الثمر المجتنى مختصر شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة

سعيد بن وهف القحطاني

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسَلَّم تسليماً كثيراً، أمّا بعد: فقد طلب مني بعض المحبين للخير أن أختصر كتابي ((شرح أسماء الله الحسنى))؛ ليستفيد منه عامّة الناس، ويُقرأ على المصلِّين بعد الصلوات؛ فأجبته لذلك، واقتصرت على شرح أسماء الله الحسنى، ومَن أراد الزيادة، فليرجع إلى الأصل. ولا شك أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تُحدُّ بعددٍ، فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي

مرسل، كما في الحديث الصحيح: ((أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)) (¬1)، فجعل اسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمّى به نفسه، فأظهره لمن شاء من ملائكته أوغيرهم، ولم ينزل به كتابه. وقسم أنزل به كتابه، فتعرف به إلى عباده. وقسم استأثر به في علم غيبه، فلم يطلّع عليه أحد من خلقه؛ ولهذا قال: ((استأثرت به))، أي: انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالتسمي به؛ لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: ((فيفتح عليّ من محامده بما لا أحسنه الآن)) (¬2)، وتلك المحامد هي تفي بأسمائه وصفاته. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد، 1/ 391، وأبو يعلى، 9/ 198 - 199، برقم 5729، والحاكم، 1/ 509 - 510، وابن السني في يعمل اليوم والليلة، برقم 339 - 340، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر: تخريج الكلم الطيب، ص 73. (¬2) أخرجه مسلم، في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 193، 194.

ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬1)، وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)) (¬2)، فالكلام جملة واحدة، وقوله: ((من أحصاها دخل الجنة)) صفة لا خبرمستقبل، والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، وهذا كما تقول: لفلان مائة مملوك قد أعدّهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم معدّون لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه (¬3). واللهَ أسألُ أن يجعل هذا المختصر خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، برقم 2736، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، بابٌ في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم 2677، وقد شرحه ابن حجر في الفتح، 11/ 214 - 228، والحديث في آخره: ((وهو وتر يحب الوتر)). (¬3) بدائع الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله، 1/ 166 - 167، وانظر أيضاً: فتاوى ابن تيمية، 6/ 379 - 382.

به من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلّى الله وسلّم، وبارك على نبيّنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن سعيد بن علي بن وهف القحطاني حُرّر في يوم الأربعاء الموافق 12/ 3/ 1427هـ

1 - الأول

1 - الأوَّلُ، 2 - والآخِِرُ، 3 - والظَّاهِرُ، 4 - والباطِنُ قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬1)، هذه الأسماء الأربعة المباركة قد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيراً جامعاً واضحاً فقال يخاطب ربه: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء، وأنت الظاهرُ فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (¬2) إلى آخر الحديث، ففسّر كل اسم بمعناه العظيم، ونفى عنه ما يُضاده ويُنافيه. فتدبّر هذه المعاني الجليلة الدّالة على تفرّد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة الزمانية في قوله: ((الأوّلُ والآخرُ))،والمكانية في ((الظاهر والباطن)). ((فالأول)) يدلّ على أنّ كل ما سواه حادث كائن بعد أنْ لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية، إذ السبب والمسبب منه تعالى. ¬

_ (¬1) سورة الحديد، الآية: 3. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2713.

5 - العلي

((والآخر)) يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألُّهها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها. ((والظاهر)) يدل على عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات على علوّه. ((والباطن)) يدلّ على اطّلاعه على السرائر، والضمائر، والخبايا، والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدلّ على كمال قربه ودنوّه. ولا يتنافى الظاهر والباطن؛ لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت (¬1). 5 – العَلِيُّ، 6 - الأعْلَى، 7 - الْمُتَعَالِ قال الله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬2)، وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (¬3)،وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬4)،وذلك دالّ على أن ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص25، وشرح النونية للهراس، 2/ 67. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة الأعلى، الآية: 1. (¬4) سورة الرعد، الآية: 9.

جميع معاني العلوّ ثابتة لله من كل وجه. فله علوّ الذات؛ فإنه فوق المخلوقات، وعلى العرش استوى: أي علا، وارتفع. وله علوّ القدر: وهو علوّ صفاته وعظمتها، فلا يماثله صفة مخلوق، بل لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته، قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (¬1).وبذلك يُعلم أنه ليس كمثله شيء في كل نعوته. وله علوّ القهر؛ فإنه الواحد القهّار الذي قهر بعزّته وعلوِّه الخلق كلهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكنْ، فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأهُ الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه، وذلك لكمال اقتداره، ونفوذ مشيئته، وشدة افتقار المخلوقات كلها إليه من كل وجه (¬2). ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 110. (¬2) الحق الواضح المبين، ص26، وشرح النونية للهراس، 2/ 68.

8 - العظيم

8 - العَظِيمُ قال الله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬1). الله تعالى عظيم له كلُّ وصف ومعنى يوجب التعظيم، فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه كما ينبغي له، ولا يُحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثني عليه عباده. واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان: النوع الأول: أنه موصوفٌ بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه، وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء والعظمة، ومن عظمته أن السموات والأرض في كفِّ الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوْا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) سورة الزمر، الآية: 67.

يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} (¬1). وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (¬2)، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} (¬3) الآية. وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله يقول: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذبته)) (¬4) فلله تعالى الكبرياء والعظمة، الوصفان اللذان لا يُقدَّر قدرهما، ولا يُبلَغ كنههما. النوع الثاني من معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يُعظّم كما يُعظّم الله، فيستحق جلّ جلاله من عباده أن يعظِّموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذُّلِّ له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 41. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255 (¬3) سورة الشورى، الآية: 5. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكبر، برقم 2620.

9 - المجيد

ومن تعظيمه أن يُتقى حقَّ تقاته، فيُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكَر فلا يُكفَر. ومن تعظيمه تعظيم ما حرّمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬1)، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} (¬2). ومن تعظيمه أن لا يُعترض على شيء مما خلقه أو شرعه (¬3). 9 - المَجِيدُ ((المجيد)) الذي له المجد العظيم، والمجد هو عظمة الصفات وسعتها، فكل وصف من أوصافه عظيم شأنه: فهو العليم الكامل في علمه، الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم الكامل في حلمه، الحكيم الكامل في حكمته، إلى بقية أسمائه ¬

_ (¬1) سورة الحج الآية 32. (¬2) سورة الحج الآية 30. (¬3) الحق الواضح المبين، ص27 - 28، وشرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 68، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، 2/ 214.

10 - الكبير

وصفاته (¬1) التي بلغت غاية المجد، فليس في شيء منها قصور أو نقصان (¬2)، قال الله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (¬3). 10 - الْكَبِيرُ وهو - سبحانه وتعالى - الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجلُّ وأعلى. وله التعظيم والإجلال، في قلوب أوليائه وأصفيائه. قد مُلئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه (¬4)، قال الله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لله الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (¬5). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص33، وشرح النونية للهراس، 2/ 71. (¬2) شرح النونية للهراس، 2/ 71. (¬3) سورة هود، الآية: 73. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي، 5/ 622. (¬5) سورة غافر، الآية: 12.

11 - السميع

11 - السَّمِيعُ قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬1)، وكثيراً ما يقرن الله بين صفة السمع والبصر، فكل من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة، والباطنة، فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات، فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرَّها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلط عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات، والقريب منها والبعيد، والسرّ والعلانية عنده سواء {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (¬2)، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬3)، قالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في جانب الحجرة، ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 134. (¬2) سورة الرعد، الآية: 10. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 1.

12 - البصير

وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬1) الآية. وسَمْعُه تعالى نوعان: النوع الأول: سَمْعُه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخفيّة والجليّة، وإحاطته التامّة بها. النوع الثاني: سَمْعُ الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬2)، وقول المصلي ((سمع الله لمن حمده)) أي استجاب. 12 - البصيرُ الذي أحاط بصره بجميع المُبصِرات في أقطار الأرض والسموات، حتى أخفى ما يكون فيها، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصّماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، الآية: 1. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 39.

أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقَّتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك. فسبحان من تحيّرت العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبرته بالغيب، والشهادة، والحاضر والغائب، ويرى خائنات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬2)، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬3)، أي مطَّلع ومحيط علمه وبصره وسمعه بجميع الكائنات (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الشعراء، الآيات: 218 - 220. (¬2) سورة غافر، الآية: 19. (¬3) سورة البروج، الآية: 9. (¬4) الحق الواضح المبين، ص34 - 36، وشرح النونية للهراس، 2/ 72.

13 - العليم

13 - العَلِيمُ، 14 - الخَبِيرُ قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬1). {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2). فهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتّب على وجودها لو وُجدت. كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬3). وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬4). فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ عنها لو وُجدت على وجه الفرض ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 18. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 75. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 22. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 91.

والتقدير، ويعلم تعالى الممكنات، وهي التي يجوز وجودها وعدمها ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده، فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي، لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان، ويعلم الغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، والجليّ والخفيّ. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1)، والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جداً لا يمكن حصرها ولا إحصاؤها، وأنّه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنّ علوم الخلائق على سعتها وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلَّت وتلاشت، كما أن قُدَرَهُم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجهٍ من الوجوه، فهو الذي علّمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأقدرهم على ما لم يكونوا عليه قادرين. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 75.

وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي، وما فيه من المخلوقات: ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يُميتهم وبعد ما يُحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلِّها: خيرها وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (¬1). والخلاصة أن لله تعالى هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات، والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي، والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (¬2). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص37 - 38، وشرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 73، وتفسير السعدي، 5/ 621. (¬2) تفسير العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، 5/ 621.

15 - الحميد

15 - الحَمِيدُ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬1). وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الله حميد من وجهين: أحدهما: أنّ جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السموات والأرض الأوّلين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم بل كان مفروضاً ومقدّراً حيثما تَسَلْسَلَتِ الأزمان واتصلت الأوقات، حمداً يملأ الوجود كله العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عدٍّ ولا إحصاءٍ، فإنّ الله تعالى مستحقه من وجوه كثيرة: منها أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيويَّة، وصرف عنهم النقم والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 15.

إلاّ هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه ويشكروه بعدد اللحظات. الوجه الثاني: أنه يُحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كلّ صفة كمال وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكلّ صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله؛ لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدريّة، وأحكامه الشرعيّة، وأحكام الجزاء في الأولى والآخرة، وتفاصيل حمده وما يُحمد عليه لا تُحيط بها الأفكارُ، ولا تُحصيها الأقلام (¬1). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص39 - 40، وشرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 75، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 215.

16 - العزيز

16 - العَزيزُ،17 - القَدِيرُ،18 - القَادِرُ،19 - المُقتَدِرُ،20 - القوِيُّ،21 - المَتِينُ هذه الأسماء العظيمة معانيها متقاربة، فهو تعالى كامل القوة، عظيم القدرة، شامل العزّة {إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (¬2)، فمعاني العزة الثلاثة كلها كاملة لله العظيم: 1 - عزّةُ القوة الدالّ عليها من أسمائه القويُّ المتين، وهي وصفه العظيم الذي لا تُنسَب إليه قوة المخلوقات وإنْ عَظُمَتْ. قال الله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬3)، وقال: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (¬5). وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 65. (¬2) سورة هود، الآية: 66. (¬3) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬4) سورة الممتحنة، الآية: 7. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 65.

شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} (¬1). وقال - عز وجل -: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬2). 2 - وعزَّةُ الامتناع فإنه هو الغنيّ بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العبادُ ضرّه فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، بل هو الضار النافع المعطي المانع. 3 - وعزَّةُ القهر والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته منقادة لإرادته، فجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرّك ولا يتصرّف متصرّف إلا بحوله وقوته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به. فمن قوته واقتداره أنّه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأنّه خلق الخلق ثم يميتهم ثم يُحييهم ثم إليه يُرجعون {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬3)، ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 45. (¬2) سورة القمر، الآيتان: 54 - 55. (¬3) سورة لقمان، الآية: 28.

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬1)، ومن آثار قدرته أنك ترى الأرض هامدة، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ومن آثار قدرته ما أوقعه بالأمم المكذّبين والكُفّار الظَّالمين من أنواع العقوبات وحلول المُثلات، وأنَّه لم يغنِ عنهم كيدهم ومكرهم ولا أموالهم ولا جنودهم ولا حصونهم من عذاب الله من شيء لمّا جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب، وخصوصاً في هذه الأوقات، فإنّ هذه القوة الهائلة، والمخترعات الباهرة التي وصلت إليها مقدرة هذه الأمم هي من إقدار الله لهم وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمونه، فمن آيات الله أنّ قُواهُم وقُدَرَهم ومخترعاتهم لم تغنِ عنهم شيئاً في صدّ ما أصابهم من النكبات والعقوبات المهلكة، مع بذل جدِّهم واجتهادهم في توقِّي ذلك، ولكنَّ أمر الله غالب، وقدرته تنقاد لها عناصر العالم العلوي والسفلي. ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 27.

ومن تمام عزته وقدرته وشمولهما أنه كما أنه هو الخالق للعباد فهو خالق أعمالهم وطاعتهم ومعاصيهم، وهي أيضاً أفعالهم، فهي تضاف إلى الله خلقاً وتقديراً، وتضاف إليهم فعلاً ومباشرة على الحقيقة، ولا منافاة بين الأمرين، فإنّ الله خالق قدرتهم وإرادتهم، وخالق السبب التامِّ خالق للمُسبِّب، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬1). ومن آثار قدرته ما ذكره في كتابه من نصره أولياءه، على قلَّة عددهم وعُددهم على أعدائهم الذين فاقوهم بكثرة العَدد والعُدّة، قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬2). ومن آثار قدرته ورحمته ما يُحدِثُه لأهل النار وأهل الجنة من أنواع العقاب وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع الذي لا ينقطع ولا يتناهى (¬3). فبقدرته أَوْجَد ¬

_ (¬1) سورة الصافات، الآية: 96. (¬2) سورة البقرة، الآية: 249. (¬3) الحق الواضح المبين، ص45 - 46،وانظر شرح النونية للهراس،2/ 78،وتفسير السعدي،5/ 624.

22 - الغني

الموجودات، وبقدرته دبّرها، وبقدرته سوّاها وأحكمها، وبقدرته يُحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وبقدرته يُقَلِّبُ القلوب ويُصرِّفها على ما يشاء الذي إذا أراد شيئاً قال له: {كُن فَيَكُونُ} (¬1). قال الله تعالى: {أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). 22 - الغَنِيُّ قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (¬3). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬4). فهو تعالى (الغني) الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه لكماله وكمال صفاته التي لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن ¬

_ (¬1) تفسير العلامة السعدي، 5/ 624، والآية من سورة يس: 82. (¬2) سورة البقرة، الآية: 148. (¬3) سورة النجم، الآية: 48. (¬4) سورة فاطر، الآية: 15.

يكون إلا غنياً، فإنّ غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا محسناً، جواداً، براً، رحيماً كريماً، والمخلوقات بأسرها لا تستغني عنه في حال من أحوالها، فهي مفتقرة إليه في إيجادها، وفي بقائها، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه، ومن سعة غناه أن خزائن السموات والأرض والرحمة بيده، وأن جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات والأوقات، وأن يده سحَّاء اللَّيل والنَّهار، وخيره على الخلق مدرار. ومن كمال غناه وكرمه أنّه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه وما لم يسألوه، ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاً منهم ما سأله وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرّة. ومن كمال غناه وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم واللَّذَّات المتتابعات، والخيرات

23 - الحكيم

المتواصلات، مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبةً، ولا ولداً، ولا شريكاً في الملك، ولا وليّاً من الذُّلِّ، فهو الغني الذي كَمُلَ بنعوته وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته (¬1). والخلاصة أن الله الغني الذي له الغنى التام المطلق من كل الوجوه، وهو المغني لجميع خلقه، غنىً عاماً، والمغني لخواص خلقه، بما أفاض على قلوبهم، من المعارف الربانية، والحقائق الإيمانيَّة (¬2). 23 - الحَكِيمُ قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬3). وهو تعالى ((الحكيم)) الموصوف بكمال الحكمة وبكمال الحكم بين المخلوقات، فالحكيم هو واسع العلم ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص47 - 48، وشرح النونية للهراس، 2/ 78. (¬2) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 629. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 18.

والاطّلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة، فهو الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلْقه وأمره، فلا يتوجَّه إليه سؤال، ولا يقدح في حكمته مقال. وحكمته نوعان: النوع الأول: الحكمة في خلقه؛ فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتَّبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللَّائق به، بل أعطى كلَّ جزء من أجزاء المخلوقات وكلَّ عضو من أعضاء الحيوانات خِلْقَتِهِ وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصاً، ولا فطوراً، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا، وأنّى لهم القدرة على شيء من ذلك، وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيراً من حكمه،

ويُطَّلعوا على بعض ما فيها من الحسن والإتقان. وهذا أمر معلوم قطعاً بما يُعلم من عظمته وكمال صفاته، وتَتَبُّع حكمه في الخلق والأمر، وقد تحدَّى عباده وأمرهم أن ينظروا ويكرّروا النظر والتّأمُّلَ هل يجدون في خلقه خللاً أو نقصاً، وأنه لابد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته. النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، فأي حكمة أجلّ من هذا؟ وأيّ فضل وكرم أعظم من هذا، فإنّ معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحمده، وشُكْره والثَّناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، وأجلّ الفضائل لمن يمنّ الله عليه بها. وأكمل سعادة وسرور للقلوب والأرواح، كما أنها هي السَّبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبديّة، والنعيم الدائم، فلو لم يكن في أمره وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل

الخيرات، وأكمل اللذَّات، ولأجلها خُلِقَتِ الخليقة، وحُقَّ الجزاء، وخُلِقَتِ الجنة والنار، لكانت كافية شافية. هذا وقد اشتمل شرعه ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علماً، ويقيناً، وإيماناً، وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل وعمل صالح وهدى ورشد. وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصَّلاح والإصلاح للدِّين والدنيا؛ فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما مضرّته خالصة أو راجحة. ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما أنه هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقيّاً إلا بالدِّين الحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مُشاهد محسوس لكل عاقل، فإنّ أُمّة محمد لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع

ما يهدي ويرشد إليه، كانت أحوالهم في غاية الاستقامة والصلاح، ولمّا انحرفوا عنه وتركوا كثيراً من هُداه، ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية، انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم. وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة، والمدنيّة مبلغاً هائلاً، ولكن لمّا كانت خالية من روح الدين ورحمته وعدله، كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكبر من خيرها، وعجز علماؤها وحكماؤها وساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ما داموا على حالهم؛ ولهذا كان من حكمته تعالى أنّ ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه وصدق ما جاء به؛ لكونه محكماً كاملاً لا يحصل إلا به. وبالجملة فالحكيم متعلقاته المخلوقات والشرائع، وكلها في غاية الإحكام، فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية، والفرق بين

24 - الحليم

أحكام القدر وأحكام الشرع أن القدر متعلّق بما أوجده وكوّنه وقدّره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأْ لم يَكُنْ، وأحكام الشرع متعلقة بما شرعه، والعبد المربوب لا يخلو منهما أو من أحدهما، فمن فعل منهم ما يحبّه الله ويرضاه فقد اجتمع فيه الحكمان، ومن فعل ما يضادّ ذلك فقد وجد فيه الحكم القدري؛ فإنّ ما فعله واقع بقضاء الله وقدره ولم يوجد في الحكم الشرعي؛ لكونه ترك ما يحبه الله ويرضاه. فالخير، والشر والطاعات، والمعاصي كلّها متعلقة وتابعة للحكم القدري، وما يحبه الله منها هو تابع الحكم الشرعي ومتعلّقه. والله أعلم (¬1). 24 - الْحَلِيمُ قال الله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬2). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص48 - 54،وانظر: شرح النونية للهراس،2/ 80،وتفسير السعدي،5/ 621، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، لأحمد بن إبراهيم بن عيسى، 2/ 226. (¬2) سورة البقرة، الآية: 235.

الذي يَدِرُّ على خلقه، النِّعم الظاهرة والباطنة، مع معاصيهم وكثرة زلاَّتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم. ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي يُنيبوا (¬1). وهو الذي له الحلم الكامل الذي وسع أهل الكفر والفسوق، والعصيان حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم؛ فإن الذنوب تقتضي تَرتُّبِ آثارها عليها من العقوبات العاجلة المتنوعة، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم (¬2) كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (¬3)، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ ¬

_ (¬1) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 630. (¬2) شرح النونية للهراس، 2/ 86. (¬3) سورة فاطر، الآية: 45.

25 - العفو

يَسْتَقْدِمُونَ} (¬1). 25 - العَفُوُّ، 26 - الغَفُورُ، 27 - الغَفَّارُ قال الله تعالى: {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (¬2). الذي لم يزل، ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصَّفح عن عباده، موصوفاً. كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه. وقد وعد بالمغفرة والعفو، لمن أتى بأسبابها، قال تعالى (¬3): {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬4). والعَفُوُّ: هو الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب، ولا سيِّما إذا أَتَوْا لما يسبب العفو عنهم من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 61. (¬2) سورة الحج، الآية: 60. (¬3) تفسير السعدي، 5/ 623. وانظر أيضاً: الحق الواضح المبين، ص56. (¬4) سورة طه، الآية: 82.

الصالحة فهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو عفوٌ يُحبُّ العفو ويحب من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه: من السَّعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع، غفر له جميع جُرْمِه: صغيره، وكبيره، وأنَّهُ جعل الإسلام يجُبُّ ما قبله، والتوبة تجبُّ ما قبلها (¬1)، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2)، وفي الحديث ((إن الله يقول: ((يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) (¬3)، وقال تعالى: {إنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ} (¬4)، وقد ¬

_ (¬1) شرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 86، والحق الواضح المبين، ص56. (¬2) سورة الزمر، الآية: 53. (¬3) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب خلق الله مائة رحمة، برقم 3540، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 5/ 548 .. (¬4) سورة النجم، الآية: 32.

28 - التواب

فتح الله - عز وجل - الأسباب لنيل مغفرته بالتوبة، والاستغفار، والإيمان، والعمل الصالح، والإحسان إلى عباد الله، والعفو عنهم، وقوة الطمع في فضل الله، وحسن الظن بالله، وغير ذلك مما جعله الله مُقرِّباً لمغفرته (¬1). 28 - التَّوَّابُ قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2). ((التَّوَّابُ)) الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تاب إلى الله توبة نصوحاً، تاب الله عليه. فهو التائب على التائبين: أولاً بتوفيقهم للتوبة والإقبال بقلوبهم إليه. وهو التائب عليهم بعد توبتهم، قبولاً لها، وعفواً عن خطاياهم (¬3). وعلى هذا تكون توبته على عبده نوعين: ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص73 - 74. (¬2) سورة التوبة، الآية: 104. (¬3) تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 623.

29 - الرقيب

أحدهما: يُوقع في قلب عبده التوبة إليه والإنابة إليه، فيقوم بالتوبة وشروطها من الإقلاع عن المعاصي، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها. واستبدالها بعمل صالح. والثاني: توبته على عبده بقبولها وإجابتها ومحو الذنوب بها؛ فإن التوبة النصوح تجبّ ما قبلها (¬1). قال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (¬2). 29 - الرَّقيبُ الرقيب: المطَّلِعُ على ما أكنَّته الصُّدور، القائم على كل نفس بما كسبت. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). والرَّقيب: هو سبحانه الذي حفظ المخلوقات ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص74. (¬2) سورة النصر، الآية: 3. (¬3) سورة النساء، الآية: 1.

30 - الشهيد

وأجراها، على أحسن نظامٍ، وأكمل تدبير (¬1). 30 - الشَّهيدُ الشهيد: أي المُطَّلع على جميع الأشياء. سمع جميع الأصوات، خفيّها وجليّها. وأبصر جميع الموجودات، دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، الذي شهد لعباده، وعلى عباده، بما عملوه (¬2). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: ((الرقيب)) و ((الشهيد)) مترادفان، وكلاهما يدلُّ على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمِه بجميع المعلومات الجليّة والخفيّة، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3)، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬4). ولهذا ¬

_ (¬1) تفسير السعدي، 5/ 623. (¬2) المرجع السابق، 5/ 628،وانظر: شرح اسم (الشهيد) و (المؤمن) في مدارج السالكين، 3/ 466. (¬3) سورة النساء، الآية: 1. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 6.

31 - الحفيظ

كانت المراقبة التي هي من أعلى أعمال القلوب هي التعبّد لله باسمه الرقيب الشهيد، فمتى علم العبد أن حركاته الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها، واستحضر هذا العلم في كل أحواله، أوجب له ذلك حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه الله، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط الله، وتعبّد بمقام الإحسان فعَبَدَ اللَّهَ كأنَّهُ يَرَاهُ، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه (¬1). فإذا كان الله رقيباً على دقائق الخفيَّات، مطَّلعاً على السرائر والنيَّات، كان من باب أولى شهيداً على الظواهر والجليَّات. وهي الأفعال التي تُفْعَل بالأركان: أي الجوارح (¬2). 31 - الحَفِيظُ قال الله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (¬3) ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص58 - 59. (¬2) شرح القصيدة النونية للهراس، 2/ 88. (¬3) سورة هود، الآية: 57.

((للحفيظ)) معنيان: المعنى الأول: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير وشر وطاعة ومعصية؛ فإنَّ علمه محيط بجميع أعمالهم: ظاهرها وباطنها، وقد كتب ذلك في اللَّوح المحفوظ، ووكَّل بالعباد ملائكة كِراماً كاتبين ((يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)) (¬1)، فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله بأحوال العباد كلها ظاهرها وباطنها وكتابتها في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها، ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله وعدله. والمعنى الثاني: من معنيي ((الحفيظ)) أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون، وحفظه لخلقه نوعان: عام، وخاص. النوع الأول: حفظه العام لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظه بنيتها، وتمشي إلى هدايته وإلى مصالحها ¬

_ (¬1) سورة الانفطار، الآية: 12.

بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1)، أي هدى كل مخلوق إلى ما قدّر له، وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل والمشرب والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره والمضارّ، وهذا يشترك فيه البَرُّ والفاجر، بل الحيوانات وغيرها، فهو الذي يحفظ السموات والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكّل بالآدمي حفظةً من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر الله، أي يدفعون عنه كل ما يضرّه مما هو بصدد أن يضرّه لولا حفظ الله. والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، يحفظهم عما يضرّ إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشُّبَهِ والفتن والشهوات، فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامةٍ، وحفظٍ، وعافيةٍ، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس، فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 50.

32 - اللطيف

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1)، وهذا عام في دفع جميع ما يضرّهم في دينهم ودنياهم، فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه، وفي الحديث: ((احفظ الله يحفظك)) (¬2)، أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعدّيها، يحفظك: في نفسك، ودينك، ومالك، وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله (¬3). 32 - اللَّطِيفُ قال الله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيز} (¬4)، وقال تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 38. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب 59، برقم 2516، والحاكم، 3/ 541، وقال: ((هذا حديث كبير عال)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 7957. (¬3) الحق الواضح المبين، ص60 - 61. (¬4) سورة الشورى، الآية: 19. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 103.

((اللطيف)) من أسمائه الحسنى، وهو الذي يلطف بعبده في أموره الداخلية المتعلقة بنفسه، ويلطف بعبده في الأمور الخارجية عنه، فيسوقه ويسوق إليه ما به صلاحه من حيث لا يشعر. وهذا من آثار: علمه، وكرمه، ورحمته؛ فلهذا كان معنى اللطيف نوعين: النوع الأول: أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا، ومكنونات الصدور، ومغيبات الأمور، وما لطف ودقَّ من كل شيء. النوع الثاني: لطفه بعبده ووليِّه الذي يريد أن يُتمَّ عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويُرقِّيه إلى المنازل العالية فييسّره لليُسرى ويجنِّبه العُسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه، وهي عين صلاحه والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله، وكما ذكر الله عن يوسف - صلى الله عليه وسلم - وكيف ترقَّت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدّره عليه من تلك الأحوال التي حصل له في عاقبتها حسن العُقبى في الدنيا

والآخرة، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه؛ ليُنيلهم ما يُحبِّون. فكم لله من لُطْفٍ وكرمٍ لا تدركه الأفهام، ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية، أو رياسة، أو سبب من الأسباب المحبوبة، فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئَلاَّ تضره في دينه، فيظل العبدُ حزيناً من جهله وعدم معرفته بربِّه، ولو علم ما ادُّخِرَ له في الغيب وأُريد إصلاحه فيه لحمد الله وشكره على ذلك؛ فإنّ الله بعباده رؤوفٌ رحيم لطيف بأوليائه، وفي الدعاء المأثور (¬1): ((اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أُحبُّ فاجعله فراغاً لي فيما تُحبُّ)) (¬2). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص61 - 62، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 91، وتوضيح المقاصد، 2/ 228. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب 73، برقم 4391، وحسنه، وقال عبد القادر الأرنؤوط: ((وهو كما قال)). انظر: جامع الأصول، 4/ 341، بينما ضعّف الحديث الشيخ الألباني في ضعيف الجامع، برقم 1172.

33 - القريب

33 - القَرِيبُ قال الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (¬1). من أسماء الله تعالى: ((القريب))، وقربه نوعان: النوع الأول: قربٌ عام: وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو بمعنى المعيَّة العامة. النوع الثاني: وقرب خاص: بالداعين، والعابدين المحبين، وهو قرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول والإثابة للعابدين (¬2). قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬3). وإذا فُهِمَ القرب بهذا المعنى في العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلاً بينه وبين ما هو معلوم من ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 61. (¬2) الحق الواضح المبين، ص64، وشرح النونية للهراس، 2/ 92. (¬3) سورة البقرة، الآية: 186.

34 - المجيب

وجوده تعالى فوق عرشه، فسبحان من هو عليٌّ في دُنوِّه، قريب في عُلوِّه)) (¬1). 34 - المُجِيبُ من أسماء الله تعالى ((المجيب)) لدعوة الداعين وسؤال السائلين، وعبادة المستجيبين، وإجابته نوعان: النوع الأول: إجابة عامة لكل من دعاه: دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2)، فدعاء المسألة أن يقول العبد: اللهمّ أعطني كذا، أو اللهم ادفع عني كذا، فهذا يقع من البرّ والفاجر، ويستجيب الله فيه لكل من دعاه بحسب الحال المقتضية، وبحسب ما تقتضيه حكمته. وهذا يستدلّ به على كرم المولى وشمول إحسانه للبرّ والفاجر، ولا يدلّ بمجرّده على حسن حال الداعي الذي أجيبت دعوته إنْ لم يقترن بذلك ما يدلّ عليه وعلى صدقه وتعيّن الحق معه، كسؤال ¬

_ (¬1) شرح النونية للهراس، 2/ 92، وتوضيح المقاصد، 2/ 229. (¬2) سورة غافر، الآية: 60.

الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم فيُجيبهم الله؛ فإنه يدلّ على صدقهم فيما أخبروا به، وكرامتهم على ربهم؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يدعو بدعاء يشاهد المسلمون وغيرهم إجابته، وذلك من دلائل نبوّته وآيات صدقه، وكذلك ما يذكرونه عن كثير من أولياء الله من إجابة الدعوات؛ فإنه من أدلة كراماتهم على الله. النوع الثاني: أما الإجابة الخاصة فلها أسباب عديدة، منها دعوة المضطرِّ الذي وقع في شدّةٍ وكُربةٍ عظيمة؛ فإنَّ الله يُجيب دعوته، قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (¬1)، وسبب ذلك شدَّةُ الافتقار إلى الله، وقوَّة الانكسار وانقطاع تعلّقه بالمخلوقين؛ ولسعة رحمة الله التي يشمل بها الخلق بحسب حاجتهم إليها، فكيف بمن اضطر إليها، ومن أسباب الإجابة طول السفر، والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته ونعمه، وكذلك دعوة المريض، والمظلوم، والصائم، ¬

_ (¬1) سورة النمل، الآية: 62.

35 - الودود

والوالد على ولده أو له، وفي الأوقات والأحوال الشريفة (¬1) مثل أدبار الصلوات، وأوقات السحر، وبين الأذان والإقامة، وعند النداء، ونزول المطر واشتداد البأس، ونحو ذلك (¬2). {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (¬3). 35 - الوَدُودُ قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (¬4). وقال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (¬5)، والودّ مأخوذ من الوُدّ بضم الواو بمعنى خالص المحبة، فالودود هو المحب المحبوب بمعنى وادّ مودود، فهو الواد لأنبيائه، وملائكته، وعباده المؤمنين، وهو المحبوب لهم، بل لا شيء أحب إليهم منه، ولا تعادل محبة الله من أصفيائه محبة أخرى، لا في أصلها، ولا في كيفيتها، ولا في ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص65 - 66، وشرح النونية للهراس، 2/ 93. (¬2) شرح النونية للهراس، 2/ 93 - 49، وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 229. (¬3) سورة هود، الآية: 61. (¬4) سورة هود، الآية: 90. (¬5) سورة البروج، الآية: 14.

متعلّقاتها، وهذا هو الفرض والواجب أن تكون محبة الله في قلب العبد سابقة لكل محبة، غالبة لكل محبة، ويتعيّن أن تكون بقية المحابّ تبعاً لها. ومحبة الله هي روح الأعمال، وجميع العبودية الظاهرة والباطنة ناشئة عن محبة الله. ومحبة العبد لربه فضلٌ من الله وإحسان، ليست بحول العبد ولا قوته، فهو تعالى الذي أحب عبده فجعل المحبة في قلبه، ثم لمّا أحبه العبد بتوفيقه جازاه الله بِحُبٍّ آخر، فهذا هو الإحسان المحض على الحقيقة، إذ منه السبب ومنه المسبِّب، ليس المقصود منها المعاوضة، وإنما ذلك محبة منه تعالى للشاكرين من عباده ولشكرهم، فالمصلحة كلها عائدة إلى العبد، فتبارك الذي جعل وأودع المحبة في قلوب المؤمنين، ثم لم يزل يُنميها ويُقويها حتى وصلت في قلوب الأصفياء إلى حالة تتضاءل عندها جميع المحابّ، وتُسلِّيهم عن الأحباب، وتُهوِّن عليهم المصائب، وتُلَذِّذُ لهم مشقّة الطاعات، وتثمر لهم ما

36 - الشاكر

يشاءون من أصناف الكرامات التي أعلاها محبة الله والفوز برضاه والأنس بقربه. فمحبة العبد لربه محفوفة بمحبتين من ربه: فمحبة قبلها صار بها محباً لربه، ومحبة بعدها شكراً من الله على محبة صار بها من أصفيائه المخلصين. وأعظم سبب يكتسب به العبد محبّة ربه التي هي أعظم المطالب، الإكثار من ذكره والثناء عليه، وكثرة الإنابة إليه، وقوة التوكّل عليه، والتقرب إليه بالفرائض والنوافل، وتحقيق الإخلاص له في الأقوال والأفعال، ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً (¬1) كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2). 36 - الشَّاكِرُ، 37 - الشَّكُورُ قال الله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص69 - 70،وشرح النونية للهراس،2/ 96،وتوضيح المقاصد، 2/ 230. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 31.

عَلِيمٌ} (¬1)، وقال تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (¬2)، {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (¬3). من أسمائه تعالى: ((الشاكرُ الشَّكور)) الذي لا يضيع سعي العاملين لوجهه بل يضاعفه أضعافاً مضاعفة؛ فإن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً، وقد أخبر في كتابه وسنّة نبيِّه بمضاعفة الحسنات الواحدة بعشر إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وذلك من شكره لعباده، فبعينه ما يحتمل المتحمّلون لأجله ومن فعل لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن ترك شيئاً لأجله عوّضه خيراً منه، وهو الذي وفّق المؤمنين لمرضاته ثم شكرهم على ذلك وأعطاهم من كراماته، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكل هذا ليس حقاً واجباً عليه، وإنّما هو ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 158. (¬2) سورة التغابن، الآية: 17. (¬3) سورة النساء، الآية: 147.

الذي أوجبه على نفسه جوداً منه وكرماً (¬1). وليس فوقه سبحانه من يوجب عليه شيئاً، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2)،فلا يجب عليه سبحانه إثابة المطيع، ولا عقاب العاصي، بل الثواب محض فضله وإحسانه، والعقاب محض عدله وحكمته؛ ولكنه سبحانه الذي أوجب على نفسه ما يشاء فيصير واجباً عليه بمقتضى وعده الذي لا يخلف كما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬3)، وكما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، ومذهب أهل السنة أنه ليس للعباد حق واجب على الله، وأنه مهما يكن من حق فهو الذي أحقه، وأوجبه ولذلك لا يضيع عنده عملٌ قام على الإخلاص والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهما الشرطان ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص70. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 23. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 54. (¬4) سورة الروم، الآية: 47.

38 - السيد

الأساسيان لقبول الأعمال (¬1). فما أصاب العباد من النعم ودفع النقم، فإنه من الله تعالى فضلاً منه وكرماً، وإن نعّمهم فبفضله وإحسانه، وإن عذّبهم فبعدله وحكمته، وهو المحمود على جميع ذلك (¬2). 38 - السَّيِّدُ، 39 - الصَّمَدُ قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((السَّيِّدُ الله تبارك وتعالى)) (¬4) و ((السيد)) يطلق على الرّب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، والرئيس، والزوج، ومُتَحَمِّل أذى قومه، والله - عز وجل - هو السيد الذي يملك نواصي الخلق ¬

_ (¬1) شرح النونية للهراس، 2/ 98، وانظر: توضيح المقاصد وتصحيح القواعد، 2/ 231. (¬2) الحق الواضح المبين، ص72. (¬3) سورة الإخلاص، الآيتان: 1 - 2. (¬4) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، برقم 4806، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 387، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 245، وأحمد، 4/ 24، 25، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3700، وإسناده صحيح، وانظر: فتح المجيد، ص613، بتحقيق الأرنؤوط.

ويتولاهم، فالسؤدد كله حقيقة لله والخلق كلهم عبيده. وهذا لا يُنافي السِّيادة الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية، فسيادة الخالق تبارك وتعالى ليست كسيادة المخلوق الضعيف (¬1). ((الصمدُ)) المعنى الجامع الذي يدخل فيه كل ما فسّر به هذا الاسم الكريم، فهو الصمد الذي تَصْمُدُ إليه أي تقصده جميع المخلوقات بالذلّ والحاجة والافتقار، ويفزع إليه العالم بأسره، وهو الذي قد كَمُلَ في علمه، وحكمته، وحلمه، وقدرته، وعظمته، ورحمته، وسائر أوصافه، فالصمد هو كامل الصفات، وهو الذي تقصده المخلوقات في كل الحاجات (¬2). فهو السيد الذي قد كُمل في سؤدده، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغني الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كَمُلَ في ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير،2/ 418،وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/ 161. (¬2) الحق الواضح المبين، ص75.

40 - القاهر

جبروته، والشريف الذي قد كمُلَ في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله - عز وجل - هذه صفته لا تنبغي إلا له، وليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار (¬1). 40 - القَاهِرُ، 41 - القَهَّارُ قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬2). وقال تعالى: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬4). وهو الذي قهر جميع الكائنات، وذلّت له جميع المخلوقات، ودانت لقدرته ومشيئته مواد وعناصر العالَم العلوي والسفلي، فلا يحدث حادث ولا يسكن ¬

_ (¬1) شرح نونية ابن القيم للهراس،2/ 100،وتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد،2/ 232. (¬2) سورة الرعد آية 16. (¬3) سورة غافر، الآية: 16. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 18.

42 - الجبار

ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وجميع الخلق فقراء إلى الله عاجزون، لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، ولا خيراً ولا شراً، وقهره مستلزم: لحياته، وعزته، وقدرته، فلا يتم قهره للخليقة إلا بتمام حياته وقوة عزّته واقتداره (¬1). إذ لولا هذه الأوصاف الثلاثة لا يتم له قهر ولا سلطان (¬2). 42 - الجَبَّارُ قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} (¬3). للجبار من أسمائه الحسنى ثلاثة معانٍ كلها داخلة باسمه ((الجبار)): 1 - المعنى الأول: أنه الذي يجبر الضعيف وكل قلب ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص76. (¬2) شرح النونية للهراس، 2/ 101. (¬3) سورة الحشر، الآية: 23.

منكسر لأجله، فيجبر الكسير، ويُغني الفقير، ويُيسّر على المعسر كل عسير، ويجبر المصاب بتوفيقه للثبات والصبر، ويعوِّضُهُ على مصابه أعظم الأجر إذا قام بواجبها، ويجبر جبراً خاصاً قُلوبَ الخاضعينَ لعظمته وجلاله، وقلوب المحبين بما يفيض عليها من أنواع كراماته، وأصناف المعارف والأحوال الإيمانية، فقلوب المنكسرين لأجله جبرها دان قريب وإذا دعا الداعي، فقال: ((اللهم أجبرني)) فإنه يريد هذا الجبر الذي حقيقته إصلاح العبد ودفع جميع المكاره عنه. 2 - والمعنى الثاني: أنه القهَّار لكل شيء، الذي دان له كلُّ شيء، وخضع له كلُّ شيء. 3 - والمعنى الثالث: أنَّهُ العليُّ على كل شيء. فصار الجبار مُتضمناً لمعنى الرؤوف القهَّار العليّ. 4 - وقد يُرادُ به معنى رابع وهو المتكبر عن كل سوء ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له كفؤ أو ضد

43 - الحسيب

أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه (¬1). 43 - الحَسِيبُ قال الله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (¬2)، وقال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (¬3)، والحسيبُ: 1 - هو الكافي للعباد جميع ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم من حصول المنافع ودفع المضارّ. 2 - والحسيب بالمعنى الأخصّ هو الكافي لعبده المتَّقي المتوكِّل عليه كفاية خاصة يصلح بها دينه ودنياه. 3 - والحسيب أيضاً هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشرٍّ ويحاسبهم، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4)، أي كافيك وكافي أتباعك. فكفاية الله لعبده ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص77، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 102، وتوضيح المقاصد، 2/ 233. (¬2) سورة النساء، الآية: 6. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 62. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 64.

44 - الهادي

بحسب ما قام به من متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية الله تعالى (¬1). 44 - الْهَادِي قال الله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬2). وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3). [الهادي] أي: الذين يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع، وإلى دفع المضار، ويُعلِّمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويُلْهِمُهُم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة إليه، منقادة لأمره (¬4). والهداية: هي دلالةٌ بلُطفٍ، وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه (¬5): الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مُكلفٍ من العقل، ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص78، وشرح النونية للهراس، 2/ 103. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 31. (¬3) سورة الحج، الآية: 54. (¬4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 631. (¬5) بدائع الفوائد، 2/ 36 - 38.

والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعمّ منها كل شيءٍ بقدرٍ فيه حسْبَ احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1). الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬2). الثالث: التوفيق الذي يختصُّ به من اهتدى وهو المعْنيُّ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (¬3)، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬4)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (¬5)، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ... } (¬6). ¬

_ (¬1) سورة طه، الآية: 50. (¬2) سورة السجدة، الآية: 24. (¬3) سورة محمد، الآية: 17. (¬4) سورة التغابن، الآية: 11. (¬5) سورة يونس، الآية: 9. (¬6) سورة العنكبوت، الاية: 69

الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيُّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (¬1) ... وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬2)،وهذه الهداياتُ الأربع مترتِّبةٌ، فإنّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية، بل لا يصحُّ تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها، ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله. ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني، ولا يحصل الثالث، والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الأول أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3)، {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬4)، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬5)، أي داع. وإلى ¬

_ (¬1) سورة محمد، الآية: 5. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 43. (¬3) سورة الشورى، الآية: 52. (¬4) سورة السجدة، الآية: 24. (¬5) سورة الرعد، الآية: 7.

سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1). فهو الذي قوله رشد، وفعله كله رشد، وهو مرشد الحيران الضّال فيهديه إلى الصراط المستقيم بياناً، وتعليماً، وتوفيقاً، فأقواله القدرية التي يُوجد بها الأشياء ويُدبر بها الأمور، كلُّها حقٌّ لاشتمالها على الحكمة والحسن والإتقان، وأقواله الشرعية الدينية هي أقواله التي تكلّم بها في كتبه، وعلى ألسنة رسله المشتملة على الصدق التام في الإخبار، والعدل الكامل في الأمر والنهي، فإنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أحسن منه حديثاً: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} (¬2) في الأمر والنهي، وهي أعظم وأجلّ ما يرشد بها العباد، بل لا حصول إلى الرشاد بغيرها، فمن ابتغى الهدى من غيرها أضله الله، ومن لم يسترشد بها فليس برشيد، فيحصل بها الرشد العلمي وهو بيان الحقائق، والأصول، والفروع، والمصالح والمضار الدينية والدنيوية، ويحصل بها الرشد ¬

_ (¬1) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني، ص538، والآية من سورة القصص: 56. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 115.

العملي؛ فإنها تُزكي النفوس، وتطهر القلوب، وتدعو إلى أصلح الأعمال وأحسن الأخلاق، وتحثّ على كُل جميل، وتُرهِّب عن كل ذميم رذيل، فمن استرشد بها فهو المهتدي، ومن لم يسترشد بها فهو ضال، ولم يجعل لأحد عليه حجة بعد بعثته للرسل، وإنزاله الكتب المشتملة على الهدى المطلق، فكم هَدَى بفضله ضالاً وأرشد حائراً، وخصوصاً مَنْ تعلَّق به وطلب منه الهدى من صميم قلبه، وعلم أنّه المنفرد بالهداية (¬1). وكل هداية ذكر الله - عز وجل - أنّه منع الظالمين والكافرين فهي: الهداية الثالثة [وهي هداية التوفيق والإلهام] الذي يختص به المهتدون، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة كقوله - عز وجل -: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2)، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬3). وكل هداية نفاها الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن البشر فهي ما ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص78 - 79، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 103. (¬2) سورة البقرة، الآية: 258. (¬3) سورة البقرة، الآية: 264.

45 - الحكم

عدا المختص من الدعاء وتعريف الطريق، وذلك كإعطاء العقل، والتوفيق، وإدخال الجنة كقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (¬1)، فأسال الله أن يهدينا لما يحبه ويرضاه وهو المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلى بالله (¬2). 45 - الحَكَمُ قال الله تعالى: {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (¬3)، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} (¬4) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (¬5)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله هو الحكمُ وإليه الحكم)) (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 272. (¬2) المفردات في غريب القرآن للأصفهاني، ص539 بتصرف يسير. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 87. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 115. (¬5) سورة النحل، الآية: 90. (¬6) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في تغيير الاسم القبيح، برقم 4955، والنسائي في كتاب آداب القضاة، باب إذا حكَّموا رجلاً فقضى بينهم، برقم 5384، والحاكم، 1/ 23، والطبراني في الكبير، 22/ 179، 180، ورقم 466، 470، وابن حبان كما في الموارد، 6/ 214، برقم 1937، وإسناده جيد. انظر: فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد، لابن عبد الوهاب، بتحقيق عبد القادر الأرنؤوط، ص517. وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1845.

وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} (¬1) الآية. والله سبحانه هو الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يحمّل أحداً وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها. فلا يدع صاحب حق إلا وصَّل إليه حقه. وهو العدل في تدبيره وتقديره (¬2)، وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله، وأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة، ليس فيها شائبة جور أصلاً، فهي كلها بين الفضل والرحمة، وبين العدل والحكمة كما قدمنا. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 114. (¬2) تفسير العلامة السعدي، 5/ 627.

وما ينزله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا، وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة فإنما فعل بهم ما يستحقونه، فإنه لا يأخذ إلا بذنب، ولا يعذب إلا بعد إقامة الحجة، وأقواله كلها عدل، فهو لا يأمرهم إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة، وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء، ووزنه لأعمالهم عدلٌ لا جور فيه (¬1)،كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2). وهو سبحانه ((الحكم)) بالعدل في وصفه وفي فعله وفي قوله وفي حكمه بالقسط. وهذا معنى قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬3)؛ فإنّ أقواله صدق، وأفعاله دائرة بين العدل والفضل، فهي كلها أفعال رشيدة، وحكمه بين ¬

_ (¬1) شرح النونية للهراس، 2/ 104. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 47. (¬3) سورة هود، الآية: 56.

46 - القدوس

عباده فيما اختلفوا فيه أحكام عادلة لا ظلم فيها بوجهٍ من الوجوه، وكذلك أحكام الجزاء والثواب والعقاب (¬1). 46 - القُدُّوسُ، 47 - السَّلامُ قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} الآية (¬2). ((القدوس السلام)) معناهما متقاربان؛ فإن القدوس مأخوذ من قدّس بمعنى: نزّهه وأبعده عن السوء مع الإجلال، والتعظيم، والسلام مأخوذ من السلامة. فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه، ومن النقص، ومن كل ما ينافي كماله (¬3). فهو الْمُقَدَّسُ الْمُعَظَّمُ الْمُنَزَّهُ عن كل سوء، السالم من مماثلة أحد من خلقه ومن النقصان، ومن كل ما ينافي كماله. فهذا ضابط ما يُنَزّهُ عنه: يُنَزَّهُ عن كل نقص بوجه من الوجوه، ويُنَزَّهُ ويعظَّمُ أن يكون له مثيل، أو شبيه، أو ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص80. (¬2) سورة الحشر، الآية: 23. (¬3) شرح النونية للهراس، 2/ 105.

كفؤ، أو سمي، أو نِدٌّ، أو مُضَادٌّ، ويُنَزَّه عن نقص صفة من صفاته التي هي أكمل الصفات وأعظمها وأوسعها. ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له؛ فإنَّ التنزيه مُرَادٌ لغيره، ومقصودٌ به حفظ كماله عن الظنون السيئة. كظنّ الجاهلية الذين يظنون به ظنَّ السوء، ظنّاً غير ما يليق بجلاله، وإذا قال العبد مُثْنِياً على ربه: ((سبحان الله))، أو ((تقدّس الله))، أو ((تعالى الله)) ونحوها كان مُثْنِياً عليه بالسلامة من كل نقص وإثبات كل كمال (¬1). قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في اسم ((السلام)): [اللَّهُ] أحق بهذا الاسم من كل مسمىً له؛ لسلامته سبحانه من كل عيب ونقص من كل وجه، فهو السلام الحق بكل اعتبار، والمخلوق سلام بالإضافة، فهو سبحانه سلام في ذاته عن كل عيب ونقص يتخيله وَهْمٌ، وسلام في صفاته من كل عيب ونقص، وسلام في أفعاله ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص81 - 82.

من كل عيب ونقص وشر وظلم وفعل واقع على غير وجه الحكمة، بل هو السلام الحق من كل وجه وبكل اعتبار، فَعُلِمَ أن استحقاقه تعالى لهذا الاسم أكمل من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزّه به نفسه، ونزّهه به رسوله، فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من النظير والكفء والسمي والمماثل، والسلام من الشريك؛ ولذلك إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلاماً مما يضاد كما لها: فحياته سلام من الموت ومن السِّنةِ والنوم، وكذلك قيّوميّته وقدرته سلام من التعب واللغوب، وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان أو حاجة إلى تَذَكُّرٍ وتَفَكُّرٍ، وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، وكلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صدقاً وعدلاً، وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما، بل كل ما سواه محتاج إليه وهو غنى عن كل ما سواه، وملكه: سلام من منازع فيه، أو مشارك، أو معاون

مظاهر، أو شافع عنده بدون إذنه، وإلاهيته سلام من مشارك له فيها، بل هو الله الذي لا إله إلا هو، وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل أو مصانعة كما يكون من غيره، بل هو محض جوده وإحسانه وكرمه، وكذلك عذابه وانتقامه وشدة بطشه وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظُلْماً، أو تَشَفِيَّاً، أو غِلْظَةً، أو قَسْوةً، بل هو محضُ حِكْمته وعَدْلِهِ ووَضْعِه الأشياءَ مَوَاضِعَها، وهو مما يَستَحِقُّ عليهَ الحمدَ والثناءَ كما يَستحِقُّه عَلى إحسانِهِ، وثَوَابِهِ، ونِعَمِهِ، بلْ لوْ وُضعَ الثوابُ مَوْضِعَ العقوبةِ لكان مُناقِضَاً لحكمتِهِ ولِعِزَّتِهِ، فوضْعُه العقوبةَ موضِعَها هو من عَدْلِهِ، وحِكْمَتِه، وعِزَّتِهِ، فهو سَلامٌ مما يَتوَهَّم أعداؤه الجاهلون به من خِلافِ حكمتِهِ. وقضاؤه وقَدَره سلامٌ من العَبَثِ والجَورِ والظُّلْمِ، ومن تَوَهّم وقوعَه عَلى خِلافِ الحكمةِ البالغةِ. وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب

وخلاف مصلحة العباد ورحمتهم والإحسان إليهم وخلاف حكمته، بل شرعه كله حكمة، ورحمة، ومصلحة، وعدل، وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطى. ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة لا يشوبه بخل ولا عجز. واستواؤه وعلوّه على عرشه سلام من أن يكون مُحْتَاجاً إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه وحملته محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلوّ لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به - سبحانه وتعالى -، بل كان سبحانه ولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد، بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره بوجهٍ ما.

ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا سلام مما يُضادّ عُلوَّه، وسلام مما يضاد غناه. وكماله سلام من كل ما يَتوهّم مُعَطِّلٌ أو مُشَبِّهٌ، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصوراً في شيء، تعالى الله ربنا عن كل ما يُضادُّ كمالَه. وغناه وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيّله مُشَبِّه أو يتقوّله مُعَطِّل. وموالاته لأوليائه سلامٌ من أن تكون عن ذُلٍّ كما يوالي المخلوق المخلوق، بل هي موالاة رحمة، وخير، وإحسان، وبرّ كما قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا * وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (¬1)، فلم ينف أن يكون له وليّ مطلقاً، بل نفى أن يكون له وليٌّ من الذُّلِّ. وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه، أو تَمَلُّقٍ له، أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوّله المُعَطِّلون فيها. وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه، فإنّه ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 111.

48 - البر

سلام عما يتخيَّله مُشَبِّه أو يتقوَّله مُعَطِّل. فتأمل كيف تضمّن اسمه السلام كلّ ما نُزّه عنه تبارك وتعالى. وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعاني والله المستعان (¬1). 48 - البَرُّ، 49 - الوَهَّابُ قال الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (¬2)، وقال سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (¬3). من أسمائه تعالى: ((البرّ الوهّاب)) الذي شمل الكائنات بأسرها بِبِرِّهِ وهباته وكرمه، فهو مولى الجميل ودائم الإحسان وواسع المواهب، وصفُه البَرُّ وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة والباطنة، فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبِرِّه طرفة عين. ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله، 2/ 150 - 152، والطبعة المصرية، نشر مكتبة القاهرة، الطبعة التي طبعتها مكتبة الرياض الحديثة، 2/ 135 - 137 بتصرف يسير جداً. (¬2) سورة الطور، الآية: 28. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 8.

وإحسانه عام وخاص: 1 - فالعامّ المذكور في قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (¬1)، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3)، وهذا يشترك فيه البرُّ والفاجر وأهل السماء وأهل الأرض والمكلّفون وغيرهم. 2 - والخاصّ رحمته ونعمه على المتقين حيث قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} الآية (¬4)، وقال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5)، وفي دعاء سليمان: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬6)، وهذه الرحمة الخاصة التي يطلبها الأنبياء وأتباعهم، ¬

_ (¬1) سورة غافر، الآية: 7. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬3) سورة النحل، الآية: 53. (¬4) سورة الأعراف، الآيتان: 156 - 157. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬6) سورة النمل، الآية: 19.

تقتضي التوفيق للإيمان، والعلم، والعمل، وصلاح الأحوال كلها، والسعادة الأبدية، والفلاح، والنجاح، وهي المقصود الأعظم لخواص الخلق (¬1). وهو سبحانه المتصف بالجود: وهو كثرة الفضل والإحسان، وجوده تعالى أيضاً نوعان: النوع الأول: جودٌ مطلق عمَّ جميع الكائنات وملأها من فضله وكرمه ونعمه المتنوعة. النوع الثاني: وجودٌ خاص بالسائلين بلسان المقال أو لسان الحال من برٍّ وفاجرٍ ومسلمٍ وكافرٍ، فمن سأل الله أعطاه سؤله وأناله ما طلب، فإنه البرّ الرحيم: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ للَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (¬2). ومن جوده الواسع ما أعدَّه لأوليائه في دار النعيم مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (¬3). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص82 - 83، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 106. (¬2) سورة النحل، الآية: 53. (¬3) الحق الواضح المبين، ص66 - 67، وشرح النونية للهراس، 2/ 94.

50 - الرحمن

50 - الرَّحْمَنُ، 51 - الرَّحِيمُ، 52 - الكَرِيمُ، 53 - الأكْرَمُ، 54 - الرَّءُوفُ قال الله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (¬1). الآيات، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬2)، وقال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} (¬3). قال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: الرحمنُ، الرحيمُ، والبرُ، الكريمُ، الجوادُ، الرؤوفُ، الوهابُ - هذه الأسماء تتقارب معانيها، وتدلّ كلُّها على اتصاف الرب، بالرحمة، والبر، والجود، والكرم، وعلى سعة رحمته ومواهبه التي عمَّ بها جميع الوجود بحسب ما تقتضيه حكمته. وخصَّ المؤمنين منها، بالنصيب الأوفر، والحظ الأكمل، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (¬4) ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، الآيتان: 1 - 2. (¬2) سورة النمل، الآية: 40. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 30. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 156.

الآية. والنعم والإحسان، كله من آثار رحمته، وجوده، وكرمه. وخيرات الدنيا والآخرة، كلها من آثار رحمته (¬1). وقال ابن تيمية رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬2)، سمّى ووصف نفسه بالكرم، وبأنه الأكرم بعد إخباره أنه خلق ليتبين أنه ينعم على المخلوقين ويوصلهم إلى الغايات المحمودة كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (¬3)، {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬4)، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} (¬5)، فالخلق يتضمن الابتداء والكرم تضمن الانتهاء. كما قال في سورة الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}، ولفظ الكرم جامع للمحاسن والمحامد لا ¬

_ (¬1) تفسير العلامة السعدي، 5/ 621. (¬2) شورة العلق، الآيات: 3 - 5. (¬3) سورة الأعلى، الآيتان: 2 - 3. (¬4) سورة طه، الآية: 50. (¬5) سورة الشعراء، الآية: 78.

55 - الفتاح

يراد به مجرد الإعطاء بل الإعطاء من تمام معناه؛ فإن الإحسان إلى الغير تمام والمحاسن والكرم كثرة الخير ويسرته ... والله سبحانه أخبر أنه الأكرم بصيغة التفضيل والتعريف لها. فدل على أنه الأكرم وحده بخلاف ما لو قال: ((وربك الأكرم)) فإنه لا يدل على الحصر. وقوله: {الأَكْرَمُ} يدل على الحصر، ولم يقل: ((الأكرم من كذا)) بل أطلق الاسم، ليبين أنه الأكرم مطلقاً غير مقيّد، فدلّ على أنه متصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه ولا نقص فيه (¬1). 55 - الْفَتَّاحُ قال الله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (¬2). الفاتح: الحاكم، والفتاح من أبنية المبالغة. فالفتّاح هو الحكم المحسن الجواد، وفَتْحهُ تعالى قسمان: ¬

_ (¬1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 16/ 293 - 296 بتصرف يسير. (¬2) سورة سبأ، الآية: 26.

القسم الأول: فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي. القسم الثاني: الفتاح بحكمه القدري. ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على ألسنة رسله جميعَ ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم. وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم وبين أوليائه وأعدائه بإكرام الأنبياء وأتْباعِهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم. وكذلك فتحه يوم القيامة وحكمه بين الخلائق حين يوفّى كل عامل ما عمله. وأما فتحه القدَري فهو ما يُقَدِّرُه على عباده من خير وشر ونفع وضرّ وعطاء ومنع، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1)، فالربّ تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله (¬2). ¬

_ (¬1) سورة فاطر، الآية: 2. (¬2) الحق الواضح المبين، ص83، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 107.

56 - الرزاق

56 - الرَّزَّاقُ، 57 - الرَّازِقُ وهو مبالغة من: رازق للدلالة على الكثرة، والرزاق من أسمائه سبحانه. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} (¬1)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله هوَ المسَعِّرُ القابضُ الباسطُ الرَّازِقُ)) (¬3) ورزقه لعباده نوعان: عام، وخاص. 1 - فالعام إيصاله لجميع الخليقة جميع ما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهَّل لها الأرزاق، ودبّرها في أجسامها، وساقَ إلى كل عضوٍ صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبرِّ والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 58. (¬2) سورة هود، الآية: 6. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في التسعير، برقم 3451، والترمذي في كتاب البيوع، باب في التسعير، برقم 1314، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب من كره أن يسعر، برقم 2200، وأحمد في المسند، 3/ 156، وصححه الترمذي، وكذا الألباني في صحيح الجامع، برقم 1846.

وعام أيضاً من وجه آخر في حق المكلّفين؛ فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقاً ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال: ((رزقه الله)) سواء ارتزق من حلال أو حرام، وهو مطلق الرزق. 2 - وأما الرزق المطلق فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو نوعان: النوع الأول: رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألّهة لله متعبّدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. النوع الثاني: رزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه؛ فإنَّ الرزق الذي خصَّ به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى ((اللهم

58 - الحي

ارزقني)) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه (¬1). 58 - الْحَيُّ، 59 - الْقَيُّومُ قال الله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬2)، وقال سبحانه: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلمًا} (¬4)، الحيُّ القيُّوم من أسماء الله الحُسنى. و ((الحي القيوم)) جمعهما في غاية المناسبة كما جمعهما الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص85 - 86، وانظر شرح النونية للهراس، 2/ 108، وتوضيح المقاصد، 2/ 234. (¬2) سورة البقرة، الآية: 255. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 1 - 2. (¬4) سورة طه، الآية: 111.

60 - نور السموات والأرض

جميع الصفات الذاتية لله: كالعلم، والعزّة، والقدرة، والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من صفات الذات المقدسة، والقيّوم هو كامل القيّوميّة وله معنيان: المعنى الأول: هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى عن جميع مخلوقاته. المعنى الثاني: هو الذي قامت به الأرض والسموات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي أوجدها وأمدَّها وأعدَّها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغنيّ عنها من كل وجه وهي التي افتقرت إليه من كل وجه، فالحيُّ والقيُّوم من له صفة كل كمال وهو الفَعَّالُ لما يريد (¬1). 60 - نُورُ السَّمَوَاتِِِ وَالأَرْضِِ (¬2) قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص87 - 88، وانظر: شرح النونية للهراس، 2/ 109، وتوضيح المقاصد، 2/ 236. (¬2) انظر: فتاوى ابن تيمية، فقد تكلم كلاماً نفيساً في هذا، 6/ 382 - 396.

شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ... )) (¬2) الحديث. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفَعُهُ، يُرفَعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابُهُ النورُ لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُهُ من خلقه)) (¬3). قال العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: من أسمائه جلّ جلاله ومن أوصافه ((النور)) الذي هو وصفه العظيم، فإنه ذو الجلال والإكرام، وذو البهاء والسبحات الذي لو كشف الحجاب عن وجهه الكريم ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: 35. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل، برقم 6317، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 769. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا ينام، برقم 179.

لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهو الذي استنارت به العوالم كلها، فبنور وجهه أشرقت الظلمات، واستنار به العرش والكرسي والسبع الطباق وجميع الأكوان. والنور نوعان: 1 - حسيٌّ كهذه العوالم التي لم يحصل لها نور إلا من نوره. 2 - ونور معنوي يحصل في القلوب والأرواح بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله وسنة نبيّه. فعلم الكتاب والسُّنَّة والعمل بهما ينير القلوب والأسماع والأبصار، ويكون نوراً للعبد في الدنيا والآخرة: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (¬1)، لما ذكر أنه نور السموات والأرض، وسمّى الله كتابه نوراً، ورسوله نوراً، ووحيه نوراً ... ثم إن ابن القيم رحمه الله حذّر من اغترار من اغترّ من أهل التصوف، الذين لم يُفَرِّقوا بين نور الصفات وبين ¬

_ (¬1) سورة النور، آية: 35.

أنوار الإيمان والمعارف؛ فإنّهم لمّا تألّهوا وتعبّدوا من غير فرقان وعلم كامل، ولاحت أنوار التعبد في قلوبهم؛ لأنّ العبادات لها أنوار في القلوب، فظنّوا هذا النور هو نور الذات المقدسة، فحصل منهم من الشطح والكلام القبيح ما هو أثر هذا الجهل والاغترار والضلال. وأما أهل العلم والإيمان والفرقان فإنهم يُفَرِّقون بين نور الذات والصفات، وبين النور المخلوق الحسي منه والمعنوي، فيعترفون أن نور أوصاف الباري ملازم لذاته لا يفارقها، ولا يحلّ بمخلوق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما النور المخلوق فهو الذي تتصف به المخلوقات بحسب الأسباب والمعاني القائمة بها. والمؤمن إذا كَمُلَ إيمانه أنار الله قلبه، فانكشفت له حقائق الأشياء، وحصل له فرقان يُفَرِّق به بين الحق والباطل، وصار هذا النور هو مادة حياة العبد وقوته على الخير علماً وعملاً، وانكشفت عنه الشبهات القادحة في العلم واليقين، والشهوات الناشئة عن الغفلة والظلمة،

61 - الرب

وكان قلبه نوراً، وكلامه نوراً، وعمله نوراً، والنور محيط به من جهاته. والكافر، أو المنافق، أو المعارض، أو المعرض الغافل كل هؤلاء يتخبّطون في الظلمات، كل له من الظلمة بحسب ما معه من موادها وأسبابها، والله الموفق وحده (¬1). 61 - الرَّبُّ قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). الله - عز وجل - هو: المُرَبِّي جميع عباده، بالتدبير، وأصناف النعم. وأخص من هذا، تربيته لأصفيائه، بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثر دعاؤهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة. 62 - الله والله - عز وجل - هو المألوه المعبود، ذو الألوهية والعبودية على ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص93 - 95، وانظر: توضيح المقاصد، 2/ 237، وشرح النونية للهراس، 2/ 114 بتصرف يسير. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 164.

63 - الملك

خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وقد تقدم أن هذا الاسم ترجع إليه جميع الأسماء، فيُقال: الرحمن من أسماء الله، ولا يُقال: الله من أسماء الرحمن، وهكذا في جميع الأسماء، واسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، والصفات العُلا (¬1). 63 - المَلِكُ، 64 - المَلِيكُ، 65 - مَالِكُ المُلْكِِ قال الله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (¬2). وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬3)، {قُلِ اللَّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: بدائع الفوائد، لابن القيم، 2/ 249. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 116. (¬3) سورة القمر، الآية: 55. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 26.

فهو الموصوف، بصفة الملك. وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر والتدبير، الذي له التصرف المطلق، في الخلق، والأمر، والجزاء. وله جميع العالم، العلوي والسفلي، كلهم عبيد ومماليك، ومضطرون إليه (¬1). فهو الربّ الحقّ، الملك الحقّ، الإله الحقّ، خلقهم بربوبيّته، وقهرهم بملكه، واستعبدهم بإلاهيته، فتأملْ هذه الجلالةَ وهذه العظمةَ التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق. رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحُسنى فإنّ ((الربّ)): هو القادر، الخالق، البارئ، المصوِّرُ، الحيّ، القيّوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي المانع، الضارّ النافع، المُقَدِّم، المُؤَخِّر، الذي يُضِلُّ من ¬

_ (¬1) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 620.

يشاء، ويهدي من يشاء، ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعزّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقّه من الأسماء الحُسنى. وأما ((الملك)) فهو الآمر، الناهي، المُعِزُّ، المُذِلُّ، الذي يُصرِّفُ أمور عباده كما يحبّ، ويقلّبهم كما يشاء، وله من معنى الملك ما يستحقّه من الأسماء الحسنى كالعزيز، الجبار، المتكبر، الحكَم، العدل، الخافض، الرافع، المُعِزُّ، المُذِلُّ، العظيمُ، الجليلُ، الكبيرُ، الحسِيبُ، المجيدُ، الوَليُّ، المُتَعَالِي، مَالكُ الملْكِ، المقْسِطُ، الجامعُ، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك. وأما ((الإله)): فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح إن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذَّ منهم، وإنّ اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلا، فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع

معاني أسمائه الحسنى، فكان المستعيذ بها جديراً بأن يُعاذ، ويُحفظ، ويُمنع من الوسواس الخناس، ولا يُسَلَّط عليه (¬1). وإذا كان وحده هو ربنا، ومَلِكُنا، وإِلَهُنَا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى، ولا يُخاف، ولا يُرجى، ولا يُحب سواه، ولا يُذل لغيره، ولا يُخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه، وتخافه، وتدعوه، وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك، والقيّم بأمورك، ومتولّي شأنك، وهو ربّك فلا ربّ سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحقّ، فهو ملك الناس حقاً، وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك، وروحك، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم، وملكهم، وإلَهَهُم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله، 2/ 249.

66 - الواحد

ولا يلجؤوا إلى غير حماه، فهو كافيهم، وحسبهم، وناصرهم، ووليّهم، ومتولّي أمورهم جميعاً بربوبيته، وملكه، وإلاهيته لهم. فكيف لا يلتجئ العبد عند النوازل ونزول عَدُوِّهِ به إلى ربِّه، ومالكِه، وإلَهِهِ؟ (¬1). 66 - الوَاحِدُ، 67 - الأحَدُ قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬2)، وقال سبحانه: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬3). وهو الذي توحّد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. ويجب على العبيد توحيده، عقداً، وقولاً، وعملاً، بأن يعترفوا بكماله المطلق، وتفرّده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة (¬4). والأحد، يعني: الذي تفرّد بكل كمال، ومجد وجلال، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، 2/ 248. (¬2) سورة الإخلاص، الآية: 1. (¬3) سورة الرعد، الآية: 16. (¬4) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 5/ 620.

68 - المتكبر

وجمال وحمد، وحكمة ورحمة، وغيرها من صفات الكمال. فليس له فيها مثيل ولا نظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه. فهو الأحد في حياته وقيّوميّته، وعلمه وقدرته، وعظمته وجلاله، وجماله وحمده، وحكمته ورحمته، وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته، من كل صفة من هذه الصفات. ومن تحقيق أحَدِيَّتِهِ وتفرّده بها أنه ((الصمد))، أي: الرب الكامل، والسيد العظيم، الذي لم يبقَ صفة كمال إلا اتّصف بها. ووُصف بغايتها وكمالها، بحيث لا تُحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تُعبّر عنها ألسنتهم (¬1). 68 - المُتَكَبِّرُ قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ ¬

_ (¬1) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، ص291، لعبد الرحمن السعدي.

69 - الخالق

الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). فهو سبحانه المتكبر عن السوء، والنقص والعيوب، لعظمته وكبريائه. 69 - الْخَالِقُ، 70 - البَارِئُ، 71 - المُصَوِّرُ، 72 - الْخَلاَّقُ قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬2). {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} (¬3). الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسوّاها بحكمته، وصوّرها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم. 73 - المُؤمنُ الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال والجمال، الذي أرسل رسله، وأنزل كتبه بالآيات والبراهين. وصدق رسله بكل آية وبرهان، يدلّ على ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 23. (¬2) سورة الحشر، الآية: 24. (¬3) سورة الحجر، الآية: 86.

74 - المهيمن

صدقهم وصحة ما جاءوا به. 74 - المُهيمِنُ المطلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً (¬1). وقال البغوي: الشهيد على عباده بأعمالهم وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، يقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن إذا كان رقيباً على الشيء ... (¬2). 75 - المُحيطُ قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} (¬3). وقال - عز وجل -: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬4). وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، وقدرة، ورحمة، ¬

_ (¬1) تفسير السعدي، 5/ 624. (¬2) تفسير البغوي، 4/ 326. (¬3) سورة النساء، الآية: 126. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 120.

76 - المقيت

وقهراً. وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المبصرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفذت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسموات، وقهر بعزّته كل مخلوق، ودانت له جميع الأشياء (¬1). 76 - المُقِيتُ قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (¬2)، فهو سبحانه الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصَّرفها كيف يشاء، بحكمته وحمده (¬3). قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: ((القوت ما يمسك الرَّمق، وجمعه: أقوات، قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (¬4)، وقاتَهُ يقوتُهُ قوتاً: أطعمه قوتَهُ. وأقاتهُ يُقيتُهُ جعل له ما ¬

_ (¬1) تفسير العلامة السعدي، 2/ 179. (¬2) سورة النساء، الآية: 85. (¬3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 625. (¬4) سورة فصلت، الآية: 10.

يقوتُهُ، وفي الحديث: ((كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّع من يقوتُ)) (¬1)، قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا}، قيل: مقتدراً، وقيل: شاهداً. وحقيقته قائماً عليه يحفظُهُ ويُقيتهُ ... )) (¬2)، وقال في القاموس المحيط: ((المُقيتُ: الحافظ للشيء، والشاهد له، والمقتدر، كالذي يعطي كل أحد قوته)) (¬3)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: مقتدراً، أو مجازياً، وقال مجاهد: شاهداً، وقال قتادة: حافظاً، وقيل: معناه على كل حيوان مُقيتاً: أي يوصل القوت إليه (¬4)، وقال ابن كثير: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} أي حفيظاً، وقال مجاهد: شهيداً، وفي رواية عنه: حسيباً، وقيل: قديراً، ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، برقم 1692، وأحمد في المسند، 2/ 160، والحاكم في المستدرك، 1/ 415، وقال: ((صحيح)). ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 4481. وأصل الحديث عند مسلم بلفظ: ((كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمَّن يملك قوته)) في كتاب الزكاة، باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم، برقم 996. (¬2) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، ص414. (¬3) القاموس المحيط، ص202. (¬4) تفسير البغوي، 1/ 457.

77 - الوكيل

وقيل: المقيت: الرازق، وقيل: مقيت لكل إنسان بقدر عمله (¬1). 77 - الوَكيلُ قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2)، فهو سبحانه المتولّي لتدبير خلقه، بعلمه، وكمال قدرته، وشمول حكمته، الذي تولى أولياءه، فيسَّرهم لليُسرى، وجنّبهم العُسرى، وكفاهم الأمور. فمن اتخذه وكيلاً كفاه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (¬3). 78 - ذو الجَلالِ والإكْرَامِ أي: ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة، والجود، والإحسان العام والخاص. المُكْرِمُ لأوليائه وأصفيائه، الذين يُجلُّونه، ويُعظمونه، ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 1/ 531، بتصرف يسير. (¬2) سورة الزمر، الآية: 62. (¬3) سورة البقرة، الآية: 257.

79 - جامع الناس ليوم لا ريب فيه

ويُحبونه (¬1). قال تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬2). 79 - جَامِعُ النَّاسِ لِيَومٍ لا رَيْبََ فِيهِ قال الله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬3). فالله - سبحانه وتعالى - هو جامع الناس، وجامع أعمالهم وأرزاقهم، فلا يترك منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وجامع ما تفرق واستحال من الأموات الأولين والآخرين، بكمال قدرته، وسعة علمه (¬4). 80 - بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (¬5). أي: خالقهما ومبدعهما، في غاية ما يكون من الحسن ¬

_ (¬1) تيسر الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 626. (¬2) سورة الرحمن، الآية: 78. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 9. (¬4) تفسير السعدي، 5/ 627. (¬5) سورة البقرة، الآية: 117.

والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} (¬1) ابتدأ خلقهم، ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، ثم يعيدهم، ليجزي الذين أحسنوا بالحُسنى، ويجزي المسيئين بإساءتهم. وكذلك، هو الذي يبدأ إيجاد المخلوقات شيئاً فشيئاً، ثم يعيدها كل وقت. وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬2)، وقال سبحانه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬3). وهذا من كمال قوته، ونفوذ مشيئته، وقدرته، أن كل أمر يريده يفعله بلا ممانع، ولا معارض. وليس له ظهير ولا عوين، على أيّ أمر يكون. بل إذا أراد شيئاً قال له: ((كن فيكون)). ومع أنه الفعّال لما يريد، فإرادته، تابعة لحكمته وحمده. فهو موصوف بكمال القدرة، ونفوذ المشيئة. وموصوف بشمول الحكمة، لكل ما فعله ¬

_ (¬1) سورة الروم، الآية: 27. (¬2) سورة هود، الآية: 107. (¬3) سورة البروج، الآيتان: 15 - 16.

81 - الكافي

ويفعله (¬1). 81 - الكَافي قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (¬2)، فهو سبحانه الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه. الكافي كفاية خاصة، من آمن به، وتوكل عليه، واستمد منه حوائج دينه ودنياه. 82 - الواسِعُ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬3). فهو - سبحانه وتعالى - واسع الصفات، والنعوت، ومتعلّقاتها، بحيث لا يُحصِي أحد ثَناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. واسع العظمة، والسلطان، والملك، واسع الفضل، والإحسان، عظيم الجود والكرم. ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن، 5/ 628 - 629. (¬2) سورة الزمر، الآية: 36. (¬3) سورة البقرة، الآية: 268.

83 - الحق

83 - الحَقُّ الله - عز وجل - هو الحق في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل، ولا يزال، بالجلال، والجمال، والكمال، موصوفاً، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفاً. فقوله حق، وفعله، حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له، هي الحق، وكل شيء ينسب إليه، فهو حق (¬1). {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬2). {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬3). {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ ¬

_ (¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 631 - 632، بتصرف يسير. (¬2) سورة الحج، الآية: 62. (¬3) سورة الكهف، الآية: 29.

84 - الجميل

الضَّلاَلُ} (¬1)، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬2). وقال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬3). فأوصافه العظيمة حق، وأفعاله هي الحق، وعبادته هي الحق، ووعده حق، ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه (¬4). 84 - الجَميلُ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جميلٌ يحبُ الجمال)) (¬5)، فهو سبحانه جميلٌ بذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يُمكن مخلوقاً أن يعبر عن بعض جمال ذاته، حتى أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم، واللذّات والسرور والأفراح التي لا يقدّر قدرها، إذا رأوا ربّهم، وتمتعوا ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 32. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 81. (¬3) سورة النور، الآية: 25. (¬4) تفسير السعدي، 5/ 405، وابن كثير، 3/ 277. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، برقم 91.

بجماله، نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودّوا أنْ لو تدوم هذه الحال، واكتسبوا من جماله ونوره جمالاً إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم ونزوع إلى رؤية ربِّهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحاً تكاد تطير له القلوب. وكذلك هو الجميل في أسمائه؛ فإنها كلها حسنى، بل أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها، قال تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1)، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (¬2)، فكلها دالّة على غاية الحمد والمجد والكمال، لا يُسمّى باسم منقسم إلى كمال وغيره. وكذلك هو الجميل في أوصافه؛ فإنّ أوصافه كلها أوصاف كمال، ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات وأعمّها وأكثرها تعلقاً، خصوصاً أوصاف الرحمة، والبرّ، والكرم، والجود. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬2) سورة مريم، الآية: 65.

وكذلك أفعاله كلها جميلة؛ فإنها دائرة بين أفعال البرّ والإحسان التي يحمد عليها، ويُثنى عليه ويُشكَر، وبين أفعال العدل التي يُحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث، ولا سفه، ولا سدى، ولا ظلم، كلها خير، وهدى، ورحمة، ورشد، وعدل: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬1)، فلكماله الذي لا يُحصي أحد عليه به ثناء كملت أفعاله، فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق وصنع: أتقن ما صنعه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، وأحسن ما خلقه. {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (¬3)، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬4). والأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها من الله تعالى فهو الذي كساها الجمال، وأعطاها الحسن، فهو ¬

_ (¬1) سورة هود، الآية: 56. (¬2) سورة النمل، الآية: 88. (¬3) سورة السجدة، الآية: 7. (¬4) سورة المائدة، الآية: 50.

أولى منها لأن مُعطي الجمال أحقّ بالجمال، فكل جمال في الدنيا والآخرة باطني وظاهري، خصوصاً ما يعطيه المولى لأهل الجنّة من الجمال المفرط في رجالهم ونسائهم، فلو بدا كفّ واحدة من الحور العين إلى الدنيا، لطمس ضوءَ الشمس كما تطمس الشمس ضوءَ النجوم، أليس الذي كساهم ذلك الجمال، ومنّ عليهم بذلك الحُسْنِ والكمال، أحقّ منهم بالجمال الذي ليس كمثله شيء، فهذا دليل عقلي واضح مُسلَّم المقدمات على هذه المسألة العظيمة وعلى غيرها من صفاته، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} (¬1)، فكل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصاً، فإنّ معطيه وهو الله أحقُّ به من المُعطَى بما لا نسبة بينه وبينهم، كما لا نسبة لذواتهم إلى ذاته، وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والجمال، أحقّ منهم بذلك، وكيف يعبّر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: ((لا ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 60.

أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) (¬1)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) (¬2)، فسبحان الله وتقدّس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علواً كبيراً، وحسبهم مقتاً وخساراً أنهم حُرموا من الوصول إلى معرفته والابتهاج بمحبته (¬3). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((لا أحد أصبر على أذىً سمعه من الله، يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم)) (¬4)، وقال أيضاً في الصحيح: قال الله تعالى: ((كذَّبني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. وشتمني ابن آدم، ولم يكُن له ذلك. فأما تكذيبه إيَّاي فقوله: لن يعيدني كما ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 486. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله - عليه السلام -: إن الله لا ينام، برقم 179. (¬3) توضيح الحق المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص29 - 32، بتصرف يسير. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}، برقم 7378، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لا أحد أصبر على أذى من الله - عز وجل -، برقم 2804.

85 - الرفيق

بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: إنَّ لي ولداً، وأنا الأحد الصَّمد الذي لم يلد ولم يولدْ، ولم يكُن له كفواً أحد)) (¬1)، فالله تعالى يدرّ على عباده الأرزاق المطيع منهم والعاصي، والعصاة لا يزالون في محاربته وتكذيبه وتكذيب رسله والسعي في إطفاء دينه، والله تعالى حليم على ما يقولون وما يفعلون، يتتابعون في الشرور، وهو يتابع عليهم النعم، وصبره أكمل صبر لأنّه عن كمال قدرة، وكمال غنىً عن الخلق، وكمال رحمة وإحسان، فتبارك الربُّ الرحيم الذي ليس كمثله شيء، الذي يحب الصابرين ويعينهم في كل أمرهم (¬2). 85 - الرَّفيقُ مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة الإخلاص، برقم 4974. (¬2) الحق الواضح المبين، ص57 - 58، بتصرف يسير.

العنف، وما لا يُعطي على ما سواه)) (¬1)، فالله تعالى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئاً فشيئاً بحسب حكمته ورفقه، مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة. ومن تدبّر المخلوقات، وتدبّر الشرائع كيف يأتي بها شيئاً بعد شيء شاهد من ذلك العجب العجيب، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ووقار، اتباعاً لسنن الله في الكون، واتّباعاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنّ هذا هديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخصّ الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين، وكذلك من آذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق، برقم 2593، وأخرج البخاري الجزء الأول منه في كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرَّض الذمي وغيره بسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 6927.

كسب الراحة والطمأنينة والرزانة والحلم (¬1). والله - عز وجل - يغيث عباده إذا استغاثوا به سبحانه، فعن أنس بن مالك أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ... ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ... ثم قال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعُ الله يغيثنا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) (¬2). فالله - عز وجل - يغيث عباده في الشدائد والمشقات، فهو يغيث جميع المخلوقات عندما تتعسّر أمورها وتقع في الشدائد والكربات: يُطعم جائعهم، ويكسو عاريهم، ويخلص مكروبهم، ويُنزّل الغيث عليهم في وقت الضرورة والحاجة‍، وكذلك يُجيب إغاثة اللهفان، أي دعاء من دعاه في حالة اللهف والشدة والاضطرار، فمن استغاثه أغاثه. ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص63. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، برقم 1014، ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم 897.

86 - الحيي

وفي الكتاب والسنة من ذكر تفريجه للكربات، وإزالته الشدائد، وتيسيره للعسير شيء كثير جداً معروف (¬1). 86 - الحَييُّ، 87 - السِّتِّيرُ هذا مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله حيي يستحي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردهما صفراً)) (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - حليمٌ، حييٌ ستِّيرٌ يُحبّ الحياءَ والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) (¬3)، وهذا من رحمته، وكرمه، وكماله، وحلمه أن العبد يجاهره بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص67. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1488، والترمذي في كتاب الدعوات، باب 104، برقم 3556، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، برقم 3865، وأحمد في المسند، 5/ 438، والحاكم في المستدرك، 1/ 497، وقال: ((إسناده صحيح على شرط الشيخين)). ووافقه الذهبي. وقال أبو عيسى الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1757. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الحمّام، باب النهي عن التعري، برقم 4012، والنسائي في كتاب الغسل، باب الاستتار عند الاغتسال، برقم 404، وأحمد، 4/ 224، والبيهقي في سننه الكبرى، 1/ 198، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1756، وفي إرواء الغليل، برقم 2335.

عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلِّهم من كرمه يستحيي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغَّضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم بعدد اللحظات [نازل]، وشرّهم إليه صاعد، ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي وكل قبيح. ويستحي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه، وممن يمدّ يديه إليه أن يردّهما صفراً، ويدعو عباده إلى دعائه ويعدهم بالإجابة، وهو الحيي السِّتِّير يحب أهل الحياء والستر، ومن ستر مسلماً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة؛ ولهذا يكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس، وإن من أمقت الناس إليه من بات عاصياً والله يستره، فيصبح يكشف ستر الله عليه، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا

88 - الإله

وَالآخِرَةِ} (¬1)، وهذا كله من معنى اسمه ((الحليم)) الذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحلَّ بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصرّوا واستمروا في طُغيانهم ولم يُنيبوا (¬2). 88 - الإلهُ اسم الإله: هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فقد دخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى؛ ولهذا كان القول الصحيح أنَّ ((الله)) أصله ((الإله))، وأن اسم ((الله)) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، والله أعلم (¬3). قال الله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية: 19. (¬2) الحق الواضح المبين، ص54 - 55. (¬3) الحق الواضح المبين، ص 54 - 55. (¬4) سورة النساء، الآية: 171.

89 - القابض

89 - القابضُ، 90 - الباسِطُ، 91 - المُعطي قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله هو المُسعِّرُ، القابضُ، الباسطُ، الرَّازقُ .. )) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم ... )) (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفَعُهُ، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل ... )) (¬4) الحديث. وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 245. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات، باب في التسعير، برقم 3451، والترمذي في كتاب البيوع، باب في التسعير، برقم 1314، وابن ماجه في كتاب التجارات، باب من كره أن يسعر، برقم 2200، وأحمد في المسند، 3/ 156، وصححه الترمذي. وكذا الألباني في صحيح الجامع، برقم 1846. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم في كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037/ 100. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله - عليه السلام -: ((إن الله لا ينام))، برقم 179.

الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1)،وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقواماً ويضَعُ به آخرين)) (¬2)،وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول بعد السلام من الصلاة حينما ينصرف إلى الناس: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ)) (¬3). هذه الصفات الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يُثنى على الله بها إلا كل واحد منها مع الآخر؛ لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق والرحمة ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 26. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، برقم 817، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل من تعلم القرآن وعلمه، برقم 218، والدارمي في كتاب فضائل القرآن، باب إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع آخرين، برقم 3368. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، برقم 844، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593.

والقلوب، وهو الرافع لأقوام قائمين بالعلم والإيمان، الخافض لأعدائه، وهو المُعِزُّ لأهل طاعته، وهذا عز حقيقي؛ فإن المطيع لله عزيز وإن كان فقيراً ليس له أعوان، المُذِلُّ لأهل معصيته وأعدائه ذُلاًّ في الدنيا والآخرة. فالعاصي وإن ظهر بمظاهر العز فقلبه حشوه الذُّلُّ وإنْ لم يشعر به لانغماسه في الشهوات؛ فإنّ العزّ كلّ العزّ بطاعة الله، والذُّلُّ بمعصيته: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬1)، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬2)، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وهو تعالى المانع المعطي فلا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وهذه الأمور كلها تبع لعدله وحكمته وحمده؛ فإنّ له الحكمة في خفض من يخفضه ويُذِلُّه ويحرمه، ولا حجّة لأحد على الله، كما له الفضل المحض على من رفعه وأعطاه وبسط له الخيرات، فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله، كما عليه ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 18. (¬2) سورة فاطر، الآية: 10. (¬3) سورة المنافقون، الآية: 8.

92 - المقدم

أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه. وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور وكلها جارية تحت أقداره، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسباباً، ولضد ذلك أسباباً من قام بها ترتبت عليه مسبباتها، وكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيَسَّرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا يُوجب للعبد القيام بتوحيد الله، والاعتماد على ربِّه في حصول ما يُحِبُّ، ويجتهد في فعل الأسباب النافعة فإنها محلّ حكمة الله (¬1). 92 - المُقَدِّمُ، 93 - المُؤَخِّرُ كان من آخر ما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التشهد والتسليم: ((اللهم اغفر لي ما قدّمت، وما أخَّرت، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، وما أسرفت، وما أنت أعلمُ به مني. أنتَ المقدِّمُ، وأنت المؤخِّرُ. لا إله إلا أنت)) (¬2). ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين، ص89 - 90. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771، وأخرجه بنحوه البخاري في كتاب الدعوات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت))، برقم 6398، وليس فيه: ((بين التشهد والتسليم)).

المقدِّمُ والمؤخِّر هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله إلا مقروناً بالآخر؛ فإن الكمال من اجتماعهما، فهو تعالى المُقَدِّم لمن شاء والمُؤخِّرُ لمن شاء بحكمته. وهذا التقديم يكون كونياً كتقديم بعض المخلوقات على بعض، وتأخير بعضها على بعض، وكتقديم الأسباب على مسبباتها، والشروط على مشروطاتها. وأنواع التقديم والتأخير في الخلق والتقدير بحر لا ساحل له، ويكون شرعياً كما فضّل الأنبياء على الخلق، وفضّل بعضهم على بعض، وفضّل بعض عباده على بعض، وقدّمهم في العلم، والإيمان، والعمل، والأخلاق، وسائر الأوصاف، وأخّر من أخّر منهم بشيء من ذلك، وكل هذا تبع لحكمته. وهذان الوصفان وما أشبههما من الصفات الذاتية

لكونهما قائمين بالله والله متصف بهما، ومن صفات الأفعال؛ لأن التقديم والتأخير متعلق بالمخلوقات ذواتها، وأفعالها، ومعانيها، وأوصافها، وهي ناشئة عن إرادة الله وقدرته. فهذا هو التقسيم الصحيح لصفات الباري، وإنّ صفات الذات متعلقة بالذات، وصفات أفعاله متصفة بها الذات، ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال (¬1). قال الله - عز وجل -: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (¬2)، وقال الله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬3). وصفة الضر والنفع هما كما تقدم من الأسماء المزدوجة المتقابلة، فالله تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع ¬

_ (¬1) الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين، ص100. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 17. (¬3) سورة الفتح، الآية: 11.

الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك، وكل هذا تبع لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلى مسبباتها، فإن الله تعالى جعل مقاصد للخلق وأموراً محبوبة في الدين والدنيا، وجعل لها أسباباً وطرقاً، وأمر بسلوكها ويسّرها لعباده غاية التيسير، فمن سلكها أوصلته إلى المقصود النافع، ومن تركها أو ترك بعضها، أو فوَّت كماله أو أتاها على وجه ناقص ففاته الكمال المطلوب، فلا يلومنّ إلا نفسه، وليس له حجة على الله؛ فإن الله أعطاه السمع، والبصر، والفؤاد، والقوة، والقدرة، وهداه النجدين، وبين له الأسباب، والمسببات، ولم يمنعه طريقاً يوصل إلى خير ديني ولا دنيوي، فتخلّفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم عليها المذموم على تركها. واعلم أن صفات الأفعال كلها متعلقة وصادرة عن هذه الصفات الثلاث: القدرة الكاملة، والمشيئة النافذة، والحكمة الشاملة التامة، وهي كلها قائمة بالله، والله

94 - المبين

متصف بها، وآثارها ومقتضياتها جميع ما يصدر عنها في الكون كله من التقديم والتأخير، والنفع والضر، والعطاء والحرمان، والخفض والرفع، لا فرق بين محسوسها ومعقولها، ولا بين دينها ودنيويها. فهذا معنى كونها أوصاف أفعال لا كما ظنه أهل الكلام الباطل (¬1). 94 - المُبينُ المُبينُ: اسم الفاعل من أبان يُبينُ فهو مُبين، إذا أظهر وبَيَّن إما قولاً، وإما فعلاً. والبيِّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، والبيان هو الكشف عن الشيء ... وسُمِّي الكلام بياناً لكشفه عن المقصود وإظهاره، نحو: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} (¬2). فالله - عز وجل - هو الُمبيّن لعباده سبيل الرشاد، والموضِّح لهم الأعمال التي يستحقون الثواب على فعلها، والأعمال ¬

_ (¬1) توضيح الكافية الشافية للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص131 - 132. (¬2) سورة آل عمران، الآية 138.

التي يستحقون العقاب عليها، وبيّن لهم ما يأتون، وما يذرون، يقال: أبان الرجل في كلامه ومنطقه فهو مُبينٌ والبيان: الكلام، ويقال: بان الكلامُ وأبان بمعنىً واحد، فهو: مُبيِّنٌ ومُبينٌ (¬1)، وقد سمى الله نفسه بالمبين: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬2). وهو سبحانه الذي بيّن لعباده طرق الهداية وحذّرهم، وبين لهم طرق الضلال، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب ليبين لهم، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ} (¬3)، وهذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من ¬

_ (¬1) انظر مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ص68و69، واشتقاق الأسماء للزجاجي، ص180. (¬2) سورة النور، الآية: 25. (¬3) سورة البقرة، الآية: 159.

بعدما بينه الله تعالى في كتبه التي أنزلها على رسله عليهم الصلاة والسلام. وقال - عز وجل -: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬1)، {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬2)، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬3)، وقال - عز وجل -: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬4). ويقول - عز وجل -: {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 118. (¬2) سورة البقرة، الآية: 266. (¬3) سورة النساء، الآية: 26. (¬4) سورة المائدة، الآيتان: 15 - 16.

95 - المنان

أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬1). {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2)، والله - عز وجل - يُبيِّن للناس الأحكام الشرعية ويوضّحها، ويُبيِّن الحكم القدرية، وهو عليم بما يصلح عباده، حكيم في شرعه وقدره (¬3)، فله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة. وقال - عز وجل -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬4)، وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬5)، يخبر الله عن نفسه الكريمة وحكمه العادل أنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة (¬6). 95 - المنَّانُ المنّان من أسماء الله الحسنى التي سماه بها رسول الله ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 75. (¬2) سورة النور، الآية: 18. (¬3) تفسير ابن كثير، 3/ 274. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬5) سورة التوبة، الآية: 115. (¬6) تفسير ابن كثير، 2/ 396.

- صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنّان، [يا] بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب)) (¬1). قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: ((المنّان)) هو المنعم المعطي من المنِّ: العطاء، لا من المنة. وكثيراً ما يرد المنّ في كلامهم: بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه، فالمنّان من أبنية المبالغة ... كالوهاب (¬2). ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1493 - 1495، والترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3475، وابن ماجه في كتاب الدعاء، باب اسم الله الأعظم، برقم 3857، 3858، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب)). وانظر: صحيح النسائي للألباني، 1/ 279، وصحيح ابن ماجه، 2/ 329، وصفة الصلاة للألباني، ص204. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 4/ 365.

قال: ((إنه ليس من الناس أحدٌ أمنَّ عليَّ في نفسه وما له من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلَّةُ الإسلام أفضل)) (¬1)، ومعنى ((إن من أمنّ الناس)) أكثرهم جوداً لنا بنفسه، وماله، وليس هو من المنّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة)) (¬2). والله - عز وجل - هو المنَّان: من المن العطاء، والمنّان: هو عظيم المواهب؛ فإنه أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصوّر فأحسن، وأنعم فأجزل، وأسنى النعم، وأكثر العطايا والمنح)) (¬3)، قال وقوله الحق: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (¬4). ومن أعظم النعم، بل أصل النعم التي امتن الله بها على عباده الامتنان عليهم بهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أنقذهم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، برقم 467، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، برقم 2382. (¬2) فتح الباري، 1/ 558. (¬3) الأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 120. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 34.

الله به من الضلال، وعصمهم به من الهلاك (¬1). قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬2). فالله - عز وجل - هو الذي منّ على عباده: بالخلق، والرزق، والصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، وأسبغ عليهم النعم الظاهرة والباطنة، ومن أعظم المنن وأكملها وأنفعها - بل أصل النعم - الهداية للإسلام ومنته بالإيمان، وهذا أفضل من كل شيء (¬3). ومعنى ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)) أي تفضّل على المؤمنين المصدقين والمنان: المتفضل)) (¬4). والمنة: النعمة العظيمة. قال الأصفهاني: المنة: النعمة الثقيلة، وهي على نوعين: ¬

_ (¬1) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، 1/ 449. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬3) انظر تفسير السعدي، 7/ 142. (¬4) الأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 49.

النوع الأول: أن تكون هذه المنَّة بالفعل فيقال: منَّ فلانٌ على فلان إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬2)، وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (¬3)، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} (¬4)، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬5)، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (¬6)، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (¬7). وهذا كله على الحقيقة لا يكون إلا من الله تعالى، فهو الذي منّ على عباده بهذه النعم العظيمة، فله الحمد حتى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 164. (¬2) سورة النساء، الآية: 94. (¬3) سورة الصافات، الآية: 114. (¬4) سورة طه، الآية: 37. (¬5) سورة القصص، الآية: 5. (¬6) سورة الطور، الآية: 27. (¬7) سورة إبراهيم، الآية: 11.

يرضى، وله الحمد بعد رضاه، وله الحمد في الأولى والآخرة. النوع الثاني: أن يكون المنّ بالقول. وذلك مستقبح فيما بين الناس، ولقبح ذلك قيل: المنة تهدم الصنيعة، قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬1)، فالمنَّة من الله عليهم بالفعل وهو هدايتهم للإسلام (¬2)، والمنَّة منهم بالقول المذموم، وقد ذم الله في كتابه ونهى عن المنّ المذموم: وهو المنَّة بالقول فقال: {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (¬3)، قال ابن كثير: ((لا تمنن بعملك على ربك تستكثره)) (¬4)، وقيل غير ذلك. وقال الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ¬

_ (¬1) سورة الحجرات، الآية: 17. (¬2) مفردات غريب القرآن للأصفهاني، ص474. (¬3) سورة المدثر، الآية: 6. (¬4) تفسير ابن كثير، 4/ 242.

وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬1). وقد ذمَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنَّ بالعطية، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم))، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات. قال أبو ذرٍّ: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المُسبلُ، والمنانُ، والمنفق سلعته بالحلِفِ الكاذب)) (¬2). هذا هو المنّ المذموم، أما المنّ بمعنى العطاء، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآيات: 262 - 264. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية، برقم 106.

والإحسان، والجود، فهو المحمود. والخلاصة: أنّ الله تبارك وتعالى هو المنّان الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو عظيم المواهب، أعطى الحياة، والعقل، والنطق، وصوّر فأحسن، وأنعم فأجزل، وأكثر العطايا، والمنح، وأنقذ عباده المؤمنين، ومنّ عليهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بمنّه وفضله، ومنّ على عباده أجمعين: بالخلق، والرزق، والصحة، والأمن لعباده المؤمنين. وأسبغ على عباده النعم مع كثرة معاصيهم وذنوبهم. فاللهمّ منَّ علينا بنعمة الإيمان، واحفظنا وأجزل لنا من كل خير، واصرف عنا كل شرّ، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، يا كريم يا منّان، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

96 - الولي

96 - الوليُّ الولي: يطلق على كل من وَلي أمراً أو قام به، والنصير، والمُحبّ، والصديق، والحليف، والصهر، والجار، والتابع، والمُعتِق، والمُطيع، يُقال: المؤمنُ وليُّ الله، والمطر يسقط بعد المطر، والولي ضد العدو، والناصر والمتولي لأمور العالم والخلائق، ويقال للقيِّم على اليتيم: الوَلي، وللأمير الوالي (¬1). قال الراغب الأصفهاني: الولاءُ والتَّوالي يطلق على القرب من حيث المكان، ومن حيث النسب، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة، ومن حيث النُّصرة، ومن حيث الاعتقاد، والولاية النصرة، والولاية تولِّي الأمر ... والوليُّ والموْلى يستعملان في ذلك كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي المُوالِي، وفي معنى المفعول أي المُوالَى، يقال للمؤمن: هو وليُّ الله، ويقال الله وليُّ ¬

_ (¬1) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 5/ 227، والمعجم الوسيط، ص1058، والقاموس المحيط، ص1732، والمصباح المنير، ص672، ومختار الصحاح، ص306.

المؤمنين (¬1). وولاية الله - عز وجل - ليست كغيرها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2). فهو سبحانه الولي الذي تولّى أمور العالم والخلائق، وهو مالك التدبير، وهو الوليّ الذي صرف لخلقه ما ينفعهم في دينهم وأخراهم)) (¬3). وقد سمّى الله تعالى نفسه بهذا الاسم، فهو من الأسماء الحسنى، قال الله - عز وجل -: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4)، وقال - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (¬5). فالله - عز وجل - هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته ¬

_ (¬1) مفردات الراغب الأصفهاني، ص533. (¬2) سورة الشورى، الآية: 11. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 4/ 116، و1/ 277، وتفسير العلامة السعدي، 6/ 617، و6/ 595. (¬4) سورة الشورى، الآية: 9. (¬5) سورة الشورى، الآية: 28.

والتقرب إليه بما أمكن من القُربات، وهو الذي يتولى عباده عموماً بتدبيرهم، ونفوذ القدر فيهم، ويتولّى عباده بأنواع التدبير. ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ويتولّى تربيتهم بلطفه، ويعينهم في جميع أمورهم وينصرهم، ويؤيّدهم بتوفيقه، ويسدّدهم، قال الله - عز وجل -: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1)، وقال - عز وجل -: {وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬2). فالله - عز وجل - هو نصير المؤمنين وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .. وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً؛ لأن الظلمات حاجبة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 257. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 19.

للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب لأبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان، والعلم بصحته وصحة أسبابه، فأخبر - عز وجل - عباده أنه وليّ المؤمنين، ومُبَصِّرُهم حقيقة الإيمان، وسبله، وشرائعه، وحججه، وهاديهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر أبصار القلوب (¬1). والخلاصة: أن الله تعالى أخبر أن الذين آمنوا بالله ورسله، وصدقوا إيمانهم بالقيام بواجبات الإيمان، وتَرْك كل ما ينافيه، أنه وليّهم، يتولاّهم بولايته الخاصة، ويتولّى تربيتهم فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر، والمعاصي، والغفلة، والإعراض، إلى نور العلم، واليقين، والإيمان والطاعة، والإقبال الكامل على ربهم، ويُنَوِّر قلوبهم بما يقذف فيها من نور الوحي والإيمان، ويُيَسِّرُهم لليُسرى، ويجنّبهم العُسرى، ويجلب لهم المنافع، ويدفع عنهم المضارّ، فهو يتولّى الصالحين: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ ¬

_ (¬1) تفسير الطبري ببعض التصرف، 3/ 14.

الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (¬1) الذين صلحت نياتهم، وأقوالهم، فهم لمَّا تولَّوا ربهم بالإيمان والتقوى، ولم يتولَّوا غيره ممن لا ينفع ولا يضر، تولاّهم الله ولطف بهم، وأعانهم على ما فيه، الخير، والمصلحة في دينهم ودنياهم ودفع عنهم بإيمانهم كل مكروه (¬2)،كما قال - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). وأما الذين كفروا، فإنهم لما تولَّوا غير وليّهم، ولاّهم الله ما تولَّوا لأنفسهم، وخذلهم ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ممن ليس عنده نفع ولا ضر، فأضلّوهم، وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع، والعمل الصالح، وحرموهم السعادة الأبدية وصارت النار مثواهم خالدين فيها مخلّدين: اللهم تولّنا فيمن تولّيت (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 196. (¬2) تفسير العلامة السعدي ببعض التصرف، 1/ 318، و 3/ 132، وانظر: تفسير ابن كثير، 1/ 312. (¬3) سورة الحج، الآية: 38. (¬4) تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، 1/ 318، وانظر: تفسير ابن كثير، 1/ 312، والأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 123، تحقيق عماد الدين أحمد.

والله - عز وجل - يحب أولياءه وينصرهم ويسدّدهم، والوليّ لله هو العالم بالله، المواظب على طاعته، المخلص في عبادته، المبتعد عن معصية الله. ومن عادى هذا الوليَّ لله فالله - عز وجل - يعلمه بالحرب، قال - صلى الله عليه وسلم -: فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((إن الله يقول: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدي بِشَيْءٍ أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينّه، ولئن أستعاذني لأُعيذنّه، وما تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته)) (¬1). والمعنى أنه إذا كان ولياً لله - عز وجل - فالله يحفظه ويُسدِّده، ويُوفِّقه حتى لا يسمع إلاّ إلى ما يرضي مولاه، ولا ينظر إلاّ إلى ما يحبه مولاه، ولا تبطش يداه إلاّ فيما يرضي الله، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم 6502.

97 - المولى

ولا تمشي قدماه إلاّ إلى الطاعات، فهو مُوفَّق مُسدّد مُهتدٍ مُلْهَم من المولى وهو الله - عز وجل -، ولهذا فسّر هذا الحديث بهذا أهل العلم كابن تيمية وغيره؛ ولأنه جاء في رواية الحديث رواية أخرى: ((فبي يسمع، وبي يُبصر، وبي يبطش وبي .. يمشي)) (¬1)، هذا يدل على نصرة الله لعبده، وتأييده، وإعانته، فيوفقه الله للأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله - عز وجل - (¬2). 97 - المَوْلَى ((المولى)) اسم يقع على جماعة كثيرة، فهو: الربُّ، والمالكُ، والسَّيدُ، والمُنعمُ، والمُعتِقُ، والناصرُ، والمُحبُّ، والتابعُ، والجارُ، وابنُ العم، والحليفُ، والصِّهرُ، والعبدُ، والمنعمُ عليه، وأكثرها قد جاء في الحديث، فيضاف كل واحدٍ إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه، وكل من ولي أمراً أو قام به فهو مولاهُ، ووَليُّهُ، وقد تختلف مصادر هذه الأسماء: فالوَلايةُ - بالفتح - في النسب، والنصرة ¬

_ (¬1) فتح الباري، 11/ 344. (¬2) فتح الباري، 11/ 344.

والمُعتِق. والوِلاية - بالكسر- في الإمارة، والوَلاءُ المُعتق، والموالا من والى القوم (¬1). والله - عز وجل - هو المولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2)، فهو المولى، والربُّ، الملكُ، السيدُ، وهو المأمول منه النصر والمعونة؛ لأنه هو المالك لكل شيء، وهو الذي سمى نفسه - عز وجل - بهذا الاسم، فقال - سبحانه وتعالى -: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬3). وقال الله - سبحانه وتعالى -: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬4)، وقال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 5/ 228، وانظر: القاموس المحيط، ص1782، والمعجم الوسيط، ص1058، والمصباح المنير، 2/ 672. (¬2) سورة الشورى، الآية: 11. (¬3) سورة الحج، الآية: 78. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 40. (¬5) سورة محمد، الآية: 11.

والله - سبحانه وتعالى - هو مولى الذين آمنوا، وهو سيدهم وناصرهم على أعدائهم، فنعم المولى ونعم النصير (¬1)، فالله - عز وجل - هو الذي يتولّى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، ويُيَسِّر لهم منافعهم الدينية والدنيوية ((وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) الذي ينصرهم، ويدفع عنهم كيد الفجار وتكالب الأشرار، ومن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان الله عليه فلا عِزّ له ولا قائمة تقوم له (¬2). فالله سبحانه هو مولى المؤمنين فيدبرهم بحسن تدبيره فنعم المولى لمن تولاّه فحصل له مطلوبه، ونعم النصير لمن استنصره فدفع عنه المكروه))، وقال الله - عز وجل -: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (¬3)، ومن دعاء المؤمنين لربهم تبارك وتعالى ما أخبر الله عنهم بقوله: {أَنتَ مَوْلاَنَا ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير، 4/ 310. (¬2) انظر تفسير العلامة السعدي، 3/ 168، و5/ 331، وتفسير ابن كثير، 4/ 310، و2/ 238، و1/ 344. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 150.

98 - النصير

فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1)، أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكَّلْنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك (¬2). وقال - عز وجل -: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬4). وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة حينما قال لهم أبو سفيان لنا العُزى ولا عُزى لكم فقال: ((قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)) (¬5). 98 - النَّصِيرُ النصير: فعيل بمعنى فاعل أو مفعول؛ لأن كل واحد ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 286. (¬2) تفسير ابن كثير، 1/ 344. (¬3) سورة التحريم، الآية: 4. (¬4) سورة التحريم، الآية: 2. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه، برقم 3039، وفي كتاب المغازي، باب غزوة أحد، برقم 4043.

من المتناصرين ناصرٌ ومنصورٌ وقد نصره ينصره نصراً إذا أعانه على عدوه وشدّ منه (¬1). والنصير هو الموثوق منه بأن لا يسلم وليه ولا يخذله (¬2). والله - عز وجل - النصير، ونصره ليس كنصر المخلوق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬3)، وقد سمى نفسه تبارك وتعالى باسم النصير فقال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬4)، وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} (¬5)، وقال - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬6)، وقال سبحانه: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (¬7). ¬

_ (¬1) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 5/ 64. (¬2) الأسماء والصفات للبيهقي، بتحقيق الشيخ عماد الدين أحمد، 1/ 127 - 128. (¬3) سورة الشورى، الآية: 11. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 31. (¬5) سورة النساء، الآية: 45. (¬6) سورة الحج، الآية: 78. (¬7) سورة الأنفال، الآية:40.

والله - عز وجل - هو النصير الذي ينصر عباده المؤمنين ويعينهم كما قال - عز وجل -: {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1). وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬2)، وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬3)، وقال جلَّ وعلا: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬5)، وقال - عز وجل -: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6)، وقال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 160. (¬2) سورة محمد، الآية: 7. (¬3) سورة غافر، الآية: 51. (¬4) سورة الروم، الآيتان: 4 - 5. (¬5) سورة الحج، الآية: 40. (¬6) سورة الروم، الآية: 47.

فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (¬1). ونُصرةُ الله للعبد ظاهرة من هذه الآيات وغيرها، فهو ينصر من ينصره، ويعينه ويسدّده. أما نُصْرَة العبد لله فهي: أن ينصر عباد الله المؤمنين والقيام بحقوق الله - عز وجل -، ورعاية عهوده، واعتناق أحكامه، والابتعاد عما حرّم الله عليه، فهذا من نصرة العبد لربه، كما قال - عز وجل -: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} وقال: {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} (¬2)، وقال: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬3)، ومن نصر الله بطاعته والابتعاد عن معصيته نصره الله نصراً مؤزّراً (¬4). والله - عز وجل -: ينصر عباده المؤمنين على أعدائهم، ويبين لهم ما يحذرون منهم، ويعينهم عليهم، فولايته تعالى فيها ¬

_ (¬1) سورة الحج، الآية: 15. (¬2) سورة الصف، الآية:14. (¬3) سورة الحديد، الآية: 25. (¬4) انظر مفردات الأصفهاني، ص495.

حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا غزا: ((اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أجُول وبك أصول، وبك أقاتل)) (¬2). والله - عز وجل - ينصر عباده المؤمنين في قديم الدهر وحديثه في الدنيا، ويُقِرُّ أعينهم ممن آذاهم، ففي صحيح البخاري يقول الله تبارك وتعالى: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) (¬3)؛ ولهذا أهلك الله قوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم ممن كذَّب الرسل وخالف الحق، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحداً، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً. وهكذا نصر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على من خالفه ¬

_ (¬1) تفسير السعدي، 2/ 76. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب ما يدعى عند اللقاء، برقم 2623، والترمذي في كتاب الدعوات، باب في الدعاء إذا غزا، برقم 3584، وقال: ((هذا حديث حسن غريب)). وانظر: صحيح الترمذي، 3/ 183. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم 6502.

وكذبه، وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ... ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وانتشر دين الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها (¬1). وقد وعد الله من ينصره بالنصر والتأييد، فمن نصر الله بالقيام بدينه والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وقصد بذلك وجه الله، نصره الله وأعانه وقوّاه، والله وعده وهو الكريم، وهو أصدق قيلاً، وأحسن حديثاً، فقد وعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، ويُيَسِّرُ له أسباب النصر من الثبات وغيره (¬2).وقد بيّن الله - عز وجل - علامة من ينصر الله فمن ادّعى أنّه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب. قال - عز وجل -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬3)،فهذه ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 84. (¬2) تفسير العلامة السعدي، 6/ 66. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 40 - 41.

99 - الشافي

علامة من ينصر الله وينصره الله (¬1). وقد أمر الله عباده المؤمنين بنصره - عز وجل - فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} (¬2)، ومن نصرِ دين الله تعلُّم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬3). 99 - الشَّافِي الشفاء في اللغة هو البرء من المرض. يقال: شفاه الله يشفيه، واشتفى افتعل منه، فنقله من شفاء الأجسام إلى شفاء القلوب والنفوس (¬4). والله - سبحانه وتعالى - هو الشافي، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: ((اللهم ربّ الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير السعدي، 5/ 302. (¬2) سورة الصف، الآية: 14. (¬3) المرجع السابق، 7/ 374. (¬4) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 2/ 488، وانظر: مختار الصحاح، ص144. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 5743، ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض، برقم 2191.

وقال أنس - رضي الله عنه - لثابت البناني حينما اشتكى إليه: ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى. قال: ((اللهم ربّ الناس، مُذْهِب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يُغادِرُ سَقماً)) (¬1). فالله - عز وجل - هو الشافي من الأمراض والعلل والشكوك، وشفاؤه شفاءان أو نوعان: النوع الأول: الشفاء المعنوي الروحي، وهو الشفاء من علل القلوب. النوع الثاني: الشفاء المادي، وهو الشفاء من علل الأبدان. وقد ذكر الله - عز وجل - هذين النوعين في كتابه، وبيّن ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 5742. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 5678.

النوع الأول: شفاء القلوب والأرواح. قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬1). والموعظة: هي ما جاء في القرآن الكريم من الزواجر عن الفواحش، والإنذار عن الأعمال الموجبة لسخط الله - عز وجل - المقتضية لعقابه، والموعظة هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب، وفي هذا القرآن الكريم شفاءٌ لما في الصدور من أمراض الشُّبَهِ، والشكوك، والشهوات، وإزالة ما فيها من رجسٍ ودنسٍ. فالقرآن الكريم فيه الترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، وهذا يوجب للعبد الرغبة والرهبة، وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة عن الشرّ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يُرْضِي الله أحبّ إلى العبد من شهوة نفسه. وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرّفها الله ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 57.

غاية التصريف، وبينها أحسن بيان مما يزيل الشُّبَهَ القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين. وإذا صلح القلب من مرضه تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. وهذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين. وإنما هذه الهداية والرحمة للمؤمنين المصدقين كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬1)، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (¬2)، فالهدى هو العلم بالحقّ، والعمل به، والرحمة ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى بهذا القرآن العظيم. فالهدى أجلُّ الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬2) سورة فصلت، الآية: 44.

والرغائب، ولكن لا يهتدى به، ولا يكون رحمة إلا في حقّ المؤمنين، وإذا حصل الهدى، وحصلت الرحمة الناشئة عن الهدى حصلت السعادة، والربح، والنجاح، والفرح والسرور؛ ولذلك أمر الله بالفرح بذلك فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). والقرآن مشتملٌ على الشفاء والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك كله للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين به. أما الظالمون بعدم التصديق به، أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياته إلا خساراً، إذ به تقوم عليهم الحجة. والشفاء الذي تضمنه القرآن شفاء القلوب ... وشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها. فالله - عز وجل - يهدي المؤمنين: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} يهديهم لطريق الرشد، والصراط المستقيم، ¬

_ (¬1) سورة يونس، الآية: 58.

ويعلمهم من العلوم النافعة ما به تحصل الهداية التامة. ويشفيهم الله تبارك وتعالى بهذا القرآن من الأسقام البدنية، والأسقام القلبية؛ لأن هذا القرآن يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النصوح التي تغسل الذنوب، وتشفي القلوب. وأما الذين لا يؤمنون بالقرآن ففي آذانهم صَمَمٌ عن استماعه، وإعراض، وهو عليهم عمىً، فلا يبصرون به رشداً ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالاً. وهم يُدعون إلى الإيمان فلا يستجيبون، وهم بمنزلة الذي يُنادى وهو في مكان بعيد لا يسمع داعياً، ولا يجيب منادياً، والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهداه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيراً؛ لأنهم سدّوا على أنفسهم أبواب الهدى بإعراضهم وكفرهم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، 3/ 363، و4/ 309، و6/ 584، وتفسير ابن كثير، 2/ 422، و3/ 60، و4/ 104، وتفسير الجزائري أبو بكر، 2/ 286.

ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان، وفي كل بيئة، فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فيُنْشِئها إنشاءً، ويحييها إحياءً، ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها، وفيما حولها، وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمىً، وقلوبهم مطموسة لا تستفيد من هذا القرآن. وما تَغَيَّرَ القرآنُ، ولكن تغيرت القلوب (¬1). والله - عز وجل - يشفي صدور المؤمنين بنصرهم على أعدائهم وأعدائه، قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). فإن في قلوب المؤمنين الحنق والغيظ عليهم، فيكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغمِّ، والهمِّ؛ ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن، 5/ 3128. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 14 - 15.

إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله، ساعين في إطفاء نور الله، فيزيل الله ما في قلوبهم من ذلك، وهذا يدل على محبة الله للمؤمنين، واعتنائه بأحوالهم (¬1). النوع الثاني شفاء الله للأجساد والأبدان: والقرآن كما أنه شفاء للأرواح والقلوب فهو شفاء لعلل الأبدان كما تقدم؛ فإن فيه شفاء الأرواح والأبدان. فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنّ ناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يُقْرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا إنكم لم تُقْرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء فجعل يقرأُ بأم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذ حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه، فضحك وقال: ((وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم)) (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير العلامة السعدي رحمه الله، 3/ 206. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب، برقم 5736، ومسلم في السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، برقم 2201.

وعن عائشة رضي الله عنها ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها)) (¬1). والمعوذات هي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. قال ابن القيم رحمه الله: ((ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة، فما الظنُّ بكلام رب العالمين الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام والعصمة النافعة، والنور الهادي والرحمة العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتصدع من عظمته وجلالته، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، ومن هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا هو أصحُّ القولين)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الرقى بالقرآن والمعوذات، برقم 5735، ومسلم في كتاب السلام، باب رقية المريض بالمعوذات والنفث، برقم 2192. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬3) زاد المعاد لابن القيم، 4/ 177.

وعلى هذا فالقرآن فيه شفاءٌ لأرواح المؤمنين، وشفاء لأجسادهم. والله - عز وجل - هو الشافي من أمراض الأجساد، وعلل الأبدان، قال - عز وجل -: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ*ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}: ما بين أبيض، وأصفر، وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها، وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}، أي في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكلم على الطب النبوي لو قال: فيه ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآيتان: 68 - 69.

الشفاء لكان دواء لكل داء، ولكن قال فيه شفاء للناس، أي يصلح لكل أحدٍ من أدواءٍ باردة؛ فإنه حارٌ، والشيء يُداوى بضده ... والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اسقه عسلاً)) فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيتُهُ فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال له ثلاث مرات، ثم جاءه الرابعة فقال: ((اسقه عسلاً))،فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صدق الله وكذب بطن أخيك)) فسقاه فَبَرأَ (¬1). قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالاً فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، برقم 5684، ومسلم في كتاب السلام، باب التداوي بسقي العسل، برقم 2217.

مصلحة لأخيه، ثم سقاه، فازداد، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه الصلاة والسلام (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((الشفاء في ثلاث: شربةِ عسلٍ، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي)) (¬2) رفع الحديث. والله - عز وجل - هو الذي هدى النحلة الصغيرة هذه الهداية العجيبة، ويسّر لها المراعي ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها وهدايته لها، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى وتمام لطفه بعباده، وأنه الذي ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، 2/ 576. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاث، برقم 5680، موقوفاً. ورقم 5681 مرفوعاً.

ينبغي أن لا يُحُب ولا يُدعى سواه (¬1). وأخبر الله - عز وجل - عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (¬2). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}: أسند إبراهيم عليه الصلاة والسلام المرض إلى نفسه، وإن كان عن قدر الله وقضائه، وخلقه، ولكنه أضافه إلى نفسه أدباً. ومعنى ذلك: إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يُقدِّر تبارك وتعالى من الأسباب الموصلة إلى الشفاء (¬3). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرشد الأمة إلى طلب الشفاء من الله ¬

_ (¬1) تفسير العلامة السعدي، 4/ 218. (¬2) سورة الشعراء، الآيات: 78 - 80. (¬3) تفسير ابن كثير بتصرف، 3/ 339.

الشافي الذي لا شفاء إلا شفاءه، ومن ذلك ما رواه مسلم وغيره عن عثمان بن العاص أنه اشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذِر)) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك، إلاّ عافاه الله من ذلك المرض)) (¬2). فهذا من تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يعتمدوا على ربهم مع الأخذ بالأسباب المشروعة؛ فإن الله - عز وجل - هو الشافي، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، برقم 2202. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم 3106، والترمذي في كتاب الطب، باب 32، برقم 2083، وأحمد، 1/ 239، وقال أبو عيسى: ((هذا حديث حسن غريب)). وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6388.

لا شفاء إلا شفاءه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه بالشفاء؛ لأنه هو الذي يملك الشفاء، والشفاء بيده تبارك وتعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ: ((اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)) (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقي بعض أصحابه، ويطلب الشفاء من الله الشافي: ((بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفى سقيمنا بإذن ربنا)) (¬2). وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - أن الله هو الذي ينزل الدواء وهو الشافي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً)) (¬3). وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لكل داء دواءٌ، فإذا أصيب دواءُ الداءِ بَرأَ بإذن الله - عز وجل -)) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، برقم 5659، ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم 1628/ 8. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 5745، ومسلم في كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، برقم 2194. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 5678. (¬4) أخرجه مسلم في كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي، برقم 2204.

الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بحرام)) (¬1). وجاءت الأعراب فقالت: يا رسول الله ألا نتداوى؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً أو دواءً، إلا داءً واحداً)) فقالوا يا رسول الله ما هو؟ قال: ((الهرم)) (¬2). وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أنزل الله من داء إلا قد أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)) (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم 3874. قال المنذري: ((في إسناده إسماعيل بن عياش فيه مقال)). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم 1569، ويغني عنه ما تقدم من الأحاديث، وما سيأتي. (¬2) أخرجه أبو داود في كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى، برقم 3855،والترمذي في كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه، برقم 2038،وابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3436، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 2930. (¬3) أخرجه أحمد،1/ 377، وبتريب الشيخ شاكر، 5/ 201، برقم 3578، وصححه. والحميدي في المسند، 1/ 50، برقم 90، وأبو يعلى في المسند، 9/ 113، برقم 5183، وابن ماجه في كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، برقم 3438، 3439 مختصراً. والحاكم، 4/ 196 - 197، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وصحح الألباني رواية ابن ماجه في صحيح الجامع، برقم 5558، 5559.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، ويجوز أن يكون قوله: ((لكل داء دواء)) على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن للطبيب أن يُبْرِئَها، ويكون الله - عز وجل - قد جعل لها أدوية تُبْرِئُها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليه سبيلا؛ ً لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ... )) (¬1). فالله - عز وجل - هو الشافي الذي يشفي من يشاء ويطوي علم الشفاء عن الأطباء إذا لم يرد الشفاء. فنسأل الله الذي لا إله إلا هو بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشفي قلوبنا وأبداننا من كل سوء، ويحفظنا بالإسلام، وجميع المسلمين؛ إنه ولّي ذلك والقادر عليه، ¬

_ (¬1) زاد المعاد في هدي خير العباد، 4/ 14.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

§1/1