأحداث -وفق قول الرافعي- (¬1) إن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقيّة العليا إلا فيها، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان إنساناً، وكان أيضاً حركة في تقدّم الإنسانيّة، وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشريّة في تاريخها، وأن كل أموره موضوعة وضعاً إلهيًّا، كأنها صفات كوّنها الحق وعلّقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة! وكأن الحقيقة السامية في سيرة هذا النبيّ تنادي الناس (¬2) أن قابلوا على هذا الأصل، وصحّحوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانيّة! ¬

_ (¬1) وحي القلم: 3: 24 - 25 بتصرف. (¬2) السابق: 2: 6.

ونبصر اليقين بأن الآلام مهما اشتدّت، والمحن مهما طال أمدها، فإن الآمال الكبيرة المرتقبة تخفّف آلام الكفاح، وتمسح الجراح، وتوضح معالم الطريق. والمنح التي تعقب المحن، تحملها معها بشائر النصر .. ومن ثم نبصر خلفاً صالحاً لسلف صالح. تربط الجميع أخوّة زكيّة، صافية نقيَّة، ومحبّة نديّة، ومودّة رضيّة، ونفحة علويّة، وألفة قدسيّة، تنشئ في قلوبنا معالم يعجز القلم عن تصويرها .. وتهبّ نفحات القرن الأوّل .. ويولد للإسلام عالم جديد، يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * * *

§1/1