الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية

عابد السفياني

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1408 هـ - 1988 م

الثباتُ والشمول في الشَريعةِ الإسْلاميَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أصل هَذَا الْكتاب رِسَالَة دكتوراه فِي الشَّرِيعَة الإسلامية فرع الْفِقْه وَالْأُصُول قدمت لكلية الشَّرِيعَة بجامعة أم الْقرى بِمَكَّة المكرمة 1407 هـ ومنحت الدرجَة العلمية بِتَقْدِير ممتاز.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن عمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين. وبعد: فإن الإنسان محتاج إلى مبادئ ثابتة تطمئن اليها نفسه، ذلك لأنه مخلوق مفطور على "التوحيد"، الذي هو دين الرسل جميعاً، وهو الحق الثابت الذي لا يتغير. وهذه الفطرة السوية تكسب النفس الإنسانية ثباتاً في القيم والمفاهيم والمبادئ، وعن طريق ذلك يعمر الإنسان الأرض ويقوم بمهمة الخلافة، وهو يشعر بتكريم الله له، حيث أنزل له "الوحي" وضمنه جواباً عن كل مسألة تحتاج الى جواب، فإذا به يملك صورة صحيحة عن عالم الغيب، وأحكاماً شرعية يحتكم إليها في عالم الشهادة، وكل ذلك متسق مع فطرته، ومع هذا الكون الذي يعيش فيه. فقد خلق الله هذا الكون حياً متحركاً كما خلق الإنسان حياً مريداً هماماً، فها هنا مجموعة حركة متجددة تحتاج إلى توجيه وضوابط، والدوافع والرغبات والمتاع الذي خلقه الله أيضاً لهذا الإنسان يضمن نشاط تلك الحركة فإذا بها حركة مستمرة موارة متجددة.

وقد قدر الله سبحانه أن يذعن الكون كله فلا يخرج عن تلك الضوابط .. أما بنو آدم فقد خيرهم الله بين اتباع سبيل الرشد، أو الانحراف عنه فمنهم من ثبت على فطرته السوية والتزم الهدي الرباني، ومنهم من تحول عنها فانفلت من تلك الضوابط واستجاب للانحراف. ومن رحمة الله سبحانه أن قوى صلاح الفطرة بتلك الضوابط والتوجيهات وإن هذه الضوابط هي الأحكام الشرعية من الحلال والحرام التي تشمل جميع شؤون الإنسان ومجتمعه الخاصة والعامة، واتصفت هذه الأحكام -بما يناسب الكون والإنسان- من الثبات والشمول والحركة والتجدد والعطاء. ولقد حققت الأجيال الأولى من البشرية -على مدى عشرة قرون (¬1) - هذه الصورة الشرعية بما فيها من ثبات وشمول وحركة وتجدد بالمستوى الذي كانت تعيشه في تلك الفترة، والمجتمعات الرعوية، أو الزراعية، أو الصناعية تحتاج إلى هذه الصورة الشرعية، وكل يعيش بها حسب ما آتاه الله من قوة. ثم طرأ على البشرية حالة غير سوية ئما أعرضت عن الهدي الرباني وخرجت عن ضوابطه، فاجتالتها الشياطين وأفسدت فطرتها. ولقد حرص أعداء البشرية -الشيطان وجنده- على تعميق هذا الانحراف، واستعملوا من الأسلحة أخطرها، فكان ذلك السلاح هو "التبديل" تبديل المفاهيم والقيم وتلبيس الحق على الناس واستحداث صورة جديدة للمفاهيم والقيم والأحكام، وتغييرها في كل عصر ومكان وتزيينها للناس، والحيلولة بينهم وبين الهدي الرباني. وبدأ الصراع بين فريقين: الأول: الأنبياء والرسل وأتباعهم من المصلحين: ومهمتهم المحافظة على الفطرة السوية -وهي التوحيد- وإبعاد الشبهات ¬

_ (¬1) كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما -. تفسير ابن كثير 1/ 250.

عنها وتربية الناس على أحكامه، حرصاً على الاستقامة والثبات عليها، ومن ثم بناء حركة شاملة متجددة مع التزام للمنهج الرباني بشموله. الثاني: الشيطان وأتباعه من المفسدين: ومهمتهم إفساد الفطرة ونشر الشرك وأحكامه، حرصاً منهم على إفساد الأرض بتشريعات غريبة عن طبيعة الفطرة، يضعونها بأنفسهم، ويطلقون الإنسان مع رغباته وأهوائه بلا ضوابط شرعية، ويمدونه بأحكام متغيرة متبدلة لا تعرف ثباتاً ولا شمولاً ولا تحفظ الفطرة الإِنسانية من الفساد، لأنها موضوعة على مخالفة مقصد الشارع وهو الله سبحانه. ولم يكتفوا بذلك، بل عادوا على "الوحي" الرباني يحاولون تبديله حتى لا يجد المصلحون مرجعاً يصححون عليه الفساد الذي طرأ على البشرية. ولقد امتنع عليهم تبديل "الكتاب" و"السنة" وهما الحق الذي أنزله الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأرسله به إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، ذلك بأنه وحي تكفل الله بحفظه نعمة منه وفضلاً كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). فلجأ هذا الفريق إلى حيلة أخرى فأخذ في تبديل المعاني الشرعية فجعل السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والتوحيد تخلفاً وخروجاً إلى الانحراف، والشرك تقدماً وتوحيداً، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة وهكذا .. والكتاب والسنة بين يدي المسلمين يقرأون نصوصهما على غير مراد الله لا ينجو منهم من هذه الفتنة إلّا مارحم ربك، وصُدّر هذا الفهم إلى الأمم الأخرى، وتواصى على نشره أعداء البشرية سواء في داخل الأمة أو خارجها، فترى أئمة الغزو الفكري في العالم يقرأون الكتاب والسنة ويدرسونها ويحرفون معانيها ويسعون في فتنة التبديل ... وينشرون دراساتهم وكتبهم لتحقيق هذه الغاية. ¬

_ (¬1) سورة الحجر: الآية 9.

وقبل ذلك وقعت البشرية في فتنة المخالفين من داخل هذه الأمة، فقد حرفت "الفرق الضالة" عقيدة الإسلام وشريعته، وسعت في فتنة التبديل مع استبقاء الانتساب للكتاب والسنة، وقد استفاد أئمة الغزو الفكري منهم وبنوا على تجربتهم واجتمع جهدهم -وهم في أمر مختلف- ولكنه يكون أقوى اجتماعاً وأشد تناصرا عند نشر فتنة التبديل والتغيير مع اختلاف الأساليب والمواقع والشارات والشعارات، وعدو البشرية الأول يرضى عن ذلك كله إذا ما كان الهدف واحداً والغاية التي رسمها مطلوبة ومتحققة. وإن المسلمين اليوم قد أحاطت بهم هذه الفتنة كما أحاطت بالبشرية في أكثر مراحلها وهي تحيط بها اليوم من جميع أقطارها، وليس لنا ولا لها أن ننتظر رسولاً جديداً يرفع هذه الفتنة بإذن الله، ولكن علينا أن نستمسك بالكتاب والسنّة ونحذر من فتنة التبديل، ونتبع ما كان عليه نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وماربي عليه أصحابه رضوان الله عليهم لنكون بفضل من الله من الطائفة التي تقوم بالحق، وبهذا يتحقق لنا أهم أسباب النصر، ولم يبق بعد ذلك إلا الصبر على بذل الجهد وإحسان العمل لنتغلب على الأعداء، ونحول بين البشرية وفتنتهم. إن الصراع بين أهل الحق والباطل ما زال قائماً .. وقد انقطع في كثير من مراحل البشرية قبل بعثة النبي يكرِو عندما غلب أهل الباطل، ولكنه في هذه الأمة لن ينقطع، لأن المصدر الرباني للهدي محفوظ، وطائفة الحق لا تزول وأعداء الدين داخل الأمة وخارجها أمسكوا بالفتنة الجديدة فتنة تبديل المفاهيم والقيم والأحكام واجتمعوا على نصرتها، وتوافرت جهودهم على ذلك، وأمنتهم هذه الأمة -كما أمنتهم البشرية في جميع أقطار الأرض- لما دعوا إلى السلام وجمع العالم تحت رايته وكفوا عن محاربة الدين محاربة صريحة، وأخذوا في طرق أخرى ملتوية وقام أئمتهم المفكرون بدراسة الكتاب والسنّة وتاريخ الإسلام تماماً كما انتسب إليها أئمة الفرق الضالة وسعوا إلى أغراضهمٍ تلك ... جهلاً أو عناداً، وجعلوا العقل والبحث العلمي -بزعمهم- رائداً لهم فوافقهم على ذلك كثير من الكتاب والباحثين في الدراسات الإِسلامية، فعمت تلك الفتنة في العالم

الإسلامي وأنشأت واقعاً أصبح فيه أهل الحق غرباء، وفرح أعداء الإسلام بتجهيل هذه الأمة بدينها، ونشطوا في نشر المذاهب الفكرية المعاصرة، التي تنادي بالفصل بين العقيدة والشريعة وفصل الحياة الدنيا عن الآخرة، وكان في مقدمتها "العلمانية" (¬1). ولم تكن قدرات العقل الإسلامي من القوة والصفاء بحيث يرفض هذا الانحراف ويتمسك "بالوحي" وسبب ذلك يرجع إلى غزو ثقافي قديم تقبله "العقل الإسلامي" وخُدع به، فَسهُل عليه تقبل هذا الغزو الحديث المتمثل في المذاهب المعاصرة. لقد أثر المنهج العقلي الذي دخل على الأمة الإسلامية من ثقافة اليونان عن طريق المعتزلة أثراً بالغاً في الأصول والفروع، وقد شُغِلَت به المعتزلة كثيراً في الأصول الاعتقادية، وأشْغَلت الناس به، وتركت في الأمة آثاراً بالغة السوء ما يزال المصلحون يعانون منها، وورّثت مسالك فاسدة في الأصول أثّرت على الفروع العملية وأضعفت من سلطان الشريعة، وجعلت للعقل منزلة تقارب الشرع أو تضاهيه، تركت هي الأخرى آثاراً بالغة السوء، تمثلت في بعض الأراء عند بعض الشذاذ .. ومن سار سيرتهم في الأمة بعد ذلك من الكتاب المحدثين، وانتهت هذه الكتابات يتأثر المتأخر منها بالمتقدم إلى أن العقل له حق تعطيل العمل بالنص بجميع أفراده بحكم "المصلحة". وذلك هو التغيير والتبديل. ومن الأثار السيئة التي ترتبت على هذه الأفكار الخطيرة أن تزعزع مفهوم "الثبات في الشريعة" عند بعض الدارسين للفقه الإسلامي والمتصلين بالدراسات ¬

_ (¬1) نشأ هذا المذهب الذي أطلق عليه مصطلح "العلمانية" في أوروبا وهو "حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة ... باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية" ولذلك فإن أقرب ترجمة تؤدي المقصود به عند أهله هو "اللادينية". انظر بحثاً مفصلاً عن هذا في كتاب مذاهب فكرية معاصرة ص 445 - 446، للأستاذ محمد قطب، دار الشروق 1403 هـ.

الشرعية، ثم انتشر هذا الأثر السيء في داخل الأمة، وخاصة بعد أن أصبح النظر في المسائل الدينية مشاعاً لكل أحد علم أوجهل، فضعف سلطان "الشريعة" على كثير من النفوس، وليس ذلك بعجيب لأنه إذا ضعف سلطانها على قلوب بعض المنتسبين للعلم، فأعطوا العقل حق الحكم على النص بإلغاء مقتضياته، فإنه لابد من أن يترك هذا المسلك الفاسد أثره داخل الأمة الإسلامية. ومن هنا جُعل للعقل منزلة الحكم على الشريعة بالزيادة أو النقص، وفُتح باب البدع في الأصول والفروع، وكان تحقق هذا الأثر على صفات الشريعة سبباً في دراسة هذا الموضوع، لمعرفة الضوابط العلمية التي اتفق عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإِسلام واستدلوا عليها بالكتاب والسنة والإجماع. ويترتب على ذلك أن نتعرف على منهجهم في الاستدلال لأنه من "الدين" وكل ما يشمله مفهوم الدين ملزم لنا، ومن هنا نفرق بين منهج الاستدلال الإسلامي ومسالك النظر الفاسدة عند المخالفين قديماً وحديثاً، ويتكفل البحث ببيان الفرق في كل موضع بما يناسبه، وفي هذا محافظة على ثبات الشريعة من جانب ومن جانب آخر فيه بيان لكيفية تحقق شمولها في الواقع. والطريق المؤدي لذلك كله هو دراسة منزلة هذه الشريعة، وبيان أن الشارع إنما هو الله سبحانه، وأن النسخ والتبديل والتغيير ليس لغيره، كما أن إنشاء الحكم وإرسال الرسل ليس لسواه سبحانه، وهذه عقيدة من العقائد التي تحتاج إلى تجلية فقد قل الحديث عنها - وإن كانت موجودة في كتب الأصوليين تحت عنوان "من هو الحاكم"، فكان لا بد من الحديث عنها وتجليتها، لأنها ضرورية لإدراك الفرق بين الألوهية والعبودية، وبين الإسلام والجاهلية، وبين السنّة والبدعة، ولكل طوائف البشرية مواقف منها، يتحدد بعدها موقفهم من هذه الشريعة من حيث ثباتها وشمولها، قبولها أو رفضها، الزيادة فيها أو النقص منها. ويتصل بهذا الضابط ضوابط أخرى لا بد من الحديث عنها، ذلك أن كثيراً

من الباحثين المحدثين من الفقهاء وكثيراً من المستشرقين ومن تابعهم، اضطربوا في تحديد منزلة "الفقه الإسلامي" فمنهم من أسقط الشرعية عنه باعتبار أنه عمل بشري وضعي، ومنهم من بالغ في متابعة المجتهدين حتى كف نفسه وغيره عن التصحيح الذي هو جزء من الاجتهاد، وأمام هذه المواقف المختلفة التبس مفهوم الفقه الإسلامي بمصطلح "الشريعة"، فكان لا بد من دراسة تفصيلية تبين الفوارق بين أهم المصطلحات المتصلة بهذا البحث ومن أهمها "الشريعة" و"الفقه" و"علم الكلام"، وذلك أمر ضروري حتى نتعامل مع كل مصطلح وهو في موضعه العلمي السليم ونعطيه حقه من الصفات الشرعية، وهذا طريق مهم لمعرفة منزلة هذه "الشريعة" على حقيقتها دون أن تلتبس بغيرها من المصطلحات، ولكي نحدد أيضاً مقصودنا بالثبات والشمول ونبين الأدلة عليه، لأن الثبات والشمول في "الشريعة" غير الثبات والشمول في "الفقه"، وقد كان المنهج الذي دُرست به هذه المسائل الخطيرة في الدين منهجاً تأثر أثراً كبيراً بمسالك أهل الكلام من المبتدعة قديماً، ومن تابعهم من المحدثين، فانتشرت الدعوة لتغيير بعض أحكام الشريعة، وذلك بعد أن تكاثرت الأقوال التي انتشرت في كتب الأصول، من أن الأدلة النقلية لا تفيد العلم مطلقاً، وأن الفقه من باب الظنيات هكذا على الإطلاق، وأن الاجتهاد إنما يتبع ما اتفق للمجتهد دون اعتبار مرجح شرعي، ثم ازداد الأمر سوءاً عندما تكاثرت بحوث المحدثين على دعم هذه الآراء سواء في العموم، أو القياس، أو المصلحة، أو الإجماع، وهي أهم طرق الاجتهاد، فكان لا بد من دراسعة صلاحية المسلك العقلي غير الملتزم للشريعة وآثاره قديماً وحديثاً، ودرامعة المنهج الشرعي في الاستدلال الذي ورثناه عن الصحابة - رضوان الله عليهم - والذي تعلموه من رسول الله القدوة العملية لتطبيق هذه الشريعة - ومعالجة أهم الشبه التي يمكن أن تثار حول هذه الدراسة، مع ملاحظة الآثار الإيجابية التي ينتجها الالتزام بالمنهج الشرعي في الاستدلال، وإبرازها وبيان دلالتها على ثبات، الشريعة وشمولها في كل موضع بحسبه، وفي المقابل بيان الآثار السلبية التي تنتج عن التزام ذلك المسلك العقلي المخالف للشريعة في الاستدلال -كله أو بعضه- وإبراز أخطاره وآثاره

السيئة على ثبات الشريعة وشمولها، وذلك في أسلوب ميسر بقدر الاستطاعة، ومتتبعاً في ذلك أهم طرق الاجتهاد وذلك بعد التعريف العلمي بهذه الشريعة ومقصدي من ثباتها وشمولها وبيان منزلتها. ومما زادني اهتماماً بدراسة هذا الموضوع ازدياد حدة هذا الانحراف فى عصرنا الحاضر، فقد التقى مع تلك الانحرافات انحراف أعتى وأشد، ذلك أنه انحراف آت من خارج هذه الأمة، ودخل إليها هذه المرة كما هو عند أعدائها دون تنقيح ولا تعديل، وهو ذات الانحراف الذي تلقته الأمة الإسلامية من قبل ولكنها نقلته تلك الحقبة من الزمن وهي على حال غير الحال التي هي عليه الأن، فقد كان إطاره محدوداً ممثلاً في بعض الطوائف، وتجابهه عوائق كثيرة جداً أبعدته عن التأثير في أحكام الشريعة وذلك لرسوخها في عالم التطبيق دون منازعة من أي منهج خارجي، وألجأته لأسباب عدة إلى دراسات الغيبيات، ومع آثاره البالغة السوء في هذا الجانب إلا أن الشريعة الإسلامية كمنهج للحكم لم تتعرض لهجمات العقل اليوناني والمعتزلي، ومن ثم لم يكن لها شريك خارجي يضايقها أو يطاردها. وقد كان من آثار هذا الانحراف -وهي كثيرة وبالغة الخطورة- أن التقى مع الانحراف الذي صدرته أوروبا الحديثة إلى الفكر الإسلامي، فقد عبدت أوروبا هذه المرة العقل عبادة مطلقة وأعطته جميع صفات الإله، ودفعت بفكرها إلى قلب العالم الإسلامي في شكل نظريات ومبادئ ومذاهب وأنظمة. ولأن البشرية اليوم تعيش أكثر انحرافاتها في الواقع التطبيقي لا في مجرد الفلسفة -كما فعل اليونانيون وكما فعلت المعتزلة- فإن الانحراف السابق واللاحق وكلاهما قادم من تراث اليونان الوثني، السابق قدم عن طريق المعتزلة، واللاحق عن طريق الاستشراق، كان لكل منهما أثر سيء على واقع العالم الإسلامي، وتسلل إلى الواقع التطبيقي بقدر أكبر من تسلله إلى عقول الأمة وقلوبها، وكان من آثاره البالغة السوء أن جعل القوانين الوضعية مساوية للشريعة الإسلامية، بل ومقدمة عليها، حكم بذلك العقل الأوروبي اليوناني ومهد لهذا الحكم بمذاهب ونظريات ومؤلفات وواقع مشهود وهو في طريقه المحدد له مستمر في

التأثير، وكان أكبر تأثيره منصباً على "الشريعة الإسلامية" من حيث ثباتها وشمولها وحاكميتها رغبة في انتشار عقيدة أهل التبديل وهي "ابتغاء غير الله حكماً" وترك العبودية له، ورد أمره عليه، والإعراض عن متابعة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتشكيك في صفات الشريعة، والعقل الأوروبي اليوناني يقدم السند لهذا الكفر والإلحاد، والغزو الفكري والاستشراق يصدره إلى حيث يستطيع ويربي لحمله المفكرين والباحثين. وقد اتخذ لهذا طرقاً كثيرة للتأثير على العالم الإسلامي منها: 1 - جعل النهضة الصناعية الأوروبية سبباً لتغيير المفاهيم الدينية والإعراض عن الشريعة الخاتمة التي أرسل بها آخر الرسل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وفي ذات الوقت جعلوا من التطور المادي الرهيب الذي تعيشه هذه البشرية سبباً في التشكيك في شمول الشريعة إذْ كيف تحكم هذه الشريعة الثابتة هذه الأحوال المتطورة المتشعبة التي لا تنقطع حوادثها والتي تمثل تطوراً مادياً لم تشهد البشرية مثله من قبل، فكان لا بد من دراسة كيفية تحقق الشمول وأن ذلك هو مهمة الاجتهاد الذي لا ينقطع ما دام أن هذه الأمة قائمة برسالتها في هذه الأرض، وأن طرقه كفيلة بتحقيق ذلك الشمول، فقد أنزل الله هذه "الشريعة" شاملة، وكان منهج الاستدلال فيها على حال يحقق هذا الشمول في واقع البشرية وما يزال، وهذا البيان مستمر مع جميع موضوعات البحث كل موضع بما يناسبه. 2 - إخضاع الدين والأخلاق والقيم لحكم العقل باعتبار أنه شب عن الطوق فلم يعد يحتاج إلى الله، وتقديم إنتاج المادية الأوروبية شاهداً على قدرات العقل البشري غير المحدودة والالتزام بالمنهج المادي الصرف الذي لا يؤمن بالغيب ولا بالرسول ولا بالوحي، ويقف بالبشرية عند حد الإيمان بالمحسوس. 3 - ربط الشريعة بالجيل الذي كان موجوداً حين نزولها، وجعل مفاهيمها وقيمها وأحكامها حكراً على بيئة معينة، وإخضاعها للتبديل والتغيير إنْ أُريد نقلها إلى بيئة أخرى وزينوا للناس هذه الشبه بإخضاع مذاهبهم للتغيير بين آونة وأخرى ومن بيئة لبيئة وجعلوا الشريعة مماثلة لذلك خاضعة للحكم نفسه.

4 - اعتمادهم على بعض الآراء والحركات المنحرفة التي نشأت داخل الأمة واتخذت التبديل لأصول السنة شعاراً وكذلك بعض المفكرين المحدثين الذين اتجهوا صوب الفكر الأوروبي وتأثروا به. 5 - تأثيرهم النفسي على القراء والكتاب - المتمثل في الدراسات الاستشراقية التي غزت العالم من جميع أطرافه وقد زعم بعض المستشرقين أنها هي حصيلة البحث العلمي المجرد ذي الخصائص والقدرات التي لم تحظ بها أي دراسات أخرى، ذلك أن إدراك خصائص الفكر الإِسلامي أصبح قاصراً عليهم كما زعم زاعمهم، وزُين ذلك لكثير من الباحثين حتى اتخذهم الغزو الفكري سلماً لتحقيق مآربه .. لهذه الأسباب مجتمعة عزمت على دراسة موضوع "الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" وأرجو الله أن يجعله خالصاً صواباً عسى أن يرحمني بقبوله ويمن عليّ بتيسيره، و"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ... " (¬1). منهج البحث: 1 - الترتيب الموضوعي للبحث بحيث تُبنى قضاياه بعضها على بعض، حتى تنتهي موضوعاته، والقارئ ينتقل من موضوع إلى موضوع آخر ينبني عليه ويرتبط به ارتباطاً منطقياً فلا يشعر بالانقطاع. 2 - اهتممت اهتماماً شديداً بتحديد المصطلحات وخاصة تلك التي تَنْبني عليها مسائل أصلية، وطلبت فيها الأصالة وموافقة السلف الأول من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وتجافيت عن مخلفات الفرق والمنهج العقلي وآثار الغزو الفكري الحديث. 3 - دراسة الموضوعات ذات الصلة البارزة بموضوع البحث مع الاهتمام بالكليات وضرب الأمثلة الفقهية ذات الدلالة على المقصود في كل ¬

_ (¬1) الحديث من رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 1/ 9، الطبعة السلفية القاهرة 1380 هـ.

موطن بحسب الحاجة، وتأسيس القواعد العلمية لموضوع الثبات والشمول على أصول أهل السنة حتى يستقر البحث على قاعدة راسخة يمكن بعدها معالجة الآراء المخالفة من داخل الأمة أو من خارجها. 4 - معالجة الآراء المخالفة التي انبعثت من داخل الأمة وربطها باصولها سواء رجعت أصولها إلى الفرق الضالة -داخل الأمة- أو رجعت هي الأخرى إلى الأصول الفلسفية خارج الأمة، ثم تفنيدها وبيان الأسباب التي أدت إلى انتشارها سواء كانت هذه الأسباب من خارج الأمة أو من داخلها، مع الاهتمام بنقد أسسها ومعالجتها معالجة كلية وبيان خطورتها والطريق إلى السلامة من آثارها السلبية ووصفها بالوصف الذي تستحقه وتحديده لنعرف هل هو مجرد خطأ في الاجتهاد أو انحراف ناتج عن مسلك غريب في الاستدلال. 5 - جعلت عرض ومناقشة الآراء المخالفة التي وقع فيها بعض الباحثين في الفقه والأصول قديماً وحديثاً عند تأسيس قواعد البحث في كل موضع بحسبه مع ربطها بالتأثيرات الخارجية إن وجدت. 6 - توثيق مسائل البحث، ما كان منها منسوباً إلى الفقهاء والأصوليين فإلى كتبهم، وما كان منها منسوباً إلى الكتاب المحدثين فإلى كتاباتهم. 7 - التزام المنهج العلمي في المناقشة، والتأكيد على إسقاط الآراء الشاذة وكشف آثارها الخطيرة على الشريعة وتبرئة المنهج العلمي منها محافظة على أصول الدين ومقاصده. 8 - حرصت على أن يكون أسلوب البحث سهل الفهم بعيداً عن ما درج عليه كتّاب الأصول لأن المقصود من الكلام الإفهام. 9 - وضعت "خاتمة" ذكرت فيها أهم نتائج هذه الدراسة. 10 - وضعت فهرساً للمراجع والمصادر، وآخر لمحتويات الرسالة.

ومن المفيد أن أختم هذه المقدمة ببيان أن كيد الأعداء لم يكن لينفذ لولا أن المسلمين فرطوا فيما كلفهم الله به، فحقت عليهم سنة الله الجارية، فتغير حالهم من اجتماع إلى تفرق ومن قوة إلى ضعف، وكثرت فيهم طوائف أهل التبديل، ولم تسلم القرون المفضلة إلّا لأنها ثبتت على الأمر الأول، أما الأجيال المتأخرة فقد سقطت في فتنتهم لما كثُر الخبث فيها وفرط كثير من علمائها في إقامة الحق، بل وانتسب منهم خلق كثير إلى الفرق الضالة، ولا نتوقع بعد ذلك إلا تخلفاً عقائدياً كبيراً -يقع في المجتمع الإسلامي- كانت خاتمته إسقاط الخلافة وإحلال أهواء البشر وأنظمتهم محل شريعة الله، وامتزجت أكثر أهواء الفرق مع أهواء المذاهب الفكرية المعاصرة والتيارات الجديدة المنحرفة. وطريق العودة هو خروج هؤلاء من فتنة التبديل وفهم الإسلام عقيدة وشريعة كما فهمه رسول الإسلام وأصحابه عليهم رضوان الله ومن ثمَّ تخرج هذه الأمة من هذه المرحلة الخطيرة وتخرج البشرية معها بإذن الله. ومن المعلوم أن مجرد بقاء الوحي -كتاباً وسنة- بلا تحريف ولا تبديل لرسمه، لم يكن هو الذي بنى الجيل الأول والقرن الذي يليه والقرن الذي يليه، ولم يكن أيضاً مجرد الانتساب، بل كان وراء ذلك فهمٌ متوازنٌ متكاملٌ للعقيدة، وتطبيقٌ حيٌ واقعيٌ لأحكام الإسلام، ومنهج تربوي يحفظ هذا المجتمع على الصورة الصحيحة للإسلام فكراً وعملًا، ومن ثم كان ذلك الجيل هو الحجة علينا وعلى البشرية جمعاء، وسبيله هو السبيل الوحيد لإقامة الحق والخير في هذه الأمة وفي البشرية بإذن الله. وهذا الكتاب مساهمة متواضعة في هذه السبيل، يقصد لتحقيق تلك الغاية وينطلق من ذلك المنطلق ويعالج آثار تلك الفتنة العمياء .. من خلال دراسة قضية "الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" وأرجو من الله سبحانه أن يكون مساعداً على جمع الإِيجابيات الكثيرة لهذه الفترة التجديدية التي تعيشها

الصحوة الإسلامية (¬1) وإبعاد السلبيات عنها محاولة في جمع الطاقة الإسلامية والحيلولة بينها وبين متاهات الفكر وتشتت الجهد العلمي والنفسي. وإلى أن يأذن الله سبحانه بالتمكين للحق وإظهاره على أعدائه وإزالة الشبه التي انتشرت في هذه الأمة وأحاطت بالبشرية من كل جانب، إلى ذلك الحين لا بد من مواصلة الجهد وبذل الوسع ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. وإن هذه الدراسة التي تسعى لهذا الهدف قدر الله لها أن تكون رسالة علمية تقدم لجامعة أم القرى تتبع منهج البحث في التقسيم والترتيب والعرض والمناقشة ... وتستوعب موضوعات كثيرة ومناقشات مطولة قد يتعب معها بعض القراء ويعجزهم الربط بينها وبين الهدف المنشود. والله أسأل أن يجزي عني كل من قدم لي معروفاً وأسدى لي نصحاً وعلمني علماً أنتفع به في ديني وأخص بالذكر لجنة المناقشة الكريمة وفي مقدمتها فضيلة أستاذي الدكتور حسين حامد حسان المشرف على الرسالة وفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، وفضيلة الشيخ الدكتور محمود عبد الدائم، فجزاهم الله كل خير وأجزل لهم المثوبة والعطاء. وأشكر كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأشكر أساتذتي الفضلاء، وأستغفر الله سبحانه عما عسى أن أقع فيه من الزلل والخطأ، وأرجو منه القبول والتوفيق "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. مكة المكرمة 2/ 1408 هـ عابد بن محمد السفياني ¬

_ (¬1) وكما أن صلاح هذه الأمة لا يتحقق إلّا إذا خرجت من فتنة أهل التبديل، فكذلك "الصحوة الإسلامية" في حاجة ماسة للحذر من فتنتهم، والاستمساك بالحق الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد ظهر في هذه الفترة جهدٌ ضخم وتخطيط ماكر يريد أن يصرفها عن ذلك الأمر الأول، ثم يفتتها ويضرب بعضها ببعض.

تمهيد في أهم خصائص الشريعة الإسلامية بوجه عام

تمهيد في أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام إن الشريعة الإسلامية تميزت بخصائص وسمات عن جميع القوانين البشرية التي تضعها طائفة من البشر أو يضعها الزعيم أو المفكر، وهذه الخصائص كثيرة منها الخاصية الأساسية وهي عموم الرسالة للإنس والجن وختمها الشرائع ومنها: 1 - أن هذه الشريعة هي شريعة الله أنزلها سبحانه بعلمه وليس له في وضعها شريك ولا ظهير. 2 - أنها ثابتة ما دامت الحياة الدنيا. 3 - أنها شاملة لجميع ما يحتاجه الناس من عقائد وشرائع وأحكام. 4 - أنها متوازنة لا اضطراب فيها ولا عوج. 5 - أنها تتميز عن شرائع البشر بكونها شريعة نُزلت لتحمل الناس على الخير وتحكم لهم واقعهم البشري الذي يعيشونه حسب اختلاف مجتمعاتهم (¬1). ولكل خاصية من هذه الخواص تطبيقات لا تحضر تؤكدها وتبينها. ولما كان موضوع هذه الدراسة الخاصية الثانية والثالثة استحسنت أن أمهد لذلك بالحديث عن ألصق تلك الخصائص بهاتين الخاصتين وهي كما أرى الخاصية الأولى. ¬

_ (¬1) انظر كتاب خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب -رَحِمَهُ اللهُ-

وسيكون موضوع هذا التمهيد الحديث عن أن التشريع والأمر والنهي حق الله الخالص لا يشاركه فيه أحد، وذلك من خلال بعض الآيات القرآنية ونصوص أهل العلم من الفقهاء والأصوليين، وأن حق النسخ وهو التبديل والتغيير إنما هو لمن له حق الإِنشاء وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا تقرر ذلك لزم عنه عزل أهل السماء والأرض عن ذلك كله، وسلمت للناس هذه الشريعة شاملة ثابتة بلا تحريف ولا تبديل. وسأعرض لذلك من ثلاثة طرق. الأول: تقرير ما جاءت به الآيات القرآنية من أن الله هو الذي ينشئ الأحكام. الثاني: تقرير ما جاءت به الآيات من نفي صفة الملك والأمر .. الخ عن كل ما سوى الله ووصف المخلوقين جميعاً بالحاجة والافتقار والضعف والعجز .. الثالث: تقرير ما جاءت به الآيات من أن التشريع من دون الله كفر .. * الطريقة الأولى: ربط القرآن في مواضع كثيرة بين الإقرار بصفات (¬1) الله سبحانه وتعالى من الخلق والسمع والبصر والعلم والحكمة والتدبير وبين كونه صاحب الأمر الذي لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته .. ودعا القرآن الناس ليؤمنوا بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر والعليم والحكيم ... الخ وأنه صاحب الأمر والحكم لاشريك له وأنه مالك يوم الدين، أي يوم الجزاء، وذلك ليتجه له الخلق بجميع أنواع العبادة من الخوف والرجاء والصلاة والدعاء والإنابة والاستغاثة، والذبح والنذر، والتوكل والخشية ... وقد خاطب القرآن النفس البشرية بهذه العقيدة في مواضع كثيرة جداً، ¬

_ (¬1) من مقاصد القرآن في التذكير بصفات الله ودعوة الخلق للتسليم بها أن يؤمنوا بعد ذلك أنه سبحانه هو المعبود وحده بحق، فيصرفون له جميع أنواع العبادة مخلصين له الدين.

وسبب ذلك أن النفس البشرية لا تؤمن بأن الأمر وهو "الحكم والتشريع" لله دون سواه إلا إذا أيقنت أن الله هو الخالق والمدبر والمالك. وكثيراً ما يسلم الكفار بأن الله هو الخالق والرزاق والمدبر .. ثم لا يؤمنون بأنه المعبود المطاع، ولذلك سجل عليهم القرآن القول بأن الله هو الخالق والمدبر وأنه رب العرش العظيم وهو يجير ولا يجار عليه كما قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (¬1) ثم دعاهم بعد ذلك الى التذكر والتدبر والتقوى، لكي يؤمنوا بأن الله الذي خلق الأرض والسماوات والعرش العظيم وهو يجير ولا يجار عليه وبيده ملكوت كل شيء هو الذي يستحق أن يكون له الأمر، لأن الذي بيده ملكوت كل شيء له الأمر كله، وهذا معنى قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). وبهذا المعنى الشامل جاء الحديث عن سلطة الله المطلقة في الحكم الكوني والحكم الشرعي، فقال سبحانه وتعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون: الآيات 84 - 85 - 86 - 87 - 88 - 89. (¬2) سورة الأعراف: آية 54 - قال الطبري: " .. ألا له الخلق كله، والأمر الذي لا يُخَالف، ولايرد أمره دون ما سواه من الأشياء كلها" 8/ 206. جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، الطبعة الثالثة 1388 هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر. (¬3) سورة يوسف: آية 40.

وبه تتحقق العبادة التي يريدها الله: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وهذه العقيدة هي معنى "الكلمة السواء" وهي "شهادة أن لا إله إلا الله" وهذه هي الكلمة التي أمر الله رسوله أن يدعو أهل الكتاب إليها فقال سبحانه: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2). والمعنى: "قل يا محمد لأهل الكتاب ... هلموا إلى كلمة سواء يعني إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ونبرأ من كل معبود سواه فلا نشرك به شيئاً، وقوله: {ولايتخذ بعضنا بعضاً أرباباً} يقول ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه فإن تولوا: يقول: فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها، فلم يجيبوك إليها، فقولوا أيها المؤمنون للمتولين عن ذلك: اشهدوا بأنا مسلمون" (¬3). وهذه الكلمة السواء هي الكلمة التي جاء بها الرسل جميعاً للناس كافة، تحمل لهم عقيدة واحدة وهي أن الملك كله لله الذي هو متصف بجميع صفات ¬

_ (¬1) سورة يوسف: آية 40، وانظر ابن كثير في تفسير الآية حيث قال: "ثم أخبرهم يعني يوسف - أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله وقد أمر عباده قاطبة ألّا يعبدوا إلّا إياه" 2/ 480 تفسير ابن كثير لأبي الفداء إسماعيل بن كثير دار الفكر - لبنان طبعة سنة 1401 هـ. (¬2) سورة آل عمران: آية 64. (¬3) جامع البيان 3/ 301 - 302.

الكمال وأن الأمر كله له سبحانه، يشرع الأحكام وينشئها ويرسل بها رسله ليبلغوها للناس، فهو سبحانه المعبود وحده بحق لأنه صاحب الخلق والأمر. • الطريقة الثانية: وهي مقابلة للطريقة السابقة: ذلك أن الله سبحانه وتعالى نفى صفة الخلق والتدبير والملك عن كل ما سواه، ثم نفى صفة الحكم والتشريع عن كل ما سواه. وقد تكاثرت الآيات القرآنية في إثبات مختلف صفات النقص للإنسان خاصة فكل ما سواه سبحانه مخلوق مفتقر ومحتاج إلى الله، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً، بل لا يملك أدني من ذلك كما قال تعالى في وصف ما يعبد من دونه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} (¬1). وقال عنهم: {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} (¬2). وحتى القطمير لا يملكونه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (¬3). ووصفهم بأنهم: {لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت: آية 17. (¬2) سورة سبأ: آية 22. (¬3) سورة فاطر: آية 13، والقطمير هو القشرة التي على ظهر النواة وقيل القمع الذي يكون على التمرة، جامع البيان 23/ 125. (¬4) سورة الفرقان: آية 3.

وفي مقابل ذلك ليس لهم من حق التصرف والتدبير والأمر والتشريع شيء، فلا ينبغي أن يصرف لهم أي نوع من أنواع العبادة. وإذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم أعظم الناس منزلة عند الله ليس لهم في الخلق والتصرف والأمر شيء فكيف بغيرهم. وقد وصف القرآن الرسل بأنهم بشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا يعلمون الغيب إلا ما أخبرهم الله به، ومهمتهم هي التبليغ والإنذار والتبشير وهم فيما يبلغونه عن الله لا يقدمون فيه ولا يؤخرون ولا يكتمون منه شيئاً ولا يبدّلون. فأمر الحكم والتشريع إذن لله وحده دون ما سواه، والرسل مبلغون ما أوحى إليهم سواء بلفظه أو بمعناه. وإليك الأدلة القرآنية على ذلك: أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس إنه بشر: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (¬1). ومثلها ما ورد على صفة التعجب: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (¬2). وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬3). وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ¬

_ (¬1) سورة فصلت: آية 6. (¬2) سورة الإسراء: آية 93. (¬3) سورة الأعراف: آية 188.

وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} (¬1). وبشرية الرسول هذه هي التي تحدد مهمته التي نص عليها القرآن في أكثر من موضع، فهي مهمة التبليغ والإِنذار والتبشير. ومن الآيات التي حددت مهمة الرسول - عليه الصلاة والسلام - قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬2). فصاحب الأمر هو الله والرسول مبلغ فقط، ومثلها قوله تعالى في سورة النحل: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (¬3). والبلاع هنا للتبشير والإنذار كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (¬4). وبه تتحقق الشهادة من الرسل على البشر: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (¬5). وتحديد هذه المهمة على هذا النحو بالنسبة للرسل والقطع بها في مواطن كثيرة في القرآن يكشف لنا بوضوح عن مهمة البشر بعد ذلك، فإذا لم يكن للرسل إلّا البلاغ وهم متبعون للوحي متعبدون بذلك، لا يسعهم الخروج عنه، ¬

_ (¬1) سورة الجن: آية 20 - 21 - 22. (¬2) سورة المائدة: آية 67. (¬3) سورة النحل: آية 35. (¬4) سورة الإسراء: آية 105. (¬5) سورة الأحزاب: آية 45.

ولا التبديل فيه، فإن البشر محكومون بهذا الوحي الذي بلغة الرسل واتبعوه، ليس لهم أن يغيروا فيه ولا يبدلوا. وقد تكلم الإمام الشافعي في كتابه الرسالة عن هذا، فقال: "باب ما أبان الله لخلقه من فرْضِه على رسوله اتباع ما أوحى إليه وما شهد له به من اتباع ما أُمر به، ومِنْ هُدَاه، وأنه هادٍ لمن اتَبَعَهُ" (¬1). واستدل الشافعي على ذلك بآيات كثيرة منها: 1 - قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬2). 2 - وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬3). 3 - وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬4). قال الإمام الشافعي: "فأعلم اللهُ رسولَه مَنه عليه بما سبق في علمهِ من عصمتهِ إيّاه من خلقه، فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬5). ¬

_ (¬1) الرسالة 1/ 85 للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر 1309 هـ. (¬2) سورة الأحزاب: آية 1 - 2. (¬3) سورة الأنعام: آية 106. (¬4) سورة الجاثية: آية 18. (¬5) سورة المائدة: آية 67، وانظر الرسالة 1/ 86.

"وشهد له جل ثناؤه باستمساكه بما أَمرهُ به والهُدى في نفسه وهداية من اتبعه فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). ثم قال: "فأبان الله أنْ قد فرضَ على نبيهِ اتباعَ أمرِه وشهدَ له بالبلاغِ عنه، وشهدَ به لنفسه، ونحن نشهدُ له به تقرباً إلى الله بالإيمان به وتوسلًا إليه بتصديق كلماته" (¬2). وقرر الإمام الشاطبي هذا الأصل -الذي قرره الإمام الشافعي- وذلك في كتابه الموافقات حيث قال: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً (¬3)، والدليل على ذلك .. النص الصريح الدال على أن العباد خُلقوا للتعبد لله والدخول تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (¬4). إلى غير ذلك من الآيات الأمرة بالعبادة على الإطلاق وبتفاصيلها على العموم فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال والانقياد الى أحكامه على كل حال وهو معنى التعبد لله .... " (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الشورى: آية 52، وانظر الرسالة 1/ 86. (¬2) الرسالة 1/ 87. (¬3) أي أن يعيش في حياته حسب أمر مقدر لا اختيار له فيه من حيث ولادته ونفسه وخِلْقَتِهِ ... الخ. (¬4) سورة الذاريات: آية 56 - 57. (¬5) الموافقات في أصول الأحكام 2/ 120، أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي تحقيق محمد محي الدين، مطبعة المدني بالقاهرة.

ويدخل في كلام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ-: توحيد الاتباع والطاعة وهو مبني على علم الإنسان بصفات الله وتأليهه له، وخوفه منه وتضرعه إليه، وتوكله عليه، وإنابته إليه، وذبحه ونذره ودعائه وصلاته له وحده سبحانه وإذا حقق العبد ذلك انقاد لأحكام هذه الشريعة وأذعن لها في إيمان واستسلام، ورضى وطمأنينة، لا يعرض عن شيء منها، ولا يقدم عليه غيره، فضلاً أن يقع في جحود شيء منها أو إنكاره. وعلى هذا الأصل بنى الشاطبي قوله في كتاب الاعتصام حيث قال: " .. فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم ومطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم لم يختص الحجة (¬1) بها أحداً دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة حتى أن الشريعة (¬2) المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها، فأنت ترى أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص به دون أمته أو كان عاماً له ولأمته .. " (¬3). وهذا الذي قررته الآيات بمثابة البيان لمهمة البشر في هذه الأرض وأنهم محكومون بهذه الشريعة لا يخرج عن حكمها أحد البتة، حتى الأنبياء والرسل، والتشريع حق الله الخالص، وعلى الرسل والبشر جميعاً الإذعان والاتباع، فإذا لم يحق لأحد على الإطلاق كائناً من كان أن يخرج عن حكم هذه الشريعة فلأن لا يكون له شيء من حق التشريع أو التغيير أو التبديل أولى وأحرى. وها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول للذين لا يرجون لقاء الله وهم يطلبون منه أن ¬

_ (¬1) قال المحقق لفظ "الحجة" الأرجح أنها زائدة. (¬2) قال المحقق لفظ "الشريعة" كذلك الأرجح أنها زائدة، وقد ذكرتهما في الصلب محافظة على النص. (¬3) الاعتصام 2/ 338 للعلامة المحقق الإمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي وبه تعريف المدقق السيد محمد رشيد رضا دار المعرفة - بيروت - 1202 هـ الناشر محمد على صبيح .......

يبدل ما أوحاه الله إليه يقول لهم أنه ليس له من الأمر شيء إنما هو متبع للوحي. قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (¬1). "فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه -أي على الرسول- وعلى جميع المكلفين وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم ألا ترى الى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬2). فهو - عليه الصلاة والسلام - أول من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثم من اتبعه فيه، والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبيّن لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع، ولما استنار قلبه وجوارحه - عليه الصلاة والسلام - وباطنه وظاهره بنور الحق علماً وعملاً صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم ... لأنه حكم الوحي على نفسه .. وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به، إذْ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر، وبالنهي وهو منته، وبالوعظ وهو متعظ وبالتخويف وهو أول الخائفين وبالترجيه وهو سائق دابة الراجين" (¬3). وقرر ابن تيمية هذا المعنى عند قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة يونس: آية 15، وانظر تفسير ابن كثير 2/ 411. (¬2) سورة الشورى: آية 52. (¬3) الاعتصام 2/ 338 - 339.

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (¬1). فقال: "فالحكم لله وحده، ورسله يبلغون عنه، فحكمهم حكمه وأمرهم أمره، وطاعتهم طاعته، فما حكم به الرسول وأمرهم به وشرعه من الدين وجب على جميع الخلائق اتباعه وطاعته، فإن ذلك هو حكم الله على خلقه، والرسول يبلغ عن الله قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ... } الآية (¬2). فعلى جميع الخلق أن يحكّموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وأفضل المرسلين .. " (¬3). وإنما كان الحكم لله وحده لأن ذلك مقتضى الألوهية كما بينت سابقاً، وأما أنّ الرسولَ المبلغَ يطاع بإذن الله فذلك لأنه حكّم الوحي على نفسه كما قال الإمام الشاطبي: "وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه، ودلالة له على الصراط المستقيم الذي صار عليه - عليه السلام -" (¬4). فهذا هو شأن سيد ولد آدم - عليه السلام -، والبشر بعده كافة مدعون في ¬

_ (¬1) سورة يوسف: آية 40. (¬2) سورة النساء: آية 64. (¬3) مجموع الفتاوى الكبرى 35/ 363 لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية طبعة 1398 هـ. (¬4) الاعتصام 2/ 339، وانظر أصول الفقه 36 لأستاذي الدكتور حسين حامد حسان وطريق العودة إلى الإسلام حيث قال مؤلفة: الإمام لا يتمتع بأي سلطة تشريعية، كيف والرسول ذاته - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مخولاً أن يشرع؟ إنما كان يجتهد إذا انقطع عنه الوحي في البحث عن حكم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، والمعول بعد ذلك على إقرار الوحي لما قد هداه اليه اجتهاده، وربما نزل الوحي يأمر النبي أن يتحول عن اجتهاده إلى حكم آخر فلا يسعه - صلى الله عليه وسلم - إلّا تنفيذ ما أمره به المشرع جل جلاله فالأئمة الذين جاءوا من بعده مثله في ذلك مع فارق انقطاع الوحي وضرورة اتباعهم لما صح من سنته القولية والفعلية" 62 للدكتور سعيد رمضان البوطي.

القرآن إلى الإيمان بأن الله هو المعبود بحقٍ وحده بلا شريك، وأن ذلك إنما يتحقق باعتقاد أنه هو الخالق وحده والمتصرف وحده .. والآمر وحده دون سواه، ولا حق لأحد في شيء من ذلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. ولأهمية هذه العقيدة ولأنها هي المفتاح الأول لدراسة الشريعة الإسلامية والتمكين لها احتاجت للبيان المتكرر في القرآن في كثير من المواضع، وإليك الآن الطريقة الثالثة المبينة لذلك. • الطريقة الثالثة: وتتلخص هذه الطريقة في أن كثيراً من الآيات جاءت لتبيّن أن من أسباب الكفر والشرك التشريع من دون الله، وأن ذلك هو ما تصفه السنة الذين يفترون على الله الكذب -حيث يستحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحله- وأن ذلك من ابتغاء حكم الجاهلية، وأنه غير سبيل المؤمنين، وأنه زيادة في الكفر. ويضيف القرآن في أكثر من موضع بياناً يزيل به الشبه ويدفع به أعذار المعتذرين، ويكذّب به زعمهم في طلب التوفيق بين شرع الله وشرع غيره، ويكذب دعواهم أن ذلك هو محض المشيئة، وأنه لو شاء الله أن لا يُعبد غيره ولا يُحرم شيء من دونه لكان ذلك .. وهذه بعض الآيات القرآنية التي وردت في المواضع المشار إليها، ومنها قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬1). يقول الإِمام الطبري في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى ذكره، أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم ... ابتدعوا لهم من الدين مالم يبح الله لهم ابتداعه .. " (¬2). ويؤكد الإمام الشاطبي على هذا المعنى فيقول: "إن البدع إذا تُؤمل معقولها وُجدت رتبها متفاوتة فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الشورى: آية 21. (¬2) 25/ 21، وانظر تفسير ابن كثير 4/ 112.

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (¬1) ... وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح" (¬2). وبين القرآن في مواضع أخرى أن استحلال الحرام وتحريم الحلال بغير إذن من الله كذب وافتراء على الله، بل هو زيادة في الكفر، كما قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬4). والافتراء إنما يقع في نفس التشريع كما قال الله تعالى عن المشركين: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 136. (¬2) ثم ذكر قسمين آخرين للبدع الأول: "ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة، ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفر كبدعة التبتل .. ". الاعتصام 2/ 37، قال المعلق على الكتاب لعل الأصل "على أنها ليست بكفر". (¬3) سورة النحل: آية 116. (¬4) سورة التوبة: آية 37. (¬5) سورة الأنعام: آية 137.

قال الشاطبي: "فنسبهم إلى الافتراء -كما ترى- والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراء، وإنما يقع الافتراء في نفس التشريع ... " (¬1)، ولذلك كان التشريع من دون الله من فعل الجاهلية كما قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (¬2). فتشريعهم من دون الله افتراء عليه، ولذلك كان كفراً وجاهلية، يقول الإمام ابن كثير عند تفسير هذه الآية: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله (¬3)، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسيات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه - فصارت في بنية شرعاً متبعاً، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك منهم فهو كافر ... {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون ... " (¬4). وكما نقل الإمام الشاطبي الاتفاق على أن التشريع من بدع الجاهلية وهو من الكفر الصراح الذي لا شك فيه، فقد صرح الإمام ابن كثير بالإجماع على هذا المعنى فقال: " ... فمن ترك الشرع المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 41. (¬2) سورة المائدة: آية 50. (¬3) هذا هو التشريع من دون الله الذي قال عنه الإمام الشاطبي أنه هو الافتراء. (¬4) تفسير ابن كثير 2/ 68.

"الياسا" (¬1)، وقدمها عليه! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬2). وقال تعالي: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3) " (¬4). ولذلك كفر اليهود والنصارى لما تمسكوا بشرع مبدل منسوخ قال شيخ الإسلام: "ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعاً فشرعه باطل لا يجوز اتباعه كما قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله} ولهذا كفر اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ" (¬5). فالتغيير والتبديل من فعل الكفار، وقد أبان عن ذلك الشاطبي أيضاً حيث قال عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (¬6). قال: "وهو دليل على أن تحريم ما أحل الله وإن كان بقصد سلوك الآخرة منهي عنه، وليس فيه اعتراض على الشرع ولا تغيير له ولا قصد فيه الابتداع، فما ظنك إذا قصد به التغيير والتبديل كما فعل الكفار ... " (¬7). وقد مر تقسيم الإمام الشاطبي لمراتب البدع فمنها ما هو كفر لا شك فيه وهو محل اتفاق، ومنها ما هو دون ذلك، والبدع على كل حال تلزم صاحبها بأوصاف ثلاثة: ¬

_ (¬1) "الياسا" و"الياسق" اسمان لكتاب كتب فيه التتار أحكامهم التي كان يحكمون بها، انظر البداية والنهاية لإبن كثير 13/ 119 مطبعة السعادة - مصر. (¬2) سورة المائدة: آية 50. (¬3) سورة النساء: آية 65. (¬4) البداية والنهاية 13/ 119. (¬5) مجموع الفتاوى الكبرى 35/ 365. (¬6) سورة المائدة: آية 87. (¬7) الاعتصام 2/ 37، 40.

1 - أن الرسول خان الرسالة. 2 - معاندة الشرع. 3 - رد أمر الشارع عليه. فبالنسبة للأول قال الإمام الشاطبي: "إن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة، ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَام دِينًا} (¬1) " (¬2). ثم قال: "وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتي ببيان جميع ما يُحتاج إليه في أمر الدين والدنيا (¬3) وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .. فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم" (¬4). ونقل قول الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ-: "من ابتاع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة" (¬5). وأما بالنسبة للأمر الثاني فقد قال: "إن المبتدع معاند للشرع ومشاق له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، فالمبتدع راد لهذا كله، ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3. (¬2) الاعتصام 1/ 48. (¬3) سيأتي بيان لهذا المعنى عند دراسة شمول الشريعة .. (¬4) الاعتصام 1/ 49. (¬5) المصدر السابق 1/ 49.

فإنه يزعم أن ثم طرقاً أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضاً نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وان كان غير مقصود فهو ضلال مبين" (¬1). ويضيف الشاطبي أن الشارع قد انفرد بالتشريع للناس ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وألزمهم الجري على سننها، ومنعهم من حق التشريع لأن عقولهم لا تدركه، ولو كانت تدركه عقولهم لما بعث الله لهم الرسل - عليهم السلام -، فمن أراد أن يكون له من هذا الحق شيء فإنما أراد أن يكون معانداً للشرع ونظيراً له ومضاهياً، وراداً لقصد الشارع في الانفراد بالتشريع (¬2). وذكر الإمام الشاطبي في مواضع أخرى من كتابه الاعتصام أن البدعة إذا بلغت حد الاعتراض على الكتاب والسنة فصاحبها بالتكفير أحق، لأنه حينئذ في حكم المتبعين للهوى بإطلاق، والمتبعين لما تشابه من الكتاب ومن كل وجه وهذا "لا يتأتي .. من أحد في الشريعة إلّا مع رد محكماتها عناداً وهو كفر" (¬3). وهذا كله في المبتدع وهو يقصد التقرب إلى الله ويدخل تحت أذيال التأويل (¬4). أما الشرع من دون الله فهو منقطع عن الوحي منشئ للحكم مفتر على الله فهو حينئذ أحق وأولى بتلك الأوصاف التي وُصف بها المبتدع. وإنما كان المشرع من دون الله ملزماً بهذه الأوصاف لأنه معرض عن اتباع ما أنزل الله، ملتزم بما شرعه هو لنفسه من أحكام لم ينزل الله بها من سلطان فإذا حكم بهذه ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 49. (¬2) المصدر السابق 1/ 50 - 51. (¬3) انظر الاعتصام 2/ 272 و 2/ 286. (¬4) المصدر نفسه 1/ 134، "والدليل على ذلك أنه لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلّا وهو مستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزّله على ما وافق عقله وشهوته" 1/ 134 - 2/ 64.

الأحكام الباطلة انتشرت حينئذ البدع والمبادئ المنحرفة والمذاهب الباطلة وظهر الفساد، لأن الذي يحاربها ويطهر الأرض منها هو شرع الله، والمشرع لنفسه معرض عنه. بل إن المشّرعين من دون الله يطمعون في أكثر من ذلك ألا وهو تغير ملة الحق (¬1)، وقد أشار الإمام الشاطبي إلى الفرق بين التشريع المطلق وبين الهوى الذي يتبعه المبتدع فقال: " .. وقد ثبت أيضاً للكفار بدع فرعية ولكنها في الضروريات وما قاربها" ثم أخذ يعددها إلى أن قال: "حتى صار التشريع ديدناً لهم، وتغيير ملة إبراهيم - عليه السلام - سهلاً عليهم، فأنشأ ذلك أصلاً مضافاً إليهم وقاعدة رضوا بها وهي التشريع المطلق لا الهوى .. " (¬2). وبهذا تظهر لنا خطورة التشريع من دون الله وما يؤدي إليه من الانحراف عن شريعة الإسلام، وهو أشد خطورة من البدع الأخرى وإن كان لفظ البدع شاملاً له كما أشار الإمام الشاطبي. ولا تزال آيات القرآن تجلو هذه العقيدة، وتطهرها مما أصابها من الشبهات (¬3) .. حتى تستقر في عقول الناس كافة، ويزداد الذين آمنوا إيماناً، ¬

_ (¬1) ومع محاولاتهم العديدة إلّا أن الله برحمته قد حفظ القرآن والسنة ويسر لها من العلماء العدول من كل خلف من يذبون عنها، فهي محفوظة، ولم يبق لأعداء الإسلام إلا التشكيك والمخادعة والمحاربة. (¬2) الاعتصام 2/ 201 - 202، وقوله: "لا الهوى" يقصد به أنهم رضوا بالتشريع المطلق وأصبح قاعدة لهم وديدناً، بخلاف الهوى الذي يصيب المبتدع فإنه قد يؤدي به إلى التشريع المطلق والاعتراض على الكتاب والسنة وقد لا يؤدي به إلى ذلك، بحسب بدعته على ما ذكره من التقسيم السابق، ولا يقال الكلام المذكور في البدع فلم نقلته هنا، فالجواب أن الشرك من البدع ومنه التشريع المطلق كما صرح الشاطبي عند التقسيم السابق. (¬3) وقد رد القرآن على اعتذار المعتذرين بأنهم لم يريدوا إلا التوفيق بين شريعة الله وشريعة غيره. انظر تفسير آية النساء 62 في تفسير ابن كثير 1/ 520، والاعتصام 1/ 137، وأعلام الموقعين 1/ 50 - 51، وكذلك رفع القرآن دعواهم أن شركهم هذا هو محض المشيئية. انظر تفسير آية 148 من سورة الأنعام تفسير ابن كثير.

ولا يرتاب منها الدارسون لهذه الشريعة، بل عليهم أن يوقنوا أنها جوهر الإِسلام وحقيقته، وأنها هي الكلمة السواء التي جاء بها الرسل جميعاً (¬1)، وأن هذه العقيدة هي المفتاح الأول لدراسة الإِسلام عامة ومعرفة خصائص الشريعة الإسلامية بصفة خاصة، وهي الطريق لإِقامة الشريعة الإسلامية والالتزام بها وعدم التقديم من بين يديها ولا من خلفها. وإذا استُعمل هذا المفتاح علم الباحثون -بعد ذلك- أن هذا القرآن شاهد كما أن الرسل جميعاً شاهدون والمؤمنون من بعدهم على أن التشريع حق الله الخالص كما أن الملك -من الخلق والرزق والتدبير والإِحياء والإماتة ... - حقه الخالص أيضاً لا يشاركه فيه أحد سواه، وأن مقام البشر بعد ذلك هو مقام العبودية مقام الطاعة والاتباع والتسليم والإِذعان سواء كانوا من عامة المسلمين أو من المجتهدين فيهم، وبهذه العقيدة يجابه الإِسلام عقائد الجاهلية ويصححها، ويحارب عقائد المبتدعة داخل الأمة. وأكتفي بهذا القدر من نصوص أهل السنة في بيان أهمية هذه العقيدة التي تُعْتَبرُ هي القاعدة لفهم الإسلام عقيدة وشريعة، والتي هي من معنى: "لا إله إلا الله" الكلمة السواء التي دعا لها الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، والتي ما وقع انحراف في البشرية إلا بسبب عدم تحقيق ذلك المعنى الذي دعت إليه. فقد انحرفت البشرية قبل بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام - فاتبعت اليهود والنصارى ومشركو العرب والفرس والروم والهند أحكاماً وشرائع لم ينزل الله بها من سلطان، فانصرفوا عن عبادة الله، وأخذوا يتصرفون في أعراضهم وأموالهم وأولادهم وديارهم بغير شريعة الله، ويلتزمون في ذلك بما حكمت به عقولهم القاصرة فجاءوا بشرائع وأحكام وعقائد وآراء لا ينالون منها إلّا الشر والفساد ¬

_ (¬1) على هذه العقيدة يطلق لفظ الشهادتين، والإِسلام والإِيمان والتوحيد والدين والكلمة السواء.

ولا تحول بينهم وبين البدع والخرافة والضلالة والانحراف، وما زالوا على ذلك حتى جاءهم الإسلام يناديهم لهذه العقيدة والشريعة، التي توجب عليهم الاتباع لكل ما جاءهم من عند الله، فآمن من آمن وكفر من كفر، واستقر أمر الجيل الأول من المؤمنين على هذه العقيدة فلم يعودوا يتلَقّون إلا عن هذه الشريعة -كتاباً وسنة- لا يراجعونها في شيء، ولا يقدمون عليها شيئاً، ولا يخلطونها بغيرها من شرائع البشر وأفكارهم، يتلقون منها بصدق ويقين .. فاستقامت حياتهم، واستفادوا العلم والإيمان واليقين والثبات من هذه الشريعة - فلا تغيير ولا تبديل ولا نسخ ولا معارضة - والشريعة تشملهم برحمة الله وحكمته وعدله، قد سجدت عقولهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم لأحكامها، فخضعت مجتمعاتهم لحكم هذه الشريعة في جميع مجالاتها، ثم انتشرت هذه العقيدة تبشر الأمم الأخرى وتنذرها فآمن من آمن وكفر من كفر، وكانت الكلمة العليا لهذه الشريعة فحكمت المجتمعات الجديدة كما حكمت المجتمعات السابقة. وأمام هذه الانطلاقة العظيمة لهذه الشريعة نشط المكر وقوي العداء من أبناء الأمم الأخرى الذين لم يؤمنوا بالإسلام .. وكان من مكرهم أن حملوا ثقافتهم وأفكارهم الجاهلية ليغزوا الإسلام بها فانتشرت الأفكار الفلسفية القادمة من الأمم الأخرى .. وتم توزيعها عن طريق الفرق الضالة .. فبدأ الانحراف العقائدي ينتشر ويذكر بالجاهلية الأولى وانحرافها حين اتبعت العقل البشري وضلالته وعبدت غير الله، وقد تلبست الجاهلية الأولى بملة إبراهيم عليه السلام، وتلبس الفكر الجاهلي القادم من ثقافة اليونان بانتساب المعتزلة إليه (¬1)، وهي فرقة من الفرق التي انتشرت داخل الأمة الإسلامية، وكان من انحرافها أن جعلت العقل البشرى القاصر طريقاً وحيداً للتعرف على "الحق" فبدأ الفكر عند هؤلاء ينحرف عن أصوله الأولى، ويفقد خصائصه، فلم يصبِح الوحي هو مصدر التلقي عندهم لأنهم بزعمهم لا يستفيدون منه علماً ولا يقيناً، فتغيرت وجهة القوم فبعد أن كانت قبلتهم هذه الشريعة وتلك العقيدة أصبحت قبلتهم ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عن أئمتها وبعض عقائدهم بما يناسب موضوع الرسالة إن شاء الله.

الجديدة عقول الفلاسفة وأسس الفكر اليوناني الوثني الجاهلي (¬1). فتغير مصدر التلقي وهذه هي أول هزة للمجتمع الإِسلامي - ولو كان انحراف المعتزلة انحرافاً سلوكياً لهان الأمر وقد ينقطع بانقطاعهم، ولكن الأمر أشنع وأنكى، إنه انحراف عقدي أدى إلى تغيير مصدر التلقي عندهم وإثارة الشبه على مصدر التلقي عند الأمة الإسلامية، فبدأ التشكيك فيه من جهة وتمجيد المصدر العقلي عند المخالفين من جهة أخرى، ومهما كان من جهد علماء الأمة في الرد على المعتزلة فإن بقاءهم في داخل الأمة الإسلامية وهم يحملون هذا الانحراف كان له من الأثار السيئة على اتجاه الأمة الإسلامية ما نعاني منه حتى هذه اللحظة. وانظر إلى الفرق الضخم بين عقيدة الصحابة وعقيدة هؤلاء لتعرف مدى الخطورة التي يحملها الفكر الذي بُني على التراث اليوناني الجاهلي. إن أمر التشريع لله كما أن الخلق له، يستوي في ذلك ما صغر شأنه وما عظم في الخلق والأمر، فالخلق خلقه، حبة الزرع وجنة الخلد، والسحاب الذي بين السماء والأرض والكرسي الذي فوقه عرش الله سبحانه وتعالى، والأمر له سبحانه في تحديد مواصفات الحياة الإسلامية على هذه الأرض ابتداء من أحكام الأسرة .. إلى أحكام الدولة .. والأمر أمره في بيان صفاته سبحانه وإنزال كلامه لا معقب لحكمه ولا مغير ولا مبدلْ، له الخلق والأمر - هذه هي عقيدة الجيل الأول رضوان الله عليهم، ومحمد - عليه السلام - مبلغ ومبين ومبشر ومنذر وسراج منير وعبد الله ورسوله. ثم جاء الفكر المنحرف فأقر بالخلق وأشرك العقل في مصدر التلقي - وفي أبعد ما يكون عن إدراكه - أشركه في التعرف على صفات الله .. فبدأ من ذلك الحين مسلك جديد في الفكر والاعتقاد يغذيه الفكر اليوناني على يد الفلاسفة قديماً، وتغذيه المذاهب المادية حديثاً .. وهذه المرة سَهُل على المستشرقين وحملة الفكر الأروبي الدخول لزعزعة صفات الشريعة ومنها الثبات والشمول، والذي ¬

_ (¬1) سنذكر من الأدلة ما يثبت هذا الذي نقوله هنا، ونكتفي في هذا الموضع بالإشارة إلى أثر تلك العقيدة التي تحدثنا عنها على الثبات والشمول سلباً وإيجاباً.

سهّل عليهم ذلك هو الفكر المعتزلي - وإن شئت قل الفكر اليوناني الفلسفي - لأن الفكر الذي تحكم في إدراك صفات الله -فنفى منها ما نفى وأثبت منها ما أثبت كما يريد- هو نفسه الذي نفى من صفات الشريعة ما نفى وأثبت منها ما أثبت في هذا العصر الذي نعيشه. العقل مصدر في تلقي العقيدة كما زعم الفكر اليوناني .. والعقل مصدر لوضع القانون كما زعمت المذاهب الفكرية المعاصرة .. والمعتزلة حملة الفكر القديم وقد رباهم الفكر الفلسفي، والمذاهب المعاصرة وتلامذتها وقد رباهم الاستشراق .. ومهمة التلاميذ قديماً وحديثاً تلبيس المفاهيم الجاهلية بالصورة الإسلامية .. فمن داخل الشريعة الإِسلامية يطالبون بتغيير أحكامها ومن داخلها يشككون في شمولها ويقصرونها على بعض جوانب الحياة، ينفون ما شاءوا ويثبتون ما شاءوا باسم الإِسلام!! وقبل أن ندخل في تفصيلات البحث لنقرر منهج أهل الحق في المحافظة على صفات هذه الشريعة نذكر المخالفين بهذه العقيدة المسلمة البدهية التي عاش عليها الجيل الأول وهي عقيدة الرسل أجمعين: "إن الخلق لله والأمر لله" وأن الذي ينشئ الأحكام وينزّلها ويشرّعها، وينسخ منها ما شاء ويبدّلها بغيرها إذا شاء هو الله سبحانه وتعالى لأنه هو الخالق والرازق والمدبر .. فهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وإن مهمة البشر هي التلقي والفهم والاستنباط - والتطبيق -لا حسب أهوائهم- بل حسب منهج شرعي تعلمه الصحابة من الرسول - عليه الصلاة والسلام - وتعلمه التابعون من الصحابة وهكذا من جيل إلى جيل تعلمه أهل الحق وعلّموه لمن بعدهم، وحينئذ تستقر صفات هذه الشريعة فلا تبديل ولا تغيير، ويعرف لها الناس منزلتها، فهي شريعة الحكمة والعدل والعلم والرحمة، كما أنها شريعة الثبات والشمول، فقد جاءت بالحق الثابت الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يحتاجه الناس، ودلت عليه، وهذا البحث بيان من أوله إلي آخره لهذه العقيدة. ومن المفيد أن نقول هنا أن هذه العقيدة لو استقرت في قلوب البشر لآمنوا ولرجعت البشرية اليوم إلى الدين الحق وحكمت بهذه الشريعة.

ولو استقرت في عقول الباحثين وقلويهم لما نادى كثير منهم بتغيير الأحكام .. ولما حجر على الشريعة أن تحكم الدولة والاقتصاد والنظام الاجتماعي إلّا إذا تغيرت وتلبست بأحكام الجاهلية الحديثة. فإذا وجدت في كتب الأصول عند المعتزلة أن العقل مصدر للتلقي .. وأن الشريعة لا تفيد العلم فما ذلك إلّا لغياب تلك العقيدة، فلو حجزوا أنفسهم عن تقرير أمور العقيدة بأهوائهم وأخذوها مسلمة من عند الله لكان خيراً لهم. وإذا وجدت من المُحْدَثِينَ من يدعو إلى إبعاد الشريعة عن أمور الحياة كالدولة والاقتصاد .. فما ذلك إلا لغياب تلك العقيدة. ونقتصر على هذه الأمثلة لبيان أهمية إدراك تلك العقيدة وأنه لا بد من التذكير بها والتزامها في منهج البحث العلمي لمن أراد أن يتعرف على الحق أو يجادل عنه بعد معرفته، بل ينبغي لكل إنسان أن يلتزم بمقتضياتها ومنها: 1 - التسليم المطلق بكل ماجاء به الوحي ممثلاً في هذه الشريعة التي بلغها رسول الإِسلام - عليه السلام -، مع الاعتقاد الجازم بأن كل حكم فيها هو العدل والحكمة والرحمة والخير. 2 - الاحتكام إليها في جميع شؤون الحياة، والإذعان لها، بحيث لا يُقدمُ عليها منهج آخر في الحكم، مع المحافظة على أحكامها ومقاصدها من محاولة التغيير والتبديل بشبهة اتباع العقل أو العرف أو اختلاف الزمان والمكان. 3 - الاعتقاد الجازم بأنها حجة على الخلق كافة في جميع شؤونهم في الدنيا والآخرة. وأن كل ما ثبت منها حجة علينا لا نعارضه بهوى ولا نغيره بشبهة، ولا نقدم عليه شيئاً من أحكام البشر. 4 - الاعتقاد الجازم بأن البشر أجمعين لا شأن لهم في وضع العقيدة ولا الشريعة ولا قدرة لهم على ذلك، وأن تدخلهم في هذا الأمر هو الشرك والانحراف والفتنة والمفسدة.

الباب الأول الشريعة الإسلامية ثباتها وشمولها وحجيتها

الباب الأول الشريعة الإِسلامية ثباتها وشمولها وحجيتها ويشتمل على هذه الفصول: الفصل الأول: الشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي. الفصل الثاني: المقصود من الثبات والشمول والأدلة على ذلك. الفصل الثالث: الاحتجاج بالأدلّة النقلية.

الفصل الأول الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي

الفصل الأول الشريعة الإِسلامية والفقه الإِسلامي توطئة: نتحدث في هذا الفصل عن تحديد المقصود من مصطلح "الشريعة" ونتعرف على معناه الشرعي ونبين وجه المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي من حيث الثبات والشمول، ويشتمل ذلك على معرفة دلالة هذا اللفظ في الاستعمال القرآني وفي استعمال العلماء بحيث نستطيع أن نتصور ما يدخل تحت مصطلح "الشريعة". وفي المقابل نتحدث عن الفقه الإِسلامي لنتعرف على حقيقته ومنزلته والفرق بينه وبين "علم الكلام" من حيث قوة دلالتهما على "العلم" وحاجة المجتمع الإِسلامي لهما وهو يقوم بمهمة الخلافة في الأرض، وأيهما أحق باسم العلم وأقرب إلى طبيعة الشريعة التي أنزلها الله على رسوله محمد - عليه السلام -. ومن جهة أخرى نتعرف على أهم الفوارق بين "الفقه" و"الشريعة" لنتصور مهمة الاجتهاد وحدوده وآثاره الإِيجابية والسلبية على الثبات والشمول. وبهذا نستطيع أن نحدد -بمشيئة الله وتوفيقه- منزلة كل من "الشريعة" و"الفقه" و"الكلام".

المبحث الأول التعريف بمصطلح الشريعة الإسلامية

المبحث الأول التعريف بمصطلح الشريعة الإِسلامية نتحدث في هذا المبحث عن المعنى اللغوي للفظ "الشريعة" ونتبعه ببيان المعنى الشرعي عند العلماء مع بيان وجه المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي. وكل ذلك في مطالب: المطلب الأول المعنى اللغوي " الشريعة في كلام العرب مشرعة الماء. وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويسقون" (¬1). "والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عداً (¬2). لا انقطاع فيه ويكون ظاهراً معيناً (¬3) لا يسقى بالرشاء" (¬4). ¬

_ (¬1) لسان العرب، مادة شرع، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن منظور، بيروت، سنة 1388، دار صادر. (¬2) العدّ: الماء الذي لا ينقطع، مجمل اللغة كتاب العين 3/ 612، لأحمد بن فارس، دراسة وتحقيق زهير سلطان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1404 هـ. (¬3) الماء المعين أي الماء الجاري، تقول العرب معن الماء بضم العين وفتحها أي جري، مجمل اللغة، باب الميم والعين 3/ 834. (¬4) لسان العرب، مادة شرع، والرشاء: الحبل، وأرشيت الدلو: جعلت لها رشاء، تاج اللغة وصحاح العربية 6/ 2357، تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، مؤسسة الرسالة.

فاصل الشريعة في كلام العرب مورد الشاربة (¬1)، وقد ذكر بعض الباحثين المحدثين أن الشريعة تطلق ويراد بها معنيان: الأول: مشرعة الماء, والثاني: الطريقة المستقيمة (¬2). والذي يظهر مما سبق أن لفظ "الشريعة" يطلق في الأصل ويراد به معنى واحد وهو: "مورد الشاربة" والطريق إليها يسمى الشرع، وهو "مصدر، ثم جعل اسماً للطريق النهج ثم استعير ذلك للطريقة الإِلهية من الدين" (¬3). ومعنى لفظ شرع "أظهر" قاله ابن الأعرابي، ومثله قول الأزهري قال "شرع أي بين وأوضح" (¬4). وفي الصحاح: "والشريعة الطريق الأعظم" (¬5). وهو اختيار الطبري والقرطبي وابن كثير، قال القرطبي: "ومعنى شرع نهج وأوضح وبين المسالك وقد شرع لهم شرعاً أي سنّ" (¬6). ¬

_ (¬1) تاج العروس، باب العين فصل الشين، لمحب الدين محمد الزبيدي، المطبعة الخيرية بمصر 1306 هـ. (¬2) الشريعة الإِسلامية تاريخها ونظرية الملكية والعقود 27 - 28. والمدخل للفقه الإِسلامي - تاريخ التشريع الإِسلامي 7 - 8 - 9 للدكتور بدران أبو العينين بدران - الناشر مؤسسة شباب الجامعة بالاسكندرية، تاريخ الفقه الإِسلامي 5. (¬3) تاج العروس - باب العين فصل الشين. (¬4) لسان العرب - مادة شرع. (¬5) الصحاح - مادة شرع. (¬6) الجامع لأحكام القرآن 16/ 10 لإبن عبد الله محمد القرطبي - الطبعة الثالثة - دار الكاتب العربي 1387 هـ، وجامع البيان 5/ 469، تفسير ابن كثير 2/ 66.

المطلب الثاني المعنى الشرعي

وحاصل المعنى اللغوي: أن لفظ الشريعة يطلق على مورد الشاربة، والشرع مصدر ثم جعل اسماً للطريق النهج المستقيم، ومعنى شرع أي سنّ ونهج وأوضح وبين المسالك وكل ذلك فيه معنى الابتداء، قال ابن كثير "الشرعة والشريعة ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال شرع في كذا أي ابتدأ فيه" (¬1) فمن ابتدأ في سن أمر وأوضحه وبينه وجعله منهاجاً فقد شرعه. المطلب الثاني المعنى الشرعي استعمل القرآن لفظ "الشرعة" و"الشريعة" باستعمالات متعددة. 1 - أطلق لفظ "الشرع" على "التوحيد". مثاله قوله تعالى في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (¬2). فالذي شرع هو الله، وقد شرع "التوحيد" وأمر الأنبياء والمؤمنين أن يجتمعوا عليه وأن لا يتفرقوا فيه. 2 - واستعمل لفظ "الشرعة" في القرآن مراداً به "الفروع" وهي ما سوى التوحيد. مثاله آية المائدة: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 2/ 67. (¬2) آية 13. (¬3) آية 48.

وقد وردت هذه الآية بعد خطاب الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله أو يعرض عنهم ثم بين سبحانه أنه قد جعل لكل من أمة محمد وأهل الكتاب شرعة ومنهاجاً أي شريعة خاصة وليس ذلك إلا للفروع وذلك لثبوت الاتفاق على التوحيد عند الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، فيؤخذ من آية المائدة أن القرآن استعمل لفظ "الشرعة" وأراد بها "الفروع" وهي الأحكام ما سوى "التوحيد". 3 - الاستعمال الثالث: إطلاق لفظ "الشريعة" على الأصول والفروع. أي على التوحيد وسائر الأحكام، مثال ذلك ما ورد في سورة الجاثية في قوله تعالى خطاباً لنبيه - عليه الصلاة والسلام -: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). فالشريعة هنا أطلقت على "الوحي" كتاباً وسنّة، وذلك شامل للتوحيد وسائر الأحكام لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مأمور باتباع ذلك كله. ومن خلال هذه الأمثلة القرآنية يمكن القول بأن لفظ الشريعة مشترك لفظي استعمله القرآن الكريم باستعمالات ثلاثة، فأطلقه مرة على "التوحيد" ومرة على "الفروع" ومرة ثالثة عليهما معاً، فتكون دلالة اللفظ في الأصل اللغوي على معنى واحد وهو "مورد الشاربة" والطريق إليها يسمى "الشرع" ثم جعل اسماً للطريق النهج. واستعير ذلك للطريقة الإِلهية من الدين، فالطريقة الإِلهية تسمى شرعاً الأصول منها والفروع، ثم استعمل القرآن لفظ "الشرعة" و"الشرع" و"الشريعة" باستعمالات متعددة، فأصبح ذلك مشتركاً لفظياً مع بقاء دلالته في الأصل على معنى واحد، وعلى هذا فإنّ كل ما جاء به الدين يسمى في اللغة "شرعاً" كان من الأصول أو الفروع، ويجوز في الاصطلاح ¬

_ (¬1) آية 18.

القرآني أن يطلق لفظ الشرع والشرعة والشريعة تارة على التوحيد، وتارة على الفروع وتارة على الكتاب والسنّة معاً أصولاً وفروعاً. استعمال اللفظ في كلام العلماء: استعمل العلماء لفظ "الشريعة" باستعمالات متعددة وذلك حسب المقام، فمنهم من أطلقها على التوحيد وما سواه من الفروع، ومنهم من أطلقها وأراد بها "التوحيد" فقط، ومنهم من أطلقها وأراد بها "الفروع فقط" وإليك من الأمثلة ما يبين ذلك. أولاً: إطلاق لفظ "الشريعة" على التوحيد. وذلك كما فعل الإِمام الشيخ أبو بكر الآجري حيث سمى كتابه في العقيدة "الشريعة" (¬1)، ومثله كتاب أبي عبد الله بن بطة واسمه "الإِبانة عن شريعة الفرق الناجية" (¬2) أي عن عقيدة الفرقة الناجية، وهذا الإطلاق مشابه للإِطلاق الوارد في سورة الشورى. ثانياً: إطلاق لفظ "الشريعة" على الأحكام العملية فقط وهي "الفروع" التي اختلفت فيها الرسالات السماوية، وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى، مثاله: ما ورد في سورة المائدة فقد استعمل القرآن لفظ "الشرعة" وخص بها الأوامر والنواهي والحدود والفرائض، وهو تفسير قتادة - رضي الله عنه - (¬3)، ونقله عنه أيضاً ابن جرير مال: "الدين واحد والشريعة مختلفة" (¬4)، وهذه ¬

_ (¬1) هو محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الأجري، نسبة لأجر من قرى بغداد كان ثقة صدوقاً ديّناً وله تصانيف كثيرة وتوفي سنة 365 هـ. تاريخ بغداد 2/ 243، للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي - الناشر دار الكتاب العربي بيروت، ومعجم المؤلفين 9/ 243، لعمر رضا كحالة الناشر مكتبة المثنى بيروت. (¬2) هو عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري، فقيه حنبلي عالم بالحديث ولد سنة 304 وتوفي 387 هـ طبقات الحنابلة 4/ 142 - 153، لإبن أبي يعلى مطبعة السنّة المحمدية بتصحيح محمد حامد الفقي 1371، والأعلام 4/ 354. (¬3) تفسير ابن كثير 2/ 62. (¬4) جامع البيان 5/ 270.

"الفروع" هي التي لحقها النسخ. وتسمى "شرعة"، وأما التوحيد فلم يلحقه نسخ البتة إذ لا يتصور فيه ذلك، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة كما رواه البخاري "قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء أخوة لعلّات (¬1) أمهاتهم شتى ودينهم واحد" (¬2). قال الإِمام ابن كثير عند تفسير آية الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية "أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬3). ثالثاً: إطلاق لفظ "الشريعة" على التوحيد وسائر الأحكام، قال الإمام القرطبي "فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين" (¬4)، وقال في موضع آخر: "ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح وإنما خالف بينهما في الفروع حسب علمه سبحانه" (¬5). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: "والشريعة إنما هي كتاب الله وسنّة رسول الله ... " (¬6) وحكاه عن الأئمة الفقهاء وعامة أهل الحديث (¬7)، وهذا ¬

_ (¬1) معنى إخوة لعلّات: أي أبوهم واحد وأمهاتهم شتى. (¬2) فتح الباري على صحيح البخاري في أحاديث الأنبياء 6/ 478. (¬3) تفسير ابن كثير 9/ 104، وانظر جامع البيان 5/ 272. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 16/ 163 - 164. (¬5) المصدر نفسه 16/ 163 - 164. (¬6) و (¬7) مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية 19/ 134، 306، 307. وتمام النص هو: "والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات"، ومقصود ابن تيمية أن الشريعة "هي الكتاب والسنّة" وأنه لا يخرج شيء عنها، وبيّن أن ما كان عليه السلف .. كله راجع إليها، فمنها استمد السلف جميع الأحكام في الأعطيات والولايات،، ويدل على هذا التفسير ما قاله شيخ الإِسلام في موضعين آخرين: الأول: قوله: "الشرع المنزّل وهو الكتاب والسنّة" ثم بين وجوب رد جميع =

الاستعمال يناسب المعنى الوارد في سورة الجاثية وهو الاستعمال القرآني الثالث. وبعد أن عرفنا أوجه استعمال اللفظ في كلام العلماء نضيف إلى ما تقرر سابقاً أن العلماء استعملوه بتلك الاستعمالات وذلك حسب المقام وكل ذلك جائز. وإذا أردنا بعد هذا كله أن نحدد ما يدخل تحت مصطلح "الشريعة" علمنا أنه التوحيد وسائر الأحكام وهو الاستعمال الثالث، والتوحيد وسائر الأحكام هو عبارة عن الوحي فتكون "الشريعة" هي الكتاب والسنة فقط، مع جواز الاستعمال الأول والثاني لأن "الشريعة" مشترك لفظي كما تقرر، وأما في كلام أهل العلم فبحسب المقام (¬1)، وقد كثر الاستعمال الثالث في كتب المحدثين (¬2) ¬

_ = الأمور إليه فقال: (واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله ويدخل فيه أصول الدين وفروعه وسياسية الأمراء وولاة المال وحكم الحكام ومشيخة الشيوخ وغير ذلك فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله" 35/ 395، والموضع الثاني قوله "اسم الشريعة والشرع والشرعة فإنه ينتظم كله ما شرعه الله من العقائد والأعمال 19/ 306. وقد جمعت بين هذه النصوص لرفع اللبس والإيهام، كما بينت مقصود العلماء واستعمالاتهم للفظ "الشريعة والشرعة والشرع" للأمر نفسه. (¬1) وقد ذكر ابن منظور استعمالات متعددة عن غير واحد من الصحابة، ثم علَّق عليه بقوله وكل ذلك يقال، اللسان 10/ 41 مادة شرع، وإنما يصح ذلك باعتبار المقام. (¬2) انظر -المدخل لدراسة الشريعة- د. عبد الكريم زيدان 65، الطبعة السادسة -مكتبة القدسي- مؤسسة الرسالة. أصول الشرعية الإِسلامية 7 - د. علي جريشة، ط الأولى 1399 هـ - الناشر مكتبة وهبه، خصائص الشريعة الإِسلامية 11 الدكتور عمر الأشقر، ط الأولى مكتبة الفلاح، الكويت. مفهوم الفقه الإِسلامي - لنظام الدين عبد الحميد 17، ط الأولى 1404 هـ، مؤسسة الرسالة. الشريعة الإِسلامية تاريخها ونظرية الملكية 27 - التشريع الإِسلامي والفقه الإِسلامي - الدكتور القطان 9، 10، ط الأولى -الناشر مطبعة التقدم - محرم 1396 هـ. المدخل للفقه في الإِسلام - الدكتور حسين الشاذلي 8 - 9 طبعة سنة 1396 هـ الناشر مطبعة السعادة أسهمت جامعة الكويت في طبعه. المدخل الفقهي العام - الدكتور الزرقا 30 الطبعة التاسعة، الناشر مطابع الألف باء دمشق 1967. التشريع والفقه في الإِسلام 15 ط.

وهو الاستعمال العام، ثم كل موضع بحسبه ولكل مقام مقال (¬1). والله أعلم. وجه المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: وأبدأ بذكر ما أشار إليه بعض المحدثين ثم أذكر ما يظهر لي وذلك كما يلي: أشار بعض المحدثين إلى أن الشريعة -التي هي مورد الماء- حياة الأبدان فكذلك الشريعة الإِسلامية حياة النفوس والأرواح، ومنهم من قال إن "مورد الشاربة" سمي شريعة لشروع الناس فيه وكذلك شرائع الإِسلام وذلك لشروع أهلها فيها. ومنهم من قال إن الشرع: هو الطريق النهج الظاهر المستقيم والشريعة الإِسلامية طريق واضح ونهج ظاهر مستقيم لمن أراد معرفة الحق واتباعه (¬2). وأضيف إلى ذلك ما يلي: 1 - إن العرب لا تسمي مشرعة الماء "شريعة" حتى يكون الماء عداً لا انقطاع فيه، والشريعة الإِسلامية لا تزال أحكامها شاملة لكل الحوادث المستجدة إلى يوم القيامة لا ينقطع عطاؤها، ولا يزال المجتهدون يجدون فيها كل حكم لكل حادثة. 2 - "والشريعة الطريق الأعظم". والشريعة الإِسلامية - دون ما سواها من الشرائع البشرية هي الطريق الأعظم الموصل للحياة الطيبة الجامع بين مصالح الناس على التمام والكمال في الدنيا والآخرة. ¬

_ (¬1) كما أوردنا الأمثلة من أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، والمقام في هذا البحث يختص بدراسة الثبات والشمول في الأحكام العملية، ولا يتطرق للتفصيلات العقائدية، ويقتضي الأمر دراسة بعض الأسس العقدية لتكون منطلقاً للبحث وذلك أمر ضروري جداً لا يمكن دراسة "الثبات والشمول في الشريعة" إلا عن طريقه. (¬2) انظر المدخل لدراسة الشريعة 38، ومفهوم الفقه الإِسلامي 17.

3 - إن معنى شرع في كذا أي ابتدأ فيه، وكذلك الشريعة الإِسلامية سميت بهذا الاسم والله أعلم لأن الله هو الذي ابتدأها سبحانه. فابتداء الخطاب من الله -إما لفظاً كالقرآن أو معنى كالسنّة- هو التشريع وسيأتي بيان أن عمل المجتهد وإن كان يكشف عن الحكم ويستنبطه إنما يسمى اجتهاداً واستنباطاً ولا يسمى تشريعاً لأنه لم يبتدئه بل أخذه من الشريعة.

المبحث الثاني تعريف "الفقه الإسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام"

المبحث الثاني تعريف "الفقه الإِسلامي" وبيان الفرق بينه وبين "علم الكلام" وفي هذا المبحث نتحدث عن تعريف الفقه في اللغة والاصطلاح وهل هو من العلم أو من الظن. المطلب الأول تعريفه في اللغة الفقه في اللغة هو الفهم للشيء والعلم به، فمن فهم شيئاً فقد علمه سواء أكان ذلك الشيء ظاهراً أو خفياً. ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬1). ومعنى ليتفقهوا فيه أي ليكونوا علماء به (¬2) "وفقه فقهاً بمعنى علم علماً" (¬3) وهو دليل على أن الفقه يطلق على "العلم". ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 122. (¬2) لسان العرب مادة فقه -باب الهاء- فصل الفاء، والصحاح المادة نفسها. (¬3) المصدر نفسه.

المطلب الثاني تعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن

والفقه هو مطلق الفهم وقد استعمل القرآن الكريم الكلمة وأراد بها مجرد الفهم وذلك في قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (¬1). فالفقه في لغة العرب يطلق على العلم بالشيء ظاهراً كان أو خفياً. المطلب الثاني تعريف الفقه في الاصطلاح وهل هو علم أو ظن للعلماء تعريفات كثيرة للفقه تتفق على بعض القيود، وتختلف في البعض الآخر. والمقصود هنا هو بيان الفرق بين الشريعة والفقه، ويتحقق ذلك بمشيئة الله بإبراز أهم خصائص الفقه من التعريفات التي ذكرها الأصوليون مع بيان ما اتفقوا عليه واختيار الصواب فيما اختلفوا فيه من كون "الفقه" من باب العلم أو الظن. أما مناقشة جميع هذه التعريفات وبيان مؤاخذات بعض الأصوليين على بعض، واختراع تعريفات جديدة للفقه فقد أعرضت عنه وذلك للأسباب الآتية: 1 - إن المقصود يتحقق بدون ذلك والحمد لله. 2 - ما صرح به ابن الجويني في البرهان من أن الوفاء بشرائط الحدود شديد وحق المسؤول عن ذلك أن يقول أقرب عبارة في البيان عندي كذا وكذا (¬2). 3 - أن "كل هذه الحدود لا تخلوا عن مؤاخذات وأجوبة يطول الكتاب بذكرها من غير طائل" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 78. وانظر تاريخ الفقه الإِسلامي 11. (¬2) البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب 2/ 748 ط 1، 1399. (¬3) شرح الكوكب المنير المسمى مختصر التحرير، لمحمد بن أحمد الفتوحي -تحقيق د. الزحيلي ود. نزيه حماد 1/ 41 ط 1400 هـ دار الفكر بدمشق.

الفرع الأول ذكر أهم التعريفات

4 - "أولع الكثير بالتعاريف المتكلفة التي تورث العبارة غموضاً والقارئ حيرة .. ولا يكاد يخلص لهم -المقصود هنا الأصوليون- تعريف من الأخذ والرد والواقع أصدق شاهد" (¬1). ولذلك اخترت طريقة تبعد القارئ عن هذه الحيرة وتأخذ بنا إلى المقصود بعيداً عن التكلف والخوض فيما لا فائدة فيه، وتتلخص هذه الطريقة كما يلي: 1 - ذكر أهم التعريفات عند الأصوليين. 2 - استخراج القيود المتفق عليها من تلك التعريفات. 3 - استخراج أهم القيود المختلف فيها، وبيان وجه الحق في اختلاف الأصوليين في كون الفقه من المعلومات أو من المظنونات. 4 - ثم بعد ذلك أقرر الفروق بين "الشريعة" و"الفقه" وأناقش بعض الآراء منها القديم ومنها الحديث وذلك في فروع: الفرع الأول ذكر أهم التعريفات الأول: ما قاله أصحاب الإمام الشافعي من أن الفقه هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" (¬2) وزاد بعضهم في التعريف قيد "المكتسبة" بعد قيد "العملية" (¬3). ¬

_ (¬1) الإِحكام في أصول الأحكام، للآمدي هامش 1/ 7 تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي ط 1387 هـ. (¬2) شرح التلويح على التوضيح 1/ 12، ط بدون - الناشر محمد على صبح. (¬3) جمع الجوامع مع حاشية العطار 1/ 58 - 59، ط بدون، الناشر المكتبة التجارية الكبرى، وهو اختيار الدكتور حسين حامد حسان في كتابه أصول الفقه 3، ووضع الدكتور عبد الكريم زيدان قيد "الاستدلال" بدل "المكتسبة"، انظر المدخل لدراسة الشريعة 63، ومفهوم الفقه الإِسلامي وتطوره 13.

الفرع الثاني القيود المتفق عليها

الثاني: ما ذكره الآمدي حيث قال: "الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال" (¬1). الثالث: تعريف الرازي حيث قال"وفي اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين بالضرورة" (¬2). الرابع: وعرفه الفتوحي بقوله الفقه: "معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو القوة القريبة" (¬3) قال: "وهذا الحد لأكثر أصحابنا المتقدمين" (¬4). الفرع الثاني القيود المتفق عليها القيد الأول "الشرعية": وهو قيد ثابت في جميع التعريفات سواء فيما ذكرته أو لم أذكره (¬5). والمقصود بهذا القيد إخراج اللغويات والمحسوسات والعقليات، والمقصود بالعقليات: أي ما دل عليه العقل المجرد الذي لا يستند إلى الوحي فهذا ليس من الفقه قطعاً، وعلى هذا فإن الفقه الإِسلامي هو ما اسْتُنْبط من طريق الاجتهاد الشرعي. القيد الثاني: أن الفقه مُسْتَنْبط من "الأدلة الشرعية التفصيلية" والتقييد ¬

_ (¬1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 6. (¬2) المحصول في علم أصول الفقه 1/ 92، ط 1، 1399، لفخر الدين الرازي - تحقيق د. طه جابر العلواني. (¬3) قوله: "بالفعل" أي بالاستدلال، وقوله: "بالقوة القريبة" أي من الفعل أي بالاستدلال أو التهيوء لمعرفتها شرح الكوكب المنير. 1/ 41 (¬4) المصدر نفسه 1/ 41. (¬5) شرح التلوبح 1/ 12، الأحكام للآمدي 1/ 6، المحصول 1/ 92، شرح الكوكب

بالتفصيلية يقوي المعنى السابق على إخراج ما لم يؤخذ من الأدلة الشرعية، ويخرج أيضاً ما هو مستنبط من الأدلة الإِجمالية كالمسائل الأصولية (¬1). والقيد الثالث: أن الفقه مخصوص بالعمليات، فقيد "العملية" مخرج للأمور الاعتقادية (¬2). القيد الرابع: إن الفقه هو استنباط المجتهدين، وهذا ظاهر في تقيد التعريفات السابقة بهذه القيود "قيد المكتسبة"، قيد "النظر والاستدلال"، كما في الثاني، وبقيد "المستدل على أعيانها" كما في التعريف الثالث، وبقيد "بالفعل أو القوة القريبة" كما في الرابع. ومثلها قول أصحاب الشافعي: "من أدلتها التفصيلية" فإنه لا يأخذ من الأدلة التفصيلية إلا "المكتسب"، و"المستدل" أو "المتهيء لهما" (¬3). فالفقه الاسلامي إذاً هو ما استنبطه المجتهدون من الشريعة، أو قل إنْ شئت ما استدلوا عليه بالشريعة فالمعنى واحد، وهذا يؤكد ما دل عليه القيد الأول من أن الفقه الإِسلامي إنّما هو ما اسْتُنْبط عن طريق الاجتهاد الشرعي، ويخرج أيضاً علم المقلد فإنه لا يعد فقهاً مُسْتَنْبطاً من الأدلة، وإنّما هو علم أخذه من المجتهد الذي استنبطه من الشريعة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المصادر السابقة. (¬2) و (¬3) و (¬4) انظر المصادر السابقة وحاشية السعد على ابن الحاجب 1/ 25 - 26، تصحيح شعبان محمد إسماعيل، الناشر مكتبة الكليات الأزهرية، 1363 هـ وتخصيص "الفقه" بالعمليات إنّما جاء متأخراً بعد أن تميزت التخصصات عند أهل العلم، وأصبح كل عالم يَبْرُز في فن من فنون العلم وإلا فإن "الفقه" عند المتقدمين يشمل الأحكام العملية والاعتقادية بل إنّ العلم الذي ينقله المرء إلى غيره يسمى فقهاً، ففي الحديث: "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". الحديث من رواية زيد بن ثابت سنن الترمذي 5/ 33 - 34، تحقيق إبراهيم عطوة، طبعة الحلبي 1385 هـ، سنن أبي داود =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 4/ 68 - 69، تحقيق عزت الدعاس وعادل السيد، الطبعة الأولى 1393 هـ، وسنن ابن ماجه المقدمة 84 و 1115، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1372 هـ. وهو صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير وزيادته 6/ 29 للألباني نشر المكتب الإِسلامي، 1392 هـ. و"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" من رواية معاوية - رضي الله عنه - باب من يرد الله به خيراً يفقهه، فتح الباري 1/ 164 ومسلم في كتاب الإمارة 4/ 584 طبعة الشعب تحقيق عبد الله أحمد أبو زينه. ويبدو أن تحديد هذه التخصصات إنما جاء ليخدم وينظم الانتشار الواسع للعلم في الآفاق ويبقى بعد ذلك المعنى الأول للفقه هو المعنى الحقيقي المعتبر من الناحية الشرعية والعملية، فإنه من المقطوع به استحالة وجود فقيه من غير علم بالحديث وعلم بالعقيدة، كما أنه يستحيل وجود محدَّث بلا علم بالاعتقاد وفقه في الدين ... والمعنى الأول عند المتقدمين هو الذي خدم العلم وجعل نفعه عميماً على العلماء والأمة، فكان أمثال مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة لهم في كل ذلك نصيب وافر وإن تفاوتوا في ذلك، وكان نفعهم للأمة عظيماً، لأن تربية الأمة وتعليمها لا يكون إلّا من ربانيين أخذوا من كل ذلك بنصيب وافر، وتتفاوت أقدارهم وآثارهم في الأمة بقدر نصيبهم من صفاء الاعتقاد وقوة الفقه في الدين وجَمْعِ مفردات العلم هذا من ناحية التربية والتعليم، أما من ناحية الدراسة والبحث والدعوة إلى الله والمجادلة بالتي هي أحسن والذب عن الدين فإنّ الأمر أشد ضرورة، فإنه لا يستطيع ذلك إلّا من اطّلَعَ على ما يُحتاج إليه من الحديث والفقه ومسائل العقيدة وأصول الفقه، وخذ مثالًا على ذلك، دراسة موضوع "الثبات والشمول في الشريعة" فإنه مرتبط بمسائل العقيدة والأصول والفقه، وتمتنع دراسته من ناحية فقهية بحتة كما هو مفهوم "الفقه" عند المتأخرين، بل لا تستقيم دراسته إلّا على مقدمات عقدية وأصولية والسنة المطهرة قاعدة من قواعده. ومن المعلوم أن تجديد الدين والجهاد في نشر تعاليمه وإصلاح آخر هذه الأمة لا يكون إلّا بمراعاة المعنى العام "للفقه" لأن ذلك ضرورة للتربية والبيان .. ولذلك كان المجددون يأخذون العلم بهذا الشمول، وهذا الذي ينبغي أنْ ينتبه إليه كثير من المشتغلين بالدراسات الإِسلامية، وذلك كله لا يمنع من استبقاء التخصصات للحفاظ على القوة العلمية، ومراعاة انتشار العلم وسعة أطرافه، ولكنه مع ذلك لا يصلح سبباً لبعد العالم والمتعلم عن المعنى الأول للفقه، لأنه لا يتحقق فقه في الدين إلّا باتباع السنة في الاعتقاد والعمل.

الفرع الثالث استخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات

الفرع الثالث استخراج أهم القيود المختلف فيها وهل الفقه من المعلومات أو من الظنيات إن قيد "العلم" الذي جاء في تلك التعريفات يفيد بظاهره أن الفقه علم لا ظن، وإذا علمنا أن الأصوليين اختلفوا في تفسيره احتجنا أن نحدد ذلك ونتعرف عليه، والحاصل أنهم اختلفوا على مذهبين: المذهب الأول: أن الفقه من الظنيات والقطعيات ليست منه، وقد صرح الرازي بهذا المذهب وفسر قيد "العلم" في التعريف بقوله: "العلم بوجوب العمل" فكان تعريف الفقه عنده هو: "العلم بوجوب العمل بالأحكام الظنية" فالفقه من الظنيات، ونحن نعلم قطعاً وجوب العمل بها، وذلك ما جاء في قوله: "فإن قلت: الفقه من باب الظنون فكيف جعلته علماً؟ قلت المجتهد إذا غلب على ظنه مشاركة صورة لصورة في مناط الحكم قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالحكم معلوم قطعاً والظن واقع في طريقه" (¬1). وعلى هذا فقد أخرج الأمور المعلومة من الدين بالضرورة من الفقه كالعلم بوجوب الصلاة والصيام، وعلل ذلك بقوله: "إن العلم الضروري حاصل بكونهما من دين محمد - عليه السلام -" (¬2). المذهب الثاني: أن الفقه منه المعلوم ومنه المظنون، وهو مذهب الجويني والآمدي وكثير من الأصوليين (¬3). ¬

_ (¬1) المحصول 1/ 92. (¬2) نفسه 1/ 93. (¬3) الإِحكام للآمدي 1/ 6، البرهان في أصول الفقه 1/ 85، شرح الكوكب المنير 1/ 40 - 41 وما بعدها، شرح التلويح 1/ 12، حاشية السعد على ابن الحاجب 1/ 25 - 26، مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 113، وقد صرح الجويني أن معظم مسائل الشريعة ظنون، مع إدخال المعلوم في الفقه، وخالفه ابن تيمية في ذلك وستأتي الإشارة إلى هذا.

والفرق بين هذا المذهب ومسلك الرازي أن الأخير أخرج المعلوم من الفقه وهؤلاء أثبتوه، وجعلوا الفقه علماً، فما كان علماً فهو داخل في التعريف وماكان ظناً فالمقصود من دخوله في التعريف العلم بالعمل به، وهذا ما جاء في قول الآمدي: "فالعلم احتراز عن الظن بالأحكام الشرعية، فإنه وإن تُجوز بإطلاق اسم الفقه عليه في العرف العامي فليس فقهاً في العرف اللغوي والأصولي بل الفقه العلم بها أو العلم بالعمل بها بناء على الإدراك القطعي وإن كانت ظنية في نفسها" (¬1)، وقوله: "وإن كانت ظنية في نفسها" الظاهر أنه يرجع إلى القسم الثاني من القسمين المذكورين في قوله السابق وهما: 1 - العلم بالأحكام الفقهية. 2 - العلم بالعمل بها .. وإن كانت ظنية في نفسها (¬2). فعلى هذا التفسير يكون الفقه شاملًا لما هو معلوم وما هو مظنون، وقد وافق القاضي أبو بكر الباقلاني (¬3) جمهور الأصوليين فيما ذهبوا إليه، وخالفهم من وجه آخر، ولذلك لا بد من تحقيق مذهبه خاصة أنه شديد الصلة بما نحن فيه. تحقيق مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني: يتكون مذهب القاضي من شقين: الأول: أن الفقه ليس مقتصراً على الظن، فقد أدخل المعلوم في الفقه وجعل الظن مقتصراً على الظواهر وخبر الواحد والأقيسة المظنونة. الثاني: يتمثل في مخالفته جمهور الأصوليين في أن الظنون التي تنتجها هذه الأدلة لا مرجح لبعضها على بعض، بل الترجيح بالاتفاق، وليس هناك دليل يوجب ترجيح ظن على ظن. ¬

_ (¬1) الإِحكام للآمدي 1/ 6. (¬2) قال ابن الجويني في البرهان: "أن العلم بوقوع الظن مقطوع به" 2/ 874 - 875. (¬3) هو محمد بن الطيب بن محمد أبو بكر المعروف بالباقلاني أو بابن الباقلاني توفي سنة 403، شذرات الذهب 3/ 160 و 168 - 170 لإبن العماد الحنبلي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، والإعلام 7/ 46، خير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة.

ولقد نقل عنه الجويني والغزالي مذهبه وناقشه ابن تيمية والجويني، وسأورد من الشواهد ما يثبت ما قدمته آنفاً. 1 - قال الغزالي في المستصفى: "ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه وهو المختار وإليه ذهب القاضي" (¬1). 2 - قال ابن تيمية: "وقال الغزالي وغيره ممن نصر قوله -أي قول القاضي - قد يكون بحسب ميل النفس إلى أحد القولين دون الآخر كميل ذي الشدة إلى قول وذي اللين إلى قول، وحينئذ فعندهم متى وجد المجتهد ظناً في نفسه فحكم الله في حقه اتباع هذا الظن" (¬2). 3 - وقال ابن الجويني: "قال القاضي: ليس في الأقيسة المظنونة تقديم ولا تأخير وإنما الظنون على حسب الاتفاقات" ثم ذكر الأصل الذي بنى عليه القاضي مذهبه فقال: "وهذا بناه على أصله في أنه ليس في مجال الظن مطلوب هو تشوف الطالبين ومطمع نظر المجتهدين، قال بانياً على هذا: إذا لم يكن مطلوب فلا طريق إلى التعين وإنما الظنون على حسب الوفاق" (¬3). وذكر ابن تيمية أن الأصل الذي بنى عليه القاضي مذهبه هو أن "كل مجتهد مصيب وليس في نفس الأمر أمر مطلوب ولا على الظن دليل يوجب نرجيح ظن على ظن، بل الظنون عنده بحسب الاتفاق" (¬4). ¬

_ (¬1) المستصفى مع فواتح الرحموت، لأبي حامد الغزالي، 2/ 363، ط 1، المطبعة الأميرية بولاق، 1324 هـ. (¬2) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 113 - 114. (¬3) البرهان في أصول الفقه 2/ 889. (¬4) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 113.

وقد أنكر الجويني هذا القول إنكاراً بليغاً وقال ابن تيمية: "وهم معذورون في إنكاره" (¬1). والذي يظهر من هذه النصوص مجتمعة أن مذهب القاضي أبي بكر أن: الأقيسة المظنونة وما ماثلها من الظنيات لا سبيل إلى ترجيح ظن على ظن إذا اختلفت الأنظار وتكاثرت الظنون على المجتهد إلا باتباع ما تميل إليه النفس حسب الاتفاق. هذا حاصل مذهب القاضي وسأذكر مناقشة الجويني وابن تيمية لهذا المذهب وردهما له. وقبل ذلك أقرر هنا أن ما تحصل من هذه النصوص لا يفيد أن الفقه كله من باب الظنيات -كما قال الرازي- وغاية ما في الأمر أن الأقيسة المظنونة وما ماثلها للقاضي فيها مذهب خاص كما ذكرته آنفاً. والسؤال الذي يحتاج إلى جواب في هذا الموضع هو: أن القاضي أجاب عن تفسير من فسر قيد "العلم" في التعريف بأنه العلم بوجوب العمل (¬2)، وعارضه بأن العلم بوجوب العمل حكم أصولي لا حكم فقهي. قال ابن تيمية: "لكم يقال العمل بهذا الظن هو حكم أصول الفقه ليس الفقه هو ذاك الظن الحاصل بالظاهر وخبر الواحد والقياس، والأصول تفيد أن العمل بهذا الظن واجب، وإلا فالفقهاء لا يتعرضون لهذا، فهذا الحكم العملي الأصولي ليس هو الفقه، وهذا الجواب جواب القاضي أبي بكر" (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 114. (¬2) انظر كلام الرازي ص 63. (¬3) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 113.

ويجاب عن هذا: أن اعتبار القاضي أبي بكر ما يقتضيه الظاهر والقياس حكماً ظنياً يجب العمل به قطعاً، مع أنها طريقة تخالف طريقة الرازي كما ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية، فهي كذلك تخالف النتيجة التي توصل إليها الرازي وهي قوله أن الفقه من الظنيات، ولا يُعكّر على هذا ما ذكره القاضي من أن الظاهر والقياس يفيدان ظناً، لأن الأدلة ليست كلها ظواهر وأقيسة، بل فيها النص وفيها المتواتر وفيها الإِجماع المقطوع به. وعلى هذا يمكن أن يكون القاضي من أصحاب المذهب الثاني، فما ينتج عن طريق الظواهر والأقيسة يكون ظناً، وما ينتج عن النص وما في حكمه يكون علماً أي قطعاً، فيشتمل الفقه على المعلوم والمظنون، ويبقى حينئذ الرازي متفرداً بما ذهب إليه وقد نص ابن تيمية على ذلك (¬1). وعلى هذا التقرير لا بد من تحديد موضع النزاع، فقد تبين من جملة هذه النصوص أن هناك قضيتين متداخلتين: الأولى: أن الفقه كله من الظنيات وهو مذهب للرازي تفرد به. الثانية: أن القاضي صرح بأن ترجيح الظنون بعضها على بعض إنما يكون بالاتفاق ولا مرجح وقد أنكر عليه الجويني وابن تيمية هذا القول والأُولى خاصة بالرازي ولا يشاركه فيها القاضي أبو بكر، مع أن هناك تداخلًا بين القضيتين وقد أبنت عن سببه. وأبدأ هنا بمناقشة الأولى - بعد أن تقرر تفرد الرازي بها وأن الآمدي وغيره لم يخرجوا المعلوم من الدين بالضرورة من الفقه (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 118. (¬2) انظر ما نقلته عنهم من التعريفات ص 33 وانظر كتبهم الإِحكام للآمدي 1/ 6، شرح الكوكب المنير 1/ 40 - 41 وما بعدها، شرح التلويح 1/ 12، حاشية السعد على ابن الحاجب 1/ 25 - 26، مجموع الفتاوى 13/ 113.

الفرع الرابع المناقشة

الفرع الرابع المناقشة وتقع في ثلاث فقرات: الفقرة الأولى: سبب نشوء هذا القول. الفقرة الثانية: الأسباب التي ساعدت على انتشاره. الفقرة الثالثة: الأدلة على بطلانه. الفقرة الأولى: وأختار ما ذكره ابن تيمية سبباً لنشوء هذا القول فإنه الخبير باصول المتكلمين والعارف بمثالبها، قال في كتابه الاستقامة "إنّ طوائف كبيرة من أهل الكلام من المعتزلة وهم أصل هذا الباب (¬1) ... ومن اتبعهم من الأشعرية كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأبي حامد والرازي ومن اتبعهم من الفقهاء يعظمون أمر الكلام الذي يسمونه أصول الدين حتى يجعلون مسائله قطعية ويوهنون من أمر الفقه الذي هو معرفة أحكام الأفعال حتى يجعلوه من باب الظنون لا العلوم، وقد رتبوا على ذلك أصولاً انتشرت في الناس حتى دخل فيها طوائف من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث لا يعلمون أصلها ولا ما تؤول إليه من الفساد، مع أن هذه الأصول التي ادعوها في ذلك باطلة واهية كما سنبينه في فروع (¬2) " (¬3). ¬

_ (¬1) عنون له المحقق الدكتور محمد رشاد سالم بقوله: فصل في "فساد قول المتكلمين أن الفقه من باب الظنون، وبيان أنه أحق باسم العلم من الكلام" 1/ 47، كتاب الاستقامة، لأبي العباس تقي الدين بن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد، الطبعة الأولى 1403 هـ، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود. (¬2) قال المحقق "سنبينه في غير هذا الموضع" وجعلها في الأصل وجعل ما في الأصل في الهامش، وقد صنعت العكس، لأن شيخ الإِسلام أشار إلى هذه الفروع في ص 50 فقال: "ومن فروع ذلك ... " فتعليق المحقق بقوله: "في الأصل" كما سنبينه في فروع والكلام لا معنى له وفيه تحريف أو نقص ولعل ما أثبته هو أقرب شيء إلى سياق الكلام وما ورد في الأصل لا غبار عليه. (¬3) 1/ 49.

ثم ذكر من هذه الفروع: "أنهم صنفوا في أصول الفقه وهو علم مشترك بين الفقهاء والمتكلمين فبنوه على أصولهم الفاسدة حتى أن أول مسألة منه وهي الكلام في حد الفقه لما حدّوه: بأنه العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية، أورد هؤلاء كالقاضي أبي بكر والرازي والآمدي (¬1) ومن وافقهم من فقهاء الطوائف كأبي الخطاب (¬2) وغيره السؤال المشهور هنا وهو أن الفقه من باب الظنون لأنه مبني على الحكم بخبر الواحد والقياس والعموم والظواهر وهي إنّما تفيد الظن فكيف جعلتموه من العلم حيث قلتم: العلم" (¬3) أي في التعريف ثم ذكر مذهب الرازي كما نقلته سابقاً، وبهذا نعلم أن السبب هو اعتقادهم أن العلم مخصوص بدراسة "علم الكلام"، أمّا الفقه فأكثره ظنون كما أشار القاضي وغيره أو كله كما قال الرازي. الفقرة الثانية - الأسباب التي ساعدت على انتشار هذا الرأي: 1 - كثرة التقليد والجهل: إن بعض أتباع المذاهب المشهورة قد ينقل أقوالها ويعتمد على دليل ضعيف من قياس أوظاهر، أو يكتفي كل تابع بنقل المذهب مجرداً عن الدليل إنْ كان حسن الفهم وإلّا نقله على غير وجهه إذا لم يحفظ من المذهب إلّا حروفه، فتطرق الظن والتوهم إلى أذهان كثيرين ممن وقعوا في التقليد ولم يكن ما حصل لهم من الفهم علماً وإنْ كان العالم الذي نقلوا عنه عنده دليل يفيد العلم، ثم قال شيخ الإِسلام منبهاً ومحذراً "وهذا الأصل الذي ذكرته أصل عظيم، فلا يصد المؤمن، العليم عنه صاد، فإنه لكثرة التقليد والجهل والظنون في المنتسبين إلى الفقه والفتوى والقضاء استطال عليهم أولئك ¬

_ (¬1) ويبقى بعد هذا ملاحظة الفرق بين قول القاضي والآمدي وأبي الخطاب من جهة وبين ما تفرد به الرازي من جهة أخرى. (¬2) هو محفوظ بن أحمد بن الحسن الكولذاني، نسبة إلى قرية بأسفل بغداد ولد بها سنة 432 وتوفي بها سنة 510، انظر طبقات الحنابلة 2/ 258، وشذرات الذهب 4/ 27 - 28. (¬3) الاستقامة 1/ 50 - 51.

المتكلمون حتى أخرجوا الفقه الذي نجد فيه كل العلوم من أصل العلم لما رأوه من تقليد أصحابه وظنهم" (¬1). ومما يؤكد ذلك أن من أحكام الفقه ما يعلمه بعض المجتهدين ويقطعون به لعلمهم بالنص ومنهم من يجهله أصلًا، أو يتكلم فيه بنوع من الظن، إمّا لعدم العلم بالنص أو الشك فيه، وإما بعدم فهمه، أو يذهل عنه فيقع الظن بسبب ذلك عند بعض المجتهدين وينقل أتباعهم المذهب على هذه الصورة وتجده عند إمام آخر مقطوعاً به إما لعلمه بالنص، أو لمعرفته لدلالته وقطعه بها .. وهكذا. فهذا الظن في مثل هذا الموضع لا يصبغ الفقه بهذه الصبغة وإنْ كَثُر لأنه في الحقيقة محمول على أسباب خاصة لا يلزم وقوعها لكل مجتهد، فإن من المجتهدين من يتوفر له القطع في تلك المسائل التي وقع فيها الظن عند غيره (¬2). ومن نظر في الفقه من زاوية خاصة وقع في تلك الشبه وألحق الفقه بالظنيات وهذا سبب يؤكد السبب السابق. 2 - انتشار باع المتكلمين فقد كان ذلك سبباً في التوهين من أمر الفقه ووصفه بانه ظن وأن العلم والقطع إنّما هو عند المتكلمين حتى مال كثير من الطلاب لدراسة الكلام والفلسفة فإن النفس تطلب ما هو علم وتنفر مما هو ظن (¬3). الفقرة الثالثة - الأدلة على بطلانه: 1 - إن جمغ الفقهاء يذكرون في كتب الفقه الأحكام المقطوع بها مثل وجوب الصلاة والزكاة والحج والصوم واستقبال القبلة ووجوب الوضوء والغسل ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 55 - 56. (¬2) الاستقامة 1/ 68. (¬3) المصدر السابق 1/ 65 - 66

من الجنابة وتحريم الخمر والزنى والسرقة واللواط والقتل والفواحش مطلقاً، وكل ذلك مما هو معلوم لا مظنون (¬1). 2 - إن غالب أحكام الفقه والحمد لله معلومة، أي أن العلم بها ممكن وإنْ لم يكن حاصلاً لكل أحد بل ولا لغالب المتفقهة المقلدين لأئمتهم (¬2). وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد للسهو وقضى بالدية على العاقلة (¬3)، وأن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة وأكثر الناس لا يعلمه بتة، فالشيء المعلوم بالضرورة إضافي. فإن الرجل الذي نشأ ببادية أو كان قريب عهد بجاهلية قد لا يعلم ذلك بالكلية (¬4)، فكثير مما يعتبره بعض أهل العلم من المظنون إنّما هو باعتبار فهمهم له، وإلّا فإنه من المعلوم عند غيرهم، بل إن أكثر الأفعال أحكامها معلومة وإنْ وقع الظن فيها عند بعض العلماء. وهذا لا يعني أنّ الفقه كله من المقطوع به عند شيخ الإِسلام بل منه ما هو معلوم ومنه ما هو مظنون، يقول "الفقه هو معرفة أحكام أفعال العباد سواء كانت المعرفة علما أو ظناً أو نحو ذلك" (¬5). مناقشة مذهب القاضي ومن وافقه: وبعد أن تبين لنا بطلان مذهب الرازي، ننتقل إلى بيان موقف الجويني وابن تيمية من مذهب القاضي أبي بكر، وحاصل مذهبه أن المسائل التي لا نص فيها إنّما يتبع فيها المجتهد ظنه ولا مرجح عنده، إلّا ما أشار إليه الغزالي ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 118. (¬2) الاستقامة 1/ 55. (¬3) العاقلة جمع عاقل، وعاقلة الرجل هم قرابته الذين يحملون عنه الدية، المصباح المنير مادة عقل 505، لأحمد بن محمد الفيومي -بيروت 1398، توزيع دار الباز- مكة الكبرى، الطبعة بدون. (¬4) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 118. (¬5) الاستقامة 1/ 55.

-وهو ممن نصر قول القاضي- من ميل النفس إلى أحد القولين دون الآخر كميل ذي الشدة إلى قول وذي اللين إلى قول، وأما الأمارات فليست من المرجحات لأنها لا تفيد علماً (¬1). وقد أنكر أبو المعالي ابن الجويني هذا القول إنكاراً بليغاً، فقال: إن مذهب القاضي يئول إلى أنه لا أصل للاجتهاد، وكيف يستجيز مثله أن يثبت الطلب والأمر به ولا مطلوب؟ وهل يستقل طلب دون مطلوب مقدّر ومُحقّق؟ ... وقال: " ... فإنّا على اضطرار نعلم من عقولنا أنّ الأولين كانوا يقدمون مسلكاً على مسلك ويرجحون طريقاً على طريق" (¬2). وهذا الذي نص عليه الجويني هو مذهب السلف والأئمة الأربعة كما حكاه ابن تيمية حيث يقول: "وأما السلف والأئمة الأربعة والجمهور فيقولون: بل الأمارات بعضها أقوى من بعض في نفس الأمر، وعلى الإِنسان أن يجتهد ويطلب الأقوى فإذا رأى دليلاً أقوى من غيره ولم ير ما يعارضه عمل به ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها" (¬3). وقال في موضع آخر: "الظنون عليها أمارات ودلائل يوجب وجودها ترجيح ظن على ظن، وهذا أمر معلوم بالضرورة، والشريعة جاءت به ورجّحت شيئاً على شيء" ثم قال بعد كلام طويل: فقد تبين أن الظّن له أدلة تقتضيه وأنّ العالم إنّما يعلم بما يوجب العلم بالرجحان لا بنفس الظن إلّا إذا علم رجحانه، وأمّا الظن الذي لا يعلم رجحانه فلا يجوز اتباعه، وذلك هو الذي ذم الله به من قال فيه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 65. (¬2) البرهان 2/ 890. (¬3) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 123. (¬4) سورة النجم: آية 28.

الفرع الخامس مقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه"

فهم لا يتبعون إلّا الظن ليس عندهم علم، ولو كانوا عالمين بأنّه ظن راجح لكانوا قد اتبعوا علماً لم يكونوا ممن لا يتبع إلّا الظن والله أعلم" (¬1). والذي يتحصل من هذه المناقشة: 1 - الفقه الإِسلامي أحكامه معروفة لعلماء الأمة، منهم من عرفها على سبيل العلم، ومنهم من عرفها على سبيل الظن الذي علم رجحانه. 2 - الفقه الإِسلامي يشمل الأمور المعلومة من الدين بالضرورة. 3 - إنّ المجتهد إمّا أن يتبع الأدلة التي يتحصل له منها اليقين فهو حينئذ متبع للعلم، وما ينتج عن ذلك من الفقه يكون علماً، وإمّا أن يتبع الأدلة التي يتحصل له منها اعتقاد رجحان شيء على شيء فهو حينئذ متبع للاعتقاد الراجح وهو علم بالرجحان لا مجرد اتباع الظن وما يتفق للنفس بدون دليل مرجح، وما ينتج عن ذلك من الفقه يكون علماً أيضاً. فالفقه الإِسلامي من المعلوم لا من المظنون. وبعد تقرير هذا المعنى يستحسن التعرف على الأصل العلمي لمصطلح القطعي والظني، لمعرفة صحة ما نسبه المتكلمون لعلمهم "علم الكلام" حيث قالوا عنه إنّه قطعي. الفرع الخامس مقارنة بين "علم الكلام" و"علم الفقه" تبين لنا مما سبق أن الرازي يجعل الفقه من الظنيات ويخص علم الكلام باسم العلم، وهذا بناء على ما شاع بين علماء الكلام ومن تأثر بهم أن "الكلام" من العلم القطعي الذي لا تداخله الظنون لأنه هو الطريق لإِثبات الاعتقاد، ولأن العقيدة لا تداخلها الظنون، بل هي جزم وقطع فإن ما يثبتها (¬2) عندهم ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى الكبرى 13/ 120. (¬2) والقول بأنه الأداة للتعرف على صفات الله سبحانه، وسيأتي ما يدل على ذلك إن شاء الله.

وهو "علم الكلام" يتسم بالصفة نفسها، وفي المقابل شاع عن العلوم الأخرى ما يوحي بالتوهين من شأنها ومما نحن فيه علم الفقه. وأناقش المعنى الذي تضمنه هذا المصطلح من حيث اللغة والشرع وموقف السلف وشهادة الواقع، لنرى مقدار ما يحمل من الصحة أو مقدار ما يحمل من الفساد، وقبل البدء في ذلك نشير إلى أنه مصطلح خاص بالمتكلمين. قال أبو الخطاب: إن تخصيص لفظ العلم بالقطعيات هو اصطلاح المتكلمين، والتعبير هو باللغة لا بالاصطلاح الخاص (¬1)، وننظر الآن في دلالة اللغة والشرع وموقف السلف وشهادة الواقع. 1 - دلالة اللغة: تفيد اللغة أن لفظ العلم يتناول اليقين والاعتقاد الراجح .. ويشملها لفظ المعرفة، والعلم ضد الجهل، ومن عرف شيئاً فقد علم به، سواء عن يقين أو اعتقاد راجح فلا يقتصر لفظ العلم على الدلالة على "اليقين" بل يشمله ويشمل مطلق المعرفة فمن ارتفع جهله بشيء فقد علم به، والعلم بعد ذلك درجات سواء علمه يقيناً أو رجحاناً (¬2). 2 - الاصطلاح الشرعي: فقد ورد لفظ "المعرفة" و"العلم" في مواضع كثيرة في القرآن منها: ¬

_ (¬1) الاستقامة 1/ 54. (¬2) انظر المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/ 509 - 510 ومما جاء فيه قوله "العلم اليقين، يقال عَلِمَ يَعْلَمُ إذا تيقن، وجاء بمعنى المعرفة أيضاً كما جاءت بمعناه ضُمِّنَ كل واحد معنى الآخر لاشتراكهما في كون كل واحد مسبوقاً بالجهل" 509، وقد يُضَمَّنُ معنى شعر فتدخل الباء، فيقال عَلِمْتُه وعَلمتُ به وأَعْلمْتهُ الخبرَ وأعْلَمْتُه به، 510، وفي اللسان "والعِلْمُ نقيض الجهل" 12/ 413 "وعَلمْتُ الشيء أعلَمُه عِلْماً عرفته" 12/ 417، والعلم درجات فالله سبحانه وتعالى يوصف بأنه عالم فهو العليم والعالم والعلّام قال تعالى: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وقال: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وهذه الصفة تليق بجلاله من غير تكيف ولا تشبيه ولا تعطيل ليست كصفات المخلوقين ويقال للإِنسان عالم، ويوصف بأنه ذو علم، وذلك مع اختلاف درجات العلم وصفته 12/ 416. وعلم الله لا يسبق بالجهل بخلاف علم البشر.

(أ) إطلاق لفظ "المعرفة" على العلم فقد وصف القرآن أهل الكتاب بأنهم يعرفون الحق الذي أُنْزل على نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬1). فيعلمون أنّ الإله وهو الله وأن النبي هو محمد بن عبد الله (¬2)، ويعلمون أن قبلتهم وقبلة أبينا إبراهيم البيت الحرام (¬3). (ب) إطلاق لفظ العلم الذي هو ضد الجهل، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} (¬4) وهذا المعنى يؤكد ما ورد في لغة العرب من أن العلم ضد الجهل وما عرفه الِإنسان فقد علم به، والعلم بعد ذلك درجات، منه ما يكون يقيناً كاملاً ومنه ما يكون دون ذلك؛ أي اعتقاداً راجحاً، ودرجات اليقين تتفاوت تفاوتاً كبيراً (¬5). (ج) قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬6). فقد بينت هذه الآية أن الاستنباط من النصوص -التي مجموعها يمثل الكتاب والسنة- يفيد العلم. والفقه هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المُسْتَنْبطة من أدلتها التفصيلية". ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 164. (¬2) جامع البيان 7/ 164. (¬3) جامع البيان 2/ 24 - 25. (¬4) سورة الحج: آية 3، وجعل الإِمام الطبري العلم هنا ضد الجهل 17/ 115. (¬5) الكوكب المنير 1/ 61، 62. (¬6) سورة النساء: آية 83.

وقد بينت آنفاً أن العلم درجات، والفقه الإِسلامي يشتمل على "العلم" سواء كان هذا العلم علم يقين أو علم رجحان، فتخصيص "الكلام" بالعلم لا دليل عليه من شرع ولا تشهد له اللغة. وننتقل بعد هذا إلى بيان موقف السلف من "الكلام" -الذي يُراد له أن يختص باسم "العلم" ومن أجل ذلك نُزع اسم العلم عن "الفقه"- نعرض موقفهم لنرى أين يصنّفون ما يُسمى بـ"علم الكلام" هل يدخلونه في "العلم" أم يخرجونه من دائرته، وفي ذلك بيان لمنزلة "الفقه الإِسلامي" عند السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان. 3 - موقف السلف منه: إنّ ما يسمى "علم الكلام" الذي انتشر على أيدي بعض الفرق أَمْر حادث قد اجتمع أئمة العلم من السلف على التحذير منه وذم أهله، لأنه يخالف منهج الاستدلال الإِسلامي، الذي يقوم على القواعد الشرعية واللغوية ومقاصدهما وفهم العاملين بهما من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، بعكس علم الكلام فإنه مسلك عقلي مجاف لتلك القواعد، أصله الفكر اليوناني الفاسد المنحرف عن شرائع الأنبياء، والفساد لا يؤدي إلّا إلى مثله. واليك أبرز نصوص الأئمة التي نهت عن "علم الكلام": منها: ما نقله أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" وقد نقله عنه ابن تيمية في كتابه الاستقامة: وفيه أن الناس قد اختلفوا في تعلّم علم الكلام، فقال جميع أهل الحديث من السلف وأئمة الفقهاء أمثال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري، رحمهم الله جميعاً أن علم الكلام بدعة وحرام (¬1). ومن أقوالهم لأن يلقى اللهَ العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من ¬

_ (¬1) الاستقامة 80 - 81، إحياء علوم الدين 1/ 163 - 164، مطبعة السعادة.

أن يلقاه بشيء من الكلام (¬1) وقال رجل للحسن بن زياد اللؤلؤي (¬2) أكان زفر (¬3) ينظر في الكلام، فقال سبحان الله ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم (¬4). وقال ابن عبد البر: "أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يُعدّون عند الجميع في جميع الأمصار من طبقات العلماء وإنّما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالاتقان والميز والفهم (¬5). وهذه النقول الثابتة البينة تفيدنا أمرين: الأول: أن علم الكلام بدعة. الثاني: أن جميع أئمة السلف شهدوا بذلك. ونعالج هنا شبهة كَثُر ترديدها مفادها أن ما لم يفعله السلف وأحدثه الخلف لا ينبغي رده لأن السلف لم يفعلوه، وأن البدعة لا تكون محرمة في كل حال. والجواب عن ذلك أن يُقال ليس لازماً أن يكون عمل الخلف هو عمل السلف في كل شىِء. فإن عمل الخلف ينقسم إلى أقسام: ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين، والنص النقول للشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- 2/ 332، الاعتصام 333. (¬2) ولي القضاء ثم استعفى عنه، وكان يختلف إلى أبي يوسف وإلى زفر، توفي سنة 204 هـ، تاج التراجم 22، والإِعلام 2/ 205. (¬3) هو زفر بن الهذيل بن قيس التميمي، من أصحاب أبي حنيفة ولي قضاء البصرة وتوفي بها ومن أقواله: "نحن لا نأخذ بالرأي ما دام أثر وإذا جاء الأثر تركنا الرأي" ولد سنة 110 - وتوفي سنة 158 هـ، تاج التراجم في طبقات الحنفية 28، ابن قطلوبغا، الناشر مكتبة المثنى ببغداد سنة 1962 نشر ببغداد، والأعلام 3/ 78. (¬4) الاعتصام 2/ 333. (¬5) الاعتصام 2/ 333، جامع بيان العلم لإبن عبد البر. 5/ 92 - 96 وقف على طبعه إدارة الطباعة المنيرية 1398 هـ - بيروت - لبنان.

1 - ما كان من الأمور المادية العملية كبناء المجتمعات واستخدام إنتاج العلم المادي فهذا أخذ الخلف به -وإنْ لم ياخذ به السلف- أمر واجب أو مندوب شريطة أن لا يكون فيه مخالفة للشرع. 2 - ما كان من الأمور الدينية الاجتهادية التي نُقل الخلاف فيها عن السلف فهذا لا بأس على الخلف أن يجتهدوا ويتخيروا الأقرب إلى الصواب مما نُقل إليهم من الأفهام. 3 - ما كان من الأمور الدينية التي نص أئمة السلف على أنها بدعة (¬1) فهذه لا سبيل إلى المراجعة فيها وجعلها شرعاً وذلك لأنها على هذا النحو لا تكون سنة إلى يوم القيامة. والدليل على هذا: أن علماء السلف إذا قالوا عن أمر من الأمور الدينية أنه بدعة فقد جزموا بأنه لا شاهد له من الشرع بتة، فلا يمكن أن يستنبط له معنى شرعي أبداً، فالكتاب وهو القرآن لا يشهد له، والسنة بمعناها العام (¬2) لا تشهد له، والإجماع لا يشهد له، والقياس الشرعي لا يشهد له، وبالجملة فإنه لا يوجد شيء في الشريعة يشهد له. وعلى هذا فإن الذين يحاولون إثبات شرعية أمر من الأمور قال أئمة السلف بأنه بدعة إنما يحاولون شططاً، ويتبعون سراباً، فإن أمراً اتفق أئمة السلف على أنه لا شاهد له في الشريعة يستحيل شرعاً أن يجد الناس بعدهم له أصلاً شرعياً، فإذا قالوا عن علم الكلام أنه "بدعة" فهذا يقتضي كونه بدعة إلى يوم القيامة، ومن حاول البحث من الخلف لإِيجاد شاهد له من الشرع فلن يجد أبداً، اللهم إلّا شبهة لا تنفعه في شيء، وهذا المعنى لا ينبغي التنازع فيه إذ أنه يستحيل شرعاً أن يكون شاهد من الكتاب أو السنة أو الإِجماع أو القياس -بما ¬

_ (¬1) أقتصر هنا على بيان القسم الثالث لأنه متصل بمسألة البحث في هذا الموضع، وأرجئ القسمين الأوليين إلى موضعهما من البحث إن شاء الله. (¬2) يدخل فيها السنة القولية والفعلية، وإقراره - عليه الصلاة والسلام - وسنة الخلفاء الراشدين وما كان عليه الصحابة، وبالجملة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -.

فيه المصالح المرسلة - على أمر من الأمور ثمِ يقول أئمة السلف عنه أنه بدعة، فإذا وصفوه بذلك فقد جزموا أنه كذلك أبداً. وهذا له شبيه عند الفقهاء فإن أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومن تابعهم إذا نصوا على أن الزني حرام، وعقوق الوالدين حرام، والقذف حرام، فإنه كذلك إلى يوم القيامة، فكما لا يجوز لأحد أن ينظر في الكتاب والسنة والإِجماع والقياس والمصالح المرسلة لكي يجد شاهداً على جواز شيء من ذلك، فإنه لا يجوز لأحد أن ينظر فيها ليجد شاهداً على مشروعية أمر نص السلف على أنه بدعة، وهذا أصل عظيم جداً، ما خالفه أحد إلّا جانبه الصواب ودخل في أودية البدع أو تاه بقدر مخالفته لذلك الأصل (¬1). وعليه فإن ما نقله أبو حامد الغزالي وغيره من أن أئمة السلف وصفوا علم الكلام بأنه بدعة يفيدنا يقيناً أنه كذلك إلى يوم القيامة ولا سبيل لإِيجاد شاهد له من الشرع بالصحة، وإن هذا الحكم يشمل بالتالي المصطلحات التي يقوم عليها هذا العلم وذلك لأن العلم لا ينفك عن مصطلحاته، بل هي زبدته وخلاصته، وأن كل ما بني على تلك المصطلحات فهو فاسد أيضاً أو قل إنه بدعة، ومن ذلك ما نحن فيه من إخراج "الفقه" عن مسمى العلم، وإخراج الأحكام المعلومة بالضرورة منه، وكذلك ربط الاجتهاد الناتج عن القياس وخبر الواحد والظواهر بغير الدليل الشرعي وجعله ظناً مبنياً على ما اتفق لنفس المجتهد دون اعتبار مرجح شرعي، وكل هذا الفساد ومثله كثير مما لا يتصل بمسألتنا هذه مبني على ذلك المصطلح الذي أفرزه ما سمّي بـ "علم الكلام" (¬2). 4 - شهادة الواقع: يقال إنّ مصطلح القطعي والظني إنما جيء به للمحافظة على كليات الشريعة وإبعاد الخلاف عن أصولها، وهنا نحتكم إلى ¬

_ (¬1) انظر تبرؤ أئمة الكلام منه في آخر حياتهم، انظر أبو حامد الغزالي والتصوف 419، تأليف عبد الرحمن دمشقية دار طيبة - الرياض وما بعدها ورجوع الغزالي عن مذاهب المتكلمين، والإِحياء 1/ 168. (¬2) ستأتي الإِشارة إلى ذلك إن شاء الله، عند مناقشة مسلك المضعفين لأدلة الشرعية.

الواقع لنقرر في جزم أن هذه المقالة ليست بصواب، ذلك أنه من العلم الذي لا شك فيه بتة أن هذا المصطلح لا حفظ كليات الشريعة، ولا أبعد الخلاف عن أصولها، بل هو السبب في ذلك، والدليل الذي يثبت ذلك يتكون من شقين: الأول: أن أصحاب هذا المصطلح من أهل الكلام هم أشد الناس اختلافاً وتنازعاً وتكفيراً وتبديعاً لبعضهم البعض، فإن فرق المتكلمين (¬1) المختلفة المتباغضة أثبتت بواقعها المشهود أن ما تزعم أنه علم قطعي إنما هو فساد وشر وظنون مرديات وأهواء متقلبات (¬2)، أما "الفقه الإِسلامي" كما هو عند الصحابة وأئمة السلف ومن سار على نهجهم وتجافى عن أصول المتكلمين فإنه العلم الحقيقي، بل هو أحق باسم العلم من "الكلام" (¬3). فقد غرق علم الكلام في خضم الفلسفات الأجنبية عن الإِسلام وسلم الفقه الإِسلامي من هذه المحنة، يقول د. محمد فوزي فيض الله: "إن الفقه الإِسلامي يمثل الفكر الإِسلامي الأصيل والروح الإِسلامية الأصيلة، فقد ابتنى على الكتاب والسنة وعلى غيرهما (¬4) مما أقامه الشارع دليلاً يهتدى به في التشريع حينما لا يوجد نص فيهما. وقد التزم الأئمة المجتهدون والفقهاء رحمهم الله تعالى هذه الأدلة التي نصبها لهم الشارع فلم يتأثروا في اجتهادهم وفقههم بمؤثرات أجنبية، وكانوا أمناء على هذه الشريعة وهذا الفقه العظيم فلم يدسوا فيه أفكاراً ولا أحكاماً دخيلة، وهذا بخلاف علم الكلام فقد دخلته الفلسفات الأجنبية في مادته وفي صورته وفي طريقة بحثه فانطوت فيه مباحث لا تمت إلى الدين بصلة ولا قرابة، كمباحث ما وراء الطبيعة، ومباحث الجوهر والعرض، والحسن والقبح، وقضايا المنطق وأشكاله وما إليها. ¬

_ (¬1) انظر تعيين الفرق، الاعتصام 2/ 206 وما بعدها. (¬2) وانظر شهادة الغزالي من أن علم الكلام هو الذي أثار الشرور والفتن، انظر كتاب أبو حامد الغزالي والتصوف، 422، وقد نقل نصوصاً متعددة تدل على هذا فراجعه، مع أنه قد صرح في أول حياته أن علم الكلام ضروري لحراسة كليات العقيدة 49. (¬3) الاستقامة 1/ 54. (¬4) أي من القياس والإجماع فهما من الطرق التي يتعرف بها على الحكم الشرعي.

أما الفقه الإِسلامي فقد قام على الكتاب والسنة والأدلة التي نصبها الشارع نفسه لأحكامه فدار الفقه في مدارسه ومذاهبه كلها حول هذه الأدلة دون ما سواها، ومن يرجع إلى كتب الفقه يجد المصنفين التزموا أن يذكروا -في الغالب- إزاء كل حكم دليله من الكتاب والسنة أو الإِجماع أو القياس، ومن قبل أشرنا إلى أن الفقه هو العلم بالحكم الشرعي ودليله من الشرع، وأن الحكم المجرد من الدليل لا يسمى فقهاً بالاصطلاح العلمي الدقيق وإنما هو فتوى وتقليد" (¬1). الثاني: أن هذا المصطلح قد أفسد كليات الشريعة خلاف ما كان أصحابه ينتظرون منه، وإليك بعض آثاره التطبيقية لتعلم صدق هذا القول من ذلك: 1 - أنه جعل أحكام الشريعة العملية من الظن لا من العلم. 2 - أنه وهن من عمومات الشريعة وأغلبها عمومات (¬2). 3 - إنّ نفي التعليل وإنكار القياس إنّما هو بسبب الخوف من آثار علم الكلام (¬3). 4 - أن العقل دخل حكماً مضاهياً للشرع فنفى بعض الأصول العقائدية، ووضع مناهج للنظر فاسدة أدت إلى تغير الأحكام العملية ومن قبلها الأحكام العقدية حتى زعمت المعتزلة - وتبعتها متكلمة الأشاعرة أن أدلة القرآن والسنة ظنية، وما وقع ذلك كله إلّا بسبب علم الكلام (¬4)!!! 5 - أنه هو السبب في انتشار الفلسفة والجدل وانهيار الكليات الشرعية الآمرة بالألفة والمحبة والاجتماع وترك التنازع والفرقة. ¬

_ (¬1) التعريف بالفقه الإِسلامي ص 16 - 17، الدكتور محمد فوزي فيض الله، نشر وتوزيع مكتبة دار التراث - الكويت. (¬2) سيأتي بيان ذلك في دراسة خاصة. (¬3) سيأتي بيان ذلك في دراسة خاصة. (¬4) سيأتي بيان ذلك في فصل خاص. إن شاء الله.

ولقد كان موقف السلف من "الكلام" كافياً في درء خطره لو أن أنصاره قاموا وتفكروا في اجتماع أئمة السلف ومنهم مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وغيرهم على ذم علم الكلام، وهل يُرجى منه حفظ لكليات الدين؟! وفي هذا موعظة لمن أراد أن يتوقى من الانحراف فيحذر من كل ما وصفه أئمة السلف بأنه بدعة. وإن هذه الشواهد لكفيلة بأن تمنحنا دفعة قوية وعزيمة صادقة لتنقية مصطلحاتنا العلمية من آثار "علم الكلام". ولنعلم بعد ذلك أن ما يسميه علماء الكلام بـ "العلم" لم يعرفه الصحابة، وأن ما وصفوه بأنه "ظن "علم" وهو "الفقه" هو الأمر المعلوم عند الصحابة رضوان الله عليهم، علموا أحكام أفعال العباد من الوحي، وعلموها للناس، ونشروها، وأخذها عنهم تلامذتهم، وعلموها لمن بعدهم، يعرفونها بأدلتها، ويعلمون وجه ارتباطها بالشريعة علماً بيّناً يفرّقون به بين الحق والباطل ويحكمون به مجتمعاتهم في جميع المجالات ... وهذا هو العلم الذي بنى عليه الأئمة المعتبرون أمثال مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم أصولهم، فقد عرفوا الأحكام بأدلتها وانتشر الفقه الإِسلامي على أيديهم في بقاع الأرض، وكانت أحكامه معلومة قطعاً عند الأمة، وخفاء بعضها على بعض أهل العلم لا يلزم منه أن تلك الأحكام ليست معلومة، ولذلك لم يفقد من علم الفقه شيء، ولم يصبح الحق مضيعاً في هذه الأمة بل إن ما يجهله أحد العلماء يعرفه الآخر، وما يعرفه أحدهم على وجه الظن، يعرفه آخر على سبيل العلم وهكذا. ولما نشأ علم الكلام واشتغل الناس به اتبعوا الظنون والأهواء وتفرقت بهم السبل، حتى حق عليهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو هريرة: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك، وتفترق

أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة" (¬1)، ولا نجد هذه الفرق في الفقه الإِسلامي (¬2)، ولوكان ظناً كظنون علم الكلام لافترق الناس فيه ذلك الافتراق الواسع الذي محق الأصول والفروع، ولم يكن الخلاف بين أهل الفقه في بعض الجزئيات يحمل تلك النتيجة التي أفرزها علم الكلام، ذلك أن الفقهاء كانت تجمعهم أصول فقهية عظيمة، ويتفقون على جملة الأحكام الشرعية، فأصول المسائل الدينية بيّنة ظاهرة معلومة لا خلاف فيها، ويبقى الخلاف في بعض مسائل الاجتهاد وذلك لأسباب كثيرة معلومة (¬3)، ومع ذلك فإن الصواب لم تجهله الأمة في هذه المسائل بل الحق فيها معلوم وإن اختلف فيها الناس وتفاوتت فيها مداركهم. وقد شبه الإِمام ابن تيمية الخلاف بين أهل الفقه من أهل السنة بالخلاف في الجزئيات الذي وقع في شرائع الأنبياء، فأصول الأنبياء واحدة في التوحيد وأصول الشرائع، وخلافهم في تلك الجزئيات لا يخرجهم عن مسمى الأمة الواحدة، لأن الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإِجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإِسلام المحض وهم أهل السنة والجماعة (¬4)، وذلك كله من بركة اتباع العلم لا اتباع الظن، ووقوع الخلاف في بعض الجزئيات لا يُغيّر من هذا المعنى، ولذلك فإن الفقه الإِسلامي الذي تلقته الأمة عن علماء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 5/ 25 وقال حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه 1321، وقد روي معنى هذا الحديث عن عوف بن مالك وأنس بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وسعد وعبد الله بن عمرو. (¬2) نعم لا تجدها كما هي عند فرق المتكلمين، ومع الاعتراف بوقوع التعصب للمذاهب ووقوع النزاع بين أتباعها والانتصار لها بالحق وبالباطل إلّا أن هذا لا أصل له يؤيده عند الأئمة المعتبرين من أئمة السلف، بخلاف فرق المتكلمين فذلك من أسسهم العقدية .. ولا يبعد أن يكون المسؤول عن ذلك هو علم "الكلام" لأن التعصب سببه انتشار الرأي المذموم والجهل بالسنة وهذه من صفات المتكلمين. (¬3) انظر أسباب الخلاف بين الفقهاء في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإِسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 20/ 231 وما بعدها .. (¬4) مجموع الفتاوى الكبرى 19/ 116 - 117 - 118 - 119 - 121.

المشهورين ومن حذا حذوهم واتبع آثارهم علمٌ أوجب لأهله الهداية والألفة وأبعدهم عن الضلالة والفرقة والظنون، وهذا معلوم من سيرة فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، فإنك لا تجدهم متباغضين متفرقين يتبعون الظن، بل تجدهم متوالين متحابين أهل سنة واحدة في الاعتقاد ومتفقين على فهمهم لأصول الشريعة وإن تفاوتت علومهم وإدراكاتهم لبعض مسائلها الجزئية، وذلك على الضد من حال علماء الفرق الجدليين فإن الخلاف بينهم أشبه بالخلاف بين أهل الشرك من اليهود والنصارى كما أشار إلى ذلك الحديث، فهو خلاف في أصول الشريعة تبعه فرقة وتباغض وتكفير وتبديع واختلاف في أصول الأحكام، وذلك كله ناتج عن مخالفة السنة في الاعتقاد والعمل، واتباع علم الكلام، وشتان بين العلم الذي تورثه هذه الشريعة لأهلها وبين ما ورثه علم الكلام للفرق الضالة (¬1). ولعل في هذا تذكرة لمن أراد أن يعرف الفرق بين علم "الفقه" وعلم "الكلام" وأن أصحاب تلك المذاهب المقصّر منها والغالي قد جهلوا حقيقة الفقه، وأوقعتهم مصطلحات علم الكلام في تلك المقالات. ولا يقال أن "للكلام" منفعة وهي دفع الشبه عن العوام، وقد بين الغزالي أنه ليس له سوى هذه المنفعة (¬2). ولا يمنعني انتشار سلطان المتكلمين في قرون كثيرة أن أقول أن إثم علم الكلام أكبر من نفعه، وقد أشار الغزالي إلى وجوب الحيلولة بين العوام وبين ¬

_ (¬1) انظر في المقابلة بين الأمرين وآثارهما، كتاب الاعتصام 2/ 231 - 232، ولا يقال أن علماء الكلام اتفقوا على بعض الأصول وذلك مثل إثبات وجود الله، وإثبات الرسالة والمعاد، واحتكموا إلى العقل في كل ذلك، لأنا نقول أن إثبات الوجود لا يحتاج إلى كل ذلك الجدل فقد أثبته الكفار من قبلهم. وأما المعاد فمع إثبات أصله فقد اختلفوا فيه اختلافاً عجيباً، وأما أصلهم الذي يتلقون منه وهو العقل فقد اختلفوا في ماهيته ... ولذلك لما انحرفوا عن منهج الرسل في التلقي وتقرير أمور الدين لم يزدادوا إلّا فرقة ... ولم ينفعهم اتفاقهم في بعض الأمور ... (¬2) الإحياء 1/ 168.

"الكلام" ولم يستثني إلّا بعضاً منهم أصابته البدعة ولا يمكن رفعها إلّا بالمجادلة، ومع ذلك فقد تحفظ في ذلك خوفاً من شرور علم الكلام (¬1)، وهو شبيه باستعمال بعض الأئمة له عند ضرورة مناظرة أئمة البدع، وليس له بعد ذلك من منفعة، يقول الغزالي: "وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبط فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث .. ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين ... " (¬2). وبعد فقد أطلت في إقامة هذا الأصل وتوطيده لأن كثيراً من مسائل البحث الخاصة بمنزلة الفقه الإِسلامي سوف تبنى عليه، ولكل منها موضع يناسبه .. ونسأل الله العون والسداد. * * * ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 167. (¬2) المصدر السابق 1/ 168 وسأذكر إن شاء الله في الموضع المناسب ما قاله بعض أهل العلم عن رجوع الغزالي إلى كتب الحديث يطلب فيها معرفة الحقائق وإعراضه عن الطرق الأخرى.

المبحث الثالث الفرق بين "الفقه" و "الشريعة"

المبحث الثالث الفرق بين "الفقه" و "الشريعة" عرفنا مما سبق أن الشريعة هي "نصوص الكتاب والسنّة"، وأن الفقه هو العلم بالأحكام العملية المجمع عليها والمختلف فيها التي استنبطها المجتهدون من الأدلة الشرعية التفصيلية، وبناء على هذا فإن "الشريعة" غير "الفقه". وأناقش هنا أموراً، في ثلاثة مباحث: الأول: جواز إطلاق لفظ "التشريع" على "الاجتهاد" ولفظ الشريعة على "الفقه": ذلك أنه إذا جاز إطلاق لفظ "التشريع" على "الاجتهاد" فكان "المجتهد" "مُشرعاً" فإنه يجوز أيضاً أن نطلق لفظ الشريعة على "الفقه" لأنه ثمرة الاجتهاد الذي هو عمل المجتهد. والصواب عدم جواز ذلك والدليل عليه أن الأصوليين قد اتفقوا على أن محل "الاجتهاد" (¬1) هو الأدلة الشرعية، وأن عمل المجتهد ¬

_ (¬1) تعريف الاجتهاد في اللغة: جاء في لسان العرب الجَهْد والجُهْد الطاقة، قال ابن الأثير: "قد تكرر لفظ الجَهد والجُهد في الحديث وهو بالفتح المشقة. وقيل المبالغة والغاية، وبالضم الوسع والطاقة، وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير"، ويقال لمن جد في عمله جَهَدَ يجهد جَهْداً واجْتَهَدَ، قال الأزهري: "الجَهْد بلوغك غاية الأمر الذي لا تألوا على الجهد فيه تقول جهدت جهدي واجتهدت رأي ونفسي حتى بلغت مجهودي" مادة جهد. =

هو الاستنباط والكشف، يُعرف ذلك من النظر في تعريفات الأصوليين، منها: الاجتهاد "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية" (¬1). الاجتهاد "استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم" (¬2). الاجتهاد "بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع" (¬3). الاجتهاد "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة" (¬4). الاجتهاد "بذل المجهود في استخراج الأحكام الشرعية، فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه" (¬5). الاجتهاد "استنفاذ الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم" ومصدر ذلك هو الشرع (¬6). الاجتهاد "بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني" (¬7). الاجتهاد "استفراغ المجهود في استنباط الحكم الشرعي الفرعي من دليله" (¬8). والذي يظهر من هذه التعريفات مجتمعةً، أن الاجتهاد الشرعي لا يمكن ¬

_ = والاجتهاد افتعال مأخوذ من الجهد والطاقة، ويقال التجاهد، وكلاهما بذل الوسع والمجهود، فالاجتهاد بذل الوسع في طلب أمر من الأمور، مادة جهد اللسان، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/ 137. (¬1) منهاج الأصول في علم الأصول للقاضي البيضاوي مع شرحي البدخشي والأسنوي 2/ 191 - مطبعة محمد علي صبيح بمصر. (¬2) حاشية العطار على جمع الجوامع 2/ 420. (¬3) روضة الناظر لإبن قدامة 190، المطبعة السلفية 1385 هـ. (¬4) المستصفى مع فواتح الرحموت 2/ 350. (¬5) شرح المنار لإبن ملك 2/ 823. (¬6) الإِحكام في أصول الأحكام لإبن حزم 18/ 487 - 1480، تحقيق محمد أحمد عبدالعزيز - مكتبة عاطف 1398 هـ. (¬7) فواتح الرحموت بشرح مُسَلَّم الثبوت 2/ 362 مع المستصفى للغزالي. (¬8) مرقاة الأصول 2/ 464.

تصوره إلّا بوجود المجتهد، وبالرجوع إلى أدلة الشرع. فلا بد من بذل الجهد واستفراغه وهذا عمل المجتهد، ولا بد من وجود أدلة شرعية لرجوع المجتهد إليها، أمران ضروريان لا يتحقق الاجتهاد بدونهما، فالاجتهاد إذاً طريق للكشف عما تضمنته "الشريعة" من أحكام فالمجتهد سواء كان إماماً كأبي بكر - رضي الله عنه - أو مفتياً كأحد علماء الصحابة ليس له إلّا الكشف عن الحكم وتطبيقه، ولا يملك أي سلطة تشريعية، ومهمته حراسة أحكام الله تعالى من أن تُضيّع أو تُبدّل (¬1)، ولذلك فإن إقامة الكتاب شرط لطاعة الإِمام في اجتهاده، وكذلك في طاعة المجتهد في قضائه وفتواه، وهذا محل إجماع بين المسلمين (¬2). وفي هذا دليل يؤيد ما ذكرته سابقاً من أن مهمة المجتهد سواء كان إماماً أو قاضياً أو مفتياً هي الاجتهاد في التعرف على حكم الله من مصدره الذي هو الشريعة ثم تطبيقه (¬3)، وليس لأحد منهم حق التشريع، وسواء أكان المجتهد فرداً أو جماعة كأهل الحل والعقد وهم المجمعون على أمر من الأمور الشرعية "فالحاكم هو من صدر منه الخطاب وهو الله تعالى، فهو الذي يشرع الحكم ¬

_ (¬1) على طريق العودة إلى الإِسلام 57 - 62 - الدكتور محمد سعيد البوطي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى. (¬2) صحيح مسلم شرح النووي 12/ 222 ط 2، 1392 هـ دار الفكر - بيروت وإذا أطلق لفظ الكتاب في مثل هذا الموضع شمل السنة، وقد ورد هذا الشرط في السنة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اسمعوا وأطيعوا وإن اسْتُعْمِلَ عليكم عبد حبسي كأنّ رأسه زبيبه ما أقام فيكم كتاب الله" ومثله حديث أم الحصين - رضي الله عنها -: " ... إنْ أمِّرَ عليكم عبد مُجدّع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا" ومثله في رواية الترمذي. انظر الأحاديث في كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/ 121 حديث رقم 7142، وعند مسلم في كتاب الإِمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، 12/ 222. (¬3) قد يكون التطبيق لغير المجتهد، كما يطبق المسلم الفتوى على نفسه وهو ليس بمجتهد - انظر الاعتصام 2/ 161.

وينشئه وعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تبليغ هذا الحكم إلى الناس، وعمل المجتهدين من بعده هو اقتباس هذا الحكم من الأدلة التي نصبها الشرع لمعرفته" (¬1). فعمل المجتهد إذاً لا يتعدى هذه الصورة، فهو إما أن يستنبط الحكم أو يطبقه على الواقعة (¬2). ولهذا نصب د. الأفغاني -في رسالته "الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر"- فصلاً عنوانه "الاجتهاد ليس تشريعاً" قرر فيه -بعد أن بيّن تعريف الاجتهاد وأورد كلام الأصوليين فيه- أن الاجتهاد هو الاستنباط من الأدلة فقال: "يتضح مما قدمنا من تعريف الاجتهاد أنه ليس بتشريع للأحكام وإنشائها (¬3) وأن المجتهد ليس مشرعاً ومنشئاً لها، فإن الاجتهاد هو بذل الجهد من الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من دليله الشرعي، والمجتهد هو: الذي يبذل جهده في استخراج الحكم الشرعي من الدليل الشرعي فوظيفته الكشف والإِبانة" (¬4). والآن بعد هذه الدراسة يمكنني أن أذكر أهم الفروق بين التشريع والاجتهاد -وهي مبنية على قواعد متفق عليها كما بينته سابقاً. 1 - إن المشرع -وهو الله سبحانه- منشئ للأحكام، وإن المجتهد مستنبط للحكم وكاشف عنه. 2 - إن المشرع -وهو الله سبحانه وتعالى- له الطاعة والاتباع لذاته، ¬

_ (¬1) أصول الفقه د. حسين حامد حسان 134. (¬2) الاعتصام 2/ 161. (¬3) الأولى أن يقول: "وانشاء لها". (¬4) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 152، د. سيد محمد الأفغانستاني، الناشر دار الكتب الحديثة مصر - الطبعة بدون.

وأن ما سواه في مقام العبودية سواء أكان رسولًا، أو من المجتهدين إماماً أو قاضياً أو مفتياً فرداً أو جماعة فالشارع متبوع والمجتهد تابع. 3 - أن الشريعة معصومة ورسولها معصوم، والمجتهد ليس بمعصوم إلّا إذا أجمع المجتهدون على أمر من الأمور الشرعية (¬1). 4 - أن المشرع لا يُسْأل عما يفعله، والمجتهد يسأل عما يفعل (¬2)، ذلك أن الله هو الحق وهو العليم الحكيم. {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬3). أما البشر فهم غير معصومن إلّا الرسل - عليهم السلام -. 5 - أن المشرع له حق النسخ والتبديل -كما كان له حق التشريع- وقد انقطع هذا بانقطاع الوحي - وأما المجتهد فليس له شيء من ذلك لا تغير ولا تبديل ولا نسخ ولا تعطيل، بل عليه الانقياد والإِذعان لحكم الله سبحانه، وذلك فرض على البشر أجمعين. وبهذا يتضح خطأ بعض الباحثين الذين يقسّمون التشريع إلى قسمين: تشريع ابتداء وهو حق الله، وتشريع ابتناء وهو حق المجتهدين (¬4). والصواب أن عمل المجتهدين لا يسمى تشريعاً ابتناء بل هو اجتهاد مبني على التشريع الذي هو الوحي، وهذا مقتضى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للاجتهاد. ¬

_ (¬1) سيأتي بإذن الله تعالى الحديث عن عصمة الإجماع في فصل مستقل. (¬2) أي يسأل عن الحجة التي أوجبت له أن يقول بهذا الحكم مع الأدب في السؤال وطلب إزالة الأشكال إن وجد. (¬3) سورة الأنبياء: آية 23. (¬4) أصول الشرعية الإِسلامية مضمونها وخصائصها 26 - الدكتور علي جريشة الطبعة الأولى مع أنه يفضل أن لا تُطلق "الشريعة" على "الفقه" ص 9 وهذا قصد طيب ولكنه لا يتحقق على الوجه المطلوب إلّا على ما قدمته من بيان الفرق بين الاجتهاد والتشريع.

ولعل بعض من يذهب إلى هذا التقسيم قد تأثر بما ورد عند بعض المحققين من تجويز إطلاق لفظ "المشرع" على "المجتهد" وتقسيم الشرع إلى ثلاثة أقسام: الأول: شرع منزل وهو الكتاب والسنة. الثاني: شرع مؤول وهو اجتهادات العلماء المجتهدين. الثالث: شرع مبدل "وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البين، فمن قال هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع كمن قال أن الدم والميتة حلال، ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك" (¬1). وأبدأ بالتعرّف على وجهة نظر الشاطبي وذلك من كتابه الموافقات، عنون الإمام الشاطبي بقوله مسألة "المفتي قائم في الأمّةِ مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ثم بيّن أن هذا المقام هو مقام التعليم والإِنذار وتبليغ الأحكام والاجتهاد في استنباطها وتطبيقها على الحوادث. واستدل على إثبات هذا المقام بأن العلماء هم ورثة الأنبياء كما ورد في الحديث (¬3)، فهم ورثته ونائبون عنه في التبليغ كما في الحديث "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (¬4) ثم بين خطورة منزلة المفتي حيث ذكر أن الأمة ترجع إلى علمائها ويجب عليها اتباعهم لأنهم يأمرونها بالمعروف، فالعالم الذي يأمر ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى الكبرى - انظر 3/ 268 - 11/ 264 - 19/ 308. (¬2) الموافقات 4/ 162 - 163. (¬3) قطعة من حديث رواه الترمذي في العلم باب ماجاء في فضل الفقه على العبادة 5/ 48 - 49 - وأبو داود 3/ 317، وابن ماجه 1/ 81 كلهم رواه عن أبي الدرداء وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/ 302. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، كتاب العلم 1/ 191.

بالمعروف يجب اتباعه، والمفتي في هذه المنزلة، فلا بد أن يطابق فعلُه قولَه (¬1) وبنى على هذه المسألة مسألة أخرى بين فيها ما يجب على المفتي ليكون قدوة لغيره وأسوة طيبة (¬2). فالمسألة الأولى في بيان منزلته، والتي بعدها في بيان ما يجب عليه وقد وضعه الشارع في هذه المنزلة. وتقسيم الشاطبي في بيان منزلة المفتي وأنه وارث مُعَلِّمْ ونائب مُبلّغ لا كلام فيه، ثم قال: "المفتي شارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة إمّا منقول عن صاحبها، وإمّا مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً، والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع" (¬3). وإلى هنا - فإن النص في غاية الأحكام وهو حاصل ما تقرر سابقاً من أن إنشاء الأحكام إنّما هو للشارع، وأن عمل العالم الوارث لعِلْم النبي هو التعليم والإنذار والتبليغ واستنباط الأحكام وتطبيقها على الحوادث الجديدة، وعمله هذا هو الاجتهاد بالمعنى العام (¬4) الذي يجمع ذلك كله. ثم إنّ الشاطبي عرض بعد هذا التقرير الحسن إلى النظر في جواز إطلاق لفظ "الشرع" على عمل المجتهد، فقال: بعد النص السابق مباشرة "فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه ... " (¬5). والظاهر من عبارة الشاطبي: أنه جزم بأن "إنشاء الأحكام إنما ¬

_ (¬1) انظر المقدمة الثامنة من كتاب الموافقات 1/ 34. (¬2) انظر المسألة الثالثة 4/ 167 وقد صرح ببنائها على ما قبلها فقال: "تُبنى على ما قبلها وهي أن الفتوى لا تصح من مخالف لمقتضى العلم". (¬3) الموافقات 4/ 163. (¬4) أقصد بالمعنى العام أي الاجتهاد في تَعلّم العلم وتعليمه والدعوة إلى الله سبحانه والاجتهاد في استنباط الأحكام لمن قدر عليه. (¬5) الموافقات 4/ 163.

هو للشارع" على سبيل الحصر ثم قال: "فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام ... " وهذا فيه شيء من الاحتمال لسببين: الأول: أنه خلاف ما جزم به من قبل على سبيل الحصر. الثاني: أنه علّقَهُ بقوله "فإذا كان ... ". وبهذا يتبين أن الشاطبي يجزم على سبيل الحصر بالقضية الأولى دون الثانية وسبب ذلك أن القضية الأولى مقطوع بها عنده، وإنما ذكر ما بعدها ليبين خطورة منزلة المجتهد وأنه يجب اتباعه لأنه إمّا مبلغ عن الشرع وإما مستنبط منه، ولذلك ختم مسألته بقوله: "وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي (¬1) وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره (¬2) كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ولذلك سموا أولي الأمر، وقُرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬3) والأدلة على هذا المعنى كثيرة" (¬4) وبَيّنٌ في هذا النص أن الإِمام الشاطبي لم يصف المجتهد بأنه منشئ للأحكام وشارع لها، بل وصفه بأنه مخبر ومطبق للأحكام على الحوادث، وتجب طاعته كما تجب طاعة أولى الأمر بشرطها (¬5). وقد سبق جزمه بأن إنشاء الأحكام إنما هو لله، وتعليقه للمسألة بقوله: "فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام .. " وبهذا يتبين لي أن مقصود الشاطبي ¬

_ (¬1) قصد الشاطبي مخبر عن النبي أي إما في حياته فعنه - صلى الله عليه وسلم - أو عن من سمعه وبعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - يكون الإِخبار عما بلغه من الكتاب والسنة. (¬2) أي بحسب اجتهاده والحكم الشرعي الذي توصل إليه. (¬3) وهذه الطاعة شرط القرآن لها وكذلك السنة أن تكون في المعروف لا في المعصية. انظر ص 90. (¬4) الموافقات 4/ 163. (¬5) وشرط طاعته على المكلف أن يطابق قولَه فعلُه، ولا تخالف فتواه النص والإِجماع فإن علم المكلف منه ذلك لم تجز له متابعته، بل الواجب عليه متابعة من اتصف بالصفات التي ينبغي أن يلتزم بها أهل العلم وهذا هو مقصد الشاطبي. انظر المقدمة الثانية عشرة، الموافقات 1/ 52 وما بعدها.

هو ما قرره في آخر النص وإنّما عرض للمجتهد بتلك الطريقة ليبين خطورة منزلته وأن عليه أن يحكم الوحي على نفسه اعتقاداً وعملاً على التمام والكمال، وبهذا يتبين أن تسميته "شارع من وجه" بهذا التقييد إنّما هي تسمية لفظية لا تناقض قوله من أنّ إنشاء الأحكام وشرعها إنّما هو لله سبحانه. هذا من وجهة قصد الإمام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ-. وأما من وجهة النظر المطلق في التسمية فإني لا أرى صحتها لا من الناحية اللغوية ولا من الناحية الاصطلاحية وذلك لما بينته سابقاً (¬1). ولا يقال لا مشاحة في الاصطلاح إذا سلم المقصد، بل فيه مشاحة وخاصة في المصطلحات التي تختص بالأمور الاعتقادية ومنها مسألتنا هذه (¬2) بل إن المشاحة تنبغي فيما هو أهون من ذلك، فإن مخالفة المصطلح للمعنى اللغوي والمعنى الشرعي توجب رده وتصحيحه، أما بالنسبة للتقسيم المذكور في كلام ابن تيمية فهو ليس تقسيماً مستنداً على أصل علمي، بل صرح هو في موضع بأنه مما جرى به عرف الناس وفي الموضع الآخر ذكر أنه مما ورد في كلام الناس (¬3)، ولم يصرح بأنه مذهب أحد من أهل العلم. والصحيح خلاف هذا التقسيم، فأما القسم الأول فإطلاق لفظ الشريعة عليه ظاهر، وأما القسم الثاني وهو آراء العلماء المجتهدين فالذي ينبغي أن يُطلق عليه هو اصطلاح "الفقه الإِسلامي" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ما سبق 57 - 58. (¬2) انظر التمهيد لتجلية هذه العقيدة وهي أن التشريع وهو إنشاء الأحكام إنما هو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد من خلقه لا نبي مرسل ولا ملك مقرب. (¬3) مجموع الفتاوى الكبرى 3/ 268، 19/ 308، 11/ 264. (¬4) أما ما ورد في عرف الناس أو كلامهم من أن "الشرع المبدل" الذي هو الكفر كما صرح ابن تيمية فهل يسمى شريعة أم لا؟ والأقرب إلى الصواب تسميته كذلك لأن شرائع الشرك والكفر -أنشأت بغير إذن من الله- وابتدأها من لم يكن مؤمناً بالله ورسله فهي حينئذ شريعة باعتبار المعنى اللغوي، وفي شرائع الكفر يصور الإنشاء للأحكام، وأما في دائرة الإِسلام وهو ما نحن فيه فإما إنشاء للأحكام وهو حق الله وذلك هو الشريعة كتاباً وسنة، وإما استنباط منهما وذلك هو الفقه.

الثاني: مناقشة القول بأن الشريعة والفقه بينهما العموم والخصوص من وجه: فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "النسبة بين الفقه والتشريع العموم والخصوص من وجه، فيجتمع الفقه والتشريع في الأحكام التي أصاب المجتهد فيها حكم الله ويفترق الفقه عن التشريع في الأحكام التي أخطأ فيها المجتهد، وتفترق الشريعة عن الفقه في الأحكام التي تتعلق بالناحية الاعتقادية والأخلاقية وبقصص الأمم الماضية" (¬1). ويُناقش هذا الكلام حسب ما قررته سابقاً، وحاصله أن الشريعة هي نصوص الكتاب والسنة. وإصابة المجتهد للحكم لا تجعله من نصوص الكتاب والسنة بل إن ما أصاب فيه المجتهدون وما أخطأوا إنما هو الفقه، والمؤلف صرح بذلك حيث قال بعد هذا الذي قرره: "أما الفقه فهو آراء المجتهدين من علماء الأمة" (¬2). وهناك من الباحثين من ذهب إلى خلاف الرأي السابق وذكر أن في التسوية بين الفقه والشريعة في إطلاق لفظ أحدهما على الآخر، أو أن يكون بينهما العموم والخصوص من وجه تساهل: ثم قال: "ومرد ذلك هو أن المجتهدين لا يقصدون التشريع باجتهاداتهم وإنما يستهدفون الوصول إلى وجه الصواب في احكام المسائل التي تُعرض عليهم ويرومون محاولة الوقوف على مراد الشارع في كل مسألة اجتهادية لأنهم يؤسسون اجتهادهم على مبادئ الشريعة العامة (¬3) وقواعدها الأصولية" (¬4). ¬

_ (¬1) تاريخ الفقه الإِسلامي - د. عمر سليمان الأشقر 19، مع أنه أشار إلى أن معنى "التشريع" الابتداء في الشيء، ونقله عن ابن كثير وهذه الإشارة لم أجدها -حسب علمي- في أكثر كتب تاريخ الفقه والشريعة والمداخل لدراسة الشريعة، ولكنه لم يؤسس عليها شيئاً في هذا الموضع، انظر كتابه خصائص الشريعة الإِسلامية. (¬2) تاريخ الفقه الإِسلامي 19. (¬3) ويؤسسونها على الأدلة الجزئية كذلك. (¬4) مفهوم الفقه الإِسلامي وتطوره وأصالته 18 - 19.

وعلى هذا الذي اخترته يجب الاقتصار على إطلاق لفظ الشريعة والتشريع الإِسلامي على كلام الله وكلام رسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما ما يستنبطه المجتهدون منهما فهو من "الدين" ومعنى ذلك أنه ملزم للمجتهد ومن تابعه على ذلك (¬1)، أما من ناحية التسمية فيسمى "الفقه" ولا يشارك الكتاب والسنة في اسم "الشريعة" لأنها إنما وردت خاصة بكلام الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فما أوحاه الله لرسوله عليه السلام هو "الشريعة" وما استنبطه المجتهدون منها هو "الفقه". الثالث: وصف "الفقه" بأنه تشريع إلهي أو بأنه تشريع إسلامي، أو بأنه تشريع إسلامي وضعي: وقد أشار بعض الباحثين إلى هذا فقال (¬2): "ويطلق على التشريع المستمد من مصدره الإلهي التشريع السماوي بينما يوصف التشريع الذي يسنه الإِنسان بأنه تشريع وضعي وبناء على هذا المعنى فإن التشريع الإِسلامي ينقسم من حيث مصدره إلى قسمين: تشريع إلهي محض: ويشمل القواعد التشريعية المستمدة من النصوص الثابتة كالقرآن والسنة (¬3) ... وتشريع إسلامي وضعي ويشمل الاَراء الفقهية الواردة عن الفقهاء المجتهدين ... وحاصل ما جاء في هذا النص ما يأتي: 1 - أن التشريع السماوي هو المستمد من المصدر الإِلهي. 2 - أن التشريع الوضعي هو ما يسنه الإِنسان. ¬

_ (¬1) سيأتي زيادة بيان عند الحديث عن منزلة الأحكام المختلف فيها إن شاء الله. (¬2) المدخل للتشريع الإِسلامي، نشأته وأدواره 11. (¬3) القاعدة الفقهية ما هي إلا ضابط لفروع فقهية كثيرة، يُسهِّلْ على الفقيه الرجوع إلى تلك الفروع، ولا تصلح للاستدلال ابتداء، اللهم إلّا ما ورد النمر بها كقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" وما ماثلها، انظر القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإِسلامي للأستاذ علي أحمد غلام 168 وما بعدها.

3 - أن القواعد التشريعية من التشريع الآلهي المحض، وأن اجتهادات المجتهدين من التشريع الإِسلامي الوضعي. 4 - أن معنى إسلامي وضعي -كما ورد في النص السابق عند المؤلف- أي من التشريع الإِسلامي ومن وضع الإِنسان. والجواب عن هذا القول كما يلي: أولاً: أن "القواعد التشريعية" هي "من الفقه الإِسلامي" وهي مستمدة من القرآن والسنة فكيف تكون تشريعاً إلآهياً محضاً؛ وقد بينت سابقاً أن الشريعة هي "نصوص الكتاب والسنة" والفقه هو استنباط المجتهدين من الأدلة، والقواعد من الفقه، والكاتب يؤكد على أنه من التشريع المحض وهو خلاف الصواب وخطأ محض. ثانياً: أما قوله بان الفقه الإِسلامي "إسلامي وضعي" أي من المصدر الآلهي "التشريع السماوي" ومن وضع الإِنسان أي "التشريع الوضعي" فمضطرب جداً، وما يذهب إليه هذا الكاتب مناقض صراحة لإِجماع المسلمين لأن الفقه الإِسلامي مصدره الكتاب والسنة فمنهما يُؤخذ وبهما يُصحح ولا شرعية له بغير ذلك بته، بل لم يكن فقهاً إسلامياً إلّا برجوعه إلى شريعة الإِسلام، فإذا لم يرجع الفقهاء إلى هذين المصدرين الكتاب والسنة فلا عبرة بما يقولونه ولا شرعية له، بل إن ما يذهب إليه البشر من "فهم" لا يستمدونه من هذين المصدرين يعتبر فهماً غير إسلامي، أي لا شرعية له في دين الله، ولهذا كانت القوانين الوضعية وما تزال خارجة عن الشرع الإِسلامي والسبب في ذلك أنها اتستمد من الوحي، فهي ملغية ابتداء (¬1). فما كان من وضع البشر أي من وضع "العقل" أو كما يسميه الكاتب "التشريع الذي يسنه الإِنسان" أي التشريع ¬

_ (¬1) ولا يقال إن فيها أحكاماً يمكن أن يقرها الإِسلام؛ لأنا نقول أن إقرار الإِسلام لبعض شرائع الجاهلية الأولى -مع تعديلها وإدخالها في منهجه .. لتصبح منه وتأخذ شرعيتها من شرعيته- لا يقتضي أنه جاء ليقر الجاهلية ولا يلغيها، بل ألغاها ابتداء لأنها لا شرعية لها في دين الله، وكذلك الحال في القوانين الوضعية.

الوضعي لا يمكن أن يسمى "تشريعاً إسلامياً" ولا "فقهاً إسلامياً". وحينئذ يمكن أن نتصور هذا الاضطراب الشديد، والاختلال في الفهم عندما نقول عن "الفقه الإِسلامي" الذي هو مستنبط من الأدلة الشرعية بالإِجماع أنه "تشريع إسلامي وضعي"!! والحق أن الفقه الإِسلامي فقه مستمد من الشريعة، وقيد الشرعية في نعريفه متفق عليه كما أسلفنا (¬1) ولا صلة له بالتشريع الوضعي، ولا يجوز لأحد أن يصفه بأنه "إسلامي وضعي"، فهذه عبارة خاطئة، ومناقضة لتعريف "الفقه الإِسلامي" وحقيقته، ولا بأس بالتذكير بأقوال بعض أهل العلم وإن كان ما ذكر سابقاً كافياً في الرد على مثل هذه الآراء، قال ابن تيمية: "وليس لأحد من المجتهدين غرض في أن يثبت للأفعال أحكاماً باعتقاده ولا أن يشرع ديناً لم يأذن به الله ... وإنما مطلوبه أن يعتقد حكم الله ودينه" (¬2) فـ "الفقه اسم للعلم الحاصل للمجتهدين المستنبطين للأحكام من أدلتها التفصيلية" (¬3). وأذكّر هنا أيضاً بما قلته سابقاً من أن تحديد المصطلحات أمر ضروري وكذلك ربطها بمعناها اللغوي والاصطلاحي دون مجاوزته، حتى تستقيم المصطلحات وتستقر المعاني الشرعية، ويسد الباب سداً محكماً في وجه التأثيرات الفكرية للمذاهب المخالفة للإِسلام (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ص 60 - 61. (¬2) الرسائل المنيرية - الرسالة الثامنة 1/ 161. (¬3) حاشية سعد الدين على شرح مختصر ابن الحاجب 25. (¬4) وعدم تقيد بعض الدارسين للإِسلام سواء عقائده أو أصوله الفقهية بالمصطلحات الشرعية أدى إلى وقوع الاختلاف والتنازع، ومن قال لا مشاحة في الاصطلاح يجب عليه أن يقيد ذلك بعدم مخالفة المصطلحات للأصل اللغوي والشرعي وإلّا ضاعت المعاني اللغوية والشرعية وسط اضطراب المصطلحات، فإذا جاء باحث يردها إلى معانيها اللغوية والشرعية، قيل له لا مشاحة في الاصطلاح، والحق أن المصطلح الذي يناقض المعنى اللغوي والشرعي فيه مشاحة بل يجب رده كما أشرت سابقاً وبيان الصواب، والله أعلم.

ولا بأس هنا من التنبيه على ما أشار إليه البعض من مقارنة خفية بين الفقه الإِسلامي والقوانين الوضعية، فقال عن "الفقه الاسلامي" وله صفة الشمول ولكن على نحو أقل مما للشريعة وأكثر مما للقوانين الوضعية" (¬1). وهذا القول غير صواب لأن الفقه مظهر من مظاهر الشمول (¬2) لهذه الشريعة فكما لا يجوز عند هذا الباحث أن تقارن الشريعة الإِسلامية من حيث شمولها بالقانون الوضعي، فكذلك الفقه (¬3)، لأنه ثمرة من ثمارها فهي قاعدة له وأصل وهو ثمرة لها وفرع. والحاصل أن إدراك خصائص الشريعة وخصائص الفقه الإِسلامي أمر ضروري جداً لكي نخلص من التأثيرات الفكرية للمذاهب المعاصرة، ولكي نبتعد ونحذر من الوقوع في الخلط بين خصائص الفقه الإِسلامي والقوانين الوضعية حتى مجرد شعورنا بتقارب طبيعتهما وأهدافهما. وبعد هذه الدراسة يتبين لي الأمور التالية: 1 - أن الشريعة هي الوحي كتاباً وسنة، والفقه أفهام المجتهدين. 2 - أن الشريعة معصومة، لأنها هي الوحي، والوحي بقسميه الكتاب والسنة معصوم، أما الكتاب فلأنه كلام الله، وأما السنة (¬4) فلأنها وحي من عند الله معنىً، واللفظ من عند رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المدخل لدراسة الشريعة 66. (¬2) سيأتي بيان هذه الحقيقة في الفصول القادمة إن شاء الله. (¬3) من المعلوم عند القانونيين أن القانون تنتهي حياته بإلغائه أو نسخه وذلك إبطال له، والفقه الإِسلامي ثمرة يانعة باقية ما بقيت هذه الشريعة، فكيف يقارن بالقوانين والحال هذه. انظر المدخل للعلوم القانونية 235. وسأذكر أهم الفروق بينهما في موضعه من البحث إن شاء الله. (¬4) السنة تشمل السنة القولية والفعلية والتقريرية، والعصمة ثابتة للسنة مع إمكان وقوع الاجتهاد من الرصول وتصحيح الوحي له. ومعنى هذا أن السنة بجميع أنواعها تشرك =

3 - أن الفقه الإِسلامي علم يشمل مسائل الإِجماع والخلاف. 4 - أن الفقه الإِسلامي غير معصوم من الخطأ في مسائل الخلاف وأما مسائل الإِجماع فهي معصومة وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. 5 - أن الفقه الإِسلامي مصدره الشريعة كتاباً وسنة، وقيد "الشرعية" متفق عليه بين الأصوليين، فهو يستمد شرعيته من الإِسلام، بخلاف القوانين الوضعية وغيرها من الأفهام البشرية. * * * ¬

_ = مع القرآن في وصف الإِكمال والعصمة، لأنه لا نسخ بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .. سورة المائدة: آية 3. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

الفصل الثاني المقصود من الثبات والشمول والأدلة على ذلك

الفصل الثاني المقصود من الثبات والشمول والأدلّة على ذلك تمهيد وتوطئة: إن جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - قد أدرك صفات هذه الشريعة وآمن بها إيماناً لم يبلغ قمته جيل آخر من أجيال المسلمين، ويرجع ذلك إلى أنهم أوفر الأجيال حظاً في العربية والقدوة، فقد انطلقت دعوة التوحيد على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو القرآن معرفاً الناس بربهم الواحد سبحانه، وأنزل الله سبحانه في هذا القرآن أكثر من الثلثين من آياته كلها تتحدث عن التوحيد (¬1)، وأخذ الرسول - عليه الصلاة والسلام - في تبليغ هذه الدعوة على تلك الطريقة الربانية والصحابة - رضوان الله عليهم - أشد ما يكونون تأثراً بها واستجابة لها. وكان من معالم تلك الطريقة الحديث الواسع المستمر عن صفات الله سبحانه وتعالى، وتجديد معرفة الناس بهذه الصفات وتذكير الفطرة بها وإزالة الشبهات عنها، واستمرار الخطاب والتربية على ذلك حتى تصح معرفة الناس بربهم وتتعمق وترسخ فيستقر الإِيمان في القلوب في رضى وطمأنينة وقبول لأحكام هذه الشريعة ويتحقق الاستسلام لها والإِذعان، فتارة يحدثهم القرآن عن ¬

_ (¬1) قال الأستاذ محمود محمد شاكر عن القرآن الذي نزل بمكة وآياته: "4618 جاء أكثرها في حجاج الكفار من أهل الملل جميعاً، في شأن التوحيد وتوجيه العبادة الله وحده وسائر العقائد التي اختلف الناس عليها بعد أن تباغوا بينهم فبدلوا دين الأنبياء وحرفوه واتبعوا أهواءهم" 547 - أباطيل وأسمار - الطبعة الأولى 1965 - مطبعة المدني - القاهرة.

قدرة الله التي ليس كمثلها شيء، ويستدل على ذلك بما في هذا الكون من مشهد السماء المرفوعة بغير عمد والأرض الممهودة، والجبال المنصوبة، والزروع والثمار، والشجر والدواب، والبحار والرياح، والشمس والقمر، والليل والنهار، والأحياء والأموات، والقبض والبسط، والتصريف والتدبير، كل ذلك في نظام محكم دقيق لا تدبره وتُمْسكه إلّا قدرة عظيمة لا يمكن للعقل أن يتصور حدودها حيث لا يعجزها شيء ولو لم تُمْسِكْهُ تلك القدرة العظيمة لانفرط عقد هذا الكون وانقطع التصريف والتدبير وانقطعت الحياة على الأرض: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (¬1). {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). فمن علم ما في هذا الكون من مشاهد وأيقن أنها تحتاج إلى تصريف وتدبير بعد الإِيجاد والخلق والحفظ عرف من قدرة الله سبحانه ما يحمله على الإِيمان بها وبصفة أخرى تلازمها وهي صفة العلم المحيط الذي لا يند عنه شيء في الأرض ولا في السماء، إذْ لا يتحقق ذلك التصريف والتدبير والحفظ إلّا عن طريق علم واسع محيط لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. وجميع المشاهد في الأرض تدل على ذلك، فكما عرض القرآن تلك المشاهد الأنفة الذكر على العقل البشري وهز بها الوجدان البشري ليقرر حقيقة القدرة التي ليس كمثلها شيء ولا يعجزها شيء .. كذلك استحدم المشاهد نفسها ليقرر حقيقة العلم الذي ليس كمثله شيء ولا يند عنه شيء. فالسماء المرفوعة ¬

_ (¬1) سورة فاطر: آية 41 - وهذه الآية جاءت بعد تقرير الألوهية لله سبحانه بلا شريك لا في الخلق ولا في الأمر. (¬2) سورة الزمر: آية 67.

بغير عمد بجميع مجراتها تحتاج إلى علم واسع محيط يُدبرها ويصرفها .. والرزق الذي ينزل من السماء يحتاج أيضاً إلى ذلك العلم الواسع المحيط، فالمطر ينزل على الأرض بِقَدَرٍ معلوم ويحفظ فيها بقدر معلوم، والرياح تُسيّرهُ إلى بقاع الأرض المختلفة بقدر معلوم .. ويجتمع هذا النوع من الرزق وغيره كثير في هذه الأرض بقدر معلوم. وكل هذه الدلائل تدل على أن الله هو الإِله المتصف بجميع صفات الكمال لا يستحق العبادة إلّا هو ولذلك استنكر القرآن على الكفار إعراضهم عن هذه الدلائل البينات كما قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬1). وهنا تظهر آثار التقدير والتدبير في الدلالة على صفات الله العليم الحكيم ومثل هذه الآيات قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} (¬2). وقوله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (¬3). والخَلْق بعد ذلك الذي قدّر الله له أن يعيش على هذه الأرض يعيش ¬

_ (¬1) سورة فصلت: آية 10. (¬2) سورة المؤمنون: آية 18. (¬3) سورة الحجر: آية 21.

بقدرات متفاوتة وصور مختلفة، وألسنة مختلفة، وآجال محددة، وكل ذلك بقدر معلوم، يقرره ويقدّره ذلك العلم الواسع المحيط: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬1). وما يحتاجه ذلك الخلق مما يعقل ومما لا يعقل من أنظمة كونية ثابتة راسخة تتحقق بها الحياة على الأرض وتتيسّر وتعيش بها الأحياء من أناس ودواب وغير ذلك من خلق الله، كل ذلك جعله الله في هذا الكون مستقراً إلى يوم القيامة بقدر معلوم، وهو من أعظم آياته كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬2). ثم تحدثت الآيات عن طبيعة هذا الإنسان: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (¬3). وهذا الإنسان الذي كرمه الله وجعل منه قبائل وشعوباً جعل له نظاماً خاصاً لسمعه وبصره وعقله وقلبه وجميع جوارحه يستعين به على إقامة الخلافة في الأرض وتعميرها .. وكل ذلك بقدر معلوم، وقد عرض القرآن هذه الآية على العقل والقلب البشري ليؤمن: ¬

_ (¬1) سورة القمر: آية 49. (¬2) سورة الأنعام: الآيات 95 - 96 - 97. (¬3) سورة الأنعام: آية 98.

{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (¬1). ثم أرسل له رسله وأنزل كتبه لكل جيل من الأجيال يُعلّمُه ما يحتاج من عقائد وقيم وأخلاق وأحكام وكل ذلك بعلم واسع محيط. وختم ذلك بإرسال رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام - بشريعة الإِسلام لِيُعلّم هذا الإِنسان جميع ما يحتاجه من عقائد وقيم وأخلاق وأحكام في كل قطر وعصر وحال، ما يختص به وحده وما يخصه مع الجماعة في السر والعلن والظاهر والباطن، كل ذلك بقدر معلوم، يقرره ويقدره ذلك العلم الواسع المحيط. وقد استمر منهج التربية الإِسلامية يذكّر المؤمنين بهذه الآيات التي تدل على "الصفات" ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فإلآههم هو الله الذي خلق كل شيء وأحاط علمه بكل شيء وقدّره تقديراً ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ومن جهة أخرى استمر "الوحي" في إقامة الحجة على الكافرين في مثل قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (¬2). وفي هذه الآيات تبرز طريقة القرآن في الدعوة فقد ذكر من صفات الله سبحانه - الخلق والتفرد بالملك، والغنى عن الخلق والتدبير والتقدير - ما يحمل القلب البشري على طاعة هذا الإِله واتباع شريعته .. وفي المقابل أثبت صفات ¬

_ (¬1) سورة المرسلات: الآيات 20 - 21 - 22 - 23 - 24. (¬2) سورة الفرقان: الآيات 1 - 2 - 3.

العجز والحاجة والافتقار لمن يتبعهم الكفار -من دون الله أو مع الله- وهذا المنهج في الدعوة والتربية إذا استعمل على هذا النحو وعرض على القلب البشري فإنه لا بد أن تزول عنه الجهالة ويبصر الحق فإن رغب (¬1) في اتباعه سجد قلبه لعظمة هذا الخالق سبحانه ثم تسجد جوارحه بعد ذلك لكل ما يجيء من عند الله. تسجد وقد شهدت هذا الإِعجاز والإِبداع في خلقه سبحانه لهذا الملكوت العظيم ويزداد إيمانها بهذا الإعجاز والإِبداع بعد أن تشهد ثباتهما وشمولهما لكل ذلك الملكوت وما فيه من مخلوقات. ثم تسجد مرة أخرى لشريعة الله فتشهد فيها ذلك الإِعجاز والإِبداع كما شهدته في ذلك الملكوت في ثبات وشمول. وقد استطاع منهج التربية القرآنية أن يعرف الناس بصفات الله على هذا النحو حتى أخرج خير أمة للناس تتمثل في الجيل الأول ومن تبعه بإحسان، فأدرك الناس هذه المعاني وشهدوها بعقولهم وأسماعهم وأبصارهم وقلويهم فاستسلموا لكل ما يجيء من عند الله، معرضين عما سواه، مطمئنين لمظاهر الإِعجاز في هذه الشريعة والثبات والشمول لكل ما يحتاجونه لإِقامة الخلافة على الأرض، وقد آمنت قلويهم بهذه الحقيقة وأعرضوا عما سواه -أمام الحديث المستمر الذي حققه منهج التربية القرآني- قبل أن تنزل تلك الأحكام التفصيلية، فلما نزلت ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، فأقاموا الخلافة في هذه الأرض تحكمها هذه الشريعة المعجزة المبدعة وسط هذا الملكوت المعجز المبدع، وشعار ذلك الإِعجاز الإِبداع والشمول والثبات. وهذا شيء يسير يصّور لنا منهج التربية الذي تربى عليه ذلك الجيل فأدرك أول ما أدرك صفات الإِله المعبود بحق على الكمال والتمام وحمله ذلك على تحقيق توحيد الألوهية فآمن وأذعن واستسلم لشريعة الله الواحد القهار ¬

_ (¬1) لأنه قد يشهد الإعجاز ويبصر الحق ويعاند فهذا لا تنفع فيه الحجة، وقد قال الله عن مثل هذا: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} - سورة النمل: آية 14.

وهو يعرف حق المعرفة صفاتها -صفات الكمال- فلم تدع شيئاً من حياته إلّا حكمته ولم يدع شيئاً من أحكامها إلاّ خضع له، فكانت الشريعة الثابتة الشاملة وكان الجيل القدوة لكل الأجيال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). نعم لو شاء الله سبحانه لهدى الناس أجمعين، ولكنه أراد أن يبتلي عباده ويختبرهم ليكون الجزاء على ما يقع منهم .. وجعل الهداية محتاجة من الإِنسان إلى تسبب يقع منه فبقدر ما يبذل البشر من جهد للاستقامة وبقدر ما يصبرون عليها يكون نصيبهم منها، ولقد بلغ الصحابة - رضوان الله عليهم - في بذل الجهد والصبر على الاستقامة والمحافظة عليها مبلغاً لم يبلغه جيل آخر من أجيال المسلمين، فكان لهم من السلامة في الاعتقاد وإقامة الخلافة ما جعلهم قدوة لمن بعدهم، بل وجعلهم الحجة على الخلق بعد كتاب الله وسنة رسوله (¬2)، ولقد نعلم أن خيار هذه الأمة سلّموا الأمانة كاملة إلى الجيل الذي بعدهم .. وما زالت الأمة في سلامة في الاعتقاد مجتمعة على إقامة الخلافة في الأرض .. حتى بزغت الأهواء - عند قوم لا خلاق لهم جاءتهم تلك الأمانة - وهم لم يجهدوا فيها شيئاً فردوها ولم يأخذوها نقية صافية فالتفتوا إلى مناهج أخرى يلتمسون فيها النور والحق، بهرهم زخرفها فوقعوا في مخالفة الصحابة واستدبروا منهج الصفاء والنقاء الرباني الذي عاش عليه ذلك الجيل القدوة وهو يتعرف على صفات إلآهه ومعبوده، ومن ثم يتعرف على صفات شريعته .. فأصابهم من الضلال ما جعل تفكيرهم سفسطة وجدلاً، وحياتهم من ثم مزرعة للبدع ومتاهة يضيع فيها الجهد النفسي والعقلي ولتكون نقلتهم الأخيرة نقلة بعيدة عن منهج التلقي عند الجيل الأول، استقر عليها بعد ذلك مسلكهم في التربية والتأليف .. وكان على قمة القيادة لأهل الأهواء -في هذا الشأن- طائفة المعتزلة، ولم يلتفتوا إلى مثل قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 149. (¬2) وذلك ما ورد في أمر الله لنا بأن نكون معهم كما سيأتي بيانه.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1). والصادقون هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبوا إلّا مخالفتهم فذاقوا وبال أمرهم .. وأصاب المجتمع الإِسلامي بسبب تغييرهم وتبديلهم وتلقيهم من روافد خارجية وعدم اكتفائهم بالوحي فتن أشدها الاضطرابات الفكرية .. ولولا أن قيّض الله لهذا الدين من ينفي عنه تأويل وتحريف أهل الأهواء ويذكّر المسلمين بثبات هذا الدين عقيدة وشريعة وكفايته عن جاهليات الأرض لعصفت تلك الأهواء بالمجتمع الإِسلامي، وقد كان من آثارها أن انشغل الناس بما يضرهم ولا ينفعهم وذهب جهد المصلحين في درء هذا الخطر الجديد -ولو أن المجتمع الإِسلامي سلم من شر الأهواء والفتن لتوفّر جهد المصلحين وانطلق بالأمة لنشر الحق في الأرض- ومن يدري فلعل هذا الجهد لو سلم من تلك العقبات لكفى في إقامة الخلافة في جميع بقاع العالم .. ولكن الأمر كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2). ولقد استمر المجتمع الإِسلامي في أداء مهمته ومتابعة الجيل الأول وإنْ لم يبلِغ مبلغه .. وما زالت الأهواء يحرسها الشيطان ويربي لها أتباعه فهي تَكْمُن حيناً وتظهر حيناً آخر لعلها تجعل الانحراف أصلاً وخاصة بعد أن جاءت ثقافات الأمم الجاهلية المتمثلة في المذاهب الفكرية المعاصرة تنادي بتغيير الدين وتبديله وتدعوا للتلقي من روافد خارجية عن الإِسلام -تتمثل في المذاهب المعاصرة وأنظمتها الوضعية- التي يُطلق عليها "الغزو الفكري" فجاء الغزو الحديث يريد أن يسعى لتغيير المفاهيم والأحكام كما سعى من قبل الغزو القديم فغير منهج التلقي عند أتباعه في قاعدة هي عمدة المنهج القرآني في التربية ألا وهي تذْكِير الناس بصفات الله سبحانه وصفات شريعته .. فإلى الحديث عن معنى الثبات والشمول في الشريعة، وتجلية موقف السلف من المفسرين والفقهاء والأصوليين من خلال دراسة بعض الآيات القرآنية والقواعد المقررة من الشريعة. * * * ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 119. (¬2) سورة الرعد: آية 11.

المبحث الأول المقصود من الثبات والأدلة على ذلك

المبحث الأول المقصود من الثبات والأدلة على ذلك وفيه مطالب: المطلب الأول معنى الثبات في اللغة جاء في لسان العرب: "تقول ثبت الشيء يثبت ثباتاً وثُبوتاً فهو ثابت" (¬1). وكل ذلك مأخوذ من الثبات، وجاء في الصحاح للجوهري: "ثبت الشيء ثباتاً وثبوتاً وأثْبَتَهُ غيره وثبّته بمعنى" (¬2) .. ومنه قولهم: "قول ثابت" (¬3). قال ابن القيم: "ومادة التثبيت أصله ومنشأه من القول الثابت .. والقول الثابت هو القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب، فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها" (¬4). فقول الله سبحانه وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هما الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، وقد ختم الله سبحانه شرائعه بهذه الشريعة التي أرسل بها نبيه - عليه ¬

_ (¬1) مادة "ثبت". (¬2) مادة "ثبت". (¬3) مادة "ثبت". (¬4) إعلام الموقعين لإبن القيم 1/ 177، طبعة 1973، دار الجيل.

المطلب الثاني الدليل الأول على ثبات الشريعة

الصلاة والسلام -، فأحكمها سبحانه فهي موصفة بصفة الثبات والبقاء" (¬1). هذا ما ورد في اللغة عن معنى الثبات، وهو المعنى الشرعي الذي أقصده هنا، فما جاء به الوحي من عند الله سواء باللفظ أو المعنى دون اللفظ وانقطع الوحي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لم ينسخ فهو ثابت محكم له صفة البقاء والدوام لا تغيير له ولا تبديل، وهو كذلك أبداً إلى يوم القيامة، وإليك الأدلة في المطالب الآتية. المطلب الثاني الدليل الأول على ثبات الشريعة قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2). قال الإِمام ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- مبيناً معنى هذه الآية: "صدقاً فيما قال وعدلاً فيما حكم، يقول: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلّا عن مفسدة، كما قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬3). إلى آخر الآية. {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الأخرة، {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال عباده {الْعَلِيمُ} بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله" (¬4). وهذا الحق والصدق والعدل الثابت التام الذي لا مبدّل له والذي تمثله هذه "الشريعة الربانية" يقابله الضلال والظنون والباطل الذي تحمله شرائع ¬

_ (¬1) أحكام القرآن 2/ 3 - 4 لأبي بكر الجصاص - الطبعة الناشر. (¬2) سورة الأنعام: آية 115. (¬3) سورة الأعراف: آية 157. (¬4) تفسير ابن كثير 2/ 168 - 169، وانظر جامع البيان للطبري 8/ 9 - 10.

البشر وأهوائهم. فبعد أن قرر الله سبحانه أن كتابه هو الحق الثابت الذي لا مبدّل له. بيّن سبحانه أن أكثر أهل الأرض لا يتبعون إلّا الظن والأوهام والباطل والضلال. {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (¬1). وهذا الظن والوهم باطل وضلال لا قرار له ولا ثبات. وترجم الأستاذ سيد قطب هذا المعنى في تفسيره فقال: "لقد تمت كلمة الله سبحانه صدقاً فيما قال وقرر، وعدلاً فيما شرع وحكم فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان ولم يبق قول لقائل في شريعة أو حكم أو عادة أو تقليد ... إنه ليس "المجتمع" هو الذي يُصْدر هذه الأحكام وفق اصطلاحاته المتقلبة ... ليس المجتمع الذي تتغير أشكاله ومقوماته المادية فتتغير قيمه وأحكامه ... حيث تكون قيم وأخلاق للمجتمع الزراعي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الصناعي، وحيث تكون هناك قيم وأخلاق للمجتمع الرأسمالي البرجوازي، وقيم وأخلاق أخرى للمجتمع الاشتراكي أو الشيوعي ... ثم تختلف موازين الناس وموازين الأعمال وفق مصطلح هذه المجتمعات! الإِسلام لا يعرف هذا الأصل ولا يقره .. الإِسلام يعين قيماً ذاتية له يقررها الله - سبحانه - وهذه القيم تثبت مع تغيّر "أشكال" المجتمعات" (¬2). هذا هو الأصل الذي يقرره القرآن، وهذه هي العقيدة التي يتميز بها الإِسلام عن سائر المذاهب البشرية، وتتميّز به شريعته كذلك عن سائر القوانين ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 2/ 169 - آية الأنعام 116. (¬2) في ظلال القرآن 3/ 1195 - 1196، وانظر تفسير ابن القيم لمعنى التثبيت فيما سبق ص 85.

المطلب الثالث الدليل الثاني

البشرية ... إن البشر وهم يضعون الأحكام لا يدركون طبيعتهم ولا حقيقة الفطرة ولا حقيقة الإِنسان ولا حقيقة الكون ومن ثم تحملهم الظنون والأوهام فيضعون الأحكام التي تحكم الإِنسان والمجتمع على غير علم ولا بصيرة .. ويلجؤون أمام هذا الوهم والظن والجهل إلى تغيير هذه الأحكام وتبديلها حسب تغيّر نظرتهم للإِنسان وفطرته ... وُيصرّون على أن يدركوا حقيقة الفطرة وحقيقة الكون والحياة وهم لا يملكون القدرة على ذلك .. فلا يزالون يخرجون من قانون إلى قانون ومن فكرة إلى فكرة ومن مذهب إلى مذهب يتخبطون وتتخبط معهم مجتمعاتهم وتضطرب أفئدتهم ونفوسهم فلا يزالون منحرفين تلعب بهم رياح المذاهب المختلفة المتناقضة المضطربة المتبدلة المتغيّرة لا تأوي بهم إلى قرار ولا تخرجهم من حيرة ولا تمنعهم من شقوة. والله العليم الخبير الحكيم الرحيم يدعوهم -وهو العليم بهم وبما حولهم من خلق السماوات والأرض- يدعوهم إلى الكلمة الثابتة والمنهج المستقر التام الذي شرعه الله لنفوسهم وعقولهم وأرواحهم وأبدانهم ومجتمعاتهم يكفل لهم ولفطرهم ولهذه الحياة والأحياء العدل والصدق في العقيدة والشريعة .. فلا ظنون ولا أوهام ولا جهل ولا ضلال ولا ضياع ولا تغيير ولا تبديل .. "وتمت كلمة ربك عدلًا وصدقاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم". المطلب الثالث الدليل الثاني وهو دليل يتكون من مقدمتين: الأولى: أن هذه الشريعة شرعها الله العليم الحكيم لتحقيق مصالح العباد. الثانية: يلزم من ذلك أن لا يختل لها به نظام لا بحسب الكل ولا بحسب الجزء، وهذا معنى الثبات. دليل المقدمة الأولى: استقرأ الإِمام الشاطبي الشريعة من أكثر من موضع، فوجد أن تفاصيل

العلل للأحكام قد انتشرت في القرآن والسنة، وأن ذلك يفيد أنها شرعت لمصالح العباد، وهذا الاستقراء - كما يقول -رَحِمَهُ اللهُ- لا يستطيع أن ينازع فيه أحد (¬1). إجراء الاستقراء: وردت آيات كثيرة في القرآن تفيد بأن الأحكام شرعت لمصالح العباد، ومن هذه الآيات: 1 - ما ورد في بعثة الرسل الذين بلغوا الشرائع وهم الأصل ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (¬2). ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 3 - 4. لأنه لا يمكن نقضه أبداً، وعلى ذلك كل من يقول بالقياس، وسيأتي معنا تحقيق القول بأن إجماع الصحابة على العمل بالقياس ... وعلى ذلك مذهب أهل السنة، وأما من أنكر القياس أو التعليل فإنه يعتقد أيضاً أن الشريعة شرعها الله رحمة بعباده وإصلاحاً لهم وإقامةً لحوائجهم وتكفلاً بسعادتهم في الدنيا والآخرة .. وإنما أوقعهم في إنكار ذلك اتباع الجدل الذي ابتليت به الأمة، ووفعت فيه طوائف كثيرة من الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة .. فأنكر منهم من أنكر التعليل وهو ينطلق من الرد على المعتزلة فوقع بسبب ذلك إمّا في الاضطراب كما فعل الرازي حيث أنكر التعليل وأقر بالقياس .. وانظر كشف هذا الاضطراب في هامش تحقيق كتاب المحصول للدكتور طه جابر العلواني - القسم الثاني ج 2 - 271 إلى 273 وإمّا في ردود الفعل كما فعلت الظاهرية حيث أنكرت القياس .. والنجاة من ذلك كله الخروج عن منهج الجدليين والتزام المنهج القرآني كما فعل الإمام الشاطبي ومن قبله أئمة السلف أمثال الشافعي ومالك وابن القيم وشيخه وغيرهم كثير حيث التزموا المنهج القرآني اتباعاً لمنهج الصحابة وفروا من منهج الجدليين وهو منهج الفلاسفة والمعتزلة ومن حذا حذوهم .. وعالجوا مناهج الجدليين في اعتدال وتوسط بعيداً عن ردود الفعل، وحذروا وحذّروا من الوقوع فيها، وهذا هو الذي ينبغي المصير إليه في التعلم والتعليم والكتابة والمناظرة والدعوة إلى الإِسلام. (¬2) سورة النساء: آية 165.

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1). فالرسل بعثوا رحمة للعباد، والرحمة بهم هي حفظ مصالحهم فشرائع الرسل جاءت إذاً بمصالح العباد العاجلة والآجلة. 2 - ما ورد في أصل الخلقة: فقد امتن الله على عباده بأنه إنّما خلقهم لعبادته ووعدهم على ذلك الحياة الطيبة في الدنيا والثواب المقيم في الآخرة، وهذا معنى أن هذه الشرائع التي جاءت تحمل تكاليف العباد إنّما جاءت لمصالحهم. ومن هذه الآيات الدالة على هذا المعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬2). {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬3). {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬4). 3 - وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، منها: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: آية 107 - ومثلها في المعنى كثير، من ذلك ما جاء في سورة القصص: آية 43، سورة الروم: آية 21. (¬2) سورة هود: آية 7. (¬3) سورة الذاريات: آية 56. (¬4) سورة الملك: آية 2. (¬5) سورة المائدة: آية 6.

والآية جاءت بعد آية الوضوء، وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬2). {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬3). وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4). ومقصود الإِمام الشاطبي من هذه الآيات والأمثلة التنبيه كما قال (¬5) وأما حصر الآيات الواردة في الحكمة من إرسال الرسل ومن خلق الإِنسان والحياة والموت وكذلك ما ورد فيها من ذكر تفاصيل العلل فإن ذلك يحتاج إلى كتاب جامع يحصرها لكثرة انتشارها في نصوص الكتاب والسنة، ولذلك نجد الحافظ ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- قد ذكر آيات وأحاديث كثيرة جداً تدعم هذا الاستقراء وتقويه وتؤكده (¬6). وأما دليل المقدمة الثانية: فإن الشريعة لو وُضِعتْ على غير حالة الثبات لأدى ذلك إلى تغييرها، فإذا تغير منها شيء اختل، ولأن تغيّر شيء منها موجب ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 183. (¬2) سورة العنكبوت: آية 45. (¬3) سورة الحج: آية 39. (¬4) سورة البقرة: آية 179. (¬5) الموافقات 2/ 4. (¬6) انظر إعلام الموقعين لإبن القيم الجوزية 1/ 130 - راجعه وعلّق عليه طه عبد الرؤوف، الناشر دار الجيل - بيروت 1973.

المطلب الرابع الدليل الثالث

لأن تنتقل من حالة كونها مشروعة للمصالح على الإِطلاق إلى الضد من ذلك -وهوخلاف الدليل، لأن الشارع قاصد بها أن تكون مصالحٍ على الإِطلاق- "فلابد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبدياً وكلياً وعاماً في جميع أنواع التكليف والمكلفين وجميع الأحوال" (¬1). المطلب الرابع الدليل الثالث إن العصمة ثابتة لهذه الشريعة ولرسولها - صلى الله عليه وسلم - ولهذه الأمة فيما اجتمعت عليه: وهذا يؤكد معنى ثبات الشريعة، فهي معصومة أبداً من الخطأ والزلل والعبث، ومنزهة عن كل عيب، فكما أن الله سبحانه الذي أنزلها منزه عن كل نقص موصوف بكل كمال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). فكذلك هذه الشريعة منزهة عن الخلل والاختلاف ومبرئة من كل نقص وموصوفة بكل كمال. فمن آمن بأن الله منزه عن الظهير والشريك والند والمثيل وجب عليه أن يؤمن بان شريعته هي الحق وما خالفها هو الباطل. وإذا انتفى النقص والخلل في الشريعة انتفى التعقيب عليها، فهي إذن شريعة ربانية موصفة بكل كمال، فلا يسوى بها غيرها أو يقدم عليها. ويؤكد ملازمة هذا الوصف لها أن الله ختمها وأخبرنا بحفظها وجعل نبيها معصوماً، وأمته فيما اجتمعت عليه معصومة، وسيأتي الحديث عن الإِجماع في موضعه ونكتفي هنا ببيان كيفية الحفظ الذي وعد الله به عباده من خلال دراسة بعض الآيات ومن ذلك قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 26. (¬2) سورة الشورى: آية 11.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). فقد حفظ الله هذا القرآن من أن يزاد فيه أو ينقص منه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬2). ومَنْعُ القرآن من الخلل والفساد وحفظه واتقانه كل ذلك من معنى الإِحكام الوارد في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} (¬3). فالإحكام الاتقان والمنع من الفساد كما ورد في لسان العرب (¬4) وأحكم الله آياته أي منعها من الفساد والخلل والدخل والباطل وهو تفسير قتادة واختيار الطبري وقال عنه القرطبي وهو أحسن ما قيل في تفسير الآية (¬5). ومثلها في إفادة هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (¬6). قال الشاطبي عند هذه الآية مبيناً أنّ الحفظ يشمل السنة كذلك، قال: "فأخبر أنه يحفظ آياته ويُحْكمها حتى لا يخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير ولا التبديل، والسنة وإنْ لم تُذكر فإنها مُبيّنةُ له ودائرة حوله، فهي منه، وإليه ¬

_ (¬1) سورة الحجر: آية 9. (¬2) سورة فصلت: آية 42. (¬3) سورة هود: آية 1. (¬4) مادة حكم 2/ 143. (¬5) جامع البيان 11/ 180، الجامع لأحكام القرآن 4/ 10، 9/ 2. (¬6) سورة الحج: آية 52.

ترجع في معانيها، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضاً، ويشد بعضه بعضاً" (¬1). ثم ذكر أدلة أُخرى على الحفظ (¬2)، ثم قال: "وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائم إلى إن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل" (¬3). قال الغزالي في المستصفى: "السلف من الأئمة مجمعون على دوام التكليف إلى يوم القيامة" (¬4) ولا يتحقق ذلك إلا بثبوت الشريعة وسلامتها من التغيير والتبديل، وإلّا فإنها لو تغّيرت وتبدّلت لانقطع التكليف بها. ولقد تحقق حفظ هذه الشريعة من التغيير والتبديل وذلك بما يسره الله سبحانه وتعالى حيث قيّض لها من يحفظها، فجعل الأمة بمجموعها حافظة للشرع، فالعصمة في الحفظ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع، وهذا واقع مشهود تحقق به وعد الله سبحانه الذي تكفل بحفظ هذه الشريعة: 1 - فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه. 2 - والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه. 3 - والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال في الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم .. (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 40 وانظر 4/ 155. (¬2) الموافقات 2/ 40 - 41. (¬3) الموافقات 2/ 41. (¬4) 1/ 188 وقال بعد ذلك: "وفي ضمنه الإِجماع على استحالة اندراس الأعلام" وذلك يقتضي ثباتها. (¬5) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 3/ 271 لشيخ الإِسلام ابن تيمية - طبعة بيروت - دار الكتب العلمية. وقد ذكر هذا في مقام الرد على مذهب الشيعة.

نعم هذا هو الواقع المعلوم الممتد من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن واسمع للإِمام الشاطبي يُبين هذا في عبارة رصينة مستدلاً به على عصمة الشريعة وحفظها من التبديل والتغيير، فيقول: "الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن، وذلك أن الله وفّر دواعي الأمة للذب عن الشريعة والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل: أمّا القرآن الكريم فقد قيّض الله له حفظه بحيث لو زِيدَ فيه حرف واحد لأخرجه الآلاف من الأطفال الأصاغر فضلاً عن المَراء الأكابر، وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة، فقيّض الله لكل علم رجالاً حَفِظَهُ على أيديهم، فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة في لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة في القرآن والحديث وهو الباب الأول مر أبواب الشريعة إذْ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب. ثم قيض رجالًا يبحثون عنِ تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعاً ونصباً وجراً وجزماً وتقديماً وتأخيراً وإبدالاً وقلباً واتباعاً وقطعاً وإفراداً إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الِإفراد والتركيب، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان، فسهّلَ الله بذلك الفهم عنه في كتابه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في خطابه. ثم قيّض الحق سبحانه رجالاً يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميّزوا بين الصحيح والسقيم وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان من فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة من البدعة ناساً من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتاباً وسنة، وعما كان عليه السلف الصالحون وداوم عليه الصحابة والتابعون، وردوا على أهل البدع والأهواء حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى.

وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقياً من الصحابة وعلّموه لمن يأتي بعدهم، حرصاً على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس. ثم قيّض الله تعالى أناساً يناضلون عن دينه ويدفعون الشبه ببراهينه ... وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستنبطوا أحكاماً فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة: تارة من نفس القول وتارة من معناه، وتارة من علة الحكم حتى نزلوا الوقائع التي لم تُذْكر على ما ذُكِر وسهّلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك .. وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احْتِيجَ في ايضاحها إليه وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة وبالله التوفيق" (¬1). ولا يقال كيف يتم الحفظ - الذي هو قاعدة من قواعد الثبات والشمول مع أنه لايمكن لأحد من أهل العلم بالعربية أن يجمع لغة العرب، ولا يمكن لمحدّث أن يجمع الحديث كله، وهكذا في سائر العلوم التي تخدم الشريعة. لأنّا نجيب بما ذكره الإِمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- في الرسالة حيث أشار إلى أن الله قد حفظ علم الشريعة حيث قيض له رجالاً يقومون بجمعه وحفظه، فلا يضيع منه شيء. فلسان العرب محفوظ لا يجمعه عالم واحد ولا يضيع علمه عن علماء اللغة، وكذلك علم الحديث محفوظ لا يجمعه عالم بالحديث ولا يضيع علمه عن علماء الحديث. وما ذكره الإِمام ابن تيمية وفضّله الشاطبي أصله في الرسالة للإِمام الشافعي عند كلامه على أن القرآن إنما نزل بلسان العرب، فمن علم لسان العرب أمكنه أن يعلم كتاب الله .. فقال: "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 41 - 42.

المطلب الخامس تطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام

وأكثر ألفاظاً ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه. والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه: لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فُرّق عِلْمُ كلِ واحدٍ منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره .. " (¬1). وبهذا حفظ الله سبحانه وتعالى دينه فلم يذهب من علم الحديث على المحدّثين شيء، ولا من علم الفقه على الفقهاء شيء، ولا من علم التفسير على المفسرين شيء، ولا من علم العربية على علمائها شيء ... وهكذا في سائر العلوم وهذا متحقق ومشاهد والحمد لله، وهو آية من آيات الله دالة على بقاء هذا الدين ما بقيت الحياة على هذه الأرض ولقد كان للقراء والمحدثين والفقهاء .. أسوة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث كانوا محافظين على هذه الشريعة من حيث ثبات نصوصها وثبات الفهم الصحيح لها، وإذا كنا تحدثنا عن الأول في هذا المطلب فلنتحدث عن الثاني في المطلب الآتي وبالله التوفيق. المطلب الخامس تطبيقات على منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في المحافظة على ثبات الأحكام إن جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - أعلم أجيال هذه الأمة بالوحي ولغة العرب، وأصدقها في الفهم والنقل، وأحرصها على حراسة هذه الشريعة ونصرتها ودفع الشبه عنها بحيث صار هذا الجيل هو القدوة العملية والحجة على كافة الأجيال بعد ذلك، تحقيقاً لقوله تعالى في سورة التوبة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) مسألة رقم 138 - 139 - 140. (¬2) سورة التوبة: آية 119.

فقد وصفهم الله بالصدق فمن أراده فليلزمْ طريقَهم، ويتبعْ منهجهم فلقد كانوا حريصين حرصاً بالغاً على المحافظة على هذه الشريعة، وشمل هذا الحرص المحافظة على نصوصها والمحافظة على فهمها، ليتحقق لهم وللأجيال من بعدهم ثباتاً في النص وثباتاً في الفهم (¬1). فكان من كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - من يترك "المندوب" المستحب مخافة أن يعتقد الناس أنه واجب، وهذا منهم محافظة على ثبات الحكيم الشرعي، لأن ما كان مستحباً ينبغي أن يكون كذلك ومن اعتقد أنه واجب بُيّن له بالقول وبالفعل أنه غير واجب، فَتَرْكُ بعض الصحابة له بيانٌ بالعمل على أنه ليس بواجب، وهذا البيان -وهو المحافظة على ثبات الحكم آكد- فهو إذن مقدم على فعل المستحب. ¬

_ (¬1) قد يقال إن الله قد تكفل بحفظ كتابه، حكى أبو عمرو الداني في طبقات القراء له عن أبي الحسن بن المنتاب قال: كنت يوماً عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، فقيل له: لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال القاضي: قال الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أهل التوراة "بما استحفظوا من كتاب الله" فوكل الحفظ إليهم، فجاز التبديل عليهم، وقال في القرآن: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". فلم يجز التبديل عليهم، الموافقات 2/ 40. وهذا حق، ولكن الله ابتلى هذه الأمة بأنْ أمرها بتعلّم الكتاب والسنة وتعليمهما وتطبيقهما في واقع الأرض ودعوة البشرية للاسلام وجعل لذلك طريقاً محدداً يميّز بين الحق والباطل، من اتبعه في فهم هذه الشريعة نجى ومن حاد عنه هلك، يمثل هذا الطريق قوله - عليه الصلاة والسلام - في وصف الفرقة الناجية: "ما أنا عليه وأصحابي" وقد تحدث عنه الشاطبي وأبرزه في الاعتصام تحت عنوان: "الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان" 2/ 290 - فمن سلك طريق الصحابة في الفهم نجى، ومن خالف عن طريقهم هلك، ونسأل الله السلامة، وسيأتي في هذه الرسالة إن شاء الله توضيح لمعالم منهج الاستدلال عندهم مع كشف مسالك النظر المخالفة لعل الله أن يلحقنا بصحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - غير مبدّلين ولا مغيرين. فإن ذلك علامة الصدق في الدين، "ولا يصلح آخر هذه الأمة إلّا بما صلح به أولها".

ونضرب لذلك مثالاً يثبت ما نقصد إليه، ونكتفي ببيان موقفهم من "الأضحية" وهي مستحبة عند أكثر أهل العلم (¬1)، وقد كان أبو بكر وعمر وأبو مسعود الأنصاري لا يُضَحون لكي لا يظُن الناسُ أن الأضحية واجبة وحتم عليهم، روى أبو سريحة الغفاري قال: "ما أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا لا يضحيان -في بعض حديثهم- كراهية أن يُقْتدى بهما" (¬2). وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "إنّي لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حَتْمٌ عليّ" (¬3). وهذا من الصحابة محافظة بالعمل -على ثبات الحكم- الذي هو مطلوب من كل من يُقْتدى به فإن القول قد لا يكفي في البيان في بعض الأحيان فلا بد من الفعل. وهذا دليل على أن الحكم يجب أن يبقى على الصفة التي شُرِعَ عليها وهذا هو معنى ثبات الحكم، فالأضحية مثلاً مندوب إليها وقد يظن بعض الناس أنها واجبة فبيّن كثير من الصحابة حكمها بالعمل، والبيان آكد، وذلك ليعلم من ظن وجوبها أنها ليست واجبة، إذْ لو كانت واجبة ما تركها هؤلاء الأئمة الذين يُقْتدى بهم. ¬

_ (¬1) انظر المغني لإبن قدامة 9/ 435 - حققه محمود فايد، وعبد القادر عطا الطبعة الأولى 1389 هـ، وأكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة، وأجابوا عما استدل به من قال بوجوبها بعدة أجوية -9/ 435 - 436، وبصرف النظر عن تفصيل القول في هذه المسألة فإن المقصد من الإتيان بها متحقق بدون ذلك، لأنا نقصد بيان موقف كبار الصحابة من المحافظة على الحكم الشرعي كما علموه والتأكيد على ذلك في منهج تربوي عملي. (¬2) أخرجه البيهقي 9/ 295 وأبو سريح هو حذيفة بن أُسيّد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الألباني حديث صحيح 4/ 355 إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - إشراف زهير الشاويش - الطبعة الثانية - المكتب الإِسلامي 1405 هـ. (¬3) أخرجه البيهقي أيضاً 9/ 295 وصححه الألباني - إرواء الغليل 4/ 355 وقد نقل الإِمام الشاطبي شيئاً من هذه الآثار واستدل بها على محافظة الصحابة على استقرار الأحكام. انظر الموافقات 3/ 207.

وكما لا يُسوى بين المندوب والواجب حتى لا تتغيّر الأحكام وتتبدّل كذلك لا يُسوى بين المباحات والمندوبات ولا بينها وبين الكروهات، قال الإِمام الشاطبي: "المباحات من حقيقة استقرارها مباحات أنْ لا يُسوى بينها وبين المندوبات ولا المكروهات" (¬1). و"المكروهات من حقيقة استقرارها مكروهات أن لا يسوى بينها وبين المحرمات ولا بينها وبين المباحات" (¬2). ومن أمثلة ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراهيته لأكل الضب: " ... لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" (¬3)، وأُكِلَ على مائدته فأقر ذلك، فظهر أنه مباح الأكل، فلمْ يُسو بينه وبين الحرام أو المكروه، وكذلك المكروهات لو سُوّي بينها وبين المحرمات لتوهمها الناس محرمات فإذا طال عليهم العهد صيّروا تركها واجباً (¬4). وهذا التقرير من الإِمام الشاطبي حسن، ولا يُقال إن في ذلك ارتكاباً للمكروه أو تركاً لمندوب. فقد أجاب -رَحِمَهُ اللهُ-: بأن البيان آكد، وذلك أن المحافظة على استقرار الأحكام - بحيث يبقى الحرام حراماً فلا يلتبس بغيره من الأحكام الأخرى، ويبقى الواجب واجباً فلا يلتبس بغيره، وكذلك المندوب والمكروه والمباح - المحافظة هذه آكد لأنها بيان -ممن يُقْتدى بهم- لازم لاستقرار أحكام الشريعة (¬5)، وبعدم تحقق ذلك يتحقق الضد وهو عدم استقرار الأحكام فيلْحقها التغيير والتبديل، فيكون المندوب واجباً وهو ليس كذلك وهكذا في بقية الأحكام. ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 211. (¬2) الموافقات 3/ 212. (¬3) الحديث قطعة من حديث ابن عباس عن خالد - رضي الله عنهم -، كتاب الذبائح والصيد، باب الضب من صحيح البخاري بشرح فتح الباري 9/ 662 - 663. (¬4) الموافقات 3/ 212. (¬5) الموافقات 3/ 212 - 213.

ومقصود الشارع كما تبين من قبل هو المحافظة على ثبات الأحكام واستقرارها ولذلك فإن البيان الذي تمثل في فعال الصحابة كما ورد في الأمثلة السابقة آكد لتحقيق ذلك المقصود. وقد توسع الشاطبي في عرض الأمثلة في المسألة السادسة والسابعة والثامنة (¬1). ويصرح الإِمام الشاطبي بهذا المعنى أيضاً في المسألة التاسعة فيقول عن الواجبات والمحرمات: "فمن حقيقة استقرار كل واحد من القسمين أن لا يُسوّى بينه وبين الأخر لأن في تغيير أحكامها تغيرها في أنفسها" (¬2). فالأحكام ثابتة والبيان -مع ما فيه من بعض المحذورات- آكد للمحافظة على استقرار الأحكام وعدم تغييرها، وبهذا الدليل يتقرر أن الصحابة كانوا ملاحظين لها المعنى مثابرين على هذا البيان لكي تسقر أحكام الشريعة فما كان حراماً فهو حرام إلى يوم القيامة وما كان واجباً فهو واجب إلى يوم القيامة وما كان مندوباً فهو مندوب إلى يوم القيامة وقدوتهم في ذلك هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما مر في حديث أكل الضب .. وكما في تركه الصلاة بالناس في التهجد في رمضان مخافة أن يظن الناس أن مداومته عليها دليل على وجويها وهو تأويل متمكن (¬3). وقد تكلم الشافعي عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أنها بيان للقرآن، وذكر من الأمثلة ما يؤكد ذلك ثم قال: "وفيه دلائل على أن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرام بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة بما وصفت وغيره من افتراض الله تعالى طاعته في غير آية من كتابه .. " (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 196 وقد ذكر الشاطبي في فصل البيان والإجمال أن البيان كما يكون بالقول يكون بالفعل وبنى عليه مسائل مهمة. (¬2) الموافقات 3/ 217. (¬3) وهذا ما أشار إِليه الشاطبي وهو مفيد في مسألتنا مع أنه أشار أيضاً إلى التفسير الأخر وهو خوف أن تُفْرض على الناس. الموافقات 3/ 207 والحديث في صحيح البخاري بشرح فتح الباري برواية عائشة - رضي الله عنها -، 4/ 250 - 251. (¬4) الأم 5/ 127 - للإمام الشافعي أشرف على طبعه محمد النجار، دار المعرفة بيروت - الطبعة الثانية - 1393 هـ - وانظر الرسالة ص 151.

وكلام الشافعي في معنى ما نقل عن الصحابة - رضوان الله عليهم -، فقد كانوا يقتدون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيحافظون على استقرار الأحكام لتكون ثابتة حتى في أفهام العامة وذلك لأن عدم استقرارها يؤدي إلى تغييرها في نفسها. وبعد عصر الصحابة تجد عمر بن عبدالعزيز -رَحِمَهُ اللهُ- يذكر بهذا المعنى في خطبته لما بايعه الناس حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، ألا وإن الحلال ما أحل الله - في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع ولكن متّبع، ألا، وإني لست بقاضي (¬1) ولكني منفذ، ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أُمرت ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملًا، ألا ولاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم نزل" (¬2). وفي هذه الخطبة يبْرز موقف السلف من المحافظة على ثبات الأحكام وأنهم يجعلون ذلك عقيدة لهم يدعون إليها ويربون الأمة عليها، ولو أن المسلمين أدركوا ذلك كما أدركه السلف الصالح واعتقدوه ودعوا إليه وحافظوا عليه لاستقرت الأحكام في مجتمعاتهم ولصدو هجوم الغزو الفكري المتمثل في القوانين الوضعية ونبذوها ولقالوا للناس كافة أنه ليس بعد هذا الكتاب كتاب ولا بعد السنة سنة ولا بعد هذه الأمة أمة .. لو فعلوا ذلك لكانت هذه الأمة بيدها مقاليد البشرية تعلمها الحق وتحكمها بهذه الشريعة .. ولكن التغيير والتبديل الذي وقعت فيه طوائف كثيرة من هذه الأمة جعلها تتبع غير سبيل المؤمنين وجعل الغزو الفكري ينفد إلى أهم مواقعها ويحيط هذه الأمة بشبه كثيرة وينشر بينها أفكار المذاهب المعاصرة وأنظمتها بدعوى عدم شمولية الشريعة للأحوال المتجددة (¬3)، ونحن نذكّر بعقيدة الصحابة والتابعين على هذا النحو ونؤكد على ¬

_ (¬1) علق المحقق الشيخ محمد رشيد رضا فبيّن أنّ المقصود من قوله هذا أنه ليس بمشرّع ولكنه منفذ وهو كما قال، الاعتصام 1/ 86. (¬2) الاعتصام 1/ 86. (¬3) سيأتي مناقشة المستشرقين ونقض دعواهم إن شاء الله.

"ثبات الشريعة" كليات وجزئيات (¬1) لأن ذلك هو الطريق لإقامة أحكام الشريعة، فلا نستطيع أن نتصور شمولاً لأحكامها بغير ثبات لها، والأمر هنا أمر عقيدة، ولذلك اجتهد الصحابة في المحافظة على ثبات الأحكام لأنه لا بد أن يعتقد المسلمون أن الحرام حرام إلى يوم القيامة وأن الواجب واجب إلى يوم القيامة، وأن المندوب مندوب إلى يوم القيامة، فيتضح الحق في نفوسهم ويميّزون بينه وبين أحكام الجاهلية ويحولون بينها وبين مجتمعاتهم وقلوبهم وعقولهم وينفرون ويتبرؤون من أهلها مهما بلغوا من القوة المادية تماماً كما فعل السلف الصالحٍ - رحمهم الله تعالى - حيث حالوا بين السنة والبدعة وجعلوا بينهما حجراً محجورا لكي ينجلي الحق وتندفع الشبه. ومن كلام عمر بن عبد العزيز الذي حفظه العلماء - وكان يعجب مالكاً جداً - قوله -رَحِمَهُ اللهُ-: "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سنناً (¬2) الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً" (¬3) وإذا تأملنا في كلامه -رَحِمَهُ اللهُ- وجدنا الربط بين الشريعة والعقيدة جلياً واضحاً وتظهر معالمه في هذه الأمور: الأول: أن الوقوف عند الفهم الصحيح للإِسلام كتاباً وسنة تصديق بالوحي وقوة في الدين. ¬

_ (¬1) سيأتي مناقشة القائلين بتغير بعض الجزئيات وتصوير مذهبهم في دراسة خاصة إن شاء الله. (¬2) سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر رسول الله باتباع سنتهم في قوله: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .. " سنن أبي داود. (¬3) انظر الاعتصام 1/ 87 وقد علق عليه الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- بتعليق نفيس فراجعه ومنه قوله: "وفي كلام عمر قطع لمادة الابتداع جملة".

الثاني: أن على المسلمين أن يعتقدوا أنه ليس لأحد أن يغيّر أو يبدّل من أحكام هذه الشريعة فمن فعل ذلك ساء مصيره واتبع غير سبيل المؤمنين فعليهم أن يتبرؤا منه لأنه سلك طريقاً غير طريقهم واتبع منهجاً غير منهجهم. الثالث: يجب عليهم أن يعتقدوا أنه ليس لأحد منهم أن ينظر فيما خالفها ومن فعل ذلك اتبع غير سبيل المؤمنين. وهذا الثبات الذي حافظ عليه التابعون تعلموه من الصحابة - رضوان الله عليهم - وقد تعلموه جميعاً من هذا القرآن الذي دل على ثبات هذه الشريعة، فإن نزولها بالحق وعصمتها وعصمة رسولها وعصمة الأمة في مجموعها كل ذلك من قواعد الثبات سواء في الكليات أو الجزئيات، مع العلم أن كلياتها قد استقرت سواء الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، لأن كل ما يعود بالحفظ على الدين والعقل والنفس والعرض والمال ثابت، وذلك في جميع الرسالات (¬1) ثم تتابع نزول الجزئيات فكملت الشريعة قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحفظت الأمة الكليات والجزئيات معاً، وحفظ الله كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من سابق الأزل كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} وانقطع الوحي بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن الوحي إنَّما هو من الله، والرسول بشر يوحى إليه: ¬

_ (¬1) ومن الآيات الدالة على"ذلك قوله تعالى: " {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} " الشورى آية: 13، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} سورة الأحقاف: 35. {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} سورة الحج: آية 78 وفي قصة موسى - عليه السلام - أمره بإقامة الصلاة بعد التوحيد: {إِنَّي أَنَا الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} سورة طه: آيه 14. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} سورة البقرة: آية 183. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} سورة القلم: آية 17، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي كتبنا عليهم في التوراة، سورة المائدة: آية 45 .. وقد اعتبرت الحاجيات مع الضروريات لأنهم لم يكلفوا بما لم يطيقوا .. وكذلك الأمر في الرسالة الخاتمة. انظر الموافقات 3/ 80.

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1). فلما انقطع الوحي انقطع التشريع ومثله النسخ والتبديل والتغيير، فما كان حكماً لله فهو كذلك إلى يوم القيامة لأن هذه الشريعة وُضعت على الكلية والأبدية، فلو تصور أحد بقاء الدنيا إلى غير نهاية لكانت هذه الشريعة حجة على الخلق على الإِطلاق والعموم. * * * ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 110.

المبحث الثاني المقصود من الشمول والأدلة على ذلك

المبحث الثاني المقصود من الشمول والأدلة على ذلك أعرض في هذا المبحث لبيان مقصدي من "الشمول" هنا، وأذكر بعض الآيات القرآنية الدالة على ذلك: وأبدأ بتعريفه لغة وبيان وجه المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى المقصود في هذا الموضع، فأقول: الشمول في لغة العرب هو العموم والسعة، تقول العرب: "شملهم الأمر يشملهم إذا عمّهم" (¬1) ومنه قولهم: "الشملة وهي كساء يُشْتمل به"، ويقال: "اشتريت شملة تشملني" (¬2). وأما السعة فمن قول العرب: "هذه شملة تشملك أي تسعك" (¬3). فإذا عم الشيء ووسع قوماً أو فرداً أوأشياء قالت العرب شملهم وشمله وشملها هذا هو المعنى اللغوي. وأما ما أقصده في هذه الدراسة فهو على وجه التحديد شمول الشريعة الإِسلامية لكل ما يحتاجه الناس على الإِطلاق فلا تخلو حادثة واحدة عن حكم ¬

_ (¬1) الصحاح - مادة شمل. (¬2) الصحاح - مادة شمل. (¬3) لسان العرب - مادة شمل.

المطلب الثاني الدليل الأول على الشمول

الشريعة في جميع الأعصار والأقطار والأحوال، فالمعاني التي تضمنتها الشريعة تعم جميع الحوادث وتسعها إلى يوم القيامة. والمعنى اللغوي وهو العموم والسعة مناسب للمعنى المقصود هنا، فإذا شمل الأمر قالت العرب عم ووسع فكذلك الشريعة شاملة أي تعم وتسع جميع الوقائع والحوادث كما أسلفت آنفاً، وساذكر الأدلة القرآنية على تقرير هذا المعنى وذلك في المطلب الثاني والثالث والرابع. المطلب الثاني الدليل الأول على الشمول وذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬1). ومعنى هذه الآية أن الله سبحانه لم يترك شيئاً إلّا وبينه للناس، وجعل في هذا الكتاب دلالة عليه: "إما دلالة مبينة مشروحة، وإما مجملة يتلقى بيانها من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أو من الإِجماع أو من القياس الذي ثبت بنص الكتاب" كما يقول الإِمام القرطبي (¬2). وقد جمع -رَحِمَهُ اللهُ- مع هذه الآية قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬3). وهو صنيع الإِمام الشاطبي في الموافقات حيث قال: "المسألة السادسة القرآن فيه بيان كل شيء ... والدليل على ذلك أمور منها: ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 89. (¬2) الجامع لأحكام القرآن: 6/ 420. (¬3) سورة الأنعام: آية 38، والمصدر نفسه.

النصوص القرآنية .. قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1). وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}. وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬2). {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬3). يعني الطريقة المستقيمة، ولو لم يكمل فيه جميع معانيها لما صح إطلاق هذا المعنى عليه حقيقة وأشباه ذلك من الأيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلّا وفيه تبيان كل شيء" (¬4). والآيات المذكورة تدل على ما قالاه، إلّا قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فإنها لا تساعدهما على المعنى السابق إلاّ على تفسير من قال أن الكتاب هنا هو القرآن، وأما على الوجه الثاني وهو تفسير الكتاب بأنه اللوح المحفوظ فلا تفيد المطلوب (¬5). وأما الآيات الأخرى فمنها ما ذكر فيه "القرآن" ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 3. (¬2) سورة الأنعام: آية 38. (¬3) سورة الإسراء: آية 9. (¬4) الموافقات 3/ 244، ومثلها الآيات التي أمرت بتحكيم الوحي عند الاختلاف والتنازع وهي كثيرة جداً، ولو لم تكن الشريعة شاملة لما أمر الله بالرد إليها عند التنازع الذي يقع بين الشر في جميع المجتمعات، ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} النساء: 59. ولفظ {في شيء} نكره يعم كل شيء يتنازع فيه البشر في جميع الأعصار والأحوال. انظر تحكيم القوانين ص 1 للشيخ محمد بن إبراهيم - الطبعة الثانية 1403 - الرياض. (¬5) انظر الوجهين عند الفسرين وقد أشار إليهما القرطبي 6/ 420 كما أشار إليهما الشاطبي والسياق يدل على أن المراد اللوح المحفوظ، لأن السياق يتحدث عن المحاسبة والجزاء وهو تفسير ابن جرير 7/ 187 وتفسير ابن كثير 2/ 132.

صراحة، ومنها ما قرن فيها الكتاب بلفظ الإِنزال، وقد أنزل الله على نبيه - عليه الصلاة والسلام - القرآن. وقال الإِمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ- عند قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلّا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها" (¬1) والدلالة هنا إما نصاً أو جملة (¬2)، وهو المعنى الذي أشار إليه القرطبي آنفاً. ويقول الإِمام الطبري عند تفسير هذه الآية: إنّ الله نزل هذا القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - "بياناً لكل ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب "وهدى" من الضلالة "ورحمة" لمن صدّق به وعمل بما فيه من حدود الله، وأمره ونهيه فأحل حلاله وحرّم حرامه "وبشرى للمسلمين" يقول: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد وأذعن له بالطاعة يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة وعظيم كرامته، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل" (¬3). وهذه الأدلة تدل دلالة قاطعة على شمول هذه الشريعة لجميع ما يحتاجه الناس في جميع المجتمعات على مر العصور وتغيّر الأحوال. ولذلك سمّي القرآن: "فرقاناً وهدى وبرهاناً وبياناً وتبياناً لكل شيء وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإِطلاق والعموم" (¬4). ¬

_ (¬1) الرسالة: 20. (¬2) الأم: 7/ 277. (¬3) جامع البيان عن تأويل القرآن 14/ 161 - 162. (¬4) الموافقات 3/ 232.

المطلب الثالث الدليل الثاني على الشمول

المطلب الثالث الدليل الثاني على الشمول قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1). قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره" اقسم يا محمد لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب يعنى القرآن الذي أنزله إليهم، يقول: "لقد أنزلنا هذا القرآن مفصلاً مبيناً فيه الحق من الباطل" (¬2). ومثلها في المعنى عند القرطبي قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (¬3). والمعنى أن هذا الكتاب جاء بتفصيل أحكام التكليف (¬4). ومثلها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬5). قال الإِمام القرطبي: "وتفصيل كل شيء" مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام والشرائع والأحكام" (¬6). وقد أمر الله رسوله محمداً - عليه الصلاة والسلام - أن يعلن هذه الحقيقة ¬

_ (¬1) سورة الأعراف: آية 52. (¬2) جامع البيان في تأويل القرآن 8/ 203، الجامع لأحكام القرآن 7/ 217. (¬3) سورة الإِسراء: آية 12. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 10/ 228. (¬5) سورة يوسف: آية 111. (¬6) الجامع لأحكام القرآن 9/ 277.

للناس كافة، لأنها من المعاني التي تضمنتها شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يستنكر ابتغاء غير الله حكماً كما قال سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (¬1) الآية. والمعنى: قل يا محمد لمن يعدل بالله غيره: "ليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه، لأنه لا حكم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً، يعني القرآن مفصلاً، يعني مبيناً فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم .. " (¬2). وهذه الدعوة التي خاطب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالفيه من أهل الشرك، ما زالت تُعرض على البشرية من خلال هذا القرآن، وعن طريق حملته الصادقين، أنه لا حكم أعدل من الله ولا قائل أصدق منه، ولا قبول ولا إذعان إلّا للشريعة الإِسلامية التي جاء بها هذا الكتاب الذي فصله الله فجعل فيه ما تحتاجه البشرية في عالم العقائد والقيم والأحكام. ولا يحتاج من ابتغى الله حكماً لأي كتاب غير هذا الكتاب ولا لشريعة غير هذا الشريعة ولا لنظام غير نظام الإِسلام، ذلك لأن الله قد كفى المؤمنين مؤنة المسألة لمّا أنزل لهم تلك الآيات في ذلك الكتاب الذي فصله وبينه كما قال القرطبي (¬3). وكفاية الشريعة أمر عقيدة لا يصح إسلام بدونه فمن ابتغى غير الله حكماً راضياً مختاراً فقد أعرض عن هذه الشريعة التي كفته مؤنة المسألة وكان من الممترين، والممتري هو الشاك وقد شهد المؤمنون وغير المؤمنين من أهل الكتاب بأن هذه الشريعة هي الحق وأمر الله نبيه -والخطاب يشمل المؤمنين- أن ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 114. (¬2) جامع البيان عن تأويل القرآن: 8/ 8. (¬3) الجامع لأحكام القرآن: 7/ 70.

المطلب الرابع الدليل الثالث على الشمول

لا يكونوا من الممترين، وأخبرهم سبحانه أن أهل الكتاب يعلمون أن هذه الشريعة هي الفيصل بين الحق والباطل في حياة الناس، وإن لم يتبعوها (¬1) كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (¬2). المطلب الرابع الدليل الثالث على الشمول وذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3). الفرع الأول ذكر كلام المفسرين في معنى الإكمال والمعنى الذي تدل عليه هذه الآية كما قال ابن عباس والسدي - رضي الله عنهما - وغيرهما أن الله أتم لعباده هذا الدين وأكمله فلا يحتاجون إلى غيره أبداً، ولا يحتاجون إلى زيادة فيه أبداً. وترجم له الطبري بقوله: "اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم أَيُّها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي وحلالي وحرامي وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه بوحي على لسان رسولي والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم فأتممت لكم جميع ذلك فلا زيادة فيه بعد اليوم ... " (¬4). ¬

_ (¬1) جامع البيان: 8/ 8. (¬2) سورة الأنعام: آية 114 وقد ذكر القرطبي أن المقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى وذكر وجهين آخرين - انظر 7/ 70. (¬3) سورة المائدة: آية 3. (¬4) 6/ 79 وقد اختار -رَحِمَهُ اللهُ-، تفسيراً آخر ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وهو اختيار ابن كثير كما نقله عن ابن عباس قال: "اليوم أكملت لكم دينكم" وهو الإِسلام أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإِيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً" (¬1). وقد فصل الأستاذ سيد قطب هذا المعنى فقال: "أكمل الله هذا الدين فما عادت فيه زيادة لمستزيد وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل، ورضي لهم "الإِسلام" ديناً فمن لا يرتضيه منهجاً لحياته إذن فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين ... إن المؤمن يقف أولًا: أمام إكمال هذا الدين يستعرض موكب الإِيمان وموكب الرسالات، وموكب الرسل منذ فجر البشرية ومنذ أول رسول - آدم - عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة، رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين ... فماذا يرى؟ .. يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل، موكب الهدى والنور ويرى معالم الطريق على طول الطريق ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه، ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان .. رسالة خاصة لمجموعة خاصة في بيئة خاصة .. ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه متكيفة بهذه الظروف .. كلها تدعوا إلى إله واحد -فهذا هو التوحيد- وكلها تدعوا إلى التلقي عن هذا الإِله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإِسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف ... حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولًا خاتم النبيين برسالة "للإِنسان" لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة في زمان خاص في ظروف خاصة .. رسالة تخاطب الإِنسان من وراء الظروف والبيئات والأزمنة لأنها تخاطب فطرة الإِنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغير: ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 2/ 13.

{فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1) ... وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة "الإِنسان" من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان ... وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة "الإِنسان" منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات لكي تستمر وتنمو وتتطور وتتجدد حول هذا المحور وداخل هذا الإِطار وقال الله سبحانه للذين آمنوا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). فأعلن لهم إكمال العقيدة وإكمال الشريعة معاً فهذا هو الدين .. ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناها هذا - نقصاً يستدعي الإِكمال ولا قصوراً يستدعي الإضافة (¬3) ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير .. وإلّا فما هو بمؤمن وما هو بمقر بصدق الله وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين! إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن هي شريعة كل زمان لأنها بشهادة الله شريعة الدين الذي جاء "للإِنسان" في كل زمان وفي كل مكان ¬

_ (¬1) سورة الروم: آية 30. (¬2) سورة المائدة: آية 3. (¬3) قارن بين هذا وبين خطبة الإِمام عمر بن عبد العزيز وتعليق الإِمام الشاطبي فيما سبق ص 126 تجده جميعاً يخرج من مشكاة واحدة.

الفرع الثاني ذكر كلام الشاطبي في معنى الإكمال

لا لجماعة من بني الإِنسان في جيل من الأجيال في مكان من الأمكنة كما كانت تجيء الرسل والرسالات. الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي، والمبادئ الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان دون أن تخرج عليه إلّا أن تخرج من إطار الإِيمان. والله الذي خلق "الانسان" ويعلم من خلق، هو الذي رضي له هذا الدين المحتوي على هذه الشريعة فلا يقول: إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم إلّا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإِنسان وبأطوار الإنسان! " (¬1). الفرع الثاني ذكر كلام الشاطبي في معنى الإِكمال وننتقل من كتب التفسير إلى ما قاله الإِمام الشاطبي في المسألة الخامسة: حيث بيّن أن تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي (¬2)، وما يزال الحديث مستمراً عن تفسير معنى الِإكمال الوارد في الآية، واستدل الإِمام الشاطبي على ذلك بهذه الأدلة: 1 - بالاستقراء، وذلك أن من استقرء السنة وجدها على كثرة نصوصها وكثرة مسائلها بياناً للكتاب، ولذلك وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬3). وهذا دليل على أن القرآن جمع الكليات، ولذلك احتاج الناس إلى السنة ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 2/ 842 - 843. (¬2) واستثنى الشاطبي ما خصه الدليل مثل خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - 3/ 242. (¬3) سورة النحل: آية 44.

لبيانه، فمن كليات القرآن مثلاً الصلاة والزكاة والجهاد والنكاح والعقود والقصاص والحدود وغيرها كثير، وبيانها إنما جاء في السنة (¬1). 2 - أن كليات الشريعة المعنوية وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات راجعة إلى القرآن وقد تضمنها على الكمال (¬2). 3 - أن الأدلة المعروفة وهي السنة والإجماع والقياس ترجع إلى القرآن، فالسنة ترجع إلى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). والإجماع راجع إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬4). والقياس راجع إلى قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬5). وبنى الإِمام الشاطبي المسألة السادسة على هذا المعنى وهي: أن "القرآن فيه بيان كل شيء على ذلك الترتيب المتقدم" (¬6) .. وهذا معنى الإِتمام الوارد في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية .. ¬

_ (¬1) الموافقات: 2/ 243. (¬2) المصدر السابق 2/ 243. (¬3) سورة الحشر: آية 7. (¬4) سورة النساء: آية 115. (¬5) سورة النساء: آية 105، وأول الآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} وانظر الموافقات 2/ 243، وسيأتي بيان ذلك عند دراسة الإِجماع والقياس. (¬6) 3/ 244.

الفرع الثالث حاصل كلام أهل العلم في معنى الإكمال

الفرع الثالث حاصل كلام أهل العلم في معنى الإِكمال وتفسير أهل العلم من السلف لمعنى الِإكمال يفيدنا أموراً: منها: 1 - أن القرآن أوجب اتباع السنة، ولذلك فإن هذه الشريعة "وهي نصوص الكتاب والسنة" قد تمت وكملت، فكما أن القرآن موصف بالكمال والعصمة فكذلك السنة (¬1)، وإجماع الأمة. 2 - أن السنة تفسر الكتاب وتبينه، كما أن الإِجماع والقياس طريقان للتعرف على ما تضمنته الشريعة من المعاني الكلية والجزئية، وهذا هو معنى إكمال الدين الوارد في الآية. فإذا قلنا أن القرآن فيه بيان كل شيء كان المقصود أن دلالة السنة والإِجماع والقياس قد أوجب القرآنُ اتباعها، فكل حكم نتج عن ذلك صح أن نقول عنه أن القرآن دل عليه (¬2) .. مثال ذلك ما ورد في الصحيح عن ابن مسعود قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات" الخ .. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن، فأتته، فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت كذا وكذا؟ فذكرته، فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3) .. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 116 - 121. (¬2) وهذا خلاف رأي قوم لا خلاق لهم خارجين عن السنة، حيث زعموا أن القرآن فيه بيان كل شيء فاطّرحوا أحكام السنة وتأولوا القرآن دون أن يرجعوا إليها .. وانظر شبهتهم في الموافقات للشاطبي، والجواب عنها 3/ 12 وما بعدها. وستأتي الإشارة إلى ذلك - إن شاء الله. (¬3) الحديث في كتاب اللباس من صحيح البخاري بشرح فتح الباري باب المتفلجات للحسن 10/ 372.

الفرع الرابع ذكر بعض الشبه والجواب عنها

ولهذا امتن الله على عباده بهذه النعمة وهي إتمام الدين، ورضيه لهم فلا يحتاجون لمعرفة أمر من أمور الدين يحكمون به مجتمعاتهم وما فيها من الوقائع والأحوال إلّا وجدوه في هذه الشريعة إمّا من طريق القرآن أو من طريق ما أوجب القرآن اتباعه مثل السنة الصحيحة أوما دل عليه هذان الأصلان من وجوب اتباع الإِجماع والقياس. وبعد تقرير هذا المعنى نجيب عن بعض الشبه التي يمكن أن تثار عليه .. وذلك في الفرع الرابع. الفرع الرابع ذكر بعض الشبه والجواب عنها الشبهة الأولى: تفسير "الإِكمال" بإتمام الحج ونفي المشركين عن البيت، فقد نقل ابن جرير عن سعيد بن جبير وقتادة - رضي الله عنهما - أنهما فسرا الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قالا: أكمل لهم دينهم أن حجوا ولم يحج معهم مشرك" (¬1). وهو اختيار ابن جرير، والذي حمله على ذلك أن هناك بعض الآيات نزلت بعد نزول آية الإكمال فحملها -رَحِمَهُ اللهُ- على أن الإِكمال إنما كان بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه (¬2). والجواب عن ذلك كما يلي: 1 - أن نسلم بما قاله ابن جرير من أن هناك آيات نزلت بعد آية الإِكمال وأن الله أتم النعمة للمسلمين بأن أجلى المشركين عن البيت. 2 - أن التسليم بهذا المعنى لا يتنافى مع المعنى الذي أشار إليه ابن عباس والسدي واختاره ابن كثير (¬3). ¬

_ (¬1) 6/ 80. (¬2) 6/ 80 - وهذا الإشكال جوابه يسير والحمد الله، وتسميته شبهة لأنه اشتبه على الفهم. (¬3) انظر ما سبق ص 136.

والدليل على ذلك: أن هذا الذي أشار إليه المفسرون كله مظاهر حقيقية لإِتمام النعمة، فإكمال الدين من إتمام النعمة، وإفراد المسلمين بالبيت من إتمام النعمة، ولا تضاد .. ولذلك كان من فقه ابن عباس - رضي الله عنهما - أن جمع المعنيين معاً فقد نقل عنه ابن جرير بإسناد واحد هذين المعنيين .. فقال عند تفسير "اليوم أكملت لكم دينكم .. " "حدثني المثنى قال ثنا عبد الله قال ثني معاوية عن علي عن ابن عباس، قوله: "اليوم أكملت لكم دينكم" وهو الإِسلام قال: أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإِيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً" (¬1) .. ونقل عنه بالإِسناد نفسه في تفسير آخر الآية: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، قال "كان المشركون والمسلمون يحجون جميعاً فلما نزلت براءة فنفي المشركون (¬2) عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين فكان ذلك من إتمام النعمة" (¬3). فهذا المنقول عن ابن عباس في الموضعين بهذين الإِسنادين نقلهما ابن جرير في كتابه وقابل بينها واختار الثاني من دون الأول (¬4)، والصواب - والله أعلم - أنه لا منافاة بين المعنيين بل أحدهما عام وهو الأول، والثاني من تطبيقاته ومفرداته، فقد أتم الله الدين لهم .. وأتم النعمة لهم بإفرادهم بالبيت وهذا من إتمام الدين لأنه حكم من أحكامه كلفهم الله به فأقاموه حيث طردوا المشركين عن البيت. بقي أن يقال: كيف يكون الإتمام وقد نزلت أحكام بعد هذه الآية .. والجواب يأتي بعد ذكر الشبهة الثانية. ¬

_ (¬1) 6/ 79. (¬2) في المطبوع "المشركين" والصحيح ما أثبته في المتن. (¬3) 6/ 81. (¬4) 6/ 80.

الشبهة الثانية: أن الله سبحانه قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ثم نزلت آيات بعد ذلك فكيف يكون الدين قد كملِ في ذلك اليوم ورضيه الله في ذلك اليوم .. قال ابن جرير: "أو ما كان الله راضياً الإِسلام لعباده إلّا يوم أنزل هذه الآية؟ " (¬1). وأجاب -رَحِمَهُ اللهُ-: فقال: "لم يزل الله راضياً لخلقه الإِسلام ديناً ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرف نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في درجاته (¬2) ومراتبه درجة بعد درجة ومرتبة بعد مرتبة وحالًا بعد حال حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} بالصفة التي هو بها اليوم والحال التي أنتم عليها اليوم منه دينا فالزموه ولا تفارقوه" (¬3). وهذا الجواب كاف عن الشبه الثانية، واستعمله هنا جواباً عن قول من قال أن هناك آيات نزلت بعد هذه الآية فلا تكون دالة على إكمال الدين بالمعنى الأول. فأقول: إن هذا الدين نزل حالاً بعد حال حتى أكمل الله شرائعه وإذا ارتقى الأمر من حال إلى حال ومرتبة إلى مرتبة فلم يبق له إلّا نزر يسير صح أن يقال له قد كمُل، وهذا هو المقصود بالإكمال في الآية، فلا ينافيه نزول آية أو آيتين بعد ذلك، ولعل ربط آية الإِكمال بيوم عرفة في حجة الوداع - دون أن يكون نزولها على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته - مناسب لإِعلان البلاع لأن يوم عرفة يوم عيد يجتمع الناس فيه فَخُص بنزول هذه الآية لِتُبلِّغَ للناس بعد ذلك ولتغتبط بهذا اليوم ويغتبط بها. الشبهة الثالثة: أنْ يقال أنا قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه. ¬

_ (¬1) 6/ 81. (¬2) في المطبوع "في درجات" والصواب ما أثبته في المتن. (¬3) 6/ 81.

ومن أمثلة ذلك المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها" (¬1) .. وقد أجاب الإِمام الشاطبي عن هذه الشبه بعد أن عرضها في كتابه الاعتصام بأجوبة أربعة: 1 - أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} المراد منه إكمال الكليات "فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلّا وقد بُيّنت غاية البيان" (¬2). 2 - إن المسائل والوقائع التي لا نص فيها موجود حكمها في الكتاب والسنة، وذلك لأن قاعدة الاجتهاد ثابتة فيهما فلا بد من إعمالها، وإذا أعملنا هذه القاعدة ربطنا الجزئيات والمسائل التي لا نص فيها بالكليات الشرعية، وهذه الكليات والقواعد يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل. 3 - أن هذه الجزئيات المتجددة نوعان: منها ما هو محتاج إليه ومنها ما هو غير محتاج إليه .. فإن احتاجه الناس كان من مسائل الاجتهاد وهذه مرتبطة بالكليات الشرعية، تشهد لها وتحدد حكمها (¬3)، وإن لم يحتاجوه فهو البدع المحدثات، فهذه هي التي لا تجد عليها دليلًا كلياً ولا جزئياً، وبهذا يدخل ما يحتاجه الناس تحت حكم الشريعة وهذا معنى الإِكمال، ولا ينازع أحد من أهل السنة رحمهم الله تعالى فِى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ببيان ما يحتاجه الناس في أمور دينهم (¬4). 4 - أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة - رضوان الله عليهم -، ولذلك ردوا الجزئيات إلى الكليات الشرعية فعرفوا حكمها، ولم يقل أحد منهم لِمَ لمْ ينص الشرع على حكم الجد مع الأخوة؟ مثلًا، بل نظروا في الكليات الشرعية واعتبروا معانيها، هذا في الجزئيات المتجددة التي لا نص فيها، وأما ما ورد بها ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 305. (¬2) الاعتصام: 2/ 305. (¬3) وسيأتي بيان كيفية رجوعها لهذه الكليات الشرعية. (¬4) الاعتصام: 1/ 49.

النص فظاهر أن حكمها ردها إلى هذا النص مباشرة، وهذا هو الكمال الذي أدركه الصحابة على التمام - رضي الله عنهم أجمعين - (¬1). وبالجواب عن هذه الشبه يتبين لنا على وجه اليقين معنى الإِكمال المقصود وكذلك معنى البيان والتفصيل الوارد في الآيات السابقة فإن المعنى واحد، وهو: أن هذه الشريعة وضعها الله سبحانه على حالة الكلية والأبدية وإنْ وضِعت الدنيا على الزوال والنهاية، وإن من أراد أن يتعرف على أحكامها يجب عليه أن ينظر إليها بعين الكمال، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات ولا يخرج عنها بتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال، وكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2) .. فكل ما يحتاجه الناس في أمر الدين ويشمل أمور التشريع كلها في جميع جوانب الحياة بلا استثناء قد بينته هذه الشريعة، وأن الطريق لذلك معلوم عند الصحابة - رضوان الله عليهم - كما هو معلوم عند كل من تبع طريقهم ونهج منهجهم .. وبهذا ندرك معنى الثبات والشمول وكيف بينه القرآن وطبقه رسول الله وأصحابه وكيف ينبغي أن يفهمه المسلمون ويعتقدونه ويطبقه المجتهدون في واقع المجتمع الإِسلامي ... وفي هذه العقيدة كما بينها القرآن وبينها الرسول وصحابته بأفعالهم وأقوالهم قطع لمادة الابتداع وسد لباب الشرك فلا خروج على هذه الشريعة لا بجحود ولا تكذيب لشيء منها، ولا باستكبار وإباء عن بعض أحكامها، ولا بتقديم من بين يديها ومن خلفها ولا بتغيير وتبديل لبعض أحكامها ليس شيء من ذلك كله إذا استقرت هذه العقيدة في القلوب وانجلت الشبه عنها (¬3). ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 307. (¬2) المصدر السابق بتصرف انظر 2/ 305 - 306 - 310. (¬3) انظر التمهيد وفيه بيان أن الأمر لله وحده لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن حق النسخ والتبديل مثل حق التشريع .. وأن على الخلق الإِنقياد والإِذعان لما جاءت به هذه الشريعة.

وبعد هذا ننتقل في هذا الكتاب إلى بيان مهمة الاجتهاد وموقف المجتهد الذي ينظر لهذه الشريعة بهذا المنظار، وكيف يتعرف على أحكام الشريعة سواء من نصوصها الجزئية أو من كلياتها، وكيف يُدخل الوقائع المتجددة في حياة البشرية تحت تلك النصوص أو الكليات الشرعية ويحافظ في الوقت نفسه على ثباتها وهو يدرك منزلة الشريعة وقوة أدلتها، فيطمئن إلى ثباتها وشمولها، ويستدل بها دون أن يعطل شيئاً منها أدلتها، وقبل بيان طرق الاجتهاد نختم الباب الأول بدراسة قوة الأدلة الشرعية على الاحتجاج وبيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن بعدهم من أئمة السلف وموقف مخالفيهم، وهو الفصل الثالث والله الموفق والمعين.

الفصل الثالث الاحتجاج بالأدلة النقلية

الفصل الثالث الاحتجاج بالأدلة النقلية توطئة: نقصد بالأدلة النقلية "نصوص الكتاب والسنة" ويشمل ذلك السنة المتواترة (¬1) والأحادية (¬2)، وقد علمنا صحة إطلاق مصطلح الشريعة عليها. ونقصد بالأحاد ما صح سنده وسلم من الشذوذ والعلة (¬3). ¬

_ (¬1) المتواترة ما رواه جماعة من غير حصر تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، والصحيح عدم اشتراط العدد، والعبرة بما يحيط بالخبر من القرائن انظر نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر 19، الطبعة بدون. (¬2) والأحاد: هو ما نقله العدل تام الضبط متصل السند غير معلل ولا شاذ، المصدر السابق 29. (¬3) يقول الحافظ ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ-: "وقد علم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث إنما يصح بمجموع أمور منها صحة سنده وانتفاء علته وعدم شذوذه ونكارته وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم" الفروسية لإبن القيم 46، دار الكتب العلمية تصحيح عزت العطار، فإذا صح إسناد الحديث ووقع في متنه شذوذ وعلة لم يحتج به. والمقصود بالسند: سلسلة الرواة الذين نقلوا المتن عن مصدره الأول، والمقصود بمتن الحديث ألفاظه التي تقوم بها معانيه، أصول الحديث علومه ومصطلحه الدكتور محمد عجاج الخطيب 32، دار الفكر الطبعة الرابعة. وانظر هامش نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 32 وقد سبق الحديث عن عصمة الأمة وهم أهل السنة - كل طائفة منهم فيما يخصها بحيث نعلم أن كل حديث تلقته بالقبول =

ونقصد بالاحتجاج بها أي قيام الحجة بها على الخلق على الإطلاق والعموم في العقيدة والشريعة، بحيث تثبت بها الأحكام ابتداء أو تخصيصاً ويزاد بالسنة على ما في القرآن. وسندرس هذه القضية في هذا الفصل بما يناسب موضوع الكتاب، ذلك أن ثبات الأحكام الشرعية وشمولها يتفاوت قوة وضعفاً بحسب النظر لها. فإن اعتقدنا قوة الأدلة على الاحتجاج أفادنا ذلك ولا شك ثباتاً وقوة في الحكم ومن جهة أخرى تحقق لنا الشمول بصورة أوسع وأعمق لأنا لم نغفل نوعاً منها ونوقف الاحتجاج به ولم نورده للاحتجاج على تحسين الظن ولم نترك العمل به في بعض المواطن، فإلى تصوير مذهب المقوين للأدلة المحتجين بها، ثم إلى تصوير مذهب مخالفيهم المضعفين لها الذين وصفوها بالظنية وأوقفوا الاحتجاج بها في الأصول وتعدى ذلك إلى تضعيف الاحتجاج بها على الأحكام الشرعية. وسيكون منهجي في دراستها حسب التتبع التاريخي لموقف الفريقين. وعلى ذلك فابدأ أولًا بالتعرف على عقيدة الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان وذلك من خلال دراسة الأدلة التي يمكن أن يستدل بها على هذه المسألة. ثم أنظر في مسلك مخالفيهم وأتتبع نشأته التاريخية وأزنه بالميزان العلمي الصحيح. وسبب اختياري لهذا الترتيب أن هذه القضية لها منزلة خطيرة في الدين، فالقرآن والسنة مرجعان لها، وللصحابة والتابعين موقف منها ومن حيث النشأة ¬

_ = حجة على الخلق لأنها معصومة عن الخطأ والضلال، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله عند الحديث عن الإِجماع في فصل مستقل، وانظر كلام ابن تيمية أن ما تلقته الأمة من الكتاب والسنة بالقبول حجة على الخلق قد عصمه الله من الخطأ والضلال - مجموع الفتاوى الكبرى 19/ 5 - 6 - 7 - 8.

التاريخية لا بد من الرجوع لهذين المصدرين (¬1) وبيان هذا الموقف، ثم بعد ذلك يأتي الموافقون والمخالفون، فأما الموافقون فلا نحتاج للنظر في مواقفهم إلّا زيادة بيان، وأما المخالفون فنعرض لمواقفهم، وهنا ندرس نشأة مخالفتهم وأسبابها وما لها وما عليها، وبهذا الترتيب تأخذ هذه القضية حقها من البحث والدراسة. فإلى المبحث الأول: من هذا الفصل نبين فيه موقف المقوين للأدلة، ثم نتبعه بالمبحث الثاني وفيه عرض موقف المضعفين لها .. والله الموفق والمعين. * * * ¬

_ (¬1) وبهذا يتحدد منهج البحث بلا لبس، فإن أول مرجع لهذه القضية هو الكتاب والسنة، وقضيتنا قضية شرعية، هذا وصفها وذلك أصلها، وعلى ذلك يجب اتباع الدليل الشرعي المعرّف بها، ويجب رفض المنهج العقلي والتجريد اللغوي، يؤكد هذا ويقرره أن المعرف بموقف الصحابة والتابعين لهم بإحسان يجب أن يلتزم هذا المنهج لأنهم عليهم رحمة الله هم أول من التزمه وأما البحث العقلي فلا يعرفونه، وأما التجريد اللغوي فلا يصغون إليه لأنهم أعرف بمقاصد العربية واستعمالاتها، فأساس البحث وطبيعته يقتضيان الوقوف عند النظر الشرعي واطرّاح ما سواه، أما أساسه فالوحي وهو المصدر لبيان حقائق الدين وقضاياه، وأما طبيعته فلأنه يتحدث عن موقف الصحابة وهم عرب خلص لا صلة لهم بعلوم اليونان ولا بالتجريد اللغوي الصرف فلنتتبع المنهج القرآني مقتدين بطريقة السلف الأول في دراسة هذه القضية ونتعرف من خلاله على عقيدتهم، ونزن بذلك المنهج مواقف مخالفيهم والله الموفق والمعين.

المبحث الأول قوة الأدلة النقلية

المبحث الأول قوّة الأدلّة النقلية ذكر الأدلة على أن الشريعة حجة على الخلق في جميع ما يحتاجون اليه وذكر أوصافها، وذلك في خمسة مطالب. المطلب الأول أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالبينات وجوامع الكلم ومقتضى ذلك أن هذه الشريعة المتمثلة في الكتاب والسنة علم ويقين، لا ظن كما يقول أهل الكلام ومن تأثر بهم. وهذا المعنى يشهد له الاستقراء، فإن الله وصف القرآن بأنه حق وعلم وبينات من الهدى، وفرقان بين الحق والباطل، فلا بد من الإِيمان بهذه الأوصاف. من ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (¬1). وقوله سبحانه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 99. (¬2) سورة النور: آية 58. (¬3) سورة النور: آية 61.

{وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1). {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (¬2). {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬3). {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬4). {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬5). {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬6). وما ورد في وصف آيات القرآن بهذا الوصف أكثر من أن يحصى. والبيان في لغة العرب: "ما بين به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيء بيانًا اتضح، فهو بين". واستبان الشيء ظهر، "وفي المثل: قد بين الصبح لذي عينين أي تبين". "والتبيين: الإيضاح، والتبيين أيضًا: الوضوح" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 230. (¬2) سورة البقرة: آية 185. (¬3) سورة العنكبوت: آية 49. (¬4) سورة الحديد: آية 9. (¬5) سورة النور: آية 46. (¬6) سورة الطلاق: آية 11. (¬7) لسان العرب 67.

"والبيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ" (¬1). يقول الإِمام ابن جرير الطبري: "وكذلك أنزلنا آيات بينات ... " أي "دلالات واضحات" (¬2). {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). مبينات: "أي صارت مبينة بنفسها الحق .. " (¬4) فهذه أوصاف للأدلة القرآنية بأنها حق وعلم وبينات أي توضح المقصود بأبلغ لفظ وكما قال الإِمام ابن جرير: "أنها تبين الحق بنفسها، وقد سبق وصف القرآن بأنه قول محكم (¬5)، وورد وصفه بأنه قول فصل في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ومعنى قول فصل كما قال ابن جرير: "أن هذا القول وهذا الخبر لقول فصل، يقول لقول يفصل بين الحق والباطل ببيانه، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة ... " (¬6). هذا عن القرآن كلام الله، وهو بعض الوحي، أما البعض الآخر فهو السنة وهي وحي من عند الله سبحانه إمّا ابتداء وإما إقرارًا (¬7)، فقد أرسل الله ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 69. (¬2) جامع البيان 17/ 128. (¬3) سورة النور: آية 34. (¬4) جامع البيان 18/ 134 - 155. (¬5) انظر ما سبق 119. (¬6) سورة الطارق: آية 13 - 14 وجامع البيان 30/ 149. (¬7) أشرت إلى هذا المعنى انظر ص 32، ولذلك لا بد من النظر في البعض الآخر وهو السنة وتفسير السلف لها لأنهم أعرف بلغة العرب ومقاصدها، وأعرف بمقاصد الشريعة، وكون الشريعة مبيّنة في نفسها لا يقتضي أنها مبينة لكل أحد .. ولذلك كرم الله بعض عباده بالعلم ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليكونوا هم أهل الذكر الذين يعلّمون الناس الحق، وسيأتي الحديث عن صفاتهم في باب الاجتهاد، وإنما نقول أنها مبنية لمن =

رسوله ليعلم الناس الكتاب والحكمة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1). وقد أدى الرسول - عليه السلام - الأمانة فبينه وبلّغه بلاغًا مبينًا، فعرف أصحابه - عليه السلام - الحق والعلم والهدى، وهذه مهمة الأنبياء، فقد جاءوا بالبينات التي توضح الحق ويكون بها الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالي: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬2). وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو سيد ولد آدم وهو أكرم الخلق على الله وأعظمهم عبادة له فذلك لأنه أعلم الخلق بالحق وأفصحهم لسانًا، وأقواهم بيانًا، وأحرصهم على هداية العباد، وهذا يوجب أن يكون بيانه أكمل من بيان كل بشر" (¬3). وقد بعثه ربه سبحانه بالكتاب والحكمة كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬4). والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، وذلك مجموع الشرع ¬

_ = عقلها وتعلّمها كما تعلمها الصحابة - رضوان الله عليهم -، وإذا فات العلم ببعض أدلتها بعض أهل العلم فإنه لا يفوت جميعهم. (¬1) سورة النحل: آية 44. (¬2) سورة البقرة: آية 213، وانظر درء تعارض العقل والنقل 5/ 25 لشيخ الإِسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم - الطبعة الأولى 1399 هـ - جامعة الإِمام محمد بن سعود. (¬3) المصدر نفسه 1/ 23 - 24 - 28 وانظر 5/ 371. (¬4) سورة الجمعة: آية 2.

الإِسلامي الذي هو علم وقول صادق في نفسه، وهذه صفة لازمة له والعلم بها ممكن، ورد الناس إليها ممكن، ولذلك أمرهم الله بالرد إلى الشرع حين التنازع لينتفعوا بالعلم الذي جاء به (¬1)، لا فرق في ذلك بين أمر وأمر من شرائع الدين، سواء في ذلك دلالة السنة على الاعتقاد أو دلالتها على الأحكام مفسرة للقرآن أو زائدة عليه، وهذا كله علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته وامتن الله عليهم بهذا العلم (¬2). ولقد أوتي - عليه الصلاة والسلام - جوامع الكلم، فهو كما سبق أن قلنا أقدر البشر على البيان والتعريف بما يقصده ويريده، مع حرصه الشديد على أمته حتى خفف الله عليه وقال له سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (¬3). {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (¬4). فإذا كان الحال كذلك فإن كلامه - عليه الصلاة والسلام - مبين للعلم والهدى والحق، بل هو أحق الكلام بإفادة العلم وهذا قول جميع من آمن بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) الدرء: 1/ 146، وعدم ارتفاع النزاع بين البشر لا ينافي هذه الحقيقة وذلك أنهم إمّا لا يرجعون للوحي مطلقًا، أو يردون إليه ردًا غير متجرد من الهوى أو غير مستكمل القدرة المطلوبة لإحسان الأخذ من الكتاب والسنة، وبقدر ما يرتفع البشر إلى المستوى الذي يريده الله منهم يتحقق لهم ارتفاع الخلاف فيما بينهم وتشيع بينهم المودة والمحبة على عقيدة واحدة ومنهجٍ واحد. (¬2) المصدر السابق 2/ 146. (¬3) سورة الشعراء: آية 3. (¬4) سورة النحل: آية 37. (¬5) درء تعارض العقل والنقل 5/ 373 - 374 وسيأتي كشف شبه الفلاسفة وبعض من تأثر بهم وتناقض في قوله بأن نصوص الوحي لا تفيد العلم واليقين.

روى البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعثت بجوامع الكلم ... " الحديث (¬1) وجوامع الكلم أن: "يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني" (¬2) وهو يشمل القرآن والسنة كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر (¬3)، وقد سبق أنّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - هو أفصح الخلق على الإِطلاق وهذا يقتضي أنْ يكون كلامه من الجوامع، فإذا لم تفد هذه الجوامع العلم فأي كلام يفيده! وننتقل إلى المطلب الثاني لنثبت بالاستقراء أن الأحكام الشرعية لا بد من التصديق بها ونسبتها إلى الشريعة مع العمل بها، فاجتمع لها وجوب العلم بها والعمل بمقتضى ذلك العلم، والطريق لإثبات العلم والعمل واحد في هذه الشريعة، وهو هذه الأدلة من الكتاب والسنة وإليك إجراء الاستقراء وهو الدليل الثاني. ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 247، 12/ 401. (¬2) المرجع السابق 13/ 147. (¬3) المرجع السابق 13/ 247 - 248، وقد ذكر أمثلة لذلك من الكتاب والسنة تبين المقصود وأجاب عن قول من قصر الجوامع على القرآن معتمدًا على لفظ الحديث "بُعثت" وإنّما بُعث الرسول بالقرآن، أجاب -رَحِمَهُ اللهُ- بأن ذلك ليس بلازم وليس في كلام الإِمام البخاري ما يدل على ذلك إذْ أنه ذكر حديث: "بُعثت بجوامع الكلم" ثم ذكر حديث أبي هريرة في الموضع نفسه: "ما من الأنبياء إلا أعطي من الأيات ما مثله -أو من- أو آمن - عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ .. " الحديث 13/ 247، وهذا فيه أن القرآن من جوامع الكلم وليس فيه أن السنة ليست من الجوامع. والراجح ما قاله الحافظ ابن حجر ذلك أن الرسول بُعث بالوحي وهو يشمل الكتاب والسنة، وأرسله الله بهذه الشريعة وهي تشملهما.

المطلب الثاني الاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معا

المطلب الثاني الاستقراء يثبت أن هذه البينات والجوامع لا بد من العلم والعمل بها معًا ويشهد لذلك الاستقراء الذي يوضح أن المسائل الشرعية التي دلت عليها تلك البينات والجوامع هي علمية قبل أن تكون عملية، فالذي أثبت العمل هو نفسه الذي أثبت العلم، وقد أشار الإِمام ابن القيم إلى هذا المعنى (¬1)، ونحن هنا نفصله ونوضحه ونورد من الأحكام العملية التطبيقية ما يدل على ذلك، ونختارها من أبواب شتى لتكون أكثر دلالة على المقصود، من ذلك: 1 - التحاكم إلى شريعة الله: فإنها وإن كانت في ظاهرها عملية إلا أنها علمية كذلك، فهي عقيدة وعلم قبل أن تكون تطبيقيًا عمليًا، فلا بد أن يصدق المرء أن الحاكم هو الله سبحانه وأن شريعته هي الحق والصدق، وأن الرسول محمد - عليه الصلاة والسلام - قد بلغها كما أراد الله سبحانه، وأن التحاكم إليها والرضى بها عقيدة لا ينجو الإِنسان من عذاب الله إلا بها. 2 - إقامة فريضة الجهاد: فهي فريضة عملية، يسبقها اعتقاد وعلم بأن الله فرضها على المسلمين، وجعلها من معالم الدين، وأنهم إذا أقاموها أطاعوا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، واستحقوا الثواب في الآخرة دار الجزاء، وإن لم يقيموها عند ¬

_ (¬1) انظر مختصر الصواعق المرسلة 489، لإبن القيم اختصره محمد الموصلي، ط 1، 1405 هـ دار الباز للنشر. وفيه يقول -رَحِمَهُ اللهُ- عن الأمة في الصدر الأول: "فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث (يعني أخبار الأحاد .. ) في الخبريات العلميات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينًا. فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته" 489.

تحقق الاستطاعة أو يعزموا على إقامتها عند القدرة استحقوا العقاب في الدنيا والآخرة. 3 - تحريم الزنا ووجوب إقامة الحد: فإنه قبل أن يكون أمرًا عمليًا فإنه أمر علمي اعتقادي، وإلا فكيف يقيمه من لم يصدق ويؤمن بأنه الله حرمه وأنزل آيات بينات، وأنه الحق وما سواه باطل، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلّغه كما أمر الله، فهو حكم علمي عقدي قبل أن يكون حكمًا عمليًا. 4 - تحريم الخمر ووجوب العقوبة على شاربها: وهو أيضًا حكم علمي قبل أن يكون عمليًا، وإلّا فكيف يمتنع الإِنسان عن شربها تعبدًا لله ما لم يعتقد أن الله حرمها وجعل لمن يتركها تعبدًا الأجر والثواب. وكيف يقيم الإِمام العقوبة على شاربها ما لم يؤمن ويصدق أن الله حرمها وأمر بإقامة الحد على من شربها .. وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صدق في تبليغ أمر ربه. 5 - تحريم القتل ووجوب القصاص على من قتل محمدًا عدوانًا: فهذا حكم عملي علمي، إذْ لا بد من الاعتقاد بأنه حكم الله سبحانه، أنزله بعلمه رحمة منه وعدلًا. 6 - تحريم الغيبة: كيف يمتنع المسلم عنها تعبدًا لله مالم يعلم أن الله حرمها وكرّهها لعباده، وجعل على فاعلها العقوبة حيث توعده على ذلك. 7 - وجوب غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه والدعاء له: كيف يتحقق ذلك من المسلمين ما لم يعلموا أن هذه الأحكام قد أوجبها الله عليهم ووعدهم بالأجر والمثوبة. 8 - وجوب الصلاة إلى القبلة في الفرض لمن قدر عليه: كيف يلتزم المسلم بذلك ما لم يعتقد أنها عمود الدين، وأنها الصلة بينه وبين ربه الذي فرضها عليه وأمر رسوله بتبليغها له وتعليمها إياه، وأن الرسول أدى الأمانة كما أراد الله.

9 - تولي المؤمنين بعضهم بعضًا: وهو أمر عملي يتمثل في تطبيقات كثيرة، ولا يتحقق إلّا أن يعلم المسلمون ويعتقدوا أن الله صبحانه جعل ذلك من الدين الذي يقبله ويرضى عنه ويثيب عليه، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - صدق في تبليغه وتطبيقه، وأن الولاء إنما هو لأهل الإِسلام وليس بين المؤمن والكافرين ولاء ولا محبة. 10 - إقامة حقوق المرأة من تعليمها دينها وحسن معاشرتها والنفقة عليها على قدر الطاقة، وقوامة الرجل عليها بالمعروف وحقها في الإِرث ... كيف يقيم الرجل ذلك ما لم يعتقد أن الله هو الذي حكم بذلك من فوق سبع سماوات، تنزّل بذلك القرآن وبلغه الرسول وبينه للناس. وقل مثل ذلك في جميع الحقوق التي أوجبها الله على المؤمنين بعضهم لبعض مثل حقوق الجار .. وحقوق الطريق .. وحقوق الرجل على المرأة, وحقوق الإِمام على الرعية، وحقوق الرعية على الإِمام وحقوق الأموات على الأحياء. وقل مثل ذلك في جميع الأحكام سواء التي تخص الاقتصاد أو الجنايات أو السير والجهاد أو السياسية والحكم .. فالشريعة دالة من أولها إلى آخرها على أن الله أوجب العلم والعمل في التكاليف التي جاءت بها. والاستقراء يفيد اليقين في هذا الباب (¬1) والطريق لمعرفة العلم والعمل في هذا كله هو اتباع الأدلة النقلية وهي دلالات بينات تفيد الأمرين معًا، ¬

_ (¬1) ويؤكد هذا الاستقراء أنك لا تجد في الإِسلام فصلًا بين العلم والعمل لا في نصوص الشريعة ولا في واقع الجيل الأول في خيى القرون فإنه تعلَّم العلم والعمل جميعًا .. فلما نشأت الفرق التي تأثرت بآراء الفلاسفة وساعد على ذلك الاستغراق في الجدل - الذي ما ضل قوم بعد هدى إلّا وقعوا فيه كل ذلك أدى إلى الاشتغال بالفلسفة العقلية التجريدية فقسمت أدلة الشريعة الواحدة إلى ما يوجب العلم والعمل - هذا إذا عملوا بموجبه -! وإلى ما يوجب العمل دون العلم، ثم فصل الأرجاء بين الإِيمان والعمل فوهنت قبضة المسلمين على التمسك بالعمل بهذه الشريعة رويدًا رويدًا حتى صار الأمر في زماننا هذا إلى استبدال القوانين الوضعية بها.

المطلب الثالث الشريعة هي الحجة على الخلق على الإطلاق والعموم

إذ لا طريق لمعرفة العلم والعمل في ذلك كله إلا طريق الكتاب والسنة، والمقصود دلالاتهما، فإما أن تفيدهما معًا وهو الحق، وأما أن لا تفيدهما معًا ولا قائل بذلك ولا واسطة بين الأمرين. المطلب الثالث الشريعة هي الحجة على الخلق على الإِطلاق والعموم إن الله أنزل شريعته لتقوم بها الحجة على الخلق على الإطلاق والعموم فلو لم تكن دلالاتها تفيد ذلك والطريق الذي ثبتت به يفيده كذلك لما قامت بها الحجة على الخلق، ولما كان في إنزالها فائدة، وكذلك القول بأن جزءًا منها لايفيد ذلك يؤدي إلى أنه لا تقوم به الحجة، والفرض أنها أنزلت لتقوم بها الحجة وهذا المعنى لا ينازع فيه أحد، فدل ذلك يقينًا على أنها حجة على الخلق على الإِطلاق والعموم. وهذه عقيدة المسلمين في القرن الذي هو خير القرون، فإنه لا يُعلم عن أحد من الصحابة - رضوان الله عليهم - خلاف ذلك البتة، وإليك نماذج من التطبيقات لهذه العقيدة، وسنختار من الوقائع ما لا يختلف في دلالته على المقصود، وذلك في فروع: الفرع الأول ذكر رواية البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال الإِمام البخاري: باب ما كان يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد، وقال ابن عباس بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - دحية الكلبي بكتابه إلى عظيم بصرى أن يدفعه إلى قيصر. وروى بسنده قال: أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عتبة: "أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، يدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه ... " (¬1). ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 241، وفيه أن الذي أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عبد الله بن حذافة السهمي.

الفرع الثاني ذكر حديث معاذ كما رواه مسلم

فهؤلاء أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغون الناس التوحيد وهم أحاد، وتقوم ببلاغهم الحجة عليهم، ولو لم يفد ذلك لما أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يكون في إرسالهم حينئذ فائدة. فكل خبر استكمل شروط صحة الإِسناد مع السلامة من الشذوذ والعلة فهو حجة على الخلق بلا ريب، لا فرق في ذلك كما ترى بين خبر الأحاد وخبر غيرهم. الفرع الثاني ذكر حديث معاذ كما رواه مسلم روى الإِمام مسلم بسنده عن ابن عباس أن معاذًا قال بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" (¬1). وقد اشتمل هذا الحديث على بعض أصول الدين وفرائضه، فأصوله الشهادتان، وفرائضه الصلاة والزكاة، أما الشهادتان فهي عقيدة لا ينازع في ذلك منازع ولا تثبت إِلا بما يفيد العلم، وهذا الحديث الذي أثبتها وقامت به الحجة على أهل الكتاب إِنما هو خبر واحد، وأما الفرائض فهي من الدين بمنزلة عظيمة ولا تثبت إلا بما يفيد العلم، وهذا الحديث نفسه أثبتها وقامت به الحجة، فلو كانت الأدلة النقلية لا تفيد العلم ومنها خبر الواحد لما قامت الحجة على أهل اليمن والثابت أنها قامت عليهم بهذا الحديث وهو خبر واحد .. قال الإِمام الشافعي -رَحِمَهُ اللهُ-: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سراياه وعلى كل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي - 1/ 196 - 197 باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام.

سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحد ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره، وكذا كان الخلفاء بعده" (¬1) ويقصد الإِمام الشافعي بقوله إنفاذ أمره ما يشمل العلم والعمل، يدل على ذلك ما أشار إليه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث رسله إلى الملوك يبلغونهم التوحيد وهم آحاد. وفي هذا دلالة على أن الذين يفرقون بين العلم والعمل فيقولون خبر الواحد يثبت العمل ولا يثبت العلم يقعون في تناقض عجيب وهم لا يشعرون ذلك أن هذا الحديث -على سبيل المثال- تقوم به الحجة على أهل الكتاب من أهل اليمن، وهو مشتمل على الشهادتين وعلى فريضتين من فرائض الدين فإمّا يفيدنا العلم بما اشتمل عليه أو لا يفيدنا، فإن قالوا أفادنا العلم كفينا القول بالتفريق بين العلم والعمل، وإن قالوا لا يفيدهما فقد نفوا ما هو معلوم من إقامة الحجة على أهل الكتاب من أهل اليمن بخبر معاذ، وإن فرقوا فقالوا: لا يفيد العلم بالشهادتين -لأنها عقيدة- ويوجب العمل بالفريضتين تناقضوا واتبعوا مقالة لا نوافقهم عليها البتة ذلك أنه حديث واحد ثبت به مجموع الشهادتين والفريضتين وهما علم وعمل (¬2)، ولا سبيل إلى التفريق بين هذا المجموع لا بشرع ولا عقل. وبهذا نقطع بأن كل خبر عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تقوم به الحجة، ومجموع ذلك هو "الشريعة" لا فرق بين ما يسمونه اعتقادًا وما يسمون عملًا، قال الإِمام الشافعي في الرسالة: "الحجة في تثبيت خبر الواحد" وذكر أدلة كثيرة منها ما نحن بصدد الحديث عنه فقال: "وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن وأمره أن ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 241 وانظر الرسالة مسألة رقم 1151 وما بعدها. (¬2) وهذا الذي ذكرته هنا تنزل على مذهب الخصم، وإلا فقد أبنت سابقًا عن حقيقة الأحكام العملية أنها لا بد أن تكون علمية إذ العمل فرع عن العلم والاعتقاد كما صرح بذلك ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ-، انظر ما سبق ص 160.

يقاتل من أطاعه من عصاه (¬1)، ويعلمهم ما فرض الله عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ ومكانه منهم وصدقه. وكل من ولّي فقد أمره بأخذ ما أوجب الله على من ولاه عليه، ولم يكن لأحد عندنا في أحد ممن قدم عليه من أهل الصدق أن يقول: أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله يذكر أنه علينا، ولا أحسبه بعثهم مشهورين في النواحي التي بعثهم اليها بالصدق: إلا لما وصفت من أن تقوم بمثلهم الحجة على من بعثه إليه ... وبعث في دهر واحد اثني عشر رسولًا إلى إثني عشر ملكًا يدعوهم إلى الإِسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة فيها .. " (¬2). وقال: "وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث اليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله" (¬3). وهذه أخبار آحاد كما ترى قامت بها الحجة لا فرق بين ما هو من الأصول وما هو من الفروع. ومذهب الشافعي هذا لا يعلم له مخالف من السلف، وعليه الإِمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ-، قال أبو بكر الخلال في كتاب "السنة": "أخبرني علي بن عيسى أن حنبلًا حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تُروى "أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا" (¬4) و"أن الله يُري" (¬5) و"أن الله يضع ¬

_ (¬1) قال الأستاذ أحمد محمد شاكر هكذا في الأصل وهو صحيح "من أطاعه" فاعل "يقاتل" و"من عصاه" مفعول. الرسالة هامش المسألة رقم 1140. (¬2) الرسالة المسائل رقم 1140 - 1141 - 1144، 1148. (¬3) الرسالة مسألة رقم 1130. (¬4) الحديث من رواية أبي هريرة كما في البخاري - باب الدعاء والصلاة من آخر الليل 3/ 29، فتح الباري بشرح صحيح البخاري. (¬5) المصدر نفسه - باب قول الله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" 13/ 419 - 424.

قدمه" (¬1) وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله: نؤمن بها ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى -أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول معناها كذا (¬2)، ولا نرد منها شيئًا، ونعلم أن ماجاء به الرسول حق إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله ... " (¬3). وهذا النص يدل على عقيدة الإِمام أحمد في وجوب اعتقاد موجب خبر الأحاد وأن رد ذلك وعدم قبوله هو رد لقول الله سبحانه. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يزال يُلْقى فيها وتقول: "هل من مزيد حتى يضع فيها رب العالمين قدمه فينزوي بعضها إلى بعض ... " المصدر نفسه - كتاب التوحيد 13/ 369. (¬2) قصده -رَحِمَهُ اللهُ-: أن معناها معلوم، ولا يقول السلف كيف، ولا يحرفونها عن معناها إلى معنى آخر. (¬3) درء تعارض العقل والنقل 2/ 30 - 31، وألاحظ هنا أن شيخ الإِسلام لم يشر إلى الرواية الأخرى التي تقول أن الإِمام أحمد -رَحِمَهُ اللهُ- لا يرى إفادة أخبار الأحاد العلم، وسند هذه الرواية -والله أعلم- أن أحمد قال بأن أحاديث النزول تفيد العلم لأنها ثبتت من طرق كثيرة فهي في حكم المتواتر. وهذه وحدها لا تكفي في تقرير رواية تؤخذ عنه لأن المجتهد قد يجمع بين الأدلة ويصرح بأنها تفيد العلم -على مذهب الخصم- تقريرًا للحجة عليه وقطعًا للنزاع. وهي تفيده عنده أحادًا .. كما أن الحجة قامت برسول أو رسولين كما في سورة يس، ثم نصرهم الله بثالث لا لأن الأولين لا تقوم بهما الحجة وإنما زيادة تأكيد وإعذار، انظر الآيات من سورة يس: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} 13 - 14، والمعول عليه بعد ذلك هو ما نقل عنه من النص على عقيدته من مثل قوله -وقد سبق في المتن- ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كان بأسانيد صحاح .. ". وقد أثبت الأستاذ عبد الوهاب الشنقيطي في رسالته خبر الواحد وحجيته رسالة ماجستير رقم 58 بجامعة أم القرى، أن القاضي في الكفاية نصر رواية أحمد هذه وعليها جماعة من أصحابه وهو قول جمهور الحديث وجمهور أهل الظاهر، ونقله ابن القيم عن مالك والشافعي وأصحابه وأبي حنيفة وداود وأصحابه ونقله ابن خويز منداد عن مالك. انظر 129. وانظر المسودة في أصول الفقه لآل تيمية تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد 240، 242، 243 - 244.

الفرع الثالث ذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس - رضي الله عنهما -

الفرع الثالث ذكر روايتي البخاري عن البراء وأنس - رضي الله عنهما - روى البخاري بسنده "عن البراء، قال: لما قدم رسول الله - صلي الله عليه وسلم - المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أوسبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها} فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال هو يشهد أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر" (¬1). فصلاة هؤلاء القوم إلى بيت المقدس ثبتت بعلم استمر تطبيقه والعمل به هذه المدة المذكورة في الحديث، ثم جاءهم من العلم ما أوجب لهم اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وُجه إلى الكعبة، وهذا مقتضاه أن الأدلة الشرعية تفيد العلم، وهذا قبل نشوء مسلك أهل الأهواء الذين قالوا أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، ولا يثبت به العلم، قال الإِمام الشافعي: "وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها" (¬2) ولم يكونوا ليفعلوه إن شاء الله بخبر إلّا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله إذا كان من أهل الصدق، ولا لِيُحْدثوا أيضًا مثل هذا العظيم في دينهم إلّا عن علم بأن لهم أحداثه" (¬3). روى البخاري بسنده: "عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: "كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شرابًا من فضيخ وهو تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حُرّمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها قال أنس فقمت إلى مهراس لنا فضربتها ¬

_ (¬1) الرسالة مسألة 14 - 11. (¬2) الرسالة مسألة رقم 1114. (¬3) المصدر السابق رقم 1116 - 1117.

المطلب الرابع ذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم

بأسفله حتى انكسرت" (¬1). فترك هؤلاء الصحابة الخمر بخبر واحد، مع أنها كانت حلالًا لهم بيقين فترة طويلة من الزمن ولم يقل: "ولا واحد منهم نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة" (¬2) ولم يقولوا كيف نزيد على القرآن بخبر الواحد، كما أنهم لم يقولوا في تحولهم إلى الكعبة كيف نترك قبلتنا التي نصلي إليها هذه المدة الطويلة ونتبع هذه القبلة الجديدة بخبر واحد، لم يقولوا هذا ولا ذاك. وقد استمرت هذه العقيدة وهي اتباع ما ثبت من الوحي في جميع أمور الدين، وتمسّك بها التابعون وأئمة السلف لا يغيرون فيها شيئًا أسوة بالجيل القدوة جيل الصحابة - رضوان الله عليهم -، وسنذكر بمشيئة الله اتفاقهم كما نقله العلماء الثقات على ما بيناه وبالله التوفيق. المطلب الرابع ذكر اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك كما نقله الثقات من أهل العلم سنذكر في هذا المطلب ما يدل على أن الصحابة والتابعين على تلك العقيدة ولا يعلم منهم مخالف لذلك، قال الإِمام الشافعي: "ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته: جاز لي. ¬

_ (¬1) فتح الباري 13/ 232. (¬2) الرسالة رقم 1122، وهذا الذي قاله الإِمام الشافعي هو من السمات التي برزت في الجيل الأول وهي جدية الأخذ من الكتاب والسنة حتى وهم في حال الركوع أو في حال الشراب لا يتأخرون لحظة ولا يقدّمون عقولهم على أحكامهما ولا يتفلسفون على نصوصها، ومقاصدها كما صنعت الفرق ومن تأثر بهم من الأجيال المتأخرة فيضعون بين قلوبهم وبين مضمون النص حجبًا مكثفة من الشروط المحدثة حتى إذا وصل مضمونه إلى القلوب وصل اليها وهي فاترة متقلبة بين شتى الظنون والاحتمالات.

ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودًا على كلهم" (¬1). وسنعضد كلام الإِمام الشافعي بأكثر من طريق من ذلك: الأول: ما قاله أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب (¬2) وهو يتحدث عن حجية أخبار الرسول وأنها تفيد العلم. قال: " .. وصارت أخباره - عليه السلام - أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن خواسنا وصفات فعله وصار خيره - عليه السلام - عن ذلك سبيلًا إلى إدراكه وطريقًا إلى العلم بحقيقته وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام" (¬3). "فأخذ سلفنا رحمة الله عليهم ومن تبعهم من الخلف الصالح بعد ما عرفوه من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما دعاهم إليه من العلم بحدثهم ووجود المحدث لهم (¬4) بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة وطلب الحق في سائر ما دعوا إلى معرفتها منها، والعدول عن كل ما خالفها" (¬5). "فلما ¬

_ (¬1) الرسالة مسألة رقم 1248 - 1249، هكذا في الأصل "موجودًا على كلهم" والمعنى موجود عندهم. (¬2) سأعتمد على النسخة التي تضمن كتاب درء تعارض العقل والنقل نصوصًا. منها، وذلك لأنها حتى الآن تعتبر أوثق النسخ وأحسنها تحقيقًا، فهي نسخة محققة على خمس نسخ للجزء السابع من الكتاب المذكور، مقابلة جميع هذه النسخ على نسخة مصورة بمعهد المخطوطات وأخرى بمكتبة "روان كشك" باستانبول، وعلى النسخة المطبوعة، فهي رسالة محققة على ثمان نسخ قام بذلك الدكتور عمد رشاد سالم -رَحِمَهُ اللهُ-، انظر هامش كتاب درء تعارض العقل والنقل 7/ 186. (¬3) الدرء 7/ 209 وهؤلاء هم القائلون بأن الأدلة النقلية لا تفيد العلم، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله. (¬4) أي العلم بأنهم مخلوقون وأن لهم خالق هو الله سبحانه وتعالى. (¬5) المصدر السابق 7/ 212.

كان هذا واجبًا لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاحتياط في عدالة الرواة واجبًا عندهم ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين، ولذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - حرصًا على معرفة الحق من وجهه وطلبًا للأدلة الصحيحة فيه حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه وتسكن نفوسهم إلى ما يتدينون به ويفارقوا بذلك من ذمه الله في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك، ولما كلفهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذلك وجعل أخبار نبيه - صلى الله عليه وسلم - طريقًا إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره - عليه السلام - في سائر الأزمنة ومنع من تطرق الشبه عليها حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها أو تبديل معنى كلمة قالها إلا كشف الله تعالى ستره وأظهر في الأمة أمره حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي ومن قَدْ أُهّل لحفظ ذلك من حملة علمه - عليه السلام -، والمبلغين عنه، كما حفظ كتابه حتى لا يطيق أحد من أهل الزيف على تحريك حرف ساكن فيه أو تسكين حرف متحرك إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه مع اختلاف لغاتهم وتباين أوطانهم لما أراده الله -عَزَّ وَجَلَّ- من صحة الأداء عنه ووقوع التبليغ لما أتي به نبينا - عليه السلام - إلى من يأتي في آخر الزمان لانقطاع الرسل بعده (¬1) واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم حتى قد ظهر ذلك بينهم، وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه حجة على من تعبده بعد النبي - عليه السلام - بشريعته ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار وأكمل الله لجميعهم طرق الدين وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين ودل على ذلك بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). ¬

_ (¬1) قارن مع ما ذكرته من نصوص أهل العلم في معنى الحفظ وقد سبق ص 120 - 121 تجد كلامهم يؤكد بعضه بعضًا ويخرج من مشكاة واحدة. (¬2) المائدة: آية 3 الدرء 7/ 213 - 214 - 215.

ويفيدنا هذا النص الثمين مايلي: 1 - أن دلالة الأخبار تفيد العلم وهي أوضح مما يزعمه أهل البدع من أن المفيد للعلم هو النظر العقلي أما السمعيات فلا. 2 - أن هذا هو مذهب السلف ومن تبعهم من الخلف، ولذلك كانوا يحرصون على طلب الحديث، لأن هذه الأخبار هي التي تفيد اليقين في الاعتقاد وتثلج بها الصدور. 3 - أن أخباره محفوظة كما أن القرآن محفوظ، وما كان من الأخبار ليس بصحيح النسبة إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يمكن أن يجهله العلماء بل لا بد أن ينكشف زيفه. 4 - إنه بهذا -أي بدلالة الأخبار التي صحت نسبتها- تقوم الحجة على الناس إلى يوم القيامة في جميع أمور دينهم لا فرق بين العقيدة وغيرها، وأن ذلك يغنيهم عن غيرها من البراهين. الثاني: ما قاله ابن عساكر: قال ابن عساكر (¬1): "عن مسلك أهل الأهواء ومنهج أهل السنة وهو يشرح قول الإِمام الشافعي: قال: "وإنما يعني -والله أعلم- بقوله من ارتدى بالكلام لم يفلح، كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة وجعلوا معولهم عقولهم وأخذوا في تسوية الكتاب عليها، وحين حُملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقص أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها، فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالًا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل (¬2). ¬

_ (¬1) هو أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله بن عبد الله، وشهرته ابن عساكر (توفي 571 هـ). انظر شذرات الذهب 4/ 239 - 240، ومقدمة كتاب تبيين كذب المفتري - الناشر دار الكتاب العربي طبعة 1399 هـ. (¬2) تبيين كذب المفتري 345 وانظر الدرء 7/ 252 - 253.

وهذا النص يؤكد الذي قبله من أن مذهب أهل السنة أن الشريعة كتابًا وسنة تفيد العلم ولذلك بنوا أصولهم في الاعتقاد عليها متبعين في ذلك خبر الكتاب وخبر الرسول. الثالث: ما قال الإِمام ابن تيمية - جوابًا عن سؤال وجه إليه عن أخبار الآحاد (¬1) - قال: "وما زال العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم - رضي الله عنهم - أجمعين في خطابهم وكتابهم يحتجون بها في موارد الخلاف وغيره، بل إذا كان في الحديث وعيد كان ذلك أبلغ في اقتضاء التحريم على ما تعرفه القلوب وقد تقدم التنبيه على رجحان قول من يعمل بها في الحكم واعتقاد الوعيد، وأنه قول الجمهور وعلى هذا فلا يقبل سؤال يخالف الجماعة" (¬2). ويقصد بالجماعة جماعة الصحابة والتابعين، وتبعهم على ذلك جمهور العلماء، ومثله قول تلميذه الإِمام ابن القيم وقد نقلته عنه سابقًا، فها هنا إذن مرحلتان: الأولى ذكر اتفاق جماعة الصحابة والتابعين وهي القاعدة التي نبني عليها وقد توطدت أركانها بهذه النقول (¬3)، والمرحلة الثانية: اتباع جمهور العلماء لهم. ومن خلال مجموعة هذه النقول عن الأئمة الثقات العارفين بأصول العلم وفروعه المتثبتين في نقل الأخبار الغيورين على عقيدة الإِسلام، وبعد ذكر الأدلة من القرآن الكريم والسنة وعرض التطبيقات التي تدل على عقيدة الصحابة أستطيع أن أقول أن الشريعة الإِسلامية - وهي عبارة عن نصوص ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى الكبرى 20/ 286. (¬2) مجموع الفتاوى الكبرى 20/ 286. (¬3) انظر ما سبق ص 158 حيث نقل ابن القيم الإِجماع عن الصحابة والتابعين وسنؤكد ذلك عند الحديث عن نشأة القول بالظنية، وأنها صنيعة أهل الأهواء، وخلافهم كما هو معلوم غير معتبر، وقد خدعوا بشبههم بعض أهل السنة فجعلوهم يرددون مقالتهم، ولكن الجمهور كما نقلنا عن ابن تيمية آنفًا متبع لمذهب الصحابة والتابعين، وسنذكر أهم الشبه التي أدت إلى الانخداع بمقالة أهل الأهواء ونجيب عنها إن شاء الله.

المطلب الخامس ذكر أوصاف الشريعة

الكتاب والسنة - حجة على الخلق تثبت بها العقيدة كما تثبت بها الأحكام ابتداء أو تخصيصًا للعام .. كما يزاد بالسنة على ما في القرآن، كما قد مضت الإشارة اليه، وأن هذه هي عقيدة الجيل الأول جيل القدوة الذي هو خير القرون، ومن ئم فهي الفهم الصحيح لمنهج الاستدلال في الإِسلام، وما زال الحال على ذلك حتى بزغت الأهواء والبدع، وانتشرت المسالك المخالفة في الاستدلال، وقبل أن نتحدث عنها .. نذكر أهم أوصاف الشريعة. المطلب الخامس ذكر أوصاف الشريعة الفرع الأول أوصاف الشريعة كما بينها الشاطبي يحدثنا الإِمام الأصولي أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة التاسعة عن حقيقة العلم وهو القسم الأول فيقول: "القسم الأول هو الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب واليه تنتهي مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطعيًا أو راجعًا إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل ومتمم لأطرافها وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الحجر: آية 9. (¬2) 1/ 40 - 41 الموافقات.

وهذه طريقة جيدة في إثبات قطعية الشريعة ذكرها الشاطبي في أكثر من موضع، هذا أولها، وعرضها في الجزء الثالث، حيث قسم ما تشمله الشريعة إلى قسمين أصليين: الأول: أن يكون قطعيًا، والثاني أن يكون ظنيًا ويرجع إلى أصل قطعي ومثل له بحديث "لا ضرر ولا ضرار" (¬1) فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى فالضرر مبثوث منعه في الشريعة، وإذا اعتبرت أخبار الأحاد وجدتها كذلك، وهذا خلاف مقصد بعض الأصوليين حيث أقاموا الدليل القطعي على وجوب العمل بخبر الواحد، ومقصود الشاطبي أخص من مقصودهم إذ أنه يقرر أن الشريعة المباركة منها ما هو قطعي ومنها ما هو راجع إلى قطعي فهي قطعية على جمل حال، لأنها إن رجعت إلى قطعي فظاهر كونها قطعية وإن رجعت إلى ظني فإما أن يرجع الظن إلى قطعي أو إلى ظني، فإن رجع إلى قطعي فذاك، وإن لم يرجع إلى قطعي رجع إلى ظني أيضًا، وهذا إن رجع إلى قطعي فبها ونعمت وإن رجع إلى ظني وتسلسل فقد رجع إلى مطلق الظن وما هو حينئذ من الشريعة فمآل الأدلة إذن إلى القطعية (¬2). والعلم بالشريعة "مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها ... " (¬3) ثم يعرض الإِمام الشاطبي هذه الخواص الثلاث وهي: الخاصية الأولى - العموم والاطراد: بحيث لا يتصور الإِنسان حركة ولا سكونًا إلا والشريعة عليه حاكمة، وقد بينا ذلك فيما سبق بما فيه الكفاية (¬4). ولا يقال: إن في الشريعة أحكامًا خاصة مثل ضرب الدية على العاقلة (¬5) ¬

_ (¬1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي، المستدرك 2/ 57. (¬2) 3/ 9 - 10. (¬3) المصدر السابق 1/ 41. (¬4) انظر فصل الشمول ص 133. (¬5) انظر معناها فيما سبق ص 73.

والصاع في المصراة (¬1) وأشباه ذلك، لأن هذه الأحكام راجعة إلى حفظ الأصول الحاجية أو التحسينية أو التكميلية فما يُظن خاصًا في ظاهر الأمر هو في حقيقته عام (¬2) لأن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل هذا معنى كونها عامة، أي جاءت بأحكام تشمل جميع تصرفات المكلفين، ولا يعكر على هذا العموم أن ورد فيها بعض الأحكام الخاصة، لأنّ هذه الأحكام جاءت لحفظ الحاجيات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر. وكل ما سبقت الإشارة إليه من الأمثلة إنما جاء ليخدم الضروري الذي هو الأصل، فالشريعة إذا ترجع إلى حفظ مقاصد الخلق (¬3) وهذا معنى شمولها كما يقول الإِمام الشاطبي: "فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة أفرادًا وتركيبًا وهذا معنى كونها عامة" (¬4) فتصرفات الخلق وأحوال المجتمعات والجماعات إما أن تدخل تحت الضروريات أو الحاجيات والتحسينات، والشريعة جاءت بحفظ هذه المقاصد جميعًا. الخاصية الثانية - الثبوت من غير زوال: "فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا ولا تخصيصًا لعمومها ولا تقييدًا لإطلاقها ولا رفعًا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ¬

_ (¬1) المصراة هي الدابة إذا تركت حلبها، ويقال في ذلك صريتها تصرية - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 401. وفي البخاري من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصروا الإِبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر" انظر الفتح 4/ 361. (¬2) الموافقات 1/ 41. (¬3) المصدر السابق 2/ 4 - 5 - 6. (¬4) المصدر السابق 1/ 41.

الفرع الثاني اعتراض وجوابه

ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" (¬1) وهذا التقرير من الإِمام الشاطبي في غاية الإِحكام. الخاصية الثالثة - كونها حاكمة غير محكوم عليها: ومعنى ذلك أن الله أنزل هذه الشريعة لتحكم الناس جميعًا لا فرق بين كبير وصغير ولا تابع ومتبوع وفي جميع شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. وعليهم أن يخضعوا لأحكامها بقلوبهم وعقولهم وجوارحهم (¬2)، وقد ذكرت قول الإِمام الشاطبي في التمهيد كما ذكرت أقوال أئمة السلف رحمهم الله جميعًا، وفي هذا الموضع يتبين لنا بعد أن عرضت مذهب الصحابة والتابعين وأئمة السلف من بعدهم مستدلين بالواقع العملي للنبي القدوة - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من الوحي على أن هذه الشريعة جاءت لتكون هي الحجة على الخلق في الاعتقاد وسائر الأحكام، وأن الأدلة النقلية الثابتة تقوى على إقامة هذه الحجة على ما بيناه فيما سبق، وأجيب عن اعتراض يمكن يرد على ذهن القارئ ونحتاج إلى الجواب عنه في هذا الموضع ثم نجيب عن الاعتراضات الأخرى عند - عرض مسلك المضعفين للأدلة النقلية - إن شاء الله تعالى. الفرع الثاني اعتراض وجوابه حاصل هذا الاعتراض أن من الأدلة الثابتة في هذه الشريعة ما يتردد المجتهد في معرفة دلالته، إما لكون اللفظ مشتركًا أو لأسباب أخرى وهذا يعكر على القول بأن الأدلة النقلية تفيد الحجة وتقوى على إثبات أمور الدين عقيدة وأحكامًا. والجواب من أربعة أوجه: الأول: أن ما كان ظني الدلالة مستند ولا بد إلى قطعي فمآله إلى القطعية فالشريعة قطعية وذلك هو تقرير الإِمام الشاطبي. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 1/ 41. (¬2) انظر الموافقات 1/ 41 - 42.

الثاني: أن الشريعة في نفسها تفيد العلم بصرف النظر عن إدراك المجتهد لذلك أو تردده فيه، كما نقول عنها أنها ثابتة ومعصومة من أن يضيع من أحكامها شيء أو يفوت، ولا يلزم من ذلك أن يعلم المجتهد جميع نصوصها (¬1). الثالث: أنا لو سلمنا أن الشارع وضع بعض نصوصه محتملة لمعاني متعددة لمصلحة العباد (¬2) وذلك يقتضي تردد المجتهد في تعيين المقصود منها وهذا ينافي القول بأن الشريعة تفيد العلم. فالجواب أن ذلك لا ينافي إفادة الشريعة العلم تمامًا كما نقول أن "الشريعة محكمة" مع أن "المتشابه" موجود فيها، فكما لا يمنع وجود المتشابه إطلاق لفظ "الإِحكام" على الشريعة فكذلك لا يمنع وجود الظواهر المحتملة القول بأن "الشريعة تفيد العلم". وسواء قلت أن الشريعة قطعية كما قال الشاطبي، أو قلت أنها تفيد العلم -بالشرط المذكور- كما قال أئمة السلف، سواء قلت هذا أو ذاك، فإن الذي أقصد إلى تقريره في هذا المبحث قد اتضح -والحمد لله- ألا وهو قوة الأدلة النقلية على إثبات الحجة على الخلق في العقيدة وسائر الأحكام، وبهذا نستفيد من نصوص الشريعة كتابًا وسنة دون أن نفرق بينها أو نضعف نوعًا منها، وهذا من أهم قواعد الثبات والشمول، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الحديث عن طرق الاجتهاد إن شاء الله. * * * ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 70 - 71. (¬2) كان يقال أن النص يشتمل على معان كثيرة تحكم على أحوال وأوضاع كثيرة بحيث يجد المجتهد حكمًا لكل حال ووضع من خلال هذا النص، وقد تقدم الجواب عنه بالطريقة السابقة، وهناك طريقة أخرى وهي أن كثرة تلك المعاني تصير بعد الاجتهاد إلى معنى واحد يعلمه المجتهد فمآل الأمر في النهاية إلى أنه يقطع بتحديد معنى واحد فيعلمه، وهذا يؤكد أن الشريعة تفيد العلم في نفسها وعند المجتهد أيضًا، والعلم كما سبق وأن بينا يشمل اليقين واعتقاد الرجحان، فسواء علمه علم يقين أو علمه علم رجحان، كل ذلك يشمله اسم العلم على أن غيره يمكن أن يدركه على سبيل اليقين.

المبحث الثاني نشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية

المبحث الثاني نشأة القول بتضعيف الأدلة النقلية توطئة: إن تحديد نشأة هذه المقالة ضرورة علمية ذلك لما قد تبين أن من الحق الذي لا ريب فيه كون الأدلة النقلية تفيد العلم، وعلى ذلك اتفاق السلف من الصحابة والتابعين، فمن أين إذًا جاءت تلك المقالة. أمر آخر ضروري جدًا ذلك أن معالجة هذه المقالة تبدو للباحث كأنها عسيرة لكثرة انتشار هذه المقالة في كتب الأصول وغيرها. ومما يساعد على الوصول إلى نتيجة مرضية تسهّل على كثير من الباحثين مراجعة صحة هذه المقالة أن نحدد نشأتها (¬1)، ذلك أن اعتبار الشريعة لأمر من الأمور يلاحظ فيه شأن من تكلم فيه وأظهره، فظهور السنة على يد مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة يسهّل على النفس قبولها مهما عارضتها العوارض ووقفت في وجهها العوائق، ونشأة أمر حادث معارض للسنة على أيدي أهل الأهواء والزنادقة والفلاسفة المنكرين للرسل والرسالات يهوّن على النفس رفضه مهما خُدعت به الأقلام وإن عظمت، وسارت به الكتب في الآفاق وإن كثُرت، ومن جهة أخرى يهوّن على ¬

_ (¬1) ويختص البحث هنا بتحقيق هذه المسألة لتقوية الأدلة وإبعاد شبهة الظنية عنها وإعمالها بدون أن نشترط شروطًا زائدة على صحة السند وسلامته من الشذوذ والعلة، ويكفينا في ثبوت الدليل الشرعي تلقي الأمة له بالقبول لنحتج به ونقويه، أما تتبع الآثار التي ترتبت على القول بظنية أدلة الكتاب والسنة فهذا يحتاج إلى رسائل أخرى متخصصة وإن مد الله في الأجل حاولت قدر جهدي تتبع آثارها في أصول الفقه إن شاء الله.

المطلب الأول حقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها

الباحث إظهار زيف هذا الأمر فيوفّر جهده حينئذ على بيان الأسباب التي ساعدت على انتشاره لأن معرفتها معينة على التخلص من آثاره. وأمر ثالث ضروري أيضًا ألا وهو إدراك الفائدة العلمية على صورة أوسع وأشمل فإن تحديد النشأة يجمع لنا أطراف القضية ويعطينا حجمها الحقيقي، بخلاف ما لو أُخذت من طرفها الأخير فإن ذلك لا يمكن تحقيقه، أضف إلى ذلك إدراك الروافد الفكرية التي غذّت هذه المقالة. وفي الصفحات القادمة أعرض -ما تمكنت من تتبعه- لتحديد حجم تلك المقالة ونشأتها وأسباب انتشارها وما توفيقي إلّا بالله. المطلب الأول حقيقة هذه المقالة وموقف الخوارج والمرجئة منها إن القول بالظنية يشمل الأدلة النقلية من الكتاب والسنة، وقد انتشرت هذه المقالة انتشارًا واسعًا في أكثر كتب العقيدة وأصول الفقه (¬1)، ويدخل فيها القول بظنية الأدلة القرآنية والسنة النبوية ما كان منها متواترًا وما كان منها آحادًا. ولقد تم نقل الاتفاق من الصحابة والتابعين على أن الأدلة النقلية تفيد العلم ونتتبع الآن نشاة الأهواء لنتعرف على يد من نشأت تلك المقالة - ونتجاوز فرقة الخوارج (¬2) لما ثبت بالأدلة التاريخية المعلومة أن الخوارج أول ما نشأت كانت ¬

_ (¬1) على تفاوت فيما بينها فمنهم من يرى أن الأدلة النقلية مطلقًا تفيد الظن ولا تفيد العلم، ومنهم من يرى أن عدم إفادتها للعلم مقصور على العقليات هذا من حيث الدلالة، ومهم من يرى أن المتواتر يفيد العلم دون الآحاد. (¬2) الخوارج هم الذين خرجوا على الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعد التحكيم، ومن أصول مذهبهم تكفير مرتكب الكبيرة - وإن لم يستحلها وقتال الأئمة على ذلك، والتبرؤ من عثمان وعلي وأصحاب الجمل، وفرقهم كثيرة ومختلفة، واشتهروا بالجهل بمقاصد الشريعة والشدة والجفاء والتعلق بالنظر الأول بغير تدبر ولا تعقل، انظر مقالات الإِسلاميين لأبي الحسن الأشعري 167 - 168 وما بعدها وأشار المؤلف 168 أن "النجدات" وهي فرقة من فرقهم لا ترى أن كل كبيرة كفر. بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد الطبعة الثانية 1389 هـ مكتبة النهضة المصرية. وانظر كتاب الاعتصام 2/ 206 - 220.

في شغل شاغل بالتكفير والقتال (¬1) فلم يكن عندهم من الوقت ما يمكنهم من الاشتغال بالفلسفة، وطبيعتهم الخاصة لا تساعدهم على ذلك، فهم كما ثبت في الحديث: "يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم" (¬2)، وفي هذا إشارة إلى عدم اشتغالهم بالتفكر والتدبر في المعاني الشرعية التي هي قاعدة المنهج الصحيح فإذْ لم يفعلوا ذلك وبعدوا عنه فهم إذًا أشد بعدًا عن النظر الفلسفي، لأن الطريقة الشرعية في التدبر والتفكر سهلة ميسرة، وتقرير مسائل العلم ميسر أيضًا لمن صبر على التعلم والتفقه .. أما مسالك النظر الفلسفي فعلى الضد من ذلك، وكان من صفاتهم بعد ذلك التعلق بالنظر الأول عند تقرير مسائل الدين وعند الحكم على الأحداث والوقائع (¬3). وذلك هو السبب الأول الذي حملهم على تأسيس قواعد منحرفة، ثم البناء عليها فلم يمكنهم بعد ذلك التصحيح لتزيدهم في الغلو. ومنها: أنهم أصحاب عبادة وتزهد وعمل دائب لا ينقطع وشدة تفان في نصرة مذهبهم يحقر المحسن عمله مع عملهم (¬4) وهذا مانع آخر من انشغالهم بالفكر الفلسفي (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المصدرين السابقين. (¬2) الحديث أخرجه البخاري من رواية أبي سعيد الخدري قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية .. " فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12/ 283. (¬3) الاعتصام 2/ 199 - الموافقات 4/ 117. (¬4) كما في حديث أبي سعيد الخدري الذي مر تخريجه آنفًا. (¬5) ذلك أن الفكر الفلسفي يجهد الإِنسان من الناحية العقلية، ويوهمه أنه يحقق ذاته من هذه الناحية فتضعف طاقته البدنية والنفسية عن العمل، وعلى الضد من ذلك طبيعة الخوارج فإنهم - مع كونهم أهل عبادة .. - أغرقوا في التكفير حتى جعلوه محور عقيدتهم وتفكيرهم وأغرقوا أيضًا في القتال -أي بلغوا الغاية فيه، وهذا حال بينهم وبين التدبر والتعقل في إدراك علم الكتاب والسنة ومقاصدهما والتربية على معهود السلف الأول من الصحابة والتابعين وحال بينهم وبين الفلسفة العقلية - كما صنعت المعتزلة - إلا أنه =

بقي أن نفسر مسلكهم في رد السنة ونختار تحليل ابن تيمية لهذا المسلك وذلك قوله بأن الخوارج إنما ردت السنة لأنها تطعن في السند وهم الصحابة - رضوان الله عليهم - (¬1). وإلّا فإنهم يقبلون خبر الواحد العدل عندهم (¬2). ولهذا كله سأعتبر مسلك الخوارج مساعدًا على انتشار تلك المقالة، أما أنها نشأت عندهم فذلك لا أملك عليه دليلًا، وإليك تحليل شيخ الإِسلام لننتقل بعده إلى مرحلة أخرى. يقول -رَحِمَهُ اللهُ- (¬3): "ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة (¬4) حدثوا في آخر خلافة ¬

_ = لم يستمر طويلًا إذ سرعان ما خف أثر ذلك المانع - لأن النفس لا تطيق الصبر على هذا المسلك - فاحتاج الخوارج إلى الجواب عن اعتراضات كثيرة ترد عليهم - كانوا يردون عليها بالرفض النفسي المطلق أول الأمر - ثم احتاجوا أن يردوا عليها بالعلم فكان أن اتجهوا صوب المعتزلة فتعلموا حينئذ من فلسفتهم وقالوا ببعض عقائدهم وهنا يمكن أن نقول أن طبيعتهم قربت من طبيعة المعتزلة وكان يمكن أن يرجعوا إلى طبيعة السلف الأول لو أخلصوا دينهم لله، ولكنهم قطعوا صلتهم بجماعة الصحابة لما لم يصنعوا ذلك، وما قلته في المتن إنما هو عن أول نشأتهم لا عن ما آل إليه أمرهم. وانظر في اتباعهم بعض عقائد المعتزلة - مقالات الإسلاميين 1/ 203 - 204. (¬1) وأقول هنا أن ذلك هو صنيع أئمة المعتزلة كما سيأتي بيانه في تراجمهم، وكان يكفيهم أن يسلكوا مسلك الخوارج في رد السنة، ولكن المعتزلة بتأثير الفلسفة اليونانية تجاوزت رد السنة إلى ترك دلالة القرآن باعتبار أنها ظنية، وهنا لا يمكنها الاقتصار على مسلك الخوارج، فلا بد من إضافة بدعة أخرى تمكنهم من نصرة مذهبهم وهي قولهم بانتفاء المعارض العقلي عن النص كتابًا وسنة حتى يمكن أن يفيد العلم وسيأتي بيان ذلك والجواب عنه. (¬2) انظر درء تعارض العقل والنقل 5/ 244. (¬3) المصدر السابق 5/ 244. وهذا بخلاف المعتزلة - وسيأتي بيان شكهم في الأخبار مطلقًا ... (¬4) الشيعة فرق كثيرة: وقد قدموا عليًا على صائر الصحابة ثم انقسموا إلى فرق كثيرة الغلاة منها خمس عشرة فرقة. انظر مقالات الإِسلاميين 1/ 65 وما بعدها، وعد الشاطبي الغلاة ثمانية عشرة فرقة. انظر الاعتصام 2/ 219.

علي (- رضي الله عنه -) والمرجئة (¬1) والقدرية (¬2) حدثوا في أواخر عصر الصحابة وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص وششدلون بها على قولهم، لا يدّعون أنهم (¬3) عندهم عقليات تعارض النصوص (¬4). ¬

_ (¬1) المرجئة هم قوم يؤخرون العمل عن الإِيمان، وأكثر اختلافهم في الإِيمان - انظر فرقهم في مقالات الإسلاميين، وقد ذكر الأشعري الفرقة الأولى أنها تزعم "أن الإِيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ماجاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لها والخوف منه والعمل بالجوارح فليس بإيمان". 1/ 213 - 214 وما بعدها. الاعتصام 2/ 220. (¬2) القدرية هم الذين يقولون إن المعاصي خارجة عن مشيئة الله سبحانه: "قال جماعة من العلماء أصول البدع أربعة .. وهم الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة" الاعتصام 2/ 220 وانظر فرقهم في مقالات الإِسلاميين 1/ 235 وما بعدها، وبدعة القدر هي أصل بدع المعتزلة وعليها تفرعت أهواؤهم. انظر عقيدة إمامهم في شرح العقيدة الطحاوية للقاضي علي بن علي بن أبي العز الدمشقي 252 - تحقيق بشير محمد عون - الناشر مكتبة دار البيان دمشق الطبعة الأولى 1405، والاعتصام 2/ 220 - 221. (¬3) الصحيح "أن" بدل "أنهم" ولعله خطأ من الناسخ. (¬4) ولم يثبت عن أحد من أئمة السلف أنه عارض النصوص لا القرآنية ولا ما ورد في السنة المتواترة أو الأحادية بعقله ورأيه، بل كانوا يعملون بها متواترة وآحادًا ويسلّمون لحكمها ولا يشترطون للحديث أكثر من صحة سنده وسلامته من الشذوذ والعلة ليحتجوا به في أمر الدين وليُثبتوا به الأحكام الشرعية ولا يقولون هذا ظني أو هذا يشترط أن نجده في القرآن ولا يُزاد به عليه إن لم يوجد فيه، بل غاية ما وقع منهم هو ترك العمل ببعض الأحاديث إما لعدم صحة سند الحديث أو لعدم سلامته من الشذوذ والعلة، وهذا أمر طبيعي لأن ما لم يثبت لا يحتج به، وكل ما نقل عن مالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة رحمهم الله لا يعدو هذا الذي ذكرته هنا، انظر المواففات 3/ 11 - 12، وقد يخطئ المجتهد في اعتقاده الشذوذ في الخبر كما يخطئ في تصحيح سنده أو تضعيفه وهذا يمكن بيان الصواب فيه عن طريق عملية الاجتهاد ولا نعصم ولا نؤثم، كما قال شيخ الإِسلام. انظر مجموع الفتاوى 20/ 288 - 289 - 290.

ولكن لما حدثت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين في الأمة، وأولهم (¬1) الجعد بن درهم" (¬2). وعلى هذا الأساس يمكننا الانتقال إلى النظر في أقوال الجهمية من المعتزلة متتبعين أقوال بعض أئمة الاعتزال المشهورين وهم واصل بن عطاء (¬3) وأبو الهذيل العلاف (¬4) والنظام (¬5). ¬

_ (¬1) وهذا النص في معنى الاتفاق السابق المفيد أن الصحابة والتابعين ما كان أحد منهم يقول بأن الشريعة ظنية، بل إن جميع الفرق قبل نشأة المعتزلة يستدلون بالنصوص كل على مذهبه باعتبار أنها تفيد العلم ... (¬2) هو الجعد بن درهم من الموالي، أظهر القول بخلق القرآن وكان قدريًا قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة سنة 118، وهو شيخ الجهم بن صفوان وهذا من الموالي أيضًا، وهو من نفاة الصفات ومؤسسي الجهمية وهم أتباعه وتارة تطلق على نفاة الصفات مطلقًا. انظر ميزان الاعتدال: 1/ 185 - 197، وانظر تبرأ الصحابة منهم - الفرق بين الفرق 15، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 620 - 621 - 622 - 623. (¬3) هو مؤسس مذهب المعتزلة ولد بالمدينة سنة 80 هـ ونشأ بالبصرة وهو الذي نشر مذهب المعتزلة في الآفاق حيث أرسل أصحابه لذلك، وسموا معتزلة لاعتزالهم حلقة الحسن البصري. انظر الفرق بين الفرق للبغدادي - الطبعة الأولى - دار الآفاق بيروت 98 - 99 - 100 - 102، وانظر سير أعلام النبلاء 5/ 464 - 465. (¬4) هو أبو الهذيل محمد بن الهذيل البصري المشهور بالعلاف يعد من أئمة المعتزلة والمقرر لطريقتهم ولد بالبصرة سنة 135 هـ، يقول عنه ابن قتيبة: "ثم نصير إلى قول أبي الهذيل العلّاف فنجده كذابًا أفاكًا" توفي 226 وقيل 235، انظر الفرق بين الفرق 102 وما بعدها، وسير أعلام النبلاء 10/ 542 - 543، وتأويل مختلف الحديث 43 تصحيح محمد مهدي النجار دار الجيل 1393 هـ. (¬5) هو إبراهيم بن سيار بن هانيء يعرف بالنظام توفي 231 وقيل 221 هـ، يعد أعظم شيوخ المعتزلة وهو زنديق طاعن في الصحابة منكر للقياس والإِجماع يقول عنه الجويني في البرهان بعد أن نقل طعنه في الصحابة وإنكاره الإِجماع والقياس قال: "وما ذكره النظام كفر وزندقة ومحاولة استئصال قاعدة الشرع ... " البرهان 2/ 761 - 763. ويقول عنه ابن قتيبة وقد: "وجدنا النظام شاطرًا من الشطار يغدو على سكر ويروح على =

المطلب الثاني نشأة هذه المقالة على يد المعتزلة

المطلب الثاني نشأة هذه المقالة على يد المعتزلة الفرع الأول مقالة واصل بن عطاء رأس المعتزلة (80 - 151) قال: "إنّ كل خبر لا يمكن فيه التواطؤ والتراسل والاتفاق على غير (¬1) التواطؤ فهو حجة، وما يصح ذلك فيه فهو مطرح" (¬2) وهذا النص نقلته على هذا النحو من مصدره، ومعناه أن كل خبر -وإن كان خبر الرسول- لا يمكن - والمقصود الِإمكان العقلي - أن يتم عليه الاتفاق على التراسل والتواطؤ من ناقليه فهو حجة، وما أمكن فيه ذلك فهو مطرح أي ليس بحجة. ¬

_ = سكر ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات" وله شعر قبح. انظر 17 - 18 - 19 - 20 تأويل مختلف الحديث، وقال البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق منشورات دار الآفاق الجديدة الطبعة الأولى بيوت. قال عن النظام: "وأما كتب أهل السنة والجماعة في تكفيره فالله يحصيها" 115 ثم ذكر فضائحه من ص 115 - 136، وأما طعنه في الشريعة وحملتها ومحاولة استئصال قاعدتها كما قال الجويني فحدث ولا حرج وانظر الفرق بين الفرق 114، 129، 133 - 136. (¬1) في الأصل "عير" بالعين المهملة، ولا يصح الكلام إلا بدونها ولعلها زائدة من الناسخ. (¬2) وهناك نص آخر نقله الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في كتابه "الفكر الأصولي" ص 51 عن أبي هلال العسكري من كتابه "الأوائل" وفيه "أن واصلًا أول من قال: الحق يعرف من وجوه أربعة كتاب ناطق وخبر مجتمع عليه وحجة عقل وإجماع، وأول من علم الناس كيف مجيء الأخبار وصحتها وفسادها ... " وقد اخترت النص السابق دون هذا لأمرين: أ - أنه نص أوثق من هذا لأنه شهادة معتزلي على معتزلي في مشهد الافتخار. ب - أنه أخص من نقل أبي هلال ذلك أن فيه بيانًا وشرحًا لما قاله عن رئيس المعتزلة واصل بن عطاء: "أنه أول من علم الناس كيفية مجيئ الأخبار وصحتها وفسادها" فإذا سأل سائل كيف علم الناس كان الجواب في النص الذي نقلته عن القاضي عبد الجبار، فهو إذًا نقل أثبت وأخص. انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 234 للقاضي عبد الجبار بن أحمد، الدار التونسية للنشر.

والنص ظاهر الدلالة على أن اعتبار حجة الخبر إنما يكون في حالة دون حالة ولا عبرة بصحة السند وعدالة رواته وحفظهم وضبطهم فإن ذلك وحده لا يكفي (¬1)، بل لا بد من الاستناد إلى حجة العقل وهي إثبات عدم إمكان التوافق والتراسل وذلك إنما يكون في بعض الأخبار، وحينئذ تثبت بها الحجة، أما النوع الثاني فلا تثبت به. ونلاحظ هنا أنه لم يستعمل اصطلاح المتواتر والأحاد بما يشعر بأنه لم يكن معروفًا حينذاك، وتفيدنا هذه الملاحظة هنا أن رفع الحجية عن الخبر لا يقتصر على الأحاد بالاصطلاح المتأخر بل هو أوسع من ذلك، يدل عليه قوله: "إن كل خبر لا يمكن فيه التواطؤ فهو حجة" وخبر الواحد أو الجماعة التي تزيد عن الواحد يمكن فيه التواطؤ وحينئذ ترتفع عنه الحجية، ولذلك نجد المتكلمين تواضعوا - كما يقول القاضي ابن الباقلاني: "على تسمية كل خبر قصر عن إيجاب العلم بأنه خبر واحد، وسواء عندهم رواه الواحد أو الجماعة التي تزيد عن الواحد" (¬2). ولنا أن نلاحظ أيضًا أن قوله: "وما أمكن فيه ذلك فهو مطّرح" أن الاطراح يشمل عدم إفادته العلم والعمل معًا، لأنه لم يفرق في النص المذكور بينها، ولو كان يفيد العمل لما طرحه مطلقًا. والحاصل أن هذا يعتبر من أول نصوص أهل الأهواء من ناحية اشتراط الإمكان وعدمه في صحة الخبر وحجيته، ونستفيد منه على وجه التحديد الأمور التالية: 1 - أن الاتجاه العقلي بدأ يتحكم في الأخبار الشرعية عند إمام المعتزلة. 2 - أن النتيجة المترتبة على ذلك هو اطّراح جميع الأخبار ما لم يقرر ¬

_ (¬1) وسلامته من معارضة ما هو أصح منه، كما كان الحال عند السلف الأول من الصحابة والتابعين. (¬2) كتاب التمهيد ص 386 للقاضي أبي بكر بن الباقلاني - المكتبة الشرقية - بيروت 1957 م، جامعة الحكمة ببغداد.

الفرع الثاني تطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف (توفي سنة 232 هـ)

العقل عدم إمكان التواطؤ والتراسل .. يستوي رد خبر الواحد أو أكثر من الواحد، ويستوي عدم إفادتها للعلم والعمل أيضًا. 3 - أن الأصول الأولى في بناء فكر المعتزلة قامت على هذا الأساس. الفرع الثاني تطور فكر المعتزلة على يد أبي الهذيل العلاف (توفي سنة 232 هـ) ويعتبر أبو الهذيل -كما سبق من ترجمته- المناظر والمقرر لطريقة شيوخه في الاعتزال، وهو الأداة التي تم عن طريقها ربط الفكر المعتزلي بالفكر الفلسفي. وإليك ما يثبت هذه القضية من الأدلة المنقولة عن كتب المعتزلة: (أ) أنه أول معتزلي استفاد من الكتب التي ترجمت أفكار الفلاسفة والتي تُرجمت في عهد المأمون سنة 218 ونقل آثارها إلى الإِسلام وخلط كلامه بها ونثبت هذا بطريقين: الأول: شهادة النظام وهو تلميذ من تلامذة أبي الهذيل، وقد نقلها القاضي عبد الجبار، وحاصلها أن النظام نظر في كتب الفلسفة ودقيق الكلام ثم علم أن أبا الهذيل شيخه يجمع ذلك كله وأكثر منه، بل إن النظام - مع أنه من أكبر أنصار عقيدة المعتزلة - يعتبر من غلمان أبي الهذيل (¬1). الثاني: قول الشهرستاني في الملل والنحل حيث ذكر أنه أول من استفاد من كتب الفلاسفة التي تُرجمت وخلط كلامه بها (¬2). (ب) أنه دعم مقالة مؤسس فرقتهم وطورهما حيث جعل الرواية للأخبار ريبة، وجعل الحق في اتباع المقاييس (¬3)، وهو أول من قال بوجوب النظر (¬4). ¬

_ (¬1) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 261. (¬2) الملل والنحل للشهرستاني 1/ 60. (¬3) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 259. (¬4) المصدر السابق 261 والمقصود منه وجوب معرفة الله بالعقل حسب طريقة الفلاسفة.

الفرع الثالث تطورها مرة أخرى على يد النظام

وبذلك نستطيع أن نقرر هنا. أن مقالة واصل بن عطاء تطورت على يد أبي الهذيل لتصبح الحجة فقط في اتباع المقاييس العقلية، وهنا التقى فكر المعتزلة بفكر الفلاسفة. ولا يعكّر على هذا التقرير القول بأن أبا الهذيل اشترط للمتواتر شروطًا ليحتج به، وهذا يفيد أنه لا يعتمد على المقاييس العقلية فقط، ذلك لأن شروطه من أعجب الشروط ولا تدل بحال على أنه يسلّم بحجية الأخبار ويكفي أن نعلم أنه يشترط لحجية الخبر أن يكون متواترًا وأن يكون أحد رواته من أهل الجنة (¬1)، وهذا يدل على تلاعبه وعبثه، ويؤكد اعتقاده الخبيث: "من أن الرواية ريبة والحجة في المقاييس". الفرع الثالث تطورها مرة أخرى على يد النظام وإذا صرنا إلى "النظام" نجده قد حفظ كتاب "أرسطاطليس" في الفلسفة والمنطق (¬2)، وقد قال عنه تلميذه الجاحظ ما رأيت أعلم بالكلام من النظام (¬3)، وقد شهد النظام على نفسه بذلك (¬4). وكان من ثمرة ذلك كله أن قَوي اتجاه فكر المعتزلة نحو فكر الفلاسفة واشتد تمسكهم بمنهجهم العقلي الذي أخذ في التولي عن الأدلة النقلية رويدًا رويدًا حتى بلغ القمة على يدي النظام، فبقدر ما يقربون من الفكر الفلسفي المترجم بقدر ما يبعدون عن الأدلة النقلية، فلما تعانق الفكر المعتزلي والفلسفي ¬

_ (¬1) انظر الفرق بين الفرق الفضيحة السادسة 109 قال البغدادي (ما أراد أبو الهذيل باعتباره عشرين في الحجة من جهة الخبر إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الأخبار في الأحكام الشرعية عن فوائدها .. " 110 ولعل القارئ يلحظ في هذا الموضع خطورة هذه المقالة على العقيدة والشريعة معًا. (¬2) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 264. (¬3) المصدر نفسه 264. (¬4) المصدر نفسه 258.

على يد النظام استوت مقالة واصل بن عطاء على سوقها بعد أن اشتد عودها على يد أبي الهذيل لتعجب الفلاسفة وتغيظ أهل السنة، فكانت مقالة النظام إن الحجة العقلية قادرة على نسخ الأخبار (¬1)، وتجاوز النظام بقوله هذا قول صاحبيه من قبل واصل بن عطاء وأبي الهذيل وتمت مقالة المعتزلة على ثلاث مراحل: الأولى: إطراح جميع الأخبار ما لم يتقرر عدم إمكان التواطؤ. الثانية: الأخبار ريبة والحجة في المقاييس. الثالثة: الحجة العقلية قد تنسخ الأخبار (¬2). وننتقل بعد ذلك إلى آخر مقررات المعتزلة لنرى حصاد الفكر الفلسفي المعتزلي، ولنزداد يقينًا بهذا الذي تقرر لنا من خلال تحليل نصوص أئمة المعتزلة. قال القاضي عبد الجبار المعتزلي، تحت عنوان: "بيان ما يجوز أن يدل عليه الخطاب وسائر الأدلة السمعية" وأجاب عن اعتراض وُجّه إليه حاصله: أن الخطاب يدل كدلالة الخبر فإن لم تسلموا بذلك لزمكم القول بأن ما فى القرآن لا يدل على عقيدتكم .. ولا يجوز لكم الاحتجاج به. فأجاب بقوله: "ليس بصحيح الاحتجاج بذلك في إثبات التوحيد والعدل وإنما نورده لنبين خروج المخالفين عن التمسك بالقرآن مع زعمهم أنهم أشد ¬

_ (¬1) تأويل مختلف الحديث 43. (¬2) وقارن بين قول النظام وقول أبي الهذيل لتدرك أن النتيجة النهائية هي تضعيف الأدلة ووصفها بعدم إفادة العلم، وهذا الباطل قد خدعوا به أناسًا كثيرين حتى انتشر في الكتب وكأنه مسلمة من المسلمات وهو بدعة خبيثة ودسيسة من دسائس المعتزلة، ولو أمكنهم توزيع أشنع من ذلك داخل الأمة لفعلوا، وانظر الفرق بين الفرق لتعلم أن النظام يشك في الأخبار مطلقًا ولا يرى ثبوت شيء عن طريق الخبر 125، وهي مقالة أبي الهذيل الأخبار ريبة والحجة في المقاييس.

تمسكًا به، ونبين أن القرآن كالعقل في أنه يدل على ما نقول وإن كان دلالته على طريق التأكيد" (¬1). وقارن إن شئت بين محصلة قول أبي الهذيل الأخبار ريبة والحجة في المقاييس وبين قول متأخريهم، "ليس بصحيح الاحتجاج بذلك (أي بما في القرآن من الأخبار) في إثبات التوحيد". وبعد تحليل نصوص أئمة الاعتزال الثلاثة يتبين لنا على وجه القطع أنهم لا يرون الحجة في اتباع الأخبار إلا بشروط عجيبة غريبة تدل بذاتها على عدم إثبات الحجة للأخبار الشرعية، ثم استقر الأمر عند المعتزلة على أن الحجة تعرف بالنظر العقلي وأن "الشريعة" قرآنًا وسنة لا يصح الاحتجاج بها على إفادة العلم، ومن خلال هذه الدراسة نبين بوضوح أن القول بتضعيف الأدلة النقلية نشأ على يد أئمة المعتزلة واصل بن عطاء، وأبي الهذيل والنظام، وهم كما تبين من تراجمهم سابقًا ما بين مبتدع هالك، وكذاب أفاك، وزنديق متستر ثم إن فكر الفلاسفة شجع المعتزلة على التمسك بالأهواء ومخالفة أهل السنة (¬2)، وقد استخدمه النظام وشيخه في إسقاط الحجة عن الأخبار الشرعية، وحاصل ما نقرره في المبحثين السابقين ما يلي: ¬

_ (¬1) المغنى في أبواب التوحيد والعدل 17/ 94 أملاه القاضي عبد الجبار الاسترابادي 415 هـ حرر نصه أمين الخولي دار الثقافة - مصر. (¬2) تم التقاء الفكر المعتزلي بفكر الفلاسفة مبكرًا وسيأتي بيان أن هذا من أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية. وحاصل فكر الفلاسفة سقراط وأرسطو هو اتخاذ العقل حكمًا يقول الأستاذ محمد قطب في فصل "العقلانية" وهي "تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإِثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه" "وهو مذهب قديم في البشرية، يبرز أشد ما يبرز في الفلسفة الإغريقية القديمة ويمثله أشد ما يمثله سقراط وأرسطو" مذاهب فكرية معاصرة 500، دار الشروق الطبعة الأولى 1403 هـ. وسيأتي في آخر هذه الرسالة إثبات انتصار المستشرقين الذين هم يمثلون هذه الفلسفة لأفكار المعتزلة، وهذا يدل على عمق التشابه الفكري بين فكر المعتزلة وفكر الفلاسفة والعقلانيين.

1 - أن عقيدة الصحابة والتابعين أن الأدلة النقلية تفيد العلم تعلموا هذه العقيدة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلمهم كيف يحتجون ويستدلون بها على العقيدة وسائر الأحكام سواء منها ما كان متواترًا أو أحادًا وذلك بإقرارهم على هذا المنهج البين الذي تدل عليه الشريعة (¬1). 2 - أن القول بظنية الأدلة النقلية دين أحدثه أئمة المعتزلة ولم يعرف من قبل، وبدعة منكرة وشجرة خبيثة تتابع على غراسها وسقيها واصل بن عطاء وأبو الهذيل والنظام وغيرهم من شيوخ المعتزلة .. ثم سقاها الفكر الفلسفي واستظل بها أهل الأهواء وخدعوا بها كثيرًا من الناس، وظنوا أنها من الدين وما هي من الدين، ومثل كلمة المعتزلة هذه وكلمة اتصحابة والتابعين كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬2). فإفادت الشريعة العلم كلمة طيبة من قوم طيبين أصحاب عقيدة طيبة، هم صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، والأدلة على هذه الكلمة ثابتة في الكتاب والسنة كما قدمنا، فمثلها مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تعجب الزراع وتغيظ أهل الأهواء. والقول بأن الأدلة النقلية لا تفيد العلم كلمة خبيثة - من قوم أصحاب ¬

_ (¬1) انظر الأمثلة السابقة ص 163 - 164 وكيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم قبول خبر الواحد في أمور عظيمة من الدين كالعقائد والفرائض. (¬2) سورة إبراهيم: الآيات: 24 - 25 - 26 - 27.

عقيدة خبيثة وسيرة خبيثة هم أتباع واصل بن عطاء رأس البدعة - سندها الأهواء وفكر الفلاسفة المنكرين للرسالات فمثلها مثل شجرة خبيثة زخرفت للناظرين لا ظل لها ولا ثمر .. تعجب الفلاسفة وتغيظ أهل السنة، وكان حريًا أن لا يكون لهذه الشجرة الخبيثة بقاء لوأن الفكر الإِسلامي سلم من شبه كثيرة ساعدت على قبول أجزاء مبعثرة من تلك الشجرة، وقد كان للفكر الفلسفي وما زال آثاره السيئة التي ضمنت لبعض تلك الأجزاء المتقطعة البقاء والاستمرار، وسأذكر أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية في المبحث الثالث بتوفيق الله وعونه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) نذكر أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه المقالة، ونوقف البحث عند هذا الحد ونكتفي بهذا التتبع التاريخي لهذه الفترة، لأني كما أسلفت من قبل لا أجد إلّا موافقًا للجيل القدوة أو مخالفًا له، فأما الموافق فهو مناصر ومؤيد، وأما المخالف فهو إما متابع عن علم للمبتدعة وجوابنا عن مقالته هو الجواب نفسه وموقفنا هو الموقف نفسه، وإما مخدوع ببعض شبههم ففي عقيدة الصحابة والتابعين وأقوال أئمة السلف شفاء له إن شاء الله. ومن هنا أضرب صفحًا عن مخالفة من خالف من الأصوليين لأن أقوالهم لا تخرج عن أحد أمرين أما الموافقة للمقويين للأدلة المحتجين بها، وهذا هو الحق، وأما موافقة لأقوال المضعفين للأدلة .. وهذا قول تبين الجواب عنه، والله أعلم.

المبحث الثالث أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية

المبحث الثالث أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار القول بالظنية في هذا المبحث دراسة لأهم الأسباب التي أدت إلى سعة انتشار هذه البدعة، كي نتمكن من تفسير هذه الظاهرة، ونساعد على معالجة بعض الشبه التي تولدت عنها، أما الرد على هذه البدعة فيكفينا فيها ما أثبتناه من أن مقالة المعتزلة دين أحدثه أئمة الاعتزال اجتمع لهم فيه مخالفة الشريعة، ومخالفة الراسخين فيها وهم الصحابة والتابعون وقد أثبتنا اتفاقهم على أن الشريعة هي الحجة، وهذا يكفي لإسقاط الشرعيّة عن مقالة المعتزلة، والشهادة عليها بأنها بدعة، والحكم عليها بعد ذلك بالبطلان، ومقابلتها بالرفض والتشنيع. وإليك أهم الأسباب التي ساعدت على انتشارها: المطلب الأول موقف الخوارج من رد السنة وقد سبق بيان الفرق بينهم وبين موقف المعتزلة، والذي نضيفه هنا أن موقفهم ساعد على تحقق أمرين اثنين: الأول: تسبب في وقوع المعتزلة في تلك البدعة، وذلك شأن كل صاحب بدعة يدعوا إليها كما هو فعل الخوارج فإنهم لما ردوا السنة وكفّروا الصحابة وانتصروا لهذه البدعة تشربتها قلوب المعتزلة، فمنهم من فسق الصحابة ومنهم من ضللهم .. وأصبحت هذه عقيدة متوارثة عندهم وقد سبقت الإِشارة إلى ذلك وهذا جعلهم يشاركون الخوارج في الطعن على الصحابة والاستنكاف عن

المطلب الثاني موقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة

قبول السنة هذا مع ملاحظة أن الخوارج لم يذهبوا إلى القول بتقديم الحجة العقلية على القرآن مع طعنهم في السنة. الثاني: أن موقف الخوارج مهّد لموقف المعتزلة، فعظيمة المعتزلة ليست أول عظيمة ترتكب في حق الشريعة، فقد سبقهم الخوارج في رد السنة فجرؤا المخالفين من أهل الأهواء على بدعهم وسَهُلَ على المعتزلة بعد ذلك الوصول إلى مقالة هي أخطر من مسلك الخوارج لأن هؤلاء بدعتهم لايسهل انتشارها في الأمة بعكس بدعة المعتزلة والواقع دليل يثبت هذا الذي نقول (¬1). المطلب الثاني موقف الفلاسفة وبيان وجه ارتباط تلك البدعة به، وذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة الفلاسفة قوم ينكرون الرسالات ويتخذون العقل طريقًا للتعرف على "الصانع" أي خالق هذا الكون، ولهم طرق كثيرة يلتزمون بها في إثبات ذلك (¬2)، وقد تُرجم فكر الفلاسفة اليونان في بداية القرن الثالث، وقد شهد أبو الهذيل وتلميذه النظام عصر الترجمة وأخذوا عن كتب الفلاسفة كما سبق بيانه. وترتب على ذلك أن أثر هذا المسلك في عقل المعتزلة وتمكنت منهم بدعة الفلاسفة فتارة يجعلون أول النظر الواجب إثبات الصانع عن طريق العقل، ¬

_ (¬1) عقيدة الخوارج مع استمرار انتشارها منذ نشات لا تعدل شيئًا بالنسبة لانتشار عقيدة المعتزلة، أضف إلى ذلك أن هؤلاء لهم جناح خارجي -وهو الفلسفة اليونانية- يساعدهم على التحليق، ولهم مناصرون لبعض اتجاهاتهم، مثل متكلمة الأشاعرة، وهم بين هذا وذاك يزعمون أنهم متسلحون بالحجة العقلية التي طالما خدعت وبهرت الكثيرين - بخلاف الخوارج فإن حجتهم في الغالب هي السيف، والسيف لا يطول أثره. (¬2) انظر في حقيقة أقوالهم والرد عليها "تهافت التهافت" لإبن رشد الحفيد تحقيق سليمان دنيا، ودرء تعارض العقل والنقل 8/ 137 الخ.

وتارة ينفون عنه بعض الصفات ويثبتون له صفات أخرى، وأما أخبار الرسول فهم وإن لم ينكروها كما صنعت الفلاسفة إلّا أنهم أعرضوا عنها وشاركوا الفلاسفة في عدم الانتفاع بها (¬1) اللهم إلا في الرد على خصومهم (¬2). وهذا مما يبين أثر الفلسفة في فكر المعتزلة، والمهم هنا هو بيان الأسباب التي ساعدت على انتشار تلك البدعة، وهذا كاف في الربط العام بين فكر الفلاسفة وبين فكر المعتزلة. ونبدأ من هنا في معالجة أهم الشبه التي خدع بها الفلاسفةُ المعتزلة ثم خدع بها المعتزلةُ متكلمة الأشاعرة ثم انتشرت بعد ذلك في كتب الأصول بدع كثيرة مبنية على هذه الشبه منها: 1 - تضعيف الأدلة النقلية ووصفها بالظنية بحيث لا يستدل بها إلا على سبيل التأكيد كما يقول القاضي عبد الجبار (¬3) أو لا يستدل بها على العقليات كما يقول الأيجي في المواقف (¬4). 2 - أن أخبار الآحاد لا تفيد إلّا الظن (¬5). 3 - تقديم حكم العقل على النص (¬6). 4 - إنكار القياس والإِجماع كما فعل النظام المعتزلي (¬7). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل 5/ 285. (¬2) انظر كلام القاضي عبد الجبار ص 189 - 190. (¬3) انظر ما سبق ص 189 - 190. (¬4) سيأتي كلامه في الصفحة التالية .. (¬5) وقد انتشرت هذه البدعة انتشارًا عجيبًا في كتب الأصول. انظر من كتب المعتزلة كتاب "المعتمد في أصول الفقه" 2/ 566 لمحمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي - تحقيق محمد حميد الله، دمشق 1385. وانظر من كتب الأشاعرة: المحصول - 507 - 562، والإِحكام في أصول الأحكام للآمدي 2/ 32 وما بعدها. (¬6) سيأتي لذلك تطبيقات عند أصحابها قديمًا وحديثًا في فصل المصلحة وقضية الثبات والشمول. (¬7) سيأتي بيان ذلك عند دراسة القياس وأثره على الشمول والثبات.

5 - القول بأن الفقه من باب الظنيات كما فعل الرازي، واتباع المجتهد لما اتفق له في مسائل الاجتهاد بدون مرجح كما قال ابن الباقلاني (¬1). 6 - وضع المقدمات العقلية الصرفة لأصول الفقه، وخلط علم الكلام به (¬2). وبمعالجة تلك الشبه يظهر لنا أثرها الضخم في إنشاء هذه البدع في أصول الفقه، ولا نحتاج إلى تصوير مذهب المعتزلة فقد سبق بيان معارضتهم للنصوص بعقولهم، بل نبني عليه فنذكر مذهب المتكلمين من الأشاعرة وهم القنطرة التي انتقل عليها فكر المعتزلة والفلاسفة حتى انتشر في أصول الفقه، وإليك أهم الشبه التي انخدع بها هؤلاء: يقول الأيجي في "المواقف" الدلائل النقلية لا تفيد اليقين إلّا إذا عُدم المعارض العقلي "إذْ لو وجد لقدم على الدليل النقلي قطعًا، إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع، وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضًا لنفسه فكان باطلًا، لكن عدم المعارض العقلي غير يقيني إذْ الغاية عدم الوجدان وهذا لا يفيد القطع بعدم الوجود فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أمور ظنية فتكون ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة". ثم قال: "والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات ... نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه ¬

_ (¬1) انظر الرد على الرازي والقاضي وقد سبق ص 55 - 56 وانظر إن شئت الملاحظات التي أثبتها ابن القيم في كتاب "مختصر الصواعق المرسلة" على مصطلح القطعي والظني ص 489 الخ وهي ترجع إلى تلك الشبه. (¬2) وقد أسرف كثير الأصوليين في اتباع علم الكلام، وانظر تملل الغزالي من ذلك مع قبوله له لأنه كما يقول: الفطام عن المألوف شديد، المستصفى 1/ 10.

المطلب الثالث مناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه

هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي وهل للقرينة مدخل في ذلك وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه" (¬1). وحاصل هذا الاستدلال ما يلي: 1 - أن النقل -وهو الشريعة- ثبتت عن طريق المعجزة التي ميّزت الرسول الصادق عن الدعي الكاذب، والمعجزة إنما تدرك صحتها بالعقل فهو الطريق إلى إثبات الرسالة، فإذا ورد في هذه الرسالة ما يعارضه فهو مردود لأنا لو قبلناه لقبلنا ما يعارض العقل، وهذا إلغاء له، وبه ثبتت الرسالة فإلغاءه إلغاء لها، فلابد من إلغاء ما يعارض العقل، وتوقف إفادة النقل للعلم على انعدام المعارض العقلي. 2 - أن انعدامه ظني، فقد يكون هناك معارض عقلي للنص لا نعلمه نحن ويعلمه غيرنا، فإذًا تحقق المعارض العقلي ممكن، والعلم بانتفائه غير ممكن، ولذلك تبقى الأدلة النقلية ظنية لبقاء احتمال تحقق المعارض العقلي، ولا يُخْلّصنا من ذلك وجود القرينة التي تقوي الأدلة النقلية لأنّا لا يمكن لنا في العقليات أن نجزم على أساسها بعدم وجود المعارض العقلي. المطلب الثالث مناقشة شبهة المخالفين والجواب عنها بأكثر من وجه قد سبق ذكر شبهة المعتزلة ومتكلمة الأشاعرة وهي أصل الأصول في مسلكهم في النظر، وظاهر أثر الفكر الفلسفي في مادة "دليلهم" وأسلوبه (¬2). ¬

_ (¬1) المواقف في علم الكلام 40 القاضي عبد الرحمن بن أحمد الأيجي، عالم الكتب بيروت - وقارن إن شئت بين النص المذكور وبين نصوص الفلاسفة والمعتزلة المذكورة في درء تعارض العقل والنقل 1/ 4 وما بعدها، وانظر مقدمة المحقق من ص 10 إلى ص 20، وانظر مذهب المعتزلة في تقديم حكم العقل: فضل الاعتزال 139، وقد سبقت الإِشارة ص 189 إلى ما ذكره القاضي عبد الجبار في كتابه المغني. (¬2) وقارن إن شئت بين مادة الدليل وأسلوبه وبين كتاب "الرساله" للشافعي لترى الفرق جليًّا بين أسلوب المتبعين للسنة وأسلوب أهل الكلام.

وقد كتب شيخ الإِسلام أعظم كتبه في الرد عليهم وبدأه بتصوير مذهبهم وأجاب عن شبهتهم هذه بنحو أربعة وأربعين وجهًا من الجزء الأول إلى آخر الجزء السابع وما بعده من كتابه الجليل "درء تعارض النقل والعقل" وقد كسر فيه الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والأشاعرة كسرًا لا يجبرون بعده أبدًا ويتخلل هذه الوجوه دراسات عقدية ونقول لا تحصى كثرة عن السلف الأول وإليك بعضًا من تلك الوجوه مع عرض ميسر لها يسهل فهمها: 1 - أن ثبوت المعجزة وإدراك ذلك بالعقل حتى يصدق ويؤمن بأن هذه المعجزة تدل على صدق الرسول في تبليغ الوحي الذي أنزله عليه سبحانه أمر طبيعي جدًا، لأن المعجزة إما مشاهدة في فترة زمنية أو مستمرة، وهي القرآن الكريم ... وبعد إدراكها والإِيمان بها وسجود العقل الإِنساني لذلك يسلّم بأن من جاء بها إنّما هو رسول صادق ورسالته معصومة من الخطأ والضلال والاختلاف والتناقض، وأنها هي الحق والعدل الذي أنزله الله العليم الحكيم، وشهادته "بأن الله هو الحكيم الخبير العدل، وأن حُكْمَه كذلك وأنّ هذا الرسول صادق في تبليغ أمر الله" تقتضي هذه الشهادة وهذا الإِيمان أن يسجد العقل والوجدان لكل حكم من أحكام هذه الرسالة التي آمن بها فليس العقل إذًا أصلًا للنقل في كل شيء، وإنما هو أصل في إدراك ثبوت المعجزة التي منها يستدل على قدرة الخالق ثم يلزمه الاستسلام كما قلنا آنفًا (¬1). 2 - أن الشريعة الإِسلامية ثابتة في نفسها -هذا مقتضى إيمان العقل بالمعجزة- وذلك متحقق قبل عرضها على العقول، بل قبل وجود أصحابها وذلك لأن ثبوتها متحقق من كونها أمر الله سبحانه إما وحيًا بلفظه كالقرآن أو معنى كالسنة، وثابتة في نفسها قبل إيمان الصحابة بها وقبل وجود المعتزلة ووجودنا فهي لا تتوقف على ذلك، وسواء بذلك علمناها أو جهلناها، وأيضًا ¬

_ (¬1) 1/ 89 - 90، وانظر الوجه الثالث فى الرد عليهم وسنستفيد من هذا الجواب عند مناقشة بعض المحدثين عند دراسة موضوع الاستشراق وأثره على بعض الباحثين المحدثين في قضية الثبات والشمول إن شاء الله ...

فإن إيمان المؤمنين بالشريعة يعني أنها ثابتة عندهم علموا ذلك يقينًا ولا يضرهم جهل الأمم الأخرى بها، فثبوتها لايتوقف على وجود أحد، فضلًا عن وجود عقله، والعلم والإِيمان بها من أحد من الناس بعد أن يدرك المعجزة بعقله لا يعني ذلك أنها ليست ثابتة من قبل (¬1) ولا يعني تحكيم عقله في الشريعة بل الأمر الطبيعي أن إدراكه بعقله صحة المعجزة ثم إدراكه بعد ذلك ثبوت الشريعة وأنها حق كلها وصدق كلها وعدل كلها - وهذا مقتضى إيمانه بأنها من عند إله قادر حكيم عليم موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص - مقتضى ذلك أن يسجد بعقله وجميع جوارحه لكل ماجاءت به، فكيف يصح القول بمعارضته لشيء منها، بل كيف يصح القول بإيقاف العلم بها لاحتمال وجود المعارض العقلي. 3 - إنّ دعوى أنّ العقل أصل للنقل هكذا على الإطلاق غير صحيح بل الحق كما سبق آنفًا أن العقل أصل لإِدراك المعجزة التي يُعلم بها صدق الرسول، فكأن ههنا مرحلتين: الأولى: إدراك صدق الرسول وهذه الأداة فيها هي العقل. الثانية: الالتزام بما جاء به الرسول علمًا وعملًا، وهذه العقل فيها تابع منقاد مستسلم لأنها إمّا غيب أو مبنية على الغيب، والعقل لا مدخل له هنا وليس أصلًا لها، بل هو هنا محل للعبودية والانقياد. فإذا قال المعتزلة أو الأشاعرة أو الفلاسفة قديمًا أوحديثًا .. إنّ العقل أصل لثبوت المعجزة صدقناهم .. وإذا اشترطوا على النص أن لا يأتي بتكذيب المعجزة أو التشكيك فيها صدقناهم أيضًا (¬2). أمّا إذا جعلوا العقل أصلًا يُحتكم إليه في إثبات "العلم" للأدلة الشرعية وما كان قدحًا فيه صار قدحًا في الشرع فذلك لا يصدقهم فيه عاقل يريد أن ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل 1/ 87 - 88 - 89. (¬2) 1/ 90 مع العلم بأنه لايتصور مجيئ الشريعة بمثل ذلك.

يعبد الله وحده، ولا يمكن أن توسع دائرة العقل البشري الذي يجهل أكثر مما يعلم ليصبح حاكمًا على الأدلة النقلية يصحح منها ما شاء ويبطل ما شاء، لأن ذلك يخرج العقل البشري من العبودية إلى الحاكمية، وهو باطل. 4 - أن تقديمهم لعقولهم على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض (¬1)، وأما تقديم الأدلة الشرعية على عقولهم فهو ممكن مؤتلف، فوجب الثاني دون الأول. يدل على ذلك أن علم العقل بالشيء أو عدمه من الأمور النسبية الإضافية وليس صفة لازمة لشيء من الأشياء، فقد يعلم رجل بعقله ما لا يعلمه آخر، ويعلم الإِنسان ما يجهله هو نفسه في وقت سابق. والمسائل التي يقال أنه قد عارض فيها الشرعُ العقلَ جميعها اختلف فيها العقلاء اختلافًا كبيرًا ولم يتفقوا أن موجب العقل فيها كذا (¬2). ويكفينا أن نعرف ما حدث داخل الأمة الإِسلامية وما هو حاصل في واقع البشرية اليوم لنجزم بهذه الحقيقة، أما ما حصل في داخل الأمة فقد نشأت فرق عد منها العلماء ما يقارب - اثنين وسبعين فرقة (¬3) وهؤلاء فيهم من العقلاء ¬

_ (¬1) الدرء 1/ 144 - ولا يقال إن "القياس الشرعي" طريق لإِدراك حكم النص والقياس عمل العقل، فالجواب وسيأتي مفصلًا - إن عمل العقل هنا أنْ يدرك - في بعض المسائل - أن الله حرم كذا لعلة معينة، ثم يدرك مرة أخرى أن هذه العلة وجدت في واقعه لم يُنص على حكمها، فكأنه قال: إن هذه العلة التي رتب الشارع عليها حكمًا معينًا وُجِدت في واقعة أخرى - وهذا جهد بشري كلف الشارع العقل المسلم به - وهو حتى هذه اللحظة لم يشرع ولم يصحح ولم ينسخ ولم يقيد أو يخصص .. فيأتي الشارع ليقول حكمه في هاتين الصورتين التشابهتين فيجعل لهما حكمًا واحدًا، فعمل العقل هنا كشف عن حقيقة الصورتين، وأما الذي حكم على الأولى بحكم وعلى الثانية بالحكم نفسه فإنّما هو الشارع. (¬2) الدرء 1/ 145. (¬3) انظر ما سبق من الأحاديث التي أشارت إلى ذلك ص 84 - 85 وسبق ذكر أصول فرقهم ص 183 - 184 وما بعدها.

والأذكياء وأهل الفطنة خلق كثير، وطبقات علمائهم كثيرة وفي كل طبقة طائفة منهم ومع ذلك لم تجمعهم عقولهم على أمر واحد، بل إن الفرقة الواحدة تختلف اختلافًا عجيبًا مع أن أصولها واحدة وأهدافها واحدة ويقع عقلاؤها في العجائب من الأمور بحيث لا يصدق من عافاه الله من هذا الشر بأن هذا يصدر من أحد ينتسب إلى الإِسلام، ومع ذلك صدر عن هؤلاء وهم يملكون القدرة على التفكير والتدبر ومعهم الآلة التي تعينهم على ذلك ألا وهي العقل، هذا فيمن ينسبون إلى هذه الأمة، أما من لم ينتسبوا إليها فهم أشد تخبطًا وضلالًا، وفرق الديانات الجديدة في عالمنا اليوم كثيرة لا تحصى (¬1) وهؤلاء وأولئك يملكون آلة العقل، ويقدرون على التفكر والتدبر، فأين هذا "العقل" عن إدراك مصالحهم وجمع كلمتهم وتوحيد نظرتهم للكون والحياة والأشياء من حولهم .. !! ومرت العصور تلو العصور و"العقل" لم يمكنه أن يصنع ذلك ولو في فترة محدودة، ذلك لأنه عاجز عن تحقيق ذلك، ولا يملك القدرة عليه مهما بلغ في القوة من ناحية الإِنتاج المادي، أما الرسل عليهم السلام فقادرون على ذلك لا بوصفهم بشرًا عقلاء وإنما بوحي من الله ومشيئة منه، فكيف يقدم "العقل" على "الوحي" إذن. 5 - والحاصل: أن قولهم أن العقل أصل النقل غير صحيح بل هو أصل الإِيمان بالمعجزة فقط، ولذلك: "إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل" (¬2). ويكفينا من العقل أن يُعلّمنا صدق الرسول ومعاني كلامه بالطريقة التي ¬

_ (¬1) انظر في أصول أفكارهم الملل والنحل لإبن حزم والملل والنحل للشهرستاني وكل كتاب من كتب الفكر الحديث عن المذاهب والنظريات والأفكار يشهد بذلك، بل واقع البشرية اليوم أصدق بيان وأقرب كتاب. ومن عجب أن كل فريق يزعم أن مقالته قد دل عليها العقل الصريح، وانظر كتاب الدرء 1/ 156 - 170 تجد صورة تطبيقية لذلك من معتقدات أهل الكلام والفلاسفة. (¬2) 1/ 138.

يحددها الشرع (¬1) وذلك لأن العقل دل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر، دلالة عامة مطلقة (¬2). "وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإِنسان بالعقل أن هذا رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينازعه في خبره كان عقله يوجب عليه أن يُسلّم موارد النزاع إلى من هو أعلم به منه، وأن لا يُقدّم رأيه على قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه وأنه أعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه" (¬3). "ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإِسلام أنه يجب على الخلق الإِيمان بالرسول إيمانًا مطلقًا جازمًا عامًا: بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب وأمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل، وأن من قال يجب تصديق ما أدركته بعقلي ورد ما جاء به الرسول لرأيي وعقلي، وتقديم عقلي على ما أخبر به الرسول مع تصديقي بأن الرسول صادق فيما أخبر به فهو متناقض فاسد العقل ملحد في الشرع" (¬4). وهذا المعلوم من الدين بالضرورة هو الحق وليس كما يظن بعض الناس أنه فكر خاص، يقول الإِمام الطحاوي "فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين" (¬5) فكيف بمن عارضه بعقله، ويشرح هذا القاضي أبو العز الدمشقي (¬6) فيقول "اعلم أن مبنى العبودية والإِيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه ¬

_ (¬1) وهذا البحث من أوله إلى آخره يحاول إبراز معالم هذه الطريقة والتأكيد عليها من خلال موضوع الكتاب باعتبار أنها هي الطريقة الشرعية التي حافظ عليها السلف الأول في صدر هذه الأمة. (¬2) المصدر السابق 1/ 138. (¬3) المصدر السابق 1/ 141. (¬4) المصدر السابق 1/ 189. (¬5) شرح العقيدة الطحاوية 251 - إلا أن يكون متأولًا فلا بد من إزالة الشبهة 268. (¬6) هو القاضي صدر الدين علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الأذرعي الصالحي الدمشقي فقيه حنفي ولد سنة 731 وتوفي بدمشق 792 - شذرات الذهب 6/ 326.

عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك .. ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإِيمان والاستسلام، وأن قدم الإِسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم" (¬1). وهذا هو الجواب عن شبهة القائلين بالظنية وتضعيف الأدلة النقلية وببعض هذه الوجوه المذكورة تسقط شبهتهم. وأنبه هنا إلى أمر مهم جداً -يفيدنا في ربط الشبه بعضها بالبعض الآخر ألا وهو تحديد المناط الذي ترتكز عليه تلك الشبه الأنفة الذكر، وهو وإن كان مناطاً فاسداً لمعارضته الدليل الشرعي إلّا أن تحديده يبصرنا بأمور مهمة، ومن خلال النظر في الشبه وجوابها يتبين أن المناط الذي بنيت عليه هو "الاحتمال العقلي" وله صورتان: الأولى: احتمال المعارضة. الثانية: احتمال عدم التمكن من نفيها (¬2). وأمام هذين الاحتمالين العقليين الفاسدين تقف الشريعة أي "الأدلة النقلية" لا تجاوز "الظنون" ولا تفيد العلم، حتى يتمكن أهل الأهواء من نفي ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الطحاوية. هذه نظرة السلف من الصحابة والتابعين لمنزلة العقل البشري وان محله الذى يستحقه أن يكون عابداً لله متبعاً لمنهجه وكل ما ورد من الأحاديث في إخراج العقل عن هذا الحد المحدود له كلها كذب كما قال ابن القيم. وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/ 13 للألباني ط 4 - المكتب الإِسلامي. (¬2) هناك فارق بسيط بين المعتزلة والأشاعرة حاصله أنها لا تفيد العلم في العقليات فقط عند الأشاعرة.

احتمال المعارضة وهم كما سبق يزعمون عدم تمكن النفي!! وقد صدق من قال: الكلام أوله سفسطة وآخره زندقة، وقد نقله الغزالي عن الإمامين أحمد وأبي يوسف (¬1). والواقع كما شهد به المتكلمون أصدق شاهد عليهم فهم في شك وحيرة واضطراب بخلاف الذين اتبعوا السنة في الاعتقاد والعمل فإنهم يعلمون أن خبرها صادق لا يمكن أن يعارضه دليل عقلي صحيح ولا سمعي صحيح، وليس عند المخالفين إلا أوهام فاسدة تارة يسمونها عقليات وتارة برهانيات وتارة وجدانيات، وذوقيات، ومخاطبات ومكاشفات ومشاهدات وهي عندهم تحقيق وعرفان أو حكمة وحقيقة أو فلسفة ومعارف يقينة ونحو ذلك من الأسماء (¬2). ويقول ابنِ تيمية عن هذا كله -في كتابه الجليل عظيم الفائدة: "فنحن نعلم علماً يقينيًا لا يحتمل النقيض أن تلك جهليات وضلالات وخيالات وشبهات مكذوبات وحجج سوفسطائية وأوهام فاسدة وأن تلك الأسماء ليست مطابقة لمسماها بل هي من جنس تسمية الأوثان آلهة وأربابًا، وتسمية مسيلمة الكذاب وأمثاله أنبياء". {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (¬3). "والمقصود أنه من جوّز أن يكون في علمه بحسه (¬4) وعقله (¬5) حجج صحيحة تعارض ذلك لم يثق بشيء من علمه ولم يبق له طريق إلى التصديق ¬

_ (¬1) انظر الدرء 1/ 178، 7/ 156 - 157 وانظر ما سبق ص 78 من ذم أهل العلم لهم، وانظر تبيين كذب المفتري 333 - 334 والإِحياء 1/ 164. (¬2) 5/ 255. (¬3) سورة النجم: آية 23. (¬4) بحسه كالمشاهدة والمكاشفة. (¬5) وعقله أي باشتراط انتفاء العارض العقلي، أو إثبات العارض.

بشيء من ذلك (¬1). "وإذا كان ما أوجب الشك والريب ليس بدليل صحيح وإنما الدليل ما أفاد العلم واليقين وطريق هؤلاء لا يفيد العلم واليقين بل يفيد الشك والحيرة (¬2) علم أنها فاسدة في العقل كما أنها إلحاد ونفاق في الشرع. وهذا كله بين لمن تدبره، والأمر فوق ما أصفه وأبينه" (¬3). "ولا ريب أن من قدم على كلام الله ورسوله ما يعارضه من معقول أو غيره وترك ما يلزمه من الإِيمان به كمن آمن بما يناقضه فقد آمن ببعض وكفر ببعض" (¬4) وهذه حال من أقر ببعض ما أخبره به الرسول - عليه السلام - دون أن يؤمن بالباقي حتى ينتفي المعارض العقلي .. فهذا قد أبطل فائدة تصديق العقل بالمعجزة وأبطل الشرع كذلك فلم يبق معه عقل ولا شرع (¬5) وهذه حال أهل البدع والأهواء (¬6). وبعد أن ذكرت من الأدلة ما يفرق به الناصح لنفسه بين الحق والباطل أقول: إنَّه لا يمكن لأحد أن يدرك ثباتاً لأحكام هذه الشريعة ولا يحقق شمولها في واقع البشرية -بحيث تهيمن عليه بلا شريك وتنفرد بالحكم وتحول بين المجتمع وبين الشرك والبدعة وأحكامهما التي تمثلها المذاهب المنحرفة قديماً وحديثاً. أقول إنه لا يمكن لأحد أن يتصور ذلك إلا أن يؤمن بهذه العقيدة التي بينا وجه ¬

_ (¬1) 5/ 256. (¬2) قارن بما سبق ص 200 - 201. (¬3) 5/ 257. (¬4) 5/ 282. (¬5) 5/ 282. (¬6) 5/ 282 - ولذلك كان من منهجي في هذا البحث أن أعرض مسالكهم في صورتها الحقيقية وذلك على أنها شبهات، ثم أجيب عنها وأعلل سبب انتشارها حتى تأخذ وزنها الطبيعي.

الاحتجاج لها بالكتاب والسنة والإجماع الذي نقله الأئمة الثقات العدول من أئمة السلف -وهذه هي عقيدة الإِسلام التي عرفها رسول الله وبلّغها وعلمها لأصحابه وبلغها أصحابه لمن بعدهم، ومقتضاه سجود القلب والعقل لهذه الشريعة، والوقوف عند ماحده الله وشرعه في الاعتقاد، ما كان منه خاصاً بالأمور الغيبية كأحوال الآخرة وما كان منه خاصاً بصفات الله سبحانه .. فلا مراجعة ولا معارضة ولا تعطيل ولا تشبيه، بل نثبت ما أثبته الله لنفسه وننفي ما نفاه، ونسلّم لأمره في العقيدة كما نسلّم له في الشريعة، ولا نقول كيف في الغيبيات ولا لِمَ في الأحكام، ولا نرد شيئاً من أمره سبحانه ولا نعارضه بعقل ولا بعرف ولا بشيء من الأشياء بل نؤمن ونذعن وننقاد، مستسلمةً قلوُبنا وعقولُنا وجوارحنا وليس بعد ذلك إلّا إحسان العمل والصبر على مهمة التربية والجهاد في واقع الأرض، وهذه هي طبيعة الجيل الأول الذي هو خير القرون .. ولا بد من بذل الجهد في تصحيح العلم والدعوة إليه بكل ما أمكن حتى نرجع إلى صفات ذلك الجيل، وننقي عقولنا وقلوبنا وكتبنا ومناهجنا وحياتنا كلها من آثار الانحراف الذي اجتمع على زخرفته وتزيينه ونشره الفرق الضالة قديماً والمذاهب المعاصرة حديثاً، ولنذْكر وجه الربط بينهما لنكشف عن شيء من خطورتهما .. إن مسالك الفرق الضالة -التي منها مخالفة طريق الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه وتابعيهم بإحسان - والتي من أقبح نتائجها -كما أسلفت - تغيير منهج التلقي، والذي ترتب عليه اتباع مسالك منحرفة في الاستدلال أفرزت عقائد وأحكاماً مجافية "للوحي" فزادت فيه ما يناقضه .. ونقصت من صلبه ما أدى إلى انحرافهم، وأخطر من ذلك كله أنها سهّلت على كثير من الناس قبول الزيادة في الدين والنقص منه، وما زالت آثار هذا الانحراف تزداد بقدر ما لآراء الفرق من سعة في الانتشار .. فلما جاء الغزو الفكري الحديث الذي تمثله المذاهب الفكرية المعاصرة جاء ليرتكز على هذا الانحراف نفسه ويوسعه ويدافع عنه ويسعى لحمايته فكان أن تقبل العالم الإِسلامي هذه المذاهب لتزيد في الدين ما ليس منه ولتكون هذه الزيادة هي أحكام القوانين

الوضعية باعتبار أن الشريعة تقبلها ولا ترفضها (¬1)، ومن جانب آخر تنقص من هذه الشريعة ما شاءت ابتداء من أحكام السياسة والاقتصاد .. وانتهاء بأحكام الجهاد والحدود، ولو لم تكن مسالك الفرق الضالة قد انتشرت في الأمة لما استطاعت المذاهب الفكرية المعاصرة وأحكامها أن تدخل العالم الإِسلامي. وإذا عرفنا خطورة الفريقين وأنهم جميعاً لم ينتفعوا "بالوحي" المنزل من عند الله، أما الذين أقروا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - فهم مع إقرارهم وتصديقهم اتخذوا مسلكًا غريباً يحول بينهم وبين الانتفاع بالوحي، وأما المنكرون له فأعرضوا عن التصديق وعن المتابعة (¬2). والمخرج من ذلك كله هو دعوة الفريقين إلى توحيد الإِتباع والطاعة الذي نذكر به في كل موضع مناسب من هذه الرسالة وتربية الأمة عليه، وتحذيرها من هذين الانحرافين، انحراف الفرق الضالة وانحراف المذاهب الفكرية المعاصرة، والبديل لهذا وذاك هو ردها لما جاء به الإِسلام عقيدة وشريعة كما دعا إليها خاتم الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وكما تعلمه أصحابه وعملوا به ودعوا إليه. {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (¬3). * * * ¬

_ (¬1) سيأتي في الباب الأخير تصوير هذه الدعوى وكشف زيفها - إن شاء الله. (¬2) هذا فيه مشابهة لكلام شيخ الإِسلام الذي نقلته سابقاً ص 195 والفرق بين الموضعين انه جعل الفلاسفة في مقابلة الفرق ووصفهم بهذا الوصف، وجعلت هنا بدل الفلاسفة تلامذتهم من أصحاب المذاهب المعاصرة، وفيما ذكرته من وجه الربط بينهما كفاية حتى لا يقول قائل ما وجه الجمع بين هذه الاتجاهات. (¬3) سورة الأحزاب: آية 4.

الباب الثاني الاجتهاد وأهم طرقه وقضية الثبات والشمول

الباب الثاني الاجتهاد وأهم طرقه وقضيّة الثبات والشمول ويشتمل على هذه الفصول: الفصل الأول: الاجتهاد وقضية الثبات والشمول. الفصل الثاني: العموم وقضية الثبات والشمول. الفصل الثالث: القياس وقضية الثبات والشمول. الفصل الرابع: المصلحة وقضية الثبات والشمول. الفصل الخامس: الإِجماع وقضية الثبات والشمول.

الفصل الأول الاجتهاد وقضية الثبات والشمول

الفصل الأول الاجتهاد وقضية الثبات والشمول توطئة: أتحدث في هذا الفصل عن حكم الاجتهاد وحكمته، وأنواعه وأهم شروطه، وضوابطه، وأثر ذلك على الثبات والشمول سلباً وإيجاباً. ويكون ذلك حسب الترتيب السابق، وسبب هذا الترتيب أننا لا نستطيع أن ندرك ذلك الأثر إلا بعد أن نتصور الاجتهاد وندرك حكمه وحكمته، ثم إن معرفة أنواعه وأهم شروطه وضوابطه تزيد من تصورنا لحقيقته ولمراد الشارع منا، وكيف ينبغي لنا أن نؤدي مهمتنا التي كلفنا بها لكي يتحقق لنا الالتزام بهذه الشريعة دون أن نغير أحكامها أو نبدلها، وفي الوقت نفسه ننعم بشمولها وسعتها في غير ضيق ولا حرج، ونخرج عن الأطراف المذمومة التي سلم منها الجيل القدوة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة السلف - رضوان الله عليهم -، والله الموفق والمعين.

المبحث الأول حكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول

المبحث الأول حكمه وحكمته وأثر ذلك على الثبات والشمول ينقسم الاجتهاد إلى واجب وجوباً عينياً وواجب وجوباً كفائياً، وإلى مندوب ومكروه ومحرم (¬1)، وقد نقل العلماء الثقات عن الصحابة رضوان الله عليهم الإِجماع على العمل بالقياس وهو نوع من الاجتهاد. فثبت بذلك وقوع الاجتهاد منهم - رضوان الله عليهم - وأنهم مجمعون على مشروعيته (¬2). أما أقسام الاجتهاد من حيث الحكم التكليفي فهي كما يلي: الأول: إذا تعين على المجتهد النظر في واقعةٍ ولم يجد من يفتي فيها غيره، أو نزلت بالمجتهد نازلة وخاف فوات الحادثة فإنه يجب عليه وجوباً عينياً الاجتهاد على الفور، وإن لم يخف فواتها وجب عليه الاجتهاد على التراخي. وأما الثاني: فهو واجب وجوباً كفائيًا إذا قام به البعض سقط عن الباقين. وأما الثالث: فهو المندوب وهو السؤال عن حادثة يمكن أن تقع ويحتاج ¬

_ (¬1) تيسير التحرير 4/ 179. (¬2) جامع بيان العلم وفضله 66، أعلام الموقعين 1/ 217، إرشاد الفحول للشوكاني الطبعة الأولى 203، الإِحكام لإبن حزم 6/ 785، الموافقات 3/ 286، الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 207 - 308، وسيأتي زيادة بيان ذلك عند الحديث عن القياس إن شاء الله.

إليها، مثاله في السنة: ما رواه المقداد بن الأسود أنه قال: "يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يارسول الله بعد أن قالها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تقتله .. " الحديث، وفيه دلالة على جواز السؤال بلفظ "أرأيت" عن المسائل التي يمكن أن تقع (¬1). وأما الرابع: فهو المكروه أو المحرم وهو الاشتغال بالمسائل الفرضية التي لا يمكن أن ينبني عليها عمل أو لم تجر العادة بوقوعها (¬2). والإجماع المنعقد على وجوب الاجتهاد ومنه وجوب العمل بالقياس وهو نوع منه يتضمن الرد على من يقول بقفل باب الاجتهاد أو يدعو إليه، ذلك أن الإِجماع المنعقد لم يقصر الوجوب على عصر دون عصر بل الوجوب على الأمة وهي لا تنقطع في أي عصر إلى سقوط التكليف وذلك بفناء الدنيا، والإِجماع على وجوبه منقول عن الصحابة فهو إجماع متقدم ولا عبرة بمخالفة من خالف بعد ذلك، والمخالف لفرضية الاجتهاد لم يخالف في جميع أنواعه، بل إن العلماء من الأصوليين -وسيأتي بيانه- نصوا على أن تحقيق المناط وهو نوع من الاجتهاد لم يقل أحد بانقطاعه. وأما مخالفتهم في الأنواع الأخرى فهم محجوجون بإجماع الصحابة وأن خلافهم ليس معتبراً، مع مصادمتهم للبدهيات ذلك أن النص إمّا أن يُعْلم بدون اجتهاد وذلك مستحيل، وإما أن يُعلم باجتهاد وهو المطلوب فالاجتهاد إذاً ضرورة بهذا المعنى، كما أنه الطريق إلى معرفة عجائب القرآن التي ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله 2/ 98 وفي الحديث جواب عن قول من منع السؤال عن المسائل الفرضية واشترط وقوعها أولًا ثم الجواب عنها. انظر جامع بيان العلم 2/ 139 ولعل النهي إنما هو مخصوص بما لا يمكن أن يترتب عليه عمل ولا تقتضيه حاجة. (¬2) أعلام الموقعين 1/ 69، جامع بيان العلم 139.

لا تنقضي ... ولم يدرك المجتهدون في العصور المتقدمة كل عجائبه .. ومن ثم كان الاجتهاد ضرورة لفهم النص وتطبيقه ولا يسد مسده شيء آخر في فهم أحكام هذه الشريعة. حكمة الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول: أشار الإِمام الشافعي إلى حكمة الاجتهاد فبين أنها هي الابتلاء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن على هذا النحو وكذلك السنة لكي يبتلي عباده فينظر أيجتهدون في طلب الحق مبتعدين عن تأثير الشبهات والشهوات أم يقصّرون في طلبه (¬1). ومن الحكمة أيضاً ما أشار إليه الدكتور الأفغاني في كتابه "الاجتهاد": وذلك بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالنسبة لأصحابه. أما وقوعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فذلك تعليم للأمة من بعده، وأما حكمة شرعية الاجتهاد بالنسبة للصحابة في عصره فذلك لتدريبهم وتعليمهم كيفية الاجتهاد وحتى يكونوا مستعدين لحمل الأمانة الكبرى بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي الحكم بما أنزل الله، وإدخال الحوادث الجديدة تحت أحكام هذه الشريعة حتى يُعْلم حكم الشرع في كل ما ينزل بالمسلمين وتدريب من بعدهم على ذلك، ولولا الاجتهاد لزاد عدد الحوادث التي يتصرف فيها المسلمون بآرائهم المحضة أو بقوانين وأعراف غير دينية، وذلك مع طول الأمد سبب من أكبر الأسباب في الانحراف عن شريعة الإِسلام (¬2). وأجمل هنا بعض الحِكَمِ التي تظهر لي من فرضية الاجتهاد وكونه من الأحكام المجمع عليها في العصر الأول، وهي: 1 - أن هذا الدين أنزله الله على عباده مفرقاً ولم ينزله جملة واحدة قال تعالى: ¬

_ (¬1) الرسالة: مسألة رقم 59. (¬2) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 309 - 310.

{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (¬1). ومعنى فرقناه أي أنزلناه جزءًا جزءًا ولم ننزله جملة واحدة (¬2) وذلك في بضع وعشرين سنة تثبيتاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث ينزل لكل حادثة تقع ما يخصها من الأحكام ويتعلمه الناس في غير عجلة، ويتدرج بهم حتى يربيهم ويفقهم، فيقترن العلم بالعمل آية آية وسورة سورة، ويقع لكل حدث ما يخصه من البيان والتوجيه. وهذا المعنى الذي تحقق في عصر النبوة ما زال متحققًا في كل عصر -بعد ذلك- يسير في الطريق نفسه ويسعى للغاية التي خُلق العباد من أجلها وهي عبادة الله وحده بلا شريك. وبيان ذلك: أن المسلمين بعد عصر النبوة يحتاجون إلى بيان الأحكام التي تخص الحوادث التي جاءت في عهدهم، وهذه الحوادث لم يكن فيها نص بعينها - ولا بد من الرجوع إلى الوحي لمعرفة هذه الأحكام. ثم تأتي حوادث أخرى تحتاج إلى أحكام فلا بد من الرجوع إلى الوحي، وهكذا في كل عصر وفي كل مكان. وحين يرجعون في المرة الأولى إنما يستنبطون الحكم للحادثة الأولى ثم يرجعون مرة أخرى وثالثة ورابعة وذلك حسب تجدد الحوادث فيجدون في الوحي العلم والفقه والتربية - وهم يسيرون في الوقت نفسه في طريقهم لا يقفون لحظة واحدة، تماماً كما كانوا في عصر النبوة عمل وجهاد وتربية وتعليم حتى تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا يريد الله هذا الدين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دين عمل وجهاد وتربية ¬

_ (¬1) سورة الإِسراء: آية 106. (¬2) تفسير ابن كثير 3/ 68 - 69.

وتعليم، فتُبنى الحياة بناء إسلاميًا بحيث لا تخرج حادثة من حوادثها عن حكم الله وتُبنى النفوس كذلك .. ولا يتم ذلك بتة إلا بالجهاد والاجتهاد، ولذلك كان الاجتهاد لازمًا لأنه هو الطريق لتحقيق هذه المهمة. ولو تصورنا عدم فرضية الاجتهاد وتحقق النص على كل واقعة بحيث يعلمها كل أحد دون اجتهاد لم يكن لتلك الحكم أن تتحقق فلكي يكون هذا الدين دين عمل وتربية وتعليم ونمو وتجدد لا بد من الاجتهاد. 2 - ويتفرع عن هذه الحكمة حكمة أخرى إلا وهي مراعاة قدرات المكلفين. إنّ أفعال المكلفين ليست على وزان واحد فهذا مكلف لا يُصلحه إلا نوع من التربية -بحسب حاله- وهذا مكلف آخر يُصلحه من التربية نوع آخر، وهذا مكلف يُوصى بوصية معينة، وآخر يُوصى بوصية أخرى، ولا يمكن مراعاة قدرات المكلفين إلا بتحقيق المناط الخاص، وهو من أنواع الاجتهاد. واسمع إلى الإِمام الشاطبي يبين ذلك أحسن بيان: فقد قسم النوع الثالث من أنواع الاجتهاد وهو تحقيق المناط (¬1) إلى قسمين: القسم الأول: "ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص كتعين نوع المثل في جزاء الصيد .. " وهذا تحقيق عام، وقد يرجع إلى الأشخاص، كمعرفة المجتهد للعدالة مثلًا، فإذا تحقق من وجودها في شخص على حسب ما ظهر له صح منه وقوع الشهادات والانتصاب للولايات وهكذا .. القسم الثاني: تحقيق المناط الخاص، وهو أدق من القسم الأول، وهو ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 60، والمناط هنا هو السبب أو العلة التي يُناط الحكم بها أي يعلق عليها، وتحقيقه هو تطبيقه على الواقعة، فإذا قلنا يشترط للانتصاب للولايات العدالة، نظرنا بعد ذلك في من يصلح لها فإذا قلنا فلان يصلح لها نكون قد حققنا المناط، وسيأتي بيان ذلك عند الحديث عن أنواع الاجتهاد إنْ شاء الله.

{إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (¬1). ثم قال مبينًا فائدة العمل بمثل هذا النوع من الاجتهاد: "وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المتحتم وغيره، ويختص غير المتحتم بوجه آخر، وهو النظر فيما يصلح به كل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة (¬2) على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئًا من ذلك في بعض الأعمال دون بعض، فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رُزق نورًا يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف" (¬3). ثم يحدد بعد هذا البيان معنى تحقيق المناط (¬4) فيقول إنّ المجتهد: "يخص ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: آية 29، ومن التقوى طلب العلم والعمل به والإِخلاص في ذلك كله ومتابعة صحابة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فمن تحقق من ذلك تحقق له أن يفرق بين الحق والباطل ويسلم من التلبيس والتخليط. (¬2) المصدر السابق 4/ 61 - 62. (¬3) الموافقات 4/ 61 - 62. (¬4) لا يقال لماذا لم يحدد المعنى ثم يبينه ويشرحه، والجواب أن صنيعه أولى لأنه لما سبق -تحديد المعنى- بذلك البيان المشتمل عل تلك الأمثلة سهل على القارئ إدراك معنى تحقيق المناط الخاص وضرورته، وذلك خير من أن يفاجئ القارئ بتحديد المعنى دون أن يقدم له بعض المقدمات.

عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه أو يضم قيدًا أو قيودًا لما ثبت له في الأول (¬1) بعض القيود هذا معنى تحقيق المناط". ثم أخذ في الاستدلال عليه -وذكر أن الأصوليين تكفلوا بما سواه- وذكر أدلة كثيرة منها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخير الأعمال، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال فأجاب بأجوبة مختلفة كل واحد منها لو حمل على اطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل، ففي الصحيح أنه - عليه الصلاة والسلام - "سئل -أي الأعمال أفضل؟ قال الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا، قال حج مبرور" (¬2) وسئل - عليه الصلاة والسلام - "أي الأعمال أفضل؟ قال الصلاة لوقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" (¬3)، وفي النسائي عن أبي أمامة: "قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت مرني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له" وفي الترمذي: "أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات" (¬4). ¬

_ (¬1) المثال يوضح ذلك، فمثلًا إذا حدد المجتهد وصف العدالة وعلمه، اشترطه للانتصاب للشهادات والولايات، وهذا معنى قوله: " .. في التحقيق الأول العام" أما تحقيق المناط الخاص فهو نظر آخر، وهو هل انتصاب هذا الشخص لهذه الولاية أو تلك يفسده أو يصلحه فمن الناس من يُنهى عنها كما نهي أبو ذر ومنهم من يُطلب لها .. (¬2) الحديث من رواية أبي هريرة وقال: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - "أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال جهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا؟ قال حج مبرور" صحيح البخاري بشرح فتح الباري باب فضل الحج المبرور 3/ 381. (¬3) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، صحيح مسلم بشرح النووي باب الإِيمان بالله أفضل الأعمال 2/ 73. (¬4) 5/ 458 باب ما جاء في فضل الذكر.

وفي النسائي: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" (¬1) ... "إلى أشياء من هذا النمط جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق ويشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو إلى حال السائل" (¬2). ثم أخذ في تأكيد الدلالة الشرعية على مثل هذا النوع فقال: " ... وقد دعا - عليه السلام - لأنس بكثرة المال فبورك له به (¬3)، وقال لثعلبة بن حاطب حين سأله الدعاء له بكثرة المال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" (¬4)، وقال لأبي ذر: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمّرن على اثنين ولا تولين مال يتيم" (¬5) ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن" الحديث (¬6)، وقال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" (¬7) ثم نهاه عنهما لما علم له خصوصًا في ذلك من الصلاح". و"تحقيق المناط في الأنواع واتفاق الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم وقد فرّع العلماء عليه كما قالوا في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية (¬8). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي باب ما جاء في فضل الدعاء 5/ 455. (¬2) الموافقات 4/ 63. (¬3) حيث قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته" رواه مسلم باب من فضائل أنس - رضي الله عنه - 4/ 1928. (¬4) رواه الطبراني في المعجم الكبير 8/ 260، وهذا اللفظ ورد في سياق طويل لم يثبت انظر ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه، للأستاذ عداب الحمش - الطبعة الثالثة 68. (¬5) رواه مسلم باب كراهية الإمارة بغير ضرورة 12/ 109. (¬6) باب فضيلة الأمير العادل 12/ 211، المصدر السابق. (¬7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري باب فضل من يكفل يتيمًا 10/ 436. (¬8) سورة المائدة: آية 33.

إن الآية تقتضي مطلق التخيير ثم رأوا أنه مقيد بالاجتهاد، فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع (¬1)، وكذلك التخيير في الأسارى من المن والفداء (¬2). وكذلك جاء في الشريعة الأمر بالنكاح وعدوه من السنن، ولكن قسموه إلى الأحكام الخمسة ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظرًا نوعيًا فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي (¬3) فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد" (¬4) وهكذا الشأن في انتصاب الأفراد في المجتمع الإِسلامي للولايات وجميع الأعمال العامة والخاصة، وهذه الحكمة وهي مراعاة قُدرات المكلفين لا يمكن تحقيقها إلا بتحقق هذا النوع من الاجتهاد، وهو ضروري لتطبيق الأحكام الشرعية في المجتمع الإِسلامي، كما أنه لا يتم بناؤه على الصفة المطلوبة شرعًا إلّا بمراعاة قدرات أفراده. 3 - ليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات (¬5). ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال: أحكام القرآن 2/ 599: 600 لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي -تحقيق علي محمد البجاري- دار المعرفة - بيروت. والمغني لإبن قدامة القدسي 90/ 144 - 145. (¬2) أحكام القرآن لإبن العربي 4/ 1701 - 1702. (¬3) المغني لإبن قدامة 7/ 4 - 5 فقد قسم النكاح باعتبارات خمسة إلى: واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح. ويضيف الشاطبي في عبارته السابقة أن هذا وإن كان نظرًا نوعيًا فيأخذ كل نوع حكمه إلا أنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فيقال لهذا الشخص أنت تدخل تحت هذا النوع فتأخذ حكمه والآخر أنت تدخل تحت النوع الثاني فتأخذ حكمه وهكذا ولذلك قال: "إن هذا النوع من تحقيق المناط الخاص قد يستبعد الناظر حكمه بادي الرأي حتى يتبين مغزاه. وقد تقدم بيان ذلك وفي الأدلة ما هو كاف للقطع بصحة هذا الاجتهاد، ويعلل الشاطبي تنبيهه عليه على هذا النحو بأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص. (¬4) الموافقات 4/ 65. (¬5) كما في قوله تعالى في سورة المجادلة: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} آية 11.

إن هذا الجهد في التعريف على الحق ونشره والتفقه فيه وتطبيقه على الحوادث إنما يكون من طائفة من المسلمين بذلت نفسها لتعلم العلم وتعليمه، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬1). فهذا النفير والتفقه والنذارة إنّما يصبر عليه طائفة من المسلمين وهؤلاء يبرز منهم أئمة في الدين يهدون به وبه يعدلون، فينشرونه ويعلّمونه للناس ويقيمون به العدل في الأرض ومن العدل استنباط الأحكام لكل حادثة تعن وتطبيقها. وعند تحقيق ذلك يرفعهم الله درجات، ويجعلهم منار هداية للناس لا تنقطع يتسلمها الناس جيلًا بعد جيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬2). وهذا التفقه والنذارة والهداية وإقامة العدل في الأرض لا يكون إلا بالاجتهاد. أما الذين آمنوا فهم مكلفون جميعًا بإقامة فروض الكفاية، وذلك بأن يقيموا لكل فرض من فروض الكفاية طائفة منهم ويعينوهم على ذلك (¬3)، فإذا سعى المؤمنون في تجهيز طائفة منهم ليتفقهوا في الدين حتى يصلوا إلى درجة الاجتهاد كان ذلك سببًا في رفع منزلتهم عند الله، وعن هذا الطريق تتحقق الهداية وإقامة العدل الرباني في هذه الأرض. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: آية 122. (¬2) سورة السجدة: آية 24. (¬3) الموافقات: 1/ 114.

وهذه الحكمة لم تكن لتتحقق إذا لم ينفر بعض المسلمين -الذين تتوفر فيهم أهلية الإمامة- لإِقامة مهمة الاجتهاد، وهم موقنون بأنه تكليف حتم عليهم لا يسعهم إلا إقامته بقدر استطاعتهم وإلّا أثموا جميعًا (¬1). 4 - كشف شبهة الذين يزعمون أن هذا الدين خاص بزمان قد مضى وليس له من الأمر شيء في حكم تطورات المجتمعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وأن ذلك متروك لأهل كل عصر يحكمون أنفسهم بما يرونه مناسبًا من الأنظمة اتباعًا للمصالح بزعمهم، أو الحكم بالنظام الإِسلامي ولكن بعد خلطه بالنظم الأخرى الوضعية أمثال القوانين الأوروبية، وإخضاعه لروحها وطبيعتها، وذلك مسايرة لروح العصر ومدنية الغرب (¬2). والاجتهاد هو الطريقة العملية لبيان حقيقة الشمول في الشريعة، فإذا نظر المجتهدون في المسائل الجديدة وأدخلوها تحت حكم الشريعة إمّا بطريق القياس أو بطريق العموم أو عن طريق اعتبار المصالح التي شهد الشرع لنوعها أو جنسها، فإن ذلك يثبت للمخالفين في واقع الأمر شمول هذه الشريعة لكل المسائل الجديدة التي تنشأ بسبب تطور المجتمعات المادي، وبذلك تدحض شبهتهم وتقام الحجة عليهم ويتبين للمؤالف والمخالف زيفهم وافترائهم على هذه الشريعة. أما المؤمنون فيزدادون إيمانًا إلى إيمانهم، وأصل الإِيمان متحقق فيهم بلا شك، ذلك بأنهم موقنون بأن الله العليم الحكيم قد أنزل شريعته وهي مبرئة من كل نقص وعوج لا تبديل لها قد فصلها تفصيلًا لا يخرج عن حكمها شيء علمه من علمه وجهله من جهله. ¬

_ (¬1) بحيث يأثم من تحققت فيه الأهلية ولم يجتهد في طلب العلم، ويأثم من بقي من الأمة، إذا لم يبذل جهده في حمل القادرين على أهلية الإِمامة لتحقيق مهمة الاجتهاد، الموافقات 1/ 114. (¬2) ثم التسسوية بين الشريعة والقوانين الوضعية وسيأتي في الباب الأخير عرض هذه الشبه ومناقشتها إن شاء الله تعالى.

أما هؤلاء الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة في هذه العصور أولا تصلح حتى تختلط بالقوانين الأوروبية التي أنشأتها الأمم الكافرة فتطبعها بطابعها وتشملها بروحها ومدنيتها، فإنهم يحتاجون إلى أن يتعرفوا على عقيدة الإِسلام وشريعته فإن علموا أنها هي الحق وما سواها باطل وقبلوها جملة وعلى الغيب ورفضوا ما يخالفها جملة وعلى الغيب فإنهم حينئذ سيتعجبون من مواقفهم السابقة، أما إن أبوا ولم يؤمنوا بذلك فلا حيلة لنا فيهم ... ولا حيلة للمجتهدين فيهم اللهم إلّا دحض افترائهم وتحقيق الحكمة من الاجتهاد وذلك بإدخال جميع الوقائع الجديدة تحت حكم الشريعة وبيان شمول الشريعة، رفعًا لشبههم وكشفًا لزيفهم. 5 - المحافظة على التزام هذه الأمة بعقيدتها ومنهجها: إن المجتمع الإِنساني لابد له من الحركة والنمو، لأن هذه هي طبيعة الإنسان الذي كُلف بمهمة إقامة الخلافة على هذه الأرض .. ويشترك المجتمع الإِسلامي مع سائر المجتمعات التي تحكمها الملل الأخرى في هذه الخاصية ويفترق عنها في أمور منها: (أ) أن المجتمع الإِسلامي يمثل الأمة الواحدة للبشرية جمعاء فلا يعرف القوميات بل يعيش الناس فيه أمة واحدة ولو كانوا من شعوب وقبائل مختلفة. (ب) أن مهمته إقامة الخلافة على الأرض طبقًا للمنهج الرباني لا كما تصنع المجتمعات الأخرى في إعراضها عن هذا المنهج. (ج) أن مهمته القُوامة على البشرية. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 143.

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬1). فهو مجتمع يشترك مع المجتمعات المخالفة له في خاصية الحركة والنمو والتأثر والتأثير ويفارقها في كونه مجتمع عقيدة ربانية ومنهجًا إسلاميًا مهمته إقامة الخلافة على الأرض والقوامة على البشرية .. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بطريق الاجتهاد. فالاجتهاد وهو عنوان "الحركة والنمو" هو السبيل الوحيد لحفظ توازن المجتمع الإِسلامي، ولا يقوم إلا بعد عمل وتفقه ينتشر ليغطي أكبر مساحة من المجتمع الإِسلامي، وهذا طريق لحفظ رسالته، ومن هذا الجهد ينشأ عمل آخر على مستوى أكبر يتدرج حتى يسلمنا إلى مرحلة وجود المجتهدين .. وإلى هنا يتحقق لنا أمران: (أ (قيام المجتمع بنشر الوعي الديني عن طريق تفقه الأمة في العلم (¬2) .. وهذه هي القاعدة التي ينبني عليها ما بعدها. (ب) ظهور صفوة من الفقهاء يمثلون أهل الاجتهاد. وبهذا يُحفظ توازن المجتمع الإِسلامي فحركته ونموه الطبيعيين اتجها اتجاهًا سليمًا ونتج عن ذلك عمل إيجابي فهو من جانب حفظ جهد الأمة من أن يضيع وينحرف، ومن جانب آخر حمل الأمة على أداء رسالتها الخاصة بإقامة مجتمعها على المنهج الرباني. ومجتمع كهذا لابد وأن تنتشر رسالته لأنه قد مثلها في نفسه أحسن تمثيل ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 104. (¬2) والعلم هنا المفروض على هذه الأمة يشمل جميع ما تحتاجه للقيام بمهمة الخلافة حسب طبيعة المنهج الرباني فهو ليس صنفًا محددًا وإن كنا هنا نتحدث عن العلم بمعنى أخص.

وهي رسالة الدين الخاتم الذي يحقق العدل الرباني في الأرض فإذا حدثت مرحلة التأثر والتأثير أو قل زادت وقويت فإن المجتمع الإِسلامي يحمل معه عدته وسلاحه، ومن أعظم عدته وسلاحه "الاجتهاد". إن المجتمع الإِسلامي كما يريد أن ينشر المنهج الرباني في الأرض -على الطريقة الربانية- فإن المجتمعات المخالفة تريد أن تدس جاهلياتها وانحرافاتها في المجتمع الإِسلامي أو تقذفها فيه .. وهي لا تصنع ذلك إلا وهو محفوف بكثير من المغريات المادية التي تشتمل على نفع محض بل وفيها حاجيات وضروريات، وقد يكون المجتمع الإِسلامي في بعض الأحيان لا يمتلكها ولم يقدر بعد على تصنيعها .. وهنا إنْ لم يكن المجتمع الإِسلامي يملك عدة "الاجتهاد" يضعف أمام هذه المغريات ثم يفقد توازنه ويبدأ تأثير الغزو الفكري يعمل عمله فيه، وأمّا إنْ كان يملك هذه العدة فإن موقفه سيكون إيجابيًا ونذكر من آثار هذا الموقف ما يؤكد ضرورة الاجتهاد للمجتمع الإِسلامي ومنها: 1 - أثر الاجتهاد في رفع معنوية الأمة وزيادة إيمانها بمنهجها الرباني. بيان ذلك: إن الأمة التي تبذل جهدها في بناء أفرادها على منهجها الخاص عن طريق التربية والتعليم ونشر مفاهيمِ دينها نشرًا صحيحًا وتعرف رسالتها حق المعرفة، إنها أمة ولا شك قوية معنويًا وهذه هي القاعدة التي ينبثق عنها الاجتهاد كما سبق وأن قلنا. وأما زيادة الإِيمان بهذا المنهج الرباني فيكون بأن يعلم أبناء المجتمع الإِسلامي في كل حين -مع كل حادثة تجد في المجتمع الإِسلامي- أن منهجهم يشملها بحكمه ورحمته وأنها لن تبقى معلقة بلا حكم .. ولن نذهب نبحث لها عن حكم في غير هذا المنهج وهنا تزداد الأمة تمسكًا بمنهجها وتزداد عزة وقوة. 2 - أثر الاجتهاد في حفظ الأمة من أن تتسلل إليها آثار الغزو الفكري

الجاهلي .. وذلك يتحقق بأن يقوم المجتهدون بالنظر في جهد الأعداء المادي والمعنوي فينظرون في مجموعة ويفرقون بين الحق فيه والباطل، والنافع والضار ثم يختارون -ومنهجهم الرباني هو الحكم وعزتهم وقوتهم تجعلهم يحكّمون هذا المنهج ويختارون وهم في توازن كامل، فلا يقعون في متابعة أعدائهم ولا يرفضون كل شيء .. بل يختارون وهم لا يزالون يمثلون الرسالة الربانية والقوامة على البشرية، ولا يضرهم ولا ينقصهم في شيء أن يأخذوا ويختاروا ما ينفعهم .. ولا يضرهم ولا ينقصهم أن يرفضوا ما لا ينفعهم .. ولا يمكن أن نفرق بين الضار والنافع وما يوافق المنهج الرباني وما يخالفه إلا عن طريق "الإجتهاد". 3 - أثر الاجتهاد في هداية الأمم الأخرى -وذلك قبل الجهاد- إن موقف المسلمين هذا لا شك سيكون له أكبر الأثر في أعدائهم فأول ما يعلمه الأعداء أنهم أمام أمة لا يمكن أن تُسْتغفل وتُمتطى وهذا له تأثير نفسي عميق يجعل الأعداء في موقف التأثر والإِعجاب والانبهار أمام هذه الأمة القوية التي تحسن أن تختار لنفسها حسب ما يرتضيه منهجها الرباني، والأثر الذي يتبعه مباشرة أن يعرف الأعداء -بعد انكسارهم النفسي- أن في الأرض منهجًا متوازنًا يفرق بين الحق والباطل والنافع والضار ولا يهدر طاقات العقل البشري النافعة .. ويحول في الوقت نفسه بين انحرافات البشرية وبين الفطرة الإنسانية ليقوم العدل في الأرض .. وهذا المنهج هو "الإِسلام" وهذه دعوة عملية لها من الإيجابية وحسن التأثير شيء عظيم. هذا هو بعض آثار الاجتهاد في داخل الأمة وفي علاقاتها مع أعدائها وهو دليل قاطع على ضرورته وفرضيته وأنه لا تصلح هذه الأمة إلا به ولا تهتدي البشرية إلا به، وإن لم يتحقق فإن تلك الأثار الإيجابية تنقلب لتكون آثارًا سلبية والضد بالضد. ولنتصور نقيض تلك الآثار وضدها .. لكي ندرك الخسارة التي وقعت

فيها هذه الأمة لمّا أهملت مهمة الاجتهاد (¬1) وخاصة لما اجتمعت عليها الأمم كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها كل أمة من أمم الكفر معها نافع وضار، نافع يتمثل في ماديات ضرورية وحاجية وضار يتمثل في مبادئ ومفاهيم جاهلية لا تحفظ دينًا ولا عرضًا ولا عقلًا .. بل ترتكس في مجال العقائد والأخلاق إلى مستوى الكفر والشرك والفتنة والإِغراء ونتج عن ذلك أنظمة وضعية تعارفت عليها تلك الأمم وانبثقت من عقائدها وأخلاقها .. وكانت عملية الاجتهاد كفيلة بالتفريق بين الضار والنافع .. وكفيلة أيضًا بمراعاة الأحوال الجديدة التي نشأت من طبيعة المجتمع الصناعي واستنباط أحكامها الخاصة بها ومراعاة الضوابط التي تحفظ الضرورات الخمس الدين والعرض والنفس والعقل والمال، فإن المجتمع الصناعي -وإن كان محتاجًا إلى عملية الاجتهاد كما يحتاجها المجتمع الزراعي والرعوي- إلا أنه أشد حاجة لها، أضف إلى ذلك أن السلبيات التي تنتج عن تعطل مهمة الاجتهاد أو عدم القيام بها على الوجه المطلوب تظهر آثارها على نحو مخيف وخطير في المجتمع الصناعي أشد بكثير من ظهورها في غيره من المجتمعات ذلك أنه مجتمع الحركة الفوارة والتجدد المستمر فإن لم ينضبط بعملية الاجتهاد ازدادت تلك السلبيات واستمرت في الازدياد. وهذه الحكمة التي تحدثت عنها هي أعظم حكمة لمهمة الاجتهاد لأنها سبيل عظيم للمحافظة على التوحيد وأحكامه الذي تمثله هذه "الشريعة" والمحافظة على المجتمع الإِسلامي من آثار الشرك وأحكامه الذي يمثله الغزو الفكري الحديث. ¬

_ (¬1) وقعت الأمة في ضد ذلك تمامًا لمّا أهملت هذه الفريضة وزادت ردود الفعل من داخلها الأمر سوءًا فقد اختلفت مواقف العلماء من آثار النهضة الأوروبية فمنهم من رفضها كلها ومنهم من قبلها بدون تمييز .. وهذان موقفان سلبيان .. ومنهم من نادى بالتمييز بين الضار والنافع .. وهذا موقف إيجابي ولكنه لم يكن له من القوة والانتشار ما يسمح له بإكتساح التيار الذي نتج عن سلبية الموقفين السابقين، وقد كان قيام العلماء بعملية الاجتهاد -كما بينت وعدم اختلافهم عليها وتخلفهم عنها- كفيلًا بأن يحول بين الأمة وما وقعت فيه من تلك السلبيات العظيمة وأعظمها أنها أصبحت فريسة لآثار الغزو الفكري الحديث.

هذا بعض ما يسر الله لي بيانه من حكمة "الاجتهاد" وفيه دلالة قوية على أنه ضروري لإِقامة الحياة الطبيعية لهذه الأمة، ولاستمرار تجدد نشاط المجتمع الإِسلامي في القيام بمهمته، وهو السبيل الأعظم لحفظ هذا المجتمع وحفظ عقيدته وشريعته من حيث ثباتها وشمولها ولنشر هذا الدين في الأمم الأخرى ولتطبيق الأحكام على الحوادث المتجددة، وفي هذا البيان كفاية لمحاولة العودة بالاجتهاد إلى طبيعته الأولى في الجيل الأول ليقوم بمهمة الكشف والتصحيح، ونقصد بالكشف: استخراج الكنوز من هذه الشريعة والكشف عما تضمنته من المعاني، ونقصد بالتصحيح: البناء على تلك الكنوز التي ورثها لنا الاجتهاد الشرعي الذي قام به أئمة السلف وتصحيح ما يحتاج إلى التصحيح، وبهذا تستمر عملية الاجتهاد كشفٌ وتصحيح، وأصل مشروعية هذين الأمرين معلوم من الدين بالضرورة، كيف لا وهو المعنى الذي دل عليه الإِجماع كما أشرت إليه سابقًا، وحكمته كما تبينت لنا لها دلالتها القوية على ذلك. وإذا كان المصلحون ينادون بالرجوع إلى ذلك الجيل -القدوة في منهج التلقي وتصحيح العقيدة والإِخلاص والتجرد وإحسان العمل بهذا الدين والدعوة إليه- فإن من معالمه التي برزت فيه ونحن في أشد الحاجة إليها اليوم -نظرته لعملية الاجتهاد- فلنأخذها عن الجيل القدوة باطمئنان وثقة ويقين، ولتستمر عملية الكشف عن كنوز هذه الشريعة ولتستمر عملية التصحيح، ولنعزم على الاقتداء وعلى بذل الجهد المستطاع. {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1). وإن الاجتهاد الذي كلف الله به هذه الأمة وجعله ضروريًا لحياتها -كما بينا ذلك- لابد أن يكون في الوسع، وآية ذلك أن اجتهاد العلماء اليوم إنما هو مكمل لجهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .. فالقاعدة له ثابتة راسخة وأعمدتها قائمة مستكملة بل إن أكثر فروع البنيان تعجب الناظرين ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 286.

فلم يبق إلا استكمال عملية البناء وبذل الجهد لاستمرار هذه العملية فيتحقق للأمة بإذن الله ما تحتاجه من كشف جديد عن بعض الأحكام ويتحقق لها تصحيح ما يحتاج إلى تصحيح من جهد السابقين، فيجمع الله لها حينئذ بين الاستفادة من الكتاب والسنة والاقتداء بمن سلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وأكرم بهم من قدوة، تعين على تحقيق تلك المهمة وربط هذه الأجيال بالكتاب والسنة، وإذا قام العلماء بهذه المهمة على هذا النحو -وهي في الوسع والحمد لله- تحصنوا وحصنوا أمتهم في ذلك الحصن الآمن وأكملوا البناء من حيث المحافظة عليه باستمرار عملية الكشف عما يحتاجون إليه وباستمرار عملية التصحيح فيما عساه يحتاج إلى التصحيح، وفي هذا تحقيق لحكمة الاجتهاد وتحقيقًا لمهمة الاقتداء ومحافظة على عملية البناء وربط آخر هذه الأمة بأولها لتقوم بمهمتها بما لديها من طاقات، ولا يقول قائل إن هناك فرقًا بين قدرات العلماء اليوم وقدراتهم فيما مضى، لأنا نقول ما نحتاجه اليوم إنما هو استكمال لا تأسيس والاستكمال لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه التأسيس. ونحن نحتاج أشد ما نحتاج إلى عملية الاجتهاد، وهي تحتاج إلى صدق المتابعة للجيل القدوة، والإخلاص والتجرد حتى ييسر الله لها أن تتحصن بذلك الحصن الآمن فلا تضل بها الأهواء وتقع في آثار الفكر المنحرف سواء ما أنشأته الفرق الضالة أو ما صدرته المذاهب الفكرية المعاصرة. وأما الطاقة العلمية ففيها كفاية بإذن الله لعملية استكمال البناء وخاصة إذا ضاعف العلماء المخلصون جهدهم واستفادوا مما ورثه لهم فقهاء السلف -رحمهم الله-. وفي المباحث التالية حديث عن أنواع الاجتهاد وأهم شروطه وضوابطه فيه توجيه لعملية الاجتهاد بحيث تتحصن بذلك الحصن الآمن ويتحقق بذلك الثبات والشمول .. والله الموفق والمعين.

المبحث الثاني أنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول

المبحث الثاني أنواع الاجتهاد وأثر ذلك على الثبات والشمول عرفنا فيما سبق أن الاجتهاد هو: "استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية". وهو بهذا المعنى يُعتبر الأداة العملية لإبراز شمول الشريعة وتعميم حكم النص، واستنباط الأحكام للمسائل التي لم يرد بخصوصها نص شرعي. ولذلك كان من عمل المجتهد "تنقيح المناط" أو "تخريجه" ليتعرف من خلال ذلك على مقاصد الشريعة التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة فيحققها في واقع الناس، وذلك ما يسميه العلماء الأصوليون: "تحقيق المناط" وبيان هذه الأنواع في المطالب الآتية: المطلب الأول تنقيح المناط (¬1) وهو أن يذكر الوصف المعتبر في الحكم مع غير المعتبر فينقحه المجتهد حتى يعلم المعتبر من الملغى وذلك إنما يكون بالاجتهاد. ¬

_ (¬1) التنقيح في اللغة هو التهذيب والتشذيب وتنقيح الشِعْر تهذيبه، وتنقح شحم الناقة إذا قل، وتنقيح العظم أي استخراج مخه يقال: نقحت العظم وانتقحته أي قلّ، الصحاح للجوهري 1/ 413. "والمناط" هو ما يتعلق به الحكم: تقول ناط الشيء ينوطه نوطًا أي علقه والأنواط =

مثاله: حديث الصحيحين في حكم المواقعة في نهار رمضان: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال لا ... " الحديث (¬1). وفي رواية أخرى عن مالك عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال: "أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتف شعره ويضرب نحره ويقول هلك الأبعد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك، قال أصبت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تستطيع أن تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تهدي بدنة قال لا، قال فاجلس فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفرق تمر فقال: خذ هذا فتصدق به فقال: ما أجد أحدًا أحوج مني قال فكله وصم يومًا مكان ما أصبت" الحديث (¬2). وقد أدخله السبكي في مسالك العلة (¬3). ¬

_ = المعاليق، ونياطُ القوس معلقها. المصدر السابق 3/ 1165 والمناط في الاصطلاح: هو العلة سميت بذلك لأن الحكم يتعلق بها، فعلة الحكم قد تختلط بغيرها مما ليس بعلة فيهذبها المجتهد ويشذبها حتى يستخرجها صافية ثم يعلق الحكم بها، هذا معنى تنقيح المناط. (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 4/ 163 - باب إذا جامع في رمضان. (¬2) وانظر جميع روايات الحديث في كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لإبن عبد البر 7/ 161 - وما بعدها. تحقيق عبد الله بن الصديق 1399 هـ طبعة وزارة الأوقاف - المغرب. (¬3) وقد أشار محقق شفاء الغليل د. أحمد الكبيسي إلى أن من الأصوليين من اعتبر تنقيح المناط مسلكًا من المسالك الدالة على العِلِّية كابن السبكي وغيره ومنهم من لم يعتبره كذلك كالغزالي، فإن الدلالة على العلم إنما هو بطريق النص أو غيره من المسالك، ولاقتران العلة بما ليس بعلة كان عمل المجتهد وهو تنقيح المناط. انظر هامش شفاء الغليل 412. الناشر مطبعة الإِرشاد، الطبعة الأولى 1395 هـ.

فقال: "التاسع من مسالك العلة (تنقيح المناط وهو أن يدل) نص ظاهر على التعليل في محل الحكم (فيحذف بعضها) عن الاعتبار بالاجتهاد (ويناط) الحكم (بالباقي). وحاصله أنه الاجتهاد في الحذف والتعيين" (¬1). فقد حذف الإِمام الشافعي كون الواطئ أعرابيًا وكون الموطوءة زوجة وكون الوطء في القبل، ولم يعتبر شيئًا من ذلك، وعلق الحكم على الجماع فقط دون الأكل والشرب في نهار رمضان (¬2). وأما أبو حنيفة ومالك فقد علقا الحكم بمطلق الإِفطار (¬3). وقد اعتبره الغزالي، على أن هذا النوع من الاجتهاد متفق على العمل به وهو ليس من قبيل تحريم الشارع للخمر لأن العلة في تحريمها تُعلم بالاستنباط فيفهم المجتهد من مجرد ورود النص تعلق الحكم بالمحل المسمى، ولا يحتاج إلى تنقيح مناط كما هو الحال في المثال السابق (¬4). بل هو من قبيل "تخريج المناط" كما سيأتي بيانه بعد قليل. وألاحظ هنا أن الغزالي نص على أن هذا النوع من الاجتهاد متفق على العمل به، وإذا أضفنا هذا إلى ما قاله الشاطبي من أن "تحقيق المناط" متفق على العمل به (¬5)، تبين لنا موقف الأصوليين من هذين النوعين "تنقيح المناط" و"تحقيق المناط" وهو موقف جلي يُبعد عن قضية الاجتهاد تلك السلبيات التي ¬

_ (¬1) المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 292 ومجموع الفتاوى 22/ 330 - 331. (¬2) الأم 2/ 100. (¬3) التمهيد لما في الموطأ 7/ 161 - وما بعدها، والمغني 3/ 135، وفتح الباري 4/ 165، وفتح القدير 2/ 336 - 340 - لكمال الدين بن الهمام - الطبعة الثانية. (¬4) الموافقات 4/ 60، وشفاء الغليل 414، 413، ومجموع الفتاوى 22/ 330. (¬5) وسيأتي عرضه في مطلب خاص - إن شاء الله.

المطلب الثاني تخريج المناط

منها الحيلولة بين من تحققت فيه القدرة على استخراج الأحكام وبين الكتاب والسنة بدعوى أن باب الاجتهاد قد قفل. وإذا تذكرنا الإِجماع المنقول الدال على مشروعية الاجتهاد وتلك الحكم التي تبينت لنا أدركنا أن الاستنباط من الكتاب والسنة فوق أنه ضروري كذلك هو ممكن، ودليل إمكانه وقوعه واتفاق الأصوليين من المتأخرين على بقائه، ولم يبق بعد ذلك الأتوجيهه وجهة صالحة، وعلى الذين يطيقونه أن يبذلوا قصارى جهدهم لتحقيقه. {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1). وسيأتي عند الحديث عن أهم شروط الاجتهاد بيان الضوابط التي نستطيع بها أن نحفظ عملية الاجتهاد من مناقضة قصد الشارع والانحراف إلى الأطراف المذمومة (¬2). المطلب الثاني تخريج المناط وهي حالة عدم تعرض النص لذكر مناط الحكم، فيخرجه المجتهد بالبحث "وهو الاجتهاد القياسي" (¬3). وسواء في ذلك الحكم الثابت بالنص أو الإِجماع. ومثاله: الحكم الوارد في تحريم الخمر، فإن النص لم يتعرض لذكر مناط الحكم، فبَحثَ المجتهدُ عنه وخرجه عن طريق الاستنباط والاجتهاد فوجد أن العلة هي "الِإسكار". ¬

_ (¬1) سورة التغابن: آية 16. (¬2) قد أشرت إلى أنه لا بد من تنقية الفكر الإِسلامي والحيلولة بينه وبين آثار الانحراف الذي تمثله الفرق الضالة قديمًا والمذاهب المعاصرة حديثًا وفي هذا البحث تطبيقات لذلك، لكل موضع ما يناسبه. (¬3) تخريج المناط أي استنباطه. وفي الصحاح الاستخراج كالاستنباط 1/ 309.

المطلب الثالث تحقيق المناط

وفائدة هذا النوع من الاجتهاد إلحاق الفروع التي لم يرد بخصوصها نص معين بما ورد به النص (¬1). وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام عن القياس كطريق من طرق الاجتهاد وأثر ذلك على تحقق الثبات والشمول، ونشير في هذا الموضع إلى أن المخالفين في مشروعية العمل بالقياس لم يخالفوا في شرعية الاجتهاد، وإنما قالوا أن القياس ليس طريقًا من طرق الاجتهاد، وما يستنبطه القياسيون من الأحكام يستنبطه هؤلاء بطرق أخرى، وسيأتي بيان الصواب في ذلك في موضعه إن شاء الله. المطلب الثالث تحقيق المناط وهو الأداة العملية لشمول أحكام الشريعة لأفعال المكلفين وذلك أن المجتهد ينظر في وجود الوصف المعتبر المستنبط أو المنصوص عليه في سورة تطبيقه أخرى، فإذا علم مثلًا أن السرقة خفية من حرز قدر نصاب هي الوصف الذي أناط به الشارع الحكم وهو القطع ثم سُئِلَ عن النباش (¬2) هل هو سارق أم لا؟ نظر، فإن تقرر أنه سارق تحقق مناط الحكم في هذه الصورة وأفتى بوجوب القطع، وإذا لم يتقرر لم يتحقق مناط الحكم فيفتي المجتهد بتخلف الحكم لتخلف مناطه، هذا معنى تحقيق المناط. وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف بين الأمة في قبوله، ولا ينقطع حتى ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 60، المحلي على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 292. (¬2) النباش هو الذي ينبش القبور، ويأخذ ما فيها من اللباس، والخلاف فيه بين الفقهاء ليس خلافًا في تنقيح المناط وهو وجوب القطع على السارق، وإنما الخلاف فيه من باب الخلاف في تحقيق المناط، فمن قال أن عمله هذا سرقة قال بقطعه بشرطه وهو أن يسرق نصابًا، ومن قال أنه لا يعتبر سارقًا لأن حقيقة السرقة وهي أخذ المال خفية من حرز .. لم تتحقق في عمل النباش لم يوجب قطعه. انظر المسألة في المغني 9/ 131 - 132 وأحكام القرآن لإبن العربي 2/ 611 - 612.

ينقطع أصل التكليف وذلك عند فناء الدنيا (¬1)، وهو المقصود من وضع الأدلة بلا نزاع (¬2). أمثلة: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3). في هذه الآية أمر بإشهاد العدل، والعدالة هي مناط الحكم بالشهادة، وعمل المجتهد هو تعيين محلها لأن الناس متفاوتون فيها تفاوتًا كبيرًا، وتعيين العدالة في الشهود كتعيين المسكر من الأشربة يحتاج إلى تحقيق المناط، فإذا نظر المكلف في نوع من أنواع الشراب، قيل له أهذا خمر أم لا؟ فإذا حقق المناط فوجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر، قيل له هذا حرام فاجتنبه (¬4). وهذا النوع من الاجتهاد ضروري لكل مفت وحاكم، بل ولكل مكلف، فإن المكلف إذا سهى في صلاته فزاد فيها احتاج أن ينظر في هذه الزيادة هل هي كثيرة من غير جنس الصلاة فتبطلها أو يسيرة فتغتفر -وكذلك سائر تكليفاته. يقول الشاطبي عند حديثه عن بقاء هذا النوع من الاجتهاد: "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك منزلات على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعًا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلًا وقد لا يكون، وكله اجتهاد" (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 57 ومجموع الفتاوى 22/ 730. (¬2) المصدر نفسه 3/ 19. (¬3) سورة الطلاق: آية 2. (¬4) مجموع الفتاوى 22/ 329 - 330، وانظر أمثلة أخرى في الموافقات 3/ 26 - 27. (¬5) الموافقات 4/ 59، ويقصد الشاطبي بكونه سهلًا في بعض الأحيان أي أنه لا يحتاج إلى النظر في المقدمة النقلية، لأن الناظر قد يأخذها مسلمة في بعض الأحيان فيعتقد أن الخمر حرام ثم ينزل هذا الحكم على نوع من الشراب فيقول مثلًا: هذا خمر فيشمله التحريم، وقد لا يكون سهلًا وذلك إذا احتاج الأمر إلى تثبت، ومن هنا وجب على الناظر وهو يطبق الحكم على الواقع أن يتثبت ويتروى بعيدًا عن الإفراط والتفريط.

وهذا النوع من الاجتهاد يجوز وقوع التقليد في بعض مفرداته، فإن من تحقيق المناط في الأنواع تعيين المثل في جزاء الصيد الوارد في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). وهذا الجزاء قد عينه المجتهدون من السلف، فجعلوا الكبش مثلًا للضبع، والعنز مثلًا للغزال، والبقرة مثلًا للبقرة الوحشية، والشاة مثلًا للشاة من الظباء، والعناق مثلًا للأرنب" (¬2). ومع صحة التقليد في مثل هذا إلا أنه لا يغني عن تحقيق المناط في الأشخاص المعينة، فلا بد من هذا النوع من الاجتهاد لاستمرار التكليف، "لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون" (¬3)، ومن ثم فإن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين إحداهما راجعة إلى تحقيق المناط الذي نحن بصدد الحديث عنه، والأخرى راجعة إلى النقل (¬4). وبهذا نعلم مهمة المجتهد، وهي لا تخرج عن تنقيح المناط أو تخريجه أو تحقيقه، وذلك جماع الاجتهاد كما يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬5). ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 95. (¬2) والعناق: الأنثى من أولاد المعز. المغني 3/ 442 وما بعدها. (¬3) الموافقات 3/ 26. (¬4) يقول الشاطبي: "والمسألة ظاهرة في الشرعيات" ويضيف إلى ذلك اللغويات ومن أمثلتها قولك: "ضرب زيد عمرًا" فإنك اذا أردت معرفة الذي يرفع من الاسمين احتجت أن تعرف من هو الفاعل، فإذا حققت أن زيدًا هو الفاعل حكمت بمقتضى المقدمة النقلية وهو أن كل فاعل مرفوع، ونصبت المفعول 3/ 26 - 27. (¬5) مجموع الفتاوى الكبرى 22/ 329.

والأول والثالث نقلت الاتفاق على وجوب العمل بهما وذكرت من الأمثلة ما يوضح ذلك، وأما الثاني فكما أشرت سابقًا من أن الخلاف فيه إنما هو خلاف على الوسيلة وأما قضية الاجتهاد فمشروعة عند القياسيين وغير القياسيين، وننتقل إلى المبحث الثالث لنتحدث عن أهم شروط الاجتهاد التي بتحققها يتمكن الناظر من المحافظة على ثبات الأحكام الشرعية ويحقق شمولها في واقع المكلفين، والله الموفق والمعين.

المبحث الثالث أذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول

المبحث الثالث أذكر أهم شروط الاجتهاد وأثرها على الثبات والشمول توطئة: قرر الأصوليون أن الاجتهاد الشرعي إنما يتحقق بشروط من أهمها العلم بمقاصد الشريعة، والعلم بمقاصد العربية، ونقتصر على ذكرهما هنا لأنهما من قواعد الشمول والثبات، فإن المجتهد إذا كان عالمًا بلغة العرب مدركًا لمقاصدها استطاع التعرف على دلالات الألفاظ وعرف دلالة العام المستنبطة من النص. وإذا أدرك مقاصد الشريعة -وذلك من النظر في الشريعة جملة واحدة أدرك لا محالة العموم المعنوي. والعموم اللفظي والعموم المعنوي معلمان من معالم شمول الشريعة، ونورد هنا ما قاله الأصوليون في اشتراط هذين الشرطين (¬1) مع التركيز على بعض الكتابات التي أولت هذين الشرطين كبير اهتمام وعناية. ¬

_ (¬1) الحديث هنا عن هذين الشرطين ليتبين للقارئ كيف يتحقق من اعتبارهما إدراك العموم اللفظي والعموم المعنوي، دون التعرض للحديث عن هذين العمومين في هذا الموضع لأن لهما موضعًا يخصهما وسيأتي إن شاء الله. أما عن بقية ما يحتاج إليه المجتهد كالعلم بالكتاب والسنة ومعرفة دلالات الألفاظ فستأتي الإشارة إلى أنها متضمنة في هذين الشرطين السابقين إضافة إلى ما ذكرته هنا في هذا المتن وبالله التوفيق.

ذلك أنه لا يمكن تحقيق شمول الشريعة في واقع الناس ما لم يعتمد المجتهدون في تفسيرها على لغة العرب، إذ القرآن نزل بلغتهم، ويعتبر فيه ما يعتبر فيها كما قال الإِمام الشافعي وسيأتي تفصيل ذلك، ومن لم يلتزم ذلك وقع في التغيير والتبديل ولم يدرك شمولها وسعتها. وكذلك إدراك مقاصد الشريعة التي جاءت بها، حتى لا يدخل في هذه الشريعة ما ليس منها ولا يسقط الناس في الحرج وذلك بتعطيل المسائل المستجدة عن حكمها الشرعي. فالشريعة كما يقول الشاطبي كجسد الإِنسان يتكون من مجموعة أعضاء ولا يمكن تصوره عن النظر في عضو واحد، ولا يحسن أداء مهمته إلا بمجموعه، فلابد من النظر فيها جملة، ولا يمكن أن يعيش الناس في خيرها العميم إلّا أن يدرك أهل الاجتهاد مقاصدها من خلال النظر فيها جملة واحدة. ومن هنا كان وجود العلماء أهل النظر الشرعي ضرورة لتحقيق شمول الشريعة لواقع الناس، كما كان وجود علماء الطب والهندسة ضرورة لتمكين الناس من الأخذ بالأسباب التي تبعدهم عن الأفات، وضرورة لقيام العمران واستخراج المياه ونحو ذلك. بل إن وجود العلماء بالشريعة أشد ضرورة، وبفقدهم يصبح الناس سدى بغير آمر ولا ناه ولا واعظ ولا معلم ولا حاكم بالشرع، ولذلك منّ الله على عباده فجعل من هذه الأمة طائفةً قائمة بأمر الله كما جاء في الحديث الذي يرويه معاوية - رضي الله عنه - قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك" (¬1). وترجم الإِمام البخاري لهذا المعنى في كتاب الاعتصام بقوله: "باب قول ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6/ 632 كتاب المناقب.

المطلب الأول العلم بلغة العرب

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم" (¬1). فإذا انقرضوا جاء أمر الله وأذن سبحانه بانقطاع التكليف. ومن هنا ندرك ضرورة الاجتهاد للتعرف على مراد الله من نصوص الكتاب والسنة، وندلف بعد ذلك إلى دراسة أهم شروطه، وأقتصر على دراسة شرطين اثنين لقوة أثرها سلبًا وإيجابًا على حقيقة الثبات والشمول، وهما شرط العلم بلغة العرب وشرط العلم بمقاصد الشريعة، إضافة إلى أنهما شرطان ضروريان لتحقق ملكة الاجتهاد كما سيأتي بيانه إن شاء الله. المطلب الأول العلم بلغة العرب نزل هذا القرآن بلغة العرب كما قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (¬2). {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬3). {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 13/ 293. واختار الحافظ ابن حجر في تفسير المراد بالطائفة ما يقوي اختيار البخاري في هذه الترجمة -وقد نقله عن النووي وعضده- فقال: قال النووي: "فيه -أي الحديث- أن الإِجماع حجة، ثم قال يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالمعروف وناهٍ عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولًا فأولًا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصًا مع زيادة فيه" انتهى كلام ابن حجر ثم عضده بدليل آخر. انظر 13/ 295. (¬2) سورة الزمر: آية 28. (¬3) سورة يوسف: آية 2. (¬4) سورة فصلت: آية 3.

وقد استدل الإِمام الشافعي بهذه الآيات فقال: "إن على كل مكلف أن يتعلم من لغة العرب ما يقيم به دينه" (¬1). هذا على المكلف في خاصة نفسه، أما عن الذين يريدون أن يخبروا عن حكم الله ورسوله استنباطًا من النصوص فلابد لهم من العلم بلغة العرب ضرورة أن القرآن نزل بلغتهم ولا يمكن الإخبار عن مراد الله من كلامه بأنه قصد كذا أو كذا إلّا بمعرفة لغة العرب ومقاصدها، يقول الإِمام الشافعي في موضع آخر من كتابه: "الرسالة": مؤكدًا المعنى السابق: " .. فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وإن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عامًا ظاهرًا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعامًا ظاهرًا يراد به العام ويدخله الخاصِ، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعامًا ظاهرًا يراد به الخاص وظاهرًا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله. وتكلم بالشيء تعرفُه بالمعنى دون الِإيضاح باللفظ، كما تعرف الإِشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها. وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة. وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها وإن اختلفت أسباب معرفتها معرفة واضحة عندها ومستنكرًا عند غيرها ممن جهل هذا من لسانها وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة فتكلف القول في علمها ¬

_ (¬1) الرسالة 48 - 49. ونقله الشوكاني في إرشاد الفحول عن الماوردي 252.

تكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل وما لم تثبته معرفته كانت موافقته للصواب -إن وافقه من حيث لا يعرفه- غير محمود والله أعلم. وكان بخطئه غير معذور إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه" (¬1). وظاهر كلام الإِمام الشافعي أن الملكة شرط، لأن الملكة تتحقق بكثرة الممارسة وإلا فكيف يعرف العام من الخاص، والمطلق من المقيد والعام الذي أريد به العموم .. من لا عنده إلّا حفظ مفردات اللغة، أو القدرة على الحصول عليها من الكتب، ولهذا فلا بد من الملكة القوية كما قال الشوكاني (¬2). والملكة قوامها كثرة الممارسة وإدراك المقاصد من الخطاب بعد إدراك مواقعه والتمييز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه" (¬3). وهذه تتحقق وإن لم يتمكن من جمع جميع اللغة كما صرح الإِمام الشافعي بأن لغة العرب لا يجمعها إنسان غير نبي كما أن الأحاديث لا يجمعها أحد من علماء الأمة، وإن كان لا يضيع منها شيء على مجموع الأمة (¬4). وقد نقل هذا المعنى الإِمام الشاطبي في كتابيه الموافقات والاعتصام ونبه إلى أن مقصود الشافعي أن القرآن في معانيه وأساليبه على ذلك الترتيب الذي جاء في لسان العرب. قال: "فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يُفهم من جهة لسان العرب كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة فَهْم لسان العجم لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة ¬

_ (¬1) مسألة رقم 173 إلى 178. (¬2) إرشاد الفحول 252. (¬3) المستصفى مع فواتح الرحموت 2/ 352. (¬4) انظر ما سبق ص 118.

هو الشافعي الإِمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ فيجب التنبيه لذلك" (¬1). ونبه في موضع آخر في المقدمة الرابعة على المعنى نفسه، وزاد على أن بعض الناظرين في القرآن يحملونه بحسب ما يعطى العقل من الفهم لا بحسب الوضع، وسبب ذلك أنهم لا يسلكون في الاستنباط منه مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنزعها في خطابها ولا يدركون أنواعه وخصائصه .. فيقعون بذلك في فساد كبير ويخرجون عن مقصد الشارع (¬2)، وذلك كله مؤد إلى القول في الشريعة بغير علم ومن ثم مؤد إلى تغييرها وتبديلها، وأؤكد هنا ما قاله الإِمام الشافعي ونبه عليه الشاطبي من أن إدراك سعة لسان العرب سبب في إدراك سعة هذه الشريعة ولهذا كان اشتراط العلم بلغة العرب من أعظم شروط الاجتهاد. يقول الشاطبي: عن اشتراط العلم بالعربية: إن المجتهد لابد أن يقدر على فهم الخطاب ولا يتحقق ذلك إلّا أن يكون معه قدر يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال، لأن الشريعة عربية "فلا يفهمها حق الفهم إلّا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط" (¬3) والمجتهد مضطر إلى هذا العلم فيتوقف فرض الاجتهاد عليه (¬4). والقدر الذي يحدده الشاطبي يدخل فيه العلم بالنحو والتصريف، واللغة وعلم المعاني .. ويستثنى علم الغريب والتصريف المسمى بالفعل وما يتعلق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية، والمقصود بالقدر المحتاج إليه جملة علوم اللسان غير ما استثني (¬5). ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 45 - 46. وانظر الاعتصام 2/ 293 - 294 - 295 - 296 - 297. (¬2) الموافقات 1/ 17 - 18. (¬3) الموافقات 4/ 71. (¬4) المصدر نفسه 4/ 70. (¬5) المصدر نفسه 4/ 71.

وقد أشار الدكتور الأفغاني إلى اشتراط العلم بالشعر لأنه طريق إلى معرفة ألفاظ اللغة ودلالتها (¬1)، وهو كذلك. هذا مما يحسن الإِشارة إليه بالنسبة لاشتراط العلم بالشعر دون العلم بالعروض والقافية. أما علم الغريب: فهو قسمان كما ذكر الأستاذ محمد عبد الله دراز -تعليقًا على الموافقات: القسم الأول: ما يخل بالفصاحة، فلا ضرورة للعلم به لأنه غير موجود في الشريعة، لأن نص الشرع معجز، والفصاحة من الإعجاز، وإذا لم يكن موجودًا في الشريعة فلا ضرورة للعلم به. والقسم الثاني: وهو الغريب الذي لا يخل بالفصاحة وهو موجود في القرآن والسنة (¬2) فلابد من العلم به (¬3). وهذا تعليق حسن منه -رَحِمَهُ اللهُ- إذ كيف لا يحتاج المجتهد لمعرفة الغريب وقد وجد منه -ما لا يخل بالفصاحة- في القرآن والسنة. وبعد أن عرفنا القدر المطلوب ننتقل إلى مسألة أخرى وهي: بيان المقصود بالعلم بهذا القدر، هل هو جمعه والإِحاطة به، أم التمكن من معرفته والقدرة على العلم بمقاصده وهو ما يقصده الشاطبي بقوله: "فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له وصفًا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلّا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب" (¬4). ¬

_ (¬1) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 168. (¬2) وقد ألف العلماء فيه كتبًا منها كتاب غريب القرآن لإبن قتيبة وغريب الحديث لإِبراهيم الحربي. (¬3) الموافقات هامش 1/ ج 4/ 115، إرشاد الفحول 251. (¬4) الموافقات 4/ 73.

ومن هذا المعنى ما أشار إليه فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين حيث قال في رسائل الإِصلاح ويجب عليه أن يختار على علم عند اختلاف علماء اللغة في قاعدة لغوية أو خاصية أسلوب من أساليب الكلام مما يتغير فهم النص من النصوص الشرعية على كل مذهب (¬1). وقد ناقش الدكتور الأفغاني هذا القول بأنه يقتضي تجزؤ الاجتهاد في اللغة، فقد أضاف إلى الشيخ محمد الخضر حسين أنه يقول بأن هذه الدرجة هي درجة الاجتهاد في اللغة، وهو لا يرى أن الأمر كذلك إذ كيف ينتج النظر في بعض قواعد العربية -والترجيح والاختيار لصاحبه درجة الاجتهاد- وهي معدودة محدودة (¬2). والجواب: أن مقصوده أن درجة الاجتهاد في اللغة لا تنال إلّا بالملكة والقدرة على الاستنباط والترجيح وفهم المقاصد، وهو مقصود الشاطبي , أما الجمع والإحاطة فليست شرطًا، وكون مسائل الاجتهاد في اللغة والترجيح محدودة -إن صح- لا يهون من شأنها .. فإن من استطاع النظر والترجيح مجتهد، إذ لا يمكن ذلك إلّا بتحقق الملكة والمقدرة على الاستنباط والترجيح وفهم المقاصد .. وهذا هو الاجتهاد. والقدرة على الاجتهاد فيها لا يلزم منه الإِحاطة باللغة والبت في جميع مسائلها -فإن ذلك لا يكون لغير نبي كما صرح الشافعي. فقد يكون المجتهد، عربي الفهم بحيث يصير له فهم خطاب العرب وصفًا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب كما كان شأن الصحابة كابن عباس وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهم -، ومع ذلك يجوز له التقليد في بعض المسائل ولا يوجب ذلك رفع وصف الاجتهاد عنه ولا يمنعه ذلك من أن يكون نظره معتبرًا في الشريعة. ¬

_ (¬1) رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين -الناشر دار الاعتصام- القاهرة 20/ 114. (¬2) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 169 - 170.

وقد فصل هذا المعنى الإِمام الشاطبي في الاعتصام: ومنه قوله: "إن المجتهد" إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية، فقد يكون إمامًا فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات، فالأولى في حقه الاحتياط، إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها" (¬1). ثم ضرب لذلك مثالين: الأول: ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كنت لا أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها" (¬3). الثاني: ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} (¬4). فأخبره رجل من هذيل أن التخوف التنقص وأنشد: تخوف الرجل منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن (¬5) فقال عمر - رضي الله عنه -: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم (¬6). ¬

_ (¬1) 2/ 299. (¬2) فاطر: الآية من أول السورة {الحمد لله فاطر السموات والأرض}. (¬3) الجامع لأحكام القرآن 14/ 319. (¬4) سورة النحل: آية 47. (¬5) البيت في اللسان وبدل "الرجل"، "السير" وهي بمعنى واحد، وتمك السنام أي طال وارتفع، والقرد هو المتراكم بعضه فوق بعض من السِّمَن والنبعة نوع من الشجر يسمى (القسي) والسفن ما ينجر به الخشب، والمعنى أن السير نقص من سنام الناقة الطويل المتراكم .. كما ينقص عود القسي إذا برد بالحديد، انظر اللسان مادة "خوف" 9/ 101. (¬6) القصة مذكورة في الجامع لأحكام القرآن 10/ 110 - 111، والموافقات 2/ 61.

فإذا كان الأمر كذلك تبين مقصود الإِمام الشاطبي باشتراط الاجتهاد في اللغة: وأنه ليس الإحاطة والجمع، وليس الاستقلال بالنظر فيها مطلقًا بحيث لا يحتاج إلى غيره، بل مقصوده: هو أن تكون له ملكة يدرك بها معنى خطاب الشرع وأن يكون في ذلك كالعربي المحض .. وإن احتاج في بعض الأوقات إلى الاستظهار بغيره، كما كان العربي المحض يصنع ذلك، ونخلص بعد ذلك إلى أمور: الأول: أن تحقق هذه الدرجة مؤد إلى تحقق شمول الشريعة من حيث الاستنباط والتطبيق، لأن المجتهد سينظر فيها بلسان العرب، واتساع لسان العرب في تضمن المعاني والدلالة عليها كما قال الإِمام الشافعي لا يماثله فيه لسان. فيعرف المجتهد حينذاك العام الذي يراد به ظاهره، والعام الذي يراد به العام، والعام الذي يراد به الخاص، ويستدل على ذلك بالسياق، وبالكلام ينبئ أوله عن آخره وآخره عن أوله. وأن العرب تعرف مراد المتكلم تارة بالمعنى وتارة بالإِشارة وتعرف المعاني الكثيرة من الاسم الواحد، وتطلق الأسماء الكثيرة على الشيء الواحد .. ويدرك دلالات الألفاظ فيعرف المجمل من المطلق من المقيد، واستنباط المعاني من الألفاظ للقياس عليها (¬1). وهذا هو العلم الضروري لتحقيق شمول الشريعة إذ هو قاعدة الاستنباط منها، والمتمكن من هذه القاعدة متمكن من آلة الاجتهاد، مستحوذ على الملكة. ¬

_ (¬1) هنا تدخل الشروط الأخرى مثل معرفة طريقة الاستدلال والعمل بالعموم، وإعمال المخصص، وملاحظة السياق، ومعرفة مراد المتكلم ودلالات الألفاظ ونحو ذلك، ولذلك اكتفيت بدراسة هذين الشرطين، معرفة مقاصد العربية ومقاصد الشريعة لتضمنها لبقية الشروط، أما مقاصد الشريعة فسيأتي بيان تضمنها لبعض الشروط في موضعه إن شاء الله.

والتهوين من هذا الشرط سبب في تضييق دائرة الشمول .. ذلك أن من لم يتحقق من هذا الشرط على ما ذكر آنفًا فإنه ينظر في الشريعة نظرًا ضيقًا يكون سببًا في عدم إدراك معانيها، فمثله لا يدرك من ذلك إلّا بقدر علمه، فإن المبتدئ في فهم العربية مبتدئ في فهم الشريعة .. والمتوسط متوسط، فإذا بلغ الغاية في فهم العربية -مع حصوله على الشروط الأخرى- كان بالغ النهاية في فهم الشريعة (¬1). فلابد إذًا من بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة على التفسير السابق، بحيث تكون للناظر ملكة وإن استظهر بغيره. الثاني: أن هناك من ظن أن في كلام الإِمام الشاطبي حدة في التركيز على شرط العربية، وأنه تارة: "صرح باشتراط معرفة اللغة معرفة اجتهادية عندما اشترط كون المجتهد في صف الخليل وسيبويه لكنه خفف من حدته بعد ذلك وصرح بأن مراده هو أن يضاهي المجتهد في الفقه العربي في فهم المقدار الذي يحتاج إليه لفهم الكتاب والسنة. ." (¬2). وأنه رجع إلى ما قاله الأصوليون (¬3). ولست أرى في كلام الشاطبي ما يحتاج إلى مثل هذا الظن، ذلك أن كلامه متسق مع ما يقصده .. ومع ما قرره الأصوليون أيضًا. وما تصوره البعض قد أشار إليه الشاطبي حيث قال: "ولا يقال أن الأصوليين قد نفوا هذه المبالغة في فهم العربية، فقالوا: ليس على الأصولي أن يبلغ في العربية مبلغ الخليل وسيبويه وأبي عبيدة والأصمعي والباحثين عن دقائق الإعراب ومشكلات اللغة، وإنما يكفيه أن يحصل منها على ما تتيسر به معرفة ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة" (¬4). ثم أجاب عن هذا الاعتراض الذي قد يتصوره البعض. والجواب يتضمن أمورًا: ¬

_ (¬1) الموافقات: 4/ 71. (¬2) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 170 - 171. (¬3) المصدر نفسه 171. (¬4) الموافقات 4/ 72.

1 - أن الإِمام الشاطبي يريد أن يقول أن الملكة -في فهم خطاب العرب حتى يصبح الناظر في الشريعة كالعربي المحض- شرط في الاجتهاد. 2 - وأن الملكة في فهم مقاصد العربية غير الإحاطة بالعربية وجمعها وإدراك دقاثق الإعراب ومشكلات اللغة، وليس شرطًا في المجتهد أن يكون كالخليل وسيبويه والأصمعي .. وذلك أنه لا يشترط في العربي أن يعرف جميع اللغة ولا دقائقها ومشكلاتها، ومع ذلك ففهمه للشريعة معتبر (¬1). 3 - أن القول بعدم اشتراط الإحاطة والجمع وأن لا يكون الناظر كالخليل وسيبويه لا يعني أنه يبنى على التقليد المحض أو الاكتفاء ببعض الكتب ونحو ذلك (¬2). هذا جواب الشاطبي عما قد يتصوره البعض .. ومع أنه ذكر جوابه هذا في الموافقات إلّا أن البعض رأى إِعادة الاعتراض مرة أخرى. ولننظر الآن فيما قاله الأصوليون: قال الغزالي في المستصفى: في اشتراط العلم بالعربية: "أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إِلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ... والتحقيق فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو. بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولى به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه" (¬3). وهذا ما يقوله الشاطبي، فكيف يقال أنه رجع إلى ما قاله الأصوليون! ويقوي ذلك ما ذهب إليه الشوكاني حيث قال: "الشرط الثاني: أن يكون عالمًا بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ¬

_ (¬1) مع الشروط الأخرى كما سيأتي وأهمها إدراك مقاصد الشريعة. (¬2) الموافقات 4/ 72 - 73. (¬3) المستصفى مع فواتح الرحموت 2/ 352.

ونحوه ولايشترط أن يكون حافظًا لها عن ظهر قلب .. وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالمًا بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى يثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرًا صحيحًا ويستخرج منه الأحكام استخراجًا قويًا" (¬1). ثم حذر كما حذر الشاطبي: فقال مؤكدًا على اشتراط الملكة: "ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبعدًا في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه، والحاصل أنه لا بد له من الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن" (¬2). وبهذا الذي قاله الشوكاني يخرج الناظر في الشريعة من رتبة المقلدين وإن لم يرتفع إلى رتبة سيبويه والأصمعي. ويؤكد ذلك ما قاله الجويني وهو يتحدث عن إحدى صفات المجتهد وهي العلم بالعربية، يقول: "ولا يشترط التعمق والتبحر فيها حتى يصير الرجل علامة العرب ولا يقع الاكتفاء بالاستطراف وتحصيل المبادئ والأطراف، بل القول الضابط في ذلك أن يحصّل من اللغة العربية ما يترقى به عن رتبة المقلدين في معرفة الكتاب والسنة وهذا يستدعي منصبًا وسطًا في علم اللغة العربية" (¬3). وهذه النصوص تجتمع على إفادة معنى واحد وهو أن يكون الناظر في الشريعة ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول 251 - 252. (¬2) إرشاد الفحول 251 - 252. (¬3) غياث الأمم للإمام الجويني 290 - تحقيق ودراسة فؤاد عبد المنعم ومصطفى حلمي - الطبعة الأولى - دار الدعوة.

وسطًا في العربية بين المقلدين وبين أمثال سيبويه والأصمعي، وذلك بأن يكون له من الملكة ما يرتفع به عن رتبة المقلدين وإن لم يرتفع إلى رتبة أئمة العربية، ويقول في موضع آخر وهو يتكلم عن شروط الاجتهاد: "الاستقلال باللغة العربية فإن شريعة المصطفى متلقاها ومستقاها الكتاب والسنن، وآثار الصحابة ووقائعهم وأقضيتهم في الأحكام وكلها بأفصح اللغات وأشرف العبارات فلابد من الارتواء من العربية فهي الذريعة إلى مدارك الشريعة" (¬1). ومقصد الشاطبي هو مقصد الجويني وغيره من الأصوليين ممن نقلت نصوصهم آنفًا وهو أن يكون الناظر في الشريعة مقتدرًا على معرفة مدارك الأحكام ومسالك الحلال والحرام ولا يتمكن من ذلك إلّا من فهم خطاب العرب الذي نزل القرآن بلغتهم، وهذا هو منهج الصحابة كما قال الجويني: "إنا سبرنا أحوال المفتين من صحب رسول الله الأكرمين فالفيناهم مقتدرين إلى مدارك الأحكام ومسالك الحلال والحرام ولكنهم كانوا مستقلين بالعربية، فإن الكتاب نزل بلسانهم، وما كان يخفى عليهم من فحوى خطاب الكتاب والسنة خافية" (¬2). والحديث هنا عن جماعة الصحابة - رضي الله عنهم -، فإن اللغة لا تضيع من مجموع الأمة في عصر من العصور كما قال الإِمام الشافعي .. وأما عن أحدهم فلا يتمكن منها غير نبي، وقد مر ما نقلته عن الشاطبي من أن المجتهد في اللغة قد يرجع إلى غيره إن أشكل عليه وذكر من فعل الصحابة ما يدل على ذلك، ويفسر كلام الجويني بالاستقلال هنا وأنه في معنى كلام الشافعي والشاطبي قوله: "إن اشتراط المصير إلى مبلغ لا يحتاج معه -أي المجتهد- إلى طلب وتفكر في الوقائع محال .. " (¬3). وفي معنى الطلب المشاورة التي أشار إليها الشاطبي، حيث بين أن المجتهد يحتاج إلى المشاورة لغيره والاستظهار بما عنده، وظاهر من مجموع كلام الجويني اشتراط الملكة التي تعين ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 286. (¬2) غياث الأمم للإِمام الجويني 292. (¬3) المصدر نفسه 291.

على فهم الخطاب، ومن هنا نجد الفارق بين قوله: "وهذا يستدعي وسطًا في علم اللغة والعربية" وبين قول ابن السبكي في وصف المجتهد بأنه: "ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية" (¬1). إذ أنه لا يشترط الملكة خلافًا لأبيه فقد صرح باشتراطها، فقال: "المجتهد هو من هذه العلوم -ومنها العربية ملكة له وأحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع" (¬2). وأجيب عن شبهة أخرى عرضت للمعترض على ترتيب الشاطبي في الموافقات وهي أن الشاطبي سوى بين العربي وبين المجتهد في اللغة العربية وبين المجتهد في الفقه بالنسبة لفهم اللغة واستعمالها، ويعتبر هذا تنقيصًا لمرتبة المجتهد في اللغة (¬3). والجواب: أن التسوية التي يريدها الشاطبي هنا هي التسوية في إدراك مواقع الخطاب وفهم مقاصده، وهم لا شك يستوون في الحصول على الآلة التي تمكنهم من ذلك، فالعربي المحض بسليقته والمجتهد باجتهاده ... وهذا الاجتهاد الذي يطلبه الشاطبي، أمّا أن لكل منهم مزايا خاصة ودرجات فهذا لم ينكره الشاطبي، ألم تر إلى قوله فيما سبق أن المجتهد يلزمه الاستظهار بغيره إذا أشكل عليه كما صنع عمر وابن عباس - رضي الله عنهما -، فالمجتهدون في اللغة عنده درجات كما أن فهم العرب الخلص درجات، فالتسوية التي أرادها الشاطبي محددة المعنى وهي التسوية في التمكن من فهم مواقع خطاب الشرع .. وهو معنى ما ذكره الشوكاني وغيره من التمكن من الملكة .. أما في غير ذلك فلم يقل الشاطبي شيئًا بل ميز بين مراتبهم، وليس في هذا تنقيصًا بهذا الاعتبار. ¬

_ (¬1) حاشية البناني مع جمع الجوامع 2/ 383 - شرح الجلال المحلي -الطبعة الثانية - مطبعة مصطفى البابي الحلبي. (¬2) المصدر نفسه 2/ 383. (¬3) الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر 171 - 172.

والحاصل أن شمول الشريعة وإدراك أحكامها لا يمكن أن يتحقق إلّا من مجتهد من أبرز شروطه أن تكون العربية ملكة له بحيث يدرك سعة لسان العرب ويفهم خطابها ولا يجهله، وأن ما أكد عليه الشاطبي وأبرزه واهتم به هو مذهب الأصوليين أمثال الشافعي والجويني والسبكي والغزالي والشوكاني، وبهذا يتحقق الناظر في الشريعة من معانيها ويدرك شمولها ويحققه في واقع الناس .. ويدرك في المقابل ثباتها ولايضرب بعضها ببعض ويسعى في تغييرها وتتناقض معانيها بين يديه لتفريطه في فهم مواقع خطابها ويرجع سبب ذلك في بعض الأحيان إلى تفريطه في حيازة الملكة في فهم العربية، وعدم الاستظهار بغيره عند الحاجة. أما إن قدر على الملكة -وإن لم يجمع مفردات اللغة- فإنه قادر بمشيئة الله على فهم شمول الشريعة حين الاستنباط منها محافظاً على ثباتها .. ولا ينقص من قدره أن يستظهر بغيره من علماء العربية إذا جهل منها شيء، وسيكون ذلك هو طريقه إلى تحقيق مهمة الاستنباط في سلامة من القصور في فهم الشريعة بحيث لا يعجز عن إدراك سعة معانيها، وفي سلامة من الزيادة عليها بما ليس منها بحيث لا يناقضها ولا يضادها. واشتراط الملكة دون الاحاطة والجمع والاشتغال بالدقائق مع جواز الاستظهار بالغير عند العجز .. هو السبيل الذي يحقق السلامة من القصور والزيادة. فلا الناظر يفقد الملكة بحيث لا يفهم معاني الخطاب ويختلط عليه العام والخاص والمطلق والمقيد .. ويفقد مع ذلك الضوابط التي يتحصن بها في الاستدلال فيحل الحرام ويحرم الحلال ويضيّق الواسع ويقول على الله بغير علم ويضطرب في فهم الشريعة ويقع في سوء جهله ويوقع من تابعه على ذلك .. كما ستأتي الإِشارة إليه من أمثال الذين وقعوا في مخالفة الإِجماع وغرائب الآراء يزعمون أنهم يجتهدون في فهم الشريعة، وهؤلاء تنقصهم الآلة، فلا هم حازوا الملكة في فهم الخطاب ولا هم إلتزموا بالضوابط التي تبنى على علم العربية كما

المطلب الثاني معرفة مقاصد الشارع

أشار إلى ذلك الإِمام الشافعي في رسالته في أصول الفقه، ومن ثم خلطوا الشريعة الربانية بأهواء البشر بسوء صنيعهم هذا. فلا بد إذاً من الملكة .. ولكي تكون في الإمكان لا نشترط الإِحاطة .. بل للناظر أن يستظهر بغيره فيما أشكل عليه وأعوزه، وهنا يستطيع أن يدرك مقاصد العربية ومن ثم يدرك مقاصد الشريعة، فيؤتي الاستنباط ثماره محققاً شمول الشريعة وثباتها، فلا نحن أقفلنا باب الاجتهاد وجعلناه من المستحيلات بحيث نوجب الإحاطة بعلم العربية ولا نحن تركنا الحبل على الغارب بحيث يدخل فيه كل دعي وإن جهل، وإلى الحديث عن الشرط الثاني وهو العلم بمقاصد الشريعة. المطلب الثاني معرفة مقاصد (¬1) الشارع وهذه المعرفة هي التي تؤهل الناظر لدرجة الاجتهاد، يقول الإِمام السبكي: "المجتهد هو: "من هذه العلوم ملكة له وأحاط بمعظم قواعد الشرع ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع" (¬2). ¬

_ (¬1) المقاصد جمع مقصد، وتقول قصدت إلى الشيء إذا طلبته، وقصد في الأمر قصداً توسط وطلب الأسدّ ولم يجاوز الحد، المصباح المنير 608، فمقاصد الشارع مطالبه، وعلى المجتهد أن يتعرف عليها ليعمل بها ويقف عند حدودها وقد صنف في الباب الجويني والغزالي والعز بن عبدالسلام والقرافي وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ الشاطبي في الموافقات فهو بحق فارس هذا الميدان لم يسبقه أحد في تقريرها كما قررها هو ولم يلحق به أحد بعده إلى الأن، انظر في هذا رسالة الدكتوراه: المقاصد في العقود 73 وما بعدها للدكتور عثمان المرشد -قسم المخطوطات- جامعة أم القرى - المكتبة المركزية. وليس المقصود هنا تفصيل ما ذكره العلماء في باب المقاصد وإنما نريد بيان أهميتها في صحة الاجتهاد ووجه ارتباطها باشتراط العربية، وفيما سيأتي من الموضوعات أمثلة توضح ذلك في كل موضع بما يناسبه إن شاء الله. (¬2) حاشية البناني على جمع الجوامع 2/ 383.

والوسيلة التي يكتسب بها قوة يفهم بها مقصود الشارع هي جملة معارف أشار إليها الأصوليون (¬1). فإذا اكتسب هذه المعارف كمعرفة الكتاب والسنة وقواعد الشريعة وأصول الفقه والعربية .. لكن لم يتمكن بعد اكتساب هذه المعارف من فهم مقاصد الشريعة لأن تلك المعارف لم تصبح له ملكة فإنه والحال كذلك لم يبلغ درجة الاجتهاد. وقد تبين عند دراسة أثر العلم بالعربية على إدراك شمول وثبات الشريعة أن المقصود هنا هو تحقق الملكة لا مجرد الحفظ والنقل وكذلك القول عند ذكر الشرط الثاني وهو معرفة مقاصد الشريعة وقبل النظر في أثر علم المقاصد على إدراك ثبات وشمول الشريعة، نشير إلى وجه الربط بين اشتراط علم العربية وعلم المقاصد، ووجه الربط بيخهما: أن من اتبع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم علم أن العرب تجمع بين اعتبار المعاني واعتبار الألفاظ، ولا ترى للألفاظ تعبدًا بحيث تهدر معها المعاني، كما أنها لا تعتبر المعاني فقط وتهدر الألفاظ، بل تبني على أحدهما مرة وعلى الآخر مرة. وقد استدل الإِمام الشاطبي على ذلك في كتابه الموافقات (¬2) بأن العرب جرت في كلامها على الاستغناء ببعض الألفاظ عما يراد منها أو يقاربها في المعنى بشرط أن يستقيم المعنى وذلك يدل على أنها لا تعتبر الألفاظ وحدها وإنما تعتبر ¬

_ (¬1) أشرت من قبل ص 278 - 245 إلى وجه الربط بين علم العربية وقواعد أصول الفقه. وذكرت من كلام الإِمام الشافعي في الرسالة ما يدل على ذلك، وهنا أشير إلى أن إدراك المقاصد فرع عن النظر في مجموع أدلة الكتاب والسنة والتمييز بين ما تصح نسبته إلى الشرع وبين ما لا تصح نسبته إليه، والنظر في مواضع الإِجماع واستعمال القياس، وهذا يؤكد ما قلته سابقًا من أن هذين الشرطين لهما من الأهمية المكان الأسمى، وذلك لتضمنهما لبقية الشروط ولأن تحققهما دال على وجود الملكة عند الناظر في الشريعة، فإذا علم مقاصد العربية ومقاصد الشريعة فقد حاز الملكة أحاط بالمفردات أم لا، وإذا لم يعلمهما لم يظفر بالملكة وإن حفظ من المفردات ما حفظ. (¬2) 2/ 56.

المعاني مع مراعاتها للألفاظ بحيث إذا لم يجر المعنى على استقامة لم تستبدل لفظاً بلفظ آخر، فالعبرة عندها بمجموع الأمرين معاً ولا تلتزم أحدهما وتهمل الآخر والعبرة بمراعاتها هذا أو ذاك أو مجموعهما هو جريان المعنى على استقامة. ولذلك أمثلة كثيرة في كلامها منها: 1 - ما حكاه ابن جني عن عيسى بن عمر وحكاه غيره أيضًا قال: سمعت ذا الرمة ينشد: وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصبا واجعل يديك لها سترا (¬1) فقلت: أنشدتني من بائس، فقال: يابس وبائس واحد (¬2)، فلم يعبأ بما بينهما من الاختلاف لما جرى معنى البيت على استقامة وكان صواباً على كلا الوجهين. 2 - وعن أحمد بن يحيى قال أنشدني ابن الأعرابي: وموضع زير لا أريد مبيته ... كأني به من شدة الرّوع آنس فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا "وموضع ضيق" فقال سبحان الله تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزير والضيق بمعنى واحد؟ 3 - ومن ذلك نزول القرآن على سبعة أحرف، وقد تفاوتت بعض القراءات وقرأ بها القراء - وهم يعتقدون أنهم قارئون للقرآن - وإن بدى بينها أول النظر اختلاف في المعنى - وسبب ذلك أنهم علموا أن الكلام جار على استقامة بحسب المقصود منه ومن أمثلة ذلك: (أ) {وما يخادعون إلّا أنفسهم}. ¬

_ (¬1) البيت في ديوان ذو الرمة غيلان بن عقبة العدوي رقم 1430 - شرح أبي نصر الباهلاني تحقيق الدكتور عبد القدوس أبو صالح 1393 هـ من مطبوعات مجموعات اللغة العربية بدمشق، والشخت هو ما دق من الحطب، وظاهر لها أي أعنها باليابس منه، ويقصد "النار". (¬2) بائس بمعنى يابس، واليبس والبؤس واحد وانظر القصة في المصدر السابق رقم 1430.

{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (¬1). (ب) (لنثوينهم من الجنة غرفًا). {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} (¬2). وجميع ذلك لا تفاوت فيه من جهة المعنى بل هو جار على استقامة بحسب القصد الشرعي كما هو ظاهر من معنى الآيات، والقرآن في ذلك جار على معهود الأميين من العرب في اعتبار المعاني والمقاصد - دون أن ترى للألفاظ تعبداً وإن كانت تراعيها والعبرة بجريان المعنى على استقامه (¬3). ولا يستقيم للمجتهد أن يدرك المعنى الشرعي للنص حتى يلاحظ مجموع الأمرين معاً فلا هو يقف عند مجرد التعبد بالألفاظ فيفوته مقصد الشارع - الذي يعرف من مجموع نصوصه - ولا هو يتبع المقاصد في ظنه وإن خالفت النصوص فيهدر الألفاظ ولا يهتم بجريان المعنى على الاستقامة بل ينبغي عليه ملاحظة الأمرين معاً ولا يعكر على هذا المعنى ما قرره الإِمام الشاطبي في موضع آخر تسهيلاً منه لتحقيق مهمة الاجتهاد - إذا تعلق بالمعاني والمقاصد مجردة عن النظر في النصوص أومسلمة من المجتهد - كأن أدركها مترجمة له ففهم مقاصد الشريعة من وضع الأحكام وبلغ فيها رتبة العلم بها صح منه الاجتهاد وكذلك إذا أخذ الناظر المقيس عليه (¬4) مسلمًا فإنه لا يحتاج إلى النظر في مقتضيات الألفاظ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 9 - النشر في القراءات العشر 2/ 207 - للحافظ ابن الجزري المتوفى 833 طبعة دار الفكر أشرف على تصحيحه الأستاذ علي محمد الضباع. (¬2) سورة العنكبوت: آية 58. المصدر السابق 2/ 343 - 344. (¬3) الموافقات 2/ 56 - 57 - 58. (¬4) المقيس عليه هو الركن الأول في القياس ويسمى الأصل مثاله كون الخمر وهي المقيس عليه حرمت لأجل الإِسكار فهذا يعرف بالنظر في الألفاظ الشرعية التي حرمت الخمر، فإذا أخذ الناظر حكم المقيس عليه مسلماً ثم قاس غيره عليه فإنه لا يحتاج إلى النظر في تلك الألفاظ الشرعية.

وقد ضرب الإِمام الشاطبي لهذا النوع من الاجتهاد أمثلة: منها اجتهادات ابن القاسم وأشهب في مذهب مالك، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة، والمزني والبويطي في مذهب الشافعي، فإنهم فرعوا المسائل على أصول المذهب على ما فهمه أئمتهم من ألفاظ الشريعة، وعملوا بمقتضى ذلك سواء خالفوا المذهب أم وافقوه، ويعلل الشاطبي صحة هذا النوع من الاجتهاد، بمجموع أمرين: الأول: أنهم اعتمدوا على معرفتهم لمقصد الشارع من وضع الأحكام ولذلك حل لهم الاجتهاد. الثاني: أنه لم ينكر عليهم أحد من أهل العلم .. وذلك دليل على صحة الاجتهاد منهم. والنتيجة التي يصل إليها الشاطبي أن من بلغ في فهم مقاصد الشريعة مبلغهم صح الاجتهاد منه في هذا النوع المشار إليه، وإن لم يبلغ في كلام العرب مبلغ المجتهدين، وأما من بلغ في هذه مبلغهم فله الاجتهاد على الإِطلاق (¬1). وإنما قلت أنه لا يعكّر على ذلك، لأن الجهة منفكة، ففي الموضع الأول: لم يكن أحد يستطيع أن يدرك لزوم اتباع المعاني والعلل والمقاصد وهو واقف عند حدود الألفاظ لا يتعداها، إلّا إذا سلم أن العرب الأولين -الذي نزل القرآن بلغتهم ومعهودهم- كانوا لايقفون عند حدود الألفاظ بل يعتبرون المعاني ويقدمونها مع مراعاة المحافظة على اللفظ. ومن هنا كان وجه الربط بين إدراك وجوب اتباع المعاني وبين معرفة لغة العرب ومعهودهم وقد نزل القرآن بلسانهم. أما الموضع الثاني: فإن من أدرك معهود العرب من لغتهم وسلّم به فإنه قد لا يحتاج إلى لغة العرب في موضع من مواضع الاجتهاد فإذا أراد أن يعمل المقاصد -وقد علمها مجردة عن الألفاظ -كان ترجمت له أو أراد أن يعمل القياس- وقد أخذ المقيس عليه مسلماً- فإنه ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 105 - 106.

يستطيع أن يجتهد في مثل هذه المواضع دون الرجوع إلى مقتضيات الألفاظ كما قرر ذلك الإِمام الشاطبي. وأنتقل بعد ذلك إلى أمر آخر يبدو لنا فيه بوضوح أثر اعتبار المقاصد والعلل على إدراك الشمول والثبات. فقد احتد الخلاف بين أتباع الظواهر وأتباع المقاصد والعلل -وهم أصحاب الرأي- وقد عرض الإِمام ابن القيم ما يقارب مائة صفحة أو تزيد لمقابلة أدلة الفريقين بعضها ببعض - ونقتصر هنا على مختصر لتلك المناظرة الطويلة نعرضها هنا لا من كلام ابن القيم بل من كلام الشاطبي فإن كلامهما في هذا الباب بعضه من بعض (¬1) وإليك هذه المناظرة كما يعرضها الشاطبي والتي تظهر منها حاجة المجتهد لفهم المقاصد واتباعه لها لكي يدرك شمول الشريعة في غير ما إفراط ولا تفريط. يتحدث -رَحِمَهُ اللهُ- عن من اتبع المصالح وأعمل القياس على الإطلاق ومن خالف في ذلك بحيث أن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطراداً لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير بل على مقتضى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2). فصاحب الرأي يقول: الشريعة جاءت بمصالح العباد في العاجل والآجل ودرءت عنهم المفاسد، دل على ذلك الاستقراء (¬3) فكل نص جاء مخالفاً فليس بمعتبر وقد شهدت الشريعة بما يعتبر وما لا يعتبر على وجه كلي عام، فيعمل بهذا الكلي في مقابل ذلك النص الجزئي. ¬

_ (¬1) محل المقارنة بين ما كتباه سيكون في فصل القياس وأثره على الثبات والشمول إن شاء الله. (¬2) سورة المائدة: آية 3. (¬3) سيأتي إجراء الاستقراء عند دراسة موضوع القياس.

والظاهري يقول: إن مصالح المكلفين تجري حسب ما أجراه الشارع لأن الشريعة جاءت للابتلاء، فإذا اتبعنا مقتضى النصوص تيقنًا من الإصابة وقد تعبدنا الشارع بذلك، وأما اتباع المعاني فرأي، ما خالف النص منه غير معتبر لأنه خاص مخالف لعام الشريعة (¬1). وبعد أن عرض منهج الفريقين علق عليه بقوله: "فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة" (¬2). والمنهج الوسط كفيل بمشيئة الله أن يؤدي إلى إدراك متوازن لمفهوم الثبات والشمول .. فلا يهدر المجتهد الألفاظ على حساب القياس واتباع المصالح .. ولا يهمل المقاصد ويجمد على الألفاظ، ولهذا يرى الإِمام الشاطبي أن الوقوف عند ما يريده كل فريق مؤد إلى إشكال في المسألة ويقرر وجوب الجمع بين مرادهما ليتحقق الاجتهاد بلا إشكال ولا احتمال، وذلك بأن "يخوض - الناظر - فيما خاض فيه الطرفان، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين" (¬3). ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 151 بتصرف بسيط في اللفظ. (¬2) الموافقات 4/ 151. (¬3) الموافقات 4/ 152 وهذا يشمل أنواع الاجتهاد التي سبق الحديث عنها، ومن خاصية هذا المجتهد أمران: الأول: أنه يحقق المناط الخاص، بحيث يجيب كل مكلف على حالته على الخصوص. الثاني: أن يجيب ويعلّم ويربي وهو ملاحظ للمآلات، وهي ما يترتب على الجواب والفتوى من مصالح أو مفاسد. ومقصد الإِمام الشاطبي أن الناظر بعد أن يبدأ في تنقيح المناط أو تخريجه ملاحظاً الجمع =

ثم قال عن هذه المنزلة -وهي الجمع بين المعاني وخصوصيات الألفاظ مميزاً لها عن الرتبة التي فيها الظاهري وصاحب الرأي- قال: "وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها، وحاصله أنه متمكن فيها حاكم لها غير مقهور فيها ... ويسمى صاحب هذه الرتبة الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والفقيه .. " (¬1). وظاهر بعد هذا البيان أن من هو في هذه المرتبة من الاجتهاد محتاج إلى العلم بالعربية حتى يعرف مقتضيات الألفاظ فلا يهدرها، وإلى معرفة مقاصد الشريعة حتى يعرف مراد الشارع فلا يضيق سعة الشريعة، بل يدرك شمولها ويحققه في خصوصيات الوقائع ويحافظ على ثباتها فلا يهدر خصوصيات الألفاظ ولا يضيع مقاصدها ولايضرب بعضها ببعض فيقع في التغيير والتبديل، ولما تحقق لفقهاء الصحابة - رضوان الله عليهم - هذان الشرطان تحقق لهم بالتالي إدراك شمول الشريعة وتحقيقه في واقع الناس، وسيأتي معنا عند الحديث عن طرق الاجتهاد ومنها الحديث عن المصالح، وذلك في المسائل التي لم ينزل بخصوصها حكم معين مثل تضمين الصناع وقتل الجماعة بالواحد وجمع القرآن .. وكثير من أمثال هذه المسائل التي لم يقفوا أمامها دون نظر واجتهاد، بل نظروا في الشريعة معتبرين لمقاصدها غير مهملين لألفاظها فوجدوا ضالتهم وحققوا شمول الشريعة وحافظوا على ثباتها. وهذا العمل استمر قائماً في الأمة في جل أزمانها .. وما تزال في حاجة إليه لمعرفة مراد الله سبحانه، وعلى من تأهل للنظر أن يكون شديد الحرص على إتقان العلم بهذين الشرطين فإن إدراكهما هو السبيل الوحيد لإِدراك شمول الشريعة في خصوصيات المسائل وثباتها في توازن واتساق. وأضيف هنا ما أشار إليه الدكتور المرشد من أن العلم بالمقاصد معين ¬

_ = بين المعاني وخصوصيات الألفاظ - أويأخذ ذلك مسلمًا ثم يبني عليه، بعد ذلك ينتقل إلى مرحلة تحقيق المناط الخاص ومراعاة مآلات الأفعال. (¬1) المصدر نفسه 4/ 152، 153.

للمكلف على ترتيب المناط الخاص ومعين للمجتهد لدفع التعارض الذي قد يتوهمه في بعض الأحيان، كما أن معرفتها طريق إلى معرفة حكم الشرع في آحاد أفعال المكلفين لا في باب واحد من أبواب الفقه بل في جميع الأبواب، فإن الشارع أراد من المكلف أن يجعل قصده موافقاً لقصد الشارع في جميع تصرفاته (¬1). وأختم هذا الحديث عن المقاصد بأن العلم بها كما أنه هو الطريق إلى تحقق ملكة الاجتهاد كذلك هو الطريق لإدراك الإِعجاز التشريعي وسبب من أسباب زيادة الإِيمان (¬2)، وبعد معرفة أهمية العلم بالمقاصد الشرعية واللغوية وأثر ¬

_ (¬1) المقاصد في العقود 56 - 57 - 62. (¬2) وأؤكد هنا أهمية العلم بالمقاصد في زيادة الإِيمان وهي من معنى قوله تعالى: {فإذا تليت عليهم آياته زادتهم "إيماناً" وعلى ربهم يتوكلون} الأنفال - 2، فالفقه بمقاصدها من أسباب زيادة الإِيمان، وأما القول بأن الإعجاز التشريعي - الذي تعتبر المقاصد مادته هو أصل لدعوة الكفار إلى الإِسلام بل هو أنفع من الإعجاز اللفظي والاستناد إلى أن القرآن يصل إلى أسماع أقوام كثيرين لا يقدرون على التعرف على الإِعجاز اللفظي، قول تحمل عليه حسن النية ولا تسعفه الحجة، والذي أريد مناقشته هنا هو كون الإِعجاز التشريعي أصل الدعوة إلى الإِسلام - وأسلم ابتداء بكونه طريقاً معيناً ومقويًا ومفيداً .. أما كونه أصلاً فلا ذلك أن الإعجاز اللفظي له دلالة، والإِعجاز التشريعي له دلالة، ودلالة الأول تجعله أعظم وأنفع .. فإن دلالته تتضمن إثبات توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهي أول ما يدعى إليها الكفار، بل هي الطريق المثمر .. وهي دعوة الرسل .. فإن الإنسان لايؤمن بأن الله هو إله لأنه حرم الخمر وهي مضرة، أو حرم الربا لأنه يجعل الأموال دولة بين الأغنياء ولا لأنه حرم كذا وأحل كذا .. فإن هذا لا ينفع الفطرة التي اجتالتها الشياطين، والفرض أن الفطرة التي نريد أن ندعوها للإيمان بالإسلام، في حاجة -لكي تؤمن بألله سبحانه- أن تدرك حقاً توحيد الربوبية وهي أن الله هو الخالق والرازق والمدبر والمتصرف والمهيمن وهو الذي بيده مقاليد السموات والأرض ودليل ذلك هو هذا الكون المخلوق والإنسان المخلوق .. وهذه هي طريقة القرآن، وهي طريقة ثابتة لأنها مبنية على اعتبار أن فطرة الإنسان إذا أوقظت تبين لها على وجه اليقين أن الخلق له دلالة حسية وهي أن من يُخْلَقْ لا يمكن أَنْ يَخْلُقْ .. وأنه لا بد له من خالق تظهر صفاته في هذا الكون فهذا الخلق يحتاج إلى قدرة .. فخالقه إله =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قادر .. ويحتاج إلى علم فخالقه إله عليم .. ويحتاج إلى إبداع وحكمة فخالقه مبدع حكيم .. ويحتاج إلى تدبير وتصريف وهيمنة فخالقه إله مدبر متصرف مهيمن ... ولا يمكن أن يقوم هذا الكون إلّا بإله واحد لا شريك له: {لو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا} الأنبياء - 22 .. وهكذا على طريقة القرآن في الدعوة إلى الإِيمان .. هذا هو الأصل وهذه هي دلالة الإِعجاز اللفظي .. فهي إذا أشمل وأعمق من دلالة الإِعجاز التشريعي .. وطبيعة الدعوة في القرآن قائمة على هذا الاعتبار .. وثمرتها أن الإِسلام عقيدة وشريعة يفهمه السامع من أول الأمر ويدركه بلا لبس ولا غموض .. ونذكر بعض الأسباب الذي تؤكد هذا الذي نقوله: 1 - إن الإقناع بمجرد الحكم -وهو الإِعجاز التشريعي- لا يقطع المحاجة والخصومة ولا يقطع النزاع، لأن المصلحة المرجوة جلبها من الحكم أو المفسدة المدفوعة في الغالب لا تكون خالصة كما قرره الشاطبي في الموافقات 2/ 16 - 17 - 18. فإذا أراد الخصم أن يتعرض للحكمة بالتشويش أمكنه ذلك. أما اذا اعتمدنا طريقة القرآن التي أشرنا اليها آنفاً لم يمكنه ذلك لأن المطلوب منه الإِيمان، أدرك الحكمة أم لم يدركها. 2 - إنّ هذا الطريق التي ترجى منفعته قد أدى خلاف ما ينتظر منه أصحابه فهل ضل كثير من المسلمين الا بتشويش الكفار عليهم من مستشرقين وغيرهم بحيث اعترضوا على كثير من الأحكام واتخذوها ذريعة لتشكيك المسلمين في دينهم. 3 - ثم إذا سلمنا بأنه طريق عظيم من طرق الدعوة .. فماذا نصنع بالأحكام التي لم تُعرف حكمتها، كيف نقنع بها ما لم نحدثه عن دلالة الإِعجاز اللفظي. 4 - ما يلزم على هذا الطريق من الحرج على الداعية والمدعو، أما الداعية فأنى له بالعلم بعلل الأحكام وحسن عرضها وقوة الدفاع عنها، ثم إذا أمكنه في كثير منها ثم طلب منه المدعو أن يبين سائرها فماذا يصنع، ثم إذا بين معظمها ثم كفر المدعو ولو بحكم واحد ولم تُبين له حكمته فأين يذهب جهد الداعي ... ؟ أما المدعو فالحرج يلزمه من أن هذا خلاف فطرته لأن القرآن يخاطب الفطرة من طريقين طريق الوجدان وما استقر فيه من الإقرار بأن الله هو الرب المعبود ... وطريق العقل على هذا الكون المفتوح .. وإذا أردنا منه أن يؤمن بالإسلام من خلال مخاطبته عن الإِعجاز التشريعي فإننا نقصره على منفذ واحد لفطرته وهو العقل .. ويا ليته على الكون المفتوح ولكنه على أحكام تظهر العلل والمقاصد في بعضها وتغيب في البعض الآخر .. 5 - ثم إن تعليل الأحكام بالمصالح والمنافع والخير الدنيوي والتركيز على هذا الجانب معارض -عند المدعو- بواقع التطبيق المشوه للإِسلام، ومن هنا يَسهُل عليه رد هذا الأمر بل لا يحتاج إلى كثير عناء، وأما طريق القرآن الذي أشرنا اليه آنفاً فهو لا يحتاج إلى =

ذلك على تحقق الشمول والثبات .. ننتقل إلى الحديث عن ضوابط الاجتهاد لنتعرف على أثرها على الثبات والشمول، وسيتضح لنا بمشيئة الله صلة هذا المبحث بما قبله، ذلك أنه لا يقف المجتهد عند هذه الضوابط ويلتزم بها ما لم يدرك مقاصد الشريعة ومقاصد العربية، والتطبيقات التي سنذكرها تؤكد ما نقوله هنا. فإلى المبحث الرابع بتوفيق من الله وعون، إنه جواد كريم. * * * ¬

_ = واقع بل آمن الناس أول الأمر وليس أمامهم إلّا بيان التوحيد والتنفير من ضده .. مع ماصرة الفطرة أمام مشاهد الخلق .. وعرض الحق عليها باستمرار من طريقي الوجدان والعقل حتى تفيق وتؤمن .. وهذا الطريق ما زال هو الطريق الأعظم للدعوة إلى الإِسلام .. وهو الأصل والإِعجاز الشريعي فرع عنه وسبب في زيادة الإِيمان، وعلى هذا فإن من أدرك دلالة الإِعجاز اللفظي بنفسه أو بتعليم غيره له فقد بلغته الدعوة فإن آمن بمقتضى ذلك آمن بالإِعجاز الشريعي أدركه أو لم يدركه، وإنْ لم يؤمن بدلالةِ الإِعجازِ اللفظي لم يؤمن بالإِعجاز التشريعي، ولذلك ضمنت هذه الرسالة حديثاً عن دلالة الإِعجاز اللفظي الذي هو أصل دعوة الرسل في كل موضع يناسب ذلك ص 22 لأن الثبات والشمول عقيدة ينبغي أن تستقر في قلب كل مسلم بحيث يعتقد اعتقاداً مجملاً أن هذه الشريعة تلزم الخلق ما عاشوا أبداً وأنها تشملهم بأحكامها. وقد سبق ص 44 ثم يتفاوت المسلمون في العلم بحقيقة ذلك ويبرز قدر أهل العلم -ومنهم المجتهدون- في إدراك الإِعجاز الشريعي تفصيلاً واستنباطاً .. والله أعلم.

المبحث الرابع ضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول

المبحث الرابع ضوابطه وأثر ذلك على الثبات والشمول توطئة: إن إدراك المجتهد لسعة الشريعة وشمولها يؤدي به إلى التعرف على حكم الله في كل حادثة فيرتفع عن الناس الحرج والضيق ويتمكنون من الوصول إلى رغبتهم في تطبيق حكم الله، والخضوع له في جميع حياتهم الخاصة والعامة. ومقتضى هذا المعنى أن هذه الشريعة محددة المعالم بينة السمات لها ضوابطها، ولها حرمتها، فلا يجترئ مجترئ على تعدي حدودها وتغيير معالمها وإلّا لما استطاع المجتهدون ولا المكلفون أن يجدوا لهم مأوى يأوون إليه ولا كنف يحتمون به. وقد تكفل الله لهذه الشريعة بالحفظ والثبات والاستقرار فلا تملك أمة ولا هيئة أن تزيد في كتابها أو تنقص منه ولا في سنّة نبيها - صلى الله عليه وسلم - ولا فيما نقل عنها من إجماعاتِ إلّا ويكشف الله كيد الكائدين ... والخطر كل الخطر ليس في زيادة آية أو حديث أو دعوى إجماع أو نحوه فذلك أمر سهل على العلماء كشفه. وإنما الخطر في تأويل الغالين وتحريف المحرفين الذين يجعلون من الدين ما ليس منه ويلبسون على العامة -ومن ماثلهم- الأدلة ويزعمون أنهم يردون إلى الله ورسوله، ويصعب على العلماء الراسخين في كثير من الأحيان كشف زيفهم وفضح دسائسهم لأنهم يدخلون تحت أذيال التأويل زاعمين أنهم

لا يريدون بالإِسلام وأهله إلّا خيراً، وهم يسعون في الفساد من حيث يزعمون الإِصلاح، وفي الفتنة من حيث يزعمون التأليف .. وفي الخوض في الباطل من حيث يريدون بزعمهم بيان الحق وإظهاره. ويزداد خطرهم - إذ ينقلبون على أعقابهم ويكبون على وجوههم عندما يرجعون على علماء الأمة الربانيين من السلف بالمخالفة والتأنيب أو التشكيك، ولسان حالهم يقول أنهم أعلم وأحكم وأعرف بالمصالح ومقتضيات الأحوال، وأنهم أهل الفقه والدراية وهم الذين يجب أن يرجع الناس إلى أقوالهم إن أرادوا أن يتبينوا حقيقة الإِسلام ويعيشوا به بعيداً عما مضى من الأحكام ... حتى لا يدعوا للناس باب فتنة إلّا فتحوه .. ولا بدعة إلّا رفعوا أعلامها .. ولا حرام إلّا أوقعوهم فيه .. وكثيراً ما يؤتى هؤلاء من أحد أمرين: إما من هوان هذا الدين على نفوسهم فيخوضون فيه بأهوائهم ... وإما أن يؤتوا من جهة جهلهم بلغة العرب ومقاصد الشريعة فينسبون إلى الشريعة -بحسن قصد- ما ليس منها. ولخطورة هذا المسلك الغريب على منهج التفكير الإِسلامي أحاول هنا كشف أصوله الفاسدة، وذلك ليستقر مفهوم الثبات والشمول في الشريعة، ونحول بقدر الإِمكان بين هذه الأمة وأهواء الذين لا يعلمون لكي تعود إلى الفهم الأول لهذا الدين الذي أخرج خير القرون ممثلاً في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والطريق إلى ذلك هو سلامة الناظر في الشريعة من الانحراف، فلا بد له إذاً من معرفة لغة العرب ومقاصد الشريعة كلما أسلفت، وأن يتعرف أيضاً على المسالك الفاسدة، وهي مسالك المبتدعة لكي يحذر منها وتزداد بصيرته بمنهج الحق في طريقة الاستدلال بالنصوص الشرعية كلما كان عليه السلف الصالح، فلا يحدث مسلكاً غريباً ولا يتبع من يحدثه، وبذلك يحافظ على مقصود الشارع فلا يغيره ولا يبدله ولا يقدم بين يديه .. ولا يضيع جهده في اتباع الأهواء. ومع أن "طريقة أهل البدع في الاستدلالات .. لا تنضبط لأنها سيالة

المطلب الأول البناء على غير أصل

لا تقف عند حد، وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة" (¬1). ومع القطع بهذه الأمور وهي: 1 - أن الباطل له مسالك كثيرة. 2 - أن العقل لا يمكن أن يحصر طرقه ومسالكه، ولا الاستقراء. 3 - أنه يمكن أن تحدث مسالك للنظر جديدة لا عهد للسابقين بها (¬2). مع العلم بذلك كله إلّا أنه لا بد من محاولة لتحديد أخطر مسالكهم والتحذير منها، ومن أشدها فساداً: 1 - البناء على غير أصل والجهل بمقاصد الشرع. 2 - عدم العلم بالعربية. 3 - اتباع العقل، وتحكيم الأقيسة الفاسدة (¬3). المطلب الأول البناء على غير أصل وقع أهل الأهواء في هذا المسلك الفاسد لأنهم يجهلون مقاصد الشريعة، ولم يتلزموا منهج التلقي الذي علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ورضيه لهم. وكل من جهل مقاصد الشريعة وقواعد الدين وقع في هذا المسلك الذي اشتهر به أهل الأهواء. وتقرير أحكام الشرع، والكلام في الدين لا يكون إلّا بأصل شرعي أو بالبناء عليه. ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 285. (¬2) المصدر نفسه 1/ 223 - 224. (¬3) الاعتصام 1/ 224 - 231 - 237 - 239.

وقد نقل الإِمام الشافعي الإِجماع على: أنه ليس لأحد كائناً من كان أن يقول إلّا بعلم (¬1). قال: "ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول إلّا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإِجماع والآثار وما وصفت من القياس عليها" (¬2). وهذا أمر لا ينبغي لعاقل يحذر على دينه أن يستريب فيه، وإلاّ هلك مع الهالكين، وهل ضلت الفرق وأضلت إلّا بعد أن تركت هذا الأصل، وهذا هو الإِمام ابن عبد البر ينقل إجماع أئمة الأمصار قديماً وحديثاً ويؤكد ما قاله الإِمام الشافعي قال: " ... الاجتهاد لا يكون إلّا على أصول يضاف إليها التحليل والتحريم وأنه لا يجتهد إلّا عالم بها ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه لا نظير له من أصلِ ولا هو في معنى الأصل وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديماً وحديثاً فتدبر" (¬3). وعلى ذلك فإن كل احتمال مبني على غير أصل غير معتبر فلا بد لكل قول من شاهد يشهد لأصله وإلاّ كان باطلاً، ومن هنا اعتبر العلماء كل من تكلم في القرآن برأيه فهو مذموم، "لأنه متقول على الله بغير برهان، فيرجع إلى الكذب على الله تعالى" (¬4). والراسخ في العلم إنما يتكلم في القرآن ويبين مراد الله سبحانه وهو معتمد على الشواهد لا مجرد الاحتمالات، فلا يقول تحتمل الآية أن يكون الحكم كذا وكذا أو أن المعنى هو كذا وكذا (¬5)، ومن هذا النوع رد بعض العلماء الاستحسان ¬

_ (¬1) انظر الإِجماع في الأم 7/ 273. (¬2) الرسالة: مسألة رقم 1468. (¬3) جامع بيان العلم وفضله 2/ 57. (¬4) الموافقات 3/ 286. (¬5) المصدر السابق 3/ 288.

على اعتبار أنه قول مبني على غير أصل، وقال الإِمام الشافعي من استحسن فقد شرع، ذلك أنه اعتبر الاستحسان قول بالهوى والتشهي (¬1). وليس من البناء على الأصول ما يزعمه بعض المحدثين من الاستناد إلى ما يسمونه "بروح الشريعة" وقد ناقش الأستاذ المودودي -رَحِمَهُ اللهُ- بعض هؤلاء المتأثرين بالثقافة الغربية، حيث يستندون إلى حرية الرأي ويفسرون النصوص الإِسلامية على ذلك الأساس ثم يعلقون تفسيراتهم بمعان عامة يطلقون عليها "روح الشريعة". وقد قسم المودودي الأمر إلى قسمين: الأول: ما يسميه روح الشريعة الحقيقي وروح الفقه التي ورثناه عن فقهاء السلف فهذه جديرة بالعناية، ولعله يقصد ما استندت إلى أصل معتبر من كتاب أو سنّة أو إجماع أو فهم للسلف، وهو كما قال. الثاني: روح غريبة عن الإِسلام يؤتى بها من خارجه وتفسر نصوص الشريعة على ذلك الأساس الغريب، فهذه ترد وتُسْتقْبح لأنها مؤدية إلى نزع الربقة من طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ويقول الغزالي في المستصفى: "نعلم قطعاً إجماع الأمة قبلهم (¬3) على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في الأدلة .. (¬4). ¬

_ (¬1) ومن العلماء من علم أن القائلين به يعتبرونه اجتهاداً معتبراً لأنه مبني على أصل وهم بعد ذلك فريقان فريق وافق على التسمية .. وفريق آخر رفضها باعتبار أنها راجعة إلى الأدلة فلا تحتاج إلى تسمية خاصة. وانظر الاعتصام 2/ 136 - 137 - 138 - 139. ونظرية المصلحة 374 - 387. (¬2) مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة 176، طبعة سنة 1397، دار القلم، الكويت. لأبي الأعلى المودودي. (¬3) يعني بهم القائلين بالاستحسان على اعتبار أنه قول بالهوى والتشهي، وإيراد النص مفيد في الموضع وإن كان أصله في موضع آخر. (¬4) 1/ 275.

وقال: "إن الصحابة أجمعوا على استحسان (¬1) منع الحكم بغير دليل ولا حجة، لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه، وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني أستحسنه، ولو قال ذلك لشددوا الإِنكار عليه، وقالوا من أنت حتى يكون استحسانك شرعاً وتكون شارعاً لنا .. " (¬2). وهنا نشير إلى مسلك بعض الباحثين المحدثين حيث زعم بعضهم أن الصحابة كانوا يبنون على غير أصل (¬3). وما هذه النظرة من أمثال هؤلاء إلّا موافقة منهم لمذاهب أهل الأهواء .. وهي شبيهة بنظرات الذين يزعمون أنهم يتبعون روح الشريعة كما أشار المودودي وهم في الحقيقة يتبعون روح الثقافة الغربية (¬4). والبناء على أصل شرعي نقله إلينا السلف من الصحابة والتابعين هو طريق عظيم للمحافظة على ثبات الشريعة، فإن اتباع ذلك الأصل الذي ثبتت شرعيته ضابط للاجتهاد عن أن يسلك تلك المسالك الفاسدة التي غُيّر بها الدين وأُدخل فيه ما ليس منه، وبه نميز بين النظر الصحيح والنظر الفاسد، وبه نزيّف تلك الآراء التي تنتسب إلى الشريعة وهي ليست منها لأن كل ما لم يُبْنَ على أصل معتبر كان حقه الإِلغاء لأنه حينئذ مجاف للشريعة، ومن ذلك رد قول المتبعين للمصالح الموهومة المناقضة للشريعة لأن كل ذلك مبني على شفا جرف هار ليس له سند إلّا الأهواء وتخرصات العقول .. ولذلك كان من أعظم سمات المنهج الأصولي عند أهل السنة الرد إلى أصل شرعي من نص أو قياس معتبر .. وهذا هو منهج الصحابة - رضوان الله عليهم -، كما نقل العلماء المعتبرون -رحمهم الله- الإِجماع على ذلك. ¬

_ (¬1) الأولى أن يقول "إن الصحابة أجمعوا على منع الحكم بغير ... ". (¬2) المستصفى 1/ 278 - 279. (¬3) ولهم في ذلك كلام يطول أكثره عند حديثهم عن المصلحة وسيأتي مناقشة شبههم بالتفصيل - إن شاء الله. (¬4) سيأتي معنا مناققة بعض المتأثرين بآراء المستثرقين إن شاء الله.

المطلب الثاني الجهل بلغة العرب

والأصل الشرعي -كما هو ظاهر- لا يقتصر على أن يكون نصاً شرعياً بل ويكون معنى شهد له نص معين أو مجموعة نصوص كما سيأتي بيانه وهذا هو قاعدة الشمول فإن جميع الحوادث والوقائع التي تجد للناس إما أن تدخل تحت نص شرعي أو تحت معنى شرعي أو تحت أصل مستنبط منهما، والبناء على أصل شرعي يزيد شمول الشريعة عمقاً ووضوحاً عند تحقيقها في عالم الواقع، ذلك أن الأصل الشرعي المستنبط يأخذه المجتهدون في كل جيل ويهتدون به، فهو لهم ضابط عن الوقوع في التغيير والتبديل، كما أنه معلم لهم وقاعدة يبنون عليها، فلا يزداد هذا الأصل مع مر العصور وتعاقب أجيال هذه الأمة إلّا قوة في الثبات وعمقاً في الشمول، وبهذه المعالم يُحفظ جهد المجتهدين ويُبنى بعضه على بعض، ويدركون به شمول الشريعة من جانب ومن جانب آخر يحول بينهم وبين تغيير الأحكام والوقوع في الابتداع، ويربط أجيال هذه الأمة برباط متين من خلال توحيد وتنمية جهد المجتهدين، وهذه أكبر سمات فقهاء أهل السنّة، أما المنحرفون عن هذه الشريعة من أهل الأهواء والابتداع فقد بنوا على غير أصل شرعي، واتبعوا أهواء الأمم الكافرة وطوائفها، وفرقوا دينهم ومناهجهم وقطعوا ما بينهم وبين الجيل الأول، وغيروا الشريعة بعقائدهم وأحكامهم الفاسدة ولم يدركوا ثباتاً ولا شمولاً، فانصرفوا عن الشريعة إلى ما يخالفها يبتغون غير الله حكماً، ويلبسون على الأمة دينها، فليس لهذه الشريعة عندهم معالم ثابتة تميزها عن غيرها، ولم يكفهم أن نزّلها الله عليهم، بل اتبعوا عقولهم القاصرة أضلتهم العجمة وأفسدهم سوء الفهم وأهلكهم الزيغ والانحراف. المطلب الثاني الجهل بلغة العرب تقدم الكلام في أن المجتهد لا بد أن يكون في فهم لغة العرب كالعربي .. بحيث يعلم لغة العرب، وكيفية خطابها، فلا يخرج اللفظ عما وضع له .. وإن لم يكن كذلك لم يجز له النظر في الشريعة، بل عليه الرجوع إلى أئمة

العربية. فإن نطق بالصواب من حيث لم يعلمه فهو مخطئ آثم كما قال الشافعي في كتابه الرسالة (¬1). وقد مر معنا بيان هذا الشرط والاستدلال عليه بما فيه الكفاية ونقتصر هنا على بيان أثر انعدامه على ثبات الأحكام بشيء من التفصيل باعتبار أن الجهل بها صفة من صفات أهل الأهواء ومسلك من مسالكهم. وأول ما نبدأ به هنا ما أشار إليه الشاطبي في الاعتصام، من أن من أعظم الأسباب التي خرجت بها الفِرَقُ ووقعت بها الضلالات، وتغيرت بها معالم الشريعة في واقع الناس، هو وقوع الناس في العجمة، وتضييعهم للغة العرب .. ونظرهم في الشريعة وهم لا يملكون الآلة، فجاؤوا بالعجائب وقلبوا الشريعة ظهراً لبطن (¬2). فإذا كانت الشريعة تأمر بالألفة والمحبة صارت تأمر عند هؤلاء أشباه الأعاجم بالفرقة والعداوة، واذا كانت تأمر بإصلاح ذات البين والكف عن الخوض في الباطل صارت عند هؤلاء على الضد من ذلك (¬3). وما زال جهلهم بلغة العرب التي نزل القرآن بها يرمي بهم في أودية المهالك حتى ضلوا وأضلوا .. وهذا وإن كان في أصل الاعتقاد إلّا أنه انجر إلى أحكام الشريعة. وقد أحسن الإِمام الشاطبي عندما بين أصول الفرقة الناجية وهي أهل السنّة والجماعة فذكر من هذه الأصول: أنه لا يتكلم في القرآن والسنة إلّا من هو عربي اللسان (¬4). أما المنحرفون عن هذه الشريعة فيتكلمون فيها ولا يتبعون ¬

_ (¬1) الرسالة: مسألة 178. (¬2) الاعتصام 1/ 237. (¬3) الموافقات 4/ 122 - 123. (¬4) الاعتصام 2/ 297.

لغة العرب بل تقودهم مسالكهم الفاسدة وتحف بهم العجمة من كل جانب ومن أمثلة ذلك: 1 - قول من زعم أنه يجوز نكاح تسع من النساء بدليل قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} (¬1). لأنه جمع أربعاً إلى ثلاث إلى إثنتين فكانت تسْعاً. والحق أن معنى الآية فانكحوا إن شئتم إثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً. والقائل بنكاح التسع "لم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب، وإن معنى الآية فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين، أو ثلاثاً أو أربعاً أربعاً على التفصيل لا على ما قالوا" (¬2). ومثنى وثلاث ورباع ممنوع من الصرف على وزن فعال ومفعل، فثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة، ومثنى معدولة عن اثنتين اثنتين، فتقول جاء القوم ثلاث ثلاث أي ثلاثة ثلاثة، ومثنى أي اثنين اثنين (¬3). قال ابن العربي المالكي مقصود الكلام ونظام المعنى فيه "فلكم نكاح أربع، فإن لم تعدلوا فثلاثة فإن لم تعدلوا فاثنتين، فإن لم تعدلوا فواحدة فنقل العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته، وهي الواحدة من ابتداء الحل وهي الأربع ولو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام فانكحوا تسع نسوة، فإن لم تعدلوا فواحدة وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق بالقرآن" (¬4). 2 - قول من زعم أن الرجم ليس ممن قضى الله به لأنه ليس في كتاب الله. ففي الحديث الذي رواه عبيد الله أنه "سمع أبا هريرة وزيد بن خالد قالا: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل فقال: أنشدك الله إلّا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي قال: قل، ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 3. (¬2) المصدر نفسه 2/ 302. (¬3) شرح ابن عقيل 3/ 325 - 326 الطبعة السادسة عشر - دار الفكر 1394 هـ. (¬4) أحكام القرآن 1/ 313 - وانظر تفسير ابن كثير 1/ 450 - 451 وفيه نقل الأدلة من الأحاديث على منع الزيادة على أربع.

قال: إن ابني هذا كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها" (¬1). وقي هذا الحديث دلالة على أن الرجم ممن قضى الله به لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأقضين بينكما بكتاب الله" ومثله قوله تعالى: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} (¬2). أي حكمه وفرضه الذي شرعه لكم وألزمكم به فلا تخرجوا عن حدوده وأمره الذي أمركم به، ولا تقربوا ما حرم عليكم (¬3). ولكن العجمة أهلكت هؤلاء فزعموا أن الرجم ليس في كتاب الله فلا يعتبر من شريعته، ولو علموا معنى الأقضين بينكم بكتاب الله" لما انحرفوا في تغيير هذه الشريعة وهي شريعة "الرجم" (¬4) ولعلموا أن الله لما أرسل جبريل إلى محمد عليهما السلام أرسله بالوحي، فكما أن الكتاب وحي من الله وقضاء فكذلك السنّة وحي من الله وقضاء على ما بيناه فيما سبق (¬5). ¬

_ (¬1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 12/ 136 - 137 باب الاعتراف بالزنا. ومعنى "إن ابني هذا كان عسيفاً" أي أجيراً. المصدر نفسه 12/ 138. (¬2) سورة النساء: آية 24. (¬3) تفسير ابن كثير 1/ 475، وجامع البيان 5/ 9. (¬4) الاعتصام 2/ 315، وقد ذكر الشاطبي هذا المثال لبيان كيف أهلكت العجمة من ظن بنفسه القدرة على الاستدلال وهو يجهل لغة العرب، وهو كما قال، وأضيف أن هؤلاء هلكوا مهالك شتى منها ما ذكره الشاطبي ومنها أنهم لم ينظروا في السنة العملية لرسول الله وصحابته من بعده، فخالفوا الإِجماع وردوا المحكم من النصوص الآمرة باتباع الرسول وتعلقوا بالمتشابه فضلوا وأضلوا. (¬5) انظر ما سبق ص 30 - 32.

3 - قول من زعم أن شحم الخنزير حلال، لأن القرآن حرم اللحم دون الشحم: ولو سأل عن لغة العرب لعلم أن اللحم يطلق على الشحم (¬1)، فإذا حرم القرآن لحم الخنزير فقد حرم شحمه، بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم (¬2). قال ابن العربي المالكي "وقد شغفت المبتدعة بأن تقول: فما بال شحمه بأي شيء حرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحماً فقد قال شحماً، ومن قال شحماً فلم يقل لحماً ... " (¬3). فالعجمة وهي عدم التمرس بلغة العرب وعدم الرجوع إلى أئمتها هو من الأسباب التي أدت إلى تغيير الأحكام كما هو واضح من هذا المثال. ثم ذكر الشاطبي أمثلة أخرى متفرقة وعلق على بعضها بقوله: "فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنّة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، والصحابة رضوان الله عليهم براء من ذلك، لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلّم. فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية - إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو -إن شاء الله- داخل في سوادهم الأعظم، كائن على ما كانوا عليه، فانتظم في سلك الناجية" (¬4). وقد استند الشاطبي على ما حرره الإِمام الشافعي في الرسالة حيث قال: " ... وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها. ولا يعلمه إلّا من قَبِلَهُ عنها، ولا يشركها فيه إلا من ¬

_ (¬1) تقول العرب رجل لحيم إذا كان سميناً - مجمل اللغة 804. (¬2) الاعتصام 2/ 302 - 303. (¬3) أحكام القرآن 1/ 54. (¬4) يقصد في سلك الفرقة الناجية وهي التي تكون على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم -. الاعتصام 2/ 304. ومع هذا الشرط شروط أخرى ستأتي الإِشارة إليها.

اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله" (¬1). وقد علق عليه الشاطبي بقوله: "هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد، فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أُدّيت، وأن لا يُحَسِّنْ ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها، فإذا ثبت على هذه الوصاة كان - إن شاء الله - موافقاً لما كان عليه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام" (¬2). وما زل أهل الأهواء - وفارقوا ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - إلّا بتركهم لهذه الوصاة، فلم يطلبوا لغة العرب من عند أهلها العالمين بها، ولم يتبعوا معهود العرب في لسانهم، وحسّنوا الظن بأنفسهم، وأوقعوها في المسائل المشكلة فقالوا في الشريعة برأيهم لا بلسانها، فضلوا وأضلوا ... وخالفوا المسلمات في العقائد والأحكام .. وخالفوا مواطن الإِجماع من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ولا يعد خلاف أهلها خلافاً "وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية فهو عين البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى" (¬3). إذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولًا وفروعاً أن يراعي ذلك، ويتق الله في نفسه وفي غيره، ولا يتكلم في الشريعة إلّا وقد تحقق من هذا الشرط مع الشروط الأخرى فإن لم يستطع فعليه بأخذ العلم عن الصحابة وأئمة السلف. وحينئذ لن يتكلم في الشريعة أحد برأيه وإنما سيتكلم فيها بلسانها .. فقد ¬

_ (¬1) الرسالة: مسألة 143. (¬2) الاعتصام 2/ 300 - 301. (¬3) المصدر السابق 1/ 238.

المطلب الثالث الاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه"

وضعت هذه الشريعة على الدوام والثبات .. والتزم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتداء به - منهجاً للاستنباط منها يحفظ مقاصدها ويعرّف الناس بها ويحافظ على ثباتها، ويحول بين الناس وبين الإِحداث فيها وتغيرها. ونختم هذا الموضع بذكر نصيحة الإِمام الشافعي للمسلمين عامة - نتبعها ما ذكرناه من وصاة الشاطبي تأكيداً وإعانة على الخير وإيصاداً لأبواب الشبه التي أصابت كثيراً من الناس بسبب غفلتهم عن تلك النصيحة، يقول الإِمام الشافعي: "وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيره: لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب، وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها. فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة: نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، وإدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سفه نفسه، وترك موضع حظه، وكان يجمع مع النصيحة لهم قياماً بإيضاح حق وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين من طاعة الله، وطاعة الله جامعة للخير" (¬1). المطلب الثالث الاعتماد على "العقلى واتباع المتشابه" هذا من أكبر الأسباب التي أدت إلى الإِحداث في الشريعة وتغيير أحكامها، فأدخل فيها ما يضادها، وأخرج منها ما هو من صلبها فلا أدرك المتبعون لعقولهم و"المتشابه" لا ثباتها ولا شمولها، وخالفوا عن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تابعهم على ذلك من فقهاء أهل السنة الذين يعتقدون أن الحاكم بإطلاق هو الله سبحانه، أما العقل فهو محكوم بالشريعة، فالمشرع واحد وهو الله، وكل ما سواه مخلوق في مقام العبودية وقد سبق تقرير هذا المعنى. ¬

_ (¬1) الرسالة: مسألة رقم 170 - 171.

وقد مجد الشيخ محمد عبده العقل فقال: إن على الإِنسان أن يتبع عقله حتى يدرك بالبراهين الصحيحة الحق، ثم يرجع بعد ذلك إلى الوحي فإن وجده موافقاً فليحمد الله، ويلزم التصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة. وإن لم يجده موافقاً فليتبع حكم العقل، ولا يبحث عن مراد الله ولا رسوله لأنه لا يعلم مراد الله ورسوله إلّا الله ورسوله، وليقل: "آمناً به كل من عند ربنا" (¬1). فالعقل إذاً هو المعول عليه ابتداء ثم بعد ذلك نرجع إلى الوحي فإن وافق قلنا الحمد لله، وإن لم يوافق اكتفينا بالقول "كل من عند ربنا" وآمنا في الوقت نفسه بحكم العقل المخالف للوحي. وهذا القول ظاهره خلاب، وإذا تحققت منه لم تجده شيئاً. ذلك أن العقل من خلق الله ولا شك وقد كرم الله به الإِنسان عن الحيوان .. إلّا أنه مع هذه المنزلة التي منحه الله إياها، قد جعله الله محكوماً بحكم الوحي، فجعل للوحي ¬

_ (¬1) وقارن بما سبق تجد هذا الكلام شديد الشبه بكلام المعتزلة ص 193، بل يزيد عليه شراً كما حقق ذلك الدكتور سليمان دنيا حيث يقول مقارناً بين مسلك المعتزلة ومسلك الشيخ محمد عبده الذي نقلته في المتن أن مناط التكليف عند المعتزلة هو العقل ويبقى للنصوص عندهم حق استنباط الأحكام منها ما دام العقل لا يعارضها "وهذا الحق ضائع تماماً بالنسبة للمنهج الذي ذكره الشيخ محمد عبده لأنه لا ينظر إلى النصوص إلا في نهاية المطاف كما صرح بذلك الشيخ محمد عبده نفسه في النص السابق فإن وجدها مطابقة لما أثبته العقل حمد الله، وإن وجدها غالفة، آمن بأنها من عند الله، من غير أن يكون لها أية دلالة على معنى محدد، ومعنى الإِيمان بها في هذه الحال، أن المؤمن لا يلتزم حيالها بأمر من الأمور، وما أيسر هذا على الفيلسوف إن كان ذلك ينجيه من وصمة الخروج على الأديان والتنكر لها .. " الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين، المقدمة 58 - 59 - 62 تقديم وتحقيق الدكتور سليمان دنيا دار إحياء الكتب العربية - الطبعة الأولى 1337 هـ، وقد وفق فضيلته في اختيار هذا العنوان لكتابه هذا أعظم توفيق، وقد أحسن في تتبع نصوص الشيخ محمد عبده، الدالة على مسلكه في الاستدلال والتي تحدد موقفه من العقل وكشف تناقضها. انظر 2/ 719 هامش رقم واحد.

منزلة أعظم من منزلة العقل، فمن أراد أن يحترم عقله ويحافظ على المنزلة التي منحها الله له فليتبع الشرع ويحاكم عقله إليه. فالله سبحانه عندما خلق لإبن آدم عقله كرمه بحيث جعله محكوماً بأمر الله، وجاءت الرسل صلوات الله وسلامه عليها بهذه البديهية .. وحَكّمت الوحي على أنفسها وعقولها ودعت الناس لذلك، فإن يكن العقل من آثار الله -أي من مخلوقاته- والوحي هو كلام الله، فذلك حق وصدق. وعلينا بعد ذلك أن ننظر لنعرف أيهما أعلى مرتبة، الوحي أم العقل، ومن الحاكم؛ وحينئذ سيكون الجواب أن الوحي أعظم مرتبة وأنه حاكم على العقل وإذا أدى العقل مهمته وهو تحاكمه إلى الوحي لن يكون هناك تعارض بته، لأن العقل المتعبد بالوحي لا يمكن أن يعارضه. ولقد أحسن فضيلة الأستاذ الدكتور سليمان دنيا حيث قال مناقشاً للشيخ محمد عبده في تحديده لمهمة العقل: قال: "وعندي أن الشيخ محمد عبده إذا كان لم ينقص العقل حقه فهو قد جاوز به حده" (¬1). وهذه المجاوزة هي تقديم البرهان العقلي على النص الشرعي، فإذا وافق النص الإِلهي العقل قلنا الحمد لله، وإن خالفه النص الإِلهي، حكمنا بحكم العقل، ولا يعط النص أكثر من قوله: "إنك من عند الله" (¬2). ويقول فضيلته: "ذلكم هو كل ما في الأمر، أما النصوص الإِلهية وما تنطوي عليه من آراء فأمرها دائر بين: أن تكون موافقة إلى ما تأدت إليه هذه البراهين (أي العقلية) أو أن تكون مخالفة لها، والأمر في كلتا الحالتين سهل يسير في نظر الشيخ محمد عبده، فإنها إن كانت موافقة، فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن كانت مخالفة فلا قتال أيضاً، لأنه يكتفي بأن يقول آمنت بما جاءت به إلى جانب الإِيمان بما تأدت إليه البراهين" (¬3) وينكر عليه الدكتور سليمان دنيا هذا التناقض فيما زعمه من الإِيمان بما أدت إليه البراهين ¬

_ (¬1) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين: المقدمة 9. (¬2) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين: المقدمة 58. (¬3) المصدر نفسه: المقدمة 59.

من جهة وبما جاء من عند الله في حالة التعارض. فيقول: "ولا يخدعنا قول الشيخ محمد عبده فليطرق عن التأويل ويقول آمنا به كل من عند ربنا فإن ذلك إيمان بألفاظ جوفاء لا معنى لها، ما دام قد آمن من طريق آرائه بآراء تعارض هذه الألفاظ معارضة تامة" (¬1). وعلى أمثال هذه الشبه اعتمد مذهب العقلانيين في العصر الحديث، اتباعاً لمسالك الفرق المنحرفة، وانتشرت المذاهب المخالفة لشريعة الإِسلام (¬2). ولا يقال ما وجه الربط بين العقيدة والشريعة في هذا الجانب لأنا نقول: إن العقل إذا اتُّخذَ طريقاً لمخالفة العقيدة بالتأويل فإن الأمر سهل على أصحابه أنْ يتخذوه طريقاً لمخالفة الشريعة بالتأويل، وهؤلاء لا يحتاجون أكثر من أن يقول أن هذا الأمر مصلحة فيتبعونه ويدخلون تحت أذيال التأويل باتباع المتشابهة ويردون ما توجبه النصوص وما تقرر في الإِجماع، والنتيجة واحدة وهي تقديم آرائهم على أحكام الشريعة، كما قدموها على ما جاءت به العقيدة، بل الأمر أخطر من ذلك كما يصوره فضيلة الدكتور سليمان دنيا حيث يقول: "ثم إن لمنهج الشيخ محمد عبده جانباً آخر، له خطورته أيضاً، ذلك أنه طريق تفريق للأمة لا طريق تجميع، ذلك أنه إذا اعتمد كل إنسان على نفسه وعقله فقط فقلما ينتهي واحد إلى مثل ما ينتهي إليه الآخر، وهؤلاء هم الفلاسفة، لأن كل واحد منهم يعول على نفسه وعقله فقط، نجدهم في الغالب متفرقين قلما يلتقون على شيء واحد من كل الوجوه" (¬3). وسأذكر بعض التطبيقات التي اعتمدت على نتائج العقل البشري والتي يزعم أصحابها أنهم يريدون تحقيق المصلحة. وسيظهر لنا - بعد دراسة هذه ¬

_ (¬1) المصدر السابق: 60. (¬2) انظر المقصود بالعقلانية ص 188 ومثل هذا المذهب المستشرقون ومن تأثر بهم وانظر كتاب موقف المستشرقين ومن تابعهم من الثبات والشمول. (¬3) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين المقدمة 64، وانظر فصل العقلانية من كتاب مذاهب فكرية معاصرة 500.

التطبيقات - خطورة هذا المسلك وآثاره السيئة في هذا العصر على إبعاد الشريعة الإِسلامية عن التطبيق وإقامة الحياة المعاصرة على أحكام القوانين الوضعية. ونختار هنا إحدى الفتاوى في مجال النظام الاقتصادي، فقد أفتى الشيخ محمد عبده بمشروعية ما سُمي "بصناديق التوفير"، واعتمد هو ومن تابعه على هذه الفتوى على أن الربا المحرم هو ما كان أضعافاً مضاعفة، وتعلقوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). فالمحرم عندهم هو ما كان أضعافاً مضاعفة، أما الفائدة المحددة بعشرة في المئة أو بأقل فليست من الربا المحرم (¬2). وقد أصبحت هذه الفتوى قاعدة للاتجاه العصراني وبسببها استحوذت النظرة الغربية على مفهوم الاقتصاد الإِسلامي، وعليها وعلى أمثالها من الشبه انتشر النظام الربوي. وبتمجيد النظر العقلي، وتقديم حكم العقل على حكم الشرع، والمحاولات المستمرة لمقاربة أحكام الشريعة الإِسلامية للأحكام الغربية طلباً للتوفيق بينها، والتماساً للشبه لكي يتم هذا التقارب .. تحقق لأرباب القوانين الوضعية ما أرادوا حيث جعلوها حاكمة على الشريعة وحاولوا جاهدين تطويع الشريعة لقبولها تحت اسم المصلحة واتباع حكم العقل. وفي الحق أن التزام منهج النظر الإِسلامي الصحيح مانع قوي من تسرب آثار الفكر الغربي إلى أحكام الشريعة الإِسلامية .. كما أنه مانع قوي من وقوع أمثال هذه الفتوى، فالربا محرم بنصوص الكتاب والسنة وهذه مسلمة بديهية ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 130. (¬2) تفسير القرآن الحكيم الشهير بالمنار 4/ 123 - 124 - تأليف محمد رشيد رضا دار المعرفة بيروت، الطبعة الثانية، وقد تضمن هذا الكتاب أكثر آراء محمد عبده.

طيلة أربعة عشر قرناً ... وقد كان منهج النظر الإِسلامي الذي لم يتسلط عليه العقل الفاسد حارساً لهذا الحكم، فالإِجماع منعقد على حرمة الربا قليله وكثيره، وعقول العلماء مذعنة أمام هذا الحكم الشرعي، ولم يستطع حتى زعماء الاعتزال - الذين مجدوا العقل - أن يذهبوا هذا المذهب، ولكن التطرف في تقديم العقل على الشرع - وتغطية ذلك بكثير من الشبه، هو الذي فتح الباب على مصراعيه لهيمنة الفكر الأوروبي والنظام الغربي على الاقتصاد ومناهجه، حتى احتاج الأمر إلى الدعوة إلى صحوة تنهض بالاقتصاد الإِسلامي تنتشله من أحكام القوانين الوضعية وترده إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وما زالت هذه الصحوة تشكو من أمثال هذه الفتاوى ومن آثار المسلك العقلي المخالف للنصوص .. الذي به غُيرت الأحكام وبُدّلت، ووُضِعتْ مواضعها أحكام لم تشهد الشريعة بصحتها. وقد انتقل إلينا هذا المسلك الفاسد من آثار الفلسفة اليونانية على أيدي المعتزلة ومن حذا حذوهم - ومن آثار الفكر الأوروبي الحديث ذي الأصول اليونانية (¬1) - واتبع أصحابه "المتشابه" فضلوا وأضلوا. ولننظر الآن في مسألة أخذ الفائدة الربوية، ونتتبع أصلها - مع العلم أن الربا محرم في شرائع الرسل السابقين صلوات الله وسلامه عليهم لقوله تعالى عن أهل الكتاب: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (¬2). وقد بدأ تحليله على أيدي طواغيت الفكر في أوروبا في مواجهة رجال الدين النصراني الذين كانوا يحرمون الربا، فقد استخدم المرابون "الفائدة" .. ¬

_ (¬1) قارن بين مسلك المعتزلة ومن تبعهم وقد سبق ذكره وبين مسلك هؤلاء انظر ص: 161 - 187 إلى 188، 192 - 202. (¬2) سورة النساء: آية 161. وانظر تحريمه على الأمم وكيف احتال على تحليله اليهود وغيرهم - الربا وأثره 29 - 48.

فمعجم اكسفورد عرف الربا بقوله: "هو مزاولة إقراض المال بمعدلات فائدة فاحشة وخاصة بفائدة أعلى من المسموح به قانوناً" (¬1). والعقل هو العدة الوحيدة التي يلجأ إليها أساطين الفكر الأوروبي إذا أرادوا أن يقتحموا ما بقي لديهم من القيم الدينية (¬2). وبهذه العدة وحدها حاول القائلون بجواز الفائدة أن يزعزعوا أهم أركان الاقتصاد الإِسلامي .. وقد وقف في وجه هذا التيار كثير من العلماء .. وخاصة ما تحققه الدراسات في الاقتصاد الإِسلامي في الآونة الأخيرة. فهذا المؤتمر الثاني للمصرف الإِسلامي تتضمن قراراته في الفقرة الأولى: "أن ما يسمى بالفائدة في اصطلاح الاقتصاديين الغربيين ومن تابعهم هو من الربا المحرم شرعاً" (¬3). وأما عن شبهة القائلين بحل هذه الفائدة فقد تكفل بالجواب عنها أحد البحوث المقدمة لهذا المؤتمر .. وحاصل الجواب: أن الآية تصور لنا حالة من حالات الربا في الجاهلية .. وهي أن المرابي يقول للمدين اما أن تؤدي وإما أن تربي .. وكلما حل الأجل .. قال له ذلك فتتضاعف الفائدة .. فهذه هي الأضعاف المضاعفة (¬4). وأما النظر في حل الفائدة التي لا تتضاعف فيرجع به إلى مثل قوله تعالى: ¬

_ (¬1) الموسوعة الاقتصادية 264 كتاب الربا وأثره على المجتمع الإِنساني 67، للدكتور الأشقر - دار الدعوة. (¬2) انظر كتاب موقف المستشرقين .. من ثبات الشريعة وشمولها دراسةً وتطبيقاً. (¬3) الربا وأثره على المجتمع الإِنساني 167. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 4/ 202.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1). وإلى مثل قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (¬2). ولم يقل سبحانه إلّا إذا كانت الفائدة غير مضاعفة، فالآية نص في أن الزائد على رأس المال ربا وإن كان فلساً واحداً (¬3)، وهذه الآيات الدالة على تحريم الربا قليله وكثيره دلت في الوقت نفسه على تعطيل المفهوم في قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬4). وهنا نحاول أن نتلمس الأدلة على السبب الذي قلنا أنه الحامل على هذه الفتوى وذلك لكي نزيل الشبهة القائلة بأن هذا اجتهاد والمجتهد مأجور صاحبه وإن أخطأ .. ونربط في الوقت نفسه بين هذا الذي تقرر في هذا الموضع وبين ما قدمناه سابقاً من أن التزام منهج النظر الإِسلامي مانع من تغيير الأحكام وتسليط العقل عليها بالتأويل والتحويف، واتباع المتشابه والإِعراض عن المحكم. ونبدأ في بيان ذلك فنقول إن الحكم الذي ثبت الإِجماع عليه معصوم وثابت إلى يوم القيامة ولا يجوز النظر فيه بتة، وأن مخالفته مسلك فاسد .. وإن من يحق له الاجتهاد الشرعي لا يجوز له أن ينظر في مسألة قد تم الإِجماع عليها (¬5). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 278. (¬2) سورة البقرة: آية 278. (¬3) الربا وأثره على المجتمع الإِنساني 69 - 70. (¬4) سورة آل عمران: آية 130. والاعتصام 1/ 185. (¬5) سيأتي معنا إن شاء الله فصل مستقل في بيان عصمة الإِجماع وبيان أثر ذلك على الثبات والشمول.

ولا يتحقق من أحد مخالفة. مثل هذا الإِجماع إلّا أن يوصف بوصفين: الأول: أنه مجاف للمنهج الإِسلامي الصحيح في الاستدلال، متبع لمسالك النظر المخالف للشرع. الثاني: أنه طاعن فيما استنبطه العلماء ونقلوه لمن بعدهم جيلاً بعد جيل، واصف له بالخطأ زعاماً أن الحق معه هو. الثالث: أن الاجتراء على مثل هذا المسلك لا يكون إلا ممن اتبع المتشابه وترك المحكم وهذا هو شأن الزائغين الذين حذر الله منهم (¬1). هذا في منهج النظر .. أما مسألتنا التطبيقية فقد نقل العلماء الثقات الإِجماع عليها، ولم يفرقوا بين الربا قليله وكثيره في التحريم (¬2). ونؤكد بعد هذا العرض التطبيقي أن تغيير الأحكام الإِسلامية وتقديم غيرها عليها من أحكام القوانين الوضعية .. ومحاولة التلبيس على العوام بدعوى جواز الاجتهاد .. حتى اهتز مفهوم الثبات وأصبحت دعوى المعاصرة والإِصلاح مطية لزعزعة ثبات الشريعة .. إن هذا كله إنما جاء بسبب اتباع مسالك غربية في النظر من مثل ما ذكرناه من تمجيد العقل واتباعه ومحاكمة الوحي إليه. والحق أن أمثال هذه الفتاوى لم ينتجها الاجتهاد الشرعي .. وأن الاجتهاد الشرعي بضوابطه التي قدمنا وبسلامته من هذه المسالك الفاسدة هو السند الحقيقي للحفاظ على ثبات الأحكام الشرعية ووضع سد مانع بين شريعة الإِسلام وأهواء الذين لا يعلمون، وينبغي أن نبذل الجهد المستطاع لكشف ¬

_ (¬1) انظر الاعتصام 1/ 51، 53 - 54 - 99 - 100 - 238 - 239. ومما يدل على محافظة العلماء على هذه الشريعة ما قاله الإِمام الشافعي في كتابه الرسالة: " .. قلنا أما ما كان نص كتاب بين أو سنة مُجْتَمعٍ عليها فالعذر فيها مقطوع ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب" مسألة 1259. (¬2) انظر المغني 4/ 3 وانظر الرد على شبهة المعارضين للإِجماع في الربا وأثره على المجتمع 55 وما بعدها والمغني 4/ 3 وما بعدها.

المسالك الفاسدة التي انتشرت قديماً وحديثاً في الفكر الإِسلامي لنقطع الطريق على الغزو الفكري الحديث بما يحمله من عقائد وأنظمة (¬1). وعلى هذا الأساس نفسه تمكنت العلمانية - فخالفت في الأصول والفروع - وحكمت بأهوائها على أحكام الشريعة الإِسلامية في أكثر الفروع بالإِبطال مثل أحكام الجنايات "وحكم شرب الخمر" و"الزنى" و"الربا" و"الردة" و"أكثر الأحكام التي تخص المرأة من الحجاب والاختلاط والإِرث" و"الأحكام العامة التي تخص الدولة وسياسة الحروب" .. وغير هذه الأمثلة كثير. حتى حكمت - باسم المصلحة - على الشريعة الإِسلامية بالإِبطال إلا في بعض المواطن مثل ما يسمونه "بالأحوال الشخصية". ونادى بهذا المذهب كثير ممن ينتسبون إلى الإِسلام، واجتمع على نصرته أعداء الشريعة الإِسلامية وهم في كل ذلك يزعمون أن الإِسلام مجد العقل، وله حق العمل بالمصالح بعد التعرف ¬

_ (¬1) حرص الأوروبيون دعاة العلمانية "اللادينية" على نصر هذا المسلك ودعمه بكل نفيس يقول كرومر في تقريره السنوي عام 1905 في الفقرة (7) التي كتبها بعنوان "الشيخ محمد عبده: قال وهو يتحدث عن الشيخ وأتباعه: " ... وفكرتهم الأساسية تقوم على إصلاح النظم الإِسلامية المختلفة دون إخلال بالقواعد الأساسية للعقيدة الإِسلامية، فهم وطنيون حقاً بمعنى أنهم راغبون في ترقية مصالح مواطنيهم وإخوانهم في الدين، ولكنهم غير متأثرين بدعوة الجامعة الإِسلامية ويتضمن برنامجهم - إن كنت قد فهمته حق الفهم - التعاون مع الأوروبيين لا معارضتهم في إدخال الحضارة الغربية إلى بلادهم". - الإِسلام والحضارة الغربية 78 - 79، وقد أثبت البحث العلمي أنه لم تسلم القواعد الإِسلامية للعقيدة الإِسلامية، انظر رسالة الدكتوراه: عقيدة الشيخ محمد عبده عرض ونقد، جامعة أم القرى مخطوط، ولم تسلم النظم الإِسلامية كما ظهر لنا في هذا الموضع، وانظر رسالة ماجستير العلمانية نشأتها وتطورها 575 - 576 - 577 - 578 - 579 للدكتور سفر الحوالي - طبعة جامعة أم القرى - الطبعة الأولى 1402 هـ. ورسالة ماجستير بعنوان: مفهوم تجديد الدين 242 - 243. بسطامي سعيد - الطبعة الأولى 1405 هـ - دار الدعوة - الكويت.

عليها، وهو الرائد والقائد والحاكم بأن هذه مصلحة أو مفسدة - فإذا اختار العلمانية .. فقد حكم بحكم الشرع .. لأن الشريعة أمرت بإتباع المصالح، والقوانين الوضعية التي هي بعض ثمار العلمانية اللادينية مصلحة بزعمهم، وقد أدى هذا المذهب إلى إبطال أكثر أحكام الشريعة الإِسلامية .. واتسع الخرق على الراقع عندما حاول بعض الكتاب أن يوفق بين أحكام العلمانية وأحكام الشريعة فاضطرهم ذلك إلى إقحام العقل واسطة .. للبلوغ إلى مقصودهم فكان أن اتسع باب التأويل العقلي حتى جعل بعض الباحثين حكم الربا وحكم الردة وحكم الولاء والمناصرة وحكم الجهاد .. وكثير من أمثال ذلك يستوي فيها حكم الشريعة الإِسلامية والعلمانية "اللادينية". ومن أراد أن يتصور ثباتاً لهذه الشريعة وأنها حاكمة على الإطلاق والعموم فلا بد أن يدرك طبيعة العقل وقدرته وما هو الحد الذي حده له الشرع، وما هي وظيفته التي حددها له .. وحينئذ يؤمن إيماناً حقيقياً بحاكمية هذه الشريعة على الإِطلاق والعموم على البشرية كلها وعلى جميع ما تمتلكه من مورثات العقل - سواء ما ورثته من العصور السابقة أو من العقول اللاحقة - تحكم بصحة ما تراه صحيحاً من نتاج العقل البشري، وتحكم ببطلان ما تراه باطلًا .. هذا هو الإِسلام الذي جاءت به الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، ولأجل تجلية هذه العقيدة لا بد من زيادة البيان لموقف الإِسلام من نتاج العقل البشري - كما وضح ذلك فقهاء أهل السنّة والجماعة - ونتيجة ذلك هو العلم اليقيني بثبات أحكام الشريعة الإِسلامية، وأنه ليس "للعقل" مطلقاً أن يقدم بين يديها لا بالنسخ ولا التغيير ولا التبديل، بل هو محكوم بحكمها خاضع لسلطانها. ونثبت ذلك -هنا- بعدة أدلة - مبينين أن من لم يدرك ذلك وقع لا محالة في تيار البدع الذي لم ينقطع (¬1) ولا يخرجه منه إلا أن ينسلخ من آثار ¬

_ (¬1) البدع عند فقهاء أهل السنّة تنقسم إلى ما هي كفر مخرج وإلى ما ليس بكفر مخرج وإلى ما هو مختلف فيه هل هو كفر مخرج أم لا، الاعتصام 2/ 37. وباعتبار هذه القسمة قلت أن تيار البدع لم ينقطع وذلك بأقسامه الثلاثة، ومن هنا تتضح خطورة البدع لا على أنها خلاف في بعض المسائل العقائدية -كما هو شأن الفرق- =

المسالك الفاسدة قديماً وحديثاً، وبعد أن أعدت ورددت قاصداً التنبيه على خطورة هذه المسالك على ثبات الشريعة أعرض الأدلة على بيان فساده والله المستعان. أولاً: ما قرره فقهاء أهل السنّة والجماعة من أن العقل لا يستقل بالتحسين والتقبيح وأنه لو فرض كذلك لأدى ذلك إلى إبطال الحدود التي حدها الشارع، وإذا أبطل حد واحد جاز إبطال السائر لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وهذا مؤد إلى إبطال الشريعة، وهو باطل قطعاً (¬1) "وعامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح فهو عمدتهم وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل، وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر حتى يردوا كثيراً من الأدلة الشرعية" (¬2). ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى - وهو خالق العقل الإِنساني قد جعل للعقول حداً لا تتعداها، فهي لا تدرك كل شيء، ولو أمكن أن تدرك كل شيء وتصل إلى كل ما تطلبه لاستوت مع الباري سبحانه .. فإن علمه سبحانه لا يتناهى ولا يحصره شيء. ولكن المحسوس المشاهد أن العقل لا يدرك كل شيء ولا يصل إلى كل ما يطلبه ومعلوماته تتناهى، وهو مخلوق من المخلوقات قد جعل الله له حداً ينتهي عنده (¬3). ¬

_ = فحسب، بل زيادة على ذلك هي خلاف للإِسلام جملة وتفصيلاً .. وهنا تدخل جميع الذاهب الفكرية المعاصرة أمثال العلمانية والوجودية والشيوعية .. باعتبار أنها من القسم الأول، وقلت هنا أنها مخالفة جملة وتفصيلاً .. لأن ما أخذته من الإِسلام، ووافقت عليه إنما كان اختياراً منها وحكماً من لدنها فيعتبر من تلك المذاهب لا من الإِسلام، تماماً كما أخذ الإِسلام بعض الأحكام من الجاهلية وأدخلها تحت حكمه فإنها تنسب إليه لأنه لو لم يحكم بصحتها لم تصح نسبتها إليه، وهي بهذا الاعتبار منه وليست من غيره. (¬1) الموافقات: المقدمة العاشرة 1/ 49. (¬2) الاعتصام 1/ 144. (¬3) انظر فصل العقلانية "من كتاب مذاهب فكرية معاصرة ص 500.

فالله سبحانه يعلم كل شيء على التمام والكمال. {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (¬1). وقد كفر كبار المدافعين عن منزلة "العقل" بقدرة العقل البشري على معرفة طريقه في الحياة الدنيا وتحديد الصراط المستقيم الذي يفرق بين الحق والباطل. فهذا الإِمام الجويني في القرن الخامس الهجري يكفر بمخلفات الفلسفة اليونانية التي هي نتاج العقل اليوناني ويصرح بأنه لا يمكن أن يدرك خيط النجاة إلّا بالبراءة من ذلك كله (¬2). وهذا الإِمام الغزالي - الذي دخل في بطن الفلسفة العقلية وما قدر أن يخرج منها كما يقوله تلميذه ابن العربي المالكي - يموت في آخر حياته وهو ملازم لكتاب البخاري معرضاً عن كل تلك المخلفات الفلسفية التي ورثها العقل البشري (¬3). ¬

_ (¬1) سورة يونس: آية 61. (¬2) يقول -رَحِمَهُ اللهُ-: "لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإِسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم وغصت في الذي نهى أهل الإِسلام عنه (يقصد علم الكلام) كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق .. " انظر مقدمة غياث الأِمم 12 - 13، والكلام واضح لا يحتاج إلى تأويل والذي ينبغي على المتأخرين هو الأخذ بوصية هذا الإِمام ومن فوائد الأخذ بها الإِعراض عن كل ما ورثه علم الكلام. (¬3) انظر الإِمام الغزالي والتصوف 429 وفي هذا الكتاب بحث جيد عن اتجاه الغزالي ومواقفه من علم الكلام والتصوف وبيان تنقله في هذه المذاهب وذمه لعلم الكلام وتحذير الناس منه والشهادة عليه بأنه مخالف لطريقة السلف ورجوعه أخيراً عن طريقة الصوفية وموته -رَحِمَهُ اللهُ- وصحيح البخاري على صدره بعد أن اشتغل بالحديث كما ذكر ذلك بعض تلامذته ونقله شيخ الإِسلام ابن تيمية، وقد أحسن الأستاذ عبد الرحمن دمشقية في بيان العبرة من رجوع الغزالي -رَحِمَهُ اللهُ- وهي تصحيح كتبه والتحذير من طرق الكلاميين وطرق الصوفية. انظر 419 - 433.

وأما الجاهلية الحديثة فهذا أكبر أطبائها وحكمائها الدكتور "ألكسيس كاريل" يشهد على قدرات العقل البشري - الذي يعتبر الآن في أقوى أطواره - فيقول: "وواقع الأمر أن جهلنا مطبق، فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة .. " (¬1) "إننا ما زلنا بعيدين جداً من معرفة ماهية العلاقات الموجودة بين الهيكل العظمي والعضلات والأعضاء ووجوه النشاط العقلي والروحي .. كيف نستطيع أن نحول دون تدهور الإِنسان وانحطاطه في المدنية العصرية؛ وهناك أسئلة أخرى لا عداد لها يمكن أن تلقى في موضوعات تعتبر على غاية الأهمية بالنسبة لنا، ولكنها ستظل جميعاً بلا جواب، فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإِنسان ما زال غير كاف، وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب" (¬2). فهل يزعم هؤلاء الكتاب الذين مجدوا العقل قديماً وحديثاً أن قدراتهم العقلية أضخم من قدرات العلم الحديث الذي بلغ في هذا العصر ما لم يبلغه في أي عصر من العصور، وما زال -كما قال- إلكسيس كاريل - يجهل كثيراً من قطاعات النفس البشرية .. ، هذه هي قدرات "العقل" يحددها "العلم الحديث" ويشهد بعجزه عن الكثير مما نحتاج إليه .. كما شهد علماء أهل السنّة من قبل بعجزه عن إدراك مصالح الناس في الدنيا والآخرة (¬3) وأنه لا بد له من قائد يقوده ومن معلم يعلمه وهذا القائد والمعلم هو "الوحي". ولذلك نقول إن العقل إما أن يحتكم إليه ويتربى على مبادئه العقائدية وأحكامه الجزئية، فهو حينئذ العقل الراشد المؤمن بالله ورسله وكتبه. وأما أن يند عن حكم الوحي ويتقدم بين يديه فهو حينئذ العقل الجاهلي ¬

_ (¬1) الإنسان ذلك المجهول 17 - تأليف الدكتور ألكسيس كاريل - تعريب شفيق أسعد فريد - مكتبة المعارف - بيروت - الطبعة الثالثة. (¬2) المرجع نفسه 18 - 19. (¬3) سيأتي تفصيل ذلك عند دراسة المصلحة وقضية الثبات والشمول إن شاء الله.

المتمرد على الله ورسله وكتبه، والعقل الراشد مستنير بالوحي، يجيبه الوحي عن كل ما يحتاج إليه، فيفتح له الآفاق ويؤدبه بأحكام الشريعة ويجعل بينه وبين كل حكم يخالفها حداً محدوداً وحجراً محجوراً. وأما العقل الجاهلي المتمرد فقد لج في الظلمات وأخذته الحيرة من كل وركان ولم يستطع أن يجيب على ما تحتاجه البشرية بل عجز وثبت عجزه وانكشف وهو في أعلى قمة له في العصر الحديث، وسيكون ذلك هو شأنه، لأن هذه هي طبيعته ولن يكون نظيراً للوحي أبداً، وما ينبغي له وما يستطيع، وعلى الذين لا يزالون يمجدون العقل البشري أن يدركوا الفرق بين "العقل المؤمن الراشد" وبين "العقل الجاهلي المتمرد" وحينئذ سيعلمون أن العقل لم يستحق أي تقدير إلا من بعد أن أذعن للوحي واتبع كل ما جاء به. وعليهم حينئذ أن يتبعوا الوحي، في كل ما جاء به بلا استثناء، وأن يُعَبّدوا عقولهم لأحكامه في رضى وقبول واستسلام. ولا يمكن بحال من الأحوال أن يظن في العقل خيراً ورشداً إن لم يتبع الوحي في العقيدة والشريعة (¬1). وهذه حقيقة تاريخية يشهد بها العدو والصديق فإن العرب بل أمم الأرض كلهم قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تنفعهم عقولهم ولم تدلهم على مصالحهم - لأن العقل وحده لا يحدد المصلحة والمفسدة - فقد كان قويهم يأكل ضعيفهم - كما هو الحال في هذا العصر - وكانت أحكامهم لا تحرم الزنى ولا الربا ولا الخمر - كما هو شائع في هذا العصر - وكانوا جدّ مضطربين متناحرين متباغضين فقد قسمتهم أهوائهم إلى قبائل وأمم متناحرة وطبقات يأكل بعضها بعضاً كما هو الحال في كل زمان أعرض عن حكم الله ورسوله، وذهب يترجى الهداية - بزعمه - عند العقل البشري الذي لا يتبع الوحي. ¬

_ (¬1) أما في أمور المادة فقد أمره الإِسلام بالإِكتشاف والبناء وبقدر ما يتقدم في ذلك يكون ممدوحاً، وليس عليه من شرط إلّا شرط واحد - حتى وإن تمكن من العلم أكثر مما هو عليه الآن - وهذا الشرط هو أن يحكم إنتاجه بهذه الشريعة الربانية.

ولعل في هذه التذكرة ما يعرِّف بحقيقة "العقل البشري" وأنه إن لم يتبع الوحي حذو القذة بالقذة سيكون وبالاً على البشرية كما هو الحال عند العرب قبل البعثة وكما هو الحال في هذا العصر الذي كثر فيه إنتاج العقل البشري الذي لا يتبع الوحي، فقد انتج "العلمانية" و"الرأسمالية" و"الشيوعية" و"الوجودية" و"القومية" كما أنتج من قبل الفرق الضالة التي بلغت اثنين وسبعين فرقة، وما زال يقدم للجاهلية الحديثة مذاهب جديدة، كلما كفر بمذهب آمن بمذهب آخر .. والذين مجدوه ما زالوا ينتظرون منه مزيداً من العطاء. ولعل هذا التخبط والضياع يكون سبباً عند كثيرين لإِعادة تقييم مواقفهم من "العقل" الذي اتبعوه .. ولعلهم يرجعون إلى الوحي "كلام الله": {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1). فيؤمنوا به فتخبت له قلويهم وحينئذ تخرج البشرية من ظلمات العقل الكافر بما أنزل الله إلى نور الوحي يتبعه العقل المؤمن الراشد فيقود أهله إلى المصالح كلها ويحول بينهم وبين المفاسد كلها: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). مثال تطبيقي آخر: وبه نزداد إدراكاً لخطورة هذا المسلك لنحذر منه ألا وهو اتباع العقل والمتشابه. تحدث بعض الكتاب عن "الحكم الإِسلامي" فزعم أن الإِسلام قد أعطى الناس حق الحكم بأي نظام في العالم ما دام قد رأوا أنه يحقق لهم مصالحهم. وإن كان اشتراكياً وإن كان علمانياً .. أو أي نظام حادث مما أنتجته العقول البشرية. ¬

_ (¬1) سورة طه: آية 50. (¬2) سورة البقرة: آية 213.

يقول: علي عبدالرزاق في كتابه الإِسلام وأصول الحكم (¬1)، يقول: "والحق أن الدين الإِسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة. كما أن تدبير الجيوش الإِسلامية وعمارة المدن والثغور ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب، أو هندسة المباني وآراء العارفين. لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم" (¬2). وهذا المذهب الذي يدعوا إليه المؤلف مؤد قطعاً إلى تغيير الأحكام الإِسلامية أصولاً وفروعاً، فهو من جهة يزعم أن الإِسلام لم يأت بنظام للحكم لأن الخلافة لا وجود لها في الإِسلام لأنه دين لا دولة، ومن جهة أخرى فإن ¬

_ (¬1) يروي فضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية أن هذا الكتاب قد وضعه أحد الأوروبيين الطاعنين على الإِسلام وليس للمؤلف إلا وضع اسمه عليه يقول الشيخ: " ... لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه إلّا وضع اسمه عليه فقط، فهو منسوب إليه فقط، ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزي والعار إلى يوم القيامة" وقد أكد الدكتور الريس هذا الخبر بعدة أدلة قوية فانظرها من ص 174 - 184، الإِسلام والخلافة في العصر الحديث نقد كتاب الإِسلام وأصول الحكم الطبعة الأولى 1393 هـ - الناشر العصر الحديث ببيروت. (¬2) الإِسلام وأصول الحكم 201 نقد وتعليق الدكتور ممدوح حقي، منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت 1978 م.

القوانين التي نصت عليها شرائع الإِسلام واستنبطها الفقهاء من نصوص تلك الشرائع يمكن أن نقدم عليها أي نظام آخر من أنظمة الأمم الأخرى ونستبدل ما تدعوا المصلحة إلى استبداله حتى ولو اتبعنا أحدث ما أنتجته العقول البشرية. ولست بحاجة إلى مناقشة المؤلف في دعواه هذه، فقد وقف العلماء من أقطار كثيرة موقفاً معيناً من هذا الكتاب، أشير إليه تنبيهاً للقارئ، والحاجة ماسة بعد ذلك إلى بيان منهج النظر الفاسد الذي اتبعه المؤلف ويتبعه كل من يقول أن الإِسلام دين لا دولة، وسنؤكد من خلال هذا المثال التطبيقي على خطورة هذا المسلك الفاسد وهو اتباع حكم العقل المخالف للشرع وكيف أدى بأصحابه إلى الدعوة إلى تبديل الأحكام الجزئية بل والمفاهيم العقدية. وسأحاول معالجة هذه القضية من زاوية خاصة وبطريقة أحسبها جديدة، مع شدة ارتباطها بموضوع البحث مع الإِشارة إلى بعض الردود على هذا الرأي من ذلك ما كتبه بعض العلماء والباحثين في الرد على هذا الرأي وقد تمثل ذلك في كتب كثيرة (¬1)، تتقدمها فتوى لكبار العلماء قضت "بإخراج الشيخ علي عبد الرزاق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" من زمرة العلماء" (¬2). ¬

_ (¬1) منها: "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم"، للشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر السابق، و"الإِسلام والخلافة في العصر الحديث" "نقد كتاب الإِسلام وأصول الحكم" الدكتور ضياء الدين الريس، و"نقد علمي لكتاب الإِسلام وأصول الحكم" محمد الطاهر بن عاشور، و"بحث في كتاب الاتجاهات الوطنية" لمحمد محمد حسين، ج 2/ 85، وما بعدها - دار النهضة - الطبعة الثانية، وكتب ومقالات أخرى. (¬2) كتاب حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإِسلام وأصول الحكم، ص 32 عن رسالة ماجستير "الإِمامة عند أهل السنّة والجماعة للأستاذ عبد الله الدميجي مخطوط بجامعة أم القرى - المكتبة المركزية، وفيها ردود على القائلين بفصل الدين عن الدولة وبيان موقف الإِسلام من قضية الخلافة. يقول الدكتور الريس عن آراء علي عبد الرزاق التي احتواها الكتاب "أنها هدم لكثير من =

وأذكر هنا بعض الأدلة الدالة على أن الإِسلام ألزم الناس عامة بالحكم والتحاكم إلى أحكامه وشرائعه، ودعاهم إلى إثبات صدق إيمانهم بالله عن طريق الالتزام بشرائعه ونصرتها والبراءة مما يخالفها، ومن هذه الأدلة التي وردت في القرآن: (أ) قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬1). {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2). {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). فمن قال أن الحكم بما أنزل الله ليس لازماً فهو داخل تحت هذه الأوصاف. (ب) وقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬4). وهذا الوصف القرآني الذي وصف الله به عباده المؤمنين يحدد مهمتهم بوضوح وهي التمكين لهذا الدين في الأرض وإقامة شرائعه وتطبيقها أمراً ¬

_ = مقومات الإِسلام والمجتمع الإِسلامي، وأنها دعوة ما كان يمكن أن يقول بها مسلم، فضلاً عن عالم وشيخ من خريجي الأزهر، وقاض يحكم بهذا الشرع الذي صار ينكره فيما ينكر القضاء كله، ويريد أن يشوه طبيعة الإِسلام فيبطل جانبه العملي، فلا يكون له أثر في تحقيق مصالح الناس أو في نظم المجتمع" 170، الإِسلام والخلافة في العصر الحديث". (¬1) سورة المائدة: آية 44. (¬2) سورة المائدة: آية 45. (¬3) سورة المائدة: آية 47. (¬4) سورة الحج: آية 41.

بالمعروف - كالدعوة إلى التوحيد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتطبيق الحدود ونشر الفضيلة - والنهي عن المنكر - وذلك بالنهي عن الشرك والنهي عن قتل النفس والزنى وجميع الموبقات، والنهي عن أكل أموال الناس بالباطل - وهي القاعدة التي يقوم عليها كل اقتصاد غير إسلامي، ومجاهدة المفسدين في الأرض إقامة للعدل وإعلاء لكلمة الله. والتمكين لهذا الدين عقيدة وشريعة يحتاج إلى سلطة تحكم بما أنزل الله. (ج) ومنها ما ورد في ذم الزاعمين للإِيمان المريدين للتحاكم إلى أحكام الجاهلية ووصفهم بالنفاق وعدم الإِيمان، يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (¬1). إلى قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2). يقول سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: "إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندة لقول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآيات 60 - 61 - 62. (¬2) سورة النساء: آية 65.

{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬1). ولفظ "شيء" نكرة في سياق الشرط وهو قوله جل شأنه: {فإن تنازعتم} للعموم فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً .. وكما دل لفظ "شيء" على العموم في جميع ما يتصور فيه النزاع فكذلك توله سبحانه: {فيما شجر بينهم}، "فإن اسم الموصول مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق بين نوع ونوع كما أنه لا فرق بين القليل والكثير" (¬2). فالأمر بالتحاكم في جميع ما يقع عليه التنازع والمشاجرة قل أو كثر لا فرق بين نوع ونوع، فيدخل في ذلك كل جزئية من الوقائع والأحداث في جميع شؤون الحياة العامة والخاصة فكيف يقال أن أكبر قطاعات الحياة وهي القطاعات التي تشرف عليها الدولة من تطبيق الأحكام على جميع نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أن هذا لا يدخل في شريعة الإِسلام وليس لازماً للدولة ولها أن تطلبه من حيث شاءت. ولى معنى الآيات السابقة قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وهذه الآيات دالة على أمور منها: الأول: أنهم قالوا أنهم مؤمنون بما أُنزلَ على محمد - عليه الصلاة والسلام - ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 59. (¬2) تحكيم القوانين 2 وما بعدها. (¬3) سورة النور: آية 47.

من القرآن وبما أنزل على الأنبياء من قبله، فهم قائلون: "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله". الثاني: أنهم قالوا بأنهم طائعون لله ورسوله "وأطعنا". الثالث: أنهم يتحاكمون فعلاً إلى بعض أحكام الإِسلام: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (¬1). الرابع: أنهم فيما يعرضون عنه من الأحكام يزعمون التوفيق بينه وبين ما يخالفه: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (¬2). فصفة هذه الطائفة أنها تقول: "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقول أنها طائعة لله ورسوله، وتتحاكم فعلاً إلى بعض الأحكام وتعتذر عن إعراضها عن البعض الآخر بأنها تريد الإِصلاح والتوفيق". ويلاحظ أنها لا تنفي لزوم التحاكم إلى الله ورسوله!! فنزل البيان القرآني بحكم الله فيهم متمثلاً في هذه الآيات: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} {ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} (¬3). وفي هذه الآية دلالة أي دلالة في لزوم التحاكم إلى شريعة الله ووجوب الإِعراض عما يخالفها وأن كل هذه الدعاوى التي تقال لا تقبل عذراً عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولا عند المؤمنين. ولقد دخل القائلون بفصل الدين عن الدولة والداعين إلى التحاكم إلى ¬

_ (¬1) سورة النور: آية 49. (¬2) سورة النساء: آية 62. (¬3) تفسير ابن كثير 1/ 521 وما بعدها 3/ 299.

أي نظام غير إسلامي قد دخلوا في - الأوصاف التي اتصفت بها تلك الطائفة وازدادوا وصفاً آخر ألا وهو: القول: "بأن التحاكم غير لازم أصلاً". مقارنة علمية: وهذه مقارنة بين هذه المقالة وما تنص عليه من عقيدة وبين العقيدة التي حذر القرآن منها. ونضع هذه المقارنة أسوة بالبيان القرآني الذي حض على كشف الشبهة وكشف باطل المبطلين. والمقارنة بين هاتين المقالتين من وجهين: الأول: أن هؤلاء متعجبون من أن ينزل الله في سورة من سور كتابه آيات يأمر فيها بإخضاع الدولة لحكمه وأمره. والطائفة التي سبقتهم يتعجبون من أن ينزل الله سورة يذكر فيها وجوب القتال، فهؤلاء متعجبون من حكم واحد، وأولاء متعجبون من نظام الحكم الإِسلامي كله. الثاني: أن المتعجبين من أن الدولة يجب أن تخضع لحكم "الدين" قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله من أصحاب النظريات الجاهلية - أوروبية وغير أوروبية - قالوا سنطيعكم في أكثر الأمر وذلك بدعوة المسلمين أن يبنوا "نظام حكومتهم على أحدث ما أنتجته العقول البشرية .. ". والذين من قبلهم قالوا: {للذين كرهوا ما أنزل الله سنطيعكم في بعض الأمر}. وعلى كل قائل بهذه المقالة أو داع إليها أن ينصت إلى البيان القرآني ليعرف ماذا يترتب على مقالته تلك، يقول الله تعالى عن موقف تلك الطائفة: {لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ

فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} (¬1). ومن هذه الآية يعلم وجه المقارنة في الأمر الأول فهم يتعجبون أن ينزل الله سورة فيها ذكر القتال، وهؤلاء الذين نحن بصدد مناقشتهم يعجبون أن ينزل الله شريعة وأحكاماً تخضع لها الدولة. {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (25) ويقول تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} (¬2). ووجه المقارنة في الأمر الثاني ظاهر .. فليحذر كل من يقول بتلك المقالة من هذا المصير المحتوم .. ولا يفتري على الله الكذب .. ومن تاب فإن الله يتوب عليه. ومن نافلة القول: أن نذكر بأن الحياة لا بد لها من أفراد والأفراد لا بد لهم من أسر والأسر لا بد لها من أحكام، وهؤلاء لهم أحكام خاصة وعامة، ولا بد أن يعيش هؤلاء في مجتمع تكون له صبغة معينة وتحكمه تلك الأحكام في الأموال والأعراض والدماء .. وهذا المجتمع له علاقات مع المجتمعات الأخرى .. وهذه العلاقة تحكمها أحكام معينة أيضاً وهكذا تبنى الحياة الدنيا .. ثم ينتقل الناس إلى الحياة الآخرة .. فهل كل هذه الأحكام تركها الله سبحانه لحكم العقل لأن الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة!؟ وفي الحق أنه لا يمكن لأحد وهو يعلم تلك الأقسام الخاصة بطبيعة الحياة ¬

_ (¬1) سورة محمد: آية 20. (¬2) سورة محمد: آية 26،25.

الدنيا .. أن يقول أن الشريعة لم تنزل بشيء من ذلك وأن هذه الدنيا عند الله أهون من أن ينزل لها أحكاماً لتطبق فيها .. لأن هذا الاعتقاد مخالف لأبسط البديهيات .. وليس السبب في هذا الانحراف هو السعي إلى التقدم كما يزعم له أصحابه، وإنما السبب هو عبادة غير الله سبحانه .. وقد عُبد العقل الإِنساني من دون الله، عبدته أوروبا وانتقلت لنا هذه العدوى (¬1) .. وليس لهذه العبادة من فائدة عند هؤلاء إلا إبعاد الحياة الدنيا عن الدين وإخضاعها لأحكام العقل يشرع لها ويبدئ ويعيد بلا ند ولا شريك ولا ظهير. وهذه العبادة وإن كانت للعقل في بداية الأمر لكنها تنصرف إلى عبادة الإِنسان لطائفة خاصة تزعم أن لديها القدرة العقلية لسن الشرائع والأحكام التي تحكم حياة البشر في الدماء والأموال والأعراض .. والثقافة والاجتماع والعلاقات العامة .. ولا تحتاج هذه الطائفة التي أعطت نفسها حق التشريع من دون الله أن تستند إلى شبهة مؤلف كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" التي ناقشناها آنفاً بل الأمر عندها أبعد من ذلك. فهذا الدكتور آصف علي فيظي الإِسماعيلي يقول في بحث له بعنوان "القانون الإِسلامي واللاهوت في الهند" إن: "مصدر القانون والدين كليهما في الإِسلام هو الله" ثم قال: "إن البحث النقدي الحديث لهذا الموضوع يجب أن يبدأ بمناقشة المعتقد اللاهوتي الذي يقول: إن الله هو واضع القانون وذلك من جهته التاريخية والفلسفية، ويجب أن يوضح السر في أن القانون عند الساميين اعتبر ذا أصل سماوي، وماذا كانت النتائج التي ترتبت على ذلك بعد، وكيف أن الجماعة الإِسلامية تحت تأثير نظريات القانون الحديث والنظريات السياسية ¬

_ (¬1) انظر شيئاً عن الجهد الذي بذله المستشرقون لتصدير هذه الفتنة إلى العالم الإِسلامي في كتاب موقف المستشرقين .. من ثبات الشريعة وشمولها.

والتطور الثقافي والعلاقات الدولية - يجب بالتدريج - أن تشير إلى تمييز (¬1) واضح بين القانون السماوي "الشريعة" والقانون الدنيوي "القانون" وأن تصل إلى استخدام ناقد صحيح للفقه، من هذه الزاوية، إن بحثنا هذا ليس عرضاً تاريخياً، ولكنه مجرد محاولة لإِبراز اتجاه هندي حديث لمعالجة معضلة مزمنة، إنه محاولة لاستخدام مبادئ القرن العشرين القانونية والتاريخية في فهم المعضلة الأساسية في الإِسلام ولاقتراح طريقة تمهيدية لنقد حديث للشريعة" (¬2). فهذه هي آثار النظرية الأوروبية "الجاهلية" التي تنص أن الله ليس له حق وضع الشريعة وإلزام الناس بها، وتثبت هذا الحق لغيره سبحانه .. وتراهم في كثير من عباراتهم يستندون إلى حكم العقل في إعطاء هذا الحق لغير الله، هذا هو أصلهم الذي يدافعون عنه ويدعون الناس إليه (¬3). فقد حكم هؤلاء البشر المخلوقون على ربهم بأنهم أحق منه - وهوخالقهم - بوضع الشريعة والقانون لأنهم بزعمهم أعلم بمصالحهم وأحوال أزمانهم. وباعتبار هذا الأصل العقائدي عندهم وتفريعاً عليه حكم العقل بوجوب نقد الشريعة الإِسلامية - والناقد لا بد أن يكون أقدر على معرفة الصواب .. أو المفروض فيه أن يكون كذلك - فحكمت هذه الطائفة بأن الله ليس له حق وضع الشريعة .. وما وضعه وشرعه لا بد من نقده وإعادة النظر فيه .. هكذا تمردت هذه الطائفة على ربها وكفرت به وافترت عليه ما ليس لها به علم: ¬

_ (¬1) من حق الإِسلام على أنصاره أن ينادوا بتمييز واضح بين حكم الله .. وحكم الجاهلية - والجاهلية كل حكم غير حكم الله - فهو الجواب الشافي .. والجهاد الحقيقي لهؤلاء الذين ينادون من جهتهم بتمييز واضح بين القوانين الوضعية وبين الشريعة الإِسلامية وإخضاع الشريعة لسيطرة القانون النقدية .. !!! (¬2) نقلاً عن كتاب الإِسلام والحضارة الغربية 154. (¬3) ولذلك قدمت لهذه الرسالة بتمهيد بينت فيه عقيدة الإِسلام في قضية الشريع وفي كل موضع مناسب تأكيد لها وتذكير بها.

{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (¬1). ولو أن أصحاب هذه المقالة يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى هو أعلم بمصالحهم وأحوالهم وحاجياتهم، وهو الحكيم الذي تنزه عن الظلم، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة فأرسل رسله وأنزل كتبه وآخرها القرآن فجعله حجة على الخلق إلى يوم القيامة -ومعه السنة- وأنه سبحانه له الأمر كما أن له الخلق، ولا أمرَ بأمرٍ ولا نهى عن شيء وإلا فيه مصلحة للناس إلى يوم القيامة .. لو كان هؤلاء يؤمنون بهذا لما أوقعهم الشيطان في هذا التمرد على ربهم وخالقهم، وفي بعض هذا البيان كفاية لكشف السبب الذي حمل هؤلاء الذين يتكلمون باسم الإِسلام عن الإِسلام حتى حجروا عليه من أن يتدخل في أهم مركز وأعظم موقع ألا وهو "الدولة" وحكموا على أكثر شرائعه بالِإبطال والتغيير والتبديل (¬2) .. وأطاعوا الذين كفروا في أكثر الأمر. ولما كان أمثال هؤلاء الكتاب في مأمن من أن تكشف أسرارهم ويطلع البحث العلمي عليها .. حتى أنهم لما أمنوا لم يزدادوا إلا إصرارًا على مسالكهم هذه .. وأصبح البحث العلمي يتعامل معهم -في كثير من كتاباته- بنوع من التبجيل تارة وبالتأنيب اليسير تارة .. وأحيانًا بالتشديد عليهم بأنهم اتبعوا اهواءهم وأنصتوا لتأثيرات الغزو الفكري الأوروبي .. ولكن هذا الأخير -مع أهميته- قليل فاعله، ولا بد لأهل الحق أن يتواصوا بكشف انحرافهم تحت ضوابط البحث العلمي الذي يلتزم باتباع الدليل والبينة الظاهرة حتى يحال بين شبههم وعوام الناس، فما هلك من هلك إلا بسببهم ولذلك بذلت ما أستطيعه ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 5. (¬2) وهنا شبهة لا بد من إزالتها، ذلك قولهم أن من الخلفاء من فسد ولم يصلح فنقول لهم كما قال الشيخ مصطفى صبري: "إن السبيل إلى علاج هذا الفساد هو تبديل المصلحين بالمفسدين لا تبديل الشريعة والدين" 17 - النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة.

هنا لكشف مسلكهم الفاسد وبيان أن أمثال هذه الآراء لا تحسب على العلم الإِسلامي وأن أصحابها ليسوا ملتزمين بأصول البحث الإِسلامي وأن كل ما نسبوه إلى الإِسلام من أمثال هذه الدعاوى إنما هي من بدع الجاهلية سواء الجاهليات القديمة أو الحديثة (¬1). دراسة تطبيقية لبيان أصول الحكم: من خلال آيات سورة النساء يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2). اشتملت هذه الآية على أصول الحكم في الإِسلام: 1 - "الله" سبحانه وتعالى هو"المشرع" أي الآمر الناهي وما بلغه رسوله إلى الناس هو "الشريعة" وهي العدل الذي أمر الله به، ويتمثل ذلك في الكتاب والسنة، فالذي يضع "القانون" هو الله والذي بلغه هو رسوله فالطاعة لهما، مطلقًا، والرد إليهما إذا اختلف الناس، وهذا كله موجود في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وفي قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}. 2 - سلطة أرضية تحكم به وتنفذه، وهم أولي الأمر: وذلك في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. وهؤلاء هم الذين يمثلون "الدولة" أي القائمون بالأمر، يحكمون الدولة ¬

_ (¬1) انظر تحكيم القوانين 3. (¬2) سورة النساء: الآيتين 58 - 59.

والأفراد في جميع الأحوال و"العلاقات الخاصة والعامة الداخلية والخارجية" ملتزمين في ذلك كله بـ "الشريعة الإِسلامية". 3 - "أمة" أو"شعب" تقطن "إقليمًا معينًا" تخضع لهذه السلطة التي تلتزم بتلك "الشريعة" {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. فهذه الآية نصت على أصول الحكم، "الشريعة" "السلطة الحاكمة" "الأمة" وهي آية واحدة -تحدد شكل "الدولة الإِسلامية" التي يسعى الإِسلام لتحقيقها، وهذه دلالة من الناحية الإِيجابية على أصول الحكم في الإِسلام وفي القرآن مثل هذه الآيات وهي كثيرة لا تحصى. تطبيق آخر: يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (¬1). فالقرآن يصور لنا أصول الحكم الجاهلي وهي: 1 - واضع القانون: وهوإما أن يكون شخصًا أو جهة تتكون من أشخاص، ويطلق القرآن على هذا "الواضع" لفظ "الطاغوت" (¬2) وهو كل معبود من دون الله سواء كان فردًا أو جماعة، وسبب هذه التسمية أن التعدي على حق الله سبحانه -الذي جعله لنفسه وهو إنزال الكتب وسن الشرائع- يعتبر مجاوزة ¬

_ (¬1) سورة النساء: الآيات 61 - 62 - 63. (¬2) لسان العرب مادة "طغى" 15/ 9.

للحد وهذا هو الطغيان ذلك أن الواضع لا حق له في ذلك، بل الحق الذي عليه هو أن يخضع لما جاء من عند الله. 2 - السلطة الحاكمة بذلك القانون: وتسمى بالاسم نفسه للسبب نفسه وتكون تارة شخصًا واحدًا كالكاهن، أو مجموعة معينة كزعماء القبيلة أو الحزب. 3 - الأمة أو الفرد الذي يخضع لهذه السلطة ويبتغي التحاكم إليها عن رضى وطواعية، كما ورد في شأن الرجل الذي نزلت الآية فيه، فهذه الأصول الثلاثة: وهي الجهة التي تضع القوانين والجهة التي تحكم به (¬1)، والجهة التي تذعن له هي عبارة عن أصول الحكم الجاهلي فها هنا قانون وسلطة وأفراد، وهذه الصورة هي الصورة التي جاء الإِسلام ليرفعها ويحل محلها الصورة الإِسلامية. فبدل أن يعتقد الناس أن واضع القانون هو عقل الفرد أو الأمة أو القبيلة أو الحزب، يجب أن يعتقدوا أن ذلك حق الله سبحانه قد تكفل به، فأنزل "الشريعة" ليخضع الناس لها جميعًا، وبدل أن يعتقدوا أن السلطة التي تقوم على القوانين الأرضية سلطة شرعية يجب عليهم الخضوع لها، أعلمهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك من الشرك (¬2)، ونهاهم عنه وأمرهم بإنكاره قدر استطاعتهم. وأبدلهم بذلك وجوب الخضوع لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، المتمثل في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، واتباع الشريعة بعد مماته والطاعة لأولي الأمر القائمين بها. ¬

_ (¬1) قد تكون هذه الجهة "فردًا" ويمكن ذلك في حالات معينة، ولكنه لا يقدر على الالزام لأنه لا سلطة لديه .. فيتقدم له المتحاكم إليه عن رضى وطواعية دون أن يحتاج إلى سلطة تلزمه بالقوة ولذلك كان هذا الصنف يؤدي هذه المهمة بهذا الاعتبار، فالالتزام بالحكم أحيانًا يحتاج إلى سلطة ملزمة وتارة لا يحتاج إلى سلطة ملزمة كما في الصورة السابقة. (¬2) انظر التمهيد.

وبعد الحديث عن حكم الاجتهاد وحكمته وأنواعه وأهم شروطه وضوابطه وبيان أثر ذلك على ثبات الأحكام وشمولها يتبين لنا أنه لا يمكن أن يتحقق شمول في عالم الناس بغير اجتهاد، كما أنه لا يمكن أن يتحقق ثبات واستقرار للأحكام بدون ضوابط لهذا الاجتهاد، وعليه فإن الذي يجب المصير إليه هو القول بأن الاجتهاد فريضة محكمة وسنة متبعة وهو ممكن -من حيث تحقق الملكة والبناء على ما ورثه لنا العلماء المعتبرون في علم الشريعة وعلم العربية، وإن تعذر جمع الأدلة الشرعية جملة لم يتعذر على المخلصين من أهل العلم جمع الأدلة المطلوبة في المسألة التي يراد بيان حكم الله فيها، وإن لم يتمكن أحدهم من ذلك لم تعجز طائفة منهم عن جمعها ومعرفة مقاصد الشارع منها، وليس وراء ذلك إلا القول بتعطيل أحكام الشريعة وإيقاف الاستنباط وهذه جهالة لا يرتضيها لنفسه عاقل. ولكي لا يقال أن هناك أدعياء كثيرين للاجتهاد -نقول أن الاجتهاد لا بد له من الملكة، ولا يقبل من كل أحد الدخول فيه ما لم تتوفر له، وعلى طلبة العلم أن يبذلوا ما يستطيعون -ولا يدخرون من وسعهم شيئًا لعل الله أن يجعل منهم في مستقبل الأيام من تتحقق فيهم الملكة فيكونون هم الصف الثاني الذي يقوم بهذه المهمة، ومن العلماء المخلصين اليوم من تحققت فيه الملكة فهؤلاء هم أهل الاجتهاد اليوم، أما نحن طلبة العلم فعلينا بذل الجهد وتكفينا المتابعة لأئمة الصحابة والتابعين ومن يتبعهم بإحسان، وفيما ورثوه من العلم كفاية لمن أراد أن يقوم بمهمة التعليم والبيان والدعوة إلى الله، وليختص أهل الاجتهاد بالنظر في المسائل الجديدة، وأيضًا فإن الاجتهاد له ضوابطه التي تفرق بين الصحيح منه والفاسد وتميز بين الذين يتبعون الحق والذين يقعون في آثار المسالك الفاسدة. ومسيرة الاجتهاد كمسيرة الجهاد والدعوة تحتاج من الصادقين إلى حراسة ولا يمكن أن تُعطل المسيرة لأن أناسًا يخاف من شرهم عليها، فإن هذه المشكلة علاجها معلوم وهو اليقظة التامة لحفظ المسيرة وحراستها من المسالك الفاسدة والآراء الشاذة وكشف زيف المبطلين والمنحرفين وهذا ممكن والحمد لله، ولا تزال طائفة قائمة بالحق، فلتستمر إذًا عملية الاجتهاد، ولتستمر عملية الحراسة وليقم

الصادقون على الجهاد بقدر طاقتهم ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وحينئذ يتحقق وعد الله ونصره بتوفيقه سبحانه وتعود هذه الأمة إلى ما كانت عليه وتحمل رسالتها كما يريد الله لها. وينبغي أن لا يتضجر الباحثون من كشف الباطل وتميز الحق ولا يملوا ولا يضعفوا لأنهم في واقع الأمر منقسمون إلى ناصر للحق ومدافع عنه، وآخر هو عرضة للنقد -الذي يكون في بعض الأحيان شديدًا لأنه يكشف عن انحرافات خطيرة. نعم لا يتضجر مخلط كتب بقلمه وصاح بعقيرته ثم يقول لم يُقال عني كذا أو كذا ولم ينتقدني فلان أو فلان، لأنا نقول أن من يريد أن لا يصيبه شيء من ذلك فليكف قلمه ولسانه عن الكلام في الدين لأن هذا الدين ليس ملكه، وأولياؤه الصادقون لا بد كاشفون كل فساد بمشيئة الله وعونه، فمن تكلم بغير علم فليتحمل نتيجة عمله وقوله، ونحن لا نريد ممن يتكلم عن الدين أكثر من الرجوع إلى مواطن الإِجماع والوقوف عند المحكم والبعد عن المتشابه والحيطة في الاستدلال والسلامة من الشذوذ وعدم مخالفة ما علم من الدين عقيدة وشريعة، وأن يميز نفسه عن آثار الفرق الضالة قديمًا والغزو الفكري الذي تمثله المذاهب المعاصرة حديثًا، وهذه النصيحة نقدمها للباحثين ونلتزم بها -وخاصة بعد أن تبين لكل بصير ما تؤدي إليه مخالفة هذا الطريق من مخاطر على الكاتب ومن يكتب لهم، وينبغي لكل صادق مع نفسه أن يدعو إليها، لأن ذلك هو الطريق الأعظم للمحافظة على هذه الأمة وإصلاح أمرها وتصحيح العلم الذي يُقدّم إليها، والانتصار للحق المتمثل في الكتاب والسنة والذي حققه في عالم الواقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم -، ويكفينا ويكفي كل باحث عن الحق ومنتصر له أن يتابعهم ويقتفي آثارهم في التعلم والتعليم والاستنباط والاستدلال، والحذر من ترك الاتباع والوقوع في الابتداع، وهو الطريق الأعظم لجمع شتات هذه الأمة، يقول الدكتور سليمان دنيا مبينًا ذلك: وقد كان هدف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قوله في وصف الفرقة الناجية: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" "أن يجمع شمل هذه الأمة في مستقبلها كما اجتمعت في ماضيها فيكون لها كيان ديني موحد يكون شعارها وعنوانها

ومبعث فخرها ومناط قوتها لا أن يكون كل واحد منها فرقة برأسه يخالف الآخرين ويخالفه الآخرون" (¬1). فمن أبى واستكبر عن المتابعة على هذا المنهج -بعد ما تبين له الهدى- فإنما يريد أن يلبس على هذه الأمة أمر دينها ويتبع غير سبيل المؤمنين فلا بد أن يلقى جزاءه ولو بعد حين. وهذا هو واقع المخالفين عن هذا المنهج قديمًا وحديثًا فيه العبرة لمن أراد أن يعتبر، ونكتفي في هذا المقام بذكر دليل مشهور معلوم عند جميع الباحثين ذلك هو ما كتبه علماء الفرق الضالة -مخالفين هذا المنهج- وقد خلّطوا في أمر العقيدة والشريعة ونشروا أفكار الأمم الضالة داخل هذه الأمة فلم يتلبّثوا إلا قليلًا حتى قيض الله لدينه من يذب عنه ويكشف انحرافاتهم، بعد أن مزقتهم فرقًا وأحزابًا وسلط الله عليهم علماء السنة يردون عليهم بدعهم ويصفونهم بالضلالة كما يستحقون، وهذه كتب السنة من تراجم وعقيدة وأصول وفقه وحديث قد امتلأت بكلام أهل السنة فيهم يحذرون الأمة منهم، فلم يبق لهم والعياذ بالله إلّا الذم بعد أن صالوا وجالوا "ومن سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" .. فليتق الله كل صاحب قلم في دينه وفي هذه الأمة "والعاقبة للتقوى". * * * ¬

_ (¬1) الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين: المقدمة 64.

الفصل الثاني العموم وقضية الثبات والشمول

الفصل الثاني العموم وقضية الثبات والشمول توطئة: يأتي هذا الفصل بعد أن تحدثت عن الاجتهاد وحكمه وحكمته وكيف يستطيع الناظر أن يتحقق من الملكة ليستنبط بعد ذلك الأحكام من هذه الشريعة الربانية، وفي هذا الفصل بيان لحقيقة العمومات الواردة فيها وكيفية إفادتها الشمول ليتمكن المجتهد من البناء عليها وتعميم حكم النص على جميع ما يشمله، ويدرك منزلة العمومات الشرعية، لتقوي عنده قاعدة الشمول وتستقر قاعدة الثبات، وبهذا يتحقق الإِعجاز التشريعي الذي يتسق مع الإِعجاز الكوني. ويضم هذا الفصل من المباحث ما يبين ذلك إن شاء الله.

المبحث الأول مقارنة بين الإعجاز الكوني والإعجاز التشريعي وبيان سماته

المبحث الأول مقارنة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي وبيان سماته تبين مما سبق أن "الشريعة الإِسلامية" موصوفة بالكمال والثبات والشمول، وهذه ألفاظ أتراب يأخذ بعضها بحجز بعض، فإن قلت كمالها يقتضي ثباتها وشمولها فقد صدقت، لأنها لا تكون كاملة إلّا وهي ثابتة شاملة، لأن عدم الثبات نقص وعدم الشمول كذلك. وإن قلت ثباتها يقتضي كمالها وشمولها فقد صدقت، لأن ثباتها اقتضى -في مراد الله- أنها لازمة للبشر كافة على جميع العصور، ولا تكون كذلك إلا وهي كاملة شاملة لأن ذلك مقتضى الرحمة والحكمة والعدل الرباني تفضلًا منه سبحانه ونعمة. وإن قلت شمولها يقتضي ثباتها وكمالها فقد صدقت، لأنها لا تكون شاملة إلّا أن تكون ثابتة ما بقي تكليف وعمل في الأرض، وإلّا لم يتحقق الشمول إذا انقطع الثبات، وكذلك لا تكون شاملة إلّا إذا كملت فلا يلحقها نقص أبدًا. فالكمال والثبات والشمول مقطوع به، وهو قمة الإِعجاز التشريعي (¬1) ¬

_ (¬1) الطرق لهداية القلب البشري للاستسلام لشريعة الله كثيرة جدًا، فقد يهتدي إنسان بمجرد التفكير في آيات كونية أو آيات تشريعية ومع ذلك فإن الأصل في هداية القلب البشري إلى الله هو ما كان بالفطرة ألصق وبمعهود الأميين أقرب، وبالاطلاع على الكون أيسر، لأنه يمكن أن يقرأه كل أحد في كل حال حتى الذين لا يطلعون على أسرار التشريع وهم أكثر البشر، ولذلك اعتمد الرسل - عليهم السلام - على هذا الأصل القرآني في تصحيح العقيدة وهو قاعدة الدعوة ما بقيت البشرية في حاجة إلى التصحيح.

وهو متواكب مع إعجاز الخلق لما نرى من الآيات الكونية، بل هو كما تبين فيما سبق مطبوع بطابع الإِعجاز الخلقي للكون، فالإعجاز التشريعي -الذي يعجز عن الإتيان بمثله أو بشيء منه البشر أجمعون- هو صادر عن إرادة الله في إنزال القرآن - الذي هو كلامه سبحانه - والإعجاز في خلق الكون وآياته ما علمنا منها وما لم نعلم - الذي يعجز عن خلق شيء منه البشر أجمعون - هو صادر أيضًا عن إرادته سبحانه حيث يقول للشيء كن فيكون، ولذلك كان سمة الإِعجاز في الموضعين واحدة حيث طبع بطابع الكمال والثبات والشمول. ولذلك فإن هذين الإعجازين لا ينقطعان، أما الإِعجاز الكوني فكما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (¬1). وأول صفاته ضخامته وتعدد مواضعه وكثرة خصائصه وتنوع أشكاله وعمق دلالته - يقابل ذلك كله ضعف طاقات الإِنسان في جميع عصوره - حتى في عصرنا الحاضر - وهذا جعل الإِنسان لا يستطيع أن يتملى هذا الإِعجاز ويكشف عن جميع مجالته ومظاهره وخصائصه دفعة واحدة في جيل واحد فضلًا أن يدرك عمقه، وفي ذلك رحمة بالإنسان لكي يدرك في كل عصر من دلالة هذا الإِعجاز ما يحمله على تصحيح عقيدته في الله واتباع منهجه، وهو في جميع العصور واجد لا محالة من خصائص هذا الإِعجاز ودلالته بحيث يفكر في حق الله عليه فلا يعدم ما يطلع عليه من خصائص الإِعجاز ودلالته ولا يمل من ذلك لأن مواضعه متعددة وأشكاله متنوعة. ومن الإِعجاز في تدبيره سبحانه لأمر هذا الكون أن جعل الإِعجاز التشريعي متواكباً مع الإِعجاز الكوني، فيجد المتدبر لهذا القرآن حديثًا مفصلًا عن الكون وآياته -بحيث ينكشف له من خصائص الإِعجاز وعمق دلالته وتعدد مواضعه وتنوع أشكاله- ما يدل على أن هذه الشريعة التي جاء بها القرآن ¬

_ (¬1) سورة فصلت: آية 53.

هي من عند خالق هذا الكون فيطمئن لها حينئذ ويسكن إليها - وقد استولى على عقله وقلبه ذلك الإِعجاز في الخلق والتدبير، فيدرك بعمق دلالة الإِعجاز التشريعي، ذلك أن القرآن -بحديثه عن الإِعجاز الكوني بذلك الوضوح الذي يزيده إشراقًا إبداع الصنعة المحسوسة -قد يسر للعقل البشري والقلب الإِنساني تلقي وتفهم مظاهر الإِعجاز التشريعي، ولذلك كانت البداية في الخلق والأمر ببيان الإِعجاز الكوني فيأتي حينئذ الإِعجاز التشريعي ليستوي القلب البشري على الطاعة المختارة التي يتمثل فيها الرضى والطمأنينة لحكم الله الذي حفته مظاهر الإِعجاز من كل مكان، وهناك يتفاوت المؤمنون في إيمانهم وذلك لتفاوتهم في إدراك مظاهر الإِعجاز والإِبداع في الخلق والأمر. ولا يزال هذان الإِعجازان الكوني والقرآني متواكبين إلى يوم القيامة وما زال التحدي بهما لقادة البشرية اليوم من الحكماء والعلماء والمشرعين - قائمًا فإن التحدي لم يكن لكفار قريش فقط، وما زال أهل الحق يعرضون هذا التحدي على أئمة البشرية اليوم في أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها من الأمم إن كانوا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا الإِعجاز الكوني أو التشريعي أو بشيء منه، وما هم بمستطيعين وما ينبغي لهم ومازال هذا قائمًا في هذا القرن وما بعده من القرون أمام جميع الجاهليات في الأرض: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬1). ولنبدأ بتلمس خيوط الإِعجاز التشريعي -زيادة توثق في الإِيمان وبيانًا لعلاقة الإِعجاز الكوني به، وكشفًا عن حقيقة الثبات والشمول. لا عجب أن تتشاكل طبيعة هذين الإِعجازين فالله صاحب الخلق والأمر وإنّ من أبرز ملامح هذه المشاكلة ما يلي: 1 - الكون خلقه الله وقدر فيه طاقاته، فبقدر ما يتعامل الإِنسان معها بقدر ما يستخرج منها، فالماء طاقة مقدرة في الأرض، إذا استخرجها الإِنسان ¬

_ (¬1) سورة طه: آية 50.

فإنما استخرج طاقة كامنة يسر الله له استخراجها ولكنها ليست خلقاً جديدًا مستأنفًا في الأرض: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (¬1). وفي هذه الآية دلالة على أن الله جعل في هذه الأرض جميع ما تحتاجه البشرية من الطاقات وكل جيل يستخرج منها ما يطيق حسب قدراته ونشاطه ومبلغه من العلم، وكذلك هذه الشريعة، جاءت نصوص الوحي بها متضمنة معاني لا حصر لها، فقد جعلها الله شاملة لما يشاء أن يعلّمه للبشر في جميع أجياله، وكل جيل يعلم منها ما يحتاج إليه في جميع شؤونه، فيستخرج منهاجًا يحكم حياته كلها، فيحفظ له هذا المنهج عقيدة صحيحة -فيسلم من التخلف العقيدي وهو الارتكاس إلى الجاهليات البشرية -ويحفظ حياته الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فتتحقق حينئذ العبادة في هذه الأرض وهي المهمة التي خلق الله الإنسان من أجلها. يأتي كل جيل ليرتبط بهذه الشريعة، ويجد علماؤه فيها كل ما يحتاجه في تلك الأمور -وليس شيئًا من ذلك قد أنزل إنزالاً جديدًا مستأنفاً، كلا، وإنما هو متضمن في هذه الشريعة، تماماً كما هو الشأن في هذا الكون فيقف كل جيل ليجد ما يحتاجه من الطاقات في هذا الكون مدخرًا له، ويجد المنهج الصحيح الذي يحكم له جزئيات حياته مدخرًا له في هذه الشريعة فيعلم أن له رباً خلق له كوناً يعيش فيه ليستخرج طاقاته، وإلهاً أنزل له شريعة ليستخرج منها ما يبصره بالمنهج الصحيح، وهذه أول ملامح تلك المشاكلة بين الإِعجاز الكوني والإِعجاز التشريعي. 2 - إن هذا الكون لا تضاد فيه ولا تناقض بل هو صنعة محكمة مبدعة ¬

_ (¬1) سورة فصلت: الآيتين 9، 10.

وهذا هو الإِعجاز الذي يقابله إعجاز تشريعي حيث أنزل الله شريعته لا تضاد فيها ولا تناقض ولا اضطراب بل هي قول محكم. وملامح هذه المشاكلة تظهر في مثل قوله تعالى: عن بيان امتناع هذا الكون عن الفساد والاضطراب: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1). نعم لو كان في السماء والأرض آلهة إلّا الله لاقتضى ذلك أن تتعدد الإرادات في تدبير هذا الكون فهذا يسير القمر إلى جهة وآخر يأمره بضدها وهذا يريد الشمس جارية وذاك يريدها ساكنة، وحينئذ يقع الفساد، فلا يمكن أن تتعدد الألهة -وكل إله يستحق الألوهية- كلا لو كان كذلك لفسدت السموات والأرض. وشريعة الله التي هي كلامه المعجز ووحيه إلى نبيه لا يمكن أن تتعارض ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2). نعم لو كان القرآن من عند غير الله لوجدنا فيه ذلك الاختلاف، فلما لم نجد قطعنا حينئذ أنه من عند الله، مثل سلامة الكون من الفساد دلنا ذلك على أنه من خلق الله، وهذا وذاك هو سند الثبات في هذا الكون وفي هذه الشريعة إلى أن تقوم الساعة فيقدر الله حينئذ ما يشاء، والثبات هو من أهم معالم الإِعجاز التشريعي والإِعجاز الكوني. 3 - من مظاهر الإِعجاز في الكون أنك تجده متجددًا معطاء بفضل من الله، والإنسان يستثمر ذلك العطاء، وكلما اتجه الإنسان إلى الاستثمار الصحيح ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: آية 22. (¬2) سورة النساء: آية 82.

وجد خيرًا كثيرًا بإذن الله، وفي هذا الكون طاقات كلية ثابتة يستخرج منها الإِنسان -عن طريق الاستثمار الصحيح- طاقات جزئية لا حصر لها، ولذلك يختلف البشر في إمكان الحصول على ذلك ما بين مستكثر ومستقل، وقد حمّل الله الإِنسان هذا الجهد ليكابد الحياة ويعمل ويُعمر الأرض فتتحقق العبادة بإقامة الخلافة فيها. والإِنسان في كل ذلك ليس خالقًا ولا منشئًا حتى وإن اكتشف، لأن أصل الخلقة لله سواء في الكون أو الإِنسان، وجهد الإِنسان إنما هو اكتشاف لِما يسره الله له حسب السنن الربانية. وكذلك هذه الشريعة -التي هي وحي من الله- جعلها سبحانه متضمنة لكليات تشريعية تحفها جزئيات تشريعية كذلك، ثم كلف الأمة المتبعة لهذه الشريعة أن تجهد جهدها في إقامة فرض الكفاية وهو التعلم، وتهيئة طائفة منها لتقوم بمهمة التعليم والاجتهاد وذلك كله فرض كفاية، وعلى الأمة العمل لإقامته، وهؤلاء المجتهدون يستثمرون تلك الكليات التشريعية، وقد علموا منها ومن تلك الجزئيات كيف يتم الاستثمار وتتحقق مقاصد الشريعة، وحينئذ يتحقق لكل جيل عن طريق -المجتهدين- الحكم في مسائل لا يمكن حصرها البتة، وهذا هو غاية الاستثمار للكليات التشريعية (¬1)، وهذا الاستثمار اكتشاف لحكم الله، وليس إنشاء ولا تشريعًا تمامًا كما تبيّن لنا في الإِعجاز الكوني، ذلك أنَّ اللهَ وحده هو الخالق والمشرع والآمر سبحانه لا إله إلّا هو. 4 - من مظاهر الإِعجاز الكوني أنك تجد شجرة واحدة -وهي آية من آيات الله - تتفرع عن أصلها فروع كثيرة جدًا، وتجد أيضًا أنواعًا كثيرة من ¬

_ (¬1) نتحدث هنا عن الوضع السوي الذي خلق الله الإنسان له، وإلّا فإن هناك أجيالًا تنحرف عن مقصد الإِعجازين الكوني والتشريعي فلا هي استثمرت طاقات الكون، ولا هي اتبعت الشريعة، وهذه الحالة السيئة مرت بأجيال كثيرة جدًا من أجيال البشرية.

المخلوقات -كالهواء والماء والبذر والتربة .. - تجتمع لتخرج -بإذن الله- الزرع بجميع أجناسه، الذي يصلح لسد كثير من حاجات الإِنسان. وإنك لتجد هذه الملامح في الإِعجاز التشريعي: فمثلًا إذا تأملت في العموم اللفظي وجدته كأصل الشجرة الواحدة تقوم عليها تلك الفروع المتكاثرة، فاللفظ العام يشتمل في دلالته على فروع كثيرة، أصله لفظ واحد وفروعه لا تنحصر. وإذا نظرت في مثال آخر وهو العموم المعنوي وجدت جزئيات من الشريعة قد اجتمعت من كل مكان على معنى واحد، فأصبح هذا المعنى جنسًا ينتج لنا أحكامًا خاصة بمسائل كثيرة بل يصبح مثل العموم اللفظي، فهناك لفظ عام تبنى عليه فروع شتى، وهنا جزئيات كثيرة يخرج منها أصل واحد يُحكم به على جزئيات لا تنحصر، فهل رأيت مثل هذا الإِعجاز، شجرة واحدة في الأصل تنمو فروعها وتتكاثر، وجزئيات متناثرة -من تراب وماء وهواء وبذور- تجتمع لتخرج بإذن الله شجرة ذات فروع كثيرة، عمومات لفظية -هي عمدة الشريعة- يتفرع عن كل واحد منها فروع لا تنحصر، وجزئيات كثيرة يتفرع عنها فروع كثيرة جدًا تشابهها في الحكم -عن طريق القياس الشرعي- وهذه الجزئيات تجتمع مرة أخرى لتنتج العموم المعنوي فيحكم به على فروع لا تنحصر. هكذا في دورة تشريعية معجزة لا أجد لها شبيهًا إلا تلك الدورة الفلكية أو دورة الزروع والثمار المعجزة في الخلقة، التي تظنها قد تقف فينقطع عطاؤها، فكلما طاف بك طائف من شك أبصرتها تنطلق في دورة جديدة تبدد تلك الشكوك، هذه دورة الإِعجاز الكوني الذي يقول الله عنها متحديًا البشر في جميع العصور: {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة لقمان: آية 11.

وهذه هي دورة الإِعجاز التشريعي الذي يقول الله عنها متحديًا كذلك: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬1). أقول -والله أعلم بمراده- إن هذه الشريعة وهي كلام الله لا تنفد أبدًا -مهما قدر الله أن يخلق من الأجيال على هذه الأرض وسيجد فيها كل جيل ما يحتاجه يستنبطه منها علماؤه- فلا تنفد أبدًا، بل ينفد البحر دون أن ينفد منها شيء (¬2). وأقتصر على ما في الوسع من تبيين الملامح التي تظهر بين الإعجازين الكوني والتشريعي لعل فيه الكفاية في بيان حقيقة الإِعجاز التشريعي، وأنتقل بعده إلى دراسة موضوع العموميين اللفظي والمعنوي وهما من سمات ذلك الإِعجاز. * * * ¬

_ (¬1) سورة الكهف: آية 109. (¬2) قارن بين هذا وبين ما أشرت إليه عند بيان صلة المعنى الاصطلاحي للشريعة بالمعنى اللغوي فقد قلت هناك أن العرب لا تسمي مورد الماء "شريعة" حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع فيه.

المبحث الثاني العموم اللفظي

المبحث الثاني العموم اللفظي العموم هو الشمول، تقول العرب عم الرجل قومه بالعطية إذا شملهم (¬1) وعموم الشريعة شمولها، بحيث يدخل في حكمها ما لا حصر له من الوقائع والحوادث في جميع نواحي الحياة البشرية، فكما أن عموم التكليف للبشر أجمعين -وهم غير محصورين- فكذلك العموم هنا يشمل كل ما يحتاجه الناس في عموم الأحوال والأزمان والأمكنة بلا حصر (¬2)، ونصوص الشريعة أكثرها ¬

_ (¬1) لسان العرب - مادة "عم". (¬2) من تعريفات العام أنه "لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر" ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} النساء: 11، فلفظ "الأولاد" الوارد في الآية عام يشمل كل ولد كبيرًا أو صغيراً ذكرًا أو أنثى مسلمًا أو كافرًا، ثم ورد النص بمنع القاتل والكافر. ومثله ما ورد في الحديث: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" فإنه عام في كل امرأة. انظر تخصيص العالم 11 - 13. وهذه الأمثلة والتعريف أوردته للبيان فقط، وقد اتفقت طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية على أمور منها: أن دلالة العام على أصل معناه قطعية، وأن ما قامت القرينة على نفي إرادة الخصوص منه فهو قطعي في شموله لجميع الأفراد، واختلفوا فيما سوى ذلك. انظر تخصيص العام 35، وسيكون منهجي في البحث هو البناء على ما ورد من تحريرات لطريقة المتكلملين وطريقة الحنفية لأن البناء على المادة العلمية الموثقة والمسلمة يوفر الجهد للمضي بالبحث في هذه القضايا إلى مسائل جديدة، ونقل المادة العلمية شيء وتحليلها شيء آخر، ولذلك فإني لا أضيف جديدًا في عرض تلك الطريقتين، أما تحليل موقفهما وأدلتهما فهذا هو الذي سأهتم به مع إضافة =

عمومات منها ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في السنة وهي من أكبر قواعد الشمول في الشريعة (¬1)، لأنها من جهة تعتبر جوامع مختصرة يدخل تحتها ما لا يمكن حصره من الجزئيات والوقائع التي تجد في حياة البشرية، ومن جهة أخرى تمثل ثبات الشريعة لأنها عمدتها ولأنها حجة على كل حال عند السلف الصالح يقطعون بعموماتها بحسب فهم المقصد العربي في اللسان وبحسب مقاصد الشارع في موارد الأحكام. وفي هذا المبحث بيان لحجيتها وقوتها (¬2) والجواب عما يعارض ذلك وقد اختلف منهج الأصوليين في دراسة العمومات، وأدى هذا الاختلاف إلى الاختلاف في قوة شمولها فمنهم من ضعفها وجعلها ظنية وهم المتكلمون ومنهم من قواها فجعلها قطعية وهو منهج الحنفية والشاطبي وابن تيمية (¬3)، مع أن هؤلاء وهؤلاء يستدلون بها وتتقارب وجهات النظر عندهم إذا أخذوا في الاستدلال، لأن طريقة المتكلمين تنزع -كعادتها- إلى البحث التجريدي - ¬

_ = عرض الآراء الأخرى للأصوليين المعتبرين: أمثال الإِمام الشاطبي والإمام ابن تيمية، وخاصة وأن أكثر الباحثين لم يفطنوا لطريقة الشاطبي وابن تيمية، ولعل سبب ذلك يرجع إلى غلبة مسلك المتكلمين على أصول الفقه وحصر البحث الأصولي في طريقة المتكلمين والحنفية ويقتضي البحث أمرًا آخر وهو مقابلة طريقة المتكلمين بطريقة الشاطبي وابن تيمية، وسيكون كلام الشاطبي هو الأصل لأنه مفصل، أما الأحناف فلأنهم يساعدون الشاطبي وابن تيمية من جهة .. فقد اخترت عرض أجوبتهم عن أدلة المتكلمين فقط، وسيكون العرض مناسبًا لطبيعة هذا الكتاب. (¬1) وهناك "القياس" فإن ما ورد من الجزئيات هو في الحقيقة عام لأنه يصلح أن يقاس عليه غيره بشرطه وسيأتي بيان ذلك، ومنه قياس المصلحة، وهناك العموم المعنوي وسيأتي إن شاء الله. (¬2) هناك من يرى أنه وإن كان حجة إلّا أنه حجة ضعيفة وسيأتي الجواب عن ذلك حين عرض المذاهب. (¬3) هناك فوارق مهمة بين منهج الأحناف من جهة ومنهج الشاطبي وابن تيمية في تخصيصها بعد تقويتها فالحنفية لا تخصصها بالأحاد والشاطبي وابن تيمية يخصصونها بما ثبت مطلقًا على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

المطلب الأول

وقد غلبت عليهم حتى في أصول الفقه فإذا أخذوا في العمل -والتطبيق- تخففوا من آثار مسلكهم في البحث ولذلك سأهتم اهتماماً شديدًا ببيان الفوارق في منهج النظر بين أصحاب المذهبين وستحظى "طريقة المتكلمين" بتحليل يبرز حقيقتها وحجمها العلمي مع بيان السبب الذي حملهم عليها، ولن أقف عند طريقة المتكلمين ومقابلتها بطريقة الحنفية، بل سأنقل البحث إلى ضم طريقة الشاطبي وطريقة ابن تيمية وأقارن بينهما لعل في ذلك تجديدًا لطريقة السلف الصالح، ومظنة ذلك في نقول هذين الإِمامين كما سيأتي بيانه. وإن مما يساعد إلى الوصول إلى نتيجة صحيحة أن نعلم أن مسألتنا التي وقع عليها الاختلاف مسألة شرعية، لا هي عقلية تجريدية ولا هي لغوية صرفة، وجميع الدارسين -المفروض فيهم- أن يكونوا متعبدين باتباع المقاصد الشرعية والمقاصد العرِبية في فهم لغة العرب، لأنه ليس عندنا عقلاً محضًا نتبعه، ولا لفظًا مجرداً نحتكم إليه، وإنما العبرة بمجموع اللفظ والمعنى تسوقه المقاصد اللغوية وتحكمه المقاصد الشرعية. المطلب الأول الفرع الأول طريقة الإِمام الشاطبي يعتمد الإِمام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- في دراسته لموضوع "العموم" على منهج متميز يلتزم فيه بمقاصد العربية -وهي الجارية في كلام العرب في التعميم (¬1)، وبمقاصد الشرع مبتعدًا عما يصوره العقل في مناحي الكلام (¬2)، فلا هو يتبع البحث اللغوي التجريدي، ولا البحث العقلي التجريدي كذلك. يقدم الشاطبي العموم الاستعمالي على عموم الصيغة، وإن كانت في أصل وضعها على خلاف المقاصد الاستعمالية، ذلك لأنه لا يعتبر ما تدل عليه ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 173. (¬2) المصدر نفسه 3/ 182.

الصيغة في أصل وضعها عند الإِطلاق (¬1)، بل يعتمد المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وهو لا ينكر أن يكون للصيغة وضع أصلي، بل ذلك مسلم عنده، ولكنه يعتمد على قاعدة معلومة عند أهل العربية وهي: "أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي" (¬2). فما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها عند الإِطلاق قياسي، وما تدل عليه بحسب المقاصد الاستعمالية التي يقصد إليها المتكلم في العادة استعمالي، والاستعمالي مقدم على القياسي، ولذلك اعتبرت العرب مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان يدل على ذلك: إن العربي قد يستعمل لفظ عموم يشمل في أصل الوضع نفسه وغيره، ومقتضى الحال أنه لا يريد نفسه ولا أنه داخل في العموم وهذا هو الوضع الاستعمالي (¬3). قال ابن خروف (¬4): لو أن رجلًا حلف ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها فضربهم ولم يضرب نفسه لكان صادقًا. ¬

_ (¬1) قسم دلالة الصيغ على العموم إلى قسمين: الأول: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإِطلاق، وهذه الصيغ تارة تطلقها العرب وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، فإذا أرادت ذلك فلا إشكال. والثاني: إطلاق تلك الصيغ بحسب المقاصد الاستعمالية التي يدل عليها معنى الكلام خاصة، وهذا هو الذي تقدمه العرب على الوضع الإفرادي. والأول معتبر ما لم يعارضه الثاني، وكلابها إنما يعرف بما يدل عليه مقتضى الحال. المصدر السابق 3/ 171. (¬2) المصدر السابق 3/ 171. (¬3) المصدر السابق 3/ 171. (¬4) هو علي بن محمد بن علي بن محمد الأندلسي النحوي أقام بحلب ومات سنة 609 هـ تقريبًا وفيات الأعيان 1/ 433.

ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم، لم يدخل الأمير في التهمة والضرب. قال: فكذلك قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) فإن صفاته سبحانه لا تدخل تحت الإِخبار الوارد في هذه الآية، وكل ما وقع الإِخبار به من نحو هذا لا تدخل فيه صفاته تعالى، وهذا معلوم من وضع اللسان فإن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه (¬2). ومثله قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬3). لم يقصد أنها تدمر السموات والأرضين والجبال .. وإنما المعنى أنها تدمر كل شيء مما مرت عليه ومما شأنها أنها تؤثر عليه في الجملة ولذلك قال: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (¬4). يؤكد ذلك أنه لا يصح عند أهل العربية الاستثناء في مثل قول الرجل: "من دخل داري أكرمته إلا نفسي" أو "أكرمت الناس إلّا نفسي" أو"قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم" وإنما يصح الاستثناء لغير المتكلم من الداخلين أو المكرمين أو المقاتلين الذين يلاقيهم وهو الذي يتوهم دخوله إذا لم يستثن. "هذا كلام العرب في التعميم فهو إذًا الجاري في عمومات الشرع" (¬5). ¬

_ (¬1) {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]. (¬2) الموافقات 3/ 172. (¬3) سورءة الأحقاف: آية 25. (¬4) سورة الأحقاف: آية 25 - والآية تدل على أن المساكن لم تدمر فالعموم إذًا عموم استعمالي. (¬5) الموافقات 3/ 172 - 173.

وعلى هذا فلا نحتاج إلى التخصيص هنا لا بالعقل (¬1)، ولا بالحس (¬2)، ولا بالمنفصل ولا بالمتصل، وذلك لأن المجموع -من لفظ العام وما لحقه من المنفصل عنه أو المتصل به من ألفاظ- هو الدال على مقصود المتكلم، ومقصده يعرف بالطريقة التي بينها الشاطبي من كلام العرب، وإذا كان المجموع هو الدال -وقد استقر التشريع بعد انقطاع الوحي- فتحصل عندنا العام وما اتصل به من الكلام وما انفصل عنه، فإن دلالته تعرف من المقاصد الاستعمالية وليس هناك إخراج لشيء، وإنما هو بيان لقصد المتكلم من عموم اللفظ لكي لا يتوهم السامع منه غير ما ذكر، فاللفظ المتصل بالعام لا يخصص من محصول الحكم شيئًا لا لفظًا ولا قصدًا، وكذلك المنفصل ليس تخصيصًا حقيقيًا، وإنما هو بيان لمقصود المتكلم من عموم الصيغة (¬3) وذلك يعرف من مقصد الشارع، ومقصد الشارع يعرف من مجموع نصوصه وهو وضع واحد لا متعدد، ولا تخصيص فيه لا في اللفظ ولا في الإِرادة، فالحاصل: أن ما يلحق بصيغ العموم سواء كان متصلًا أو منفصلًا إنما هو بيان لوضع الصيغ في أصل الاستعمال فهو تفسير أشبه البيان الذي يأتي عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه (¬4). وفائدة هذا البحث عند الإِمام الشاطبي كما يلي: 1 - أن عمومات القرآن والسنة -وهي عمدة الشريعة- حجة على ¬

_ (¬1) كما صنع أكثر الأصوليين حيث خصصوا آية: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بالعقل لأنهم أدخلوا ذات الباري في العموم ثم أخرجوها بالعقل، والعموم عند الشاطبي هنا عموم استعمالي حسب المقصد اللغوي والشرعي، فلا نحتاج على هذه الطريقة إلى إخراجها إذ أنها لم تدخل أصلًا. انظر من كتب الأصول الإِحكام للآمدي 2/ 282، سورة الأحقاف: آية 25. (¬2) كما صنع أكثر الأصوليين في آية {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فقالوا الحس هنا أخرج السماوات والأرض والمياه. انظر الإِحكام للآمدي 2/ 282. (¬3) الموافقات 3/ 181 - 182. (¬4) المصدر السابق 3/ 182.

الفرع الثاني الاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها

تحقيق النظر والقطع بالحكم، وذلك هو الموافق لكلام العرب -الذي نزل القرآن به- وموافق "لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقًا بحسب قصد العرب من اللسان وبحسب قصد الشارع من موارد الأحكام" (¬1). 2 - أن هذه العمومات حجة أيضًا بعد التخصيص (¬2). 3 - السلامة من جميع الإِشكالات والشناعات التي وقع فيها بعض الأصوليين (¬3). وبعد أن تعرفنا على مذهب الإِمام الشاطبي أنتقل إلى ذكر الاعتراضات التي يمكن أن ترد عليه وهي قسمان، منها ما ذكره هو وأجاب عنه، ومنها ما ذكره غيره وأجيب عنه هنا -إن شاء الله تعالى- وذلك في الفرع الثاني والثالث. الفرع الثاني الاعتراضات التي ذكرها وأجاب عنها * الاعتراض الأول: إذا ثبت أن حالة الوضع تقتضي إطلاق اللفظ على جميع ما هو موضع له، فإن حالة الاستعمال والتركيب وهي الحالة الثانية لا تخرج عن أحد اعتبارين: (أ) ما أن تبقى دلالة اللفظ على ما هي عليه، فهو حينئذ الوضع الإفرادي وهذا مقتضاه. (ب) إذا لم تبق دلالته على ما هي عليه فهو الوضع الاستعمالي الذي خصص الوضع الإِفرادي، وهذا التخصيص لا بد له من مخصص عقلي أونقلي، وهو مذهب الأصوليين وعلى ذلك فلنكتفي بما قرره الأصوليون ولا داعي للقول بالعموم الاستعمالي. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 3/ 183 - 184. (¬2) المصدر نفسه 3/ 183 - 184. (¬3) انظر اختلاف القائلين بالعموم في صحة الاحتجاج به بعد التخصيص - الأحكام للآمدي 2/ 232.

وأجاب الشاطبي عن هذا بجواب حاصله: أن التخصيص غير وارد وذلك أن اللفظ إذا بقيت دلالته فلا تخصيص وهذا ظاهر. وإذا لم تبق دلالته على أصل الوضع الإِفرادي فذلك سببه كما ورد في الاعتراض وقوع الوضع الاستعمالي، وهذا الوضع الاستعمالي ذو أصالة مستقلة عن الوضع الإِفرادي، بل هو شبيه بالحقيقة العرفية القابلة للحقيقة اللغوية، فمقابلة الوضع الإِفرادي للاستعمالي كمقابلة الحقيقة اللغوية للعرفية، فهما وضعان حقيقان لا مجازيان وعليه فإن العموم الاستعمالي وضع حقيقي لا مجازي. والدليل على ذلك هو ما ثبت في الأصول العربية من أن اللفظ العربي له أصالتان قياسية واستعمالية، والاستعمالية أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وعلى هذا فإن "الاستعمالي" وضع ثان وليس تخصيصًا للوضع الأول. • الاعتراض الثاني: أن "الاستعمالي" لا يؤثر في دلالة اللفظ حال الإِفراد، ولا يصير وضعًا ثانيًا، بل هو باق على أصله ثم يأتي التخصيص بمتصل أو بمنفصل بعد ذلك. والدليل على صحة هذا الاعتراض: أن العرب تفهم التعميم من ورود اللفظ العام في سياق الاستعمال حتى يأتي مخصص له، مع أن هناك من الأمثلة ما دل السياق فيها على خلاف ما فهموا، والأمثلة تبين المقصود ومنها: 1 - فهمهم لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1). فقال الصحابة: أينا لم يلبس إيمانه بظلم، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: "إن الشرك لظلم عظيم". ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: آية 82.

2 - ومن ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬1) قال بعض الكفار فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (¬2) فقد فهم العرب من مقتضى اللفظ العموم وبادرت أفهامهم إليه، واعتبروا اللفظ بما وضع له في الأصل، وفهمهم هذا معتبر، كيف والقرآن قد نزل بلسانهم (¬3). وأجاب الشاطبي بجوابين: أحدهما مختصر والآخر مفصل، وأكتفي هنا بالأول وحاصله: أن العموم الاستعمالي لا يفهم إلا باعتبار المقصد الشرعي فمن فهم مقصد الشارع أدرك العموم الاستعمالي، وكذلك يحتاج إلى إدراك المقصد الاستعمالي العربي، والعرب في إدراك مقصد العربية شرع سواء (¬4)، وأما إدراك المقصد الشرعي فالتفاوت فيه حاصل، فليس قديم العهد بالإِسلام كجديد العهد به، ولا الدارس والمشتغل به كغيره ولا المبتدئ فيه كالمنتهي والتفاوت حاصل بين المؤمنين: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء: آية 98. (¬2) سورة الأنبياء: آية 101. (¬3) الموافقات 3/ 173 - 174. (¬4) يقصد الشاطبي العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أما غيرهم ممن لم تكن العربية سليقة لهم فهم متفاوتون في معرفة مقاصدها، ولذلك فإن الشاطبي يشترط في المجتهد أن يدرك مقاصد العربية ومقاصد الشريعة وهذا يقتضي أن يدرك العربي معنى اللفظ وإلا احتاج إلى من يدله على معناه كما ورد في الأمثلة السابقة. (¬5) انظر ما سبق 218.

فإذا توقف بعض الصحابة كما في الأمثلة السابقة وغيرها، فلأن إدراك المقصد الشرعي يتفاوت الصحابة فيه فمن خفي عليه ذلك المقصد ثم علمه زال الإشكال، فعدم إدراك بعض الصحابة فيه للعموم الاستعمالي سببه عدم إدراك المقصد الشرعي، كما أن من لم يعرف القصد الاستعمالي العربي لم يدرك العموم الاستعمالي وحينئذ يحمل اللفظ على أصل الوضع. وليس في هذا دلالة على أن اللفظ ليس له إلا وضع واحد، بل له وضع استعمالي فمن لم يعرفه اعتمد الوضع الأصلي. وقد بين الشاطبي عدم إدراك المقصد الشرعي عند بعض الصحابة في الآية الأولى، وعدم إدراك المعترض من الكفار موقع الآية بل جهل مقصد السياق فإن الخطاب فيها لقريش وكانوا يعبدون ما لا يعقل، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ... } الآية إشارة إلى ما لا يعقل، فلا يدخل فيه المسيح ولا الملائكة، فنزل بيانًا لجهل المعترض قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ .... } فالمسيح والملائكة لم يدخلوا في المعنى الذي من أجله نزلت هذه الآية، فإنها نزلت خطابًا لقريش وما كانوا يعبدون المسيح ولا الملائكة، فالعموم الوارد في الآية عموم استعمالي لم يدخل فيه الملائكة ولا المسيح (¬1). "وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة وأن ثم قصدًا آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله، وبه يحصل فهمها وعلى طريقه يجري سائر العمومات وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل البتة واطردت العمومات قواعد صادقة العموم" (¬2). • الاعتراض الثالث: وهو وارد على جواب الاعتراض الثاني وأذكره هنا مستقلًا لِيُمكِن إيضاحه: ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 177، درء تعارض العقل والنقل 7/ 58. (¬2) الموافقات 3/ 177 - 178.

وحاصله: أن ما في الجواب من أن بعض الصحابة لم يدركوا المقصد الشرعي، يعارضه أن منهم من أدرك المقاصد الشرعية كما أدركها كثير من العلماء من بعدهم وحملوا اللفظ أيضًا على عمومه في أصل الوضع مع أن السياق على خلافه، ومن أمثلة ذلك: 1 - قصة عمر مع بعض أصحابه حيث رآهم يتوسعون في الِإنفاق فقال لهم: أين تذهب بكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ولذلك قال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} ثم قال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ... } (¬1). فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين، ومع ذلك فقد أخذها عمر مستندًا في ترك الإسراف مطلقًا. 2 - ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). نزلت فيمن ارتد عن الإِسلام بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬3). ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإِجماع حجة وأن مخالفه عاص وعلى أن الابتداع في الدين مذموم" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف: آية 20. {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}. (¬2) سورة النساء: آية 115. (¬3) سورة النساء: آية 116. (¬4) الموافقات 3/ 181.

وغير هذين المثالين كثير وهي مبنية على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهي مسألة مختلف فيها، وحاصل البحث أن أحد القولين هو الأصح ولا فائدة زائدة (¬1). وأجاب الشاطبي عن هذا بأحد جوابين: الأول: إن هذا ليس من مسألة البحث، وهو فقه حسن يعرفه الراسخون في العلم، فإن الله ذكر المؤمنين بأحسن أعمالهم وذكر الكافرين بأسوء أعمالهم ليكون العبد بين الخوف والرجاء فيرى أحسن أفعال المؤمنين فيقتدي بها، ويرى أفعال الكافرين فيحذر منها، وليس هذا من قبيل الصيغ العمومية، بل من قبيل حمل ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي. والثاني: إن هذا بيان "فقه الجزئيات من الكليات العامة لا أن المقصود التخصيص بل بيان جهة العموم" (¬2). وبهذا الجواب يتقرر عند الإِمام الشاطبي أن العموم الاستعمالي وضع ثان غير الوضع الأصلي، ويعرفه من عرف مقاصد العربية ومقاصد الشريعة وعلى ذلك فالعمومات صادقة العموم وهي حقيقة لا مجاز وليس هناك تخصيص بمنفصل، وهذا هو موقف الصحابة والسلف من عمومات الكتاب والسنة، يبينونها وهم ينظرون إلى مقاصد الشارع فيها، ولا يقتصرون على أصل الوضع، ولا يرون ذلك البيان إخراجًا من أصل اللفظ. ويزيد الشاطبي هذه المسألة إيضاحًا: فيقول: إن التخصيص بالمتصل ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 181. وأشار الشاطبي إلى أن في المسألة قولين -وهو ما ذكره الأصوليون- وانظر بحث الدكتور محمد العروسي "مسألة تخصيص العام بالسبب" طبعة سنة 1403 هـ -المطبعة العربية الحديثة- القاهرة. تجد فيه أن العبرة بعموم اللفظ ولا خلاف على هذه القاعدة، وما ينقل من الخلاف فإنما هو في تحقيق المناط وفي هذا البحث وضع -جزاه الله خيراً- الأمور في نصابها وأزال الإشكال الوارد على هذه القاعدة. (¬2) الموافقات 3/ 181.

سواء بالاستثناء كقولك: "عشرة إلا ثلاثة" فإنه مرادف لقولك سبعة، أو بالصفة وأشباه ذلك: "ليس في الحقيقة بإخراج الشيء بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ". ويستشهد بقول سيبويه: "زيد الأحمر عند من لا يعرفه كزيد وحده عند من يعرفه" (¬1)، ولا تخصيص لا لفظًا ولا قصدًا، وأما أنه ليس بمجاز: فذلك لحصول الفرق عند العرب بين قول القائل: "ما رأيت أسدًا يفترس الأبطال" وقول القائل: "ما رأيت رجلًا شجاعًا" فالأول مجاز والثاني (¬2) حقيقة. والشاطبي في هذا الاستدلال يعتمد على أمرين: الأول: الرجوع إلى أهل العربية في هذا الاعتبار. الثاني: اعتبار المقصد الشرعي. أما ما يصوره العقل في مناحي الكلام فلا يعتمده طريقًا لإِثبات مقصوده هنا (¬3). أما التخصيص بالمنفصل عنده فليس هو التخصيص الذي يذهب إليه الأصوليون، بل هو بيان للمقصود من عموم الصيغ في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي، وما ذكره الأصوليون يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص. وفرق بين قوله أن التخصيص بيان لوضع اللفظ، وبين قولهم أنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه. والفرق بينهما كما يصوره الشاطبي كالفرق بين البيان عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه، وبين البيان الذي سبق عقب الحقيقة لبيان أن المراد المجاز كقولك: "رأيت أسدًا يفترس الأبطال". ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 181. (¬2) المصدر السابق 3/ 182. (¬3) المصدر السابق 3/ 182

الفرع الثالث اعتراضات أخرى وجوابها

فالأول: بيان المراد من اللفظ المشترك ومثله التخصيص بالمنفصل عند الشاطبي الذي هو عبارة عن بيان المقصود من عموم الصيغ. والثاني: بيان أن المراد من اللفظ المجاز لا الحقيقة ومثله عند الأصوليين التخصيص الذي هو بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص. وأما الاعتراضات الأخرى فنذكرها ثم نجيب عنها، وهي: الفرع الثالث اعتراضات أخرى وجوابها 1 - إن الخلاف إنما يكون حقيقيًا بين الجمهور القائلين بأن العام حقيقة بعد التخصيص ومن ثم يكون حجة وبين القائلين بأنه مجاز فيكون محتملاً فلا يكون حجة وهو رأي ضعيف والخلاف فيه كذلك، فلا يحتاج من الشاطبي إلى كل هذا الجهد كما يرى الأستاذ دراز -رَحِمَهُ اللهُ-. 2 - يقترح أن يعتمد الشاطبي رأي الجمهور وينصره ويرد على المخالف فيقرر أن العام حقيقة فيما قصد ويبقى بعد التخصيص كذلك. 3 - إن حاصل مذهب الشاطبي أن العام حجة بعد التخصيص ولا يسميه تخصيصًا بل يسميه بيانًا والجمهور يسمونه تخصيصًا وما شنع به على الأصوليين لا معنى له، لأنه يتفق معهم في نهاية الطريق، فإن لزم على رأيهم التساهل بالعمومات وانتفاء جوامع الكلم فكذلك على رأيه لأنه يحتاج إلى مبين والمبين يحتاج إلى فهم لمقاصد العربية ومقاصد الشريعة (¬1). واقترح ترتيب مذهب الشاطبي على النحو التالي وذلك بأن يقرن الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- مذهبه مع مذهب الجمهور للرد على من نفى الحجية بدعوى ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 291 تعليق دراز، وانظر ما قاله الدكتور أديب الصالح تفسير النصوص 2/ 115، الطبعة الثالثة 1404 هـ المكتب الإِسلامي.

المجاز، وهذا الرأي وإن كان ضعيفًا إلّا أنه يوهن الاستدلال بالعمومات، وإن الجوامع لا تكون كذلك إلا إذا كان المعنى محددًا محررًا وهذا لا يتحقق على رأي القائل بالمجاز لأن المجاز محتمل (¬1). ونؤيد مطلب الأستاذ دراز بادئ ذي بدء ونتمنى تحقيقه، لأن تجميع الطاقة العلمية وإبعاد الخلاف عن مسائل الدين أمر مطلوب محبوب، ولكن هل يمكن للشاطبي أن يسير مع طريقة المتكلمين حذو القذة بالقذة، وقبل أن نعرض لطريقتهم -وهم القائلون بالظنية وقد اختلفوا بعد ذلك في حجية العام- نشير إلى الجواب عن اعتراضات الأستاذ دراز واقتراحاته بما يناسب هذا الموضع ونسجل الجواب في النقاط الآتية: 1 - إن منهج الشاطبي في دراسة العموم يختلف تمام الاختلاف عن مسلك المتكلمين ومن تابعهم، والخلاف جوهري، يشبه الخلاف بين مسلك المتكلمين ومنهج السلف في الاستدلال، ومن الفوارق بينهما ما يلي: (أ) مسلك المتكلمين مسلك تجريدي عقلي، ومسلك الشاطبي مبني على طبيعة هذه الشريعة، فهي شريعة ذات مقاصد نزلت بلسان عربي مبين، فالعبرة بالاستعمال والمقاصد، وعمدة الشاطبي راسخة حيث اعتمد على لغة العرب (¬2) وهي الحجة البينة في مثل هذه المسألة. (ب) إن الشاطبي تابع السلف الذين من شأنهم تقوية الأدلة كما تبين لنا عند الحديث عن إفادة الشريعة للعلم، والمتكلمون تابعوا مسلكهم في تضعيف الأدلة ووصفها بالظنية (¬3). 2 - إن الإِمام الشاطبي اعتمد في رد القول بتضعيف العموم والقول بالمخصصات على حقيقة قول الجمهور، فإنهم كما أشار دراز وهو يذكر قول الغزالي لا يدخلون في العموم ما لا يخطر ببال المتكلم وإن البيان للعام لا يسمى ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 291 - 292 بتعليق دراز. (¬2) انظر ما قاله الأستاذ دراز هامش الموافقات 3/ 271 بتحقيقه. (¬3) انظر ما سبق ص 183 - 188.

المطلب الثاني طريقة المتكلمين ومناقشتها

تخصيصًا إلا تجوزًا (¬1)، فكيف ينتصر الشاطبي لمسلك المتكلمين وهو يعلم أن ما ذهب إليه هو منهج السلف وعليه تدل اللغة وهو بيان في الحقيقة لا تخصيص حتى عند مخالفيه، وإنما قالوا بتضعيف العمومات وأدخلوا المخصصات عليها ثم اختلفوا في حجيتها بعد تضعيفها بسبب التزامهم طرقًا في الاستدلال ليست مثل الطريق الذي سلكه الإِمام الشاطبي، فكيف ينصرهم على مثل هذا. والحقيقة -التي سنذب عنها إن شاء الله بالبينة الظاهرة أن الخلاف بين منهج الشاطبي الذي تابع فيه منهج السلف في الاستدلال وبين مسلك المتكلمين يشبه الخلاف بين علماء الكلام وعلماء السلف، وفي هذا التنبيه كفاية في هذا الموضع. وسيأتي له زيادة بيان وتأكيد في المطلب الثاني، وهو عرض طريقة المتكلمين ومناقشتها. المطلب الثاني طريقة المتكلمين ومناقشتها الفرع الأول ذكر طريقة المتكلمين (¬2) وهم جمهور المتكلمين من أتباع المذاهب الثلاثة: المالكية والشافعية والحنابلة، وبعض الحنفية (¬3). ¬

_ (¬1) انظر قول الغزالي وتعليق دراز عليه بما يساعد الشاطبي هامش الموافقات 3/ 272. (¬2) اقتصرت هنا على عرض طريقة المتكلمين لأنها منسوبة إلى جمهور الأصوليين من ناحية، ومقابلة لطريقة الشاطبي من ناحية أخرى، وأما طريقة الحنفية وهي القول بأن دلالات عمومات القرآن والسّنة قطعية فتعتبر مساعدة لطريقة الشاطبي من جهة القطع بالعمومات. (¬3) التوضيح وشرحه التلويح 1/ 38 وما بعدها، وكشف الأسرار 1/ 304، وحاشية البناني 1/ 413 وما بعدها، ومُسَلم الثبوت 1/ 264 - 265، وشرح الكوكب المنير 1/ 114. وانظر رسالة الدكتوراه للدكتور علي عباس الحكمي "تخصيص العام" 35، وهناك بعض الملاحظات التي يمكن أن ترد على بعض ما قرره في الاستدلال لمذهب المتكلمين وفي نسبة قولهم إلى مذهب الإِمام الشافعي وسيأتي ذكر بعضها في الهامش الذي بعد هذا.

قالوا: إن دلالة العمومات القرآنية والسنّية ظنية (¬1)، واستدلوا: "بأن ¬

_ (¬1) تبين فيما سبق من البحث أن مصطلح "الظنية" عند المتكلمين حادث، ومن هنا لا وجه لنسبته إلى أئمة أهل السنة كمالك وأحمد والشافعي، وقد درج كثير من الأصوليين على نسبة مفردات مسلك المتكلمين إلى هؤلاء الأئمة، من ذلك ما نحن فيه فقد قالوا إن الإِمام الشافعي يقول بظنية العمومات -مع أن بعض الشافعية نقلوا عن إمامهم القول بالقطيعة "تخصيص العام" 37. ومع ذلك فقد اعتمد الذين خالفوا في هذا على دليلين اثنين: الأول: أن من أعلام المذهب من لم يصحح هذه النسبة، تخصيص العام 37. الثاني: أن ذلك مخالف لمنهج الشافعي في الاستنباط، فقد عرف عنه حمل ظواهر القرآن على مقتضى أخبار الآحاد، وهي ظنية الثبوت ولا يصح حمل العمومات على هذه الأخبار مع القول بقطعيتها، تخصيص العام 37. والجواب عن الأول: أن النسبة إن لم يصححها أحد أعلام المذهب فقد ذكرها الأبياري شارح كتاب البرهان لإمام الحرمين وحكاه إمام الحرمين في أول كتابه المذكور ونقله أيضًا الأصفهاني شارح المحصول وذكر الماوردي نحوه أيضًا "تخصيص العام" 37. الثاني: أن القول بالقطعية لا ينافي منهج الإِمام الشافعي، لأنه قرر في "الرسالة" تثبيت خبر الواحد. وانظر ما سبق ص 164 - 166، نعم ينافي مسلك المتكلمين لأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم عندهم، وهذا هو الفارق بين منهج الإِمام الشافعي وطريقة المتكلمين، وما يفرضه بعض الباحثين من أن أخبار الآحاد ظنية عند الشافعي ومالك وأحمد، فرض غير صحيح بل ثبت فيما سبق أن أئمة السلف يستدلون بها على العقيدة ص 144، ومع هذا يأتي هؤلاء الباحثون وينسبون إليهم القول بظنية العمومات ويلزمونهم بطريقة المتكلمين، وهذا في الحقيقة إقحام لمسلك المتكلمين على أصول أئمة السلف، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وأقحموا مسلك المتكلمين على أصول الصحابة - رضوان الله عليهم - على فرض أن الصحابة يقولون بظنية أخبار الآحاد ويأخذون هذه النسبة مسلمة بلا برهان، مع أن البرهان العلمي قام على ضدها كما بينه الإِمام الشافعي والأشعري وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ممن نقل مذاهب الصحابة والأئمة. انظر ما سبق ص 167 ويبنون على هذه النسبة أن الصحابة يقولون بأن العمومات ظنية، تخصيص العام 43، وفي الحق أن الصحابة لا هم قائلون بهذا ولا بذاك وأن المسلك الذي فرضت به طريقة المتكلمين على أصول الصحابة - رضي الله عنهم - مسلك لم تثبت له حجة، فلا ثبت أنهم يقولون بأن أخبار الآحاد ظنية ولا ثبت ذلك عن أحد من السلف ومن ثم فإن ما رتب على هذا الذي ليس بثابت يكون غير ثابت أيضًا. =

الفرع الثاني مناقشة الحنفية والإمام الشاطبي والإمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين

العام قد كثر تخصيصه، وشاع قصره على بعض أفراده، حتى أصبح قولهم "ما من عام إلا وقد خصص" بمنزلة المثل، فنتج عن ذلك احتمال التخصيص في كل عام ولو لم يظهر ما يخصصه، وحيث قام احتمال التخصيص، وإرادة البعض انتفى القطع واليقين لأن القطع لا يثبت مع الاحتمال" (¬1). وقد آثرت نقل الدليل -الذي ليس لهم غيره- بنصه حتى يكون ذلك أحكم وأوضح وأثبت في بيان حجتهم. وبعد ذلك أعرض منهج الحنفية والشاطبي وابن تيمية في مناقشتها. الفرع الثاني مناقشة الحنفية والإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية لطريقة المتكلمين يتكون دليل المتكلمين من مقدمتين: الأولى: وجود احتمال يمنع من قطعية دلالة العام. الثانية: أن هذا الاحتمال ناشئ من وقوع التخصيص وكثرته حتى أصبح قولهم: "ما من عام إلّا وقد خصص" بمنزلة المثل. والحنفية والشاطبي يردون هذا الاستدلال كل حسب طريقته، ويتفقون تارة في طريقة الجواب وسنبين ذلك، ويختلفون تارة أخرى، والمهم أنهم جميعًا بتساعدون على رد طريقة المتكلمين. فالحنفية يردون المقدمتين معًا: وذلك أن الاحتمال المعتبر عندهم ¬

_ = وراجع ما سبق عند نقل الاتفاق على أن خبر الواحد يحتج به في العقيدة ص 167 ولو تحرر كثير من الباحثين من مسلك المتكلمين في البحث والدراسة لتحرروا حينئذ من الفرضيات العقلية والاحتمالات التي لا دليل عليها وسلموا من إقحام مسلك المتكلمين على منهج الصحابة والأئمة. (¬1) "تخصيص العام" رسالة دكتوراه 38، وقد ذكر المؤلف أن هذا هو دليلهم الوحيد. وانظر المصادر الأصولية السابقة: التوضيح وشرحه 1/ 38، كشف الأسرار 1/ 304، حاشية البناني 1/ 413، مُسلَّم الثبوت 1/ 264 - 265، شرح الكوكب المنير 1/ 114.

هو الاحتمال الناشىِء عن دليل، وهذا الاحتمال الذي أُسست عليه طريقة المتكلمين ليس ناشئاً عن دليل فلا عبرة به (¬1). وقد أجاب القائلون بالظنية بأن هذا الاحتمال ناشئ عن دليل هو وقوعٍ التخصيص وكثرته "فالاحتمال الناشئ عن هذه الكثرة إذا لم يكن راجحاً -لعدم ظهور القرينة الخاصة- فلا أقل من أن يكون احتمالًا مرجوحًا لجواز وجود القرينة مع خفائها وإذا وجد الاحتمال انتفى القطع" (¬2). وجوابهم هو من معنى المقدمة الثانية، وهي التي ردها الحنفية أيضًا وكذلك الشاطبي، فقد خالفوهم في مثلهم المشهور "ما من عام إلّا وقد خصص" فهذه ليست مسلمة عند الحنفية، وليست مسلمة أيضًا عند الشاطبي وقد عارضها شيخ الإِسلام ابن تيمية أشد المعارضة: قال الإِمام الشاطبي: ردًا على القائلين بالاستدلال بالعمومات على تحسين الظن لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم قال: "وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية وتضعيف الاستناد إليها وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس أنه قال: ليس في القرآن عام إلا مخصص إلّا قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3). وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته التي فهموها تحقيقًا بحسب. قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام" (¬4). ¬

_ (¬1) التلويح 1/ 39 - وتخصيص العام 39. (¬2) التحرير مع شرحه التيسير 1/ 269 وتخصيص العام 40، وستكون هناك مقارنة أذكرها إن شاء الله بين مسلك المتكلمين في نفي القطعية مطلقًا عن الأدلة -وقد سبق- وبين هذا الموضع. (¬3) سورة الحجرات: آية 16. (¬4) الموافقات 3/ 184.

الفرع الثالث مناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي

"وما نقل عن ابن عباس إن ثبت من طريق صحيح فيحتمل التأويل" (¬1). ولعل في صحته نظر، ولو صح لاعتمده بعض من انتصر لطريقة المتكلمين، ولكنه لم يثبت، وأما قول الإِمام الشاطبي أنه إن ثبت فيحتمل التأويل -لا يعني ثبوته- بل هو من المجادلة بالحسنى، ولعل التأويل الذي تطلع إليه الشاطبي يشبه ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية -وهو يتعجب أشد العجب من هذه المقالة "ما من عام إلا وخصص" فيعتذر لمن نصرها بأنهم يقصدون "ما من عام فيه لفظ" كل شيء "إلا وخصص إلا كلمة أو كلمات" (¬2) أما العمومات الأخرى التي ليس فيها لفظ "كل شيء" فإن ابن تيمية يرى أن قولهم فيها أنها مخصصة إلا قوله تعالى: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، أنه من أكذب الكلام وأفسده وإن أطلقه بعض السادات المتفقهة (¬3) ومن ثم فإن ابن تيمية يعارض في تضعيف العمومات (¬4)، ويتابع السلف كما تابعهم الشاطبي ويعتبر العمومات المسندة المجردة عن قبول التخصيص تكاد تكون قاطعة في شمولها بل قد تكون قاطعة (¬5). الفرع الثالث مناقشة ابن تيمية لطريقة المتكلمين ومقارنتها بمذهب الشاطبي وقبل أن أذكر جواب شيخ الإِسلام عن طريقة المتكلمين أذكر أوجه الشبه بين منهج الإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية في عدة نقاط: 1 - أنهما يشتركان في القول بقطعية العمومات. 2 - أن ابن تيمية يعتبر أن مذهب الجمهور: أن الخاص المتأخر عن ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 184. (¬2) مجموع الفتاوى الكبرى 6/ 441. (¬3) مجموع الفتاوى الكبرى 6/ 442. (¬4) المصدر السابق 6/ 441. (¬5) المصدر السابق 6/ 431.

العام يقضي على العام باعتباره تفسيرًا له فيتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام (¬1) ويرجح مذهب الجمهور في موضع آخر فيقول: إن "التخصيص فرع على ثبوت عموم اللفظ، ومن هنا يغلط كثير من الغالطين يعتقدون أن اللفظ عام، ثم يعتقدون أنه قد خص منه ولو أمعنوا النظر لعلموا من أول الأمر أن الذي أخرجوه لم يكن اللفظ شاملاً له ... " (¬2). وهذا هو مذهب الشاطبي بعينه، فما يرد على العام إنما هو تفسير وهو مذهب الجمهور كما حكاه ابن تيمية. ومن مجموع هذه النقول يتبين لنا مذهب الجمهور وهو أن ما يلحق بالعمومات إنما هو في الحقيقة تفسير لا تخصيص. 3 - أن ابن تيمية يعارض أشد المعارضة "مثل" المتكلمين الذي بنوا عليه طريقتهم وهو قولهم: "ما من عام إلا وقد خصص" والشاطبي يعتبره -كما اعتبره الإِمام ابن تيمية- معارضًا لجميع الكتب التي أنزلها الله ولسائر كلام الأمم (¬3). 4 - أن العموم اللفظي على هذا التفسير والعموم المعنوي هما طريقان لإثبات حكم الأشياء الكثيرة والقضاء بالكلية العامة كما يقول ابن تيمية ولذلك دافع عنهما ورد قول من ضعفهما وأجاب عما استدلوا به (¬4)، وذلك صنيع الشاطبي في الموافقات كما سبق بيانه. وبعد معرفة أوجه الشبه أذكر جواب شيخ الإِسلام -كما أورده في الجزء السادس من الفتاوي الكبرى ويمكن تقسيمه إلى قسمين: ¬

_ (¬1) المصدر السابق 35/ 215. (¬2) المصدر السابق 6/ 443. (¬3) المصدر السابق 6/ 442. (¬4) المصدر السابق 6/ 440.

الأول: أجاب فيه عن قول القائلين أن العموم وإن ثبتت به الحجة لكنه ضعيف. الثاني: مناقشة قولهم أن أكثر العمومات مخصوصة، ويمكن أن أقسم جوابه إلى فقرات. (أ) مناقشة قولهم بتضعيف العمومات: أجاب عن قولهم "إن العموم يحتج به على ضعف في دلالته لأن العمومات أكثرها مخصوصة وأنه ما من عموم محفوظ إلا كلمة أو كلمات" (¬1). أجاب بقوله: "هذا سؤال لا توجيه له، فإن هذا القدر الذي ذكرته لا يخلو: إما أن يكون مانعًا من الاستدلال بالعموم أو لا يكون، فإن كان مانعًا فهو مذهب منكري العموم من الواقفية والمخصصة، وهو مذهب سخيف لم يُنتسب إليه، وإن لم يكن مانعًا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يُقر، فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام" (¬2). (ب) مناقشة قولهم أن أكثر العمومات مخصوصة: وأجاب عن الثاني بقوله: " .. من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة؟ أم من الذي يقول ما من عموم إلّا وقد خص إلّا قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3). فإن هذا الكلام وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه فإنه من أكذب الكلام وأفسده. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 6/ 441. (¬2) المصدر السابق 6/ 442. (¬3) سورة الحجرات: آية 16.

والظن بمن قاله أولًا أنه إنما عني أن العموم من لفظ "كل شيء" مخصوص إلا مواضع قليلة كما في قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1). {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3). وإلا فأي عاقل يدعي هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنّة وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم. وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره وجدت غالب عموماته محفوظة لا مخصوصة سواء عنيت عموم الجمع لأفراده أو عموم الكل لأجزائه أو عموم الكل لجزئياته" (¬4). ثم ذكر -رَحِمَهُ اللهُ- أمثلة كثيرة تدل على ذلك مع أنه باب واسع كما قال، ومن هذه الأمثلة ما يلي: 1 - قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5). عموم يشمل جميع العالمين فليس أحد من العالمين إلّا والله ربه. 2 - {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬6). فهل في يوم الدين شيء لا يملكه الله؟ ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف: آية 25. (¬2) سورة النمل: آية 23. (¬3) سورة الأنعام: آية 44. (¬4) المصدر السابق: 6/ 442. (¬5) سورة الفاتحة: آية 2. (¬6) سورة الفاتحة: آية 4.

3 - {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬1). فهل في هذين الصنفين من لا يجتنب حاله التي كان بها مغضوبًا عليه أو ضالًا؟ 4 - {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬2). الآية .. فهل أحد من المتقين لم يهتد بالقرآن؟ 5 - {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (¬3). هل في هذا الذي أنزله الله على رسله عليهم السلام ما لم يؤمن به المؤمنون لا عمومًا ولا خصوصًا؟ 6 - {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4). فهل خرج هذا العموم أحد من المتقين فلم يدخل في الهدى في الدنيا ولم يكن من أهل الفلاح في الآخرة؛ 7 - {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬5). فهل في الناس من لم يخلقهم الله لعبادته حتى يخرجوا من هذا العموم الوارد في الآية؟ ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة: آية 7. (¬2) سورة البقرة: آيتى 2 - 3. (¬3) سورة البقرة: آية 4. (¬4) سورة البقرة: آية 5. (¬5) سورة البقرة: آية 21.

وهناك أمثلة أخرى ذكرها شيخ الإِسلام (¬1)، وهذه العمومات الكثيرة استخرجها من آيات معدودة من سورة الفاتحة وأول سورة البقرة ثم قال: "فالذي يقول بعد هذا: ما من عام إلا وقد خص إلا كذا وكذا، إما في غاية الجهل وإما في غاية التقصير في العبارة، فإن الذي أظنه أنه إنما عني "من الكلمات التي تعم كل شيء، مع أن هذا الكلام ليس بمستقيم، وإن فسر بهذا، لكنه أساء في التعبير أيضًا، فإن الكلمة العامة ليس معناها أنها تعم كل شيء وإنما المقصود أن تعم ما دلت عليه أي ما وضع اللفظ له وما من لفظ في الغالب إلا وهو أخض مما هو فوقه في العموم وأعم مما هو دونه في العموم والجميع يكون عامًا" (¬2). وهذا هو العموم الاستعمالي الذي بينه الشاطبي وهو يوضح معنى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬3). وكما نص الشاطبي على أن قولهم "ما من عام إلا وقد خص" مناف لكلام العرب فكذلك نص ابن تيمية حيث قال: "ثم عامة كلام العرب وسائر الأمم إنما هو أسماء عامة" (¬4). وهذا الأخير هو من معنى ما أجاب به الحنفية -عن طريقة المتكلمين- حيث قالوا إن الألفاظ العامة -في كلام العرب- لو قلنا إنها تحتمل التخصيص بدون قرينة لارتفع الأمان عن اللغة فلا يستقيم ما يفهمه الناس من خطاب الشرع -وعامة خطابه عمومات- ولما استقام قول السيد كل عبد لي فهو حر، فاحتمال التخصيص مؤد إلى التلبيس (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 6/ 442 - 443. (¬2) المصدر السابق 6/ 445. (¬3) انظر ص 322 وقد احتاج أكثر الأصوليين إلى تخصيصه بالحس، وعلى طريقة ابن تيمية والشاطبي لا نحتاج إلى القول بالتخصيص. (¬4) المصدر السابق 6/ 445 (¬5) تخصيص العام 42، وانظر التحرير وشرحه 1/ 268.

الفرع الرابع تحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي

هذا ما يسر الله لي تحريره من أجوبة العلماء الذين ناقشوا طريقة المتكلمين وقد تبين من أجوبتهم أنها تدل على علم راسخ يدعمه البرهان الشرعي والعلم بلغة العرب، ومنهجهم في الاستدلال منهج متميز يبتعد عن الإِطلاقات والاحتمالات المجردة عن الأدلة وعن الفرضيات التي لا برهان عليها، وأسلوبهم في الأداء تطبيقي على مفردات الآيات ومفردات اللغة وسهل ميسر للفهم ومجاف لأسلوب المتكلمين العقلي التجريدي وسنؤكد على ذلك بعد قليل. وبهذا يتبين لنا أن رفع القطعية عن العمومات الشرعية لا موجب له، مع أنه مخالف لكلام العرب ومؤد إلى التلبيس ومخالفة السلف كما صرح به الشاطبي (¬1)، وقولهم ما من عام إلا وخصص لا يصح، فلم يبق عندهم إلّا القول بكثرة تخصيص العمومات وهذا -إن سلمناه- لا يوجب المصير إلى مقالتهم، لأن وجود هذه الكثرة يقابلها وجود كثرة مثلها في عمومات لم تخصص، فما الذي رجح اعتبار إحدى الكثرتين، فيبقى الأمر كما قال الحنفية وإلا ارتفع الأمان عن اللغة ووقع التلبيس، أما إذا اعتبرنا منهج الإِمام الشاطبي وابن تيمية ونصرناه فإن ذلك أقوى في إسقاط طريقة المتكلمين، ذلك لأن طريقتهم مبنية على التجريد العقلي، والتجريد اللغوي وإغفال المقاصد اللغوية والشرعية، وقبل أن نذكر جواب الإِمام الشاطبي أذكر الدليل على ما قلته آنفًا -من أنهم اتبعوا التجريد العقلي والتجريد اللغوي .. وذلك يُعرف بتحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينهما وبين طريقة الشاطبي. الفرع الرابع تحليل طريقة المتكلمين وبيان الفرق بينها وبين طريقة السلف كما يمثلها الشاطبي ونبدأ بتحليل موضعين اثنين: الأول: تحليل جوابهم عن اعتراض الحنفية عليهم بأن مقتضى قولهم ما من عام إلا وخصص مؤد إلى التلبيس ورفع الأمان عن اللغة. ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 184.

الثاني: تعلقهم حين الاستدلال بالوضع اللغوي دون الالتفات إلى مقصد الشرع واستعماله. وسيكون تحليل هذين الموضعين في سياق متتابع الفقرات دون الفصل بينهما، اللهم إلا ببيان لمميزات طريقة الشاطبي وابن تيمية لأن الأمور تعرف بأضدادها. وأبدأ بتحليل ما أجاب به المتكلمون عن قول الأحناف: "إن القول بالتخصيص للعمومات بدون قرينة يؤدي إلى رفع الأمان عن اللغة"، حيث اجابوا بقولهم: إن القرينة وإن لم تكن موجودة لكنها خافية علينا، وخفاؤها وفقدها لا يدل على انعدامها فلا يلزم من ذلك التلبيس ولا رفع الأمان عن اللغة، لأنا في الحقيقة عولنا على قرينة -في قولنا بالتخصيص للعمومات ومن ثم وصفها بالظنية- والقرينة موجودة وإن خفيت علينا وفقدناه (¬1). وهذا تجريد عقلي محض، فكأنهم يقولون الأدلة العامة على الظنية لأنها تحتمل التخصيص، فإذا قلنا: لا بد من قرينة وهي مفقودة، قالوا وإن كانت مفقودة لكنها لم تنعدم. وقارن بين هذه الطريقة في الاستدلال وبين طريقة المعتزلة ومن تابعهم من المتكلمين عند الاستدلال على بدعتهم من أن الأدلة النقلية ظنية، فقد استدلوا -كما ذكرنا سابقًا- بأن وجود المعارض العقلي قد أوجب ذلك، فإذا ثبت عندهم فقدان المعارض العقلي لم يقولوا أيضًا بأن الأدلة النقلية تفيد العلم، بل قالوا إنه وإن فُقِد لكنه لم ينعدم، فتبقى الظنية ملازمة للأدلة النقلية. القائلون بظنية العمومات يدّعون بأن القرينة التي أدت إلى احتمال التخصيص منعت القول بالقطعية، وإن فقدنا القرينة لم تثبت القطعية لأن القرينة موجودة وإن فقدت. ¬

_ (¬1) التحرير وشرحه 1/ 268، تخصيص العام 42.

والقائلون بظنية الأدلة النقلية يقولون إن المعارض العقلي أدى إلى منع القول بإفادتها العلم، وإن فقدناه لم تفد العلم أيضًا، لأنه يُحتمل وجود المعارض. احتمال وجود القرينة وإن فُقدت ينبني عليه القول بظنية العمومات الشرعية. احتمال وجود المعارض العقلي وإن فُقد ينبني عليه القول بظنية الأدلة الشرعية (¬1). فهل ترى بينهما من فارق!؟ وبعد هذا نستطيع أن ندرك بعمق منهج الإِمام الشاطبي لأن الأمور تعرف بأضدادها. يرفض الإِمام الشاطبي جعل العقل حكمًا في تحديد القطعية في العمومات بناء على منهجه العام في الاستدلال كما أوضحه في المقدمات، فالعقل ليس له أن يقرر ابتداء حكمًا من الأحكام ولا أن يتقدم بين يدي الأدلة الشرعية، فهو محكوم لا حاكم يسرحه الشرع كما يشاء (¬2). أمر آخر مهم جدًا وهو أن طريقة الاستدلال على القضايا الشرعية طريقة شرعية أيضًا تأخذ طبيعة هذه الشريعة، فإذا أنزلت هذه الشريعة المباركة للإفهام (¬3) فطريقة الاستدلال ينبغي أن تكون كذلك، وإذا خوطب بها الأميون واعتبر في خطابها الجمهور فينبغي أن تكون طريقة الاستدلال كذلك (¬4)، ومن هنا ابتعد الإِمام الشاطبي عن مسلك المتكلمين في أصول الفقه، وابتع طريقًا ¬

_ (¬1) انظر الجواب عن بدعتهم هذه وتفنيد شبههم ص 195. (¬2) انظر ما سبق ص 286. (¬3) الموافقات من مقاصد الشريعة الإِفهام 4/ 44. (¬4) قد نحتاج في رد طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة إلى استعمال مصطلحاتهم وتفنيدها وذلك لا بأس به، ويستعمل بقدر الحاجة، أما جعله أصلًا في منهج تفكيرنا وأسلوب كتابتنا -كما غلب على طريقة المتكلمين في أصول الدين وأصول الفقه- كما شهد بذلك الغزالي - انظر ص 194 فذلك مناف لطبيعة هذه الشريعة في البيان، انظر الموافقات - المقدمة السادسة 1/ 25.

شرعياً واضحًا يتميز فيه عن أهل الأهواء مطلقًا سواء من الفرق الضالة أو من تأثر بهم (¬1). فلا عجب إذًا أن يجانب طريقة المتكلمين في دراسة العموم ... وحاصل ما عنده -وقد سبق- أن العام وبيانه أصبح بين أيدينا عند انقطاع الوحي، فمجموعهما هو الدليل، وهذا المجموع من العام وبيانه هو عبارة عن مجموع المقصد اللغوي والشرعي، ولا دخل لما يصوره العقل في مناحي الكلام ومن هنا لا حاجة لنا بطريقة المتكلمين في التعلق بالاحتمال المبني على وجود القرينة -التي إن فُقدت ما عُدمت- كما يقولون، فما يرد على العام إنما هو تفسير لبيان المقصود منه، وهو في اللغة وفي الشرع موضوع وضعًا استعماليًا وهو مقدم على الوضع الإِفرادي، هذا هو الجاري في كلام العرب، والرجوع في هذا إليهم لا إلى العقل وما يصوره. فالشاطبي -مراعاة لمنهج الشريعة في الإِفهام- ينزل مباشرة إلى الواقع الاستعمالي سواء في كلام العرب أم في خطاب الشارع، فيجد ذلك كله، وضعًا إفراديًا يقابله وضع استعمالي، فالمقصود عند العرب هو الاستعمالي فَلْيُعْتبر إذًا ولا حاجة لغيره، وكذلك في خطاب الشارع نجد مجموع اللفظ العام وتفسيره فلنأخذهما معًا فيكون التفسير بيانًا -نظير البيان الذي يأتي عقب اللفظ المشترك ليبين المراد منه- وإذا كان كذلك فلا حاجة لتوهين العمومات الشرعية فلا نصفها بأنها ظنيات ونستدل بها على تحسين الظن وعدم القطع، كلا بل هي قطعية والقول بغير ذلك "مخالف لما كان عليه السلف الصالح من القطع بعموماته (أي القرآن) التي فهموها تحقيقًا بحسب قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام. وأيضًا فمن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بجوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا على وجه هو أبلغ ما يكون وأقرب ما يمكن في التحصيل، ورأس هذه ¬

_ (¬1) يبرز ذلك أشد ما يبرز في المقدمات وكتاب الاجتهاد من الموافقات وكتابه الاعتصام.

الجوامع في التعبير العمومات، فإذا فرض أنها ليست بموجودة في القرآن جوامع بل على وجه تفتقر فيه إلى مخصصات ومقيدات وأمور أخر فقد خرجت تلك العمومات عن أن تكون جوامع مختصرة" (¬1). وطريقة المتكلمين تأثرت بالفلسفة التجريدية -كما بينا سابقًا- فهي طريقة مجافية لمقصد الشريعة ومنهجها في الاستدلال، ولذلك وقعوا في كثرة الاحتمالات وأوقعوا الأدلة الشرعية معهم في ذلك ووصفوها بالظنية، وكان جل علمهم موسوم بالجدل العقلي -كما هو شأنهم في دراسة العقيدة- وابتعدوا كثيرًا عن الواقع العملي -ولذلك بقيت بينهم وبين عوام المسلمين فجوة ضخمة وما زالت- ولما كان البحث في أصول الفقه لا بد من أن تكون له ثمرة تطبيقه غُلب المتكلمون على طبيعتهم فما استطاعوا أن يخرجوا منها إلّا بعسر شديد تلحظ أثره في أن كثيرًا من مسائل الأصول لا ينبني عليها عمل (¬2) وإن كثر عليها الخلاف، والمسائل التي خرجت عن طبيعتهم هي المسائل التي تبنى عليها آثار تطبيقه مثل مسائل العموم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يدخلوا إلا عن طريق التجريد العقلي، فلما تنزلوا إلى واقع التطبيق كان منهجهم قريبًا من منهج الإِمام الشاطبي، لأن الواقع العملي مغاير في طبيعته للواقع الفلسفي التجريدي -ولو أن المتكلمين ابتعدوا عن التصورات العقلية التجريدية ونزلوا إلى الواقع العملي التطبيقي لسلموا من كثير من الفساد- ويكفيني دليل واحد صرح به الغزالي في المستصفى: ذلك قوله إن إطلاق التخصيص تجوز قال الشيخ أبو زهرة "ومهما يكن اختلاف الفقهاء في مدى المخصصات وقوتها فإنهم يقررون أن التخصيص ليس إخراجًا لبعض أفراد العام من الحكم بعد أن دخلوا فيه بل يقررون أن التخصيص هو بيان إرادة الشارع بعض أفراد العام ابتداء، وأن ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 184. (¬2) انظر المقدمة الخامسة من الموافقات بعنوان "كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي .. " 1/ 18. وهناك من المسائل المذكورة في الأصول ما هو عارية وليس من صلب العلم. انظر المقدمة الرابعة 1/ 17 - 18 وسبب ذلك غلبة مسلك المتكلمين على أصول الفقه.

الأفراد التي لا تشملها الأحكام المقترنة بلفظ العام لم تدخل في ضمن العام بالنسبة لهذه الأحكام، فقد نصت كتب الأصول شافعية كانت أو حنفية أو مالكية على أن التخصيص هو قصر العام على بعض أفراده بالإِرادة الأولى، فيكون المخصص مبينًا لإِرادة الخصوص، ولقد ذكر الغزالي أن تسمية الأدلة مخصصة تجوز، إذ التخصيص على التحقيق بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص" (¬1). ولذلك لم ير الشاطبي أن هذا التخصيص موجود في الشريعة، لأنه لا إخراج من الصيغة في الحقيقة، بل الإِرادة -أي الوضع الاستعمالي الشرعي- استخدم اللفظ العام وأطلقه على بعض أفراده، وهذا الاستعمالي مقدم على الوضع الأول، فما يقوله الأصوليون من أن المخصص قصر العام على بعض أفراده إنما هو تَجوَّز، ولذلك يعتبر الشاطبي هذا -الذي يسميه الأصوليون تخصيصاً- يعتبره بينًا وتفسيرًا، يدلنا على الوضع الاستعمالي -أي ما أراده الشرع- وفي الحقيقة ليس هناك تخصيص في محصول الحكم لا لفظًا ولا قصدًا كما قرره في الموافقات (¬2) وهذا الذي قاله هو الذي تؤول إليه طريقة المتكلمين والحنفية أيضًا عندما ينزلون إلى واقع العمل التطبيقي كما بين الشيخ أبو زهرة، وشهد به الغزالي. ومن عظمْ فقه الإِمام الشاطبي أن التفت إلى هذه الحقيقة فقال: "فإن قيل: أفيكون تأصيل أهل الأصول كله باطلًا أم لا؟ فإن كان باطلًا لزم أن يكون ما أجمعوا عليه من ذلك خطأ، والأمة لا تجتمع على الخطأ، وإن كان صوابًا -وهو الذي يقتضيه إجماعهم- فكل ما يعارضه خطأ، فإذا كل ما تقدم بيانه خطأ. فالجواب: إن إجماعهم أولًا غير ثابت على شرطه، ولو سلم أنه ثابت لم يلزم منه إبطال ما تقدم، لأنهم إنما اعتبروا صيغ العموم بحسب ما تدل عليه في الوضع الإِفرادي، ولم يعتبروا حالة الوضع الاستعمالي حتى إذا أخذوا في ¬

_ (¬1) أصول الفقه 130، وقارن مع ما حكاه شيخ الإِسلام عن الجمهور انظر ص 301. (¬2) الموافقات 3/ 182.

الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتباره كل على اعتبار رآه أو تأويل ارتضاه، فالذي تقدم بيانه مستنبط من اعتبارهم الصيغ في الاستعمال بلا خلاف بيننا وبينهم إلا ما يفهم عنهم من لا يحيط علمًا بمقاصدهم ولا يجود محصول كلامهم .. وبالله التوفيق" (¬1). فكأن الإِمام الشاطبي يريد أن يصحح لكثير من الأصوليين طريقة الاستدلال ولذلك تجنب -رَحِمَهُ اللهُ- طريقة التجريد العقلي واللغوي، واعتبر المقصدين اللغوي والشرعي وقدمهما على الوضع الإِفرادي واستند في ذلك كله إلى ركن ركين (¬2)، ولو دخل الأصوليون من هذا المدخل لسلموا من الوقوع في شناعات خطيرة، ولا يسلمهم من ذلك أنهم إذا أخذوا في الاستدلال على الأحكام رجعوا إلى اعتبار الوضع الاستعمالي لأن تلك المحظورات والشناعات يؤدي إليها مسلكهم الأول من ذلك ما قاله الشاطبي واعتمده الشيخ أبو زهرة (¬3) "فإن قيل: حاصل ما مر أنه بحث في عبارة والمعنى متفق عليه ومثله لا ينبني عليه حكم، فالجواب: أن لا، بل هو بحث فيما ينبني عليه أحكام، منها أنهم اختلفوا في العام إذا خص هل يبقى حجة أم لا (¬4) وهي من المسائل الخطيرة في الدين، فإن الخلاف فيها في ظاهر الأمر شنيع لأن غالب الأدلة الشرعية وعمدتها هي العمومات فإذا عُدت من المسائل المُختلفِ فيها بناء على ما قالوه أيضًا من أن جميع العمومات أو غالبها مخصص صار معظم الشريعة مختلفًا فيها هل هو حجة أم لا، ومثل ذلك يلقى في المطلقات فانظر فيه، فإذا عرضت المسألة على هذا ¬

_ (¬1) الموافقات 3/ 183. (¬2) انظر أدلته من كلام العرب ومقاصد الشريعة وكلام السلف ص 321 - 322 وهذا ما نصره عليه شيخ الإِسلام ابن تيمية ص 337. (¬3) أصول الفقه 127. (¬4) انظر أراء المخالفين: الأحكام للآمدي 2/ 232، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي 213، وتخصيص العام 97 - 103، وقد ذكر ثمانية مذاهب في حكم العام بعد التخصيص هل يبقى حجة أم لا؟

الأصل المذكور (أي) على ما قرره الإِمام الشاطبي لم يبق الإِشكال لمحظور وصارت العمومات حجة على كل قول. ولقد أدى إشكال هذا الموضع (أي طريقة المتكلمين في الاستدلال) إلى شناعة أخرى وهي أن عمومات القرآن ليس فيها ما هو معتد به في حقيقة العموم وإن قيل بأنه حجة بعد التخصيص، وفيه ما يقتضي إبطال الكليات القرآنية وإسقاط الاستدلال به جملة إلا بجهة من التساهل وتحسين الظن لا على تحقيق النظر والقطع بالحكم (¬1)، وفي هذا إذا تؤمل توهين الأدلة الشرعية وتضعيف الاستناد إليها" (¬2). فالإمام الشاطبي يعتبر الأصل الاستعمالي الشرعي ابتداء .. ولذلك سلم مذهبه من هذه الشناعات، والمتكلمون وقعوا في التجريد العقلي والتعلق بالاحتمالات والتأثر بأصول الكلام في وصف دلالة الألفاظ الشرعية بالظنية ولزمهم من الشناعات ما لزمهم. وعلى طريقتهم في إغفال واقع الاستعمال الشرعي -الذي هو الحجة المعتبرة في فهم إرادة الشارع- أغفلوا واقع الاستعمال العربي - الذي ¬

_ (¬1) قارن ما أدى إليه القول بالظنية، كما صور الإِمام الشاطبي - وبين ما نقلته عن المعتزلة وقاضيهم عبد الجبار حيث قالوا بظنية الأدلة القرآنية والسنّة وليس الاحتجاج عندهم بها على أصولهم وإنما الاحتجاج بالعقل، ويأخذونها على جهة تحسين الظن كما قالوا ... وهو ما يؤدي إليه القول بظنية العمومات ولعلك بذلك تلحظ مدى سيطرة علم الكلام على أصول الفقه، وقارن بما سبق في أكثر من موضع ص 193 - 195 وفي هذا جواب عما استغربه الأستاذان الفاضلان عبد الله دراز وأديب الصالح من قول الشاطبي "إن ذلك توهين للعمومات وإبطال للكليات القرآنية". انظر ما سبق ص 331 وانظر مذكرة أصول الفقه للشنقيطي 58 - 59 - 60 حيث بين أن هناك من يقول بأن العام مجاز بعد التخصيص ثم بين فضيلته كيف يكون المجاز محتملًا وأنه يصح نفيه، ومثل هذا لا يحتج به، وقد أنكر ذلك فضيلته وبين الصواب فيه، فانظر هذه الشناعة وهي واحدة مما حذر منها الإِمام الشاطبي. (¬2) الموافقات 3/ 183 - 184.

هو الحجة المعتبرة في فهم مقاصد العرب من كلامها - فجعلوا العام المخصص مجازاً واعتبروا أصل اللغة وأغفلوا عرف الشارع واستعماله، وعلى طريقة الشاطبي أغفلوا المقصد الاستعمالي العربي، إذ لو اعتبروه لعلموا أنه وضع استعمالي معتبر عند العرب ومقدم على الأصل القياسي الذي هو أصل الوضع، ولكنهم أغفلوا ذلك وذهبوا إلى القول بالمجاز -والمجاز محتمل- وقالوا: إن القائلين بأنه حقيقة لا يستقيم قولهم إلا إذا أرادوا بذلك أنه حقيقة في عرف الشارع واستعماله ثم قالوا: "والكلام ليس فيه وإنما هو في اللفظ من حيث وضع اللغة" (¬1) واللفظ الواحد لا يكون حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى معنى واحد في استعمال واحد (¬2)، وهنا يتبين لنا بوضوح الفرق بين طريقة المتكلمين وطريقة الشاطبي، فالمتكلمون أغفلوا المقصدين الشرعي واللغوي، ووقعوا في مقابل ذلك في التجريد العقلي واللغوي، وطريقة الإِمام الشاطبي اعتمدت المقصدين الشرعي واللغوي، وبعدت عن التجريد العقلي واللغوي، فليس هناك وضع واحد أو استعمال واحد وإنما هما وضعان، وضع إفرادي ووضع استعمالي، والثاني مقدم على الأول -وقد ذكرت الحجة لذلك فيما سبق- والبحث محكوم بعد ذلك بمقصد الشارع واستعماله وليس نظراً مجرداً في وضع اللفظ وإن خالف المقصد الاستعمالي في اللغة والشرع. وعلى ضوء ما سبق نستطيع أن نحدد معالم منهج الإِمام الشاطبي مع الإشارة إلى ما يضاده عند التكلمين: 1 - إن منهج الإِمام الشاطبي منهج شرعي راعى فيه المقصد الاستعمالي الشرعي، ومنهج لغوي راعى فيه المقصد الاستعمالي في كلام العرب، وأما طريقة المتكلمين فعلى الضد من ذلك أغفلت المقصد الاستعمالي الشرعي والمقصد الاستعمالي اللغوي، والبحث في العموم يقوم على اعتبار المقصدين لأنه بحث لغوي من جانب وشرعي من جانب آخر، فقاعدة الشاطبي في بحثه أسلم وأحكم وأشمل، بخلاف طريقة المتكلمين. ¬

_ (¬1) تخصيص العام 96. (¬2) المرجع السابق 96.

2 - تحرر الإِمام الشاطبي من مسلك أهل الكلام في المنهج والأسلوب فلا هو يتبع العقل وما يصوره، ولا يغفل الواقع التطبيقي العملي وما يقتضيه، بخلاف مسلك أهل الكلام فقد غلبت عليهم طبيعتهم حتى في أصول الفقه (¬1) فاتبعوا "العقل" وما يصوره وأغفلوا الواقع الاستعمالي لهذه الشريعة وللغة العرب وما يترتب عليه. ولهذا الفرق بين الطريقتين - ولما مر ذكره من الأدلة المباشرة يعتبر منهج الإِمام الشاطبي منهج أصيل متميز مستند إلى منهج السلف في الاستدلال تحوطه الأدلة البينة من حيث الاستعمال الشرعي والاستعمال اللغوي، وهو منهج يأخذ طبيعته من طبيعة هذه الشريعة من حيث الإِفهام ومن حيث الاحتجاج. 3 - تحرر الإِمام الشاطبي من القول بأن العمومات عند السلف ظنية الدلالة لأنهم مخصصون لها بأخبار الآحاد وهي ظنية الدلالة فلو كانت العمومات قطعية لما خصصها السلف بأخبار الآحاد. وقد سبق بيان أن ما نسبه المتكلمون إليهم لا برهان عليه (¬2). ولعله من أعظم الشبه التي حملت المتكلمين في أصول الفقه على قولهم بظنية العمومات. وقد تحرر الشاطبي من ذلك كله فلم يتبع هذا الفرض الذي لا صحة له وتحرر من جانب آخر من مذهب الحنفية، فإنه وإن وافقهم في القول بقطعية العمومات إلا أنه يرى أن العام وبيانه دليل واحد ووضع واحد استعمالي يدل على مقصد الشارع، ولا يجعلهما متقابلين بحيث نحتاج إلى التخصيص بالمنفصل أوالمتصل ثم نقع في مقالة المتكلمين أو مقالة الحنفية، ولأن كانت طريقة المتكلمين قد أوجبت على العمومات الشرعية وصف الظنية، فإن الحنفية قد حجزوا أخبار الآحاد - مع صحتها وعدم شذوذها وعلتها - عن تخصيص ¬

_ (¬1) انظر كلام الغزالي عنهم ص 194. (¬2) أثبت فيما سبق ص 167 أن افتراض أن الصحابة قائلون بظنية أخبار الآحاد فرض لا برهان عليه بل الحجة على خلافه.

العمومات باعتبار أنها قطعية وأخبار الآحاد ظنية، ولا يخصصون بها العمومات والحالة هذه. وكما لم نسلم للمتكلمين القول بظنية العمومات فكذلك لا نسلم للحنفية منع هذه الأخبار من تفسير العام وبيانه، وكما أن ما فرضه المتكلمون من نسبة الظنية إلى الصحابة في العام وبيانه نسبة لا برهان عليها، فكذلك ما فرضه الحنفية من ظنية تلك الأخبار فرض لا صحة له، وقد تبين بالدليل الشرعي والنقل المتفق عليه من لدن الصحابة والتابعين أن أخبار الآحاد على تلك الصفة يصح بها الاستدلال على العقيدة ويزاد بها على القرآن وتكون تفسيراً وبياناً للعمومات (¬1). فيتحصل لنا من هذه الدراسة: 1 - إن عمدة الشريعة العمومات وهي صادقة العموم قطع السلف بذلك تحقيقاً لما فهموه حسب المقصد اللغوي والمقصد الشرعي. 2 - إن ما ثبت من الدليل الشرعي متواتراً أوآحاداً يصح الاستدلال به على تفسير العمومات وبيانها، كما يصح الاستدلال به على إضافة السنّة لحكم جديد وإن كان زيادة على ما جاء به القرآن، ويصح الاستدلال بها -أيضاً- على العقيدة، سواء وصفه هؤلاء أوأولئك بالظنية أو القطعية (¬2). ¬

_ (¬1) انظر نقل الاتفاق على إثبات هذه العقيدة ص 167. (¬2) انظر ما قاله الشيخ عبدالرزاق عفيفي تعليقاً على دراسة الآمدي لحجية أخبار الآحاد - وقد تعجب من الاحتمالات الكثيرة وإدخال مسائل الأصول في الظنيات مع أن الفرض أن تكون قطعية. انظر هامش ص 71 من الجزء الثاني من الأحكام، وقال 2/ 50 هامش رقم واحد "أحكام الشريعة أصولًا وفروعاً عقيدة وعملاً كل منها يصح إثباته والاستدلال عليه بأنواع الأدلة متواترة وآحاداً قطعية وظنية فمن علم حكماً عقيدة أو عملاً من دليل قطعي أو ظني وجب عليه اعتقاده في درجته والعمل بمقتضاه ولا يسعه الغاؤه والإعراض عنه وحسابه على الله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولا يتركها سدى فيما بلغها".

3 - إن العمومات حجة ثابتة تحقيقاً قبل التخصيص وبعده. وهذه من أعظم قواعد الثبات والشمول، فالشريعة عمدتها هذه العمومات الصادقة التي قطع بها السلف .. فهي علم ثابت راسخ الأركان هوقوام الكليات الشرعية منها يستخرج المجتهد -عن طريق الاجتهاد- الأحكام الشرعية وهي معلومة للأمة بل هي أساس الشريعة فهي حجة ثابتة -قبل التخصيص وبعده- وعنها يتفرع شمول الشريعة لأن العموم هو الشمول، وينبني على قاعدة راسخة ثابتة - لا على ظن واحتمال ومجاز .. فتنطلق مهمة الاجتهاد من تلك القاعدة - وطرق الاجتهاد كثيرة كما سيأتي معنا - وذلك بإعمال تلك العمومات واستخراج الجزئيات غير المتناهية منها - إضافة لما ورد من الأحكام الجزئية في الشريعة -فتكون تلك الكليات- التي هي العمومات - هي المعين الذي لا ينضب والبحر الذي لا ينفد يغترف منه المجتهدون ما تحتاجه الأمة من الأحكام فلا ينقطع الاجتهاد ولا ينفد البحر (¬1)، وإن عملية الاجتهاد كما تحدثنا عنها وكما سنتحدث عنها عند عرض أهم طرق الاجتهاد الأخرى هي الكفيلة باستخراج تلك الكنوز التي اشتملت عليها تلك العمومات سواء عن طريق استخراج النص مباشرة .. أو عن طريق قياس العلة أو عن طريق قياس المصلحة، فالاجتهاد بجميع أنواعه تنقيح المناط أو تخريجه أوتحقيقه هوعمل المجتهدين الذي به يتحقق الشمول في واقع الناس ويستقر على تلك القواعد الصادقة العموم التي تقوم بها الحجة وتثبت بها الأحكام كما هو منهج السلف الصالح بالقطع بعموماتها تحقيقاً، وبيان تلك العمومات بكل ما ثبت في الشريعة. * * * ¬

_ (¬1) انظر ما بينه سابقاً من وجه الإِعجاز في العمومات ودلالتها على الشمول والثبات ص 310.

المبحث الثالث العموم المعنوي

المبحث الثالث العموم (¬1) المعنوي العموم المعنوي صنو العموم اللفظي، ودلالتهما على الشمول متشابهة وقد أشرت إلى أن "المعنوي" هو ما دلت مجموعة جزئيات تم استقرائها من مواضع كثيرة في الشريعة على معنى واحد فيجري حينئذ مجرى العموم المستفاد من الصيغ، وقد بينت وجه الإِعجاز التشريعي في ذلك (¬2). وإفادته الشمول تكون بالاستدلال به على كل نازلة تَعنْ يمكن أن يدخلها المجتهد تحت عموم المعنى الذي استقرءه من الشريعة دون أن يحتاج إلى صيغة خاصة (¬3). وقد عمل السلف الصالح به في مواضع كثيرة نقتصر منها على ذكر موضعين اثنين: الأول: رفع الحرج. الثاني: سد الذريعة. الأول: أصل رفع الحرج: وهو"كل ما أدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أوالمال حالًا ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 314. (¬2) انظر ما سبق ص 316. (¬3) الموافقات 3/ 192.

أو مآلا" (¬1) ورفعه إما بمنعه قبل وقوعه أو بإزالته بعد وقوعه (¬2). وأدلة هذا الأصل مبثوثة في الكتاب والسنّة وأقوال الصحابة، من ذلك ما ورد في سورة المائدة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬3). ومنها ما ورد في سورة الحج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (¬4). ومنها آيات التيسير والتخفيف والرحمة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬5). وقوله تعالى لرسوله محمد - عليه الصلاة والسلام -: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (¬6). واليسرى هي الحنفية السمحة أي الشرائع الموافقة لحاجات البشر، ومنها قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬7). ¬

_ (¬1) رفع الحرج في الشريعة الإِسلامية ضوابطه وتطبيقاته للدكتور صالح بن حميد، 1401 هـ جامعة أم القرى ص 49. (¬2) المرجع السابق 51. (¬3) سورة المائدة: آية 6. (¬4) سورة الحج: آية 78. (¬5) سورة البقرة: آية 185. (¬6) سورة الأعلى: آية 8. (¬7) سورة البقرة: آية 286.

وقد جاءت السنّة المطهرة ببيان أمور ثلاثة هامة تدل على رفع الحرج وهي: 1 - بيان يسر هذا الدين وسماحته ورفع الحرج عنه (¬1). 2 - في خشيته - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قد شق على أمته (¬2). 3 - في أمر الصحابة بالتخفيف ونهيهم عن التعمق والتشديد وإنكار ذلك (¬3). وهذه تدل جميعها على أن رفع الحرج أصل مقطوع به (¬4)، يقول الإِمام الشاطبي وهو يستدل على العموم المعنوي "وإذا فرضنا أن رفع الحرج في الدين مثلاً مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعدًا عند مشقة القيام والقصر والفطر في السفر والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج، فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء فكأنه عموم لفظي" (¬5) أي يحكم به المجتهد على كل نازلة تعن له من غير اعتبار بقياس أو غيره من دليل خاص. ¬

_ (¬1) المرجع السابق 82. (¬2) المرجع السابق 89. (¬3) المرجع السابق 90. (¬4) المرجع السابق 107، وقد ذكر المؤلف من الأدلة الجزئية وبين معانيها ونقل ما قاله السلف من الصحابة والتابعين في ما يقارب خمسين صحيفة، وكل ذلك يؤكد هذا المعنى -وهو رفع الحرج- ويجعله أصلاً شرعياً في الاستدلال. (¬5) الموافقات 3/ 189.

الثاني: قاعدة سد الذريعة

الثاني: قاعدة سد الذريعة (¬1): ذكر الامام ابن القيم تسعة وتسعين دليلاً على هذه القاعدة (¬2)، وبين الإِمام الشاطبي اتفاق الأئمة والسلف على أصل سد الذريعة (¬3)، وإليك بعض الأدلة على وجوب سدها نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 1 - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أشار إليه بعض أصحابه بقتل المنافقين الذين ظهر نفاقهم قال: "أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" فالقتل لهؤلاء مصلحة شرعية، وحصول التهمة هذه بعد قتلهم مفسدة تزيد على تلك المصلحة بكثير، فمنع من المصلحة سداً لذريعة الفساد (¬4). 2 - قوله - عليه الصلاة والسلام - لعائشة - رضي الله عنها - "لولا قومك حديث عهد بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم" فالمصلحة ظاهرة وهي رد البيت إلى قواعده التي أمر الله أن تبنى عليها، والمفسدة هي ارتداد الداخلين في الإِسلام الذين هم حديث عهد بكفرِ، فكانت المفسدة أعظم من المصلحة فمنعت مع أنها مشروعة في الأصل سداً لذريعة الفساد (¬5). 3 - قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬6) ¬

_ (¬1) الذريعة هي الوسيلة، فالتوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة ممنوع، وكما يجب منع الذريعة يجب فتحها إذا أدت إلى مصلحة وتكره وتباح وتندب، فوسيلة الواجب واجبة، ووسيلة الحرم محرمة. انظر نظرية المصلحة 200 - 201. (¬2) انظر أعلام الوقعين 3 من 177 - 205. (¬3) 3/ 193، والخلاف بينهم إنما هو في تحقيق مناط هذه القاعدة في بعض الجزئيات. انظر نظرية المصلحة في الفقه الإِسلامي 266. (¬4) انظر أعلام الوقعين 3/ 179 - 180، الموافقات 2/ 265. (¬5) نظرية المصلحة 220. (¬6) سورة الأنعام: آية 108.

فمنع الله من هذا الفعل - مع مافيه من المصلحة - وذلك لتحقق مفسدة أكبر وهي سب المشركين لله تعالى (¬1). 4 - "وحرم - عليه الصلاة والسلام - الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير محرم ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (¬2) وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬3) وحرمت خطبة المعتدة تصريحاً ونكاحها، وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح وكذلك الطيب وعقد النكاح للمحرم ونهى عن البيع والسلف، وعن هدية المديان وعن ميراث القاتل ... " (¬4) .. وكل ذلك سداً لذريعة الفساد، وهناك جزئيات كثيرة جداً كلها اجتمعت على إفادة معنى السد، فكان منها العموم المعنوي. وقد استدل السلف بهذا الأصل على أمور أخرى مثل تركهم الأضحية مع القدرة عليها مخافة أن يظن الناس أنها واجبة - وقد سبق - (¬5) وإتمام عثمان الصلاة بالناس في الحج - مع أن القصر سنة - مخافة أن يظن الأعراب أن صلاة الظهر والعصر ركعتان، وسلم له الصحابة فِى عذره, وفي هذا دليل على أن معنى السد أصل شرعي عما به الصحابة في وقائع لم يكن لها حكم خاص، بل إنما حكموا به عن طريق العموم المعنوي (¬6)، وبهذه الأمثلة التطبيقية يتبين لنا أن المجتهد يحكم بالعموم اللفظي على ما يشمله من الأفراد، ويحكم بمجموع ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 265. (¬2) أعلام الموقعين 3/ 182. (¬3) سورة النساء: آية 3. (¬4) الموافقات 2/ 267. (¬5) انظر ما سبق ص 122. (¬6) الموافقات 3/ 189 - 190.

الجزئيات - التي تُنْتِجُ معنى عاماً في الشريعة - وهو العموم المعنوي على كل مسألة تعن يمكن أن تدخل تحت ذلك العموم، ولا يحتاج إلى نص خاص أو قياس، وهذان العمومان - كما سبق - من القوة والحجية بمكان بحيث يسندان خصائص الإِعجاز التشريعي التي سبق ذكرها وهي الكمال والشمول والثبات، ويتصل بهذا الموضع الذي نحن فيه مسألة أصولية تتعلق بالعمومات وهي العمل بها قبل العلم بالمخصص وقد ذكر الدكتور الحكمي هذه المسألة في رسالته "تخصيص العام" وتوصل إلى نتيجة -مرضية- بعد أن ذكر مذهبين للأصوليين الأول يوجب البحث عن المخصص، والثاني يوجب العمل بالعام إلى أن يظهر المخصص ثم قال: "ويظهر لي أيضاً أنه بالرغم من اشتهار الخلاف في هذه المسألة وتدوينها في كتب الأصول إلا أن وجوب التروي في الحكم والفتيا والبحث عن الأدلة المُحْتَملْ وجودها والنظر فيها .. والموازنة بينها قبل العمل أوإصدار الحكم والفتيا قدر متفق عليه بين الجميع" (¬1) بقي أن ننتقل إلى الخطوة الثانية وهي إلى متى يبحث عن المخصص وما هو القدر الواجب للتروي، والجواب يعرف بما ورد من المذاهب في هذه المسألة وهي في جملتها تدل على أن هذا الوقت قدره يسير لا يعدوا قدر الوقت الذي يبحث فيه الرجل عن متاع بيته بين أمتعة كثيرة وهذا مذهب الجمهور (¬2)، والمذهب الثاني: أن يطلع على أقوال من سبقه إذا كانت المسألة اجتهادية فالعادة أن يظهر له المخصص إن كان فيها مخصص فإن لم يظهر علم بعد ذلك أنه لا وجود له، إذ لو كان موجوداً لظهر ولم يخف على المتنازعين في تلك المسألة (¬3) وقد رجح الغزالي الأول وذكره الدكتور الحكمي وهذان القولان قريبان (¬4) من بعضهما وأضيف مذهب الشاطبي ¬

_ (¬1) 83 وانظر عرض المذهبين وأدلتهما من 77 إلى 83. (¬2) المرجع السابق 84. (¬3) المرجع السابق 84. (¬4) باعتبار أن الطريقة التي اتبعها أصحاب المذهب الثاني ومنهم القاضي الباقلاني ممكنة ولا يترتب عليها ضرر، لأن الوقت المتعين حينئذ هو جمع أطراف النزاع وأدلة المسألة وهذا قدر ضروري لا بد منه حتى ينظر المجتهد في المسألة وأدلتها وأقوال السلف فيها، =

وهو يرتبط بالعموم المعنوي وقد سبق قريباً - قال: "العمومات إذا اتحد معناها وانتشرت في أبواب الشريعة أو تكررت في مواطن بحسب الحاجة من غير تخصيص فهي مجراة على عمومها على كل حال - وإن قلنا بجواز التخصيص بالمنفصل - والدليل على ذلك الاستقراء فإن الشريعة قررت أن لا حرج علينا في الدين في مواضع كثيرة ولم تستثن منه موضعاً ولا حالاً فعده علماء الملة أصلاً مطرداً وعموماً مرجوعاً إليه من غير استثناء ولا طلب مخصص ولا احتشام من إلزام الحكم به ولا توقف في مقتضاه، وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام" (¬1). "وعلى الجملة فكل أصل تكرر تقريره وتأكد أمره وفهم ذلك من مجاري الكلام فهو مأخوذ على حسب عمومه ... فأما إن لم يكن العموم مكرراً ولا مؤكداً ولا منتشراً في أبواب الفقه فالتمسك بمجرده فيه نظر فلابد من البحث عما يعارضه أو يخصصه" (¬2). فهما إذاً صنفان عند الإِمام الشاطبي وليس صنفاً واحداً كما هو عند الأصوليين: الأول: العمومات التي تكررت وتأكدت وانتشرت، فهذه يعمل بها لأنا تبينا أنها على عمومها. الثاني: العمومات التي ليست على تلك الحالة، وهذه لا بد من النظر في بيانها، فإن وجد وإلاحملناها على عمومها (¬3)، ولعل مدة البحث - عنده وإن لم ينص على ذلك - لا تخرج عما ذكرته من أقوال الأصوليين. وبهذا نعلم أن هذه العمومات اللفظية والمعنوية هي عمدة الشريعة، وأن ¬

_ = بقي قوله إن المجتهد بعد ذلك يقطع بعدم وجود المخصص إن لى يظهر له وهذه التي خالفه فيها الغزالي وتبعه الحكمي 85 - 86 والمهم هنا أن القولين متقاربان من حيث مدة البحث والله أعلم. (¬1) الموافقات 3/ 193 - 194. (¬2) المصدر نفسه 3/ 194. (¬3) وهو مذهب ابن تيمية - مجموع الفتاوى الكبرى 29/ 166.

موقف السلف الصالح منها هو القطع بعموماتها تحقيقاً حسب مافهموه من مقصد الشارع ومقصد العرب من كلامها وأن بيان هذه العمومات -عندهم- يصح، بكل ما ثبت عن الشارع، وأن ما بينه الإِمام الشاطبي والإِمام ابن تيمية هوالحق الذي ينبغي المصير إليه، ونسلم حينئذ من جميع الشناعات والآراء الضعيِفة ويتأكد لنا الثبات والشمول، ونلمس آثار الإِعجاز التشريعي ويتيسر لنا فهمه بعيداً عن الإِغراق في التجريد العقلي وما يترتب عليه، ومن المفيد هنا أن نقول أن تقوية العمومات - وإبعادها عن التضعيف وعن القول بالمجاز ونفي الحجة - وكذلك الاستفادة من أخبار الآحاد لبيان هذه العمومات، كل ذلك يقوي الثبات والشمول ويوضحهما ويجعلهما متوازيين متناسقين وذلك إنما هو سبب اتباع الأمر الأول الذي كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة والبعد عن آثار علم الكلام وكلما رجعنا إلى الأصول الأولى واتبعنا الإِسناد العالي كلما اتضح لنا أمر هذا الدين عقيدة وشريعة .. وبالله التوفيق.

الفصل الثالث القياس وقضية الثبات والشمول

الفصل الثالث القياس وقضية الثبات والشمول توطئة: المقصود من هذا الفصل بيان أثر العمل بالقياس (¬1) على إدراك ثبات الثريعة وشمولها، وقد علمنا فيما سبق أن المجتهد إما أن يدرك العموم اللفظي فيستفيد منه قوة في الدلالة على شموله لأفراد لايمكن أن تحصر، أو يدرك العموم المعنوي فيستفيد منه الحكم على جزئيات غير متناهية بقدر ما يعمل هذه العمومات ويرجع إليها دائماً. ¬

_ (¬1) تعريفه لغة: القياس تقدير شيء على مثال شيء آخر وتسويته به، تقول: قست الثوب بالذراع إذا قدرته به، ويقال فلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه، إرشاد الفحول 198. تعريفه اصطلاحاً: للقياس تعريفات كثيرة منها: أنه "مساواة فرع لأصل لاشتراكهما في علة حكم شرعي لا تدرك بمجرد اللغة" تيسير التحرير 3/ 264. مثال ذلك: أن الشرع حرم الخمر لأنها مسكرة، فالخمر هي الأصل وحرمتها هي حكم الأصل، وعلة التحريم هي الإسكار. فإذا نظر المجتهد فيما يشاكلها في علة الحرمة كالنبيذ مثلاً أو أي سائل فوجد أن علة التحريم وهو الإسكار موجودة فيه، فإنه يعتبر النبيذ فرعاً للخمر الذي هو الأصل ثم ينقل له حكم الأصل الذي هو الحرمة فيكون بذلك أعطى واقعة لا نص فيها - وهي شرب النبيذ - حكم واقعة منصوص على حكمها - وهي الخمر - لأنه استبان له اشتراكهما في العلة التي من أجلها حرمت الخمر ألا وهي الإِسكار فهذا هو القياس الشرعي.

وهنا نتحدث عن دلالة العمل "بالقياس" وهي تسير بنا - كما سنرى - في الطريق نفسه والحمد لله مؤكدة له ومقوية لأساسه. ولأن القياس - مختلف في العمل به بين فقهاء الأمة فهم ما بين معتدل في العمل به، أو صاحب إفراط أو تفريط فيه. ولكي ندرك كيفية دلالته على الثبات والشمول لا بد من أن نبين حجيته، ونساعد من جهة أخرى في تجلية بعض الشبه الواردة عليه، ولذلك سنحاول أن نجدد في طريقة إثبات القياس على منكريه، ونختار لهذا السبيل دراسة طريقة ابن القيم والشاطبي، وفيها من سهولة الأسلوب وقوة الحجة والاعتدال بين المتوسعين في القياس والصادين عنه ما يجعلها جديرة بهذا الموضع دون غيرها من الطرق التي سلكها القياسيون، إضافة إلى أن هذه الأخيرة مُسْتَوْعبة في كتب الباحثين. ومن تمام البحث في هذا الموضع أن نقارن بين طريقة ابن القيم والشاطبي ونتعرف على وجه ارتباطها بمذهب الصحابة - رضوان الله عليهم -، وكل ذلك بما يناسب موضوع الثبات والشمول .. وبالله التوفيق.

المبحث الأول طريقة الإمام ابن القيم

المبحث الأول طريقة الإِمام ابن القيم (¬1) شرح الإِمام ابن القيم كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري في كتابه أعلام الموقعين: ومما ورد فيه قوله - رضي الله عنه -: "ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ... " (¬2). وأوضح ابن القيم أن هذا الكتاب مما اعتمد عليه القائلون بالقياس، وقالوا أنه لم ينكره أحد من الصحابة بل كانوا متفقين عليه، والقياس أحد أصول الشريعة ولا يستغني عنه فقيه (¬3). وقد ابتدأ ابن القيم قبل ذلك في بيان الفرق بين الرأي المحمود والرأي المذموم، ثم قسم القياس إلى صحيح - وهو العدل والميزان (¬4) - وإلى فاسد، ¬

_ (¬1) سيأتي زيادة بيان للأسباب التي اخترت من أجلها عرض طريقة ابن القيم والشاطبي مع ملاحظة أن الترتيب في العرض حسب الوفاة. (¬2) قال ابن القيم: "وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه" المصدر السابق 1/ 86. (¬3) المصدر السابق 1/ 30. (¬4) يرى ابن القيم أن تسمية القياس بالميزان أولى، مع موافقته على أنه قد ورد به الكتاب والسنة وعليه إجماع الصحابة 1/ 86 أعلام الموقعين.

الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة

وبين أن القياس طريق إلى معرفة أحكام الشرع في الوقائع التي لم ينزل بشأنها نص كتاب ولا سنة، وقد استدل على حجيته بالقرآن والسنة وأقيسة الصحابة ورد على المنكرين للقياس. وسأبين طريقته مختصرة حسب الترتيب الآتي: الفرع الأول: ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة. الفرع الثاني: عمل الصحابة بالقياس والتفريق بين الرأي المحمود والرأي المذموم. الفرع الأول الأدلة من الكتاب والسنة: إن حقيقة القياس هي تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم، وقد اشتملت كثير من الآيات القرآنية على هذا المعنى، وقد ذكر ابن القيم أن هذه الأمثال بلغت بضعاً وأربعين مثلاً (¬1). وأذكر منها: 1 - أخبر القرآن أن حكم الشيء حكم مثله وذلك في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (¬2). وقوله تعالى خطاباً لكفار قريش: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} (¬3). أي أكفاركم يا قريش خير من الكفار من قبلكم، والمقصود هنا هو التسوية بينهم وبين من قبلهم في العذاب لأنهم اشتركوا في الاعتقاد، "فهذا ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين 1/ 130. (¬2) سورة محمد: آية 10. (¬3) سورة القمر: آية 43.

محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة وإلّا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة" (¬1). ثم ذكر مواضع أخرى تدل على هذا المعنى ومنها: "كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب والسير المعنوي بالتفكر والاعتبار أو كان اللفظ يعمهما وهو الصواب" (¬2). 2 - إن الله سبحانه نفى عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم ومن الآيات التي تدل على هذا المعنى: قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬3) {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬4). 3 - قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} قال ابن القيم: "فهذا قياس جلي، يقول سبحانه: إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم، فذكر أركان القياس الأربعة: علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها، والحكم وهو إذهابه بهم وإتيانه بغيرهم، والأصل وهو من كان من قبل، والفرع وهم المخاطبون" (¬5). 4 - القرآن يعلل الأحكام بمعان معتبرة وأوصاف مؤثرة، وقد جاء ذلك ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين 1/ 131 - 132. (¬2) المصدر نفسه: 1/ 132. (¬3) سورة الجاثية: آية 21. (¬4) سورة ص: آية 28. (¬5) أعلام الموقعين: 1/ 138.

في مواضع كثيرة، وورد التعليل بالباء، واللام، وإن، وكي، ومن أجل، وترتيب الجزاء على الشرط، والفاء المؤذنة بالسببية، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له، ولما وأن، ولعل، وبالمفعول له (¬1). 5 - ومما ورد في السنة ما قاله ابن القيم: "وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها ليدل على ارتباطها بها، وتعديها بتعدي أوصافها وعللها" (¬2). ثم ذكر أمثلة كثيرة جداً، وهي مشابهة للأمثلة التي أشرت إليها آنفاً ومنها: (أ) "قياس العكس الجلي": وذلك ما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر قالوا نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر" (¬3). ¬

_ (¬1) مثال الباء: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} غافر ومثال اللام: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} 197 - المائدة، "وأن مثل: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} 156 الأنعام أي لئلا تقولوا، وقيل كراهة أن تقولوا، واللام مثل {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 165 النساء، وكي كقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} 7 الحشر. والشرط والجزاء: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} 120 آل عمران، والفاء {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} 139 الشعراء، وترتيب الحكم على الوصف {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} 16 المائدة، ولما: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} 55 الزخرف وإن مثل {كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} 77 الأنبياء، ولعل مثل {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 73 البقرة ومن أجل {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} 32 المائدة، وانظر أعلام الموقعين 1/ 196 - 197 - 198. (¬2) انظر المصدر السابق 1/ 198 - 199. وفيه أمثلة كثيرة. (¬3) قطعة من حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. مسلم بشرح النووي - 7/ 91 - 92، وانظر كتاب أقيسة النبي - صلى الله عليه وسلم - 78، لناصح الدين عبد الرحمن الأنصاري المعروف بابن الحنبلي تحقيق أحمد حسن جابر وعلي أحمد الخطيب - الطبعة الأولى 1393 هـ.

قال ابن القيم: "وهذا من قياس العكس الجلي، وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه" (¬1). (ب) قياسه حكم القبلة في الصوم -وهي الفرع- على حكم المضمضة بالماء وهو الأصل بجامع أن كلًّا منهما لا يضر. ففي الحديث أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "صنعت اليوم يا رسول الله أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم، فقلت لا بأس بذلك، فقال رسول الله فصم" (¬2). قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ-: "ولولا أن حكم المثل حكم مثله، وأن المعاني والعلل مؤثرة في الأحكام نفياً وإثباتاً لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى، فذكره ليدل به على أن حكم النظير حكم مثله، وأن القبلة التي هي وسيلة إلى الوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه فكما أن هذا الأمر لا يضر فكذلك الآخر" (¬3). (ج) وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن نحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم فقال: "اقضوا دين الله فإن الله أحق بالوفاء" (¬4). وترجم له البخاري بقوله: "باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السائل" (¬5). ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين 1/ 199. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده "مسند عمر بن الخطاب" وانظر أعلام الموقعين 1/ 199 وأقيسة النبي - عليه الصلاة والسلام - 191. (¬3) أعلام الموقعين 1/ 199. (¬4) أخرجه البخاري كتاب الاعتصام 13/ 296. (¬5) المصدر السابق كتاب الاعتصام 13/ 296.

الفرع الثاني عمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود

وقد ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قاس أكثر من مائة قياس (¬1). الفرع الثاني عمل الصحابة بالقياس أو التفريق بين الرأي المذموم والرأي المحمود من ذلك: 1 - قياسهم حد الشرب على حد القذف: وهو محل اتفاق عندهم .. فقد استشار عمر في ذلك فقال علي: أراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون فاجتمعوا على ذلك" (¬2) قال ابن القيم: "ولم ينفرد علي بهذا القياس بل وافقه الصحابة". 2 - قياس ابن عباس في مناقشة الخوارج: وقد ذكر ابن القيم القصة بتمامها (¬3). واقتصر على موضع الشاهد هنا اختصاراً. سأل ابن عباس الخوارج عما ينقمون على علي - رضي الله عنه - فقالوا: "ثلاث نقمناهن عليه، جعل الحكم إلى الرجال وقال الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فقلت -أي ابن عباس- قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم في الأرنب، وفي المرأة وزوجها {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬4) أفخرجتم من هذه قالوا نعم. ¬

_ (¬1) وقد جمعها كتاب أقيسة النبي - عليه الصلاة والسلام - من 1 - 204، وانظر جاء بيان العلم وفضله 2/ 65. (¬2) قال ابن القيم وقد ذكر روايات أخرى: "وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضاً، وشهرتها تغني عن إسنادها" 1/ 211. (¬3) انظر تمام القصة في الصدر السابق 1/ 214 - 215. (¬4) وتمام الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} النساء 35.

قالوا: وأخرى، محا نفسه أن يكون أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فأمير الكافرين هو، فقلت لهم ... إنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال رسول الله لعلي: "أمح يا علي" أفخرجتم من هذه قالوا نعم .. قال ابن القيم: "وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه" (¬1). وذلك لأنه قاس جواز تحكيم الرجال في دماء المسلمين على جواز تحكيم الرجال في قتل الصيد للمحرم، وفي الخلاف بين الزوجين، بل هو أولى، وذلك أن الله أمرهم بأن يحكموا في ذلك كله بما يوافق شريعته التي أنزلها وكذلك قاس جواز ما فعله علي عندما محى اسمه على مشروعية ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية. (¬2) 3 - أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت - رضي الله عنهما - مخالفته للقياس، فقد ذهب زيد بن ثابت إلى منع الجد مع الأخوة من الإرث فقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن إبناً ولا يجعل أب الأب أباً؟ ". قال ابن القيم: "وهذا محض القياس" (¬3). 4 - إنكار الصحابة للرأي المذموم: من ذلك ما ورد إنكاره في قول أبي بكر الصديق وعمر وابن مسعود وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت ومعاذ وأبي موسى ومعاوية - رضي الله عنهم -، ونقل ذلك عن الشعبي وسفيان بن عيينة وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن شهاب وغيرهم (¬4). وهذا الرأي الذي أنكروه هو الرأي المذموم وهو عند ابن القيم أقسام: 1 - الرأي المخالف للنص: قال: وهذا معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإِسلام. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 215. (¬2) المصدر السابق من 1/ 203 - 218. (¬3) المصدر السابق 1/ 215. (¬4) انظر أعلام الموقعين 1/ 53 - 54 - 56 - 58 - 59 - 60 - 73 - 74.

2 - الرأي الذي هو خرص وظن مع تفريط في معرفة النصوص وفهمها. 3 - الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم. 4 - الرأي الذي أُحدثت به البدع وغُيرت به السنن (¬1). 5 - الرأي المؤدي إلى تعطيل السنن والبعث على جهلها والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع بعضها إلى بعض قياساً دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها، وحكاه عن ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم (¬2). ثم مثل ابن القيم للقياس الفاسد بقياس البيع على الربا بجامع اشتراكهما في كونها عن تراض ومعاوضة مالية (¬3)، وقياس الميتة على المُذكى في جواز أكلها لأنهما يشتركان في إزهاق الروح (¬4). قال: "ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين" (¬5). ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين 1/ 67 - 68 - 69. وقال: "وهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين" 1/ 69. وهذه الأقسام الأربعة بعضها يرجع إلى بعض فالرابع يرجع إلى الثالث، والثالث يرجع إلى الأول والثاني، باعتبار أن البدع مُخَالفة للنص واتباعٌ للخرص والظن. (¬2) ومقصود ابن عبد البر ذم القياس القائم على غير أصل ولذلك قال أما من رد الفروع إلى أصولها قياساً فعمله مشروع لأنه رد إلى أصل، انظر ما سبق وانظر أعلام الوقعين 1/ 67 - 68. (¬3) أعلام الموقعين 1/ 133 ويقصد به قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} البقرة 275. (¬4) أعلام الموقعين 1/ 133. (¬5) أعلام الموقعين 1/ 133.

ويقصد -رَحِمَهُ اللهُ- القياس الفاسد والرأي المذموم. ثم قال بعد ذلك: "وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به وهذا حق كلما سنبينه إن شاء الله تعالى" (¬1). وقد بينت محل الذم كما سبق، وأما استعمال السلف والاستدلال به فإليك بيان أنواع الرأي المحمود: 1 - رأي الصحابة فقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته (¬2). 2 - الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها ويقررها ويوضح وشمهل طريقة الاستنباط منها (¬3). 3 - والرأي الذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه خلفهم عن سلفهم (¬4). 4 - ما كان أقرب إلى كتاب الله وسنة رسوله وأقضية الصحابة (¬5). والحاصل أن الرأي المذموم هو الرأي المجرد الذي لا دليل عليه، بل هو خرص وتخمين، وهذا أجمع الصحابة على رده (¬6). والرأي المحمود هو: "رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه (¬7) فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه" (¬8). ¬

_ (¬1) أعلام الموقعين 1/ 133. (¬2) أعلام الموقعين 1/ 81. (¬3) المصدر نفسه 1/ 82. (¬4) المصدر نفسه 1/ 83. (¬5) المصدر نفسه 1/ 85. (¬6) المصدر نفسه 1/ 69. (¬7) ويدخل في ذلك ما كان مستنداً إلى جملة نصوص. وسيأتي بيانه عند دراسة المصلحة وقضية الثبات والشمول. (¬8) المصدر نفسه 1/ 83.

وفي هذه النصوص من الكتاب والسنة بيان لمشروعية العمل بالقياس دون إفراط أو تفريط، وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل الصحابة بيان واضح لذلك، وهو من الأدلة على وجوب الاجتهاد حيث كانوا - رضوان الله عليهم - يجتهدون في النوازل ويعتبرون النظير بنظيره. وبهذا يتعرفون على شمول الشريعة، وفي الوقت نفسه كانوا أشد الناس حذراً من الرأي المذموم وبهذا حافظوا على ثبات الأحكام وسيأتي زيادة بيان لهذا إن شاء الله تعالى.

المبحث الثاني طريقة الإمام الشاطبي

المبحث الثاني طريقة الإِمام الشاطبي (¬1) يعتبر الإِمام الشاطبي وسطأ بين المتعمقين في القياس والرافضين له (¬2). والقياس عنده طريق لاستخراج الحق من الأدلة وأصله في السنة، يقول -رَحِمَهُ اللهُ-: "وأما علم المقاييس فأصله في السنة في علم السلف بالقياس ... وقد كان السلف الصالح يجتمعون للنظر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها ¬

_ (¬1) اقتصرت على عرض طريقتي الإِمامين الشاطبي وابن القيم لأسباب منها: (أ) أن طريقتي المتكلمين والحنفية لإثبات حجية القياس قد بُحثت كثيراً وخاصة بعد تكاثر رسائل الدكتوراه في هذا الموضوع، والكتب الحديثة. (ب) أن طريقة الإِمام الشافعي قد بحثت انظر كتاب نظرية المصلحة وكذلك طريقة ابن تيمية، انظر أصول الفقه وابن تيمية. (ج) أن طريقتي الإمامين تتمتع بقيمة علمية نحتاج إلى معرفتها وسأشير إلى ذلك. (د) أن طريقتيهما وأسلوبهما في العرض والتحليل أقرب إلى ذهن القارئ المتخصص وكذلك العادي من أسلوب المتكلمين والحنفية وفي هذا تيسير على القارئ لكي يدرك ما يبنى على ذلك من الدراسات. (هـ) قد يظن البعض أن الإِمام ابن القيم وقد حمل على أصحاب الرأي أنه لا يقول بالقياس الشرعي وكذلك بالنسبة للإِمام الشاطبي فإنه لم يفرد في الموافقات ولا الاعتصام باباً خاصاً بالقياس، فرأيت أن أجمع ما تيسر لي من أقوالهما وأبين طريقتيهما في الاستدلال بالقياس. (¬2) الموافقات 4/ 175.

المطلب الأول الأدلة على إثبات القياس

للتعاون على استخراج الحق، فهو من قبيل التعاون على البر والتقوى ومن قبيل المشاورة المأمور بها فكلاهما مأمور به (¬1). وإليك بيان طريقته في الاستدلال على القياس: المطلب الأول الأدلة على إثبات القياس يعتمد الإِمام الشاطبي على الأدلة الكلية لإثبات القياس مبتعداً عن الجدل الذي وقع فيه كثير من الأصوليين، وعن المعالجة الجزئية لإِثبات الأصول الفقهية. فالدليل الأول عنده هو دليل الاستقراء وهو المعتمد، فقد استقرأ الإِمام الشاطبي الشريعة من أكثر من موضع فاستقر عنده على سبيل العلم أن الأحكام شرعت لمصالح العباد، وأن تفاصيل العلل للأحكام قد انتشرت في القرآن والسنة، وهذا الاستقراء -كما يقول- لا يستطيع أن ينازع فيه أحد (¬2). إجراء الاستقراء: وردت آيات كثيرة في القرآن تبين أن الأحكام شرعت لمصالح العباد، ومن هذه الآيات: 1 - ما ورد في بعثة الرسل الذين جاءوا بالشرائع وهم الأصل ومن ذلك قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬3) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 199. (¬2) الموافقات 2/ 3. (¬3) سورة النساء: آية 165. (¬4) الأنبياء 107 ومثلها في المعنى كثير من ذلك ما جاء في سورة القصص: آية 43، الروم 21.

فالرسل بعثوا رحمة للعباد، والرحمة بهم هي حفظ مصالحهم، فشرائع الرسل جاءت إذاً بمصالح العباد العاجلة والآجلة. 2 - ما ورد في أصل الخلقة: فقد امتن الله على عباده بأنه إنما خلقهم لعبادته ووعدهم على ذلك الحياة الطيبة في الدنيا والثواب المقيم في الآخرة، وهذا معنى أن هذه الشرائع إنما جاءت لمصالحهم. ومن هذه الآيات الدالة على هذا المعنى قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬1). {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬2). {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬3). 3 - "وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى ومنها: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (¬4). والآية جاءت بعد آية الوضوء، وقال في الصيام: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة هود: آية 7. (¬2) سورة الذاريات: آية 56. (¬3) سورة الملك: آية 2. (¬4) سورة المائدة: آية 6. (¬5) سورة البقرة: آية 183.

وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬1). {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬2). وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬3). ومقصود الشاطبي من هذه الأمثلة التنبيه كما قال، وأما حصر الآيات الواردة في الحكمة من إرسال الرسل، ومن خلق الإِنسان، والحياة، والموت، وكذلك التي ورد فيها ذكر تفاصيل العلل فإن ذلك يحتاج إلى كتاب جامع يحصرها وذلك لكثرة انتشارها في الكتاب والسنة (¬4). وبهذا الاستقراء المقطوع باستمراره في تفاصيل الشريعة يثبت القياس والاجتهاد، قال الشاطبي: "فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة ومن هذه الجملة ثبت القياس والاجتهاد" (¬5). ويقصد الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- أن الاستقراء أفاد قطعاً أن الشارع قاصد بشريعته مصالح العباد، وأحكامه تتضمن هذه المصالح وعلى المجتهد أن يتعرف عليها بطرق الاستنباط المعروفة حتى يستطيع حمل الوقائع التي ليس فيها حكم شرعي على الوقائع التي نزك فيها حكم شرعي، وهذا هو القياس. والقياس عنده لا معنى له: "إلا جعل الخاص الصيغة عام الصيغة في المعنى وهو معنى متفق عليه" (¬6). ¬

_ (¬1) صورة العنكبوت: آية 45. (¬2) سورة الحج: آية 39. (¬3) سورة البقرة: آية 179، الموافقات 2/ 4. (¬4) وقد جمع الإِمام ابن القيم شئاً كثيراً منها وإن لم يحصرها. انظر أعلام الموقعين 1/ 130 - 218 (¬5) الموافقات 2/ 4. (¬6) الموافقات 3/ 31.

المطلب الثاني جوابه عن أقوال المعاوضين

وهذا الاتفاق حكاه في كتابه الاعتصام في معرض شرحه لكلام الإِمام أحمد حيث ذكر أن القياس معمول به عند جمهور المسلمين ثم قال: "بل هو إجماع السلف - رضي الله عنهم -" (¬1). المطلب الثاني جوابه عن أقوال المعاوضين ويجيب -رَحِمَهُ اللهُ- عن مذهب المعارضين للقياس بجواب سديد حاصله أن جميع الأقوال المعارضة إنما نشأت لأسباب معينة وهي: 1 - أن المعارضين للقياس حملهم على ذلك وجود بعض الأقيسة مبنية على غير أساس ومستند شرعي، وكل قول مبني على غير ذلك مردود قطعاً. وهذه الشبهة موجودة فكم حمل القياس الفاسد صاحبه على السير على غير هدى. ولذلك جزم الشاطبي أن كل قول مبني على غير أصل شرعي مردود قطعاً (¬2). 2 - أما المعارضون له باعتبار أنه اتباع للظن، واتباع الظن مذموم، فيجيب عنه الشاطبي في موضعين: ففي الاعتصام يقسم الظن إلى ثلاثة أقسام: الأول: "الظن" الذي هو الشك في أصول الدين، وهذا لا يغني، لأنه ينافي الجزم في الاعتقاد. الثاني: الظن بمعنى "ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح" وهو مذموم لأنه اتباع للهوى ولذلك جمع بينهما في الآية: ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 226. (¬2) المصدر السابق 1/ 99.

{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (¬1). وهذا هو حكم كل من مال إلى أمر بمجرد الغرض والهوى. الثالث: ظن على ضربين: (أ) يستند إلى أصل قطعي وهذا معمول به في الشريعة لأنه مستند إلى أصل معلوم فهو من قبيل المعلوم جنسه. (ب) ظن مستند إلى غير شيء أصلاً وهذا غير موجود في الشريعة (¬2). وفي الموافقات: يقسم الرأي (¬3) إلى محمود ومذموم: (أ) المحمود: وهو الجاري على موافقة كلام العرب وموافقة الكتاب والسنة، وهو الذي عمل به الصحابة وفسروا به القرآن، ثم قال: "فإطلاق القول بالتوقف والمنع من الرأي لا يصح" (¬4) ومعنى ذلك أن اجتهادهم - رضوان الله عليهم - مستند إلى الدليل الشرعي أي راجع إلى مجموع المعنى اللغوي والمقصد الشرعي. (ب) المذموم: وهو الذي لا ينبني على موافقة اللغة العربية والأدلة الشرعية وكان مذموماً لأنه يرجع إلى الافتراء على الله والتقول عليه بلا برهان. ¬

_ (¬1) سورة النجم: آية 23. (¬2) المصدر السابق 1/ 136، وبهذا فند الإِمام الشاطبي اعتقاد الضالين المخالفبن للأحاديث، الرادين قول من اعتمد عليها حتى عدوا القول بها مخالفاً للعقل 1/ 236. (¬3) يسمي الشاطبي القياس رأياً. فالأدلة عنده هي الكتاب والسنة والإِجماع والرأي واقتصر في كتابه الموافقات على دراسة الأصلين الأول والثاني، وقال عن الأصلين الآخرين " .. فإن في أثناء الكتاب كثيراً مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما" يقصد الكتاب والسنة 3/ 223. (¬4) الموافقات 3/ 286 وانظر ما سبق 173 من تقسيمه للظن إلى قسمين: الأول المستند إلى أصل قطعي، الثاني المستند إلى وهم وظن فهو غير معتبر وإلى ما تردد فيه المجتهد.

وهذا هو الذي ورد ذمه في نصوص السلف (¬1). وسَّوى الشاطبي بين النظر في القرآن بالرأي وبين إعمال القياس الفاسد -الذين لا يجريان على موافقة الشرع- فذكر أن السلف كانوا يتحرجون من النظر في القرآن وتأويله كما كانوا يتحرجون من القياس، ثم بين سبب ذلك فقال: "فإن المحظور فيهما واحد، وهو خوف التقول على الله، بل القول في القرآن أشد فإن القياس يرجع إلى نظر الناظر، والقول في القرآن يرجع إلى أن الله أراد كذا أوعنى كذا بكلامه المنزل وهذا عظيم الخطر .. " (¬2). وبهذا يتضح مذهب الشاطبي في القول بالقياس (¬3)، وإطراحه للرأي المذموم. ونختم طريقة الإِمام الشاطبي بتفصيل ما ذكرته في صدر هذا البحث من أن الشاطبي وسط بين المتعمقين في القياس والصادين عنه. فاقول: ذكر الإِمام الشاطبي مذهب من نفى القياس جملة وأخذ بالنص على الإطلاق، ومذهب من أعمل القياس على الإِطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة، وعلل الشاطبي بعد الشقة بين هذين الطرفين تعليلاً حسناً في عبارة رصينة وقد سبقت الإِشارة إليها وهي قوله: ¬

_ (¬1) انظر ما نقل عن أبي بكر وابن عباس وابن المسيب وابن سيرين ومسروق، وإبراهيم وهشام بن عروة وغيرهم 3/ 286 - 287 الموافقات؛ وانظر ما سبق ص 371. (¬2) المصدر نفسه 3/ 288. ومعنى قوله: "يرجع إلى نظر الناظر" أي أن الناظر يقول هذا ما عرفته عندما نظرت في القياس، فهو اجتهاد منسوب إلى الشريعة من طريق غير مباشر، وأما تفسير القرآن بالرأي فهو اجتهاد بالرأي يقول صاحبه معنى الآية كذا، فالمحظور فيهما واحد وهو في الثاني أظهر وأخطر. فلابد من الاستناد إلى أصل شرعي عند القياس وعند تفسير القرآن. (¬3) يرى الشاطبي أن القياس من حيث هو دليل، قطعي" وجزئ القياس من حيث هو قياس معين العمل به ظني، وهذا لا يقدح في أصل المسألة لانفكاك الجهة - الموافقات 2/ 208.

"فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطراداً لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير، بل على مقتضى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1). فصاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت عموماً وخصوصاً دل على ذلك الاستقراء، فكل فرد جاء مخالفاً فليس بمعتبر شرعاً، إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام، لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان. والظاهري يقول: الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملاً، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع لا على حسب أنظارهم، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإِصابة من حيث أن الشارع إنما تعبدنا بذلك، واتباع المعاني رأي فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر، لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي " (¬2). ثم قال: فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها، وأطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ فنظروا في الشريعة بها، وأطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة" (¬3). ثم بين أن الراسخ في العلم آخذ بالطرفين معاً على وجه لا يخل فيه بطرف ¬

_ (¬1) وانظر جميل فقه الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- حيث أدرك بثاقب نظره وحسن فهمه أن القياسيين وغير القياسيين مدركون لشمول الشريعة وثباتها، وكل واحد له طريق لذلك حتى أهل الظاهر استطاعوا أن يحققوا شمول الشريعة في واقع الناس فى طرق "الاستصحاب" ولكنهم لم يسلموا من الاضطراب كما لى يسلم منه أصحاب الرأي الذين أفرطوا في القياس. (¬2) الموافقات 4/ 151. (¬3) المصدر نفسه 4/ 151.

المطلب الثالث الإجماع

على حساب الطرف الآخر، فهو جامع بين المحافظة على ألفاظ الشريعة وآخذ بالمعاني التي دلت عليها دون أن يلغي أحدهما بالآخر، بخلاف الفريق الأول حيث جرد المعاني فنظر في الشريعة بها واطرح خصوصيات الألفاظ، وبخلاف الفريق الثاني حيث جرد مقتضيات الألفاظ فنظر في الشريعة بها واطرح خصوصيات المعاني القياسية" (¬1). المطلب الثالث الإِجماع وقد نقله العلماء الثقات من المحققين: 1 - حكى الشاطبي إجماع السلف - رضوان الله عليهم - على العمل بالقياس (¬2). 2 - قال المزني صاحب الإِمام الشافعي: "الفقهاء من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا وهلم جراً، استعملوا المقايس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم. قال: وأجمعوا بأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها" (¬3). 3 - ونقله أيضاً شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (¬4). ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 151 - 152، وقل أن تجد مثل هذا التحقيق والبيان للأسباب التي حملت كل فريق على مذهبه الذي ذهب إليه، وهو تحقيق بالغ الأهمية لمعرفة مسارب الفكر وكيف يخرج منها البصير بحيث لا تختلط عليه السبل، هذا مع ما فيه من دلالة قوية على تأويل كل من الطرفين وستأتي الإشارة إلى هذا .. وتحسن الإِشارة هنا إلى أن الشاطبي لم ينتصب لدراسة القياس كما انتصب لها غيره، وفي هذا دلالة قوية على عمق فكره ونفاذ بصيرته -رَحِمَهُ اللهُ-. (¬2) الاعتصام 1/ 226. (¬3) جامع بيان العلم وفضله 1/ 96 - 97. (¬4) أصول الفقه وابن تيمية 1/ 203، 205، 218 وأعلام الموقعين ونبراس العقول 1/ 113.

4 - ونقله ابن عقيل الحنبلي، والصفي الهندي، والرازي، وابن دقيق العيد (¬1). وقد زعم من أنكر القياس عدم انعقاد الإِجماع، وحاصل ما عندهم أن من الصحابة والتابعين من أنكر العمل بالقياس، لأنهم ذموا العمل بالرأي وأوردوا نصوصاً كثيرة عنهم (¬2). وقد تبين أن الرأي المذموم عند السلف من الصحابة ومن بعدهم، هو الجاري على غير أصل الشرع وكذلك القياس المذموم هو المبني على غير أصل (¬3). وأول من خرق الإِجماع النظام وتابعه قوم من المعتزلة، وممن قال بإنكاره داود الظاهري من أهل السنة. قال ابن عبد البر: "ما علمت أحداً سبق النظام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد" (¬4). وخلاف هؤلاء غير معتبر لأنه جاء بعد انعقاد الإِجماع (¬5). ¬

_ (¬1) إرشاد الفحول 203. (¬2) المصدر السابق 203. (¬3) انظر ما سبق ص 371 - 380. (¬4) جامع بيان العلم وفضله 1/ 62، 63، 74. (¬5) إرشاد الفحول 203 البرهان 2/ 761، 818، 819، وقد صرح الجويني بأن علماء الظاهرية لا يُعدون من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم مباهتون أولاً على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواتراً، ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه" هذا نص الجويني والذي أرى أنه الحق - أن أقصى ما نحتاج إليه في المسألة هو عدم اعتبار مخالفتهم، لحدوثها بعد الإِجماع، أما أنهم ليسوا من علماء الأمة فهذا موضع نظر لأن المخالف للقياس متأولاً لا يعد مباهتاً، وتأولهم ثابت بأمور: 1 - معارضتهم القياس بنقول في غير محل النزاع. 2 - خلطهم بين القياس الصحيح والفاسد. 3 - اضطرابهم في مسألة تعليل الأحكام. =

مقارنة بين طريقتي ابن القيم والشاطبي: 1 - أنهما قد حررا موضع النزاع بين المثبتين للقياس والمنكرين له. 2 - اشتركا في نقل إجماع السلف من الصحابة والتابعين على إعمال القياس والرأي المبنيين على أصل شرعي، وذم ما سوى ذلك من الرأي والقياس المبنيين على غير أصل شرعي، مع بيانهما للفرق بين الرأي المحمود والرأي المذموم. ¬

_ = وقد نقل ابن القيم مذهبهم وما تأولوه من الأدلة فيما يقارب مائة صحيفة أعلام الموقعين 1/ 227/ 330، فإذا ضممت مع هذا تحليل الشاطبي لمذهبهم. انظر ما سبق ص 381 علمت أنهم متأولون غير مباهتين ولا معاندين، وحينئذ لا وجه لا قاله الجويني اللهم إلّا أن يوصف به النظام ومن شاكله، وقد ناقشه الإِمام الجويني ولم يناقش الظاهرية، والذي اخترته السعي في إزالة شبهتهم إذ هم متأولون ونحتاج إلى إزالة الشبه نعليماً، والإِجماع منعقد لا يؤثر عليه خلاف من خالفه، أما النظام فلا يناقش إلّا لإِظهار زندقته وكفره، لأنه منكر للإِجماع مستهتر بالصحابة طاعن فيهم معروف بذلك، وقد أحسن الجويني في كشف كفره وزندقته فقال: "والإِجماع - الذي هو الحجة في إثبات القياس - قد نفاه النظام، وزعم أن أصحاب رسول الله دعوا الناس إلى اتباع الإِجماع، وراموا أن يتخذوا رؤساء، فقرروا الإِجماع، وأسندوا إليه ما يرون، وأخذوا يحكمون مسترسلين فيما لا نهاية له" 2/ 762 ثم قال عنه: "وما ذكره النظام كفر وزندقة، ومحاولة استئصال قاعدة الشرع لأنه إذا نسب حامليها إلى ما هذى به فبمن يوثق؟ وإلى قول من يرجع؛ وقد رد القياس وطرد مساق رده إلى الوقيعة في أعيان الأمة ومصابيح الشريعة، فإذا لا نقل ولا استنباط، ولا تحصل الثقة على ما قاله بآي القرآن .. " 2/ 763 والنظام - وهذا شأنه - ليس متأولاً بل مقتحم حمى الكفر والزندقة بعقيدته في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانظر مخازيه فيما سبق ص 182، ووجود التأويل المعتبر وعدمه سبب ظاهر في عدم جواز جعل المنكرين للقياس تحت حكم واحد، ومن المفيد أن نذكّر هنا بما نردده مراراً من أن الإِنصات إلى علماء البدعة وعدم الحذر من آثار علم الكلام سبب في التأثر بهم كما فعل داود الظاهري حيث أنكر القياس، ولو أن حذر من هذه المقالة لمخالفتها طريقة السلف في الاستدلال، ولأنها مسلك من مسالك أهل الأهواء لسلم بمشيئة الله من الوقوع فيها. وفي هذا تذكرة لمن أراد أن يتذكر ليحذر من آثار الفرق الضالة ويتحصن بالأمر الأول الذي كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.

3 - أن طريقة كل منهما تقوم على الاستدلال بالقرآن والسنة والإِجماع وسواء كان استدلالاً موسعاً كاستدلال ابن القيم، أوعن طريق الاستقراء كاستدلال الشاطبي. وهما في هذا يكمل أحدهما الآخر، فإن شئت أن تقوي استدلالات ابن القيم الجزئية باستقراء الشاطبي تحقق لك ذلك، إذ الاستقراء دليل كلي معتمد. وإن شئت أن تقوي استقراء الشاطبي بالاستدلالات الكثيرة المتنوعة من الأيات والأحاديث التي ذكرها ابن القيم ظفرت باليقين وتحقق لك إجراء الاستقراء بطريقة أوسع مما نبه عليه الشاطبي. 4 - أنهما يذهبان إلى القول بتعليل الأحكام الشرعية وابتنائها على المصالح، ويريان أن ذلك من ألطف الفقه وأدقه، وأن ذلك هو قاعدة الاجتهاد. 5 - أنهما وسط بين المتعمقين في القياس .. والمنكرين له. 6 - أنهما يدركان إدراكاً عميقاً وجهة كل من الفريقين، ويختلفان في أن ابن القيم توسع في ذكر أدلة كل منهما، وأن الشاطبي كان أكثر التفاتاً لتحديد السبب الذي حمل الفريقين على ذلك بصورة عميقة وبيان شاف مع أنه لم يفرد القياس بدراسة خاصة. 7 - أن طريقتيهما في العرض والاستدلال والأسلوب بعيدتان عن الجدل والمصطلحات الفلسفية. 8 - أنهما حريصان كل الحرص على المحافظة على خصوصيات الألفاظ من جانب والمحافظة على اعتبار المعاني من الجانب الآخر، وذلك هو قاعدة الثبات والشمول في الشريعة. 9 - أن ما كتباه يعتبر تجديداً لمذهب السلف في القياس دون إفراط أو تفريط بحيث يتحقق الشمول وتسلم الأحكام من التغيير والتبديل، قال

الإِمام ابن عبد البر وهو يحكي مذهب السلف في الاجتهاد والقياس على الأصول وبيَنَ أن المذموم هو: "القياس على غير أصل والقول في دين الله بالظن، وأما القياس على الأصول والحكم للشيء بحكم نظيره فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف بل كل من رُوي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصاً لا يدفع هذا إلّا جاهل أو متجاهل مخالف للسلف في الأحكام" (¬1) وهذا معنى ما قلته سابقاً من أن طريقة ابن القيم وطريقة الشاطبي وسط بين الصادين عن القياس والمتعمقين فيه، إضافة إلى بيان مذهب الصحابة من خلال بيان مذهب هذين الإمامين. * * * ¬

_ (¬1) جامع بيان العلم 2/ 77.

المبحث الثالث تطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة

المبحث الثالث تطبيقات على أركان القياس وبيان شرط التعليل بالحكمة المطلب الأول تطبيقات على أركان القياس إن العمل بالقياس على هذا النحو يكفل لنا ثبات أحكام الشريعة التي ترتبط بالأحكام القياسية، فالحكم الناتج عن القياس ينبني على "الأصل" وهو النص، وعلى "حكمه" وهو ثمرة "النص" التي استخرجها المجتهد منه سواء بطريق "العلة" وهي الوصف الظاهر المنضبط، أو ما شابهها من الحكم (¬1)، فالأصل وحكمه ثابتان، لأن "النص" الذي هو الأصل ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأنه وُضح على الأبدية فهو معصوم، والثبات ناتج عن عصمته - وقد سبق - أن ذلك متحقق في الوحي، وأنه كذلك أبداً حتى لو تصورنا استمرار الحياة الدنيا وعدم انقطاعها و"حكمه" كذلك، لأنه مدلول النص، فالنص ومدلوله ثابتان ولا يتصور "نص" بغير مدلول ولا معنى لثبات النص إلّا إثبات مدلوله، هذا إذا كان مدلوله واحداً. أما إذا اتسع معناه وتعددت مدلولاته فهي ثابتة أيضاً، لأن ثباتها هنا هو علم المجتهد بشمول النص لها دون غيرها. فكأن النص وعاءً، تارة يكون فيه معنى واحد فدلالة النص عليه ثابتة، وتارة يكون فيه أكثر من معنى، فيعلمها المجتهد وتكون ثابتة بحيث يتبين شمول هذا النص لهذه المعاني، فالأصل إذاً وما دل عليه ثابت. ¬

_ (¬1) سيأتي إن شاء الله تفسير ذلك والاستدلال عليه.

أما "العلة" فهي ثابتة كذلك ودليل ثبوتها ظهورها وانضباطها، وهذا قدر متفق عليه في أوصاف "العلة" ومعنى ظهورها وانضباطها أي ثباتها وعدم اختلافها باختلاف الأشخاص وباختلاف البيئات والأحوال، فالنَّسَبُ يثبت بقيام فراش الزوجية أو الإِقرار، وهذا فيه معنى الظهور، وفيه أيضاً معنى الانضباط تماماً مثل كون "السكر" هو العلة لتحريم الخمر فهو أمر ظاهر في أن من شرب "المسكر" أصابه السكر عادة وكذلك هو ثابت لأنه متعلق بالخمر ذاتها وبكل مسكر، فهي إذاً علة ظاهرة ومنضبطة وهذا معنى ثباتها، ولذلك ربط الشارع الحكم بها، فعندنا إذاً ثلاثة أركان "أصل" و"حكم" و"علة الحكم" وقد ظهر لنا معنى الثبات في كل، وهذه هي أعظم أركان القياس فهو إذاً طريق يؤكد ثبات الأحكام المرتبطة به. بقي أن ندرس أمرين مهمين قد يظنهما كثير من الدارسين منافيين لذلك. الأول: كون "الحكمة" وهي الأمر المناسب الذي قصد الشارع إلى جلبه إن كان نفعاً أو دفعه إن كان مفسدة - أن هذه الحكمة إذا رُبط الحكم بها أدى ذلك إلى الاضطراب والتغير وهذا ينافي الثبات، وعليه فلا يجوز ربط الحكم بالحكمة مطلقاً (¬1). والثاني: أن الركن الرابع من القياس وهو "الفرع" لا بد من إثبات صلاحيته ليكون محلًا لحكم الأصل وذلك لا يكون إلاّ عن طريق "العقل" وإذا دخل العقل هنا أصبح القياس حكماً عقلياً، وتد تقرر فيما سبق أن منهج الاستنباط منهج شرعي لا عقلي، فإما أن يكون - عقلياً - وهو ينافي الثبات (¬2)، ¬

_ (¬1) سيأتي بيان كونه مذهباً لبعض الأصوليين. (¬2) لأن العقل إذا استقل بالحكم - وهو قاصر وهذه هي طبيعة العقل البشري، قد يحكم بتغيير النص أو إبطاله وهذا ينافي الثبات، وانظر ما سبق في بيان أن دخول العقل فيما لم يُخلق له وهو إنشاء العقائد والأحكام يدل على تورطه فيما لا يقدر عليه وقد أدى بالبشرية إلى اختلاف وشر كثير مستطير ص 287 - 288.

المطلب الثاني التعليل بالحكمة وأثره على ثبات الأحكام وشمولها

وإما أن يكون شرعياً ولا منافاة حينئذ، ولكن لابد من تفسير لعمل العقل في القياس وهل إدراكه لكون الفرع محلاً صالحاً لنقل الحكم إليه يوجب أن يكون القياس حكماً عقلياً أم لا يوجب ذلك. وبدراسة هذين الأمرين وبيانهما يكون الجواب وبالله التوفيق، ويتجلى لنا مفهوم الثبات والشمول من ناحية الأحكام القياسية. المطلب الثاني التعليل بالحكمة (¬1) وأثره على ثبات الأحكام وشمولها تبين لنا كيفية دلالة القياس على الثبات، وذلك لأن كلًا من الأصل وحكمه ثابتان وعلة الحكم ثابتة لأنها ظاهرة منضبطة، أما الحكمة فقد وقع الاختلاف بين الأصوليين في جواز التعليل بها، ويرجع خلافهم إلى سبب جوهري وهو كون "لحكمة" تارة تظهر وتنضبط وتارة لا تظهر ولا تنضبط، فمن اشترط ظهورها وانضباطها - كما اشترط في العلة - لم يعلل بها والحال عنده أنها لا تنضبط ومن لم يشترط علل بها أيضاً واكتفى بتضمين الحكمة لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وهناك رأي ثالث ارتبط بظهور الحكمة وانضباطها أو عدم ذلك فإن ظهرت وانضبطت علل بها وإن لم تظهر وتنضبط لم يعلل بها. وهذه الآراء الثلاثة لها تأثيرات على معنى الثبات والشمول في الأحكام التي يجري فيها القياس. ولبيان صلة كل رأي بما نحن فيه أقول: إن منع التعليل بها مؤد إلى المحافظة على ثبات الحكم إذ أنه لا يقع حينئذ اختلاف ولا تغيير إذا لم نربط الحكم بها - وفي هذا سد للتعليل بها سواء انضبطت أو لم تنضبط. ¬

_ (¬1) الحكمة هي الأمر المناسب الذي تضمنه الوصف الظاهر، فالعلة في قصر الصلاة هي السفر، والسفر هو الوصف الظاهر المنضبط الذي رُبط به الحكم - وهو القصر - وحكمته هي وجود المشقة فيه غالباً، فإذا عمل المكلف بهذه الرخصة فإن الحكمة وهي جلب المصلحة ودفع المفسدة تتحقق له والمصلحة هي التيسير عليه، والمفسدة هي المشقة اللاحقة به، وسيأتي تفصيل مذاهب الأصوليين فيها إن شاء الله.

الفرع الأول

وأما جواز التعليل بها مطلقاً انضبطت أم لم تنضبط فهو مؤد إلى توسع مفهوم الشمول ولكن في تغيير واختلاف في حالة عدم الانضباط. وأما المفصلون وهم الذين منعوا التعليل بها إذا لم تنضبط، وأجازوه إذا انضبطت، فهؤلاء حافظوا على الثبات والشمول معاً في توازن مطلوب. فإذا ربطنا بها الحكم في حالة انضباطها أكدنا مفهوم الثبات وهذه نتيجة لإلزام "الحكمة" بشروط "العلة" وهنا تحقق السلامة من الاختلاف والاضطراب الذي هو خصيم الثبات. وإذا ربطنا بها الحكم في هذه الحالة أيضاً تحقق مفهوم الشمول حيث لم نقتصر على اتباع العلل فقط بل اتبعنا الحكم بشرط الظهور والانضباط ومنعنا اتباعها في عدم الانضباط فتحقق لنا مفهوم الثبات في الموضع نفسه. وهذا الذي أقوله هنا لم أسبق به النظر في أدلة الأقوال الثلاثة وأرجح بمجرد النظر إلى المحافظة على الثبات والشمول، بل هو نظر بعد جمع أدلة الأقوال الثلاثة وتبين رجحان مذهب المفصلين، وإنما قدمت ما قدمت لبيان وجه الربط بين موضوع التعليل بالحكمة وبين قضية البحث، وسيتأكد ذلك عند شرح المقصود من الحكمة وبيان المذاهب الثلاثة وأدلتها ومناقشتها وبيان الراجح منها ومناقشة بعض المحدثين فيما نسبه إلى بعض الأئمة الأصوليين. فإليك بيان ذلك بعدما تبين لنا كيف يتحقق ارتباط الثبات والشمول بالقياص سلباً أو إيجاباً، وسيكون في مناقشة الأدلة على الطريقة الأصولية ما يؤكد الايجابية عند بيان الصواب أو يؤكد السلبية، فإلى بيان معنى الحكمة بالأمثلة مع عرض مذاهب الأصوليين، وذلك في فروع، وسنبين إن شاء الله أثر ذلك على الثبات والشمول. الفرع الأول • الرأي الأول: الجواز مطلقاً وهو اختيار الرازي والبيضاوي، استدلا بأن مقصد الشارع من إناطة الحكم بالوصف الظاهر إنما هو لاشتماله على جلب

الفرع الثاني

مصلحة أو دفع مفسدة وهو المقصد من التشريع، وحينئذ فالاعتماد عليه أولى من الوصف الظاهر (¬1). وعورض بأن الحكمة لا تظهر ولا تعرف في بعض المواطن ولذلك أناط الشارع الحكم بالوصف الظاهر المنضبط، وعند ذلك علمنا أن هذا هو المعتبر، وحتى إن تخلف الحكمة في بعض الأحيان لا يمنع اتباع الوصف الظاهر بالحكم، فالسفر وصف ظاهر يتبعه الحكم برخصة القصر حتى للملك المرفه الذي تحققنا أن المشقة لا تلحقه بسفره وكذلك الحمالين في شدة الحر قد تحققنا أن المشقة تلحقهم وأن الحكمة تحقق فيهم لكن لم يربط الشارع الحكم بها. الفرع الثاني • الرأي الثاني: عدم الجواز مطلقاً، ونسبه الآمدي للأكثرين (¬2). واستدل أصحاب هذا المذهب. 1 - قالوا إنما جاز التعليل بالوصف الظاهر المنضبط لتعذر التعليل بالحكمة (¬3). 2 - أن الحكمة - وهي المصلحة أو المفسدة - متعلقة بالحاجات والأمور الباطنة، فلا يمكن الوقوف على مقاديرها لاختلاف الأشخاص والأحوال، ولذلك ربط الشارع الحكم بالوصف الظاهر المنضبط ولم يربطه بالحكمة لعدم إمكان ذلك. وأجيب عنه: بأنه لو لم يمكن العلم بها لما أمكن العلم بالوصف الظاهر ¬

_ (¬1) وقال الأسنوي كلام ابن الحاجب يقتضي موافقتهما، وحرر الأستاذ الشنقيطي في رسالته للدكتوراه (الوصف المناسب) مذهب ابن الحاجب كما بينه (العضد) وحاصله أن التعيل بالحكمة يجوز إن زال المانع وهو اضطرابها وخفائها، انظر 81 ونهاية السؤال 4/ 260 والمختصر مع حاشية السعد 2/ 213 - 214. (¬2) الإِحكام للآمدي 3/ 186. (¬3) المحصول القسم الثاني 2/ 333، وشرح تنقيح الفصول 406 الطبعة الأولى لشهاب الدين القرافي.

فإن الوصف لايُعلم إلا إذا عُلمت ثم إنه يجوز التعليل به اتفاقاً وكذلك الحكمة. فإذا ظن المجتهد ربط الحكم بهذا الوصف الظاهر المشتمل على جلب المصلحة أودرء المفسدة - وهي الحكمة - حصل الظن بمقدارها فيربط الحكم بالفرع لأن العمل بالظن واجب (¬1). ويرد على هذا الجواب أن الحكمة لما لم تنضبط ربط الشارع الحكم بما ينضبط وهو الوصف الظاهر فيكون هو المعتبر وإن تخلفت الحكمة كما في مثال سفر الملك المرفه (¬2). وأُورد عليه: أن الحكم رُبط بالوصف المشتمل على المشقة وهو السفر ولم يُربط بكونه سفراً فقط (¬3). والجواب: أننا علمنا ابتداء أن الحكم إنما رُبط بكونه سفراً فقط، ثم عرفنا بعد ذلك - استنباطاً - أن حكمته هي المشقة غالباً. وما ذكره الشلبي من قوله "مسألة السفر والقصر فيه التي جعلها مانعوا التعليل بالحكمة متكئاً لهم في الذهاب إلى الأوصاف وإهدار الحكم ليس فيها تعديه، ولم يجني المتكلمون فيها بعد طول الجدال فائدة، فلا عدى الحكم إلى غير المسافر ولا منع الملك المرفه" (¬4). وهذه المناقشة لدليل المانعين لاتستقيم، لأنهم استدلوا بهذا المثال على إبطال التعليل بالحكمة وهو دليل لهم، على منع التعليل بها في حالة عدم الانضباط - كما هو في المثال السابق وهنا تتحقق الفائدة. ¬

_ (¬1) المنهاج مع نهاية السؤال 4/ 262. (¬2) الوصف المناسب ص 85. (¬3) تعليل الأحكام 138 للدكتور محمد مصطفى شلبي طبعة 1401 هـ دار النهضة العربية - بيروت. (¬4) تعليل الأحكام 143.

الفرع الثالث

وأما على مذهب المؤلف - إذا اعتبر جواز التعليل بالحكمة مطلقاً فيلزمه التعدية إلى غير المسافر ويلزمه أيضاً منع الملك المرفه. الفرع الثالث • الرأي الثالث: التفصيل: يجوز التعليل بالحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة، وأما إذا كانت خفية مضطربة فلا وهو اختيار الآمدي. واستدل: بأن الحكم إنما ربط بالوصف الظاهر لأنه مشتمل على حكمة خفية، وإننا أجمعنا على ذلك، فإذا عرفت الحكمة وكانت مساوية له كانت أولى بربط الحكم بها (¬1). وأعترض عليه بأن إمكان ضبط الحكمة غير مسلم لرجوعها إلى جلب المصالح ودفع المفاسد، وهي مما تخفى وتضطرب فلا تكون منضبطة، وإن أمكن ذلك فلا يمكن إدراكه إلا بعسر ومشقة وحرج وهو مدفوع بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. أما منع التعليل بها إذا لم تكن ظاهرة منضبطة فلعدم إمكان الوقوف عليها لاختلاف الأشخاص والأحوال، فيجب ربط الحكم بالوصف الظاهر الذي هو المظنة، وبذلك يُرفع الحرج أيضاً. ومثاله الملك المرفه فإنه يقصر الصلاة وإن لم تتحقق المشقة في حقه (¬2)، والحمالون في البلاد الحارة لا يقصرون في الحضر مع أنهم يجدون أضعاف ما يجده المسافر الذي يقطعِ فرسخاً في كل يوم وسبب ذلك عدم إمكان ضبط المشقة فربطت بالمظنة وجوداً وعدماً. وأورد عليه: أن الحرج وإن كان موجوداً في البحث عن الحكمة الخفية الا أن ذلك متحققاً عند البحث عنها لمعرفة الوصف الظاهر، بل هو أشق. ¬

_ (¬1) الإِحكام للآمدي 3/ 186. (¬2) سيأتي عند عرضي مذهب الشاطبي أنه يرى تحقق المشقة بالنسبة للملك المرفه.

ورد بمنع التساوي في الحرج لأن معرفتها على ضابطها يسهل تحديدها، وأما إذا خلت عن الضابط فإن التعرف عليها فيه حرج شديد وممن رجح مذهب الآمدي الدكتور الشلبي حيث قال: "وقد أطال الآمدي في الاعتراض والجواب بما لا يخرج عن المناقشات في الأدلة السابقة ومن هذه المناقشة يتبين لنا رجحان مذهب المفصلين" (¬1). ونسب إلى الإِمام الشاطبي القول بمذهب المجوزين مطلقاً وقد اعتمد في ذلك على نص الشاطبي في تعريف العلة حيث قال: "أما العلة فالمراد بها الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإِباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي فالمشقة علة في إباحة القصر، والفطر في السفر، والسفر هو السبب الموضوع سبباً للإِباحة، فعلى الجملة: العلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها لا مظنتها كانت ظاهرة أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة وكذلك نقول في قوله - عليه الصلاة والسلام - "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فالغضب سبب، وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ولا مشاحة في الاصطلاح" (¬2). وعلق عليه الشلبي بقوله: "فالناظر في كلامه يراه قد أطلق السبب على الأوصاف الظاهرة المنضبطة التي جعلها الأصوليون علة وعمم فيها حتى شملت الأسباب المشروعة لأحكام وضعية كالبيع الموضوع لانتقال الأملاك والأسباب الموضوعة لأحكام تكليفية كحصول النصاب لوجوب الزكاة، ونراه في العلة يقول: المراد بها الحكم والمصالح، ثم يقول: فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها والمفسدة نفسها، ولم يشترط فيها الظهور والانضباط كما شرطوا ثم يصرح بأن المسألة اصطلاح" (¬3). ويُناقش الكاتب كما يلي: ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 140. (¬2) تعليل الأحكام 126. (¬3) تعليل الأحكام 126.

أولاً: قوله أن الشاطبي صرح بأن المسألة اصطلاح، يشعر بغير مقصوده، لأن اصطلاحه إنما هو خاص بالتسمية وهو يطلق لفظ "السبب على معنى" العلة عند الأصوليين، ويسمي الحكمة عندهم علة أما التعليل بهما او بأحدهما فهذه مسألة أصولية تحتاج إلى تقييد شرعي. ثانياً: قوله لم يشترط فيها الظهور والانضباط كما شرط الأصوليون، يريد الكاتب أن يقول أن الشاطبي لا يشترط الظهور والانضباط في التعليل بالحكمة وأن مذهبه هو مذهب القائلين بجواز التعليل بها مطلقاً، وعلل ذلك بقوله أنه لم يشترط لها شروطاً كما اشترطوا، وتابعه على هذا التفسير بعض الباحثين (¬1). وبعد بيان نظرة المؤلف ومن تابعه انتقل إلى بيان مذهب الشاطبي من كتابه الموافقات وقد حاولت ما استطعت استقراء المواضع التي تكلم فيها الشاطبي عن الحكمة لكي أتعرف على مذهبه دون الاقتصار على النص الذي نقله الشلبي. والمقصود من ذلك هو التأكيد على أن بعض الباحثين يتتبعون بعض نصوص الأئمة ويبنون عليها بعض آرائهم كما سيتبين لنا في هذا الموضع، وقد ذهب الكاتب إلى إطلاق المصلحة - وهي نوع من القياس - من ضوابطها، واستدل على ذلك بمجموعة نصوص لبعض الأئمة (¬2) منها هذا النص المنقول عن الإِمام الشاطبي، وقد خصصت له هذا الموضع لأنه مرتبط بالتعليل بالحكمة وسأبني عليه عند الحديث عن المصلحة ومناقشة موقف الكاتب منها ومن نصوص الأئمة وفتاواهم. وإليك الأن تحقيق مذهب الإِمام الشاطبي. ¬

_ (¬1) الشريعة الإِسلامية كمصدر للدستور ص 160. (¬2) سيأتي معنا إن شاء الله تعالى بيان موقف الكاتب من نصوص الأئمة والفتاوى المنقولة عنهم.

الفرع الرابع تحقيق مذهب الإمام الشاطبي في التعليل بالحكمة

الفرع الرابع تحقيق مذهب الإِمام الشاطبي في التعليل بالحكمة يرى الإِمام الشاطبي تسمية "العلة" - التي يعتبرها الأصوليون الوصف الظاهر المنضبط - سبباً، وعرفه "بأنه ما وضع شرعاً لحكم لحكمة يقتضيها ذلك الحكم" مثل السفر، فإنه سبب لمشروعية قصر الصلاة فيه. ويرى تسمية "الحكمة" - التي يعتبرها الأصوليون - المناسبة التي اشتمل عليها الوصف الظاهر المنضبط - بالعلة، وهي عنده الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر والإِباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي. فالسفر سبب في قصر الصلاة، والمشقة هي العلة التي شرع من أجلها القصر، وقال: "وقد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ولا مشاحة في الاصطلاح" (¬1). فالعلة هي الحكمة التي هي المصلحة أو المفسدة، والإِمام الشاطبي يرى أن المصلحة والمفسدة لا يمكن أن تستقل العقول بإدراكها: أولاً: لما تقرر أن العقل ليس بشارع، ولو أدرك المصلحة والمفسدة ولم يحتج إلى الأدلة الشرعية لكان مستقلاً في التشريع (¬2). ¬

_ (¬1) وتارة يطلق لفظ العلة على ما يسميه سبباً، فقد اعتبر الغضب في الحديث "لا يقضي القاضي وهو غضبان" تارة سبباً فقال: "فالغضب سبب وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة" الموافقات 1/ 179، وتارة أُطلق على الغضب في الحديث بأنه علة فقال:" .. نظر -أي المجتهد- إلى علة منع القضاء فرآه الغضب وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج .. " 1/ 132. وقد) شار الدكتور الربيعة إلى أن السبب عنده غير العلة والعلة غير السبب، وهذا إنما هو في الغالب، وإلا فهو يطلق على السبب علة كما مر آنفاً، وجواز إطلاق لفظ السبب على العلة موضع خلاف. (¬2) انظر المقدمة الثالثة، الموافقات 1/ 13، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند الحديث عن المصلحة إن شاء الله.

ثانياً: أن المصالح والمفاسد مضطربة وضابطها هو عدم مخالفتها للشريعة، فدفع المشقة مثلاً بالنسبة للمسافر وغيره "تختلف بالقوة والضعف، وبحسب الأحوال وبحسب قوة العزائم وضعفها، وبحسب الأزمان وبحسب الأعمال، فليس سفر الإنسان راكباً مسيرة يوم وليلة في رفقة مأمونة وأرض مأمونة وعلى بطء وفي زمن الشتاء وقصر الأيام، كالسفر على الضد من ذلك في الفطر والقصر، وكذلك الصبر على شدائد السفر ومشاقه يختلف .. وكذلك الصبر على الجوع والعطش .. وكذلك المريض بالنسبة إلى الصوم والصلاة والجهاد وغيرها، واذا كان كذلك فليس للمشقة المعتبرة في التخفيفات ضابط مخصوص ولا حد محدود يطرد في جميع الناس، ولذلك أقام الشرع في جملة منها السبب مقام العلة .. فاعتبر السفر لأنه أقرب مظان وجود المشقة ... " (¬1). فالعبرة بالمظنة إذا لا بمجرد الحكمة. ثالثاً: صرح الشاطبي في موضع آخر بأن "المصالح في التكليف ظهر لنا من الشارع أنها على ضربين". (أ) "ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإِجماع والنص والإِشارة والسبر والمناسبة وغيرها، وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول إن شرعية الأحكام لأجله" (¬2). (ب) "ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بتلك المسالك المعهودة ولا يطلع عليه الا بالوحي، كالأحكام التي أخبر الشارع فيها أنها أسباب للخصب والسعة وقيام أبهة الإِسلام" - وضرب أمثلة أخرى - وقال: "وإذا كان معلوماً من الشريعة في مواطن كثيرة أن ثم مصالح أخرى غير ما يدرك المكلف لا يقدر على استنباطها ولا على التعدية بها في محل آخر، إذ لا يعرف كون المحل الآخر ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 213 - 214. (¬2) المصدر السابق 2/ 130، وانظر 1/ 292، حيث قال: " ... وتعرف العلة هنا بمسالكها في أصول الفقه".

-وهو الفرع - وجدت فيه تلك العلة البتة، لم يكن إلى اعتبارها في القياس سبيل فبقيت موقوفة على التعبد المحض، لأنه لم يظهر للأصل المعلل بها شبيه إلا ما دخل تحت الإِطلاق أو العموم المعلل، وإذ ذاك يكون أخذ الحكم المعلل بها متعبداً به، ومعنى التعبد به الوقوف عند ما حد الشارع فيه من غير زيادة ولا نقصان" (¬1). ومقصود الشاطبي ظاهر من هذه النقول، وأذكر هنا مثالين تزيد المقصود وضوحاً: الأول - قصر الصلاة في السفر للملك المترفه: قرر المانعون للتعليل بالحكمة أن الشارع ربط الحكم وهو قصر الصلاة بالسفر وهو علة عندهم، ولا يشترط تحقق الحكمة. والشاطبي - باصطلاحه الخاص - يذهب المذهب نفسه، فالسفر سبب وهو المظنة ولا عبرة بالحكمة التي هي المشقة لعدم انضباطها كما بين سابقاً، وأضيف هنا ما قاله في موضع آخر: من أن المشقة بالنسبة للملك ممكنة، قال إن "انتفاء المشقة بالنسبة إلى الملك المترفه غير متحقق، بل الظن بوجودها غالباً، غير أن المشقة تختلف باختلاف الناس ولا تنضبط، فنصب الشارع المظنة موضع الحكمة ضبطاً للقوانين الشرعية" (¬2)، وهذا النص - مثل النصوص السابقة يدل على أن الشاطبي يشترط للتعليل بالحكمة اتباع المظنة، أما اتباعها بغير شروط فليس في كلامه ما يدل عليه. الثاني - مثال آخر: قال الشاطبي: " .. كما جعل -أي الشارع- التقاء الختانين ضابطاً لمسبباته المعلومة، وإن لم يكن الماء عنه لأنه مظنة، وجعل الاحتلام مظنة حصول العقل القابل للتكليف لأنه غير منضبط في نفسه إلى أشياء من ذلك كثيرة" (¬3). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 230. (¬2) المصدر السابق 1/ 173. (¬3) المصدر السابق 1/ 173.

فالسبب موجب لربط الحكم به سواء تحققت الحكمة أم لم تتحقق واسمع إليه يقول جواباً عن اعتراض أورد عليه، قال: "إن العامل -أي المتعاطي للسبب - قد تعاطى السبب الذي تنشأ عنه المفسدة أو تفوت به المصلحة وهو الشرب والإِيلاج المحرمان في نفس الأمر، وهما مظنتان للاختلاط وذهاب العقل، ولم يضع الشارع الحد بإزاء زوال العقل أو اختلاط الأنساب، بل بإزاء تعاطي أسبابه خاصة .. فالمولج والشارب قد تعاطيا السبب على كماله فلا بد من إيقاع مسببه وهو الحد، وكذلك سائر ما جرى هذا المجرى مما عُمل فيه بالسبب لكنه أعقم" (¬1). فالشريعة وضعت الحكم بإزاء السبب ولم تضعه بإزاء الحكمة، وذلك لأن السبب هو المظنة المنضبطة، والحكمة - وهي المصلحة أو المفسدة - تختلف مقاديرها باختلاف الأشخاص والأحوال ... فإن أمكن معرفتها وربطها بمظنة منضبطة فما الحكم عند الإِمام الشاطبي: فالجواب: أن الأحكام عنده قسمان: الأول: ما غلب عليه جهة التعبد. الثاني: ما غلب عليه جهة الالتفات إلى المعاني. فبالنسبة للأول قال الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ-: " .. علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد وفي باب العاديات جهة الالتفات إلى المعاني والعكس في البابين قليل .. " (¬2). ثم قال: "وإذا ثبت هذا فمسلك النفي متمكن في العبادات وهو العمدة" (¬3) أي فلا نتعدى بالحكم محالها. أما بالنسبة للثاني فقد قال: إذا كانت العلة معلومة منضبطة "وتعرف العلة ¬

_ (¬1) 2/ 249 - 250. (¬2) 2/ 293. (¬3) 2/ 293.

هنا بمسالكها المعلومة في أصول الفقه فإذا تعينت علم أن مقصود الشارع ما اقتضته تلك العلل من الفعل أو عدمه، ومن التسبب أو عدمه، وإن كانت غير معلومة فلابد من التوقف عن القطع على الشارع أنه قصد كذا وكذا، إلّا أن التوقف هنا له وجهان من النظر" (¬1). الوجه الأول: "أن لا نتعدى المنصوص عليه في ذلك الحكم المعين أو السبب المعين، لأن التعدي مع الجهل بالعلة تحكم من غير دليل، وضلال على غير سبيل .. فالتوقف هنا لعدم الدليل". الوجه الثاني: "أن الأصل في الأحكام الموضوعة شرعاً أن لا يتعدى بها محالها حتى يعرف قصد الشارع لذلك التعدي، لأن عدم نصبه دليلًا على التعدي دليل على عدم التعدي، إذْ لو كان عند الشارع متعدياً لنصب عليه دليلاً ووضع له مسلكاً، ومسالك العلة معروفة ... " (¬2). فهذان الوجهان كلاهما متجه، والأول: يقتضي التوقف من غير جزم بأن التعدي غير مراد، ويقتضي إمكان أنه مراد فيبقى الأمر في قصد الشارع له بالنسبة للمجتهد محتملاً. والثاني: يقتضي الجزم بنفي التعدي من غير توقف ويحكم علماً أو ظناً بأنه غير مقصود للشارع. فإذا كان هذان الوجهان متجهين صار عمل المجتهد معهما كعمله عند تعارض الدليلين، والاحتياط هنا أولى (¬3). وصرح الشاطبي بمثل هذا في موضع آخر فقال: " ... فعلى هذا إذا ¬

_ (¬1) 2/ 291. (¬2) 2/ 292. (¬3) 2/ 292، ولأن التعارض يتفاوت باعتبار المسائل والمجتهدين والأوقات بالنسبة للمجتهد الواحد.

كانت العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه، وكثير ما يرجع هنا إلى أصل الاحتياط فإنه ثابت معتبر" (¬1). ومن الأمثلة التي تنضبط فيها الحكمة: قوله - عليه السلام - "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬2). فإذا "نظر -أي المجتهد- إلى علة منع القضاء فرآها الغضب وحكمته تشويش الذهن عن استيفاء الحجاج بين الخصوم، فألحق بالغضب الجوع والشبع المفرطين والوجع وغير ذلك مما فيه تشويش الذهن" (¬3). والتعدية هنا بالحكمة بالمظنة المنضبطة التي عُلمت في الفرع، وهذا معنى قوله: "إذا كانت العلة غير منضبطة ولم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه" فالشرط إذًا في التعليل بالحكمة أن يكون لها مظنة منضبطة وإلّا فالمحل محل اشتباه الاحتياط فيه معتبر. والحاصل أن مذهب الإِمام الشاطبي يتضمن أموراً: الأول: أن ما يسميه الأصوليون علة يسميه سبباً، وأن ما يسميه الأصوليون حكمة يسميه علة. الثاني: أن الحكم -وهي المصالح والمفاسد- مختلفة المقادير ومتفاوتة والمعول عليه في إدراكها هوما عول عليه الشرع من اعتبار المظنة المنضبطة. الثالث: أن من الحكم والمصالح التي تدخل تحت التعليل العام المطلق ما لا يصح ربط الحكم بها، لأنه لا يُعرف أن "الفرع" متضمن لها فلا يتعهد بها موضعها، ومقصود الشارع حينئذ الوقوف عندما حده من غير زيادة ولا نقصان. الرابع: أن مسلك نفي التعدي متمكن في العبادات. ¬

_ (¬1) 1/ 235. (¬2) أخرجه البخاري عن أبي بكرة أنه قال: " .. سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان" كتاب الأحكام، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 136. (¬3) 1/ 132.

الخامس: أن التوقف والاحتياط متمكن في العادات لأن العلة إذا لم يوجد لها مظنة منضبطة فالمحل محل اشتباه. وبعد: فهذا هو مذهب الإِمام الشاطبي، وتعلق الشلبي وغيره بنص واحد من الموافقات لا يفيده شيئاً فيما قاله ونسبه إلى الشاطبي (¬1)، لأن النص الذي نقله ليس فيه إلا أن الشاطبي يعتبر العلة "هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها لا مظنتها كانت ظاهرة أو غير ظاهرة منضبطة أو غير منضبطة، وكذلك نقول في قوله - عليه الصلاة والسلام - "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فالغضب سبب وتشويش الخاطر عن استيفاء الحجج هو العلة، على أنه قد يطلق هنا لفظ السبب على نفس العلة لارتباط ما بينهما ولا مشاحة في الاصطلاح" (¬2). فإذا أردنا أن نأخذ من هذا النص أن الشاطبي يسمي الحكمة سواء انضبطت أو لم تنضبط "علة" فنعم، أما إن أردنا أن نقول أنه لا يشترط في التعليل بالحكمة كما اشترط بعض الأصوليين فذلك لا يدل النص عليه. فقول الدكتور شلبي: "فعلى الجملة العلة هي المصلحة نفسها والمفسدة نفسها ولم يشترط فيها الظهور والانضباط كما اشترطوا" غير مستقيم، لأن النص لا يفيد أن الشاطبي يعلل بمطلق الحكمة، ومعرفة مذهبه تكون بدراسة موقفه: ¬

_ (¬1) يعتمد بعض الدارسين في نسبة الآراء إلى الأئمة على النظر الأول في نصوصهم دون جمعها ومقابلة بعضها ببعض والنظر فيها وتحقيق معانيها حتى يعرف قصد صاحبها، وهذا النظر الأول يشبه في خطورته تعامل الفرق الضالة مع نصوص الشرع بالنظر الأول. ويتعلق هؤلاء الدارسين بنص واحد من أقوال الأئمة - عامها وخاصها مجملها ومفصلها محكمها ومتشابهها، مطلقها ومقيدها - وعادة يتعلقون بالمطلق والمتشابه والمجمل والعام، ويغفلون عما سوى ذلك، وفي هذا تكمن خطورة هذا المسلك، تماماً كما صنعت الفرق الضالة فإنها تعلقت بالعام دون الخاص، والمجمل دون المفصل والمتشابه دون المحكم والمطلق دون المقيد ولذلك نسبت إلى الشريعة ما ليس منها. الموافقات 4/ 114 - 115 - 116 - 117. (¬2) انظر ما سبق ص 395.

الفرع الخامس بيان أثر ذلك على الثبات والشمول

1 - من شروط التعليل بالحكمة وهل يشترط انضباط المظنة أم لا؟ 2 - من شرطه في اعتبار المصلحة دليلًا شرعيًا. وقد تبين من مجموع نصوصه أن موقفه من التعليل بالحكمة غير ما فهمه الشلبي وأما المصلحة فسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله .. فالحاصل أن التعليل بالحكمة مشروط بانضباط المظنة, فإذا انضبطت المظنة هنا كما انضبطت في ربط الشارع القصر بالسفر, والحد بالإيلاج أو شرب المسكر فيجوز حينئذ التعليل بها. الفرع الخامس بيان أثر ذلك على الثبات والشمول إن الشمول يتحقق لنا في الأحكام القياسية لأنا لم نقتصر على ربط الحكم بالعلة فقط, ولكن ربطناه بالحكمة بشرطها المذكور, وهذا يجعل أداة القياس أقدر على تحقيق الشمول من مجرد ربطه بالوصف الظاهر وهنا ينبغي أن نأخذ بالعدل ونلاحظ عدم الاضطراب والاختلاف حتى لا نقع فيه, فإذا خرجت الحكمة عن الانضباط لم يمكن ربط الحكم بها حينئذ لأنها تؤدي إلى اختلاف الحكم واضطرابه وهو ينافي الثبات. ولذلك لا بد من ملاحظة الثبات والشمول في آن واحد فلا نعلل بمطلق الحكمة .. ولا نمنع التعليل بها إذا انضبطت, وقد تبين من خلال تلك الدراسة والمناقشة أن مذهب المفصلين هو الصواب وأن مذهب الشاطبي تبع لمذهب المفصلين. ونحن في هذا وذاك نعمل "الأصل" الثابت ونحافظ عليه, وأما إعماله والاستفادة منه فيكون بنقل حكمه إلى "الفرع" الذي عملنا مشابهته للأصل إما عن طريق "العلة" أو "الحكمة" بشرطها, وهنا نكون قد حققنا الاجتهاد وأدركنا شمولية الشريعة عن طريق أداة القياس, وهي إلحاق الفرع بالأصل .. وجميع العادات والأحوال التي تمر بها البشرية متشابهة ولذلك تكاد تكون

محصورة من حيث إمكان تحديد أوجه الشبه بينها -حتى وإن لم يكن حصرها من حيث كونها جزئيات ووقائع- وإذا لحظنا المشابهة وهي أمر مسلم به لأن أفراد البشر يشتركون في طبيعة الإِنسان عقلاً وروحاً وجسدًا، ويشتركون في تفاعلهم مع هذا الكون من حولهم، ويتتابع عليهم -في الجملة- الليل والنهار والشمس والقمر وفصول السنة، ويقع عليهم تشابه كبير في متاجرهم ومصانعهم وفي تعاملهم مع غيرهم، وترد عليهم الأمراض المتشابهة، والأحزان المتماثلة، وأفراحهم متقاربة، نعم يختلفون بعد ذلك في المنهج الذي يلتزمون به .. ويبقى بعد ذلك وقوع التشابه في ذلك كله في الجملة، وهذا يعني أن جميع الوقائع والأحوال تأخذ من التشابه فيما يتصل من الأحداث والوقائع بحياة البشر في جميع تلك الأمور -وإن لم يمكن حصرها من حيث الجزئيات- إلّا أنه يمكن حصرها من حيث التشابه وهذا هو المقصود، فإذا كانت محصورة -وهي كذلك- أمكن ربط المتشابهات والمتماثلات بالأصل الشرعي المشابه لها، فتضيق تلك الدائرة التي يُظن أنها لا تنحصر أبداً لتصبح هي في ذاتها محصورة وذلك على مرحلتين: الأولى: أن وقائع البشرية وأحداثها ترجع إلى طبيعتها المتشابهة في جميع أقطار الأرض، فهي على سعتها تضيق حتى يمكن جمع أطرافها وجزئياتها عن طريق رد المتماثلات إلى بعضها البعض، فإذا هي وقائع وأحداث يمكن حصرها. الثانية: أخذ هذه الوقائع والأحداث وربطها بالأصول الشرعية كل حسب ما يشبهه. ويتحقق لنا هذا الشمول ونحن محافظون على الثبات لأننا لم نعمل الأصل ونستفد منه بغير ضابط، بل لاحظنا الضابط الشرعي وحددناه من خلال التعرف على موقف الشرع منه، فوجدنا أن اتباع العلة والحكمة بشرطها هو الضابط فتمسكنا به، ولم نتعده إلى التعليل بمطلق الحكمة، والضوابط هي أداة الثبات كما يتبين ذلك من خلال موضوعات البحث جميعها، فأداة القياس الشرعي على الصورة التي قدمناها وهي الوسط بين مسلك المتوسعين والمانعين

-مع ما ذكرناه في التعليل بالحكمة- تجمع بين المحافظة على الثبات والشمول في آن واحد، وهذه الطريقة تجمع بين خصوصيات الألفاظ واعتبار معانيها منفردةً ومجتمعةً فلا هي تقف عند خصوصيات الألفاظ، وتجمد عليها وتهمل اعتبار المعاني - ومن صنع ذلك لم يدرك شمول الأحكام القياسية ولم يستفد من مدلول النص الاستفادة المطلوبة، ولم يسهل عليه حصر الوقائع في أشباه متقاربة وإدخالها تحت أحكامها الشرعية عن طريق حمل "الفرع" على "الأصل" وعسر عليه الخروج عن التناقض والاضطراب ووقع في الحرج - ولا هي تتبع المعاني معرضة عن الالتفات إلى خصوصيات الألفاظ فإن ذلك يوجب رفع الضوابط الشرعية، لأنها لا تعرف من تتبع المعاني وحدها، بل تعرف من مجموع خصوصيات الألفاظ، واعتبار المعاني، فإذا اعتبرنا المعاني الشرعية فإن هذا الاعتبار وإن كان مطلوبًا إلّا أن تحديده ومعرفة مداه لا بد له من ضابط يحفظه من اتباع مجرد الحكم والأوصاف الملغية والمعاني التي يظنها الناس مصالح وهي في حقيقتها مفاسد، والضابط في الحقيقة هو خصوصيات الألفاظ، فإذا علمنا أن مايظنه المجتهد معنى شرعياً - يخالف نصاً شرعياً حكمنا عليه حينئذ بأنه ليس من المعاني الشرعية التي يعمل بها، فخصوصيات الألفاظ ركن ركين يجب اعتباره فهي الشاهد بالصحة والسلامة أو بالفساد على اجتهاد المجتهد، فقد يظن أن هذا الأمر مصلحة - إذا تتبع المعاني الشرعية كما يفهمها - وهنا تحتمل صحة اجتهاده أو خطأه، فإذا رجعنا إلى خصوصيات الألفاظ فلم نر تصادمًا بينها وبين اجتهاده علمنا أن تتبعه للمعاني معتبر شرعاً، فالقياس هو العمل بمجموع الأمرين معاً، "الأصل ثابت الحكم" و"العلة" ثابتة والحكمة المعتبرة في معناها، وخصوصيات الألفاظ معتبرة والمعاني متبعة، فيوصل المجتهد مقصد الشارع إلى "الفرع" في صورة حكم محدد، فالمعاني مادة تصل بين الفرع والأصل، وخصوصيات الألفاظ مصدر وشاهد، منه يستقي المجتهد وعليه يصحح اجتهاده فإن عاد اجتهاده على الأصل بالإِبطال فاجتهاده باطل، وكذلك "الإِجماع" يعتبر أصلًا وهوفي حكم "النص" لا بد من المحافظة عليه، لأن الإِجماع لايكون إلّا عن نص -كما سيأتي في باب الإِجماع- فهو معصوم كما أن النص معصوم، فكما يكون النص مادة القياس تكون ثمرته التي هي الحكم المجمع عليه كذلك،

المطلب الثالث القياس منهج شرعي لا مسلك عقلي

وهذه المادة لا بد من المحافظة عليها تمامًا كما نحافظ على خصوصيات الألفاظ لأنها مصدر وشاهد، فما خالفها من القياس فهو باطل. ومن هنا تأتي خطورة الجمود على خصوصيات الألفاظ، أو الإِغراق في اتباع المعاني وإهمال خصوصيات الألفاظ، ولذلك قررت طريقة ابن القيم والشاطبي لأنها تمثل الوسط والعدل في إعمال القياس الشرعي، كما عمل به الصحابة - رضوان الله عليهم - (¬1). وننتقل إلى معنى آخر مهم جداً ألا وهو الأمر الثاني وهو: هل القياس مسلك عقلي أم منهج شرعي؟ المطلب الثالث القياس منهج شرعي لا مسلك عقلي ومعنى ذلك أن القياس أداة شرعية محكومة بالضوابط الشرعية فلا يتصور أبداً أن تخرج عنها إلّا إذا رُفعت عنه صفة "الشرعية" وحينئذ لا تلزمنا نتيجته. أما إذا كان مسلكًا عقلياً فمعنى ذلك أنه حاكم على الشرع ويأخذ صلاحيته من صلاحية النظر العقلي، فإذا حكم العقل بشيء أصبح حكمه حجة وما يعارضه -وإن كان من الشرع- لا عبرة به، فإذا كان القياس مسلكاً عقلياً فقد خرج حينئذ عن الالتزام بضوابط الشرع لأنه حجة مستقلة بنفسه، هو فيها حاكم ورائد، فإذا كان الأول أخذناه المأخذ الذي حددنا سماته في أول الباب وعرفنا ضوابطه وكيف يتحقق من خلالها الشمول والثبات، وهو لا يأتي حينئذ إلّا بخير، لأن قاعدة المنهج الشرعي هي الإِعجاز كما بيناه سابقًا، وهذا الإِعجاز من سمته الثبات والشمول وهو متحقق في باب القياس، فالنصوص يستفاد منها في تتبع معانيها ويكون منها المصدر والشاهد في الوقت نفسه ويستمر هذا الاستثمار ولا ينقطع أبداً، كل ما جاء جيل من أجيال البشرية - وهو مهتد ¬

_ (¬1) هناك أئمة كثيرون يمثلون منهج الوسط في العمل بالقياس بين المانعين والمتوسعين، وقد اقتصرت على ذكر ما قاله ابن القيم والشاطبي للأسباب المذكورة سابقاً. انظر ما سبق ص 375.

بأحكام هذه الشريعة - وجد له علماؤه المجتهدون فيها ما يحتاج إليه من الأحكام فيتجدد الاستنباط مع المحافظة على "الأصل"، وهو المصدر والشاهد على سلامة ذلك الاستنباط، ولا يمكن "للعقل" أن يقوم بهذه المهمة، لأنها في حقيقتها هي عبارة عن إنزال الوحي - الذي هو مجموع النصوص - والنص الواحد هو عبارة عن "الأصل" الذي هو أحد أركان القياس، وهذا الوحي متضمن لمعاني وحكم مناسبة منضبطة منصوص عليها أو متضمنة فيه وهي ما يطلق عليها العلل والحكم، وهذه هي مادة القياس، فمن يستطيع أن يقوم بهذه المهمة وهي إنشاء "الأصل" المتضمن للعلل والحكم إلّا الشارع الحكيم؟ ولهذا كان القياس منهجاً شرعياً لا مسلكاً عقلياً، أي أنه لا يُبنى على حكم العقل، وإنما يُبنى على حكم الشرع، وحينئذ يتحقق فيه الثبات والشمول على ما بيناه سابقاً، ويسلم من ضد ذلك، إذ لو كان عقلياً لوقع في الاختلاف والاضطراب والقصور. بقي أن نفسر عمل المجتهد في نقل الحكم من الأصل إلى الفرع وهو عمل بشري أداته العقل، فكيف والحال كذلك يكون القياس منهجًا شرعياً، ونذكر جواب الإِمام الشاطبي في هذا الموضع ثم نبني عليه، وحاصله: أن القياس نظر في أمر شرعي، مأخوذ من الأدلة الشرعية يُبنى عليها ويُضبط بها، فإذا ألحقنا المسكوت عن حكمه وهو "الفرع" بالمنصوص عليه وهو "الأصل" فإن العقل لا دخل له في إنشاء حكم الأصل الذي هو المنصوص عليه، ولا في حكم "الفرع" الذي هو المسكوت عنه، فإن الأول عُلم بالنص وهو من عند الله سبحانه، والثاني عُلم بعد أن تتبع المجتهد علة الحكم فوجدها في "الفرع" فَنَقَل الحكم إليه التزامًا بأمر الشارع حيث طلب منه أن يسوي بين "الفرع" و"الأصل" في الحكم إذا استويا في العلة، والعقل لم يُنشئ الحكم في النص، ولم يحكم بوجوب إلحاقه بالفرع، وهذا معنى قولنا القياس منهج شرعي، لا عقلي، فهو وإن كان فيه جهد عقلي إلّا أنه كما يقول أبو إسحاق الشاطبي: "مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجري ما أجرته ويقف حيث وقفته" (¬1). ¬

_ (¬1) الموافقات 1/ 88 - 89.

وإليك شرح هذه العبارة وذلك بمراجعة أركان القياس: "الأصل" و"الفرع" و"حكم الأصل" و"العلة"، أما الأصل وحكمه وعلته فهو عبارة عن "النص ومعناه" وهذا من وضع الشارع لا دخل للعقل فيه البتة. وأما "الفرع" فوجوب تعدية الحكم إليه إن كان محلًا له أمر شرعي أيضاً لا حكم عقلي. فالشارع أنزل أصلاً وحكماً وضمنه علة أو نص عليها وأمر بنقل الحكم اذا وُجِدتْ تلك العلة في موضع آخر، والمجتهد يبذل جهده - وهو مهتد بهذه الأوامر الشرعية فيجري حيث أجرته ويقف حيث وقفته، فإذا أمرته بتعدية الحكم تبين علته وحددها واستنبطها من النص إن لم يكن منصوصاً عليها ثم ينظر بجهده العقلي في الفرع ليتحقق من كونه محلًا للحكم، فإن وجده كذلك نقل الحكم إليه وهذا النقل استجاب فيه لحكم الشرع، وإن لم يجده كذلك قصر الحكم على الأصل ولم ينقله وهو مستجيب في ذلك لحكم الشرع أيضاً، فيجري حيث أجراه ويقف حيث أوقفه. فالسلطان إذاً للشرع في إنزال النص ومعناه، وفي الأمر بالتعدية، وهو الذي يُجري عقل المجتهد أو يوقفه حسب أوامره وضوابطه، وهذا معنى قولنا أن العقل ليس بشارع وإنما يسرح حيث سرحه المشرع ويقف حيث أوقفه (¬1)، وإذا كان منهج القياس منهجاً شرعياً لا عقلياً تحقق ما قدمناه آنفاً من أن هذا المنهج معجز يجمع بين الثبات والشمول، والعقل - وطبيعته القصور والضعف - لا حكم له في عملية القياس لأنه غير مستقل بل هو محل للعبودية محكوم بحكم الشرع يسرح حيث يسرحه ويقف حيث يوقفه، تماماً كما يدرك القافة شبهًا بين غلام ورجل فتحكم أنه منه وينسب إليه، فإنها تعمل بأمر الشرع وإدراكها لوجود الشبه لا يعني أنها أنشأته في الأول أو الثاني، وترتب الحكم لم يكن شرعياً لو لم يأمر الشرع بتعديته. ¬

_ (¬1) سيأتي زيادة بيان لهذه القضية عند الحديث عن المصلحة إن شاء الله.

فكذلك إدراك الشبه بين "الأصل" و"الفرع" وإن كان أداته العقل إلّا أنه لم ينشئه ولم يرتب حكماً ولا يمكنه ذلك لو لم يأمر الشرع به. فإذا عزل تصرف العقل عن ذلك كله استقر الحكم الشرعي وسلم من نناقضات العقول وضعفها، وكان لزاماً على العقل أن يتعبد بأحكام الشريعة، وهو مما شُرف الإنسان به، فإن لم يخضع أحسن ما في الإنسان كيف تتحقق العبودية إذاً (¬1)، وبهذا يتحقق الإِعجاز - على ما قدمنا - من خلال منهج شرعي متوازن، ويُعزل عنه المسلك العقلي وجميع سلبياته لتستقر قاعدة الثبات والشمول في توازن واتساق والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) ولذلك كان مما ينافي صحة العبودية أن يقدم العبد بين يدي الشريعة فيقول كيف؟ ولم؟ ولكن يجب عليه أن يقول بمقتضى إيمانه بأن الله هو الموصوف بجميع صفات الكمال الذي حكمه العدل والحق: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} البقرة 285. أما فائدة وجود بعض الحكم الظاهرة في الأدلة الشرعية فهي معرفتها لكي يقيس المجتهد عليها ... ثم يقول المؤمنون بعد ذلك وقبل ذلك {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} لكل حكم من الأحكام حتى وإن لم يدركوا الحكمة منه.

الفصل الرابع المصلحة وقضية الثبات والشمول

الفصل الرابع المصلحة وقضية الثبات والشمول توطئة: تقرر فيما سبق أن الشريعة جاءت لتعطي كل حادثة وواقعة حكماً، فهي موضوعة على نحو يحقق هذه الغاية وهذا هو الإِعجاز التشريعي، الذي لا ينقطع أبداً. وأبرز مظاهر هذا الإِعجاز - كما سبق - هي العموم سواء كان العموم اللفظي أو العموم المعنوي، ويدخل تحت كل منهما من الحوادث ما لا حصر له إلى يوم القيامة .. ، وإذا لم تدخل الواقعة تحت العموميين اللفظي أو المعنوي .. دخلت تحت القياس الشرعي، ذلك أن النص المعجز مشتمل على معنى مناسب يصلح أن يحمل عليه غيره، إما عن طريق القياس الشرعي الذي هو مساواة فرع لأصله في علة الحكم، وإما عن طريق اتباع المصالح المرسلة التي شهد الشرع لنوعها أو لجنسها، سواء بالاستناد إلى أصل معين أو أصل كلي. وقد تحدثت عن العموم المعنوي والعموم اللفظي والقياس الشرعي في الفصول السابقة، وهذا الفصل يختص بدراسة المصلحة وقضية الشمول والثبات. وسأقدم لصلة المصلحة بالشمول والثبات بأمرين مهمين: الأمر الأول: بيان تعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه. الأمر الثاني: بيان أن العقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد.

ثم أبين كيفية تحقق الشمول من العمل بالمصلحة الشرعية، وأضع لذلك بعض التطبيقات، لكي يتصور القارئ أن هناك وقائع لم يكن لتدخل تحت العموم ولا القياس العادي فدخلت تحت المصلحة الشرعية. ثم أبين كيفية تحقق الثبات مع القول باتباع المصلحة الشرعية، وأناقش الآراء المخالفة التي تذهب إلى تغيير الحكم - في المعاملات والنظام الاجتماعي - بتغيّر مصلحته. وأشير في هذا الموضع إلى أن البحث في المصلحة إنما هو مكمل لما كتبه الباحثون في المصلحة، والمعتدلون منهم قليل، فإن كثيراً منهم قد سعى إلى تغيير الأحكام بدعوى المصلحة ولذلك سأهتم كثيراً بهذا الجانب لأنه يحتاج إلى زيادة تصحيح وبيان والله المستعان.

المبحث الأول تعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه

المبحث الأول تعريف المصلحة والتأكيد على الضوابط الشرعية فيه تعريف المصلحة: المصلحة في اللغة: الصلاح ضد الفساد والمصلحة: الصلاح هي واحدة المصالح، والاستصلاح نقيض الاستفساد (¬1). "وأصلح أتى بالصلاح وهو الخير والصواب، وفي الأمر مصلحة أي خير والجمع المصالح ... " (¬2). المصلحة في الشرع: لها تعريفات كثيرة، أقتصر هنا على ذكر بعض منها: وقد ذكر الباحثون المحدثون في "المصلحة" هذه التعريفات، وغرضي هنا الإشارة إليها - لتجلية معنى المصلحة - من جانب وللإِشارة لتعريف الإِمام الشاطبي للمصلحة والتنبيه عليه وبيان أهميته .. وقد ذكر الغزالي والطوفي (¬3) وغيرهما تعريفات للمصلحة كل بحسب نظره ¬

_ (¬1) لسان العرب - مادة "صلح". (¬2) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مادة "صلح". (¬3) وهو"سليمان بن عبد القوي الطوفي" قال عنه ابن رجب في طبقاته: " ... وكان شيعياً منحرفاً عن السنّة" ذيل طبقات الحنابلة 2/ 366، 377، وشذرات الذهب 6/ 239، وانظر ما يؤكد ذلك فيما حققه الدكتور البوطي في كتابه ضوابط المصلحة هامش 202 - 206. الطبعة الرابعة 1402 هـ مؤسسة الرسالة، وانظر هامش 529 من كتاب نظرية المصلحة.

للمعنى الشرعي، ومن المحدثين صاحب رسالة ضوابط المصلحة وصاحب رسالة تعليل الأحكام. وأقتصر هنا على ذكر هذه التعريفات وأعقب بما لاحظه أستاذي الدكتور حسين حامد - موافقاً على ذلك ومؤيداً له - ثم أنبه على تعريف الإِمام الشاطبي، وأهميته. 1 - عرف الغزالي المصلحة فقال: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أودفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكننا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشرع" (¬1). ويقصد بمقصود الشرع محافظته على الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فكل ما حفظها فهو مصلحة، وكل ما فوت شيء منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة. وظاهر من تعريف الغزالي أن ما شهد الشارع برده فليس مصلحة وإن قال الناس أنه مصلحة دنيوية. 2 - عرفها الطوفي بأنها، هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة ... " (¬2). ويرى أستاذي الدكتور حسين حامد حسان أن الطوفي بهذا التعريف لا يعتبر الشروط الشرعية للمصلحة، ولا يقسمها بعد ذلك - كما قسمها الغزالي وغيره - إلى معتبرة وملغية - بل لا يشترط إلّا أن تؤدي إلى مقصود الشارع (¬3). فقال: "والنقطة الهامة التي يجب التنبيه عليها في هذا المقام هو أن الطوفي ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 286. (¬2) المستصفى 1/ 286. (¬3) انظر شرحه لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وهو موجود في ملحق كتاب "المصلحة في الشريعة الإِسلامية" للدكتور مصطفى زيد 211.

يعرف المصلحة كدليلِ شرعي في حين أن الغزالي يعرف مطلق المصلحة الشرعية ثم يشترط فيها شروطًا بعد ذلك حتى يجوز الاعتماد عليها بمفردها كدليل شرعي على حكم الوقائع غير المنصوص عليها" (¬1). وأزيد الفرق وضوحاً فأقول: إن الغزالي لا يرى تحقق المصلحة المعتبرة في خلاف مقصود الشارع، فلا بد من شهادة الشرع لها بعدم المعارضة حتى نعلم أن هذه المصلحة محافظة على مقصوده، بخلاف الطوفي فإنه يرى أن وجود النص الشرعي أو الإِجماع - المخالف للمصلحة - في نظره - لا يدل على عدم اعتبارها، وعلى مخالفتها لمقصد الشارع، بل يرى تخصيص النص والإِجماع بها (¬2). 3 - عرفها صاحب ضوابط المصلحة، فقال: "المصلحة فيما اصطلح عليه علماء الشريعة يمكن أن تعرف بما يلي: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها والمنفعة هي اللذة، أوما كان وسيلة إليها ودفع الألم أو ما كان وسيلة إليه" (¬3). واشترط عدم مخالفة هذه المصلحة للنص ليخرج الملغاة، واشترط أيضًا عدم مخالفتها للقياس أو لمصلحة أهم منها (¬4). ويلاحظ الدكتور حسين حامد أنه لم يشترط في المصلحة أخص من مطلق الناسبة العامة، والمقصود أن المصلحة قد تدخل تحت المقاصد العامة، وقد تدخل تحت جنس اعتبره الشارع في الجملة دون أن يثبت عن طريق نص معين، أو تدخل تحت أصل شرعي ثبت بالاستقراء من نصوص متوافرة. ¬

_ (¬1) نظرية المصلحة 10 - 11. وانظر إسقاط مسلك الطوفي من 529 إلى 568. (¬2) انظر نظرية المصلحة 14. (¬3) ضوابط المصلحة 23. (¬4) المصدر السابق 115 وما بعدها.

ومن هنا فإنه يخالف الطوفي ويشترط لحجية المصلحة المرسلة عدم معارضة النص أو القياس المعتمد على الأصل المعين (¬1). وبعد الإشارة إلى هذه التعريفات ومعرفة الفوارق بينها، أذكر هنا ما أشار اليه الدكتور حسين حامد حسان من أن بعض المحدثين لم يعرفوا المصلحة لأنها عندهم من "الظهور والوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعريف" (¬2). واكتفى الدكتور الشلبي بسرد تعريفات الغزالي والطوفي، وبذكر المعنى اللغوي المجازي والحقيقي فقال: "فهذه العبارات وغيرها تفيد أن المصلحة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين تطلق بإطلاقين: الأول مجازي، وهو سبب الوصول للنفع، والثاني حقيقي، وهو نفس المسبب الذي يترتب على الفعل من خير ومنفعة ويعبر عنه باللذة أو النفع أو الخير أو الحسنة" (¬3). وهذا المسلك - الذي سلكه الدكتور الشلبي في رسالته تعليل الأحكام وهو السرد لأقوال العلماء دون التحقيق فيها مسلك ظاهر في مواضع كثيرة من رسالته (¬4). ومنها هذا الموضع، ومع أن أستاذي الدكتور حسين حامد قد أحسن في بيان الفوارق بين التعريفات السابقة - وميّز للقارئ بين تعريف الغزالي والطوفي وبين موقف الطوفي والشلبي من جهة أخرى، كما ستأتي الإِشارة إلى ذلك - إلا أن موقف الدكتور شلبي هذا يحتاج إلى زيادة مناقشة في هذا الموضع، فإنه انصرف هنا عن بيان شروط العمل بالمصلحة الشرعية سواء في تعريفها أو عند الاستدلال عليها. فعند تعريفها انصرف عن المعنى الشرعي - ومن المعلوم أن النظر في هذه المصطلحات - أمثال القياس أو المصلحة أو الإِجماع - وغيره من المصطلحات ¬

_ (¬1) نظرية المصلحة 13 - 14. (¬2) انظر رسالة المصلحة في التشريع الإِسلامي 19. (¬3) تعليل الأحكام 279. (¬4) وسيأتي بمشيئة الله زيادة بيان لهذا حين تفصيل الكلام عن المصلحة وأثرها على ثبات الحكم. وانظر ما سبقت مناقشته فيه ص 395.

نظر شرعي، ولا يكتفي فيها بالنظر اللغوي ولا يستقيم إطلاقها من غير ضابط شرعي أيضاً، ودعوى وضوحها لا تصلح لإبعاد النظر الشرعي عنها وتحديد الضوابط، ولو كانت المصلحة ظاهرة معلومة لا تحتاج إلى ضابط أو تعريف فلماذا اختلفت فيها الأنظار سواء أنظار العامة أو العلماء، وهذا الطوفي يخصص بها النص والإجماع - مخالفاً في ذلك إجماع أهل العلم - وهذا الشلبي نفسه يذهب إلى تقديم المصلحة المتغيرة على النص والإِجماع. ولهذا فإن المحققين من الأصوليين - أمثال الغزالي والشاطبي - يشترطون شروطاً شرعية للعمل بالمصلحة وتابعهما الدكتور حسين حامد حسان وذكر أن المصلحة التي تدخل تحت مقاصد الشارع العامة يشترط لها أحد أمرين: إما أن يثبت الشارع حكماً على وفقها .. وإما أن تكون ملائمة لجنس تصرفات الشارع. وبهذا النظر الشرعي لا يتصور أن يترك نص بمصلحة قط، وأما إذا قيل أن المصلحة ظاهرة لا تحتاج إلى تعريف، أو وقفنا عند المعني اللغوي - فإن حاصل هذا النظر - هو ترك المصلحة بغير ضوابط لكي تُقدم على النص والإِجماع إما بطريق التخصيص والبيان لهما كما زعم الطوفي وإما عن طريق تغييرهما كما زعم الشلبي. والبحث في هذا الموضع مقتصر على أهمية تعريف المصلحة لأن النظر فيها نظر شرعي .. وأضيف هنا - للأهمية - تعريف الإِمام الشاطبي لها: يقول: "المراد بالمصلحة عندنا" ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال" ثم قال: "فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل برده كان مردوداً باتفاق المسلمين" (¬1). وهذا التعريف يحدد منهج النظر في "المصلحة" وهو أدق التعريفات وأحكمها، والضوابط الشرعية ظاهرة فيه، فهو يقرر أن النظر في تحديد المصلحة ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 113، ولم يذكره أستاذي الدكتور حسين حامد في تعريف المصلحة في الاصطلاح، وذكره عند دراسته للمصلحة عند المالكية 62. وسيأتي بمشيئة الله تفصيل أنواع المرسل كما بينها الشاطبي في الاعتصام إن شاء الله ..

المعمول بها نظر شرعي، والعقل ليس بشارع، ولا يستقل بدركها على حال وحينئذ لا بد من إحالة - المصلحة - على الشرع ليشهد لها بالاعتبار فإن لم يشهد بل ردها كانت مردودة باتفاق المسلمين (¬1). وبعد النظر في تعريف المصلحة - وبيان أن النظر فيه نظر في أمر شرعي نذكر الأدلة على أن العقل ليس بشارع .. ولا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد. * * * ¬

_ (¬1) وهذا هو الإِجماع ولم يخالفه إمام معتبر من أئمة المسلمين، وقد شذ عنه الطوفي وتابعه على شذوذه الدكتور الشلبي، وانظر نظرية المصلحة تعلم كيف اتفق المسلمون على ما أشار إليه الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ-، ففيها بيان لموقف أئمة المسلمين من العمل بالمصالح.

المبحث الثاني العقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد

المبحث الثاني العقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد إن الأدلة القرآنية - كما مر سابقاً - بينت كمال هذه الشريعة، وكذلك أثبت الاستقراء أنها جاءت لتحقق مصالح العباد، والعقل لاحق له في التشريع، لا في إنشاء الأحكام ابتداء ولا في درك المصالح والمفاسد. ولأهمية هذه المسألة في أصول الفقه ولأن عدم إدراكها على حقيقتها سبب من أهم الأسباب التي أدت لرفع ضوابط المصلحة في الشرع، فترى بعض الباحثين يحكمون المصلحة في النص فيقدمون عليه ما يخالفه، بل إن بعضهم بذهب إلى تغيير النصوص بها، ولهذا كان من المستحسن أن نبين أن العقل لا يتقدم بين يدي النقل، ولا يمكن أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد (¬1). والأدلة على ذلك كثيرة وقد سبق ذكر بعضها منها: أولًا: ما تقرر فيما سبق أن التشريع - وهو إنشاء الأحكام - إنما هو حق الله الخالص لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وذلك لأن عقول البشر لا يمكن أن تدركه، وإلّا لما بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين (¬2). ثانياً: إن الشرع إذا حد حداً فإنما قصد أن يقف الإِنسان عنده بعقله ¬

_ (¬1) ذكرت هذه المسألة في هذا الموضع - مع إمكان إلحاقها بالتمهيد السابق في أول البحث وذلك لشدة أثرها سلباً أو إيجابا على موضوع المصلحة فأحببت أن تكون قريبة منه والموضع هنا مناسب لبسط الكلام فيها. (¬2) انظر ما سبق ص 22 - 44.

وقلبه وجوارحه - فلا يتعداه، فلو جاز للعقل أن يتخطى ما حده الشرع لما كان لما حده الشرع فائدة، فإذا تعدى العقل ما قرره الشرع كان الحكم للعقل وذلك في الشريعة باطل فما أدى إلى مثله. فلا يجوز للعقل أن يتخطى ماحده الشرع زاعماً أنه إنما يتبع المصلحة ويريد الإحسان والتوفيق، بل الحكم الأول والأخير للشريعة. ثالثاً: إن المحسن والمقبّح هو الشرع، فما جعله الشرع حسناً فهو حسن ومصلحة فهو مصلحة - وما جعله قبيحاً فهو قبيح .. وما جعله مفسدة فهو مفسدة، والعقل البشري لكي يحقق الاستسلام لمنهج الله لا بد أن يخضع لحكم الشريعة ويستسلم، فلو تعدى العقل ما حده الشرع لكان محسناً ومقبحاً - ومدركاً للمصلحة والمفسدة، وهذا باطل فما أدى إليه يأخذ الحكم نفسه، فالعقل إذاً لا يحسن ولا يقبح ولا يتعدى ما حكمت به الشريعة. رابعاً: إنه لو جاز للعقل أن يتعدى ما حده الشرع لأدى ذلك لِإبطال الشريعة بالعقل، فلو حكم العقل ببطلان حكم الشرع (¬1) في مسألة واحدة وأمضينا حكمه وجاز له أن يتعدى حدًا واحداً - ويبطل حكماً واحداً - لجاز له تعدي جميع الحدود لأن الشريعة حدت حدوداً للمكلفين - في الأقوال والأفعال والاعتقادات فإذا جاز تعدى حداً واحداً جاز تعدي سائر الحدود لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وإبطال الشريعة بالعقل محال فما أدى إليه مثله في الحكم. وهذه العقيدة - وهي أن العقل ليس بشارع فلا يجوز له إبطال الشرع البتة - يقررها الإِمام الشاطبي ويجزم بأن العقل لا يتعدى ما حده الشرع ولا يبطله - قال -رَحِمَهُ اللهُ-: فلو جاز للعقل إبطال حد واحد جاز له إبطال سائر الحدود وهذا لا يقول به أحد لظهور محاله (¬2). ¬

_ (¬1) ومثله القول بأن العقل يحكم بإيقاف حكم النص كما ستأتي الإِشارة إليه. (¬2) الموافقات المقدمة العاشرة 1/ 49. وقد سبق الإِشارة إلى شيء منه ص 286.

وأجاب -رَحِمَهُ اللهُ- عن الاعتراضات التي يمكن أن ترد على هذا التقرير وترجع إلى ثلاثة أمور. الأول: أن هذا يتضمن إبطال القياس، لأن الوقوف مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان هو مذهب الظاهرية وهذا يقتضي رد القياس. وأجاب -رَحِمَهُ اللهُ-: وقد سبقت الإِشارة إلى شيء منه - بأن القياس الشرعي نظر في أمر شرعي، مأخوذ من الأدلة الشرعية، يُبنى عليها ويُضبط بها، فإذا ألحقنا المسكوت عن حكمه بالمنصوص عليه، فإن الثاني منصوص عليه بحكم الشرع - فأين حكم العقل - وكذلك إذا أخذ المسكوت عنه حكماً يماثل حكم المنصوص فإنما يأخذ حكماً شرعياً - فأين حكم العقل - وإذا كان للعقل هنا تصرف وهو معرفة وجود علة الحكم في المسكوت عنه بعد استنباطها من المنصوص عليه، فإن هذا تصرف تحت نظر الشرع وليس العقل فيه مستقلًا ولا منشئاً "بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجري ما أجرته ويقف حيث وقفته" (¬1). الثاني: أن الأصوليين قد أثبتوا للعقل التخصيص مثاله قوله - تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فخصص العقل العموم هنا فلم تدخل ذات البارئ سبحانه، وتصرف العقل في النقص من النص كالتصرف بالزيادة عليه لأنها بمعناه، والنقص والزيادة إبطال للحد الذي حده الشرع إما بالنقص منه أو بالزيادة فيه، فإذا لم يكن النقص منه - بتخصيص عمومه - إبطال للحد فكذلك الزيادة (¬2). الثالث: أن من القواعد الأصوِلية جواز تخصيص النص أو الزيادة عليه، إذا كان المعنى المناسب واضحاً وسابقًا للفهم عند ذكر النص. ¬

_ (¬1) الموافقات 1/ 50 - 51، وانظر ما سبق ذكره ص 408. (¬2) المصدر السابق 1/ 50 - 51. وقد سبق جوابه في فصل العموم.

مثاله: قوله - عليه السلام - "لا يقضي القاضي وهو غضبان" (¬1)، فالمعنى الجلي السابق للفهم هو"المنع لأجل التشويش" فألحقوا به جميع المشوشات وخصوا يسير الغضب من الحديث فأجازوا القضاء معه، وهذا تصرف بالعقل في النقل، فإنكار تصرفات العقول في أمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه (¬2). ويجيب الشاطبي بجوابين: الأول: أن الأصوليين يلحقون المسكوت عنه بالمنطوق، وهذا شائع في باب القياس، وقد ألحقوا كل مشوش بالغضب قياساً، وأما إخراج يسير الغضب عندهم فسببه فهم معنى التشويش "ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى وإن مطلق الغضب يتناوله اللفظ لكن خصصه المعنى" (¬3). وليس في هذا تحكيماً للعقل، بل إنما هو اتباع للمعنى الوارد في النص. الثاني: وهو جوابه واعتمد فيه على وضع اللسان، وحاصله: أن معنى الحديث "أن القاضي لا يجوز أن يقضي وهو شديد الغضب أو ممتلئ من الغضب" ودليله من وضع اللسان: أن غضبان - اللفظ الوارد في الحديث - على زنة فعلان، وهو يقتضي الامتلاء، لأن أسماء الفاعلين تقتضي الامتلاء مما اشتقت منه، فالغضبان هو الممتلئ غضباً، ومثله "ريان"، و"عطشان" وأشباه ذلك (¬4). فالشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضباً، وأما الغضب اليسير فلا يمنع من القضاء وهذا بمقتضى اللفظ لا بحكم المعنى فلا تخصيص. ¬

_ (¬1) الحديث سبق تخريجه ص 402. (¬2) الموافقات 1/ 50. (¬3) المصدر السابق 1/ 51. (¬4) المصدر السابق 1/ 51.

وأما إلحاق كل مشوش بالغضب فعن طريق القياس الشرعي، فأين نصرف العقل هنا (¬1). وبهذا يتقرر أن النظر في الأدلة نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع فلا ينبغي له أن يتعدى النص الشرعي، بل العقل تابع للشرع وخاضع تحت حكمه، وليس له أن يستقل بإدراك المصالح والمفاسد، فلا حق له في إنشاء الحكم، أو تخصيص نص الشارع فضلًا عن إيقافه أو إلغاء مدلوله أو نسخه. * * * ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 51 - 52.

المبحث الثالث المصلحة ودلالتها على الثبات

المبحث الثالث المصلحة ودلالتها على الثبات والمقصود بهذا المبحث هو دراسة أثر العمل بالمصلحة على ثبات الشريعة، ومن ضوابط المصلحة أن لا تخالف مقصود الشارع، ومقصود الشارع يُعرف من الكتاب والسنة والإِجماع .. فإذا خالفت المصلحة نصاً من كتاب أو سنّة أو إجماع فهي مصلحة ملغاة .. والمصلحة أقسام ثلاثة عند الجمهور: الأول: مصلحة شهد الأصل الشرعي لنوعها أو جنسها. الثاني: مصلحة شهد نص شرعي بخلافها. الثالث: مصلحة لم يشهد الشرع ببطلانها ولا باعتبارها وهو غير موجود في الشريعة وليس له مثال واقع. وقسمها الغزالي إلى أربعة أقسام: الأول: مصلحة شهد الشارع لنوعها وهي تدخل في باب القياس. الثاني: مصلحة شهد نص شرعي بخلافها. الثالث: مصلحة تناقض نصاً شرعياً، وهي الباطلة والملغاة. الرابع: المصلحة المسكوت عنها في الشرع، وهي الغريبة. والقسمان الثالث والرابع مردودة بإجماع أهل العلم كما حكاه الغزالي (¬1). ¬

_ (¬1) نظرية المصلحة 15 - 19 وانظر المستصفى 1/ 284.

وبهذا يتبين أن المصلحة التي تعارض نصاً شرعياً مردودة بإجماع أهل العلم، وتسمى هذه المصلحة مصلحة باطلة أو ملغاة. وقد قسم الإِمام الشاطبي المناسب إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما شهد له الشرع بالقبول فمقبول بلا خلاف. الثاني: ما حكم الشارع برده فلا قبول له، لأن كونه مناسباً لا يقتضي حكما بنفسه وإنما ذلك مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين وهما مردودان (¬1)، وقد تبين فيما سبق أن العقل ليس بشارع ولا محسن ولا مقبح وأنه تابع للشرع فلا يتقدم بين يديه. الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تعتبره ولم تلقه وهو قسمان: (أ) "أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود، تقدير أن لم يرد نص على وفقه مناسب غريب" (¬2). وهذا المثال الفرضي من الشاطبي وهو القول بحرمان القاتل من الميراث إذا فرض أنه لم يوجد نص يقضي بالمنع إنما هو باعتبار المعاملة بنقيض المقصود. ويعلق الدكتور حسين حامد في رسالته نظرية المصلحة - عند ذكره لتقسيم الجمهور - على ما قاله الشاطبي مبيناً أن المعاملة بنقيض المقصود أصل شرعي شهدت له النصوص في الجملة، وإذا كان الحال كذلك فإن هذه المصلحة مردودة إلى أصل شرعي تدخل تحت جنس تصرفات الشارع (¬3). وبهذا الجواب يتأكد ما قاله قبل ذلك من "أن الغزالي أنكر وجود هذا النوع من المصالح، على أساس أنه لا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 113. (¬2) الاعتصام 2/ 115. (¬3) نظرية المصلحة 17.

الشرع لأن هذا يتضمن أن الله قد ترك الناس سدى وأن الدين لم يكمل والنعمة لم تتم وهذا خلاف ما أخبر به الشارع سبحانه وتعالى" (¬1). (ب) أن يشهد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة دون أن يرد عليه دليل معين، وهو الاستدلال المرسل و"المصلحة المرسلة". وحاصل ما يقرره الإِمام الشاطبي - من مذهب مالك - رضي الله عنه - أن ما لم يشهد الشرع للمعنى المناسب بالقبول سواء بدليل معين أو بغير دليل معين - بحيث يشهد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة - فهو مردود قطعاً، وحكى بالإِجماع -رَحِمَهُ اللهُ- على أن المصلحة المعتبرة شرعاً هي ما لم يعارض مقاصد - الشرع ولا أصلًا من أصوله ولا قاعدة من قواعده والمردودة بضد ذلك (¬2) مثال: إلزام الملك الذي جامع أهله في نهار رمضان بصيام شهرين متتابعين. فقد وردت الشريعة بأن كفارة الوطء في نهار رمضان إيجاب أحد ثلاث خصال: العتق أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، والعلماء ما بين قائل بالتخير وقائل بالترتيب، فمن قال بالترتيب قدم العتق على الصيام ومن قال بالتخير فلا مانع من تقديم أحد الخصال الثلاث (¬3). والمصلحة التي يريد الشرع تحصيلها تتحقق بأحد الأمرين: إما التخير أو الترتيب. وأفتى بعض العلماء ملكاً جامع أهله في نهار رمضان بخلاف ما سبق، حيث أوجب عليه الصيام زجراً له عما ارتكب، يطلب بذلك تحصيل مصلحة مبنية على معنى مناسب عنده وهو زجر الملك عن فعله، ولا يتحقق ذلك إلّا إذا ألزمه بالصيام، أما العتق، أو إطعام ستين مسكيناً فإنه يسهل عليه ولا ينزجر به. ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 115. (¬2) الاعتصام 2/ 113. (¬3) انظر المسألة في المغنى 3/ 140.

وهذا المعنى لم يشهد له أصل شرعي بل على الضد من ذلك يعارضه الحكم الشرعي - سواء أكان القول بالتخير أو الترتيب - ومعارضة هذا الحكم لتلك المصلحة يجعلها مصلحة ملغاة، والعقل لايستقل بدرك المصلحة فإذا لم يشهد لها الشرع بل عارضها فهي مردودة (¬1). فإلزام الملك بالصيام مصلحة لا تحقق مقصود الشارع، و"كل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإِجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع ... " (¬2). والمصلحة التي تصادم نصاً أو تتعرض له بالتغيير مصلحة مردودة لأنها ملغاة. ويصرح الغزالي أيضاً بذلك حيث يقول: "نحن مع المصالح بشرط ألا تهجم على نص الرسول بالرفع" (¬3). ويحصل الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة، نصوصاً كثيرة من كتب الغزالي الثلاثة: المستصفى وشفاء الغليل والمنخول فيقول: "فالذي يؤخذ من هذه النصوص أن الغزالي [في مجموع كتبه] لا يعمل بمصلحة في مقابلة نص شرعي، كتابًا أو سنّة، إذا كان هذا النص لا يحتمل التأويل، لأن العمل بالمصلحة في مقابلة هذا النص "يغير النص" أو"يصدم النص" أو"يرفع حكم النص" أو"يناقض النص" أو"يخالف النص" أو "يحرف النص" وقد قرر الغزالي أن المصلحة التي هذا شأنها مصلحة ملغاة" (¬4). ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 285. (¬2) المستصفى 1/ 310 - 311 ونظرية المصلحة 450 والاعتصام 2/ 115. (¬3) ويقول في شفاء الغليل 184: "والمصلحة حجة بشرط ألا يكون - المعنى المناسب - بديعًا غريبًا، وبشرط ألّا يصدم نصاً ولا يتعرض له بالتغير" ويقول في ص 191: " ... إن اتباع المصلحة على مناقضة النص باطل". (¬4) نظرية المصلحة 461.

وهذا الإِجماع الذي نقله العلماء على رد المصلحة المخالفة للنص، يدل دلالة قاطعة على أن العمل بالمصلحة الشرعية ليس له أثر سلبي على ثبات حكم الشرع لأنها إما مقبولة عنده - وهو لا يقبل إلا ما وافق مقصودة ومقصوده يعلم بالنص والِإجماع - وإما مردوده وهي المخالفة له ولا عبرة بها البتة. وهذا المعنى الذي انعقد عليه الإِجماع بدهي من بدهيات الإِسلام لأن الله سبحانه وتعالى هو الشارع ولم يترك لأحد من خلقه هذا الحق لأنه سبحانه وهو الرحيم بهم يعلم ابتداء أن عقولهم -التي خلقها لهم- لا تطيقه وأنهم إن حكّموا العقل فستغلب عليه الأهواء والمصالح وتنقلب البشرية إلى أحزاب متناحرة .. تتبع ما فيه هلاكها .. من المذاهب والشرائع - وتعرض عما فيه نجاتها من الاستسلام لله وحده والخضوع لحكمه وإشاعة الأخوة الإِيمانية في الأرض والعدل الرباني، ولذلك سقط أكثر الناس في الأهواء لأن المسافة بين العقل والهوى قريبة جداً. فأما الذين رفضوا الإِسلام واستسلموا لحكم العقل مطلقاً فما زال يفرقهم ولا يجمعهم وينقلهم من مبدأ إلى آخر ومن نظام إلى نظام لا يُثَبتهم على مبدأ ولا يحفظ بنظامه عقلاً ولا روحاً ولا عرضاً ولا خلقاً، ومن بقي معه شيء من القيم ما زال يطاردها ليحل محلها "العلمانية" أي اللادينية وهكذا صنع بهم وهم به مؤمنون لأن هذا العقل لا يخضع لحكم الله سبحانه .. (¬1). ¬

_ (¬1) ولقد زعمت طوائف كثيرة من البشر بأن العقل - الذي لا يخضع لحكم الشرع - يمكن أن يعرفها بمصالحها فماذا صنعت؟: (أ) كان أهل الفترة يرون أن المصلحة في وأد البنات. (ب) كان أهل الفترة يرون حرمان الإِناث من الِإرث ومثل جاهلية أهل الفترة القانون الانجليزي فقد ظل على ذلك قرابة عشرة قرون. (ج) وكانت الجاهلية الأولى ترى أن شرب الخمر ولعب الميسر وزواج الأخدان لا مفسدة فيه وتنكر على من ينكره، وكذلك يصنع القانون الأمريكي فللموصي أن يوصي بكامل ثروته لخليلته - فإنهم يتخذون الأخدان - ويرى أن المصلحة في إعطاء الخليل وخليلته الحرية لأن ذلك لا مفسدة فيه!!! =

وأما من قبل الإِسلام وظن أن للعقل قدرة في إدراك المصلحة جاهلاً أو متأولًا - فماذا صنع بهم هذا الوهم؟ أما المعتزلة - وهم من فرق المبتدعة - فقد ابتدعوا مسلكاً جديداً في النظر يتقدمون به بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويتجافون به عما - تعلمه الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان - وهذا المسلك عملوا به متأثرين بفلسفة اليونان والإغريق - وهم - أصحاب مبدأ العبودية للعقل لا لله سبحانه (¬1)، ولذلك أصاب الفرق الضالة ما أصاب أولئك - والداء واحد فإن التفكك من التكاليف رغبة شديدة في النفس البشرية وهي إما أن تجعل صاحبها يرفض الإِسلام مطلقاً أو تصيبه المعصية .. أو تصيبه الأهواء - ولقد مالت المعتزلة إلى مجافة السنّة ثم ¬

_ = (د) والجاهلية الأولى ترى المصلحة في أن المدين إذا لم يستطع أن يدفع لدائنه فعليه أن يدفع مقابل الأجل فوائد حتى يقضي أو يُقضى عليه، وأما القانون الروماني فهو أشد جاهلية، فإنه يجيز للدائن أن يسترق مدينه إذا لم يستطع أن يقضي دينه، وإذا كان هناك أكثر من دائن ولم يجدوا من يرغب في شراء المدين فإن لهم الحق - بموجب القانون الروماني أن يقتسموا جثته، وإذا جاء الإِسلام ليطهرهم من هذا الرجس فيقول لهم: فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم فلا ربا ولا استرقاق، قالوا: ما للدين والاقتصاد .. انظر على سبيل المثال: نظرية المصلحة لأستاذي د. حسين حامد حسان 6 - 7. ولا أريد أن أثقل هذا الهامش بحماقات العقل البشري - الذي لا يخضع لحكم الله سبحانه - ومن أراد مزيداً من الاطلاع على ذلك فلينظر في حصيلة كل فترة - لم تخضع لحكم الإِسلام وإنما اهتدت بالعقل البشري سواء في عقائدها أو أحكامها القانونية، وسيرى أن العقل بنفسه لم يستطع أن يهتدي - فضلاً أن يهدي - ولا في فترة واحدة، مع أنه لا يزال يمارس نشاطه من قرون متطاولة وتتسع المساحة التي يمارس فيها نشاطه لعدم غلبة مفاهيم الإِسلام العقائدية وأحكامه على العالم كله. فهل استطاع العقل البشري أن يأتي بنظام يحفظ الأعراض والدماء والعقول وما بقي للبشرية من قيم - ولو في فترة واحدة. الحق أن الذين لا يقبلون حكم الله ما زالوا تحت حكم العقل ينتقل بهم من مذهب فكري إلى مذهب آخر .. ومن نظام إلى نظام آخر وما زالت عقولهم تتحفهم بمثل تلك الحماقات السابقة .. (¬1) انظر مذاهب فكرية معاصرة فصل "العقلانية" 500.

استقرت بعد ذلك على مسلك غريب عن منهج الاستدلال والاستنباط الذي عليه أهل الحق. ومن أبرز معالمه تقديم العقل على الشرع، ويكفي لمناقشة المعتزلة ما تقدم ذكره عن منزلة العقل ورد القول بظنية الأدلة القرآنية والسنّة، واربط به بعد ذلك رأي المخالفين للإِجماع القائلين بأن المصلحة تقدم على النص بل وتغيره، ليعلم أن مسلكهم هذا - وهو تقديم العقل ومجافاة السنّة وعدم الالتزام بمنهج السلف الصالح قد أهلك من قبلهم فأوقعهم في الشذوذ عن الإِجماع والطعن في الأئمة ووكلهم إلى جهدهم الحسير وقطع صلتهم بخير الأجيال وخير القرون ولعلهم يحذرون.

المبحث الرابع المصلحة ودلالتها على الشمول

المبحث الرابع المصلحة ودلالتها على الشمول المقصود بهذا الفصل بيان كيفية تحقق الشمول من خلال العمل بالمصلحة الشرعية - وذلك بعد أن بينا أموراً مهمة: الأول: كمال الشريعة (¬1). الثاني: كونها جاءت بمصالح العباد (¬2). الثالث: أن العقل ليس بشارع، ولا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد (¬3). وقلنا فيما سبق أن العقل البشري لما حاول الاستقلال بإدراك المصالح والمفاسد تفرق بأهله وأشقاهم، وأوقعهم في رد ما جاء به الأنبياء أوبعضه، سواء كانوا من أهل الملل الأخرى، أو من الفرق المنحرفة التي نشأت داخل الأمة الإِسلامية ومن هنا وجب علينا أن نكون حذرين حذراً شديداً من أن يؤدي مفهوم الشمول الواسع من خلال العمل بالمصلحة (¬4) - إلى رفع ضوابط ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 136. (¬2) انظر ما سبق ص 112. (¬3) انظر ما سبق ص 21 - 44 - 420. (¬4) يتسع منهج النظر الإِسلامي من خلال العمل بالمصلحة وغيرها من معالم النهج حتى يظنه كثير من الباحثين بلا حدود ولا ضوابط، والحق -كما تبين لنا- أنه من السعة والشمول بحيث لا يضيق عن مصالح البشر وعن حاجاتهم، ومن التحديد والضبط بحيث لا يختلط فيه الباطل بالحق ولا المفسدة بالصلحة {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} 138 البقرة، وصبغة الله أي دين الله، لا دين أحسن منه. تفسير الطبري 1/ 570.

العمل بها - فنسلك سبيل أولئك الذين وقعوا في ضلالات العقل البشري الذي لا يخضع لحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بل يردهما، أو يقدم عليهما مع الانتساب إليهما، ولذلك جعلت موضوع "الشمول" رديفاً لموضوع "الثبات" ليكون له سنداً وضابطًا، أما كونه سندًا فلأنه لا شمول بغير ثبات كما تبين لنا فيما سبق (¬1)، وأما كونه ضابطاً فلأن منهج الاستنباط إن لم ينضبط بمقاصد الشريعة - ويراعي نصوصها - وينعزل عن تصرفات العقول المحضة انحرف لا محالة، وتأكيداً على مراعاة الضوابط جعلت للحديث عن قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان مبحثاً خاصة نختم به الحديث عن المصلحة من حيث صلتها بالثبات والشمول .. وإليك الآن الحديث عن أنواع المصالح الشرعية وبيان تحقق الشمول فيها وهي أنواع: النوع الأول - مصلحة شهد الشرع لنوعها: فإذا وجد أصل شرعي يشهد لجنس مصلحة ما فإنها حينئذ مصلحة شرعية، مثاله: تضمين السارق قيمة المسروق، وهذه المسألة لا تعلم عن طريق النص مباشرة ولا عن طريق القياس، لأنه ليس فيها نص معين، ولا يمكن قياسها على نص معين عن طريق علة القياس، فكيف يشملها الحكم إذاً؟ والجواب هو أن الشمول هنا يتحقق بتوفر أصل شرعي يشهد لنوع المصلحة، وذلك أن الشرع قد شهد لنوع المسألة السابقة، وهو مسألة تضمين الغاصب ما اغتصبه إذا تلف عنده لتعديه، والسارق قد تعدى على مال غيره، لسرقته وهي نوع من الغصب (¬2). فكما حكم الشرع على الغاصب لتعديه فكذلك الحكم على السارق في تضمينه قيمة المسروق. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 310. (¬2) انظر المغني تجده جمع في كتاب الغصب بين الآيات التي تنهي عن أكل أموال الناس بالباطل وبين آية السرقة في وجوب الضمان 5/ 177، ونيل الأوطار للشوكاني 5/ 355 - الطبعة الأخيرة.

وهذا الحكم إنما هو عن طريق اعتبار مصلحة شهد الشرع لنوعها ولم يكن عن طريق نص معين أو إلحاق المسألة به عن طريق علة القياس. النوع الثاني - مصلحة شهد لها أصل كلي بالاعتبار: مثاله: حد الشرب: هذه مسألة لها حد مقدر في الشرع، فقد كان الشارب يُحدُ أربعين واستمر ذلك في زمن أبي بكر - رضي الله عنه -. ثم تتابع الناس فيه بعد ذلك في زمن عمر - رضي الله عنه - فنظر الصحابة في حكم هذه المسألة. والمراد بالكلي هو الأصل الذي شهدت له مجموعة نصوص .. فمثلاً: اعتبار المظنة في الأحكام أصل شرعي كلي، والدليل عليه الاستقراء. إجراء الاستقراء: نظر أهل الاجتهاد في الشريعة فاستنبطوا منها: 1 - حرم الشارع الخلوة لأنها مظنة الزنا، وهو إقامة لمظنة الشيء مقام نفس الشيء، وإعطاء المظنة حكم المظنون. 2 - ومثله جعل الشارع "الإِيلاج" في أحكام كثيرة يجري مجرى الإِنزال كما في إيجاب الغسل وغيره. 3 - جعل من حفر بئرًا في محل العدوان فسقط فيها أحد، كالمردي رجلاً فيها، وإن لم يكن ثم مردي وهو إقامة السبب مقام المسبب وإعطاء المظنة حكم المظنون. 4 - وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعاً، وهذا نهي عن الخليطين لأن اجتمعهما مظنة السكر، فأقام المظنة مقام المظنون فأخذت حكمه. 5 - ونهى عن بيع وسلف، وعن هدية المديان وعن ميراث القاتل وعن نكاح المحرم، وكل ذلك إعطاء المظنة حكم المظنون ..

فالبيع والسلف معًا وهديه المديان مظنة الربا، ونهى عن ميراث القاتل لكي لا يُتخذ القتل وسيلة لطلب تعجيل الإِرث، ونكاح المحرم حتى لا يقع الوطء في الحج فيفسده، وهكذا في أمثلة كثيرة .. وهذه المواضع - وغيرها مما ماثلها - جاءت بها النصوص الشرعية ودلت مجتمعة على إثبات أصل كلي وعام، ألا وهو أن المظنة تأخذ حكم المظنون، وهذه الدلالة قطعية لأنها ثبتت عن طريق استقراء مواطن كثيرة في الشريعة اجتمعت على معنى واحد، فكان هذا المعنى معتبرًا في الاستدلال، وهو لم يؤخذ من نص معين، وإنما ثبتت ملائمته لتصرفات الشرع من أدلة كثيرة وعلم أنه مقصود للشرع من دلالة الكتاب والسنة. ويبقى النظر - بعد ثبوت هذا الأصل الكلي - في شموله للمسألة السابقة وهي حد الشرب .. فالشرب -كما قال علي - رضي الله عنه - وتابعه على ذلك الصحابة رضوان الله عليهم - مظنة للقذف، فإن الشارب إذا سكر هذي ولم يدر ما يقول ومظنة ذلك وقوع القذف منه، فجلده ثمانين يحقق المصلحة الشرعية، وهي مصلحة ملائمة لتصرفات الشارع وداخلة تحت الأصل الكلي السابق المشهود له بأنه أصلي شرعي كلي .. وهذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن النص المعين الذي يشهد لعينها إلّا أنها ليست مرسلة عن مجموع النصوص التي شهدت لجنسها، فهي مصلحة معتبرة مشهود لها وليست ملغاة لأنها لا تعارض نصاً وليست مسكوتاً عنها (¬1). فاعتبار الشارع المظنة مطلقاً في الأحكام - وهو أصل كلي قد شهد لجنس تلك المصلحة - وهي جلد الشارب ثمانين - بالاعتبار، فهو إذاً استدلال بمجموع نصوص شرعية. ¬

_ (¬1) نظرية المصلحة 71 - 72 - 73 - 74.

وهذا معنى أن المصلحة التي شهد لها أصل كلي بالاعتبار يعمل بها .. وبهذا يتحقق الشمول عن هذا الطريق الشرعي في الاستدلال، وتأخذ الحادثة - التي لا يمكن إدخالها تحت نص معين، ولا أصل معين حكمها من مجموعة نصوص شرعية وذلك هو الأصل الكلي، ولا تبقى خالية عن حكم الشرع لعدم وجود نص معين فيها: - قتل الجماعة بالواحد: إذا قتل جماعة متمالئون رجلًا قتلوا به، وهذا الحكم غير منصوص عليه في الشريعة، وإنما دخل تحت أصل كلي شرعي مأخوذ من نصوص كثيرة .. بيان ذلك: أن "النفس نهي عن قتلها وجعل قتلها موجباً للقصاص متوعداً عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك، كما كانت الصلاة مقرونة بالإِيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف إلى هذا المعنى" (¬1). هذا هو الأصل الكلي الذي دل على قتل الجماعة بالواحد، ومستنده المصلحة المرسلة، وبيان ذلك: إنا إذا لم نوجب قتلهم على اعتبار أن كل واحد قد قتل تحقيقاً، لم يبق إلا وجه المصلحة الشرعية وهي أن المقتول معصوم وقد قتل عمداً فلو لم نقتل الجماعة التي تمالأت على قتله لَخُرِم أصل القصاص، واجتمع النفر من الناس على القتل بغير الحق لأنهم في أمن من عقوبة القصاص (¬2). فالأدلة السابقة التي اجتمعت على إقامة هذا الأصل وهو وجوب المحافظة ¬

_ (¬1) الموافقات 1/ 15. (¬2) الاعتصام 2/ 125 - 26 .. وانظر نظرية المصلحة 87.

على النفس هو المستند لقتل الجماعة بالواحد، فهو إذاً اجتهاد شرعي مبني على المصلحة التي دل عليها ذلك الأصل الكلي، وهو مذهب الصحابة رضوان الله عليهم (¬1). وهذه الأمثلة وغيرها كثير تُبين لنا أن منهج النظر الإِسلامي بشموله وحيويته قد سهل دخول الوقائع المتجددة تحت حكم الشريعة كل واقعة تدخل حسب الطريق المناسب لها، فمنها ما يدخل عن طريق النص مباشرة ومنها ما يدخل عن طريق القياس ... الخ، وإذا أضفت أن الوقائع التي تحدث للبشر متشابهة إما في أعيانها وإما في الأصول التي ترجع إليها علمنا حينئذ أن التشابه كما يقع في الكون يقع في البشر وأفعالهم، وأن هذا الإِعجاز في الخلق مناسب للإِعجاز في التشريع، فالوقائع مهما كثرت لا بد من وقوع شبه بينها، وتدخل تحت حكم الشريعة من طرق كثيرة منها وباب العمل بالمصالح من دعائم الشمول في الشريعة، لأن الشريعة - التي أنزلها الله سبحانه متصفة بصفة الإِعجاز من جهة اللفظ والمعنى، وقد اتسق فيها واستوى مفهوم الثبات والشمول في توازن عجيب بديع، تظهر ملامح هذا الإبداع وتبرز وتتعدد كما تظهر ملامح الإِعجاز الكوني وتتعدد، فإذا جمعنا مع هذا ما نعلمه من طبيعة الإنسان المخلوق في هذا الكون، المخلوق له هذا الكون، فإن الدليل على ما قلته آنفاً يتضح لنا فنجد حينئذ التشابه الكبير في حقيقة هذا الإِنسان الفطرية وفي طبيعة تعامله مع هذا الكون وطبيعة تعامل هذا الكون معه بأمر الله سبحانه وقد جعل الله "الناس" شعوباً وقبائل - وهم من هذه الناحية متشابهون، ويعيشون في أطراف من هذا الكون متشابهة، يتعاملون معه ويتعامل معهم بإذن الله بصور متشابهة، وكل صور هذا التعامل "الإِنسان مع نفسه، الإِنسان مع الإنسان، القبائل والشعوب مع القبائل والشعوب، وهؤلاء جميعاً مع الكون، والكون معهم كل هذه معالم متشابهة تجعل تلك الصور تتقارب في التشابه أو تتباعد وهي في كل حال متشابهة، ومن ثم يمكن جمعها وحصرها للتعرف على ¬

_ (¬1) المغني 8/ 290.

حكم الله فيها، وردها إلى الشريعة الإِسلامية لتشملها بالعدل والرحمة. فإذا تصورنا أن ثلث تلك الوقائع المتجددة يدخل تحت حكم النصوص المباشرة -كما تقدم معنا في دراسة العموم في الشريعة - وثلثها الثاني يدخل تحت حكم النصوص عن طريق قياس "العلة" وهذا ما تقدم بيانه في باب القياس، وثلثها الأخير يدخل تحت حكم النصوص عن طريق "قياس المصالح" فماذا بقي بعد ذلك؟. ومن هنا ندرك الجواب عن شبهة طالما كثر ترديدها، حاصلها أن نصوص الشريعة محدودة متناهية، وحوادث الحياة والوقائع التي تتجدد غير متناهية. وهذه المقالة على ما فيها من مخالفة للعلم اسْتعملت في موضعين: الموضع الأول: استعملت فيه استعمالًا القصد منه مشروع وإن كان استعماله على هذا النحو الذي سنتحدث عنه غير مشروع، فالقصد مشروع والوسيلة بضده. ومن أمثلة هذا الموضع: ما ذكر الجويني في كتابه البرهان حيث نص على أن الوقائع غير متناهية والنصوص متناهية (¬1). وقد ذكر ذلك ليوطد به استدلاله على مشروعية القياس، فكأنه يقول: إذا كانت الوقائع لا تتناهى والنصوص تتناهى، والشريعة لا بد أن تحكم تلك الوقائع فلا سبيل - والحال كذلك - لإدخالها تحت حكم الشريعة إلّا عن طريق إعمال القياس، فالقياس ضروري. وهذا قصد مشروع ولا شك، ولكني أخالفه في استعمال هذه الوسيلة، ولذلك لم أستند عليها لإثبات حجية القياس، لأن الأدلة التي في حوزتنا كافية وقوية ولا نحتاج إلى غيرها، وإذا ثبتت الحجية بها فقد تحقق المقصود بوسيلة مشروعة. ¬

_ (¬1) 2/ 743.

أما الوسيلة التي استخدمها الجويني فهي عبارة عن دليل عليه بعض المؤاخذات منها: 1 - أن الوقائع تتناهى لأنها متشابهة كما أسلفت ويمكن رد بعضها إلى بعض، وهذا دليل قوي على أنها تتناهى لتصبح في آخر الأمر مجموعة وقائع - وإن كانت كثيرة جدًا، إلا أنها محصورة. 2 - أن قوله أن النصوص تتناهى عبارة مجملة فإن أراد بها أن القرآن جمعها وكذلك كل ما صح من السنة دل عليها فهي إذن مجموعة معلومة فنعم، وإن أراد أن ما تضمنته من المعاني، وما جعل الله فيها من السعة والشمول محدود فلا يُسلم له وهو لا يقصد ذلك حتماً، ولأن العبارة موهمة فلا بد إذن من الجواب وأختصره بما يليق بالموضع دون محاولة تفسير الأسباب التي أدت إليها - ويكفيني ما قلته سابقاً من أن القصد المشروع لا يكفي بل لابد له من وسيلة مشروعة (¬1) - والذي يليق بالموضع وهو جواب حاسم إن شاء الله يكفي في إسقاط الشبه - فلا نحتاج إلى أجوبة أخرى مع توفرها. إن النظر في الشريعة الإِسلامية على أن مدلولاتها - ومعطياتها ومفاهيمها وأحكامها - تؤخذ منها نصاً نصًا غير سديد، ويحتاج إلى مراجعة وهو الذي إذا ما تبين فساده وانكشف سقطت تلك الشبهة وانكشفت. والذي يدل على فساده هو أن ذلك كله يؤخذ من الشريعة من أكثر من طريق منها ما يليق بهذا الموضع وهو أخذ الأحكام من مجموعة نصوص تتوافر على دلالة واحدة، كما يدل النص الواحد على دلالة واحدة، وهذا شبيه بالعموم المعنوي الذي تقدم الكلام عنه. ومثل هذه الشريعة كمثل البشرية والبحار، فهل إذا اتجهت كل أمة إلى بحر وأخذت منه ثم عادت وأخذت ثم عادت وأخذت إلى يوم القيامة هل ¬

_ (¬1) يُفسر مقصد ابن الجويني كما فسرته في الموضع الأول، مع بيان الفارق بينه وبين ما يردده الآخرون ذلك أنه يرى أن النصوص يمكن الاستفادة منها بطرق منها القياس.

ينفد، كلًا، وكذلك أخذنا من هذه الشريعة تارة نأخذ منها عن طريق النص الواحد، وتارة نرجع إليها ونأخذ عن طريق جملة نصوص، ثم إن النص الواحد تارة يكون له مدلول واحد وتارة أوسع من ذلك، ثم ننتقل إلى القياس وهو إلحاق النظير بنظيره كما أسلفنا، ثم ننتقل إلى البناء على الأصل الكلي والقواعد العامة وهكذا، فهل يمكن أن يقال أن عطاء النصوص ينفد. والظن بابن الجويني أنه لا يقصد أنَّ دلالتها محصورة، بل قد نص في مواضع كثيرة على أنه لا تخرج حادثة ولا واقعة في عصر عن حكم الله (¬1). الموضع الثاني: إن المقالة السابقة قد طورت لتصبح شبهة حاصلها أن هذه النصوص المحدودة كيف تحكم وقائع البشرية المتجددة غير المتناهية في جميع العصور والأزمان، وقد استعملها قوم لا يعرفون طبيعة هذه الشريعة ومنزلتها الحقيقية، وقوم آخرون استعملوها كيداً ومكراً وصداً عن سبيل الله. {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). والجواب الذي يكشف الشبهة ويصد كيد الماكرين فلا تعد شبهتهم ينفذ كيدها ومكرها بإذن الله، هو أن يعلم هؤلاء وهؤلاء أن وضع الشريعة الإِسلامية على هذه الصفة مقصود وخلق البشرية على هذه الصفة المتشابهة التي أشرت إليها مقصود كذلك، فالذي خلق البشرية جعلها على تلك الصفة .. وهو الذي أنزل كلامه على رسوله وجعله بتلك الصفة. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3). فرب العالمين - رب هذه البشرية وخالقها - هو أعلم بها وهو الإِله الذي له الأمر والنهي وبيده مقاليد كل شيء جعل البشر يتشابهون في حياتهم الخلقية ¬

_ (¬1) انظر البرهان مسألة رقم 677 - 1133. (¬2) سورة الصف: آية 8. (¬3) سورة الأعراف: آية 54.

والعملية وخلق لهم كوناً متشابهاً وقدّر التشابه على كل ما يقع في هذا الكون من تصرفات كونية وتصرفات بشرية وهذا من آياته سبحانه وهو من أدلة الإِعجاز، وأن هذه المخلوقات الكونية خلقتها إرادة واحدة هي إرادة الله، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1). ومن تأمل في ذلك تعرف على قدرة الله سبحانه وجميل حكمته وإبداع خلقه، وبهذا يتأكد ما قلته في أكثر من موضع - نقصد بذلك إيضاح هذه الحقيقة الكونية البشرية - فلا يبقى بعد لهذه المقالة من سبب يُروّج لها، فإن وقائع البشرية مهما تجددت وتعددت يمكن ربطها بأصول متشابهة محصورة ترجع إلى أجناس معلومة، وقد حدث ذلك في الجيل الأول لما دخل الناس في دين الله أفواجاً وانتشرت معهم وقائع كثيرة ترجع إلى أجناس معلومة وتكلم فيها الفقهاء وبينوا حكم الله فيها، ولذلك قال الإِمام أحمد بهذا الاعتبار ما من مسألة إلّا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها (¬2). وذلك لتشابه المسائل الذي يرجع إلى تشابه الحياة والأحياء. ولنزيّن هذا الموضع ببعض الأمثلة التي تؤكد لنا هذه الحقيقة .. إن هذه البشرية ترجع إلى أصل واحد في المنشأ والمنهج، أب واحد وأم واحدة وخلقة واحدة بقدرات متشابهة في كون واحد لهدف واحد وهو إقامة الخلافة الربانية على الأرض - وذلك بأن تعمر الأرض بمنهج الله عقيدة وشريعة - الشريعة مسيطرة فيتحقق العدل، والعقيدة تجمع خير الدنيا والآخرة لمن أتاها طوعاً لا كرهاً. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النحل: آية 40. (¬2) مجموع الفتاوى 9/ 200. (¬3) سورة البقرة: آية 256.

فلو أن الرجل الأوروبي والأمريكي اتبع هذه الشريعة وتخلق بأخلاقها وكذلك صنع الرجل الروسي والافريقي، هل ستختلف وقائعهم ومعاملاتهم مع أهليهم وجيرانهم ومجتمعاتهم في عالم القيم والأخلاق، أم لا بد أن تكون متشابهة لأنها مرتبطة بمنشأ واحد ومنهج واحد وهدف واحد. هل الرجل منهم في مزرعته - في المجتمع الزراعي - سيختلف عن الرجل الآخر في تعامله مع قواعد العمل وضوابطه وأهدافه وأخلاقه؟ هل الرجل منهم في مصنعه - في المجتمع الصناعي - سيختلف عن الرجل الآخر في تعامله مع قواعد العمل وأهدافه وأخلاقه كلا! هل مسؤولية الرجل هنا أو هناك عن بيته، ومسؤولية امرأته عن بيتها ستختلف في دوافعها وضوابطها؟! وقس على ذلك بقية جوانب الحياة ما يتصل منها بالأسرة إنشاء وحفظاً، وما يتصل منها بالعلم وتعمير الأرض، وما يتصل منها بأمور الجماعة - من حيث العلاقات العامة والخاصة - ولا يصعب تتبع بقية أمور الحياة إذا لاحظنا هذا التشابه في المنشأ والمنهج والكون ومهمة الإنسان، وإذا لم نلاحظ ذلك - حيث نفتقده في حياة أكثر البشر اليوم فلا علينا أن يقع ذلك الافتراق في تلك الأصول، ولا نعجب أن يصل الحال بالبشرية أن تفترق ذلك الافتراق العجيب وتختلف ذلك الاختلاف الكبير حتى أنها لتُقسّم في الحقيقة إلى أناسيّ ودواب، أناسيّ يعرفون وحدة منشأتهم ومنهجهم ويتعاملون مع هذا الكون لهدف محدد رباني تحكمه هذه الشريعة، ودواب تُشْبِهُ فيما تشبه تلك المخلوقات العجيبة التي تجمعها الغابات حتى لا تكاد تجد بينها شبهًا، وفيها جميع ملامح الحياة في الغابة من القوة والطغيان، والضعف والخور، والتكالب والتناحر، والانقسام على متاع الأرض، والختل والمكر، والخديعة والغدر، والاضطراب وعدم الشعور بالأمن وتوقع الهلكة كل حين، والعري والبهيمية، وكل سيء من الأخلاق، وكل ذلك مع انعدام المبادئ والأخلاق والعدل. وكما لا يمكن لأحد أن ينظم غابة على مبادئ العدل والأخلاق السماوية - إلّا أن تستسلم تلك الوحوش المستنفرة - فكذلك لا يمكن أن تُنظم حياة

الأمم الكافرة على مبادئ هذه الشريعة إلّا أن تستلم لله وحده وتتبع رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتتحاكم إلى هذه الشريعة وتحكم بها وترفض ما سواه (¬1)، ولعل هذا الذي أقوله هنا هو شيء من معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬2). نعم إن الأمم الكافرة أضل من الأنعام، لأن الأنعام خُلقت وجُبلت على ذلك كله فلا يُنتظر منها غير ذلك - وفيه من الحكمة ما فيه - أما هذه الأمم الكافرة فلم تُخلق لهذا بل خُلقت وتلك الثوابت في وحدة المنشأ والمنهج والمصير في هذا الكون الرحيب الفسيح الذي خُلق لها لتعمره بهذه الشريعة، ولكنها ¬

_ (¬1) وهذا طريقه الإِيمان بالله وحده .. وهذا هو الأصل، وإن لم تؤمن وخضعت للحكم الإِسلامي كما صنع أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس شملتهم رحمة هذه الشريعة وعدلها في الدنيا وحسابهم على الله في الأخرة. والبشرية في الحالين - سواء في حالة قبول العقيدة أو حالة الإِذعان للشريعة خاضعة للأحكام، طوعًا أو كرهًا، وحينئذ تعيش البشرية تحت عدل هذه الشريعة وتكون لحياتها خصائص محددة وطبائع متشابهة، وتغطي الشريعة جميع وقائع هذه الحياة كما يوجبه العدل الرباني، فلا البشرية تعيش حياة الغابة .. في حالة تمردها على المنهج الرباني، ولا هي تكون صاحبة السلطان بمبادئها وأحكامها المنحرفة، فتتحكم في المنهج الرباني، كا هو الحال في حاضر الأمم الكافرة، وتريد منه أن يضع لها أحكاماً تناسب شهواتها وحياتها المنحرفة، ويكون الاجتهاد حينئذ -كما سبق وأن قلنا - أداة لتلبية رغبات البشرية وشهواتها مع أنه في الحقيقة أداة لإقامة العدل الرباني في الأرض ورفع البشرية من الحضيض حتى تعيش هذا العدل وتسعد به، ولذلك فإن تصور حاكمية هذه الشريعة وثباتها وشمولها لا يمكن تطبيقه في واقع الأمر إلّا أن تكون البشرية في إحدى الحالتين السابقتين، أما ما سوى ذلك فإن البشرية تعيش حياة الغابة وتريد أن تنزل بالشريعة لتقرر لها شهواتها وانحرافها وما لذلك أنزلت هذه الشريعة. (¬2) سورة الأعراف: آية 179.

أعرضت عن ذلك كله واختار لها أئمتها السياسيون والمفكرون .. غير الإِسلام عن علم وعناد يبتغون بذلك الارتكاس في حمأة الشهوات والطغيان. فلا عجب أن تفترق البشرية هذا الافتراق ويحل بها ما حل .. والِإسلام حينئذ ليس مسؤولاً عن طبائعها وتصرفاتها العجيبة الغريبة كما أنه ليس مسؤولًا عن تصرفاتها الحيوانية، ويوم تتبع تلك الأمم الإِسلام وترجع إلى وحدة المنشأ والمنهج والمصير حينئذ لن تكون بتلك الصورة التي لا يمكن أن توجد إلّا في الغابات، بل ستعيش صورة إنسانية جديدة الملامح، من أبرز ملامحها تلك الوحدة والتشابه - فيقوم العدل الرباني في الأرض ويسيطر عليها الإنسان الصالح الذي يكوّن الأمة الواحدة ويتعامل في كل مكان بمنهج واحد له سماته الثابتة وطبيعته المتشابهة ويمكن حينئذ جمع وقائعه وحاجاته وترتيبها وتنسيقها وتحديد هدف واحد متشابه تقوده المصلحة الشرعية التي تحقق العدل الرباني في واقع الناس. ولعل في هذا البيان ما يُجَلِّي تلك الحقيقة، ويقارب بين طبائع البشرية - عندما تتحول عن شرائعها ومفاهيمها إلى شريعة الله سبحانه خالقها وبارئها، وتسقط تلك الشبهة التي طالما نفخ فيها أعداء الإِسلام ليحولوا بين البشرية وبين هذه الشريعة الربانية (¬1). وننتقل بعد هذا إلى مناقشة شبهة أخرى تتصل بموضوع المصلحة بعد أن تبين لنا أن الشمول الرباني يتسق مع مفهوم الثبات فيتحقق لنا - بعدل من الله ورحمة - سعة في هذه الشريعة تمدنا بما نحتاج إليه من أحكام شرعية، يحفظها لنا مفهوم الثبات في الوقت نفسه لأنه يحفها بالضوابط التي تعيننا ونحن نعيش في عدالة الشريعة ورحمتها أن نكون ملتزمين بالعبودية ومقتضياتها، فلا نغتر ونجهل وننسى ونخرج عن تلك الضوابط والأطر، فننسلخ من آيات الله، ونبعد عن ¬

_ (¬1) انظر كتاب: موقف المستشرقين .. من ثبات الشريعة وشمولها.

رحمته وخاصة وأن سعة هذه الشريعة ورحمتها وسماحتها لتخيل للذين لا يعلمون أن هذه الشريعة لا يمكن تحديدها، بل ويمكن إدخال كل شيء فيها. وهذا سببه أمران: الأول: عدم معرفتهم بطبيعة هذا الدين عقيدة وشريعة. إن هذا الدين يريد من البشرية أن تذعن له وتخضع، وتتجرد عن كل تعلق بغير الله فتعبده وحده وتتجه إليه وحده وتسأله وحده وتقدم له أنواع الطاعات وحده، ومنها أن تحكم مصالحها وغاياتها بهذه الشريعة عن طريق الرد إلى أحكامها، وهي حينئذ ستجد بلا ريب السعة والرحمة والفرج. وهذه حال المؤمنين إذ قالوا سمعنا وأطعنا، شريطة أن يأتوا مذعنين مستبشرين، يعتقدون كمال هذه الشريعة وأنها هي التي تنقذهم من الظلمات إلى النور، وأنها هي الحياة والحضارة والرقي والسعادة، وأنها هي الأمن والعدل والخير كله، ويعتقدون في المقابل أنهم لو خُلوا وعقولهم لهلكوا، وأن جميع ما تشقى به البشرية إنما جاءها لما حسنت الظن بالعقل وردت ما جاء به الرسل وأعرضت عنه وقدمت عليه أهوائها. إن هذا الإِيمان عندما يتحقق ويأتي صاحبه إلى الشريعة سيجد من الفسحة والسعة ما لا يتصوره أبداً (¬1)، وإن الذين ينظرون إليه وهم من خارج دوحة الإِيمان - ولا يعلمون حقيقته - لا يستطيعون أن يفسروا هذه السعة والشمول في الرحمة والعدل إلّا بذلك التفسير الغريب العجيب. الأمر الثاني: إن كل خير عند هذه البشرية مرجعه ولا شك "الإِسلام" فإن هذا الدين هو العقيدة الأولى التي أُنزلت على هذه الأرض وبقيت دهراً طويلًا غير متلبسة بما يناقضها، ثم انحرفت البشرية شيئاً فشيئاً، وتلبست هذه العقيدة بما يناقضها من عبادة غير الله واتباع غير منهجه. ¬

_ (¬1) ويبقى بعد ذلك جهد إقامة الخلافة على الأرض.

ولم يكن الانحراف ليقدر على سلخ البشرية من أصلها العقائدي سلخاً كاملًا، ولا على سلخها من أحكامه وقيمة وأخلاقه فبقي شيء غير قليل ينتقل بين أجيالها حتى مع تطور الشرك واتّباعه - بزعم المصلحة - وحتى مع تطور الظلم واحترافه - بدعوى المصلحة - مع ذلك كله بقي شيء غير قليل ينتقل مع الأجيال التي انحرفت عن "الإِسلام" دين الرسل جميعاً. وإذا تذكرنا أن الفطرة البشرية مهما فسدت لا بد أن يكون لها أثر على سير خط الانسان، وإذا تذكرنا رغبة الإِنسان الذي يريد بها أن يزعم لنفسه أنه يعيش الحياة الصالحة ويحقق المصالح المشروعة (¬1). إذا تذكرنا هذا وذاك استطعنا أن نعلل ذلك الانحراف البشري في العقيدة والشريعة الذي ما زال يتلون ويتدسس تحت عباءة الإِصلاح والتوفيق. ومن هنا نشأت في البشرية مذاهب ونظم تزعم الإِصَلاح، ولأن الانحراف لا يقع على كل شيء، ولأن الفطرة لا يقع عليها الإِعدام الكامل، ولأن الرغبة في دعوى الإِصلاح والتستر به طبيعة كامنة في النفس البشرية لذلك كله نشأت تلك النظم وفيها بعض الجوانب الخيرة. فالشيوعية فيها من الكفر والإِلحاد والظلم والِإرهاب والقسوة، ومع ذلك يأتي أولئك الذين لا يعلمون فيقولون إن المصلحة في النظام الاشتراكي، ألا ترى كيف يسوي الإِسلام بين الناس في الضرورات ... والرأسمالية يتراءى فيها جانب خيّر ضئيل مع ما فيها من الكفر والظلم، ظلم الانحراف عن المنهج الرباني - فيقول أولئك أيضاً أن المصلحة في هذا النظام ألا ترى للإسلام كيف حقق الحرية الاقتصادية. وقس على ذلك الموقف من "الرهبانية" و"العقلانية"، وغير ذلك من المذاهب الفكرية والأنظمة التشريعية الوضعية. ¬

_ (¬1) مثال ذلك ما صنعه الكفار قبل بعثة النبي - عليه الصلاة والسلام - حيث غيروا ملة أبينا إبراهيم - عليه السلام - وزعموا أنهم مصلحون وبها قائمون.

وهؤلاء الذين لا يعلمون لا نعجب أن يُخيّل إليهم أن هذه الشريعة لا يمكن تحديدها، بل يمكن أن يدخل فيها كل شيء، ولو علم هؤلاء طبيعة البشرية وأدركوا تلك الأحوال التي ذكرتها لما تخيلوا ما تخيلوه. إن تخيّل المصالح وبدون ضابط من الشريعة يمنع تحقق العبودية ويوقع في الشبهات، إن العبرة ليست بتحقق جزء من الخير في جانب ما - ردة فعل لجانب آخر - في نظام من الأنظمة كلا، وإنما العبرة في تحقيق ذلك النظام لمهمة الخلافة في الأرض وسلامته من الفساد كله، وأبرز معالم الخلافة في الأرض التي أمر الله بها هي: 1 - تحقيق العبادة لله وحده بلا شريك. 2 - تحقيق وحدة الجنس البشري بإقامة الأمة الواحدة. 3 - تعمير الأرض وإقامة العدل الرباني فيها. فهل يمكن أن يحقق هذا غير الشريعة الإِسلامية، كلا، إن البشرية حينئذ ستدرك وتعيش في الوقت نفسه وحدة المنشأ والمنهج والمصير، وستسقط تلك الأنظمة التي تتراءى فيها بعض المصالح، وسيعلم المنحرفون عن الشريعة الإِسلامية أن العقل لا يستقل بإدراك المصالح، ولو أمكنه لأخرج الوثنيين عن وثنيتهم، والشيوعيين عن إفكهم وظلمهم وإلحادهم، والرأسماليين عن إعراضهم عن العدل الرباني في الأرض، وعن صدهم عن سبيل كثيراً، ولأخرج اليهود من قوميتهم وحقدهم وكفرهم، ولأخرج الفرق الضالة قديماً وحديثًا عن تناقضها واختلافها ولحقق في النهاية إقامة الأمة الواحدة والعدل الرباني في الأرض، وهؤلاء وأولئك عقلاء بل وفيهم حكماء، فأين عقولهم من تحديد المصالح ودفع المفاسد. إن هذه الشريعة جاءت لتحكم "العقل" البشري وتحقق للناس كافة جميع مصالحهم وتحول بينهم وبين أهواء عقولهم، فكيف ينقلب الأمر ليتحكم العقل المحدود بالزمان والمكان، المتصف بالبشرية والضعف وقصور العلم في هذه الشريعة التي لا يحدها زمان ولا مكان، وهي التي لم يسطّر فيها الأولون

ولا الآخرون سطرًا واحداً بل هي وحي يوحى تنزيل من حكيم حميد، ولذلك فهي ليست إقليمية ولا محلية ولا زمانية كلا، بل أنزلها الله لتكون حجته على عقول عباده من الأولين والآخرين والعرب والعجم .. ومن ثم كانت حاكمة على كل شيء، تفرق بين المصالح الموهومة المتخيلة، والمصالح الحقيقية الشرعية، فما حكمت بأنه مصلحة فهو كذلك علمه من علمه وجهله من جهله، وما حكمت بأنه مفسدة فهو كذلك علمه من علمه وجهله من جهله، وبهذا الإدراك لطبيعة هذه الشريعة - ومن قبل ذلك - لحقيقة الإِيمان تجعل المؤمن وغير المؤمن يشعر بتلك السعة، حتى ليخيل لغير المؤمن أنها يمكن أن يدخل فيها كل شيء فلا يمكن تحديدها، ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء، يضل بذلك الذين لا يعلمون، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا .. وبعد أن علمنا بتوفيق من الله سبحانه حقيقة الثبات والشمول، وكيف اتسعا ليحققا لنا في النهاية - بفضل من الله - حسن العبودية له وتعمير الأرض بمنهج الله الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلّا شملها بحكمه في جمال وكمال واستقامة وطهر، ننتقل بعد ذلك لمعالجة فكرة خرجت عن هذه القاعدة وخَيّل لأصحابها مفهوم الشمول بما فيه من سعة أن الأحكام تتغير بتغير الزمان، وإنما عند هؤلاء مفهوم الثبات واختلت ضوابطه، وحسّنوا الظن بالعقل البشري في مجال إدراك المصالح، وقذموا حكمه على حكم الشرع، إما بإخراج بعض أفراد النص وإما بإيقافه مطلقاً، وقد استندوا إلى شبه كثيرة، وسأعرض أفهامهم وأناقش أعظم شبههم مؤكدًا في الوقت نفسه على تعميق مفهوم الثبات والشمول .. والله الموفق والمعين.

المبحث الخامس القول بتغير بعضر الأحكام بتغير الزمان عرض ونقد - مع دراسة تطبيقية

المبحث الخامس القول بتغير (¬1) بعضر الأحكام بتغير الزمان عرض ونقد - مع دراسة تطبيقية توطئة: يكثر الكلام عند بعض الباحثين على أن هناك قاعدة شرعية إسمها "تغير الأحكام بتغير الزمان" ويقصدون بعض (¬2) الأحكام المتصلة بالمعاملات دون العبادات، والتغير أوجبه عندهم تغير المصالح والأعراف والعادات. فالأحكام الشرعية المتصلة بمعاملات الناس وعاداتهم وأعرافهم جاءت لتحقق مصالح معينة، وهذه المصالح تتغير في كثير من الأحيان بسبب تغير الزمان، وحينئذ ينبغي -كما يرى أصحاب هذا الرأي- أن تتغير تلك الأحكام ما دام قد تغيرت مصالحها، ومن هنا وضعوا تلك المقالة وسموها قاعدة. وفي هذا الفصل نحدد موضع النزاع بيننا وبينهم ونحرره وخاصة أنه شديد الالتباس، واهتم بعد ذلك بتصوير رأي المخالفين وذكر مستندهم ومناقشتهم مع تتبع كثير من التطبيقات التي هي موضع النزاع وبيان وجه الصواب في تفسيرها، وبذلك أصل إلى تحديد حجم هذه المقالة وما فيها من ¬

_ (¬1) "تغيّر الشيء عن حاله تحوّل وغيّره حوّله وبدّله كأنه جعله غير ما كان" اللسان - مادة "غير" 5/ 40. (¬2) انظر تقييد ما ورد من الإِطلاق في هذه المقالة، وقد حرر ذلك الأستاذ: علي أحمد غلام الندوي في رسالته للماجستير "القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإِسلامي" مخطوط جامعة أم القرى ص 55. وقد تبين أن هذا الإِطلاق غير صحيح ..

المطلب الأول تحرير موضع النزاع

حق أو باطل، وسأحاول الوصول إلى المقصود دون إغراق البحث بالتفصيلات التي لا حاجة لنا بها. المطلب الأول تحرير موضع النزاع المقصود "بالتغير" في الحكم الشرعي هو انتقاله من حالة كونه مشروعاً فيصبع ممنوعًا، أو ممنوعاً فيصبح مشروعاً باختلاف درجات المشروعية والمنع. فهذه حادثة حكمها الشرعي المنصوص عليه أو المستنبط كذا، ثم تصبح في زمن آخر تحت حكم مخالف للحكم الأول، هذا هو جملة ما يصوره البحث عند المطلقين لتلك القاعدة أو المقيدين لها (¬1). وإلى هنا يبقى كثير من اللبس في تحرير موضع النزاع، أكشف عنه بإضافة أمر مهم جداً ألا وهو النظر في تلك الحادثة التي تغير حكمها هل هي في الحالين سواء؛ هل الحادثة التي أخذت الحكم الأول ثم أخذت الحكم الثاني هي هي بالخصائص نفسها وبجميع الملامح والاعتبارات والحيثيات أم أنها تختلف في خصائصها .. من حالة إلى حالة؟. وبالجواب عن هذا السؤال ينكشف لنا اللبس الذي أحاط بهذه القضية حتى كثر فيها القول وتشعب .. إن تلك الحادثة التي تغيّر حكمها إما أن تكون هي هي عند تغيّر الحكم بجميع خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما أن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها. فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغيّر حكمها لأن ذلك ¬

_ (¬1) انظر محاولة لتحديد معنى "التغيّر" لغة وشرعًا والفرق بينه وبين النسخ في رسالة الماجستير "الفقه والقضاء وأولوا الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان" إعداد محمد راشد علي - كلية الشريعة والقانون - بالقاهرة ص 8 - 18.

هو النسخ والتبديل المنهي عنهما كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع، لأنها حينئذ حادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي تحفهما وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً، ولا يقال له تغيّر ولا تبدل. فإذا خرجت الثانية عن موضع البحث رجعنا لدراسة الأولى، وهي أساس القول ومحل النزاع والدعوى التي عنون لها أصحابها بقولهم: "تغيّر بعض الأحكام بتغير الزمان" ومقصدهم حادثة وواقعة لها حكم منصوص عليه أو مستنبط تغير حكمها في وقت آخر والحادثة هي الحادثة بجميع خصائصها واعتباراتها .. فإن قيل كلا لا يتغير حكمها إن لم تتغير خصائصها واعتباراتها، قلت: فإذا تغيرت خصائصها واعتباراتها أصبحت حادثتين لا حادثة واحدة وهذه لا ينازع في اختلاف حكمهما أحد البتة. ونرجع مرة أخرى لمحل النزاع وننظر في أدلة القائلين بالتغير بعد تصوير مذهبهم .. وإنما قدمت بهذه المقدمة رجاء أن تُحدد نقطة البحث ويمسك القارئ القضية من أول خيط فيها، ونضرب مثالًا يوضح المقصود، فأقول: قتل زيد خالداً عمداً عدواناً فحكم هذه الحادثة أن زيداً عليه القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم، تكررت هذه الحادثة بين رجلين آخرين بالصورة نفسها في أي عصر من العصور، يكون حينئذ الحكم هو القصاص إن لم يعفوا أولياء الدم. فها هنا حادثتان بخصائص واحدة تحفهما اعتبارات واحدة أخذت حكماً واحداً، ولا سبيل لتغييره أبداً. خذ الحادثة بطرفيها القاتل والمقتول وافرض وقوعها مرة أخرى لكن بدون عمد ولا عدوان، بل خطأ، يختلف الحكم حينئذ فلا قصاص بل دية مسلمة، ولكن الحادثتين ها هنا مختلفتان فاختلف حكمهما، في الأولى قصاص إن لم يعفوا

أولياء الدم، وفي الثانية لا قصاص بل دية مسلمة إلى أولياء الدم إلّا أن يصدقوا. فلا عجب إذن أن يكون لحادثتين تختلف خصائصهما حكمان مختلفان، وإن كانت الصورة بادئ ذي بدء تبدوا واحدة (¬1). وهذه ليست في محل النزاع قطعاً، لأنه لا ينازع أحد فيها على الإطلاق، فحادثتان - وإن كانتا في الصورة واحدة - لكنهما في الجوهر مختلفتان - طبيعي أن يختلف حكمهما. ونعود مرة أخرى لتحديد موضع النزاع فأقول: إن تغير حكم الحادثة إذا تغير جوهرها وأصبح لها خصائص مغايرة لطبيعتها الأولى أمر طبيعي لا ينبغي أن ينازع فيه أحد. ويبقى النزاع في تغير حكم الحادثة التي لم يتغير جوهرها ولا شيء من خصائصها وحيثياتها. نقول هذا ونؤكد عليه لأن هناك خلطًا بين هاتين القضيتين لا يمكن أن نَخْلص من آثاره السلبية إلّا أن ندخل في دراستنا لهذه المسألة من هذا المدخل وحينئذ نستطيع أن نفرّق بين حكم الحادثة الواحدة ذات الخصائص والحيثيات الواحدة، وإن مرت عليها عصور متتابعة - ونجزم بأن حكمها الأول في العصر الأول ينبغي أن يكون هو حكمها نفسه في العصور الأخرى، لأن شيئاً من خصائصها وحيثياتها لم يتغير، وإذا أردنا أن نغيّر حكمها من المشروعية إلى المنع علمنا أنه لا بد لنا من القول بالنسخ، والنسخ ليس لأحد من البشر، وإنما الذي ينسخ الأحكام هو الشارع، وقد انقطع بعد انقطاع الوحي، وبهذا نستطيع أن نفرق بين هذه الصورة - وبين الصورة الأخرى وهي انتقال الحادثة في الزمن ¬

_ (¬1) اخترت هذا المثال لوضوحه وأدائه المقصود وستأتي أمثلة كثيرة متصلة بأبواب كثيرة في الفقه الإِسلامي، عند مناقشة أدلة القائلين بالتغيير.

الأول - لتصبح ذات خصائص أخرى تختلف عن خصائصها الأولى وهذه يختلف حكمها ويتغير لأن الأولى تعتبر حادثة مستقلة لها حكم خاص وذلك مثل حكم المؤلفة قلوبهم، وهم نفر من الناس لم يستقر الإِيمان في قلوبهم، جعلت الشريعة لهم حق في مال الصدقة، يتألفهم الإِمام به، ليثبتوا على الإِسلام فَيُسْلِمْ من ورائهم ويسْلَمْ المسلمون من فتنتهم وشرهم، وهذا المعنى لا يخاف منه إلّا عند ضعف الإِسلام وحاجته لنصرتهم ومؤالفتهم، فالنص يوجب إذاً إعطاء هؤلاء المؤلفة لهذا المعنى، فيأتي الإِمام ليطبق هذا المعنى فيجد أمامه حالتين: الأولى: حالة ضعف الإِسلام، وقوم يحتاجون لهذا التأليف. الثانية: حالة قوة الإِسلام، وقوم يزعمون أنهم من المؤلفة قلوبهم. فيطلق حكم الله على الحالة الأولى فيعطيهم سهمهم، ويطبق حكم الله على الحالة الثانية فلا يعطيهم لأنهم ليسوا ممن أمر الله بإعطائهم، وهذا ما يسميه العلماء تحقيق المناط (¬1). فهما إذاً حادثتان لكل حادثة حالة خاصة تحتاج إلى حكم خاص ثابت لها لا يتغير، وحادثتان لها حكمان كما قلنا ليس غريباً ولا عجيباً، وكلا الحكمين من الشرع. ومن خلال هذا التحليل ينكشف لنا خطأ من أراد أن يفرق بين التغيير والنسخ (¬2)، حيث جعل النسخ حق الشارع، وقد انقطع بانقطاع الوحي، وعلل ذلك بأنه قد يكون النسخ إلى غير بدل، وأما التغيير فيكون إلى بدل، وفرق آخر وهو أن النسخ يمكن أن يكون في جوانب متعددة في الشريعة، وأما التغيير فمحصور في بعض الجوانب كالمعاملات ونحوها، وذلك لأن التغيير هنا ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 232. (¬2) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 18 - 24 - 25.

يكون سببه تغيّر المصالح والأعراف والعادات، فإذا انقطع النسخ لا ينقطع التغيير. وبمراجعة ما تقدم ذكره يتبين أن هذا التفريق لا ينبني عليه فقه ولا يحمل شيئاً من الصحة. وندلل على ذلك بما يلي إضافة لما ذكرته آنفاً: 1 - أن التغير عند المؤلف هو التبديل والتحويل (¬1)، والنسخ هو التبديل، أي تبديل الحكم الأول بحكم آخر، فالمشروع يُجعل ممنوعاً والممنوع مشروعاً، أو نسخه مطلقاً إلى غير بدل، وهذا تغيير لصفته الشرعية، فبعد أن كان شرعاً صار غير ذلك، فمن جهة المعنى الأصلي لهما لا تجد كبير فرق بينهما. وقد جعل المؤلف التغيير مضمونه "عبارة عن ترك الحكم الأول إلى الحكم الثاني" (¬2). 2 - ما سبق وقد ذكرته من أن تغير خصائص الحادثة لتغير الأزمنة إنما هو عبارة عن تجدد حادثة أخرى غير الحادثة السابقة، وحادثتان لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً كما أسلفت ولا يسمى ذلك نسخاً ولا تغييراً. أما أنه لا يسمى نسخاً فظاهر ذلك أن النسخ هو رفع حكم الحادثة نفسها أما إلى بدل - والحادثة هي الحادثة - وأما إلى غير بدل. وأما أنه لا يسمى تغييراً في الحكم فظاهر أيضاً لأن حكم تلك الحادثة نفسها لم يتغيّر كما قلنا في مشروعية إعطاء المؤلفة قلوبهم، وإنما الذي تغيّر هو طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة لها حكم جديد، ولا يقال هنا تغيّر في ¬

_ (¬1) تغير الأحكام بتغير الزمان 10. (¬2) تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان 18.

الحكم، وإنما يقال تغيّر في طبيعة الحادثة، لتصبح حادثة جديدة، فالمجموع حادثتان مختلفتان فيكون لهما حكمان مختلفان. ولم يبق سوى هاتين الصورتين: • إما أن تكون الحادثة هي هي مع اختلاف الأزمان فلا يمكن تغيّر حكمها إلّا بالقول بالنسخ ولا سبيل إلى ذلك. • وإما أن تكون الحادثة في الزمن الجديد غير الحادثة في الزمن القديم واختلاف حكمهما حينئذ لايقال له نسخ ولا تغيير، وهنا يتضح ما قلته أن مقابلة النسخ بالتغيير لا ينبني عليه فقه، والقول بأن النسخ قد انقطع والتغيير لم ينقطع لأن هناك فروقًا بينهما ليس صحيحاً. ومن هنا يتبين موضع النزاع وهو الصورة الأولى والتغيير فيها هو النسخ والتبديل المنهي عنهما. وأما الصورة الثانية فليست في موضع النزاع ولا ينبغي أن تقترب منه. وبهذا يتضح لنا السبيل ونحن ندرس هذه المسألة الخطيرة في الدين .. ونستطيع أن نعلم السبب في عدم التفات فقهاء السلف إلى أمثال هذه المقالة، التي أسماها بعض الباحثين "قاعدة"، ذلك أنهم من الفقه والبصيرة، بحيث لا يلتفتون إلى القول بالتغيير، لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: إما أن يكون نسخاً وتبديلًا وهذا ليس لأحد من البشر، وإما أن لا يكون تغيراً ولا نسخاً ولا تبديلًا، وإنما هو اختلاف وقائع وتحقيق مناط، ومن هنا نبدأ مناقشة هذه المقالة، لنتعرف على صحة القول بتغيّر الأحكام بتغيّر الزمان، وننظر هل هو قاعدة شرعية، وما هو موقف فقهاء الصحابة وفقهاء السلف منها ونقدم لذلك بذكر أسباب التغيير عند هؤلاء الباحثين، ثم بعد ذلك نفصّل القول في تصوير حقيقة هذه المقالة، ونعتمد في ذلك على أهم الكتب التي انتصرت لها، ثم نناقش ذلك ونتبعه بمناقشة بعض الباحثين فيما نسبوه إلى الإِمامين الجليلين ابن القيم والشاطبي.

المطلب الثاني أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين

المطلب الثاني أسباب التغير وتصوير مذهب المخالفين التغيير عندهم سببه تغيّر المصالح والأعراف (¬1) والعوائد (¬2) وقبل أن أتحدث عن صلاحية هذه الأسباب لتغيّر الأحكام يحسن بي أن أصور مذهب المخالفين .. ¬

_ (¬1) جاء في اللسان: " .. العرف والعارفة والمعروف واحد ضد النكر، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير. (اللسان مادة "عرف" 9/ 239). وكل ذلك يوحي بأن معنى العرف هو كل ما تعرفه النفوس من الخير وتتابع عليه ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ .. }. وقريب من المعنى اللغوي ما قصده الفقهاء - في الجملة - حيث تدور تعريفاتهم لمعنى "العرف" حول ما اطمانت إليه النفوس وألفته عن طريق الاستعمال الشائع المتكرر قولًا أو فعلاً. ومن أمثلة ذلك: اشتراط المسلمين بعض الشروط في البيع، واستصناعهم الثياب - وتعاملهم بذلك، ووقف بعض المنقولات وقبض بعضهم نصف الصداق قبل العقد، واعتياد بعضهم كشف رؤوسهم كأهل المغرب، ونحو ذلك. انظر في ذلك العرف والعادة في رأي الفقهاء، عرض نظرية في التشريع الإِسلامي بقلم أستاذي في قسم الدراسات الشرعية أحمد فهمي أبو سنة - مخطوط بدار الكتب المصرية، 2864/ 1949. (¬2) والعادة: الديدن، فكل ما استمر عليه الإنسان ودأب يسمى عادة، وجمعها عادات وعوائد. اللسان مادة "عود" 3/ 316 - 317. والعادة في عرف الفقهاء يشترط فيها التكرار في الحدوث، قولًا أو فعلًا، صدر من الفرد أو الجماعة سببه مكتسب أو غير مكتسب، مثل حرارة الإقليم وبرودته، فإن لهما أثراً في العادة على إسراع البلوغ وإبطاؤه، وطبيعة الأرض فإنه يترتب عليها عادة اشتغال الناس بالتجارة بنوع من الأموال، وقد ذكر د. أحمد فهمي تعاريف كثيرة اختار منها أشملها لمقصود الفقهاء فإن الفقهاء قصدوا من بحث العرف والعادة جعلهما قاعدة تُبنى عليها الأحكام العملية. انظر 10 - 11 - 12. ولذلك اشترط في تعريفها حدوث التكرار في القول أو الفعل من الفرد أو الجماعة بسبب مُكتَسب أو غير مُكتَسب وقد يسمى غير ذلك عادة أو عرفاً والمقصود هنا النظر فيما يكون قاعدة للحكم الفقهي.

تصوير مذهب المخالفين: يرى بعض الباحثين المحدثين أن الصحابة عللوا الأحكام سواء بالعلل المستنبطة أو المنصوص عليها، وعملوا بالمصلحة والحكمة - وهي ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة وكان من نتيجة تعليلهم هذا أن غيّروا بعض الأحكام تبعاً لتغيّر المعنى الذي لأجله شُرع الحكم وفي هذا رد على من منع تبدل الأحكام بتبدل المصالح، ووقف عند المنصوص، وإن أصبح لا يحصل المقصود منه أو لحق الناس من أجله الحرج والمشقة. والسر في ذلك - والله أعلم - أن أصحاب رسول الله نظروا إلى الشريعة في مجموعها، ملاحظين مبادئها العامة، وقواعدها الشاملة كلها في آن واحد، فلم يجمدوا، وأما هؤلاء المانعون (¬1) فنظروا إلى النصوص الجزئية مفككة كأن كل واحد منها جاء بشرع أبدي لا يتغير، ولكن الأمر الذي لا يغفل عنه هنا، هو أن المتتبع لمسالكهم في هذا التغير يجدهم لم يندفعوا فيه بمجرد ما يلوح أنه مصلحة، بل كانوا يجعلون الأصل هو مادل عليه النص، وأنه الذي يجب التمسك به، كما يؤخذ ذلك من عباراتهم: "كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله"، أو "كيف نفعل ذلك مع أن النص يفيد كذا" الخ .. ولا يعدلون عن هذا الأصل إلّا إذا دعت حاجة ملحة، ولا يسلمون التغير إلّا بعد تقليب الأمر على وجوهه، والموازنة بين مصالحه ومفاسده حتى إذا ما بان لهم الراجح عملوا به والله أعلم" (¬2). والأحكام - فيما سوى العبادات - تتغير بتغير المصالح والأزمان (¬3)، ويقول في موضع آخر: "وشيء جديد لم يظهر في تعليل القرآن وهو أن من ¬

_ (¬1) يقصد والله أعلم من يخالفه فيما قرره سواء نفاة التعليل أو القائلين به الذين يشترطون شروطاً معينة للعمل بالمصلحة فإن كان هذا مراده، فإن كلامه هذا لا يستقيم إذ أن الذين يعملون بالمصلحة ويلتزمون بضوابطها الشرعية لا ينظرون إلى النصوص مفككة، بل ينظرون لها جملة ويتعرفون على عللها ومقاصدها. (¬2) تعليل الأحكام 71. (¬3) المرجع نفسه 56 - 64.

الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها، والسبب في ذلك - على ما يظهرِ والله أعلم - أن هذا النوع من الأحكام مفوض لرأي الرسول - صلى الله عليه وسلم - باعتباره إماماً للمسلمين ... " (¬1). ثم يتحدث عن هذا التبدّل فيقول أنه تبدل في التطبيق فقط، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - فُوض إليه الحكم في كثير من الأشياء "وخاصة ما يتعلق بالهيئة الاجتماعية كالمعاملات والعادات وما شابههما حسبما يراه ملائماً للمصلحة، وهو مع ذلك لم يخرج عن كونه شرعاً أصله محكم لا يتبدّل، والذي يتبدل فيه إنما هو التطبيق فقط ... " (¬2). وقال في موضع آخر تحت عنوان تبذل الأحكام بتبدل المصالح: نتيجة البحث: "عُلم مما سبق موقف المصلحة من النص، وأنها إذا تعارضت معه في أبواب المعاملات والعادات التي تتغير مصالحها أُخذ بها، وليس هذا إهداراً للنص بمجرد الرأي بل هو عمل بالنصوص الكثيرة الدالة على اعتبارها، وأما إذا كانت المصلحة المستفادة من النص لا تتغير فلا يترك النص أصلاً، وأنه لا يتصور تعارض بينهما فضلًا عن أن يترك النص بها ... " (¬3). ثم استدل على إثبات مراده هنا بأن هذا هو مذهب الصحابة وذكر لذلك تطبيقات من فروعهم أراد بها إثبات هذه النسبة، واستدل بوقائع كثيرة وقرر مستنبطاً منها ما يلي: 1 - "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك - صلى الله عليه وسلم -" (¬4). 2 - "أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها، ومن أنكر ¬

_ (¬1) المرجع نفسه 34. (¬2) المرجع نفسه 34. (¬3) المرجع نفسه 322. (¬4) المرجع السابق 32.

ذلك فقد خالف إجماع الصحابة" ويقصد إجماعهم على تغير الأحكام تبعاً لتغير المصالح (¬1). 3 - قال عن عمر - رضي الله عنه -: "فقد منعهم -أي أهل الذمة من العمل -أي في الذبح للمسلمين - مع نص الكتاب على حل ذبائحهم" (¬2). ويقصد أن عمراً أوقف العمل بنص الآية. ومع أنه يصف الصحابة بمعارضة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... إلّا أنه يفسر مقصوده فيقول: "والذي نقصده هو إثبات أنهم -أي الصحابة- فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق بهم أن يخالفوا فعل رسول الله إلّا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة، ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلّم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم" (¬3). 5 - " .. أن من تتبع أحوال الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن" (¬4). وقد جاء كلامه هذا في معرض الرد على من اشترط إرجاع المصلحة إلى أصل معين ليشهد لها مبيناً أن هذا أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة (¬5). 6 - " ... ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي، وإن كانت ¬

_ (¬1) المرجع السابق 37 - 38. (¬2) المرجع السابق 43. (¬3) المرجع السابق 61. (¬4) المرجع السابق 293. (¬5) المرجع السابق 293.

في مقابلة النصوص، واشتهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة كيف وهم الذين أقامهم الله حراساً عليها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتبعهم في ذلك التابعون وتابعوهم ثم الأئمة من ورائهم". "فإن قيل إن ما وقع من ذلك لم يصح النص فيه عند الصحابي ولا الإِمام أو صح ولكنه رآه غير حتم، أو كان حتماً ولكن المخالفة راجعة إلى وصف منفك، قلنا مجرد احتمالات ممكنة، وليس كل ما ورد من هذا النوع يمكن تخريجه على هذه الوجوه وتلك الدعوى لا تسلم إلّا إذا صحبها استقراء وحصر لذلك، وهو لم يوجد بعد" (¬1). ويفهم المؤلف بعد ذلك كله أن المصلحة دليل كباقي الأدلة، فهو لا يتصور وجود مصلحة ملغية في هذا الباب "لأن المصلحة -كما يقول هو- إذا ثبت كونها دليلاً شرعياً في الجملة -كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي - كانت كباقي الأدلة الأخرى، في أن مجرد المعارضة لا يسوغ تسمية الدليل بالملغي .. " (¬2). وحاصل ما في هذه النصوص أن المؤلف يقرر الآتي: أولاً: أن الصحابة عللوا الأحكام وعملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة، وكانوا يخوضون في وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن، مع اضطراب في تقرير هذه القضية عنده ستأتي الإِشارة إليه. ثانياً: أن الصحابة عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام ¬

_ (¬1) المرجع السابق 302، ظاهر من مخهج المؤلف أن كتابه - تعليل الأحكام - مبني على ما نقله عن الصحابة من تطبيقات، وهو يظن أن الأمثلة التي جمعها تدل على مقصوده، ويطالب مخالفه في دعواه أن يستقرأ هذه الأمثلة ويخرجها على غير تفسيره هو، وهذا ما أسال الله عليه العون والتوفيق .. وإذا خرجت التفسيرات عن تفسيره بالأدلة الواضحة سقط كل ما بناه عليها والله المستعان. (¬2) المرجع السابق 282.

المطلب الثالث

الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص، وهذا يدل على أن المصلحة دليل كباقي الأدلة الأخرى. ثالثاً: أن من المصالح ما يتغير بتغير الزمان ولذلك فإن الصحابة بدلوا بعض الأحكام لتبدل الزمان والمصالح، وتارة يقول أن هذا التبديل إنما هو في التطبيق، ويستدل على ذلك بوقائع متفرقة، ويرى مخالفة النص بهذه المصلحة لأنه قد ثبت حجية المصلحة كدليل شرعي بمجموع نصوص. رابعاً: يعتبر هذا المنهج - الذي فهمه من تلك التطبيقات - هو المنهج الحق وأن الأصوليين حادوا عنه واشترطوا شروطاً لم يثبت عليها دليل. ومما تنبغي الإشارة إليه أن الاعتماد على تصوير هذا المذهب من هذا الكتاب خاصة سببه أن هذا الكتاب يعتبر عمدة في الانتصار لهذا الرأي ومنه يغترف أولئك الباحثون الذين جاءوا من بعده، وستكون المناقشة في المطلب الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن حسب الترتيب الآتي (¬1) والله المستعان. المطلب الثالث مناقشة القول بأن الصحابة عملوا بالمصلحة والحكمة ولم يسيروا وراء الأوصاف الظاهرة بل اتبعوا وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، وأنهم منعوا العمل ببعض الأحكام، وخالفوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث غيروا بعض الأحكام لتغير المصالح واشتهر ذلك بينهم فكان إجماعاً: ¬

_ (¬1) ولذلك فإني أعتبر هذه المطالب رداً وتفنيداً لشبهة تغير الأحكام سواء وردت في الكتاب المذكور أو في غيره من الكتب، وإنما تتبعتها كما جاءت فيه لأنه استوعب أكثر الشبه التي يمكن أن تروّج لقضية التغيير والتبديل، وقد بناها على القول باتباع المصالح، ونحن نحتاج إلى بيان مدى خطورة ترك ضوابط المصلحة من الناحية التطبيقية، ليكون في ذلك عبرة لكل من يتحدث عن الإِسلام ويعمل له، فكثيراً ما ضل قوم وهم يزعمون أنهم يتبعون المصلحة، ولا بد من استيعابه ومتابعة الشبه وتصحيح نقول بعض الباحثين عن الأئمة التي لم تصحح في بحوث أخرى، ولو اقتضى ذلك نوعاً من التطويل .. والله المستعان ..

1 - منع عمر - رضي الله عنه - سهم المؤلفة قلوبهم: قال الدكتور مصطفى شلبي: "أحكام وردت مطلقة أو معللة بعلة فلما بحثوها وجدوا تلك العلل قد زالت، أو ما شرع له الحكم قد تغير، فغيروا الأحكام تبعاً لذلك .. من ذلك: حكم المؤلفة قلوبهم شرع الله إعطائهم من الزكاة وأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مال الله كثيراً، وقال في بعض المواضع: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ تأليفاً لقلبه" هؤلاء المؤلفة قلوبهم منهم من كان مسلماً ضعيف الإِيمان ومنهم من كان على دينه، أعطاهم ليقوي إيمان الأول، ويحبب الثاني في الإِسلام، مضى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، ثم حدث في زمن أى بكر - رضي الله عنه - ما رواه الجصاص في تفسيره عن ابن سيرين عن عبيدة قال: جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا: يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما، وكتب لهما عليهما كتاباً فأشهد، وليس في القوم عمر، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله ثم تفل فيه فمحاه!، فتذمرا وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما والإِسلام يومئذ قليل، وإن الله قد أغنى الإِسلام، اذهبا فاجهدا جهدكما لا يرعى الله عليكما إن رعيتما ... ! فترك أبو بكر الإِنكار عليه" (¬1). قال الدكتور: "وهذا دليل على أن من الأحكام ما يدور مع المصالح ويتبدل بتبدلها ومن أنكر ذلك فقد خالف إجماع الصحابة الذي كثيراً ما يحتج به، وقد اعترف بكون إجماعهم حجة كل من قال بحجية الإِجماع. مناقشته: نسلم أن إجماع الصحابة حجة، ونخالف في تفسير النص المنقول عن عمر بهذا التفسير، والاستنتاج السابق من المستدل غير صحيح. والدليل على ذلك أن الآية الواردة في المؤلفة قلوبهم والتي أمرت بإعطائهم تتضمن حكمين في آن واحد وهما: ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 37 - 38.

الأول: أن المؤلفة قلوبهم يعطون من بيت المال. الثاني: وهو ضده أن غير المؤلفة قلوبهم لا يعطون. فعاد الأمر إلى تحديد من هم المؤلفة؟ .. والمؤلفة: هم أولئك الذين يكون الإِسلام بحاجة إليهم لأنهم زعماء في قومهم فإذا أسلموا أسلم من ورائهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقد كانا من زعماء تميم فإذا أسلم أمثال هؤلاء تقوى الإِسلام بمن ورائهم. ولعله يدخل في هذا المعنى ما أشار إليه المستدل من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه حتى لا يضعف أو يُفتن ويكل الآخرين إلى إيمانهم. فالأول من معنى التأليف لتقوية الإِسلام .. والثاني من معنى التأليف لمنع الفتنة أو الضعف. وإذا وقفنا عند القصة المذكورة نجد أن التأليف لتقوية الإِسلام غير متحقق، فالإِسلام حينئذ كثير، وهذا معنى قول عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما والإِسلام يومئذ قليل، أما أنتما اليوم فتريدان أن نتألفكما والإِسلام كثير، فأنتما لستما من المؤلفة قلوبهم اليوم وإن كنتم منهم من قبل، وهذا من عمر هو الفقه، وهو ما يسميه الأصوليون "بتحقيق المناط" (¬1). فإذا أراد الفقيه أن يطبق النص على حادثة حقق مناطها سواء أكان الفقيه صحابياً أو غير صحابي، فإذا وجد أنها تدخل في حكم النص أعطاها حكمه، وإلّا منعها من الدخول تحته، وهذا ما فعله عمر - رضي الله عنه - .. فقد حقق في شأن الرجلين، وشأن الإِسلام فعلم أنهما ليسا من المؤلفة قلوبهم، فمنعهم من الدخول تحت الآية ولم يعطهم .. والنص الوارد في القرآن هو هو لم يُبدل ولم يُغيّر، فمن أعطى المؤلفة قلوبهم كما فعل رسول الله، أو ظنهم مؤلفة كما فعل أبو بكر فقد أعمل الآية .. ومن منعهم لأنهم غير مؤلفة فقد أعمل الآية، ولا تغيير ولا تبديل. ¬

_ (¬1) انظر بيانه فيما سبق ص 232.

ومناط الآية ثابت إلى يوم القيامة، وهو: إعطاء المؤلفة قلوبهم ومنع غير المؤلفة، والتطبيق بحسب الواقعة والحال فأين التبديل والتغيير للحكم، بل أين الإِجماع على ذلك؟ فهذا المثال لا يثبت من دعوى المؤلف شيئاً، وهو مثال يكثر الباحثون من استعماله على الدعوى نفسها .. وأضرب مثالاً آخر يوضح المقصود ولا أحد يخالف فيه إن شاء الله، فأقول: لو أن إنساناً وقف مالاً على الفقراء من طلبة العلم في مسجد معين وجعل لكل منهم قسماً محدداً، ثم إن الناظر أعطى الفقراء ومنع غير الفقراء فهل يعتبر مغيّراً لشرط الواقف ومطلبه، كلا. ثم لو أن بعض هؤلاء الفقراء أصبح غنياً فارتفع عنه وصف الفقر، فلم يعطه الناظر شيئاً هل يعتبر قد غير من شرط الواقف أو مطلبه شيئاً؟ كلا. ثم إن هؤلاء الذين ارتفع وصف الفقر عنهم، لو أنه عاد لهم، ثم عاد الناظر، فأعطاهم أفلا يكون ذلك عملاً بشرط الواقف وقصده؟ إن عمل عمر - رضي الله عنه - لا يعدو هذه الصورة، ولم يغير ولم يبدّل. إذا عُلم ذلك فلا يجوز لمسلم أن يقول أن عمراً أوقف حكم الآية، ولا أنه ألغاه فالحكم هو الحكم، وعمر هو عمر الوقّاف عند كتاب الله - رضي الله عنه - وأرضاه .. 2 - استدل على دعوى تغيّر الأحكام بتغير الزمان فقال: "مثال آخر: أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات" (¬1). ¬

_ (¬1) سنن داود رقم 533، ومعنى تفلة أي غير متطيبة، وتفلة بفتح المثناة وكسر الفاء، وامرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح" فتح الباري 2/ 349.

هذا ما كان في زمن رسول الله، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصر النبوة، حتى قالت عائشة - رضي الله عنها - ما رواه أبو داود: "لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل" قال: "فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغيّر الحكم السابق حينما كان الصلاح عاماً والقلوب عامرة بالإِيمان، ولم يوجد الدخل في بعض النفوس فلو استمر الحكم مع تغير الحال لأدى إلى مفسدة عظيمة تزيد على ما يجلبه الخروج من المصلحة من تعليم الدين وإدراك فضل الجماعة .. ثم ذكر محاورة بين عبد الله بن عمر وابن له رواها أبو داود: قال ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائذنوا للنساء إلى المساجد بالليل" فقال ابن له والله لا نأذن لهن فيتخذنه دغلًا والله لا نأذن لهن!! فسبه وغضب، وقال: "أقول قال رسول الله: ائذنوا لهن وتقول: لا تأذن لهن" (¬1). قال المؤلف: "ولا غرابة في موقف ابن عمر هذا فذلك موقفه غالباً إزاء النصوص فلم يكن من أهل المعاني عكس والده - رضي الله عنه -، وذاك ابنه قد سلك مسلك جده من اعتبار المعاني التي شرعت لها الأحكام فيشرح لوالده السبب مع قسمه بالله، فهل ترى أنه يقسم مرتين وهو يسمع قول رسول الله ويرى غضب والده عليه وسبه له من أجل المخالفة من غير فائدة؟ لا شيء إلّا أنه دين الله والمحافظة عليه بدفع المفاسد عنه. فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف؟ لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر!!! ويقولون مقالته وقد رأوا فساد الأخلاق عم كل مكان وتهتك النساء فاق كل حد وتنطع الشبان بلغ الغاية" (¬2) .. مناقشته: نسلم مع المؤلف الرد على نفاة التعليل ونعمل بالقياس والمصلحة التي شهد الشرع لها، ونسلم معه السعي للمحافظة على دين الله بدفع المفاسد عنه، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى ذلك، وبيانه: ¬

_ (¬1) سنن أبي داود رقم 536، وتعليل الأحكام 38 - 39. (¬2) رسالة تعليل الأحكام 39.

1 - أن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين، ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟ والجواب: من الشارع لأنه كما تقدم لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة، فإذا قلنا هذا مفسدة فلا بد من شهادة الشرع لا نقول، وكذلك إذا قلنا أنه مصلحة. 2 - موقف ابن عبد الله عمر يدل على أن الخروج إذا ترتب عليه مفسدة يمنع، وهذا لم يدركه بالعقل، بل شهد له الشرع. وهذه الشهادة موجودة في النص نفسه، ألا ترى إلى اشتراط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعدم منع النساء من الخروج - خروجهن غير متزينات حيث قال: "ولكن ليخرجن تفلات" فإذا لم يتحقق الشرط وهو الخروج تفلات لا يؤذن لهن لأنهم لم يلتزمن به. فمن منع من الخروج علم أن الخروج غير تفلات مفسدة بالنص .. فالقول إذاً بأن هذا مفسدة ليس اعتماداً على العقل وإنما هو بشهادة الشرع .. فلا يقال: "فقد رأيت أن ما حدث يقتضي تغير الحكم السابق" لأن الحكم السابق هو: عدم جواز منع النساء من الخروج إلى المساجد إذا خرجن نفلات وأما إذا لم يخرجن كذلك فقد تركن العمل بالشرط الذي يجيز الخروج لهن فيمنعن، وهذا حكم ثابت لم يتغير ولن يتغير إلى يوم القيامة .. بقي تحقيق المناط هل هذه المرأة تفلة فتخرج أو غير تفلة فلا تخرج .. وهذا وإن تغير فليس هو الحكم .. وإذا تبين هذا سقطت دعوى المؤلف وغيره ممن يعتمد على هذه الآثار في القول بتغير الأحكام بتغير الزمان .. بقي أن نشير هنا إلى خطأ المؤلف في تصويره لمذهب ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث قال: "فماذا يقول نفاة التعليل في هذا الموقف، لعلهم يتعلقون بأذيال ابن عمر ويقولون مقالته" وهذا الكلام لا ينبغي أن يقال في حق أحد من الصحابة، بل الواجب على كل مسلم التأدب معهم.

ومع أن نفاة التعليل لا يملكون هذا فإن ابن عمر ليس ممن لا يتبع المعاني، حاصل ما في الأمر أنه شديد الحرص على المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى في مواطن صلاته في سفره ونحو ذلك. أما أنه معروف بأنه "لم يكن من أهل المعاني" فهذا ليس في النص المذكور دليلاً على ذلك .. ويدل على ذلك أن الصحابة يعملون بقاعدة سد الذرائع .. قال أستاذي الدكتور حسين حامد في كتابه نظرية المصلحة تعليقاً على محاورة ابن عمر لأبيه: "وهذا لا يفسر خلاف الصحابة حول قاعدة الذرائع، فإن أحداً لا يقول بأن الشارع إذا نهى عن مفسدة فإنه يبيح لعباده الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليها، وإلّا كان ذلك تناقضاً، وكان مؤدياً إلى مخالفة مقصود الشارع من دفع المفاسد ما أمكن الدفع، وسد كل طرق الشر ومسالكه، ولكنه يفسر الخلاف - والله أعلم - في تحقيق مناط هذه القاعدة، فبينما ترى عائشة وابن ابن عمر أن الزمن قد تغير، وأن الدين قد ضعف سلطانه على النفوس وأن الخروج إلى المساجد بالليل يتخذ ذريعة إلى المفاسد غالباً، ولذلك يجب أن يمنع محافظة على قصد الشارع الذي عرف من نصوصه، يرى ابن عمر أن العصر الذي يعيش فيه لا زال عصر طهر وعفاف، وأن حصول مفسدة من خروج النساء نادر أو في حكم المعدوم، وأن في شهود النساء المساجد والجماعات مصالح محققة لا تترك لمفاسد معدومة، ولا يمكن القول بأن ابن عمر يجيز خروج النساء إلى المساجد بالليل، وإنْ كثر حدوث الفسق، وغلب وقوع الفاحشة ممن يتذرعن بهذا الخروج إلى أغراضهن الخبيثة، فإن الشارع لا يرضى بالفاحشة ولا يفتح الطرق إلى الفسق قط .. فالخلاف في تحقيق مناط القاعدة وتطبيقها على الجزئيات (¬1) .. فابن عمر - رضي الله عنهما - من أتباع المعاني والمحافظين على نصوص الشرع ومقاصده. ثم أن اتِّباع الصحابة - رضي الله عنهم - أمثال ابن عمر وغيره والتمسك ¬

_ (¬1) 1/ 231.

بآثارهم ليس فيه مايدعو للعجب، فهم أولى بالاتباع لأن الحق لا يخرج عنهم وكل واحد منهم لنا فيه قدوة. وأما موقف ابن عمر مع ابنه فهو الحق في بيان أدب التربية والتعلم، فإن طالب الحق مجتهداً أو غير مجتهد إذا تبين له نص أو معنى شرعي يوجب تخصيص نص آخر أو تقييده لا يجيز له ذلك أن يقسم ويصرح بالمخالفة .. بل عليه أن يبين أن ذلك النص قد خصصه أو قيده أو نسخه نص آخر، فإنكار ابن عمر في موضعه فكيف يقال لأحد أن رسول الله أمر أو نهي أو أذن، فيقول لا آذن والله، بل الحق أن يقول أن هذا الأذن له شروط مذكورة في موضع آخر ثم يستكمل الاستدلال هذا بالنسبة لبيان وجهة ابن عمر .. أما ابنه - رضي الله عنه - فإنما أخذته الغيرة الشديدة على الدين كما قال ابن حجر (¬1) فحملته على أمر غيره أولى منه وأسلم - والله أعلم. 3 - حد الخمر: قال مستدلًا على أن الأحكام تتبدل بتبدل المصالح: "حرم الشارع الخمر وبين ما فيها من مفاسد، وما يعقب اجتنابها من مصالح كما سبق بيانه، ولكن ليس كل النفوس تتمثل خوفاً من عقاب أخروي أو رغبة في ثواب كذلك بل منها من لا يزجره إلّا أن يرى العذاب رأي العين، فشرع الشارع الحكيم لمن يشرب الخمر فأمر بضربه كما رواه أبو داود بسند عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتي برجل قد شرب فقال: "اضربوه" قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا هكذا لا تعينوا عليه الشيطان" وفي بعض الروايات تقدير ذلك بأربعين وفي بعضها: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حثا في وجهه التراب" وفي بعضها بعد الضرب قال لهم "بكتوه" (¬2). وروى البيهقي بسنده إلى عكرمة عن ابن عباس: "أن الشراب كانوا ¬

_ (¬1) فتح الباري 2/ 348 - 349. (¬2) معنى بكتوه أي وبخوه، انظر سنن أبي داود رقم 4312.

يُضربون على عهد رسول الله بالأيدي والنعال والعصي قال وكانوا في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - أكثر منهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم هذا فتوخى نحو مما كانوا يضربون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر - رضي الله عنه - فجلدهم أربعين إلى أن قال: ثم كثروا فشاور فقالوا: ثمانين" (¬1). والمشاورة رواها البيهقي أيضاً بسنده إلى الزهري قال: " .. أخبرني حميد ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة الكلبي قال: "أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر - رضي الله عنه - فأتيته ومعه عثمان وعبدالرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، فقال عمر - رضي الله عنه -: هم هؤلاء عندك فاسألهم فقال علي: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك ما قالوا" (¬2). ثم قال المؤلف تعليقاً على هذه النصوص: "والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئاً لم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبعاً لاقتضاء المصلحة، ولا يليق بهم أن يخالفوا فعل رسول الله إلّا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ففعلهم هذا عين الموافقة، ولكنا سميناها مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلّم معنا هذا المبدأ "مبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم" (¬3). المناقشة: أولًا: إذا كان المؤلف يريد في كتابه "تعليل الأحكام" إثبات ¬

_ (¬1) سنن البيهقي 8/ 320 الطبعة الأولى 1354 هـ - وتعليل الأحكام 60 - 61 - 62، وسنن أبي داود 4314. (¬2) سنن البيهقي 8/ 320، وسنن أبي داود 4324. (¬3) تعليل الأحكام 61.

تعليل الأحكام فذلك مسلم، بل هو مذهب أكثر أهل السنّة ما عدا نفاة القياس (¬1). ثانياً: أما إذا كان يريد أن يثبت أن بعض الأحكام يتبع المصلحة وأن هذه الأحكام تتبدل بتبدل الزمان وأن هذا إجماع الصحابة فهذا غير مسلّم، وقد مر بيان أن ما استدل به سابقاً لا يدل له البتة. أما استدلاله بهذا المثال فلا يدل له على دعواه، وبيان ذلك أن هذه المسألة - وإن كان سندها العمل بالمصلحة، إلّا أنها ترجع إلى أصل كلي, وهذه شهادة من الشارع لها بالاعتبار، ولنتعرف الآن على الأصل الكلي وعلى المصلحة المعتبرة هنا، والأصل الكلي -كما مر بيانه- هو أن الشارع اعتبر المظنة في الأحكام أصلاً شرعياً كلياً والدليل عليه الاستقراء، فتأخذ المظنة حكم المظنون (¬2). ويبقى النظر بعد ذلك في دخول مسألة "حد الشرب" تحت هذا الأصل فقد تشاور الصحابة فعلموا أن الشرب مظنة القذف فأعطوه حكمه فقال علي - والصحابة له موافقون: "تراه إذا سكر هذى وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر بلغ صاحبك". فهي مسألة كان لها حد مقدر في الشرع، وإنما كان يطبق الحد المقدّر الذي يتم به الردع والزجر، وورد في بعض الأحاديث أن الصحابة حرزوه أربعين لما سألهم أبو بكر - رضي الله عنه - عن ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ثم هو أربعين، ثم اجتمع الصحابة وتشاوروا واعتمدوا في ذلك على المصلحة الشرعية التي شهد الشرع لجنسها، فجعلوه ثمانين كحد القذف لأن المظنه تأخذ حكم المظنون .. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 383. (¬2) انظر المسألة فيما سبق ص 433 - 434. (¬3) سنن أبي داود 4324.

فأين اتباع مجرد المصلحة؟ وأين تغيّر الحكم؟ وليس في النص مخالفة لفعل رسول الله ولا لقوله، ولا يجوز تسميته مخالفة لا في موضع الحجاج ولا في غيره .. ومن الأسباب التي حملت المؤلف على الدخول في هذه الإطلاقات هو أنه يقارن بين طرفين: الأول القول بإثبات التعليل، والثاني القول بنفيه، وينتصر للطرف الأول دون أن يلتزم بشروطه، فإن مثبتي التعليل من أهل السنّة لا يتبعون مجرد المصلحة وإنما يشترطون أن تكون هذه المصلحة التي يجب اتباعها مصلحة لم يشهد الشارع بردها، فلا بد أن تعرض عليه فينظر فيها أيقبلها أم لا؟ فهم يعللون الأحكام ويعتبرون النظير بالنظير ويعملون بالمصالح المرسلة وهم مجمعون بعد ذلك على رد كل مصلحة لا يقبلها الشرع. والمؤلف غفل عن هذا وانتصر لمبدأ التعليل، وأدخل معه - شعر أم لم يشعر بخطورة ذلك - قوله "وإن بعض الأحكام يتبع المصلحة". والواجب أن يقيدها بالقيد الذي اتفق عليه القائلون بالتعليل، أما أن يطلقها هكذا من غير قيد ثم يرتب على ذلك أن بعض الأحكام تتغير بتغيّر الزمان، وأن الصحابة كانوا يبدّلون هذه الأحكام وأنهم مجمعون على ذلك، فذلك أمر لم يثبته بعد، ولا يمكن لأحد أن يثبته لوضوح بطلانه وفساده. 4 - حد السارق: "يروي لنا مالك في الموطأ بسنده عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطبـ "أن غلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر أراك تجيعهم، ثم قال: والله لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر: اعطه ثمانمائة درهم" (¬1). "وقد روى ابن وهب هذا الأثر في موطئه مفسراً وفيه: فأمر كثير بن ¬

_ (¬1) تنوير الحوالك شرح الموطأ 2/ 220.

الصلت أن يقطع أيديهم ثم أرسل وراءه من يأتيه بهم فجاء بهم لعبد الرحمن: "أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما الله لأكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذْ تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك" (¬1). قال صاحب كتاب "تعليل الأحكام": "فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع، وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم, وهو أنهم جاعوا فأخذوا مال الغير، وذلك لفهمه أن القطع عقاب للجاني من غير حاجة ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له - رضي الله عنه - وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات" (¬2). المناقشة: اشترط الشارع لوجوب القطع شروطاً وهي: 1 - أن يكون المسروق نصاباً. 2 - أن يكون من حرز. 3 - أن لايكون فيه شبهة ملك. 4 - أن لا يكون آخذه محتاجاً إليه لسد رمقه. فإذا تحققت هذه الشروط وجب الحد، وإذا تخلف أحدها لم يجب (¬3). وعلى كل شرط من هذه الشروط دليل شرعي، فأما شرط النصاب والحرز فظاهر وأما شرط انعدام شبهة الملك والحاجة إليه لسد رمقه فلأن من أخذ مالًا له فيه شبهة ملك لا يعتبر سارقاً لمال غيره، وكذلك من أخذ ما يحتاج إليه لسد رمقه إنما أخذ مالًا له فيه حق، كما سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة وقد كان عمر يظن أنه يجيعهم فلذلك امتنع عمر عن قطعهم لوجود هذه الشبهة (¬4). ¬

_ (¬1) وهو من معنى الأثر السابق - انظر المصدر السابق 2/ 220. (¬2) تعليل الأحكام 62 - 63. (¬3) راجع المسألة في كتاب المغني 9/ 103 إلى 137. (¬4) المغني 9/ 136.

فإذاً الحد الذي أوقفه عمر - رضي الله عنه - إنما أوقفه لعدم تحقق شروطه التي اشترطها الشارع، بل إن عمر لا يستطيع أن ينفِّذ الحد الذي لم تحقق شروط تنفيذه لأن في ذلك مخالفة للشارع. فالعموم في آية السرقة لا يصلح وحده لتطبيق الحد بل هناك شروط وردت في السنّة لا بد من اعتبارها، ومن اعتبرها -كما هو صنيع عمر- لا يقال له أنه خالف الآية. وأيضاً فإن عدم القطع ليس سببه تعلق عمر بمطلق مصلحة أو دفع مطلق مفسدة أو اتباعاً لحكم العقل، بل سببه مراعاة نصوص أخرى وردت في السنّة. وأما قول صاحب تعليل الأحكام "لو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما ساغ له - رضي الله عنه -، وهو من أعلم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام شامل لجميع الأوقات" (¬1). فيلاحظ عليه أمران: الأول: إن كان مقصوده بالنص المجرد النص بدون النظر إلى معناه، فليس ما نحن فيه من هذا القبيل، ذلك لأن النصوص التي وردت في حد السرقة منها ما هو عام كالآية ومنها ما هو مخصص لهذا العموم. فإذا كانت الآية توجب قطع كل سارق سواء سرق من حرز أو من غير حرز أو سرق نصاباً أو دونه أو تحققت شبهة بسبب ملك أو مجاعة، فإن السنة خصصت هذا العموم فلا يقطع إلّا من سرق نصاباً من حرز مثله بلا شبهة. فتبين بعدئذ أن النص الوارد في القرآن مخصوص لم يأت لجميع الأوقات بل يستثني منه وقت المجاعة لورود نص آخر يمنع القطع عند تحقق الشبهة. فيصح أن يقال أن تطبيق الحدود يُتبع فيها النصوص بعد الجمع بينها ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 63.

والنظر فيها، ومن فعل ذلك فقد وافق القرآن والسنة كما فعل عمر - رضي الله عنه - (¬1). وأما عبارة المؤلف بأن الحدود لا يُتبع فيها النص المجرد وأن عمر خالف الآية فلا وجه لها. والله أعلم. الثاني: أن الحكم - وهو وجوب القطع لمن سرق نصاباً من حرز مثله بلا شبهة ثابت إلى يوم القيامة، وأما تحقيق مناطه وهو تطبيقه، فبحسب الحادثة الواقعة فإذا سرق غلمان ناقة بلا شبهة كاضطرار لسد الرمق قطعوا، وإذا سرقوا كما سرق غلمان حاطب لم يقطعوا لتحقق الشبهة، والحكم ثابت مع ذلك لا يتغير. 5 - استدل على قوله بأن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها بأن "أصحاب رسول الله يعارضون أمره بما يترتب عليه من ضرر يلحق المسلمين بسببه فيقرهم على ذلك - صلى الله عليه وسلم - من هذا ما رواه البخاري بسنده عن يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة - رضي الله عنه - قال: خفت أزواد القوم وأملقوا (¬2) فأتوا النبي في نحر إبلهم فأذن لهم، فلقيهم عمر - رضي الله عنه - فأخبروه: فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم، فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع فقام رسول الله فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم، فاحتسى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" (¬3). فقد عارض عمر إذن رسول الله بالنحر بالمصلحة وأقره الرسول على ذلك (¬4). مناقشته: إن هذا النص الذي استدل به على جواز معارضة حكم الشرع بالمصلحة مثل النصوص السابقة لا تدل له على شيء من ذلك. ¬

_ (¬1) انظر كيفية الاستنباط من الآية في أحكام القرآن لإبن العربي 2/ 615. (¬2) معنى أملقوا افتقروا. انظر فتح الباري 6/ 130. (¬3) فتح الباري 6/ 129 - 130. (¬4) تعليل الأحكام 32.

وقد ادعى الدكتور شلبي هنا دعوى عريضة لا برهان عليها وهي قوله: "ولقد وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره ... " مع أن كل مسلم يعلم أنه ليس لأحد من المسلمين أن يعارض أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} (¬1). ويقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2). وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬4). ومعلوم أن الصحابة من أتْبعَ الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فكيف يقال إنا "وجدنا أصحاب رسول الله يعارضون أمره". وهذا المعلوم عن الصحابة من المحكم الذي لا يقبل الجدل .. وأما ما نقله فإنه في الحقيقة لا يعارض ما قررته آنفاً .. وحاصل ما في هذه الرواية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنه القوم في نحر إبلهم فأذن لهم في ذلك، ومثله ما علمناه من الشارع من الإِذن في عمل المباحات، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بعد ذلك أنهم إن نحروا إبلهم لم يبق لهم شيء بعدها ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 64. (¬2) سورة الأحزاب: آية 36. (¬3) سورة النور: آية 63. (¬4) سورة الحجرات: آية 1.

فلم يأذن لهم وأمر الناس أن يتصدقوا عليهم، و"توالى المشي ربما أدى إلى الهلاك" (¬1). وما فعله عمر إنما هو بيان لحقيقة المسألة، فلما ذكرها للرسول - صلى الله عليه وسلم - بين حكمها وأمر الناس بالصدقة، فأين المعارضة؟ ثم إننا قد علمنا من السنة في مواضع كثيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه، فيبينون له حاجتهم واستفساراتهم ثم يجيب عليها حسب الواقعة، ثم إذا تجدد له علم بحقيقة الواقعة بين حكمها بحسب ما يتجدد له، وهذه القصة التي معنا من هذا الباب وهي تدل -كما قال ابن حجر على جواز المشورة على الإِمام بالمصلحة وإن لم تتقدم منه الاستشارة (¬2). ألم تر إلى منزله - صلى الله عليه وسلم - في بدر حيث بين له بعض أصحابه أن هذا لا يصلح منزلًا لقتال القوم فأمر رسول الله باتخاذ منزل آخر، ولم يكن في قول الحباب بن المنذر معارضة لرسول الله. وكذلك قصة تأبير النخل فإنه أمرهم أن لا يؤبروا النخل، لظنه أن ذلك لا ينفعه فلما علم أن النخل لم يثمر فاشتكى له أصحابه أجاز لهم ذلك وأخبرهم أنه لا يعلم بحقيقة الواقعة حيث قال أنتم أعلم بأمور دنياكم، وهذه الحوادث مشهورة معلومة .. وكذلك ما نحن فيه لم يعلم - عليه الصلاة والسلام - بأنهم إذا نحروا إبلهم لا يبقى لهم شيء، فلما علم أمر لهم بالصدقة. وفي هذه الحادثة نفسها لو أن رسول الله أمر بذبح الإِبل - بعد أن بين له عمر أنه لا يبقى لهم شيء - لَمَا عارضه أحد من الصحابة، فكيف يتصور أحد أن في هذا معارضة .. ومن المعلوم أن المفتي قد يفهم الواقعة التي اسْتُفْتيَ فيها على غير وجهها - إما لعدم العلم بحقيقتها أصلًا أولعدم وضوحها - ثم يفتي فيها بحسب ¬

_ (¬1) فتح الباري 6/ 130. (¬2) فتح الباري 6/ 130.

ما فهم فإذا بين له أن الواقعة ليست كذلك بل هي كذا وكذا نظر في حكمها بهذا الاعتبار فكان لها حكم آخر، ولا يقال أن الحكم قد تغير .. ولا يقال أن البيان لحقيقة الواقعة معارضة .. والله أعلم. ولنأتي بمثال تطبيقي نرد به على القائلين بتقديم المصلحة على النص وهو موقف عمر من أبي بكر في حرب الردة حيث تظهر فيه مقابلة المجتهد النص بالمصلحة التي يحسبها شرعية .. ولننظر أيقبل ذلك منه أم لا؟ روى البخاري بسنده عن عبد الله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". قال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" (¬1). وقد سأل الناس أبا بكر في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة فأبى .. والذين سألوه ذلك إنما أرادوا العمل بالمصلحة، إذ المصلحة في الظاهر إبقاء الجيش ليقاتل مع المسلمين أهل الردة بل إن عمر ظن أن المصلحة في ترك قتال أهل الردة، فلما بين لهم أبو بكر أن ما يرونه إنما هو مخالف لما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركوا ماظنوه مصلحة - وهم مجتهدون - وعملوا بما ورد في النص. وفي هذا دليل على أن المصلحة التي تعارض النص مردودة، وحتى وإن ظن المجتهد أنها مصلحة، وآية قبولها شهادة الشرع لها، فإذا لم يقبلها لم تقبل، ¬

_ (¬1) فتح الباري 12/ 275.

فكيف يتصور أحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل من أحد معارضة النصوص بالمصلحة، التي يدعوا لها هؤلاء الكتاب! ولذلك لم يقبل أبو بكر من أحد شيئاً من ذلك حتى مع أنهم مجتهدون بل بيّن ووضح، قال الإِمام الشاطبي: "ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال، إذْ وجِدَ النصُ الشرعي المقتضي لخلافه، وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه على قتال أهل الردة، فأبى لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). فهذه القصة تصلح مثالاً لمقابلة المصلحة للنص، وفي النهاية تحمل دلالة قوية على أن المصلحة المقابلة للنص لا عبرة بها حتى وإن كانت من كبار المجتهدين. وبعد هذا لا ينبغي لأحد أن يتصور أن المصلحة يمكن أن يُعارض بها النص، وأنّ أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعارض أمره - وهو يعلم - بالمصلحة فضلاً أن يقره رسول الله على ذلك، والله أعلم. ومن المفيد هنا أن نقول إن كل ما في جيل الصحابة - رضي الله عنهم - ورضوا عنه، موضع للقدوة الباركة، حتى اجتهادهم الذي يعلمون أنه بعد ذلك مخالف للصواب فيرجعون عنه، هو موضع قدوة، لأن فيه معنى الرجوع إلى الحق واطّراح مجرد التفكير البشري، والصبر عن متابعة رغبات النفس وحظوظها. وما أشد حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأخلاق الإِيمانية والمواقف العظيمة التي لا يتحقق الصدق في الدين إلا بها. 6 - استدل المؤلف أيضاً على ما سبق - من قوله: إن من الأحكام ما يدور مع المصلحة ويتبدل بتبدلها وأن الصحابة مجمعون على ذلك بما روى ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 225.

أبو داود بسنده إلى جنادة بن أبي أمية قال: "كنا مع بسر بن أرطاة في البحر فَأُتيَ بسارق يقال له مصدر قد سرق بختية، فقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته" (¬1) وفي رواية الترمذي والدارمي "في الغزو" بدل السفر" (¬2). قال صاحب تعليل الأحكام: "هكذا ورد الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجرداً من بيان سبب هذا النهي، فماذا فهم أصحابه فيه من بعده؟ أوقفوا عند النصوص وقصروا النهي على حد السرقة، وقالوا إن الشريعة نصوص تعبدنا الشارع بها، أم فهموا أن هذا النهي معلل بعلة قصد به دفع مفسدة عن الأمة أو جلب مصلحة لها؟ " (¬3) قال د. شلبي: "ولو تأملت هذه التعليلات في تلك الآثار لوجدت اختلافاً حسب اختلاف الأشخاص، فعمر وزيد - رضي الله عنهما - عللا بخوف اللحاق، وهذا يكون في الرجل العادي من الجيش، وأبو مسعود وحذيفة لم يعللا بذلك لأن مثل أمير الجيش لا يلحق بالعدو عادة، بل يطمع العدو فيهم ويظهر ضعفهم أمامه إذا أقاموا عليه الحد، وإن كان الكل يلتقي عند شيء واحد وهو لحوق الضرر بسبب ذلك الفعل ... وهذا التعليل لم يخالف نصاً ولا قياساً ولا إجماعاً، وليس فيه إلا تأخير الحد لمصلحة راجحة، أما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، ومثل هذا التأخير لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر الحد عن الحامل والمرضع وعن وقت الحر والبرد والمرض، وهو لمصلحة المحدود خاصة، فما بالك بما هو لمصلحة الإِسلام عامة؛ فهذا النوع ورد الحكم فيه غير معلل فعللوه بما يترتب على الفعل من ضرر" (¬4). ¬

_ (¬1) مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابي رقم 4246. (¬2) سنن الترمذي رقم 1474. (¬3) تعليل الأحكام 36. (¬4) تعليل الأحكام 37.

مناقشته: أسلم للمؤلف ما ذكره من هذه الروايات، وأخالفه في النتيجة التي رتبها على ذلك .. وبيان ذلك: أن المسألة الفقهية وهي "أن الحدود لا تقام في أرض العدو، منقولة عن الصحابة وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق وأحمد، وقال الشافعي يؤخره حتى يأتي الإِمام لأن إقامة الحد إليه (¬1). واستدل من قال بالتأخير بالأدلة التي سبق ذكرها وهي حجة لهم (¬2)، وهو الصحيح .. وبقي أن نتعرف على سند هذه المسألة هل هو المصلحة المجردة؟ وهل يؤدي القول بأن الحدود لا تقام في أرض العدو إلى تغير الحكم الذي دل عليه النص الشرعي وهو وجوب إقامة الحدود؟ والجواب أن سند هذه المسألة هو القاعدة المعروفة بقاعدة "سد الذرائع" وهي قاعدة عمل الصحابة والسلف الصالح بها، قال الإِمام الشاطبي: "إن قاعدة الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها وكإتمام عثمان الصلاة في حجه بالناس وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة (¬3) إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها، مع أن المنصوص فيها إنما هو أمور خاصة كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا. . .} (¬4). وقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المغني 308. (¬2) المغني 308 - 309، تعليل الأحكام 36 - 37. (¬3) انظر ما سبق ص 358. (¬4) سورة البقرة: آية 104. وقد كان المسلمون من قولهم: "راعنا" الخير فاستعمله اليهود (0) وهم يقصدون به الشر، يقصدون فاعلًا من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن ذلك، تفسير ابن كثير 1/ 150 وأعلام الموقعين 3/ 137. 1/ 150 وأعلام الموقعين 3/ 137. (¬5) {فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 108 - الأنعام.

وفي الحديث: "إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه" (¬1) وأشباه ذلك وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في سد الذريعة" (¬2). وهذه القاعدة لها في الشريعة أدلة كثيرة وقد أحصى منها الإِمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين تسعة وتسعين وهي تدل على أن وجوب سد الذريعة قاعدة من القواعد الشرعية قال: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف" (¬3). والاستقراء كما عبر عنه الشاطبي هو"استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ" (¬4). ومن فوائد هذه القاعدة البناء والتفريع، ذلك أنها تتضمن معنى - وهو السد - وقد اسْتُقرِأت الأدلة من الكتاب والسنّة فأفادت اعتبار الشارع له، بحيث لم يعد المجتهد يحتاج إلى دليل خاص إذا أراد أن يحكم على نازلة خاصة بل يدخلها تحت عموم المعنى ... يقول الإِمام الشاطبي: "ولهذه المسألة فوائد تنبني عليها أصلية وفرعية وذلك أنه إذا تقررت عند المجتهد ثم استقرئ معنى عاماً من أدلة خاصة واطرد له ذلك المعنى لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تعن بل يحكم عليها وإن كانت خاصة، بالدخول تحت عموم المعنى المستقرئ من غير اعتبار بقياس أو غيره، إذا صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة فكيف يحتاج مع ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه، قال نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه" فنهاه عن سب غير أبيه وأمه لكي لا يتخذ ذريعة لسب أبويه. باب أكبر الكبائر 2/ 83 - صحيح مسلم بشرح النووي. (¬2) الموافقات 3/ 189، 190. (¬3) 3/ 137 - 159. (¬4) الموافقات 3/ 188. (¬5) المصدر السابق 3/ 192.

وقرر الإِمام الشاطبي على هذا أن الإِمام الشافعي والإِمام أبا حنيفة يعتبران سد الذريعة، وما وقع الخلاف فيه من المسائل الجزئية لا يدل على عدم اعتبار هذه القاعدة عندهم، بل امتنع دخول بعض المسائل تحتها لوجود عارض يمنع من ذلك (¬1)، وهذا ما قرره الدكتور حسين حامد حسان في كتابه نظرية المصلحة حيث استند على أدلة كثيرة في بيان أن الشافعي وأبا حنيفة وأحمد يسدون الذريعة فقال: "والخلاصة أن قاعدة الذرائع قاعدة متفق عليها بين الأئمة" (¬2) .. فإذا انضاف إلى ذلك عمل السلف بها من الصحابة ومن بعدهم تقرر عند المجتهد أن هذه القاعدة تدخل تحتها مفردات كثيرة ومن هذه المفردات مسألتنا هذه وهي منع إقامة الحدود في أرض العدو، وهذا من تطبيقات سد الذرائع فهو في الأصل فعل مأذون فيه بل يجب تطبيق الحدود إذا تحققت الشروط الشرعية، ومنع تطبيق الحدود في الغزو سداً للذريعة الفساد، وهذا الفساد متحقق إما في لحوق المحدود بالعدو وإما بطمع الأعداء في المسلمين إن كان الحدود أميراً فيهم (¬3). فرجوع هذه المسألة إلى قاعدة سد الذرائع المعمول بها عند الصحابة والتابعين والأئمة هو السند الحقيقي لها. ولا تفتقر بعد ذلك إلى نص خاص ولا قياس ولا إجماع .. فمنع إقامة الحدود في أرض العدو ليس مستنداً إلى مصلحة مجردة، وليس مؤدياً إلى تغير الحكم الذي جاءت به النصوص وهو إقامة الحدود .. بل حاصل ما في الأمر أن إقامة الحدود واجبة وهو حكم ثابت لا يتغير، ومن شروط تطبيقه أن تنتفي الشبهة كما مر سابقاً، وأن تؤخو الحامل والمرضع ولا يكون الوقت شديد الحر أو شديد البرد وأن لا يكون في أرض العدو .. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 3/ 193. (¬2) 226، وانظر 200، 391، 509. (¬3) انظر أعلام الموقعين 3/ 143 - 154 ونظرية المصلحة 227.

وهذه المسائل والتقسيمات ثابتة ومنها ما شهد له نص خاص ومنها ما شهدت له قاعدة سد الذرائع وهكذا .. فلا يقال إن عدم تطبيق الحدود في المجاعة تغير للحكم، وأن الصحابة بدلوا بعض الأحكام وغيروها، ولا أن عدم تطبيق الحدود في الغزو اتبع فيه التعليل الذي أدى إلى تغير الحكم وتبديله، بل هذه المسائل إنما اتبع فيها النص الخاص كما في الأول، وقاعدة الذرائع كما في الثاني، ولا وجه لقول المؤلف وهويستدل بمثل هذه الوقائع، أن من الأحكام ما يتبع المصلحة ويتبدل بتبدلها، وأن ذلك هو فعل الصحابة فكان إجماعاً. وبعد: فقد تبين لنا من عرض هذه الأمثلة عند المؤلف أنها لا تدل له على ما ذهب إليه، وأنه لم يفرق بين تنقيح المناط، وبين تحقيق المناط الذي هو نظر المجتهد في الواقعة .. ومثال الأول قول الشارع "كل مسكر حرام" ومثال الثاني قولنا هذا الشراب مسكر. فإذا نظر الفقيه في شراب ما فعلم أنه مسكر ثم طبق عليه حكم الشارع فعمله هذا يسمى "تحقيق المناط" وهذا يمكن أن يتغير بحسب ثبات الحالة التي أمامه فإذا استقر الشراب على حالته الأولى فكان مسكراً أفتى الفقيه بالحرمة، وإذا تغير فزال الإِسكار عنه - كأن أصبحت الخمر خلاً - فأفتى بجواز استعمالها فإن هذا لا يعد تغيراً في حكم الخمر وهو التحريم، بل هو حكم ثابت. ومثل ذلك موقف عمر من المؤلفة فإنه إنما حقق مناط المسألة ولم يغير الحكم وهو وجوب إعطائهم، ولم يمنع العمل بالآية (¬1). ¬

_ (¬1) ومثله ما نسبه إلى عمر - رضي الله عنه - ص 37 - 38. من أنه منع أهل الذمة من الذبح للمسلمين واعتبر هذا العمل من عمر - رضي الله عنه - مخالفة للنص الذي أجاز حل ذبائحهم وهو قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}. والظاهر - والله أعلم - أنه لا ارتباط بين الموضعين فحل ذبائحهم لا يلزم منه جواز استخدامهم في الذبح للمسلمين في أسواقهم من دون المسلمين، والاعتماد عليهم في مثل هذه الأمور، حتى يقول أن عمر منع ذلك مخالفاً فيه للآية، فالجهة منفكة كما يقول الأصوليون.

المطلب الرابع بيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص

وكذلك مسألة تطبيق الحدود فإنه مشروط بشروط فإذا لم تتحقق فلا تطبق، وليس ذلك تغير لوجوب إقامة الحد. ومثل ذلك منع خروج النساء إلى المساجد .. وأما مسألة حد الخمر فإنما اتبع الصحابة فيها المصلحة التي شهد لها أصل كلي، ولم يتبعوا فيها مجرد المصلحة، ولم يغيروا بها شيئاً، وكما أن هذه المسألة سندها المصلحة التي شهد لها الشارع، فإن سد الذريعة هي سند الصحابة في منع حد السكر ونحوه في الغزو. وهكذا في مسألة عدم قصر عثمان - رضي الله عنه - الصلاة في الحج وترك الأضحية فإنها من باب سد الذريعة، والمؤلف لم يشر إلى هذا، وكأن الصحابة يتصرفون في الأدلة بغير ضابط شرعي (¬1). المطلب الرابع بيان موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من النصوص إذا تقرر ذلك يحسن بي أن أُلِمَّ بموقف الصحابة من النص، وهو معلوم عند العلماء المعتبرين، فإنهم لم يكونوا يتركون النص إلى رأي أو مجرد مصلحة بل كانوا يتشاورون ويردون المسائل إلى النصوص .. فاستدلالهم لا يخرج عن العمل بالنص أو الحمل عليه، وإذا استنبطوا منه معنى واحتجوا به فلا يلزم من ذلك أن يصرحوا بالطريق الذي استنبطوه به، لكن المقطوع به أنهم لم يكونوا يستنبطون الأحكام بمجرد الرأي، وقد سبق ذكر إجماعهم على ذم الرأي الذي لا دليل عليه (¬2). فقول صاحب تعليل الأحكام "ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من ¬

_ (¬1) ومثل ذلك ما قاله في ثضمين الصناع ص 59. مع أن هذا المثال في الحقيقة يدخل تحت أصل أو قاعدة معتبرة وهي قاعدة سد الذرائع. انظر نظرية المصلحة 341، أو تدخل تحت أصل معتبر وهو أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة عند التعارض في الوقائع التي لم يرد فيها حكم منصوص. نظرية المصلحة 133 - 137. (¬2) انظر الإِجماع ص 266 - 384.

غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن" مخالف للإِجماع المنقول عنهم، إذ كيف يذم الرأي من لا يلتفت إلى الأصول كانت أو لم تكن ويتبع "وجوه الرأي" على حد قول المؤلف. وبسبب اتباعه هذا الوهم المخالف للإجماع أخذ يطلق المصلحة من ضوابطها، ويحاول الاستدلال بها دون أن يقيدها بكونها مصلحة شرعية لا تعارض مقصود الشارع، ومقصوده يعرف من النص أو الإِجماع. وبسبب هذا الوهم أيضاً نجد عباراته مضطربة فبينما هو ساع في تقرير مسلكه - الذي ليس له فيه ولي إلّا الطوفي (¬1) - تجده يضطرب أمام سيل الحقائق العلمية التي تثبت أن المصلحة المعارضة للنص مردودة وملغاة وأن ذلك هو منهج الصحابة والأئمة (¬2). ومن المواضع التي اضطرب فيها: قوله: " ... إن المصالح التي عمل السلف بها في مقابلة النصوص لم تبلغ رتبة الضرورة، وأن العمل بالمصلحة في مقابلة النص ليس تركاً للنص بالرأي في الواقع، وإنما ترك للنص بالنص بل بالنصوص الكثيرة .. " (¬3) فهو هنا يقرر أن السلف لم يقدموا المصلحة على النص، وأنهم إنما اعتبروا المصلحة التي شهدت لها نصوص كثيرة، فالمقابلة ليست بين مصلحة مجردة ونص بل بين مجموعة نصوص ونص، ويستوي أن يكون هذا رأياً للمؤلف، أو نقلًا عن السلف فإنه قد أقره كما هو ظاهر كلامه، ويحاول أن يجمع بين مذهب الصحابة ومذهب التابعين، فيقول: " ... وبعد: فتلك طريقة هؤلاء الفقهاء السابقين في التعليل، وهم فيها لم يخرجوا عن طريقة ¬

_ (¬1) أشرت إلى فساد عقيدته وفساد رأيه الذي قدم به المصلحة على النص. انظر ما سبق ص 413. (¬2) انظر رسالة أستاذي "نظرية المصلحة" من أولها إلى آخرها تجد فيها ما يثبت ذلك، وكذلك ضوابط المصلحة. (¬3) تعليل الأحكام 302.

صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عللوا أحكام الله رغم أنف المنكرين (¬1) وحكّموا المصلحة في التشريع، ولكن في دائرة المعتدلين، فلم يجمدوا على النصوص تعبداً بألفاظها، بل فتشوا وأخرجوا كنوزاً ثمينة من وادي معانيها، وزنوا الأمور بما يترتب عليها من صلاح أو فساد فأباحوا الأول، ومنعوا من الثاني، جعلوا عمادهم في ذلك التعليل المصلحة، ولم يسيروا وراء الأوصاف في كل شيء كما فعل الفقهاء والأصوليون المتأخرون، ومع هذا فلم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة، وإن صادم قاطعاً في شرع الله، أو نافى قاعدة من قواعد الدين، بل رأيناهم في غير موطن يردون هذه المصلحة ويشددون النكير على من رام العمل بها" (¬2). والذي أقوله هنا: أنه ما دام أن الصحابة والتابعين لا يجرون وراء الأوصاف في كل شيء ولم يندفعوا وراء كل ما يظن أنه مصلحة وإن صادم قاطعاً من الشرع أو نافى قاعدة من قواعده، إذا كان الأمر على هذه الحال فما بال المؤلف يقول عنهم مقالته السابقة وحاصلها أنهم لا يتبعون الأوصاف - هكذا على الإِطلاق - بل يتبعون وجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت قواطع أو قواعد أو لم تكن!!! ثم إذا تركنا هذا الأمر إلى غيره، فلماذا ينفر من اشتراط الفقهاء والأصوليين شهادة الشارع للمصلحة حتى تكون معتبرة وإلّا فهي ملغاة، لماذا ينفر من هذا، وهو يحكي مذهب الصحابة والتابعين بأنهم ما كانوا يقرون مصلحة تصادم قاطعاً أو قاعدة .. !؟ والدليل على نفوره من الاشتراط وقوعه في ضده أنه نقل مذاهب الأصوليين وانتصر لمذهب الطوفي ... وذكر هذه المذاهب كما يلي: (أ) أن المصلحة المعتبرة هي التي لها أصل معين، ونسبه للقاضي. ¬

_ (¬1) مخالفة المؤلف للمنكرين للتعليل - مع موافقتي له في ذلك - لا يبيح له رفع ضوابط المصلحة واتباع مذهب الطوفي .. والشذوذ عن الإِجماع. (¬2) رسالة تعليل الأحكام 92.

(ب) أن المصلحة المعتبرة هي المشابهة للمصالح المتفق عليها أو المنصوص عليها، ونسبه للإِمام الشافعي وجمهور الحنفية. (ج) أن المصلحة المعتبرة هي التي لا تصادم نصاً ولا إجماعاً تحققت المُشَابَهةُ أم لم تتحقق، قربت من مورد النصوص أو بعدت، ونسبه للإِمام مالك. (د) المصلحة معتبرة على الإِطلاق مرسلة أو غير مرسلة في المعاملات وما شابهها حتى وإن عارضت نصاً أو إجماعاً متى ما كانت راجحة!!! قال: "وهناك مذهب رابع خلاصته أن المصالح يعمل بها مطلقاً مرسلة أو غير مرسلة، ويعني بها التي عارضت نصاً أو إجماعاً متى كانت راجحة لكن في صنف من الأحكام "المعاملات وما شابهها" أما العبادات والمقدرات فلا وزن للمصلحة فيها وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً" (¬1). وقد حاول مناقشة الأصوليين - ما عدا رأي الطوفي فإنه مر عليه سريعاً وبنى له مسألة أخرى نصره بها كما يظن - (¬2) وليس المقصود هنا مناقشته فيما نسبه إلى الأصوليين فمثل هذه البحوث لا تكفي فيها ورقيات كما صنع هو (¬3)، وكذلك لا تكفي فيها ما قد أسجله هنا من ملاحظات، ذلك أن نسبة المذاهب إلى الأصوليين تحتاج إلط بحوث متخصصة في هذا الموضوع، وأكتفي هنا بالرد عليه فيما نسبه إلى فقهاء الصحابة -كما صنعت سابقاً- مع بيان اضطرابه وتفنيد خطئِه في تفريقه بين مذهب الصحابة والأصوليين مع مناقشته خاصة فيما نسبه إلى الشاطبي وحاول الرد عليه انتصاراً للطوفي. ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 292 - 293 - 294 - 295. (¬2) تعليل الأحكام 295 - 296. (¬3) تعليل الأحكام 292 - 296.

أما نسبة مذاهب الأصوليين إلى كتبهم وتحرير موقفهم من المصلحة فذلك لا يحتاج مني إلى بحث - فلقد حُرر تحريراً حسناً وأكتفي بما حرره أستاذي الدكتور حسين حامد حسان وأبني عليه (¬1). ومن ذلك قوله: "كل ضروب الاجتهاد المستندة إلى أصل اعتبار المصالح في الأحكام تعتبر استدلالاً بالنصوص الشرعية وليس فيهاعمل بمصلحة مجردة ولا ترك لنص من نصوص الشريعة" (¬2). ويقول: وقد "أبطلنا دعوى أن مالكاً يقدم رعاية المصلحة على النص أو يترك بها خبر الأحاد، وأثبتنا أن جميع الفتاوى التي نُسبت إليه واتخذت دليلاً على هذه الدعوى غير مفيدة في هذا المطلوب وبينا أسباب ذلك" (¬3). "أثبتنا أن المصلحة التي لا تشهد النصوص الشرعية لنوعها ولا لجنسها بالاعتبار مصلحة مردودة باتفاق ... وهي المصلحة الغريبة التي حكى الغزالي والشاطبي الإِجماع على عدم الأخذ بها .. وقلنا أن المصلحة التي يقول بها الطوفي لا تختلف عن هذا النوع من المصالح المردودة إلّا في أن الطوفي يقدمها على النص والإِجماع" (¬4). وقد حاول محمد شلبي الانتصار له - مع أن الطوفي إنما اتبع المصالح المردودة وحاول تقديمها على النص والإِجماع، وقد أثبت العلماء المعتبرون قديماً وحديثاً مخالفته لسائر الأئمة وشذوذه عن الإِجماع. ومن عجب أن ترى صاحب تعليل الأحكام يحاول أن يسند رأي الطوفي ¬

_ (¬1) انظر نظرية المصلحة، وانظر ضوابط المصلحة للأستاذ البوطي. وهما بحثان متخصصان في موضوع المصلحة. (¬2) نظرية المصلحة 807. (¬3) المرجع نفسه 807. (¬4) المرجع نفسه 808 وراجع إن شئت ما ذكره من التفاصيل والأدلة في كل موضع من هذه المواضع تجد أنه حرر نسبة المذاهب إلى أصحابها وضبطها ورد على المخالفين أمثال الطوفي الذي يحاول د. شلبي الانتصار له.

بقوله: " ... وهو رأي نجم الدين الطوفي الحنبلي وجماعة من العلماء لم يصرحوا به قولاً ولكن فتواهم تؤيد ذلك عملاً" (¬1). وأنت ترى أنه لم يصرح بأسمائهم ولا بفتاويهم - مع أنه كثيراً ما مجد بحثه هذا واعتبره تجديداً في علم الأصول ودعى فيه إلى مراجعة ما كتبه الأصوليون بعد أن وصفهم بما يُكْره وستأتي الإِشارة إلى ذلك .. فأين هذه الجماعة من العلماء الذين وافقوا الطوفي أهي جماعة الصحابة التي ينسب إلى فقهائها معارضة الرسول ومخالفته، والتي ينسب إلى فقهائها تبديل بعض الأحكام بسبب اتباع المصالح!!! أم أن هذه الجماعة من الأصوليين. وقد زعم الطوفي بأن رأيه الذي قال به لم يسبقه إليه أحد قبله!! أمّا بعد الطوفي فلم يلق هذا الرأي إلّا النقد والرد وبيان أن صاحبه خرق الإِجماع وتولى غير سبيل المؤمنين، حتى أن بعض الباحثين في هذا العصر فندوه وبينوا أنه رأي ساقط لا عبرة به، وقد أشرت إلى ذلك من قبل (¬2). ثم جاء آخرون فأعجبهم هذا الشذوذ عن الإِجماع وظنوه علماً معتبراً فاتبعوه - وما علموا أن فائدة الإِجماع هو القطع في المسألة فلا تعد تحتاج إلى بحث وخاصة وقد تقرر هذا الإِجماع في قرون متطاولة - فلما تبعوه أخذوا بنتصرون له مزينين له بشبه متكاثرة، بل ذهبوا إلى أكثر مما ذهب إليه الطوفي، فإنه شهد على نفسه بنفسه أنه لم يُسْبق إلى هذا الرأي، ومعنى هذا أنك إذا بحثت لتجد من ينصره قبله فلن تجد أحداً. ومع ذلك فقد حاول بعض الباحثين نصرته ببعض النقول والتطبيقات التي سبقت الطوفي -كما صنع صاحب رسالة تعليل الأحكام- فإنه قال بتبدل الأحكام في المعاملات وما شابهها لأنها بزعمه تتبع المصلحة، وأن ذلك هو إجماع ¬

_ (¬1) 293. (¬2) انظر هامش ص 413 وما بعدها.

المطلب الخامس مناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين

الصحابة، مع أن هذا هو رأي الطوفي - الذي يزعم أنه لم يُسبق له، فأين تجد عليه إجماعاً. وقد تتبعت أبرز تطبيقاته (¬1) وأثبت أنه إنما يتعلق بشبه لا بدليل وأن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يتبعوا مجرد المصلحة، ووجوه الرأي من غير التفات إلى الأصول، فإذا أضفت هذا مع ما قرره الباحثون من أن أحداً من الأئمة لا يقدم رعاية المصلحة على النص وبقي الطوفي على زعمه وخروجه عن الإِجماع واتباعه غير سبيل المؤمنين وسقطت محاولة الشلبي وغيره من الباحثين الذين بذلوا جهداً جباراً لإِحياء سقطة الطوفي (¬2) وجعلها ديناً يتبع، يريد صاحب رسالة التعليل أن يستمسك به ويخالف عليه علماء الأصول المعتبرين. المطلب الخامس مناقشته في رده لضوابط المصلحة عند الأصولين قال: "والأصول في نظري غالبها بحوث نظرية جاءت وليدة الزمن، اضطر إلى وضعها أتباع المذاهب المقلدون ضبطاً لمذاهب أئمتهم ودفاعاً عنها في مجالس المناظرات فجاءت ملتوية حسبما يُوجه إليها من الطعون والاعتراضات" (¬3). ويقارن بين طريقة الصحابة والأصوليين فيقول: " .. إن الصحابة - رضي الله عنهم - عللوا بالمصالح ابتداء من غير تقييد بأصل معين يردون إليه الحوادث، وهؤلاء -أي الأصوليين- عنوا عناية تامة ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 460 - 461 من الرد على محمد شلبي في التطبيقات التي ذكرها. (¬2) بل زاد صاحب رسالة التعليل ص 370 الطين بلة، وزعم أن المصلحة تقدم على النص ويترك بها جميع أفراده، وتقدم على الإِجماع، وتعطل النص ولا تنسخه، وهذا المذهب أقبح من مذهب الطوفي، انظر مقارنة بينهما في نظرية المصلحة 111 - 113. (¬3) رسالة التعليل 4.

بالبحث عن الأصول المعينة بل كانوا يبحثون عن علل تلك الأصول لأجل القياس عليها ما وقع وما لم يقع وشتان بين الأمرين" (¬1). ثم أخذ في ذكر السبب الذي يراه تفسيراً لاعتماد الأصوليين على أصل معين: فقال: " .. هذا - في نظري - هو سر عناية الأصوليين بالرد إلى أصل معين في تعليلهم، فعلوا ذلك ليدفعوا عن أنفسهم تهمة التشريع بالهوى أولاً، وليوفروا على ذلك الفقه التقديري أحكامه ثانياً، وليأمنوا الخطأ في الاستنباط والتخريج ثالثاً، كما قال إمام الحرمين: "إنه لم يصح عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضبط المصالح التي تنتهض عللًا للأحكام، ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأي، فمسالك الضبط النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها، فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة وليس حائداً عن المآخذ المضبوطة، فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع، ولهذا رد الحذاق (يعني من الأصوليين) إلى أصل معين، فإن صاحبه يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشارع بمثلها" (¬2) ويعتبر الشلبي أن كلام الجويني اعتذار عن منهج الحذاق من الأصوليين يمكن أن يقبله هو مع أنه لا يسلّم ولا يرجع عما وصف الأصوليين به، فالخطأ متحقق فيما فعلوه من طلب الأوصاف الظاهرة واتباعها، وطلب أصل معين يردون إليه العمل بالمصلحة، يقول مناقشاً القائلين باشتراط رد المصلحة إلى أصل معين: "وَيرُدُ على هؤلاء أن الأدلة قامت على اعتبار المصلحة وإن لم تستند إلى أصل معين، فدعوى قيام الدليل على انتفاء العمل بها بناء على عدم الدليل الدال على اعتبارها مجرد كلام لا يسنده برهان، (وكلامه هذا مع الأصوليين) وأما مسألة الضبط التي قالوا، فاحتياط يُسلم لهم لو كان له ركن يعتمد عليه، أما وأنه أمر مخترع لم ينقل لنا عن أحد من الصحابة الذين هم القدوة في كل شيء بعد ¬

_ (¬1) رسالة التعليل 151. (¬2) رسالة التعليل 153 - البرهان 710 - 715 - 742.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ير لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجه الرأي من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن" (¬1). وبناء عليه فإنه يرى أن اعتماد الضبط أمر مخترع لم ينقل عن أحد من الصحابة فلا حرج عليه في رده. ويعتبر أن الأصوليين جافوا منهج الصحابة وسعوا إلى ضبط منهج الاستدلال رغبة منهم في هذه الأمور: 1 - ليدفعوا عنهم تهمة التشريع بالهوى. 2 - ليأمنوا الخطأ في الاستنباط. 3 - ليأمنوا الخطأ في التخريج. هذا هو الذي يسعى المؤلف إلى إثباته - رفع ضوابط المصلحة واتباع وجوه الرأي دون إلتفات إلى الأصول كانت أو لم تكن. وفيما ذكرناه من منهج أهل السنة في الاستدلال - عند مفردات المسائل الأصولية التي تحدثت عنها فيه كفاية لنقض هذه الدعوى. ولننتقل نقلة أخرى نصحح فيها نصوص أهل العلم التي تعجل المؤلف في نقلها وفهمها، كما صححنا نقله عن الإِمام الشاطبي عند دراسة موضوع القياس. فنقول - وبالله التوفيق - إن النص الذي نقله عن الجويني قد عزله عن بقية النصوص التي وردت في كتاب البرهان، وأمر آخر وهو أنه نقل هذا النص نقلاً غير صحيح واجتهد في تصحيح النسخة التي نقل عنها .. وإليك النص كما جاء في "البرهان" مع الاكتفاء بالإِحالة على بقية نصوص الكتاب التي تسنده: ¬

_ (¬1) رسالة تعليل الأحكام 293.

قال الجويني: "فإنه لم يصح عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضبط المصالح التي تنهض عللاً للأحكام، ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأي، فمسلك الضبط: النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها، فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة، وليس حايداً عن المآخذ المضبوطة. فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع، ولهذا رد الحذاق (الاستدلال الذي لا يستند) إلى أصل، فإن صاحبه لا يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشرع بمثلها" (¬1). والسبب الذي أوقع المؤلف في الخطأ، أنه حذف من كلام الجويني قوله: "فإن صاحبه لا يأمن من وقوعه .. " حذف كلمة "لا" ليصبح الكلام: "فإن صاحبه يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشارع بمثلها". وأقول أن النص الذي نقله - مع أنه اجتهد فيه كما أشار هو (¬2) إلّا أنه مع ذلك لا يدل له على ما أراد، وإليك تحليل نص البرهان سواء بقراءة محققه الأستاذ عبد العظيم الذيب، أو بقراءة صاحب كتاب تعليل الأحكام وذلك في النقاط التالية: 1 - أن القراءة واحدة ما عدا حذف كلمة "لا" أو عدم حذفها. 2 - أن النص ورد فيه صراحة أن الصحابة لا يتبعون كل مصلحة تظهر للناظر ولا يطلقون ذلك، وليس عندهم ضبط للمصالح يمنع من اتباع كل ¬

_ (¬1) مسألة رقم 787، وقارن بين هذا النص وبين ما ورد في مسألة رقم 760، 715 ومنه قوله عن الصحابة: "وقد أوضحنا بالنقل المتواتر عنهم أنهم كانوا يقدمون ويثبتون الأحكام على وجوه الرأي واعتبار المسكوت عنه بالمنصوص" وهذا كلام صريح في أنه يعتقد أن الصحابة يبنون اجتهاداتهم على الأصول الشرعية، ترى لو أن المؤلف تروى في فهم النص ومراجعة النصوص الأخرى هل ينسب إلى الصحابة - رضوان الله عليهم - تلك المقالة. (¬2) رسالة تعليل الأحكام 153.

مصلحة تظهر لذي رأي إلا اتباعهم لمواقع الأحكام ومعانيها، فإذا لاح لهم المعنى وسلم عن المعارضة تبين أنه متلقى من أصول الشريعة، وليس حائداً عن المآخذ المضبوطة. وهذا الذي نقول إن النص دل عليه هو نص كلام الجويني في موضع قريب من هذا فقد قال عن الصحابة: "أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها، فإذا ظنوها، ولم يناقض رأيهم فيها أصل من أصول الشريعة أجروها" (¬1). 3 - أن الزيادة التي بين المعكوفين قد وردت في نسخة أخرى كما أشار المحقق، وهي تفيد المعنى السابق آنفاً وكذلك النص الذي نقله "شلبي"، فما أورد المحقق يفيد أن الحذاق من الأصوليين ردوا الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل، وذلك لأن صاحبه لا يأمن وقوعه في الخطأ، وكذلك النص الآخر يفيد المعنى نفسه وهو أن الحذاق ردوا إلى أصل معين لأن صاحبه يأمن وقوعه في الخطأ. وهذا معنى ما قلته آنفاً أن المعنى متسق على كلتا القراءتين، والنصوص الأخرى تؤكد ذلك كما أسلفت، ولا نكتفي بما نقلناه، من البرهان، بل نشير إلى ما نقله صاحب تعليل الأحكام في كتابه حيث نقل كلام الجويني من أن الصحابة "كانوا يرسلون الأحكام ويعلقونها في مجالس الاستشوار بالمصالح الكلية" (¬2) ويقصد الجويني بالمصالح الكلية الشريعة التي دلت عليها النصوص، فلا بد من البناء على أصل شرعي إذاً .. ومن هنا نعلم فساد قول المؤلف: "بقي أن يقال أن الصحابة - رضي الله عنهم - عللوا بالمصالح ابتداء من غير تقييد بأصل معين يردون إليه الحوادث، وهؤلاء (يعني الأصوليين) عنوا عناية تامة بالبحث عن الأصول المعينة، بل كانوا ¬

_ (¬1) البرهان: مسألة 760. (¬2) تعليل الأحكام 152.

يبحثون عن علل تلك الأصول لأجل القياس عليها ما وقع وما لم يقع، وشتان ما بين الأمرين" (¬1). وهذا كله منه إنكار على الأصوليين الرد إلى أصل معين، ورغبة منه في تفسير هذا الأمر الذي يتعجب منه (¬2) ويعتبره -كما مر معنا قوله من قبل- أمراً مخترعاً لا حرج عليه في رده. بقي أن نفسر السبب الذي حمله على الاعتماد على كلام الجويني ظناً منه أنه يساعده على مسلكه الفاسد، وعنده ندرك سبب الاضطراب الذي يظهر من مجموع نصوصه. فنقول إن الإِمام ابن الجويني وهو يعرض منهج الإِمام الشافعي في الاستدلال بالمصالح، نسب إليه أنه يقول: "من سبر أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - وهم القدوة والأسوة في النظر لم يكن لواحد منهم في مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه، ولكنهم يخوضون في وجوه الرأي من غير إلتفات إلى الأصول، كانت أو لم تكن" (¬3). فأخذ الدكتور شلبي هذا النص وعزاه لإبن الجويني (¬4). وهذا يفسر اضطرابه، وفيما مضى كفاية للرد عليه ولا بأس أن نشير هنا إلى أن ما نسبه ابن الجويني إلى الشافعي يخالف المشهور عنه في كتابة الرسالة فإنه شديد الضبط لعملية الاجتهاد بحيث تكون اعتماداً على نص أو معناه (¬5)، فكيف ينسب إليه مثل هذا. ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 151. (¬2) تعليل الأحكام 153. (¬3) البرهان: مسألة رقم 1134. (¬4) انظر تعليل الأحكام 151. (¬5) الرسالة 70. وانظر نظرية المصلحة 307 وما بعدها.

على أنه قد ثبت أنه ليس أحداً من الأئمة يعارض النصوص بالمصلحة، ويبنيها على غير أصل (¬1). والصحابة هم أشد حرصاً منهم ومحافظة على مقصود الشارع، والأئمة مدركون لذلك، وملتزمون به (¬2). قال الدكتور حسين حامد مبيناً مقصد الجويني: "قوله أن أحداً من الصحابة لم يكن يعمد إلى تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه يعني - والله أعلم - الأصل الذي يدل على الحكم نصاً، أو المعنى الجزئي الذي يشهد النص لعينه لا مطلق الأصل والمعنى، وإلّا فإن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يفتون على الأصول التي شهدت لجنس المصلحة التي يستندون إليها في الفتوى بمصلحة جزئية، وإن كانوا لا يذكرون هذه الأصول، وذلك لمعرفة الصحابة، وقد تذوقوا الشريعة، بمثل هذه الأصول، فالذي يقصده إمام الحرمين أن الصحابة ما كانوا يذكرون الأصل الذي يدل لفظاً على الحكم، وما كانوا يلجأون إلى بيان مصلحة جزئية من نوع المصلحة التي يفتون بها وإنما كانوا يكتفون بالمصلحة الكلية" (¬3). وهذا التفسير حسن، فمن استحسنه فذاك، ومن لم يستحسنه فليعد على عبارة الجويني بالتصحيح، لأن المعنى الذي ذُكر آنفاً لا يخالف فيه أحد، ولا يقبل المراجعة، إذ هو المعلوم من فقه الصحابة والأئمة. وقد أحسن أئمة السلف، لما ضبطوا أصولهم في الاستدلال وميزوها عن مسالك أهل الأهواء، ونحن نذكر ببعض البدهيات التي كانوا يجتمعون عليها لنرد مقالة الدكتور "شلبي" التي اعتدى فيها على الأصوليين، من ذلك: ¬

_ (¬1) نظرية المصلحة 607. (¬2) انظر ما سبق البناء على غير أصل 266 - 384. (¬3) نظرية المصلحة 356 - 357.

1 - ألّا يقدم بين يدي الله ورسوله، وأن العبرة بما دلت عليه النصوص ولا عبرة بما يخالفها من رأي ومصلحة. 2 - إذا لم يوجد نص في المسألة اتبع المجتهد المعنى الشرعي ورده إلى الأصول الشرعية، وأن من رد إلى غير أصل فقد اتبع الهوى. 3 - أن العقل ليس بشارع، وأن الرأي الذي يعارض الشريعة مذموم بالإِجماع ولو زعم له الناس أنه المصلحة والمنفعة. 4 - وأن ترك هذا المنهج الذي نقله الأئمة من الصحابة والتابعين وحكوا عليها الإِجماع - رمى في عماية واتباع لغير سبيل المؤمنين (¬1). ولذلك لما انحرفت عنه الفرق الضالة (¬2)، ضلت وأضلت وهلكت، فلم تبق في يديها شريعة ثابتة ولا شاملة، وإنما استحوذت عليها الأهواء فكانت هي بضاعتها فورثتها لمن بعدهم ممن اتبع ضلالتهم. ومن علم حال الفرق - كيف هلكت وأهلكت - وعلم أن سبب ذلك هو اتباع مسلك في الاستدلال لا قرار له ولا ضابط من الشرع، علم خطورة عبارة صاحب "تعليل الأحكام" فيما ينسبه إلى الصحابة، وعلم عظم خطئه، أيضاً في استغرابه على الأصوليين اتباعهم للأصول المعلومة، وردهم المصلحة إليها، مبتعدين عن الوقوع في التشريع بالهوى، سالمين من الخطأ في الاستنباط. ومن عجب أن يرى أن صنيع الأصوليين هذا حدث يستحق التنبيه والنقد، وأن صنيعه وصنيع الطوفي يستحق الإِشادة والمدح، وأنه هو الطريق لتحقيق شمول الشريعة. ¬

_ (¬1) انظر موقف الأصوليين العتبرين من المسالك الفاسدة ص 265 وما بعدها. (¬2) أما المعتزلة فقد اتبعت العقل فضاعت في أودية الضلال .. وأما الخوارج فقد اتبعت بعض الظواهر دون أن تعرضها على الآيات والأحاديث الأخرى فضاعت في أودية الضلال أيضاً، والمرجئة كذلك، وهكذا في بقية الفرق كالصوفية فقد اتبعت الكشف والرؤى فهلكت في وحدة الوجود وسقوط التكاليف.

والحق أن رفع ضوابط منهج الاستدلال - سواء ما يخص المصلحة أو غيرها - عمل جد خطير، ولا يهوّن من خطورته الخوف من أخطاء بعض الأصوليين الذين غرقوا في الجدل، وابتاع مسائل لا يبنى عليها عمل (¬1)، ولا الخوف من القائلين بمنع التعليل ونفي القياس، ولا الرغبة في أن تكون الشريعة شاملة لجميع المدنيات (¬2) ولا أي شيء آخر. ذلك أن معالجة المسائل الشرعية ينبغي أن تضبط بمنهج متوازن وأن الأطراف المذمومة لا سبيل إلى الخروج عن أخطائها إلّا بإلتزام منهج وسط هو منهج أهل السنة في الاستدلال، ومن أبرز معالمه: 1 - أنه الطريق إلى المحافظة على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. 2 - أنه الطريق المحقق في عالم الواقع ثبات الشريعة وشمولها. 3 - أن فيه الجواب الشافي عن الآراء التي ترفض القياس. 4 - أن فيه الجواب الشافي عن الآراء التي تتبع المصالح التي تعارض النص والإِجماع وتقول بتبديل الأحكام وتغييرها. 5 - أن فيه السلامة من الوقوع في مسالك الفرق الضالة أو التأثر بها في التفكير والاستنباط (¬3). وهذا المنهج هو الذي نحتاج إلى التعرف عليه، والتعريف به وردّ ما يخالفه لأنه هو الطريق الوسط الذي يحفظ لنا تلك المعالم. وإن هذا الذي نقول به وندعوا إليه، ليس فيه حجراً على من يريد التصحيح لما تضمنته كتب الأصول من أخطاء، لأنا نقول أن ذلك واجب ومتعين، وقد بينت في هذه الرسالة أن هناك من الأمور ما يحتاج إلى تصحيح، ¬

_ (¬1) الموافقات 1/ 17. (¬2) انظر قوله في رسالة التعليل 12. (¬3) انظر ما سبق من كشف مسالكهم الفاسدة. ص 183 - 265.

واخترت في ذلك سبيل السلف الأول في تلك الأمور التي درستها (¬1)، ولكن الذي أنبه عليه هنا أن حاجتنا لتصحيح أصول الفقه حتى نميّز أصول أهل السنة عن أصول أهل الأهواء لا تعني أننا سنخبط خبط عشواء، ونقول أن الجدل غلب على أصول الفقه فلننصرف عن الضوابط ونتبع المصالح والآراء التي لا تشهد لها الشريعة بالقبول، كلّا، لأن أصول الفقه عند أهل السنة هو الأداة التي يحفظ بها العقل المسلم من الأهواء، ولذلك ضلت الفرق لما حادت عن أصول أهل السنة في ذلك واتبعت المسالك الفاسدة، ولا سبيل إلى سلامة الهدف - الذي هو تصحيح مسار أصول الفقه وإخراجه من آثار أهل الأهواء وطبيعتهم في الجدل ومخالفة السنة، لا سبيل إلى ذلك إلّا بالرجوع إلى الأمر الأول الذي كان قبل نشوء الأهواء، وفيه من الصحة والسلامة وحسن الأداء ووضوح الغاية واتباع السنة الخير الكثير، وقد وسع والحمد لله من قبلنا في أمورهم جميعاً فليسعنا ما وسعهم، ولنستمر في بيانه والبناء عليه دون أن نضل عنه. فمن طلب هذا الهدف وجب على كل أحد معونته، وقد حاولت أن أذكّر بأصول أهل السنة في الاستدلال في كل موضع بحسبه، وفي ذلك رد تطبيقي على مقالة صاحب كتاب "تعليل الأحكام" ومن سلك مسلكه، وطلَبِهِ التصحيح - بزعْمِهِ - ليرفع الضوابط وينشر المسالك الفاسدة، ويحيي الآراء الشاذة - متخذاً من الجدل الذي غلب على أصول الفقه - سلماً يصل بها إلى مبتغاه، فهذا لن نقبل منه هذه الوسيلة ولن ننخدع بهذه الغاية، فإنه لا بد من صدق الغاية وسلامة الوسيلة. ¬

_ (¬1) ومن الأمور التي تحتاج إلى دراسة وتصحيح التأكيد على عزل آثار الاعتزال عن أصول الفقه، لأن هؤلاء لهم أصول خاصة في تلقي العقيدة، وقد أحاطوا بها أصول الفقه من كل جانب، فلا بد من تمييز أصول السنة عن أصول البدعة، ابتداء من نقض أصولهم في وجوب النظر العقلي وتحكيمه في العقيدة والشريعة وانتهاء بطريقة الكتابة وأسلوب الأداء والبناء في كل ذلك على منهج الجيل الأول الذي وقع في مخالقه أهلُ الأهواء وتميزوا عنه فلا بد إذاً من التميز عنهم والحذر من آثارهم.

المطلب السادس مناقشة اعتباره المصلحة دليلا مستقلا

المطلب السادس مناقشة اعتباره المصلحة دليلاً مستقلاً يقول المؤلف: "إن المصلحة إذا ثبت كونها دليلاً شرعياً في الجملة -كما سنثبته بالأدلة في البحث الآتي- كانت كباقي الأدلة الأخرى .. " (¬1). أدلّته: 1 - أن القرآن دل على اعتبار المصالح مطلقاً .. من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬2). فهي كما قال العز بن عبدالسلام أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها، والزجر عن المفاسد بأسرها، فإن اللام والألف في الألفاظ الواردة فيها للعموم والاستغراق (¬3) .. 2 - وقوله لرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬4). " .. ومن الرحمة الأذن لهم على لسانه - صلى الله عليه وسلم - في جلب المصالح ودفع المفاسد عنهم، ومعلوم أن للناس مصالح تتجدد بتجدد الأيام، فلو وقف الاعتبار على المنصوص فقط لوقع الناس في الحرج الشديد، وهو مناف للرحمة لأنه نقمة .. " (¬5). ثم استدل بأدلة أخرى - من مثل التطبيقات التي سبق ذكرها - ليقرر أن ¬

_ (¬1) رسالة التعليل: 282. (¬2) سورة النحل: آية 90. (¬3) المرجع السابق: 287. (¬4) سورة الأنبياء: آية 107. (¬5) رسالة التعليل: 288.

الصحابة كانوا يفتون بالمصلحة في مقابلة بعض النصوص ولم ينكر أحد منهم ذلك فكان إجماعاً (¬1). 3 - دليل عقلي: حاصله أن الشارع راعى مصالح الخلق في المعاش فكيف لا يراعي لذلك في الأحكام الشرعية، إذ هي بالمراعاة أولى، فوجب القول بأن الشارع راعى المصلحة في الأحكام الشرعية، فحينئذ لا يجوز إهمالها بوجه من الوجوه. وإذا تتبعنا مقاصد الشارع في جلب المصالح ودرء المفاسد، قطعنا بأن المصلحة لا يجوز إهمالها، والمفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص. ومثل ذلك - ولله المثل الأعلى - كمن عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم عنه مايحبه وما يكرهه، في كل ورد وصدر، ثم جاءته قضية فيها مصلحة أو مفسدة لا يعرف فيها قوله: "فإنه يعرفه بمجموع ما عهد من طريقته وأَلِفَهُ من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة، هذه الأدلة مجتمعة تنادي باعتبار المصلحة منصوصاً عليها أو غير منصوص، وليس لنفاة المصالح هنا متمسك .. " (¬2). المناقشة: نسلم معه القول بأن نفاة العمل بالمصالح الشرعية مخطئون، ونسلم معه أن الشارع جاء بمصالح العباد، وأن هذا أمر مقطوع به، ونخالفه في تحديد الطريق الذي يوصل إلى المصلحة الشرعية .. فأقول: إن الشارع كما جاء بمصالح العباد، جاء بالطريق الذي يدلنا على ذلك، فجعل النصوص محققة للمصلحة ابتداء، وذلك لأنها هي رحمة للعالمين، فإن القرآن هدى ورحمة، فلو لم تحقق نصوصه المصلحة فكيف يكون هدى ورحمة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق: 290. (¬2) المرجع السابق: 290 - 291.

وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين فلو لم تكن أحاديثه تحقق المصلحة والرحمة، فكيف يكون هو رحمة للعالمين، ومن ثم فإن أدلة المؤلف - وهي أدلة القائلين بالمصالح المرسلة - تدل دلالة قاطعة على أن هذه النصوص من الكتاب والسنة هي الهدى والرحمة والمصلحة. ألم يقل المؤلف أن الله أقام للناس مصالحهم في معاشهم، وهذا يقتضي أن يقيم لهم مصالحهم في الأحكام الشرعية؟ فكيف يتصور بعد ذلك أن النص يمكن أن لا يحقق المصلحة، ما دام أن الأحكام الشرعية تحقق المصالح في اعتقادنا وأن هذه النصوص من الكتاب والسنة هدى ورحمة فإذا لم تحقق المصلحة للناس فمن يحققها!! فالمصالح إذن جاءت بها الشريعة، والطريق للتعرف عليها جاءت ببيانه الشريعة أيضًا، ألم يبين الله لنا أن كتابه هو الصراط المستقيم، وأن سنة نبيه هي البيان له، وأن من اتبع هذا النبي عليه الصلاة والسلام هُدِي إلى ذلك الصراط المستقيم. أفلا يقتضي هذا اتباع نصوصه ورفض الأهواء وعدم تحكيم العقول المخالفة لمقتضى تلك النصوص. كيف وقد جاءت هذه الشريعة بذم الأهواء، وذم التقديم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ... وجعلت المفارق للإِجماع المشاق للرسول - صلى الله عليه وسلم - متبعًا غير سبيل المؤمنين ... أفلا يكفي كل ذلك للقطع بأن الهدى والخير والمصلحة والرحمة في اتباع هذه النصوص، فكيف تنكص أقلام هؤلاء الكتاب على أعقابها ثم يقولون أن المصلحة تقدم على النص، أو لم يكفهم إقرارهم أن الشريعة جاءت لإِقامة المصالح وأنها هدى ورحمة، فكيف يطلبون مصلحة فيما يخالفها .. وإذا قالوا: إن الوقوف عند المنصوص لا يكفي فإن هناك وقائع جديدة، قيل لهم هذا لا يعذركم في تقديم المصلحة على النص، لم لم تصنعوا صنيع الصحابة والتابعين والمجتهدين من بعدهم، لم يرجعوا إلى النصوص فيستشهدونها على ما ظنوه مصلحة، فإن شهدت قبلوا شهادتها راضين، أليست

شهادة من شريعة الرحمة والعدل، وإن لم تشهد بل ردتها، فلم لا يرضون بحكمها، أليست هي شهادة من شريعة الرحمة والعدل. ألم يقولوا: إن معاشرتك للإِنسان الفاضل الحكيم يدلك على مقصوده إذا جاءت واقعة جديدة وظننت أن هناك مصلحة ألا ترجع إلى استشهاد طريقته وعادته وِإلْفِه فإن شهد لك أقدمت ولم يشهد أحجمت. أفلا يرجعون إلى نصوص الشرع يستشهدونها فيما ظنوه مصلحة، فإن شهدت النصوص بالموافقة شهدوا وقبلوا، وإن شهدت بالرد شهدوا وردوا .. - وهذا هو المنهج الذي سار عليه الصحابة والتابعون وأئمة الاجتهاد وأجمعت عليه العلماء - فإن صنعوا ذلك تحقق لهم إدخال الوقائع المستجدة تحت نصوص الشارع وتحقق لهم شمول هذه الشريعة، والتزموا بمنهج الحق في الاستنباط وتركوا عقولهم وما تزينه لهم من الأهواء والشبهات .. وها هنا شبه متولدة عن الشبه السابقة، فإن المقدمين للمصلحة على النص - بطريق البيان والتخصيص كما يفعل الطوفي، أو بتعطيله كما يفعل الشلبي - إذا احتدم النقاش قالوا: تقدم المصلحة إذ كيف تهدرون الأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة وهي في مجموعها تفيد القطع (¬1). وإني لشديد العجب أن يرى أمثال هؤلاء الكتاب أن تقديم مصلحة - ظنوا أنها مصلحة - سببه عندهم هو أن الأدلة دلت على اعتبار المصالح، وأن هذا يبرر لهم تقديمها على النص. وما علموا أن الاستدلال لم يتم لهم، وإلّا فكيف علموا أن المصلحة هذه قد دخلت في المصالح التي دلت الأدلة على اعتبارها، هل قال الشارع اعتبرت المصالح التي تدركها عقولكم بدون شهادتي لها، أم قال إن النصوص جاءت بالمصالح فانظروا كيف تتعرفون عليها من طريق هذه النصوص. ¬

_ (¬1) قال صاحب رسالة التعليل: " ... أم يمنعون العمل بها وهو إهدار للأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة وهي في مجموعها تفيد قطعًا" 370.

المطلب السابع عدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي

ثم إن الأمر أسهل من ذلك كله، أفلا يلتفتون إلى أمر آخر، يقولون كيف نهدر الأدلة المبيحة للعمل بالمصلحة؟ أفلا يقولون كيف نهدر الأدلة التي أوجبت اتباع النصوص وجعلته دينًا وحذرت من سواه. أفلا يعلمون أنَّه كتابْ أنزل من لدن حكيم عليم، وبيانه من رسول كريم رحيم بوحي من الله، يحدد الخير والمصلحة ويرسم طريق السعادة، ويفصل بين الحق والباطل، ويكشف تزين الشيطان وشبهه للخلق - حيث يدعوهم إلى الفساد باسم المصلحة، وإلى الشرك باسم اتباع الأباء والأجداد، فما ترك الوحي شيئًا من شبه الشيطان إلا وكشفه، ثم يقال: إن المصلحة يمكن أن تكون في غيره، عجيبة من عجائب الفكر، وضلالة بينة حملها وزرها الطوفي وتَبِعَهُ عليها من تَبِعَهُ وذلك كله دليل على قصر العقل البشري وإن من ظن بنفسه أنه سيأتي بعلم جديد يخالف به الإِجماع، فإنما يحكم على نفسه بالوقوع في الآراء الساقطة ويذهب يخبط في عماية، ونسأل الله العافية والسلامة .. المطلب السابع عدم فهم بعض الباحثين لمعنى "التعبد" في الشريعة ومناقشته فيما نقله عن الشاطبي يعتبر صاحب تعليل الأحكام أن الشارع قصد بالعبادات - التي كلف بها الناس - الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها. وأما المعاملات: فإنه نظر إليها أولًا من جهة تحصيل المصالح للأنام وهو الأصل فيها .. ثم أخذ في الاستدلال على التقسيم بثلاثة أدلة وهي: 1 - الاستقراء: فقد وجدنا أحكام المعاملات تحفظ على الناس مصالحهم وتدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يحرم في حال ويباح في حال أخرى كالدرهم بالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة ويباح في القرض (¬1). ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 296، وقد أخذه من الموافقات 2/ 225 بدون أن ينسب إليه.

2 - "أن الشارع توسع في بيان العلل والمصالح في تشريع هذا النوع، عكس العبادات، وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة، وبطائفة خاصة وبإقليم خاص، وفي زمن خاص، وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الأصر والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رفع عنهم (¬1). 3 - "إنّ أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإِصلاح والإِفساد، ولم تبطل إلّا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات وأما عبادتهم فقد ضلت فيها عقولهم، ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلّا ما نقل لهم من شريعة الخليل - عليه السلام -. بعد اتفاق العلماء على هذا القدر، اختلفت أنظارهم في أمر وراء هذا هو اعتبار التعبد فيها أوْلا، فمنهم من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط، بيْدَ أنه لا يدعي خروجها عن التشريع، بل يعترف أنه ماض فيها، ولكن من هذا الطريق حسبما أرشدنا الشارع اجمالًا وتفصيلًا، ويرى فريق آخر أن التعبد له نصيب في هذا النوع لا يليق بالمكلف إهداره، فإذا ظهر التعبد في شيء وجب التسليم به والوقوف مع النصوص ... استند هذا الفريق في مدعاه "وهو أن المعاملات ملاحظ فيها التعبد التي أمور منها": ثم أخذ في ذكرها ومناقشتها .. وقبل ذكر هذه الأدلة ومناقشتها نحصّل ما يريد قوله من كلامه السابق، وهو كما يلي: 1 - أن العبادات قصد بها في الشرع - أولًا وآخرًا - الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها. ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 296 - 297 - وقارن مع الموافقات 2/ 225 - مع أنه بنى عليه معنى غريب لم يذهب إليه الشاطبي.

2 - أن المعاملات قصد بها في الشرع تحصيل المصالح أولًا، وهو الأصل فيها. 3 - أن العلماء اتفقوا على هذا القدر واختلفوا فمنهم: (أ) "من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط .. ". (ب) "ويرى فريق آخر أن التعبد له نصيب .. فإذا ظهر التعبد في شيء وجب التسليم به والوقوف مع المنصوص". وقبل أن أفصّل القول في ذكر أدلته ومناقشتها أقول أن حاصل ما ذكر في ست صفحات هو نقل عن كتاب الموافقات (¬1) للإِمام الشاطبي قسمه إلى أقسام: قسم استدل به على أن المعاملات الأصل فيها اتباع المصالح، وذكر الأدلة كما هي من الموافقات، وقسم استدل به على أن المعاملات ملاحظ فيها معنى التعبد - منكرًا لهذا الرأي - وقد ذكر أدلة الشاطبي وناقشها (¬2). وفي كل ذلك لم ينسب شيئًا من ذلك إلى الإِمام الشاطبي لا في القسم الأول الذي استند عليه، ولا في الثاني الذي ناقشه. وأجمل ملاحظاتي على ترتيبه لهذا الذي نقله مع بيان مقصود الإِمام الشاطبي. 1 - أنه قال إنّ قصد الشارع أولًا وآخرًا في العبادات الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها. ونضيف إلى ذلك أن الشريعة جاءت لمصالح العباد سواء ما يسمى ¬

_ (¬1) انظر تعليل الأحكام 296 - 297 - 298 - 299 - 300 - 301، وقارن مع الموافقات 2/ 222 - 223 - 224 - 225 - 226 - 227 - 228 - 229 - 230. (¬2) تعليل الأحكام 297 وقارن مع الموافقات 2/ 228 وما بعدها.

بالعبادات أو بالعاديات، وأن هذه المصالح متحققة في شريعة العبادات علمنا منها ما علمنا وجهلنا منها ما جهلنا، ومقصود المؤلف هنا أنه لا يجري فيها القياس ونحوه، والتنبيه هنا إنما هو تنبيه على العبارة، ذلك أن الشارع قصد في العبادات تحقيق مصالح الخلق، وأمرهم فيها بالامتثال، وعبارة الإِمام الشاطبي، هي: "الأصل في العبادات - بالنسبة إلى المكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني" فبالنسبة للمكلف الوقوف عند حد الامتثال - وهو التعبد - دون النظر في المعاني، فيقف عند مجرد ما حده الشارع: "ولذلك كان الواقف من مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح .. " (¬1). مع التسليم بعد هذا كله أن العبادات جاءت رحمة للعباد محققة للمصالح في الدنيا والآخرة. 2 - أنه قال أن المعاملات نظر الشارع فيها من جهة تحصيل الأصل فيها، فينبغي أن تتبع بها المصالح فقط. ومع التسليم بأنها جاءت لتحقق المصالح، إلّا أنه لا يقال أنها تتبع المصالح فقط، فإن من المعلوم أن الشارع أنزل شريعته لتحقيق مصالح العباد، ولم يقل أنها تتبع المصالح، ولم يستنبط أحد من المجتهدين هذه القاعدة فيقول: إن أحكام المعاملات تتبع المصالح: "ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط .. ". وانظر إلى ما يقوله الإِمام الشاطبي: "الأصل في العادات - بالنسبة إلى المكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني". ومعنى الالتفات إلى المعاني: جواز التعدية إما بطريق القياس أو بطريق العمل بالمصلحة المعتبرة شرعًا. ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 222، 224.

فإذا عُلم المعنى الذي من أجله شُرع الحكم، وغلم وجوده في الفرع، عُرف هذا المعنى بطريق من طرق الاستنباط المعلومة .. أما أن فريقًا من العلماء قال أن المعاملات تتبع المصالح، والمصالح فقط وهي الميزان الصحيح، لأن الشارع نظر في تشريعه للمعاملات من جهة تحصيل المصالح، فهذا أمر لم ينسبه المؤلف إلى أحد من العلماء، وإنما هو مذهب الطوفي، الذي حاول الانتصار له بنصب هذه المسألة للبحث (¬1). والصواب كما تبين من قبل، أن الأئمة المجتهدين - نظروا في المعاملات فوجدوا أن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني، فإذا علموا معنى معتبرًا في الشرع عدوه إلى الفرع بطريق معتبر من طرق الاستنباط. أما اتباع المعاملات المصالح فقط وبلا ضبط فهذا لم يقل به أحد من العلماء كما أشرت آنفًا، وما زعمه المؤلف فيما سبق أن الضبط أمر مخترع قد تبين بطلانه، وهو ما يزال يجادل على ذلك، ويستنكر أن تخضع المصالح إلى ضبط المسالك المعلومة في أصول الفقه، كما سيأتي معنا في مناقشته لكلام الشاطبي مع أنه لم ينسبه إليه. وإذا علم هذا - تبين خطؤه في قوله: وهذا القدر اتفق عليه العلماء، ومقصوده بالقدر الذي اتفق عليه العلماء هو أن العبادات قصد بها الشارع الامتثال أولًا وآخرًا ولا دخل لاعتبار المصالح فيها، وأن المعاملات شرعت أولًا من جهة تحصيل المصالح للأنام وهو الأصل فيها. بقي أن نقف عند قوله: "فمنهم من يخرج بها عن التعبد ويجعل الميزان الصحيح هو المصالح فقط بيد أنه لا يدعي خروجها عن التشريع، بل يعترف ¬

_ (¬1) قال المؤلف بعد أن دافع عن شذوذ الطوفي 295: "وإذا أردنا أن نحكم على هذا الرأي حكمًا صحيحًا بالقبول أو الرفض، وجب علينا أن نعرض لمسألة أخرى هي كالأساس لما نحن فيه، وهي هل نظر الشارع للمعاملات ملاحظ فيه التعبد أو مجرد عن ذلك، وهو موضوع البحث الآتي" 296 ثم نصب هذه المسألة التي أنا الأن بصدد مناقشته فيها، وأشرت إلى هذا ليعلم القارئ شدة حرص المؤلف في الانتصار لشذوذ الطوفي.

أنه ماض فيها، ولكن من هذا الطريق حسبما أرشدنا الشارع إجمالًا وتفصيلًا (¬1). ويقصد بذلك أن هذا الفريق من العلماء يوافقه على أن المعاملات تتبع المصالح فقط وهو الميزان الصحيح، وهذا واضح من عبارته .. أما الطريق الذي نعرف به هذه المصالح فيحتاج إلى بيان، فإن كان مقصوده أن المصلحة لا ينبغي أنْ تخرج عن التشريع، بمعنى أنها لا تكون مصلحة إلّا إذا وافق عليها الشرع فهذا حق، وأن المصلحة هي ما أرشدنا الشارع إليها إجمالًا وتفصيلًا، فما فصلته النصوص من المصالح فلا نحيد عنه، إذ المصلحة متوفرة فيه، وما لم ينص عليه يعرف بمراجعة نصوص الشارع فما شهدت له بأنه مصلحة قبلناه وإن شهدت برده رددناه. فإن كان هذا مقصوده من هذه العبارة، فالصواب فيه ظاهر ويقتضي هدم ما ردده في رسالته هذه من أن بعض النصوص لا تحقق المصلحة، وأنها لهذا لا بد من تعطيلها مؤقتًا، لأن من الأحكام ما يتبدل بتبدل المصالح، وأن دعوى الأصوليين في اشتراط الضابط أمر مخترع، إلى آخر ما ردده في كتابه. والظاهر - والله أعلم -كما هو وارد في النصوص التي جاءت بعد ذلك أنه ما زال ينافح عن دعواه السابقة (¬2)، وأن عبارته هذه ما هي إلّا علامة بينة على اضطرابه، إذ يقال له: إذا كانت المصلحة لا تخرج عن التشريع، فما بالك تصرح بأن النص قد لا يحقق المصلحة، وأن هذا يقتضي تعطيله مؤقتًا، وإذا كان الطريق الذي تعرف به المصالح في المعاملات هو طريق الشارع إجمالًا وتفصيلًا، فما بالك تصرح بأن الضبط أمر مخترع عند الأصوليين، وحاصل ما عندهم هو أن المصلحة لا بد من اعتبارها، إذا أرشدنا إليها الشارع إجمالًا كأن يشهد لها بالاعتبار، فإن لم يشهد لها فلا تعتبر، لأنا لم نعرف طريقا شرعيًّا يعتبرها. ¬

_ (¬1) رسالة التعليل 297. (¬2) إضافة إلى ما نقلته سابقًا. انظر ما ورد بعد ص 297 مثل 299، 370.

ومقابل هذا الخلط والاضطراب وعدم الضبط ننقل عبارات الإِمام الشاطبي - التي نقل المؤلف بحثه الرابع منها انتصارًا لمذهب الطوفي - لنرى هل أحسن النقل حين نقل أم لا؟ وهل أحسن الفهم؟ وهل أحسن المناقشة؟ حاصل ما يريد الشاطبي تقريره في المسألة الثامنة عشر والتاسعة عشر أن: 1 - الأصل في العبادات - بالنسبة للمكلف - التعبد دون الالتفات إلى المعاني. 2 - الأصل في العادات - بالنسبة للمكلف - الالتفات إلى المعاني (¬1). 3 - الأول يقتضي الوقوف عند ما حده الشارع وهذا معنى التعبد. 4 - الثاني - وهو أن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع المنصوص، وذلك لأن التعبديات علتها مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (¬2). 5 - "أن العاديات وكثير من العبادات لها معنى مفهوم وهو "ضبط وجوه المصالح" إذ لو ترك الناس والنظر، لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد إليه سبيل ... " (¬3). 6 - كل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع عليه. 7 - كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد من اعتبار التعبد فيه. ثم أخذ في الاستدلال على ذلك وقال بعده: " ... وما أشبه ذلك من المسائل الدالة على اعتبار التعبد، وإنْ عُقِلَ المعنى الذي لأجله شُرع الحكم، فقد صار إذن كل تكليف حقًّا لله، فإن ما هو لله فهو لله، وما كان للعبد فراجع ¬

_ (¬1) الموافقات: 2/ 222. (¬2) الموافقات 2/ 226 - 227. (¬3) الموافقات: 2/ 227.

إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله، إذْ كان لله أن لا يجعل للعبد حقًّا أصلًا" (¬1). وتبين من كلام الإِمام الشاطبي، أن مقصوده من بحث هذه المسألة، هو إثبات أن التكليف هو حق لله، سواء أكان من العبادات أو المعاملات، ولهذا ذكر الأدلة على أن "كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد من اعتبار التعبد ثم ذكر أربعة أوجه تدل على ذلك .. وبعد معرفة ما يريد الشاطبي تقريره في الموافقات، أعود إلى المقارنة بين ما هو موجود في الموافقات وما نقله الشلبي مع بيان الفوارق: أولًا: ذكر الإِمام الشاطبي ثلاثة أدلة على أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني: أولها: الاستقراء: وهو ما ذكره الشلبي سابقًا. والفارق بينهما أن الشاطبي جعله دليلًا على ما ذكره وحرر الضوابط فقال مبينًا: إنا فهمنا من العادات اعتبار الصالح، وذكر لذلك أمثلة منها: جواز الدرهم بالدرهم في القرض مع حرمته في المبايعة، وحديث "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، "ونهى عن بيع الغرر"، "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" ... إلى غير ذلك في لا يحصى وجميعه يشير - بل يصرح - باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت حسبما بينته مسالك العلة فدل ذلك أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني" (¬2). والشاطبي -كما هو واضح من عبارته- أحسن الاستدلال على مقصوده وحرر ضوابط اتباع المصالح، وهو أن الشارع أذن في ذلك، وضوابطه هي اتباع مسالك العلة. ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 231. (¬2) الموافقات 2/ 225.

والشلبي بضد ذلك نقل أول كلام الشاطبي وترك آخره الذي فيه هذه الضوابط. وقد سبق في أكثر من موضع استنكاره لها وزعمه أن الضبط أمر مخترع. ثانيًا: استدل الشاطبي بأن "الشارع، توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد منها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص (¬1)، بخلاف باب العبادات فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ... " (¬2). وأضاف الشلبي - بعد أن لخص الدليل الذي ذكره الشاطبي - قوله: "وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح، ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة وبطائفة خاصة، وبإقليم خاص وفي زمن خاص، وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الإصر والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رُفع عنهم" (¬3). وهذه الإِضافة من المؤلف تخدم القضية التي ينافح عنها في كتابه، وما زال يمفد لها، ويقوّي من شأنها، والشبهة التي أصابته ما زالت تلاحقه وهي ظاهرة في قوله: " ... ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة ... " فهو يرى أن النص قد لا يحقق المصلحة، وبذلك يجب أن نتعرف عليها ولو خارج النصوص، ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح هكذا بغير حرمة للنص وبغير شهادة من الشرع لهذه المصالح المزعومة. ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 224. (¬2) يعني بعدم الوقوف عندها أي عدم الاقتصار على ما نصت عليه، بل الحمل عليها باتباع المعاني المناسبة شرعًا. (¬3) تعليل الأحكام 296 - 297.

بل إنه يرى أن وضع هذه الضوابط نوع من الإِصر والأغلال. أمّا مسألة خصوص بعض الأحكام فلم يقل أحد من العلماء إن خصوصيات الرسول - عليه الصلاة والسلام - تلزم المكلفين .. أمّا بقية الأحكام وهي معظم الشريعة فلم يقل أحد من أهل العلم أن من نصوصها ما ورد لمصلحة خاصة، وبطائفة خاصة، وبإقليم خاص، وفي زمن خاص وهذه الدعوى - مع خطورتها - لم يقدم لها المؤلف دليلًا إلّا قوله أن بعض المصالح تتغير، وأن النص لا يحقق المصلحة في بعض الأحيان، وهذه كما ترى دعوى أخرى، فلم يبق في يديه إلّا قوله: إن هذا عمل الصحابة فكان إجماعًا، وقد بينت في البحوث السابقة أن الصحابة لم يغيروا ولم يبدلوا وما فهمه واتبعد ما هو بيقين، ولكن شُبِّهَ له. والحاصل أن هذه الإِضافة على كلام الشاطبي - مع خطورتها - ليس لها وزن علمي لأنها مجرد دعوى، ووسعت البيان هنا ضرورة لإِبطال قوله بعد ذلك أن هذا قدر اتفق العلماء عليه!!! وفكرته هذه وما ينبني عليها لا يزيدها إدخالها مع كلام الشاطبي إلّا خذلانا، وذلك لما بينته من الفرق بين ما نقلته عن الأصوليين، ومنهم الشاطبي وهو الالتزام بالضوابط الشرعية، وتوقير النصوص، والشعور بحرمتها وأنها رحمة متضمنة للعدل والمصلحة والخير واتباع المعاني تحت العمل بالضوابط وبين شذوذ صاحب رسالة التعليل الذي يرى المصلحة ... خارجة عن النص في بعض الأحيان ويصر على عدم الضبط (¬1)، ويعطل بعض النصوص مؤقتًا، تجديدًا لشذوذ الطوفي، بل وزيادة عليه. ¬

_ (¬1) وهو شديد الاضطراب في هذه القضية، فتارة ينكر على الأصوليين اتباعهم الضوابط ويزعم أنها أمر مخترع، وتارة يستنكر اعتبار مطلق المصلحة في مقابلة النص ولو لم يكن إليها حاجة، انظر 300، وأما إذا اعتبرنا أن "الحاجة" غير منضبطة - وهي كذلك - فإن الاضطراب يرتفع ويحل محلة الإِصرار على رفع الضوابط.

ثالثًا: قال الإِمام الشاطبي إن العقول قد تدرك بعض المصالح كما كان يصنعه أهل الفترات، حيث اتبعوا بعض الأحكام - اتباعًا لبعض المعاني - فجرت بذلك مصالحهم، وذلك ما كانوا يعملونه في الجاهلية، كالدية والقسامة، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة للوعظ - والقراض وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك، ومع ذلك فإنهم قصّروا في جملة من التفاصيل فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق، وأما في التعبديات فكان الصحيح منها نادرًا، وهو ما أخذوه من ملة إبراهيم - عليه السلام - (¬1). ثم جاءت الشريعة وأقرت من هذه الأحكام ما أقرت، ورفضت منها ما رفضت، وما قبلته أصبح من نظامها لا على أنه حكم الجاهلية خالط حكم الإِسلام، وأن الإِسلام تأثر به، بل لأن الإِسلام اختاره وأقره، ولو لم يقره لم يكن منه البتة، وهو بهذا الإِقرار أصبح من شريعة الإِسلام، وأخذ شرعيته من إقرار الإِسلام به. وقد صرح الإِمام الشاطبي أن هذا الإِقرار لهذه المصالح من الشارع حيث قال: "ومن ها هنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية كالدية والقسامة ... " (¬2). ونحن نطالب من يريد اتباع المصالح حيث كانت أن يأتي بإقرار من الشارع، على أن هذا الأمر مصلحة وليس بمفسدة لا نريد منه أكثر من ذلك. والمصالح حينئذ قسمان كما قرره الشاطبي نفسه: الأول: ما لا يمكن الوصول إلى معرفته بالمسالك المعهودة - ويقصد بالمسالك الإِجماع والنص والإِشارة والسير والمناسبة وغيرها - ولا يطلع عليه إلا بالوحي، فهو موقوف على التعبد المحض، ومعنى هذا أن من زعم أنه يدرك ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 225 - 226. (¬2) المصدر السابق 2/ 226.

المصلحة منه، ويريد أن يعديها إلى غير محلها فهو مخطئ وأمره مردود عليه لأنه لا سبيل إلى إدراكها. الثاني: "ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإِجماع والنص والإشارة والسبر والمناسبة وغيرها - وهذا القسم هو الظاهر الذي نعلل به ونقول أن شرعية الأحكام لأجله" (¬1). وهذه الضوابط المذكورة هنا هي من معنى قول الشاطبي سابقًا "ومن ههنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام". نعم لابد من الإِقرار من الشارع، وقد علمنا أنه قد كفنا عن طلب القسم الأول، وأمرنا بالقياس على القسم الثاني، والعمل به شريطة أن لا يخالف إجماعًا أو نصًا ذلك أن الإِجماع والنص .. وغيره هي الطرق التي بها تعرف المصلحة وهي الدلالة عليها فكيف يتصور أن تعارضها المصلحة أو تطلب خارجًا عنها. وإذا تحصل مقصود الشاطبي ننظر بعد ذلك في صنيع الدكتور الشلبي فإنه ذكر هذا الدليل مختصرًا فقال: "إنّ أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات، فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير، وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإِصلاح والإِفساد، ولم تبطل إلّا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات، وأما عباداتهم فضلت فيها عقولها ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلا ما نقل لهم من شريعة الخليل - عليه السلام -" ثم قال إن هذا القدر اتفق عليه العلماء (¬2). والفارق بين معالجة الإِمام الشاطبي لهذه المسألة ومعالجة الشلبي واضح جدًا، فإن الإِمام الشاطبي بيّن إلتفات الشارع إلى المعاني في باب العادات فإذا ¬

_ (¬1) المصدر السابق 2/ 230. (¬2) الموافقات 297.

علمنا المعنى اتبعناه تحقيقًا للمصلحة، وأنه لا بد من إقرار الشارع وشهادته لهذا المعنى بالمناسبة، وإلّا تبينا أن هذا الذي ظنناه مصلحة ليس كذلك .. وأما الشلبي فإنه يسير فيما يخدم دعواه، ولذلك تجده لم يذكر الضوابط التي ذكرها الإِمام الشاطبي، ولم يحرر المسألة كما حررها، فبينما تجد الشاطبي يصرح بما أقرته الشريعة، ويبين أنه جملة من الأحكام، تجد الشلبي يقول: "أقرت منها الشيء الكثير ... ولم تبطل إلّا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات" هكذا على سبيل الحصر .. لم تبطل إلّا المصلحة التي حمل عليها هوى النفس وطغيان الشهوات، وأما التي حمل عليها العقل فشيء آخر، فإذا ما جاء أحد من العقلاء - في غير طغيان ولا هوى - وقال إن هذه مصلحة فاتبعوها فينبغي أن نتبعها لأن بعض المصالح التي جاءت بها بعض النصوص تتغير وما دام إقرار الشارع لها ليس شرطًا والضبط أمر مخترع فلا بد من اتْباعِ العقلِ بدون الرجوع إلى أصل معين. والحق أنه لا عبرة بمثل هذا النوع من المصالح ما لم يشهد له الشرع بعدم الرد، فإن رده فهو مردود سواء أكان الحامل عليه هوى نفس أو طغيان أو نية خالصة تريد النفع والخير (¬1) وذلك أنه قد تقرر على سبيل القطع أن العقل ليس بشارع، وأنه لا يستقل بإدراك المصالح ودفع المفاسد، وأنه لا بد من شهادة الشارع للمصلحة بأحد المسالك المعروفة فإن لم يشهد ورد - ذلك الذي ظنناه مصلحة - فإنه مردود بالإِجماع، والعبرة بما حده الشرع وبينه .. وأستطيع هنا أن أقول - نقضًا لما زعمه شلبي وبيانًا للحق - أن هذا ¬

_ (¬1) وكم وقع العبّاد والزهاد وكثير من الدعاة في مثل هذا، يقولون إن هذا طريق إلى الآخرة، وهذا طريق التي الغاية المطلوبة بنية خالصة، ثم لا يدركون مبتغاهم، وينضاف التي ذلك مجاوزة الشريعة وعدم الوقوف عند ما حدته أو الرجوع إلى ما يخالف المصلحة - بزعمهم - بالتأويل ونحوه، ولا بد لكل مسلم أن يقف عند ما حدته الشريعة، وإنْ نازعته نفسه تطلب اتباع المصالح المزعومة.

المطلب الثامن الفرق بين العبادات والعاديات

هو القدر الذي اتفق عليه العلماء، حاشا الطوفي الذي شذ عن الإِجماع، ثم جاء الشلبي من بعده فطم الوادي على القرى .. هذا بالنسبة للقسم الأول الذي نقله عن الشاطبي واتجه به إلى معنى آخر - لم يقصده الشاطبي ولا غيره من الأئمة - أراد به نصرة رأي الطوفي، وقد تبين الفرق بين منهج الشاطبي وصنيع المؤلف. المطلب الثامن الفرق بين العبادات والعاديات تشمل الشريعة الإِسلامية هذين القسمين: الأول: هو العبادات، ويدخل فيها من الشرائع أداء الصلوات والحج والنذر والصيام ونحو ذلك. الثاني: وهو العاديات أو المعاملات، ويدخل فيها من الشرائع القرض والقضاء والحكم في الخصومات ونحو ذلك. والأول يغلب عليه كونه حقًّا خالصًا لله أي بين العبد وربه، والثاني يغلب عليه كونه حقًّا للآدمي. هذا هو معنى التقسيم الذي ورثناه عن الفقهاء، بقي أن نتعرف على الفرق بينهما لصلة هذا البحث بما نحن فيه .. والفرق بينهما: أن العبادات توقيفية ليس للعبد معها إلّا مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان (¬1)، وأن المعاملات والعاديات إذا عُلم المعنى الذي شرعت من أجله وعُلم وجوده في محل آخر نقل إليه ذلك الحكم بطرق من طرق مسالك العلة المعلومة ... أما موضع الاتفاق بين العبادات والعادات فيظهر فيما يلي: ¬

_ (¬1) الموافقات 2/ 226 - 227.

1 - أنهما جميعًا من أحكام الشريعة الإِسلامية، ويجب الالتزام بها لأنها من الدين الذي أمرنا الله باتباعه، ولا يجوز تبديلها ولا تغييرها ولا تعطيلها بل الواجب توقيرها وتعظيمها والانقياد لها لأنها من عند الله العزيز الحكيم. 2 - أن المطيع لأمر الله في العبادات والعادات مثاب، لأنه أدى حق الله عليه، سواء بأداء الصلوات أو بأداء حقوق الناس كما أمره الله، فحق الله فيها ظاهر، ولذلك تشترك في معنى التعبد من هذه الجهة، فهي عبادة لله، فكما تتحقق عبادة الله بالتوحيد تتحقق بأداء الصلوات والحج والصوم والزكاة، وتتحقق بالتزام حكم الله في الاقتصاد والاجتماع والحكم والسياسة. فمن إلتزم في ذلك كله أمر الله - يرجوا بذلك وجه الله - فهو متعبد مأجور، ومن خالف فبحسب مخالفته، وإنما يتحقق الأجر في كل ذلك لأن فيه معنى التعبد أي معنى عبادة الله، وهذا حاصل ما قرره الشاطبي بأدلة واضحة بينة في المسألة التاسعة عشرة، ليقول لنا أن كل تكليف فيه حق لله (¬1). وبملاحظة مواضع الاتفاق والاختلاف يمكن معالجة هذه الشبهة التي يمكن أن يقع فيها بعض الناس وهي: أن ملاحظة معنى "التعبد" في العاديات من تلك الجهة وبذلك المقصود، مانع من اتباع القياس الشرعي والمصلحة المعتبرة أو بلفظ آخر مانع من التعدية. وهذا ما فهمه الشلبي حيث قال: "استند هذا الفريق في مدعاة أن المعاملات ملاحظ فيها التعبد" إلى أمور منها، ثم ذكر أدلة الإِمام الشاطبي على المسألة التاسعة عشرة التي أشرت إليها آنفًا، ثم حاول الإِجابة عنها (¬2). ولا نحتاج هنا إلى مناقشته، فضلًا عن ذكر أدلة الشاطبي وتعليقه هو فإن ذلك لا ضرورة له، وذلك أن الإِمام الشاطبي لم يقصد بإثبات معنى التعبد في العاديات منع التعدية فيها، لأنه يقر بالفرق الذي ذكرته بين العبادات والعاديات ¬

_ (¬1) المسألة التاسعة عشرة: الموافقات 2/ 228 - 229 - 230 - 231. (¬2) تعليل الأحكام 297 - 298 - 299.

وبمواضع الخلاف، فهو يرى في وقت واحد أن: العاديات الأصل فيها اتباع المعاني، فيعدي المجتهد الحكم إلى غير محله بشرط أن يلتزم مسالك العلة فلا يؤدي به اجتهاده إلى رد ما جاء به الشرع، وسواء عدى الحكم أو لم يعده فإن أحكام العاديات كلها فيها معنى التعبد من جهة - لا تمنع التعدية - وإنما هي ضرورية لربط قلب المؤمن بالله، فهو إذ يلتزم بأحكام العاديات إنما يلتزم أمر الله فإذا أخذ ما أخذ، وترك ما ترك من تحت الإِذن الشرعي فإنه عابد مُتبعٌ مؤدٍ حق الله وهذا معنى قول الشاطبي: الأصل في العاديات الالتفات إلى المعاني وذلك لتتحقق التعدية، وأن فيها معنى التعبد وذلك لتحقق معنى العبادة والأجر والثواب عليها. فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لباحث أن يناقش أدلة الشاطبي على أن العاديات وإن اعتبر فيها اتباع المعاني - فلا بد فيها من اعتبار التعبد، وذلك ليقول: إن الأدلة السابقة - ويقصد أدلة الشاطبي - فيها ضعف ظاهر ولا يصلح التمسك بها في مقام الحجاج (¬1). وأدلة الإِمام الشاطبي التي ناقشها د. شلبي هي الأدلة التي ذكرها على المسألة التاسعة عشرة - لإِثبات أن "كل تكليف فيه حق لله" (¬2) ومن يناقش في هذا أو يجادل؟! وهذا دليل على أن الشلبي لم يفهم ما يريد الشاطبي أن يقوله في المسألة التاسعة عشرة فأخذ يناقشه في أربعة صفحات (¬3). فإن قيل: إذا كان الشاطبي يقول بالتعدية والشلبي يجادل عنها ليثبت أن في العاديات تعدية فما الفرق بينها؟ والجواب أن الشاطبي متبع للإِجماع في الالتزام بالضوابط، وعدم التقديم على النص أي مصلحة، ولو اجتمعت عليها عقول العقلاء وأفهام الحكماء، ولا تغير ولا تبديل في المعاملات وأحكام النظام الاجتماع، وأما الشلبي فبضد ذلك وقد مر بيانه. ¬

_ (¬1) تعليل الأحكام 300. (¬2) الموافقات 2/ 231. (¬3) تعليل الأحكام 299 - 300 - 301 - 302.

وأختم الجواب عن هذه الشبه بالإِشادة بمجهود الشاطبي المبارك في كتابه، ذلك أنه يتكلم عن الإِسلام وهو يلاحظ عقيدته ومنهجه في الاستدلال وأحكامه ومقاصده. فإن شئت أن تجد في كلامه اتباعًا للسلف ومفارقة للبدعة والمبتدعين وجدته، وإن شئت أن تجد - سلامة من آثار علم الكلام - يترتب عليه ضبطًا لمنهج الاستدلال وجدته، وإن شئت أن تجد إبرازًا لمقاصد الشارع، وإظهارًا لمعنى التعبد في جميع أحكامه وجدته، كما هو الحال في مسألتنا هذه (¬1). ومن يعلم مدى ما أدت إليه أمثال هذه الشبهة حتى فُهم الإِسلام على أنه عبادات لها الاحترام، ومعاملات يمكن أخذها من غير الشريعة أو يمكن التزامها بدون الشعور بمعنى العبادة فيها، حتى أصبح مفهوم التعبد مقصورًا على نوع خاص من الأحكام، من علم ذلك شعر بالجهد المبارك الذي بذله الشاطبي .. وشعر في الوقت نفسه بشدة حاجتنا إلى التعرف عليه وإظهاره. وهذا الجهد المبارك هو المدد الذي ييسره الله على أيدي العلماء الربانيين، فينقلونه من جيل إلى جيل، فيحفظ الله بهم الفهم الصحيح لهذا الدين، الذي عاش به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم بإحسان غير مبدلين ولا مغيرين في غير ما حرج ولا ضيق {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}. وكلما أردنا أن نفهم هذا الدين .. كما فهمه جيل الصحابة والتابعين فلابد من أن نأخذه عن أولئك العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين تابعوا الجيل القدوة وسلموا من آثار الفرق الضالة قديمًا وآثار الغزو الفكري حديثًا، وتحققوا بهذا الدين ونصروه، وهؤلاء هم العلماء الربانيون الراسخون نفعنا الله بهم ورزقنا ما رزقهم (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر المقدمات على سبيل المثال - من كتاب الموافقات 1/ 11 - 62 لتزداد يقينًا بهذا الذين نقوله. (¬2) انظر المقدمة الثانية عشرة 1/ 52.

المطلب التاسع مناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإمامين: ابن القيم والشاطبي

المطلب التاسع مناقشة ما نسبه بعض الباحثين إلى الإِمامين: ابن القيم والشاطبي الفرع الأول فيما نسبوه إليهما نسب بعض الباحثين المحدثين إلى هذين الإِمامين القول بقاعدة تغير بعض الأحكام بتغير الزمان، معتمدين في ذلك على ما فهموه من نصوص وردت في كتاب أعلام الموقعين وكتاب الموافقات. وأبدأ بما ذكر الدكتور صبحي الصالح بعد أن ذكر بعض نصوص ابن القيم فقال: "وحين نذكر أن "المصلحة العامة" في القوانين الحديثة هي أساس كل تشريع، ونضع في مقابل ذلك ما اشترطه فقهاؤنا لسلامة الأخذ بالمصلحة المرسلة (المطلقة من كل قيد إلا قيد النفع) (¬1) لا يسعنا ونحن نسير روح الشريعة وأساسها إلا أن نستخدم هذه الوسيلة "التقنينية" التي هي مبنى هذه الشريعة وأساسها، فحيثما كان العدل والرحمة والحكمة والمصلحة فثم شرع الله" (¬2). وهذا الذي نقلته هنا هو نتيجة بحثه للفصل الخامس بعنوان "روح الشريعة الإِسلامية" وقد نسب فهمه هذا إلى الإِمام الشاطبي حيث ابتدأ حديثه بتقرير أن الإِمام الشاطبي هو من أفضل الأئمة الذين تعرفوا على روح الشريعة. وقد أحسن الدكتور صبحي الصالح وهو يتحدث عن ثبات الشريعة حيث اعتبر انقطاع الوحي موجب لثبات الشريعة "غير قابلة للتعديل أو التطوير ¬

_ (¬1) القوس من عند المؤلف وما زال الكلام له. (¬2) المعالم الشريعة الإِسلامية، الدكتور صبحي الصالح دار العلم للملايين - بيروت الطبعة الثانية ص 72.

إلا ما كان منها في حياة الرسول - أو في عصر الوحي - (¬1) داخلًا في اعتبار الناسخ والمنسوخ أو التخصيص بعد التعميم أو التقييد بعد الإِطلاق أو التفضيل بعد الإِجمال ثم اتخد في النهاية صورة "ثابتة" في جميع الأحوال كالآيات التي تعاقبت نزولها بشأن الخمر على سبيل المثال" (¬2). ثم انتقل إلى أمر مهم جدًا ألا وهو كيفية التعرف على شمولية الشريعة واعتبر "المصلحة والعرف" هي من أهم الوسائل المؤدية إلى ذلك. وبعد هذا مباشرة انتقل إلى الحديث عن دور المصلحة وأخذ في التعريف بموقف ابن القيم منها - ونقل عنه قوله: "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها" ثم يضيف قائلًا: "فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه" (¬3). ثم قال د. صبحي: وقد نصر ابن القيم رأيه في المصلحة بطائفة من الأمثلة في كتابه "أعلام الوقعين" ... وإليك بعضًا منها: 1 - عدم قطع الأيدي في الغزو. 2 - إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه لا يسوغ إنكاره (¬4). ثم أكد المؤلف ما يذهب إليه من نسبة تلك القاعدة إلى ابن القيم بأن ¬

_ (¬1) هذه الإضافة بيان، لأن "عصر الوحي" هو "حياة الرسول" ولا يحتاج لحرف "أو". (¬2) معالم الشريعة 57 - 58 - 59. (¬3) معالم الشريعة الإِسلامية ص 62 نقلًا عن أعلام الموقعين، وقد نقله أيضًا صاحب رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" ص 162. (¬4) معالم الشريعة 70.

ذلك هو منهج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في كثير من اجتهاداته مثل إسقاط الحد عن السارق عام المجاعة وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم ونحو ذلك (¬1) وقرر على هذا نتيجة بحثه التي ذكرتها في أول هذا المطلب. وعلى هذا المسلك سار بعض الباحثين حيث نسب إلى ابن القيم الانتصار لهذه المقالة "تغير بعض الأحكام بتغير الزمان" (¬2). هذا ما فهموه عن الإِمام ابن القيم فماذا عن فهمهم لنصوص الإِمام الشاطبي، ينقل بعض الباحثين نصًا طويلًا للإِمام الشاطبي ويستنبط منه "أن أحكام الشريعة (عند الإِمام الشاطبي) إنما هي عبارة عن كليات وجزئيات، وأن الكليات تعتبر أصولًا باقية لا تتبدل ولم يحدث فيها نسخ بخلاف الجزئيات التي تجري فيها المشاحنات والمنازعات، وأن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة بمكة، وكانت هذه الأحكام المدنية شاملة للرخص والتخفيفات وتقرير العقوبات في كل ذلك في الجزئيات لا الكليات التي أحكمت في مكة وبقيت على حالها" (¬3). وحاصل ما فهمه الباحث من كلام الشاطبي ما يلي: 1 - أن الجزئيات تخالف الكليات من حيث تبدلها وتغيرها. 2 - أن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة بمكة. وكلام الباحث هذا في معرض حديثه عن قاعدة تغير الأحكام وصلتها بنقض الاجتهاد (¬4)، ونحن نناقشه في فهمه لكلام الإِمام الشاطبي وذلك بعد مناقشة فهمه وفهم الدكتور صبحي لكلام ابن القيم. ¬

_ (¬1) معالم الشريعة 69. (¬2) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 162، 181. (¬3) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 29 - 30. (¬4) رسالة "تغير الأحكام بتغير الزمان" 27.

الفرع الثاني المناقشة

الفرع الثاني المناقشة إن مما أناقش فيه هذين الباحثين أمرين مهمين: الأول منهما: أن المصلحة - التي أخذ بها فقهاؤنا واشترطوا شروطًا لسلامة الأخذ بها هي المصلحة المرسلة (المطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع). وأسندا العمل بالمصلحة المرسلة إلى الإِمام ابن القيم ومن قبله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ومما ذكر من الأمثلة عدم قطع الأيدي في الغزو وعدم إنكار المنكر إذا أدى إلى مفسدة عظيمة .. وإسقاط الحد عام المجاعة. الثاني منهما: إن الأحكام المدنية في الغالب غير منزلة على وقائع الكليات المقررة بمكة، وأن تلك الأحكام الجزئية التي نزلت بالمدينة تخالف الكليات المكية من حيث البقاء والتبدل، هكذا على الإِطلاق. مناقشة الأمر الأول: نبدأ في المناقشة في هذا الموضع من حيث انتهينا سابقًا حيث تقرر أن ما قيل عن "تغير الأحكام بتغير المصالح والأعراف والعادات والأزمنة" ليس مبنيًا على أساس علمي، وحاصل ما عند القائلين به أنه "قاعدة" حدثت عند نشوء المجلة العدلية، وكان يكفيهم ذلك، لو أنهم تريثوا وتساءلوا لمَ لمْ ينص السلف على أنها قاعدة؟ وحينئذ سيعلمون الجواب الذي سيحملهم على إعادة النظر فيها والتعرف على حقيقتها، غير أنهم لم يصنعوا شيئًا من ذلك، بل سارع بعضهم إلى محاولة إضافة معناه إلى فقه السلف، وقد تبين لنا بما فيه الكفاية، أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يغيروا الأحكام ولم يبدلوها، وبقي هنا أن نناقش ما نسب إلى ابن القيم سواء من هذين الباحثين أو من غيرهما (¬1)، ونقول هنا كما قلنا من قبل إن إطلاق المصلحة من ضوابطها مخالف لوضع الشريعة ولفهم ¬

_ (¬1) أكرر ما قلته سابقًا من أن العبرة بالمناقشة ليست هي معالجة رأي هذا الباحث أو ذاك، بل هي أعم من ذلك، تتبع الفكرة حيث كانت ..

السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء من بعدهم، وما يقوله الأستاذ صبحي الصالح هنا يأخذ الحكم نفسه. وإن مما يعفيه من هذه المؤاخذة أن يقيد تفسيره للمصلحة المرسلة بما أشرت إليه سابقًا من كلام الأئمة، فليس عند فقهاء السلف مصلحة مرسلة (مطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع) إن هذه المصلحة هي المصلحة التي تدور عليها القوانين الوضعية كما يقول الباحث، والشرط الذي تضيفه الشريعة هنا هو أن تشهد نصوصها الجزئية أو الكلية لهذا النفع بعدم الرد، ذلك أن هذه الشريعة وضعت في الأصل لتكون صراطًا مستقيمًا يهتدي به الناس، ومن مقتضى اهتدائهم بها أن يستشهدوها على ما يظنونه "نفعًا" فإن شهدت بأنه كذلك ولم ترده فهو كذلك، ويترتب على ذلك أن يتبعوه ويعتبروه، لأن الشريعة أمرتهم بذلك، ومن هنا يتحقق الخير وتتحقق العبودية وذلك باتباع هذه الشريعة، وإن لم تشهد له بل ردته، فهو حينئذ ليس "نفعًا" ويجب عليهم أن يبتعدوا عنه مهما شهدت له العقول القاصرة والعادات المتكاثرة، أما أن يقال المصلحة المرسلة - التي أمرت الشريعة باتباعها - هي المطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع - ثم نتبع ما يقال أنه "نفع" فليس ذلك بصواب، ولا يضرنا إذا اهتدينا أن تتبع القوانين الوضعية المصلحة التي أطلقت من كل قيد إلّا قيد النفع، لا يضرنا ذلك لأن هؤلاء القانونيين ليس عندهم صراطٌ مستقيمٌ من لدن العزيز الحكيم يهتدون به، بل غاية ما عندهم اتباع الأعراف والعادات والأفكار البشرية، فالنفع عندهم ما حددته أعرافهم وعاداتهم وعقولهم والنفع عندنا ما لم ترده الشريعة وهذا فرق عظيم بيننا وبينهم، ولا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (¬1). وكان ينبغي - على الباحث أن يختم بحثه بما ذكره هو نفسه من شروط الفقهاء (¬2)، لا أن يختم بحثه بما يتبعه القانونيون من المصلحة. ¬

_ (¬1) سورة المائدة: آية 105. (¬2) انظر معالم الشريعة الإِسلامية 63.

وما ذكره من شروط الفقهاء لاتباع المصلحة يرجع في النهاية إلى اشتراط عدم معارضة الشريعة لها، فإذا لم تشهد الشريعة بالرد فقد أصبح لتلك المصلحة موضعًا فيها، ولو أكد على ذلك وختم به بحثه لعلم حينئذ أن المرسلة ليست هي المطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع، بل هي التي لا تعارض الشريعة، وليس النفع هو ما يحدده البشر بل هو ما يحدده رب البشر .. وبهذا الذي أقول كان يمكنه تفسير ما ذهب إليه عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وما قاله ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين. ولقد تحدثنا عن مسألة عدم قطع الأيدي في الغزو وفي عام المجاعة، وما بنا حاجة إلى إعادته، وتقرر هناك أن هذا ليس فيه تغيير ولا اتباع لمصلحة مطلقة من شهادة الشرع (¬1) - ولا مطلقة من كل قيد إلّا قيد النفع - ليس شيء من ذلك كله، بل إن ذلك تحقيق مناط الأدلة الشرعية بدون تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير - وأما عدم إنكار المنكر إذا أدى إنكاره إلى منكر أعظم منه فذلك إعمال لقاعدة سد الذريعة، وقد سبقت الإِشارة إليها (¬2). ونحن مع جميع هذه الأمثلة وغيرها نجزم أن ذلك الاجتهاد من الصحابة والتابعين وأئمة السلف من الفقهاء من بعدهم، ليس فيه تغيير ولا تبديل، ولا اتباع لمطلق النفع، أو العرف والعادة، أو الاحتكام إلى العقل، بل هو اتباع لهذه الشريعة وتحقيق لمناطات أحكامها. مناقشة الأمر الثاني: وهو ما نسب إلى الإِمام الشاطبي من أن الأحكام المدنية، غير منزلة على وقائع الكليات المقررة بمكة، وأنها تخالفها من حيث البقاء، وأناقش هذه النسبة من خلال نصوص الإِمام الشاطبي ومن كتابه الذي اعتمد "صاحب رسالة تغير الأحكام " على نص واحد منه ولم يتبين المعنى الحقيقي له (¬3). ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 470. (¬2) انظر ما سبق ص 358. (¬3) قارن صنيعة هذا بصنيع صاحب كتاب تعليل الأحكام - انظر ص 395.

ولا بأس بأن نتذكر بعض المعالم البارزة في منهج الإِمام الشاطبي والتي أشرت إليها من قبل ومنها: 1 - إدراكه العميق لحاكمية هذه الشريعة وثباتها وشمولها وأنها قطعية. 2 - إدراكه لخطورة مسلك المبتدعة وأنه مؤد إلى رفع الضوابط الشرعية وتحكيم العقل والهوى في الشريعة ومن ثم مؤد إلى تبديلها وتغيرها كلها أو بعضها. وأضيف هنا ما يكشف حقيقة ما نسب إليه، وأبدأ بنقل النص نفسه الذي اعتمده "صاحب رسالة تغير الأحكام" مع الإشارة إلى موضع آخر من كتاب الموافقات ولا بد من نقل النص كاملًا مع ما فيه من طول (¬1): يقول الإِمام الشاطبي في معرض حديثه عن بعض معالم منهج التربية الإِسلامية وعن حقيقة الاجتهاد الخاص بالعلماء، والعام لجميع المكلفين: "إن المشروعات المكية - وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس من كل ما هو معروف في محاسن العادات، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها، فكان أكثر ذلك موكولًا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات، ومصروفًا إلى اجتهادهم، ليأخذ كل بما لَاقَ به وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود من إقامة الصلوات فرضها ونفلها، حسبما بينه الكتاب والسنة، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين، ومواساة الفقراء والمساكين، من غير تقدير مقرر في الشريعة، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ومراعاة حقوق الجوار، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق، والدفع ¬

_ (¬1) لأن ذلك ضروري لتصحيح ما نسبه الباحث إلى الشاطبي.

بالتي هي أحسن، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد، وكذلك الأمر فيما نهى عنه من المنكرات، والفواحش على مراتبها في القبيح فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن، فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وبعد وفاته، في زمان التابعين، إلّا أن خطة الإِسلام لما اتسعت ودخل الناس في دين الله أفواجًا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات، ومطالبات بأقصى ما يِحَقُّ لهم في مقطع الحق، أو عرضت لهم خصوصيات ضرورات تقتضي أحكامًا خاصة، أو بدت من بعضهم فلتأت في مخالفة المشروعات وارتكاب الممنوعات، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات، والمحرمات والمكروهات، إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة فضلًا عن غيرها، كما لم تستقل بأصول العبادات وتفاصيل التقربات ولا سيما حين دخل في الإِسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره أو من كان على عادة في الجاهلية وضرى على استحسانها فَرِيقُهُ ومال إليها طَبْعهُ، وهي في نفسها على غير ذلك، وكذلك الأمور التي كان لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر، هذا إلى ما أمر الله به من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم، وطلبوا بدمائهم الخلق إلى الملة الحنيفية، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان، تارة بالقرآن، وتارة بالسنة، فتفصلت تلك المجملات المكية، وتبينت تلك المجملات، وقيدت تلك المطلقات، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات، ليكون ذلك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستنًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المقدمة، وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلًا من الله ونعمه، فالأصول الأولى باقية لم تتبدل ولم تنسخ، لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات،

وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية فإن الأحكام المكية مبنية على الإِنصاف من النفس وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين. وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات والرخص والتخفيفات، وتقرير العقوبات في الجزئيات لا الكليات فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة، وما أشبه ذلك، مع بقاء الكليات المكية على حالها وذلك يؤتي بها في السور المدنيات تقريرًا وتأكيدًا فكملت جملة الشريعة والحمد لله بالأمرين وتمت واسطتها بالطرفين، فقال الله تعالى عند ذلك: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وإنما عُنيَ الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط للفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة حين صار التشاحّ ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل، فهم يزعونهم عن مداخلة الحمى، وإذا زل أحدهم يُبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم، تارة بالشدة وتارة باللين" (¬1). ويشتمل هذا النص على المعاني الآتية: 1 - المشروعات المكية غير محددة، لكي يجتهد المكلفون ويأخذ كل بما يليق به من المقدار الذي يستطيعه، وقد كان الصحابة يثابرون عليها ويبلغون بها غاية مجهودهم. 2 - أنه لمّا اتسعت خطة الإِسلام ودخل فيه الناس أفواجًا ووقعت منهم بعض المخالفات لبعض المشروعات وارتكاب بعض المنهيات، ولاحت بينهم ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 155 - 154 - 156.

المشاحات والخصومات، انتقل منهج التربية الإِسلامية - المتمثل في الكتاب والسنة - إلى مراعاة هذه الوقائع الجديدة، ونزلت أحكام الشريعة بما يفض الخصومات، ويفصل أحكام المكروهات والمحرمات والمندوبات والواجبات. 3 - أن الفقهاء عنوا أشد العناية بهذه المرتبة، وهي التي تليق بالجمهور فاستنبطوا الأحكام الجزئية الخاصة بها، وقاموا بحماية الحد الفاصل بين الحلال والحرام، وأمَّا ما يخص الأخلاق والارتفاع إلى المنازل العالية فيها، وبذل غاية الجهد في تحقيقها والمحافظة عليها، فقد تركه الفقهاء رحمهم الله لجهد المكلف لأنه في أكثر الأحيان يستقل بمعرفته وتطبيقه، ومتروك لجهده الذاتي وقوة إيمانه ولا تلزمه الشريعة بالمراتب العالية، إلّا أن يلتزمها بنفسه .. وهذه مراتب الإحسان التي حققها الصحابة، وتابعهم فيها أئمة الهدى من التابعين وتابعيهم ومن اقتدى بهم فيها، وبهذا النوع اهتم الزهاد والعباد من أهل العلم، من أمثال مالك وأحمد وغيرهم كثير من العلماء ومن اقتدى بهم (¬1)، وهذه المراتب هي ما يسميه الشاطبي العزائم المكيات، وهذه هي التي ثبت عليها الصحابة - رضوان الله عليهم - وأولو العزم ممن اقتدى بهم من بعدهم، ولم تزحزحهم عنها الرخص المدنيات، واستمروا في بذل الجهد على التمام (¬2). ¬

_ (¬1) وهذا الذي لم يفهمه أعداء الإِسلام أو فهموه واستمرؤا المعاندة والمكابرة حتى قالوا إنّ الفترة التي عاشها الصحابة - وهم الجيل الأول - لم تتكرر، والجواب أنها تكررت من ناحية النوع لا من ناحية الكم، وأما من ناحية الكم فإنه لا يتصور أن تكون حالة الأمن في المجتمع الإِسلامي وحالة الكثرة الكاثرة من الأفواج المتدفقة إلى الإِسلام مثل حالة البدء في بناء المجتمع الإِسلامي وحالة القلة التي كانت تتفاعل مع منهج التربية بجميع كيانها العقلي ثم النفسي والروحي والجسدي، ومع هذا فإن هذه الشريعة وإن طلبت من الناس أن يرتفعوا إلى منازلهم - وألزمت من التزم بالقدر الذي التزمه - لكنها لم تلزمهم ابتداءً بتحقيق ذلك المطلوب، ولا يعني أنها خيرتهم في العمل بالشريعة، كلا، وإنما المقصود أنها ألزمتهم بتطبيق الشريعة جملة وتفصيلًا في حياتهم الخاصة والعامة وهذه مرتبة الإِسلام والإِيمان، ولم تلزمهم بمرتبة الإحسان التي هي مرتبة الصحابة رضوان الله عليهم بل ندبتهم إليها وحببتها لهم. (¬2) 4/ 156 - 157.

هذا هو مقصود الإِمام الشاطبي الذي أدرك بعمق حقيقة منهج التربية الذي دعت إليه هذه الشريعة، وحددت جميع معالمه بما اشتملت عليه من أحكام، والذي واكبت فيه القدرات الفذة للنفس البشرية التي بلغت الذروة في اقامة الحق والإِحسان، وواكبت فيه أيضًا في المرحلة المدنية طبيعة النفس البشرية، وهي وإن لم تلزمها بمراتب الإحسان إلّا أنها لم تقبل منها تضييع الحق والإِعراض عنه. وهذا كلام محكم دقيق تلوح منه معالم منهج التربية الإِسلامية ممتزج بأصول الفقه وهذا ليس فيه أن الكليات ثابتة والجزئيات متغيرة كما فهم بعض الباحثين، بل في النص المنقول ما هو صريح بثبات النوعين، حيث يقول الإِمام الشاطبي عن المرحلة المدنية التي تبعت المرحلة المكية " ... فتفصلت تلك المجملات المكية وتبينت تلك المجملات وقيدت تلك المطلقات وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونًا مطردًا وأصلًا مستنًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وليكون ذلك تمامًا لتلك الكليات المتقدمة وبناء على تلك الأصول المحكمة فضلًا من الله ونعمة ... " (¬1). فالمجموع من الكلي والجزئي، محفوظ ثابت، وقانون مطرد في جميع العصور والأزمان، والمدني مبني على الكليات المكية المتقدمة ومتمم له. بقي أن ننظر في السبب الذي حمل الباحث على أن يستنتج ذلك المعنى الفاسد فنجد ذلك يرجع إلى عدم فهمه لقول الإِمام الشاطبي: " ... وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات ... " (¬2). فنقل النص من معنى صحيح إلى معنى فاسد، والمعنى الصحيح كما قدمت آنفًا، أن من أسباب تفصيل الأحكام الجزئية في المدينة هو حدوث وقائع لم تكن فيما تقدم - في المرحلة المكية - وقد علل الشاطبي ذلك تعليلًا حسنًا. ¬

_ (¬1) 4/ 155. (¬2) 4/ 155.

والمعنى الفاسد الذي استنتجه الباحث هو كما قال: "إن الأحكام المدنية منزلة في الغالب على وقائع غير الكليات المقررة لمكة ... " (¬1)، وأنها تخالفها من حيث الثبات (¬2). ودخل عليه الفساد من أوجه عدة منها: 1 - عدم ملاحظته للمعنى الجلي الذي يدل عليه كلام الشاطبي ومنه: (1) أن الأحكام الكلية بمكة والجزئية بالمدينة أصبحت بعد انقطاع الوحي قانونًا مطردًا وأصلًا ثابتًا إلى يوم القيامة (¬3). (ب) أن الأحكام المدنية الجزئية إنما جاءت لتكون تمامًا لتلك الكليات المكية المتقدمة (¬4). 2 - عدم ضبطه لمعنى النص وذلك لزيادته فيه عبارة أخلت بالمعنى المقصود عند الشاطبي، فالنص الذي في الموافقات هو: "وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم" وبالمقارنة مع استنتاج الباحث يتبين أنه أدخل فيه معنى زائد وهو قوله: "وقائع غير الكليات المقررة بمكة" وخطأه يعرف بأن نفرق بين ارتباط الأحكام المدنية بالكليات المكية، وبين عدم تنزل الأحكام المدنية على وقائع مكية، وذلك يعرف بالوجهين الثالث والرابع. 3 - عدم فهمه لمقصود الإِمام الشاطبي من التفريق بين المكي والمدني في هذا الموضع ومقصوده أمران: (أ) أن أحوال الصحابة - رضوان الله عليهم - في مكة من حيث قلة العدد وانشغالهم الكامل بإقامة الحق، وكونهم قاعدة الحق الذي أشرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على تربيتها بنفسه، وكونهم في أعلى المنازل عبادة وجهادًا، وكونهم مطاردين معذبين، يتوقد إيمانهم ويتوهج، وهم في ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 522. (¬2) انظر ما سبق ص 522. (¬3) الموافقات 4/ 155. (¬4) الموافقات 4/ 154.

ذات الوقت متحابون متآلفون لم يخالطهم مخلط ولا منافق فكانت أمورهم حينئذ تجري على الصلاح والتوفيق، والأخذ بالعزائم والإِيثار والصبر، فلم يكن بينهم ما يتقضى نزول الأحكام الخاصة لفض المنازعات والخصومات، لأن وقائعها لم تكن في الغالب في المرحلة المكية، ثم كانت بعد في المرحلة المدنية. (ب) أن هذا لا يعني أن ما نزل بالمدينة لم يكن له صلة بالكليات المكية، كلًا ومما يؤكد ارتباط ما بينهما ما ذكر الشاطبي مفصلًا من أن الأحكام التي نزلت بالمدينة ترجع إلى الأصول المكية (¬1). وتفسير كونها مرتبطة بتلك الأصول مع أنها لم تكن لها وقائع بين الصحابة يسير جدًّا والحمد لله، فالمنازعات والخصومات التي نزلت بخصوصها أحكام في المدينة مرتبطة بالكليات المكية وإن لم توجد بين الصحابة بالمرحلة المكية، وارتباطها يظهر من أن المنازعات والخصومات فيها ظلم واعتداء ولا شك، فنزلت لها تفصيلات مدنية، وأصلها في مكة موجود وذلك في الكليات التي تنهي عن الظلم والبغي والعدوان. ومن هنا تكون مرتبطة بالكليات المكية، وتكون غير واقعة بين الصحابة في المرحلة المكية، ومن هنا يصح قول الشاطبي: "وأما الأحكام المدنية فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات"، ومن هنا نعلم مقصده -رَحِمَهُ اللهُ-، وتبين لنا أنه لم يفرق في الثبات بين ما نزل بمكة وما أنزل بالمدينة، أي بين الكليات والجزئيات ولا بين ما يدخله الاجتهاد الخاص، ولا بين ما يدخله الاجتهاد العام. 4 - عدم فهمه لقول الشاطبي: " ... فالأصول الأول باقية لم تتبدل ولم تنسخ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات وما لحق بها، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجوهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الموافقات 4/ 155. (¬2) 4/ 155.

فليس فيه ما يدل على أن الجزئيات يقع عليها التغير بعد انقطاع الوحي، وحاصل ما فيه أن النسخ وقع بالمدينة ولم يقع بمكة. أما بعد انقطاع الوحي ووفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا نسخ ولا تغيير لا في الكليات ولا في الجزئيات .. وإليك ما قاله الإِمام الشاطبي وقد سبق: يقول -رَحِمَهُ اللهُ- وهو يتحدث عن أوصاف الشريعة: "الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا، ولا تخصيصًا لعمومها، ولا تقيدًا لإطلاقها ولا رفعًا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا فهو سبب أبدًا لا يرتفع وما كان شرطًا فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا فهو واجب أبدًا، أو مندوبًا فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك" (¬1). وبهذا يتبين الصبح لكل ذي عينين، لنعلم بعد ذلك أن ما نُسب إلى هذين الإِمامين الجليلين الشاطبي وابن القيم ليس بشيء وإن إلصاق ما يسمى "بقاعدة تغير بعض الأحكام بتغير الزمان" بهما لا دليل عليه بل شُبه على هذين الباحثين كما شُبه على غيرهما، ودعوى اتباع المصالح أو الأعراف أو العوائد لا تصلح لتأسيس هذه "القاعدة" المحدثة، ولا بد أن يعلم جميع الخلق علماؤهم وعوامهم أن جميع الأحكام التي جاءت بها هذه الشريعة لا زوال لها ولا تبدل ولا تغير في جميع العصور والأزمان. وإنّ في هذه الشريعة المباركة منهجًا أصيلًا يحدد موقفها من إصلاح المجتمعات البشرية، وجميع ما فيها من انحرافات كلية أو جزئية - سواء انتشرت هذه الانحرافات تحت دعوى اتباع المصالح، أو اتباع العادات والأعراف. ونختم هذه الدراسة ببيان موقف الشريعة من إصلاح عادات البشرية وأعرافها، وكيف حددت للناس طريق التعرف على المصالح الحقيقية. ¬

_ (¬1) 1/ 41.

المطلب العاشر موقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح

المطلب العاشر موقف الشريعة من العادات والأعراف والمصالح إن من الأعراف والعوائد ما يحتاجه الإِنسان بسبب ما يحيط به من بحار أو أنهار وما تحت يده من معادن .. وما يحتاجه من الصنائع والمتاجر، وقد سبق ذكر بعض الأمثلة كاستصناع الثياب ووقف بعض المنقولات .. ونحو ذلك .. ومنها ما لا يحتاجه بل صار عرفًا وعادة بسبب شهوة منحرفة وشبهة مغرضة كبدعة المولد التي خلفها الحكم الشيعي الفاطمي في مصر، وما ورثه الأبناء عن الآباء من عقائد الجاهلية. {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬1). والعرف والعادة لهما من القوة في نفوس الناس حتى أن الأنبياء والمصلحين ليجدون من العنت والمشقة والجهد والصعاب، في طريق تصحيح الاعتقاد والعادات ما يثقل كواهلهم ويجعلهم يصابرون ويرابطون حتى يكرمهم الله بالتثبيت ويعينهم على أداء مهمتهم. ولقد جاء الإِسلام ليصحح للناس عوائدهم ما يتصل منها بالعقيدة - مثل ما اعتادوه من عبادة الأصنام والنجوم والأولياء، وما اعتادوه من التشريع من دون الله أو ما يتصل منها بالأعمال كشرب الخمر، والتطفيف في المكيال والميزان والتبايع بالربا، وزواج الأخدان، والتناصر على الظلم، والتفاخر بالقوميات، ونحو ذلك، من عادات الجاهلية. وهذه العادات وما شابهها أبطلها الإِسلام وأبدل المؤمنين به خيرًا منها، وألزمهم بمحاربتها ومقتها والبراءة منها. وهناك عادات أخرى عند الأمم، يأتي الإِسلام ويصلحها ويزينها ويطهرها من القصد الفاسد ويدخلها في نظامه التشريعي بعد أن يقوم بذلك كله، فتصبح ¬

_ (¬1) سورة الزخرف: آية 23. انظر العرف والعادة 15، وانظر أصول الفقه للشيخ أبو زهرة 216.

لها مكانة جديدة وقصدًا صالحًا، كعادة الكرم والشجاعة، فإذ انظرت لها في الإِسلام وجدتها تحمل معاني جديدة وصفات بديعة وطبيعة مستقلة حتى لكأنها ليست هي تلك العادة الموجودة عند الأمم الأخرى وإن كانت تأخذ الصورة نفسها، ولأن الانحراف والاستقامة والضلال والهدى يعتوران البشرية فلا ينقطع أحدهما، بل تارة يغلب هذا، وتارة يغلب ذلك - بقدر ما يبذله البشر من جهد نحو الاستقامة والهدى، أو بقدر ما ينحدرون فيه من الانحراف والضلال، فإن هذه العادات وتلك الأعراف التي تعيشها الأمم يعتورها الضلال والهدى والانحراف والاستقامة أيضًا ومن ثم كان للإِسلام موقفه المحدد منها تمامًا كما كان موقفه منها أول مرة، فيكون هو الحاكم عليها يبطل منها ما يبطل، ويقبل منها ما يقبل حسب منهجه ومفاهيمه ومقاصده ولذلك تجد الأعراف والعادات تخضع عند الفقهاء رحمهم الله تعالى لميزان الشريعة فما قبلته الشريعة حسب مفاهيمها ومقاصدها فهو عادة حسنة وعرف حسن، وما أبطلته فهو عادة قبيحة وعرف قبيح، تمامًا كما نقول فيما يظنه الناس مصلحة، فنقول هذه مصلحة لأن الشريعة حكمت بذلك، وهذه ليست مصلحة لأن الشريعة حكمت بأنها مفسدة، وهذا هو القدر المشترك بين المصالح والعادات والأعراف، وهو شديد الإتصال بقضية البحث، فإن أكثر الناس - وتابعهم على ذلك بعض الباحثين - قد حكموا ما يرونه مصالح وما درجوا عليه من العادات والأعراف، فجعلوها حجة على الشريعة، فغيروا منها ما غيّروا، وزعموا بذلك أنهم يطلبون الإِصلاح والتوفيق، والمصالح، ويتبعون العادات والأعراف، وما علموا أنهم بذلك ينحرفون عن الحق ويتنكبون طريق هذه الشريعة، ولو استقاموا عليها لنبذوا تلك الانحرافات العقائدية والعملية التي سموها عادات وأعرافًا ومصالح فإن الشريعة لم تُسلّم بدعوى الخلق أن هذه مصلحة أو عرف حسن أو عادة طيبة، بل وضعت الضوابط لتلك الأعراف والعادات التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات فقبلت منها ما قبلت وأبطلت منها ما أبطلت، ووجهتها في القبول والإبطال تحقيق معنى العبادة لله وحده، وإلزام الناس بالحق، وتكليفهم بإقامة العدل الرباني في الأرض، وعلى ذلك ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأبطل عادات

الجاهلية وأعرافها التي نشأوا عليها، من عبادة غير الله، كعبادة الأصنام، والتشريع من دون الله، وغير ذلك من أحكام وعادات الجاهلية كالتبايع بالربا، ولعب الميسر، والتبني وزواج الأخدان، ونحو ذلك، فلما استقام أصحابه - رضوان الله عليهم - على الحق ولم تعد تتحكم فيهم العادات والأعراف الجاهلية، كانت وجهتهم هذه الشريعة بأحكامها العامة والخاصة، إليها يتحاكمون وبها يوقنون، فأخضعوا مجتمعهم بجميع ما يجدّ فيه من أعراف وعادات - نتيجة إلتقائهم بالأمم الأخرى لهذه الشريعة، وعلموا أنها هي المصلحة والعدل، ولم يمنعهم من ذلك انتشار تلك الأعراف والعادات وتأصلها في الأمم الأخرى، بل أقاموا الملة دون التفاتٍ إلى ذلك، وهذا هو منهجهم القويم في نشر الإِسلام وتحكيم الشريعة، ولهم في رسول الله قدوة حسنة، وفي صاحبه وخليفته أبي بكر - رضي الله عنه - من بعده، فإنه قد أقام الملة ولم يلتفت إلى العوارض الطارئة، كما قال الإِمام الشاطبي في الاعتصام (¬1)، وذلك منهم جهاد محمود وسنّة متبعة، لو استمسك بها المسلمون من بعدهم لاستقام أمر الدين وصلح حال الخلق، وقد حفظ سيرة الراشدين فقهاء الأمة المعتبرون من السلف الصالح، حيث حكموا الشريعة على الأعراف والعادات، فاشترطوا لقبول العادة الجارية بين الخلق والأعراف المتمكنة فيهم عدم مخالفتها لأحكام الشريعة الإِسلامية، ولا عليهم بعد ذلك من اجتماع الخلق على عرف أو عادة، فإن العبرة ليست بما يقرره المخلوقون (¬2)، بل العبرة بما يقرره خالقهم، ولم يعتبر الفقهاء ما يراه الخلق مصلحة أو عرفًا حسنًا أو عادة مقبولة إذا كانت تعارض حكمًا من أحكام الشريعة، ولم يضرهم ويفت في عضدهم غلبة تلك الأعراف أو العادات، كما لم يفت في عضد أبي بكر - رضي الله عنه - غلبة أهل الردة وما أرادوا إقراره من ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 356. (¬2) بل العبرة بما تقرره هذه الشريعة، ومن العجب أن كثيرًا من الناس يريدون من هذه الشريعة شمولًا يناسب انحرافاتهم، ويطلبون منها أحكامًا تناسب أصولهم العقائدية ومقاصدهم المنحرفة، والشريعة لم ينزلها الله لذلك وإنما أنزلها كما قلنا من قبل ليختارها الناس ويسلّموا لنهجها الرباني لا ليشترطوا عليها.

الباطل وتغيير بعض أحكام الشريعة بدعوى تغير الحال بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومجيء زمن آخر وهوعهد أبي بكر - رضي الله عنه -، بل اجتهد أبو بكر ما استطاع في إقامة الملة وحفظ أحكام الشريعة، ولم يقبل من أهل الردة تغيير حكم من أحكامها ولا الامتناع عنه حتى ولو كان عقالًا كانوا يلتزمون بتقديمه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي كانوا يعتبرونه دينًا ولم يعتبر الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - العوارض الطارئة، من ارتداد العرب واجتماع الروم على حدود الجزيرة، ومشورة بعض المجتهدين حيث ظن أن المصلحة في ترك قتال بعض العرب - الذين أرادوا تغيير بعض أحكام الشريعة وامتنعوا عن الالتزام بها، لم يعتبر أبو بكر - رضي الله عنه - شيئًا من ذلك البتة (¬1) بل صبر - رضي الله عنه - على إقامة الملة والمحافظة على أحكام الشريعة وعدم التفريط في حكم منها، حتى اجتمعت معه على الحق القلوب، ونصر الله به هذه الشريعة، ولم يجد المغيرون لبعض أحكامها والممتنعون عن ذلك طريقًا إلى تحقيق مقاصدهم، وقد استن الفقهاء من السلف بهذا الفقه العظيم من أبي بكر - رضي الله عنه - وحافظوا على أحكام الشريعة، وهذا الذي ينبغي أن يصير إليه علماء المسلمين في العصر الحاضر، فيحكّموا الشريعة على عادات وأعراف الجاهلية الحديثة المتمثلة في أفكار وعقائد ومذاهب فكرية وقوانين وضعية مخالفة للشريعة الإِسلامية، صدرها إلينا الغزو الفكري الحديث فما قبلته الشريعة فهو الحق (¬2)، وما أبطلته فهو الباطل ولو اجتمع عليه عقلاء الأمم وحكماؤها، إنّ على علماء المسلمين أن يعلموا علم اليقين أن هذه الشريعة إنما جاءت لتصحح للبشرية كافةً جميع ما عرفته وتعودته من مفاهيم وعقائد وأحكام وأخلاق، جاءت لتفرق بين الحق والباطل، والإِسلام والجاهلية، والمصلحة والمفسدة، والمعروف والمنكر، هذه مهمتها، وهذه هي مهمة العلماء القائمين بحقها: ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 356، 357. (¬2) ويصبح حينئذ من الشريعة لا باعتبار أنه حكم وضعي بشري بل بإعتبار أنه من الشريعة لأنها أقرته واعتبرته ولم ترده وإلّا لم يكن له شرعية.

{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (¬1). وبهذا الحق الذي تدعوا إليه هذه الشريعة والذي إلتزمه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من السلف الصالح تسقط تلك الاعتبارات الزائفة والأفكار الدخيلة فلا عبرة بمبدأ ولا عقيدة ولا مذهب ولا عرف ولا عادة تخالف هذه الشريعة، ولو ظنه أهل الأرض بعقولهم المجردة خيرًا ومصلحة، ولا يقال أن أهل الأرض لا يمكن أن تفوتهم المصلحة والخير، لأنا نقول قد فاتهم ذلك، فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلّا بقايا من أهل الكتاب" (¬2) فهؤلاء جملة العرب والعجم ولم تسعفهم عقولهم بمعرفة المصلحة والخير، بل كانوا على ضلالة وبدع وانحراف في العقيدة والأحكام والأخلاق، ولم ينج من ذلك إلّا من كان لهم مصدر رباني يستقون منه ويرجعون إليه، ولا يقال أن من بعدهم من الأمم أعقل منهم، بل الناس في ملكة العقل مشتركون، ولم يمنع العقل البشرى في هذا العصر سقوط أكثر البشرية في جاهليات أقبح وأشنع من جاهلية العرب والعجم قبل الرسالة، إن العقل البشري لا يمكن أن يستقل بإدراك مصلحته ومن ثم لا يمكن أن يحدد منهج الحياة الطيبة المستقيمة، وإن فيما تقرر في ثنايا هذا البحث من أن الله سبحانه هو الذي ينزل العقائد والأحكام، وهو أعلم بمصلحة خلقه، والخلق لا يعلمون إلّا ما علمهم الله (¬3)، وأنه ليس لأحد كائنًا من كان لا أمة ولا هيئة ولا كبير ولا صغير أن يعارض حكمًا من أحكام الشريعة، ولا أن يقدم عليه عرفًا أو عادة أو ما يزعم أنه مصلحة، لا في العقيدة ولا في الشريعة، وتستوي في ذلك أحكام الصلاة والجهاد، والأموال والدماء، وأحكام العلاقات الداخلية ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 4. (¬2) رواه مسلم عن عياض بن حمار، في كتاب الجنة باب الصفات التي يُعْرفُ بها في الدنيا أهل الجنة 4/ 197، وأحمد في المسند 4/ 162. (¬3) حتى في عالم المادة فقد جعل الله لها أسبابًا ودلهم عليها في كل زمن حسب قدراتهم، وما يحتاجون إليه، وأما أمر عقيدتهم وشريعتهم فقد أكده بإرسال الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام وأنزل الشريعة الخاتمة.

والخارجية، العام منها والخاص، والرسل والعلماء والأمم أمام ذلك كله ملزمون بالخضوع والانقياد والطاعة والإِذعان، وإلا فهو الهلاك والفساد والضلال والانحراف، لا تنجي منه عقول العقلاء ولا حكمة الحكماء، وقد حقق الرسل واتباعهم تلك العقيدة فأقاموا العدل الرباني في الأرض واستقاموا على الطريقة المثلى، وبقدر ما انحرف الناس عن ذلك المنهج والطريق بقدر ما أصابهم من الفتنة والانحراف والفساد، ذلك أن مصدر الخير والسعادة والفلاح هو تلك الشريعة، وجعلها الحكم الأول والأخير على كل شيء، وأما العقول البشرية فهي مصدر الاضطراب والحيرة والشقاء والانحراف، وواقع البشرية - التي منحها الله نعمة العقل - خير شاهد قديمًا وحديثًا في كل فترة انحرف فيها العقل عن أحكام هذه الشريعة المصدر الرباني للهدى والعدل. وكون العقل وحده لم يأت للبشرية - في مجال العقيدة والأحكام - بخير، وكون الشريعة هي الخير كله، لك ذلك لا يمكن أن يتغير مفهومه وينقلب مهما تغيرت الأزمان والأمكنة، ومن هنا فإن نتاج العقل البشري الذي لا يلتزم بالشريعة لا يصلح معارضًا لأحكامها، ولا يُقدم عليها، وهذه عقيدة بينة لا يجوز لأحد أن يخالفها، ومن هنا تسقط تلك الشبهة العريضة من أن أحكام المعاملات والنظام الاجتماعي قد تتغير لتغير مصالحها ومن ثم لا بأس بتبديلها (¬1). والجواب الذي يقطع دابر هذه الشبهة، وقد سبق ما يكفي في ذلك - هو أن تغير الأحوال والأزمنة لم تغفله الشريعة بل وضعت له أحكامًا تخصه كما قلنا، فاختلاف الأزمنة التي تأتي على المسلمين فترة القوة، وفترة الضعف، جعل الله لكل زمن حكم يخصه في حال القوة، وكذلك في حالة المجاعة والحاجة وفي حال الاكتفاء، أمر في الأولى بعدم قطع السارق، وفي الثانية بالقطع، وهكذا ولا تعني مراعاة الشريعة للأزمان والأحوال والقدرات أنها تركت تحديد المصلحة وتشريع الحكم للعقل البشري، كلا فإنها لم تترك ذلك له لا في العبادات ولا في المعاملات ولا فيما يسميه بعض المحدثين النظام الاجتماعي، ولا وجه للتفريق ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 459 - 460.

بين هذه الأحكام أو تلك، لأن ضابط شرعية المصلحة إما أن يكون حكم الشرع، أو حكم العقل أو مجموعهما، فإن كان حكم الشرع، راجعنا إلى الحق الذي جاء به الإِسلام وعمل به الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون. وإن كان هو العقل - فلا وجه للتفريق بين مصلحة ومصلحة وبين جانب من الشريعة وجانب آخر، فلعل العقل يغير أحكامها جميعًا فتكون الحجة له حينئذ والعقول متفاوتة فمنها ما سيحكم بتغير أحكام المعاملات، وبعض العقول يغير العبادات وهكذا، وإذا جاز إبطال حد واحد جاز إبطال سائر الحدود كما قال الشاطبي - وقد سبق (¬1). فإن قيل علمنا التفريق بين ما يمكن تغيره وما لا يمكن - من فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - وفعلهم حجة، فالجواب أن هذا لم يثبت وفيما فصلته من البيان كفاية في إظهار الحق إن شاء الله. وإِمّا أن يكون حكم الشرع والعقل، وهنا نقول إِمّا أن يتفقا وِإمّا أن يختلفا، فإن اتفقا فالحكم للشرع، والعقل تابع كما تقرر من قبل (¬2). ومما يدل عليه هنا ويؤكده الحالة الثانية، وهي إن اختلفا فإما أن يقدم الشرع وهو الأول، وإما أن يقدم العقل وهو باطل، وإن قدم فلا وجه للتفريق بين جانب من الشريعة وجانب آخر ولا مصلحة ومصلحة كما قلنا آنفًا، فلزم على قاعدة تغير الأحكام بتغير المصالح ما لزم من المفاسد، وبهذا يتبين أن هذه المقالة لا تقبلها الشريعة، لأنها تقتضي فيما تقتضي - أن نحكم بتغير حكم الحادثة الواحدة إذا زعم العقل أن مصلحتها تغيرت، فمثلًا لو حكم العقل بزعمه أن حكم قطع يد السارق - إذا تحققت شروط القطع - لم يعد يحقق - المصلحة كما كان يحققها في العصور الماضية، وعليه فيجب تغيير هذا الحكم، فإن هذا التغيير وإن دخل في معنى تلك القاعدة على ما قدمناه آنفًا إلّا أنه لايقول به مسلم عامي فضلًا أن يكون معنى شرعي يجوز نسبته إلى الفقهاء. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 420. (¬2) انظر ما سبق ص 286/ 420.

إن تغيِّرَ الفتوى إذا تغيّرَ تحقيقُ المناط لكي تنتظم كلُّ واقعةٍ تحت حكمها الشرعي، لا صلة له البتة بتغيّر أحكام الشريعة بزعم تغيّر المصالح بتغير الأزمنة، ومن هنا فإن الفقه الإِسلامي يتجدَّد ولا يجْمُدْ، حيث يأخذ كل واقعة بخصوصها فيدخلها تحت حكمها الشرعي حسب تحقق مناطها، فإن جاء زمن آخر تجددت تلك الواقعة على صورة أخرى وتغيّر تحقيق مناطها، وُضِعت تحت حكمها الخاص بها وهكذا، وإذا جاءت واقعة جديدة نُظر في حكمها الخاص بها حسب تحقق مناطها وهكذا، ولكل واقعة حكم، والاختلاف في الأحكام في الزمن الواحد وفي جميع الأزمان إنما هو اختلاف وقائع واختلاف تحقيق المناط، ولكل واقعة بحسب تحقق مناطها حكم ثابت يحقق المصلحة في جميع الأزمان إلا أن يتغير تحقيق المناط، أي تتغير الواقعة فَيُدْخلُها الفقهُ حينئذ تحت حكم يخصها، وسيأتي الحديث عن الفقه بين الجمود والتجديد في الفصل التالي والله المستعان.

الفصل الخامس مواطن الإجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول

الفصل الخامس مواطن الإِجماع ومواطن الخلاف وقضية الثبات والشمول توطئة: إن المنهج الرباني المتمثل في هذه "الشريعة" قد أخرج خير أمة للناس، من أهم خصائصها الإِيمان بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر .. والأمر بالمعروف لا يكون إلّا بعد معرفته، وكذلك النهي عن المنكر، وقد يسّر الله سبحانه لهذه الأمة طريق التعرف على ذلك، وجعل فيها ربانيين يعْلَمُون الحق وبه يعدلون، وهؤلاء هم قادتها المجتهدون من أهل العلم والبصيرة في الدين، القائمون بالعدل في تربية الأمة وحملها على الحق وبذل الجهد للحيلولة بينها وبين الشرك والشك والشقاق والنفاق والبدع وسوء الأخلاق، وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، اكتسبوا هذه الوراثة بعملهم وعلمهم، وقد وفقهم الله لذلك - وعلم منهم صحة الاعتقاد وسلامة النية وصدق المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فجعل لهم عند الأمة مكانة طيبة ومنزلة عالية، فكان منهم أئمة الصحابة، وأئمة التابعين، وأئمة تابعي التابعين، ثم في كل جيل بعدهم أئمة هم محل القدوة، ومنهم تعرف الأمة حكم الله، حيث هم الأدلاء عليه، الذين يستنبطونه من المنهج الرباني، ويعرّفون الناس به، وهؤلاء الأئمة في كل جيل هم صفوته المختارة، وبهم يتم العقد والحل فيها، وهم أهل الاجتهاد، وبهم ينعقد الإِجماع. و"الأمة" الخيّرة ترتبط بهؤلاء ارتباطًا وثيقًا، يشده ويقويه إدراكها العميق أن هؤلاء هم أهل الجهاد والعلم والبصيرة، فقد علمت الأمة مكانتهم

لا بالأقوال ولا بكثرة الأموال، وإنما علمت مواطن جهادهم، وقوة صبرهم، ومواقفهم الثابتة في نصرة الحق، حتى قدموه على الأموال والأولاد، وعلى زينة الحياة الدنيا، فصبروا وصابروا ورابطوا، فأخذوا مكانتهم في الأمة لا رغبة منهم بل رغبة منها فهي التي حرصت عليهم، وجعلتهم في المقدمة تقتدي بهم وتنصرهم، وتعلم علم اليقين -كما علمها الله- أن هذه الصفوة من كل جيل لا يمكن أن تجتمع على طلب غرض من أغراض الدنيا، ولا على اتباع هوى وتفريط في الحق، لأن الله علم منها الصدق فجعل لها تلك المنزلة، فهي خلاصة منهج التربية المنبثق من تلك الشريعة، فلا يتصور أن يخالفوها مجتمعين، ومن ثم عصم الله جماعتهم من الخطأ وأيقنت الأمة بذلك فانقادت لما أجمعوا عليه وعلمت أنه حكم الله وشرعه. هذه هي طبيعة الأمة الخيرة وهذه هي منزلة المجتهدين، وذلك هو الطريق الذي توصلوا به إلى تلك المنزلة، وبه تم الارتباط الوثيق بينهم وبين الأمة، وهذه التوطئة مع ما فيها من إيجاز تعرفنا بحقيقة الإِجماع، ومعناه اللغوي والشرعي مواكب لما قدمته آنفًا، فهو في اللغة مصدر أجمع يجمع إجماعًا فهو مجمع، وجمع أمره عزم عليه، وأجمع القوم على كذا أي اتفقوا (¬1). وفي الاصطلاح الشرعي: "اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر على أي أمر كان" (¬2) وفيه دلالة على أنهم إن اتفقوا كان ذلك منهم إجماعًا، وإن ¬

_ (¬1) انظر مادة "جمع" في اللسان 8/ 57. (¬2) جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 276، وعرفه البيضاوي بقوله "هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمر من الأمور" 2/ 273، وصححه الأسنوي 2/ 275. والمراد بالاتفاق ما يشمل القولي والفعلي، وأهل الحل والعقد المقصود بهم أهل الاجتهاد، وقيد "مجتهد" يدخل المسائل الاجتهادية وحينئذ لا بد من مستند لها كما سيأتي بيانه، وقوله "بعد وفاة الرسول" لكون الإِجماع ليس بحجة في عهده إذ هو المرجع والعصمة ثابتة له، والمراد بلفظ "عصر" أي زمان كان، وتركه البيضاوي لوضوحه والتصريح به أنسب في التعريف كما قال في التلويح والقصود بقوله "على أي أمر كان" أي على أي حكم اتفق المجتهدون عليه. =

اختلفوا لم يكن إجماعًا، وهم في الحالين هم تلك الصفوة المختارة التي تحدثنا عنها ولا غرابة في وقوع التفاوت بينهم في الفهم، لأنهم يعملون من واقع الأرض من خلال الجهد البشري الملتزم بمنهج الله، الموقن به والمحافظ عليه، والجهد البشري يتفاوت في قوته وكماله، وضعفه ونقصه، فيبلغ أشده من الكمال والصفاء والوضوح فيكون حينئذ التعرف الكامل على حكم الله من هؤلاء المجتهدين والقطع بذلك في صورة جماعية، تتفق على استنباط ذلك الحكم من الشريعة لتلك الواقعة المطلوب معرفة حكمها، ولهذا الجهد منزلته في الشريعة وسيأتي الحديث عنها، وتارة يضعف الجهد وينقص فلا يبلغ أشده من الكمال والصفاء والوضوح، وذلك لأسباب بشرية منها ما يرجع إلى تفاوت إدراك المجتهدين، ومنها ما يرجع إلى طبيعة الحادثة التي يُراد بيان حكم الله فيها، فتكون من الخفاء والالتباس بحيث يختلف المجتهدون في تحديد حقيقته: فيقع بين المجتهدين الاختلاف في بيان حكمها الشرعي، ومن ثم فإن الشريعة جعلت لهذا الجهد منزلة دون المنزلة السابقة وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله، وجهد هؤلاء المجتهدين - سواء حالة اجتماعهم واتفاقهم أو حالة عدم اتفاقهم - هو خلاصة أفهامهم الشرعية التي تكون منها الفقه الإِسلامي، فما اتفقوا عليه دخل في الإِجماع، وما سوى ذلك دخل في الاجتهادات المختلف فيها. وبهذا الاعتبار ندرس منزلة كل منهما ونتعرف على كيفية تحقق الثبات والشمول فيهما والله الموفق. * * * ¬

_ = والمناسبة بين المعنى اللغوي والشرعي ظاهرة، إذ أن المجتهدين يعزمون أمرهم على طلب الحق، فإذا اتفقوا على أمر كان ذلك منهم إجماعًا عليه، وقد ذكرت هذا الشرح للإِيضاح.

المبحث الأول كيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه

المبحث الأول كيفية تحقق الثبات والشمول في الحكم المجمع عليه إن الأدلة الشرعية تفيد إثبات عصمة الإِجماع من علماء الأمة المجتهدين، والعصمة تقتضي الثبات هذا الحكم المفرد كما اقتضت الثبات لجملة الشريعة كلياتها وجزئياتها كما سبق تقريره (¬1). ويفيد الشمول من ناحيتين: النَّاحية الأولى: وكما سبق أن قلنا أن الثبات هو قاعدة الشمول. والناحية الثانية: أن هذا الحكم المجمع عليه عبارة عن عمل اجتهادي من علماء الأمة سنده -كما سيأتي- إما النص أو المصلحة الشرعية، وهو نوع من الاجتهاد ينبني عليه إلحاق الوقائع الجديدة بأحكام الشريعة الإِسلامية وذلك بطريق قوي هو الإِجماع. فالاجماع إذن هو جهد المجتهدين، يبذلونه لكي يكشفوا عن حكم الله، ويستندون على سند معين، ويتحصلون في النهاية على اتفاق يعقدون عليه العزم لتقرير حكم الواقعة التي يُراد معرفة حكمها، فتأخذ حكمها الخاص بحسب مناطها فيشملها حكم الشريعة، ويتحقق الثبات لهذا الحكم ذلك لأنه اجتمع عليه علماء الأمة وهم معصومون شرعًا، والعصمة لهم هي عصمة لاجتهادهم، فالحكم معصوم حينئذ والعصمة تقتضي الثبات، لأن مقتضاه أن هذا الحكم هو الحق والحق ثابت، وهذا معنى تحقق الثبات والشمول في هذا القسم. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 116.

بقي أن نذكر الطريق المفيد لإِثبات الإِجماع، فقد دلت الأحاديث على ذلك منها: ما أخرجه الحاكم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بألفاظ متقاربة منها "لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدًا .. " ومنها "لن يجمع الله أمتي على ضلالة أبدًا .... " (¬1). ورواه ابن أبي عاصم بلفظ: "ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الضلالة أبدًا .... " (¬2). وأخرج الحاكم حديث ابن عباس ولفظه: "لا يجمع الله أمتي أو قال هذه الأمة على الضلالة أبدًا، ويد الله على الجماعة" (¬3). وقد أخذ العلماء من هذه الأحاديث أن هذه الأمة لا تضل عن الصواب، ولا تجتمع على الضلالة، وفي هذا عصمة لها عن الخطأ، فما أجمعت عليه فهو حجة لأنه هو الحق، فلا تجتمع أبدًا إلّا على موافقة الكتاب والسنّة، كما بين الإِمام الشاطبي -رَحِمَهُ اللهُ- بعد أن عرض كلام أهل العلم في معنى الجماعة: فقال: "وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإِمام الموافق للكتاب والسنّة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنّة خارج عن معنى الجماعة" (¬4). ثم بين أن جميع أقوال أهل العلم في معنى الجماعة "دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع، وأنهم المرادون بالأحاديث" (¬5) وهذا أصل محكم وعقيدة راسخة، وبنى عليها -رَحِمَهُ اللهُ- أنهم هم المقصودون "بالسواد الأعظم" كما ورد في حديث أنس بن مالك مرفوعًا "أن أمتي لا تجمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافًا كثيرًا فعليكم بالسواد الأعظم" (¬6) فقال: "فلنأخذ ذلك أصلًا ونبني عليه معنى ¬

_ (¬1) المستدرك 1/ 115. (¬2) 1/ 39 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/ 136. (¬3) المستدرك 1/ 116. (¬4) الاعتصام 2/ 265. (¬5) المصدر نفسه 2/ 265. (¬6) أخرجه ابن ماجة في كتاب الفتن 2/ 1303.

المطلب الأول الاعتراض الأول وجوابه

آخر وهي: المسألة السابعة عشر: وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا، فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال، أَنَّ الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية. وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء، فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر، لقلة العلماء وكثرة الجهال، فلا يقول أحد: إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب، وأن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث، بل الأمر بالعكس، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم" (¬1). وبعد أن عرفنا أن "الأمة" التي لا تجتمع على الضلالة هي أهل العلم والاجتهاد المتمسكون بالسنّة والاتباع، وعرفنا أن إجماعهم حجة، نذكر بعض اعتراضات المعترضين عليه ونجيب عنها. المطلب الأول الاعتراض الأوّل وجوابه إن الإِجماع لم تثبت حجيته في الاستدلال إلّا بطريق ظني، لأن الأدلة المثبتة له أحادية، وعليه فإن عصمته ليست بثابتة (¬2)، فكذلك الحكم الناتج عنه. ونجيب عن ذلك فنقول: لقد ثبت أن الأحاديث التي وردت بعصمة الأمة على الضلالة متواترة تواترًا معنويًا .. وذلك لأمرين: ¬

_ (¬1) الاعتصام 2/ 266، وختم -رَحِمَهُ اللهُ- هذه المسألة بقوله: "فليثبت الموفق في هذه المنزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري - باب: "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا وما أمر النبي يلزوم الجماعة وهم أهل العلم 13/ 316. (¬2) انظر آراء المخالفين في حجية الإِجماع في كف الأسرار 3/ 259، الإسنوي 1/ 30، وتعليل الأحكام 323 وقد أنكر مؤلفه تحقق التواتر المعنوي على إثبات الإِجماع.

الأول: ثبوت ظهورها من لدن الصحابة والتابعين ولم يدفعها أحد منهم حتى انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين، فنقلها الخلف عن السلف، فلم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه ويستحيل أن يكون ذلك وهي ليست بحجة. ثانيًا: وقوع العلم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظّم شأن هذه الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ، ونحن نجد أنفسنا موقنين بذلك كما نوقن بشجاعة علي وكرم حاتم وميل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة من نسائه وتعظيمه عليه الصلاة والسلام لشأن صحابته - رضوان الله عليهم - (¬1). وهذه الطريقة في الاستدلال المفيدة للقطع ترجم لها الشاطبي بقوله: " ..... الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه (يقصد أنه كالتواتر المعنوي). فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو كالعلم، بشجاعة علي - رضي الله عنه - وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما، ... ومن هنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإِجماع، لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب، واذا تأملت أدلة كون الإِجماع حجة أو خبر الواحد والقياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد، إلّا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضًا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع ... " (¬2). فالأحاديث التي وردت فيها إثبات العصمة للأمة وتناقلها الرواة من جيل الصحابة ومن بعدهم تجتمع على إفادة المقصود وهو حجية الإِجماع. ¬

_ (¬1) كف الأسرار 3/ 258، المستصفى 1/ 175. (¬2) الموافقات 1/ 13 - 14.

هذه هي جملة الأدلة التي يستدل بها على عصمة الإِجماع وهذه هي طريقة الاستدلال، فلا وجه للقول بأن الإِجماع لم تثبت حجيته وعصمته، أو التشكيك في ذلك، لأن القائلين بذلك إما أن يطلبوا التواتر المعنوي، وهو موجود والحمد لله، وهو المستقرأ من مقتضيات الأدلة بإطلاق (¬1)، وذلك يفيد عصمة الأمة عن الخطأ وإما أن يطلبوا شيئًا آخر لا نعلمه، ولعلهم يريدون نصًا من القرآن يدل على ذلك، وقد وجد، واستدل به الإِمام الشافعي وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). وهذه الآية بينة الدلالة على أن سبيل المؤمنين حجة (¬3)، ومن تولى عنه ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 15. (¬2) سورة النساء: آية 115. وانظر أحكام القرآن للإِمام الشافعي 18، 19 قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "لا يصليه جهنم على خلاف سبيل المؤمنين إلا وهو فرض" يعني الإِجماع طبعة 1400، دار الكتب العلمية - بيروت. وانظر الستصفى 1/ 175. (¬3) وقد ذكر بعض الأصوليين استدلال الشافعي بهذه الآية وقالوا: "المراد ويتبع غير سبيل المؤمنين في متابعة النبي - عليه السلام - أو مناصرته، أو الاقتداء به أو في الإِيمان به، لا فيما أجمعوا عليه، ومع الاحتمال لا يثبت القطع، وغاية ما في الباب أنها ظاهرة فيه ... ". كشف الأسرار 3/ 254، المستصفى 1/ 175. والجواب أن يقال: أرأيت لو أجمعوا على وجوب متابعته أليس إجماعهم حجة، وكذلك على الاقتداء به ومناصرته واتباع سبيله، فسبيل المؤمنين إذن هو إجماعهم على نصرته ومتابعته .. إلخ. ومنه إجماعهم على أن هذا من دينه، وهذا ليس من دينه، فما الذي جعل بعضه داخلًا في الآية دون بعض. وأما قوله أنها ظاهرة فيه، فقد ذكر هو أن الظواهر والعمومات من الدلائل القطعية عند أكثر مشايخ العراق وعامة المتأخرين 3/ 255، والصواب أن بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين تلازمًا فمن شاقه فقد ابتغى غير سبيل المؤمنين - لأن اتباع سبيلهم موافقته لا مشاقته، ومن لم يبتغ سبيلهم - وهو ما هم عليهم - فقد شاقه، تمامًا مثل أن نقول من عصى الله عصى رسوله ومن عصى رسوله فقد عصاه. انظر هامش 1/ 200 من كتاب الإِحكام للآمدي بتعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي ففي الآية دلالة على أن الاجماع حجة. وانظر مجموع الفتاوى 19/ 193، 194.

فقد حقت عليه العقوبة .. فما بالك بسبيل المؤمنين وهم مجتمعون في مثل عصر الصحابة - رضوان الله عليهم -، وعصر التابعين، ومن بعدهم، أفلا يكون اجتماعهم حجة، بل ما بالك بإجتماع الأمة كلها على أمر وتلقيها له بالقبول، أفلا يكون كذلك، ومن عجب أن هذه الآية وتلك الأحاديث لم تسلم من الاعتراضات، فإن سلم الدليل عند بعض الأصوليين من الاعتراض على سنده، لم يسلم من الاعتراض على دلالته. ولعل في هذا الذي ذكره الإِمام الشاطبي ما يحول بينهم وبين هذه الطريقة التي تعودوها في الاستدلال والمعارضة والجدل. ولقد نعلم أن كثيرًا ممن لا يأخذون هذه المسألة مأخذ الشاطبي يعتقدون عصمة الأمة في عهد الصحابة بلا شك لأنهم معصومون في مجموعهم على الخطأ - رضي الله عنهم - ورضوا عنه. ونعلم أيضًا أن هؤلاء الأصوليين لو سلكوا مسلكهم ذلك في الاستدلال لم تسلم الأدلة لهم على عصمة الأمة في أي عصر كان، وهم كما قلت يعتقدون عصمة الصحابة وعدالتهم، فلو أنهم سلكوا مسلك الشاطبي في الاستدلال وبنوا عليه ما يعتقدون من عصمة الصحابة، وذلك يترتب عليه القول بعصمة الأمة في ذلك العصر، وعلموا أنه لا فرق في دلالة الأدلة على عصمة الأمة في العصر الأول والذي بعده وهكذا، لسلمت لهم الأدلة وبنوا عليها مطمئنين حجية الإِجماع، وزالت عنهم جميع الإِشكالات التي منها: 1 - أن الآيات ليست نصًا في إثبات الحجية وإن كانت تقوى من حيث الثبوت. 2 - أن الأحاديث نص في إثبات الحجية وإن كانت لا تقوى من حيث الثبوت. وقد خرج بعض الأصوليين من هذا حيث قرروا أن الأحاديث تقوى على إثبات الحجية كما أسلفنا، وبهذا ثبتت عندهم الحجة للإِجماع (¬1). ومع هذا الذي توصلوا إليه، لا يمنع أن أقول أن أسلوبهم في الاستدلال ¬

_ (¬1) المستصفى 1/ 174، 175 وكشف الأسرار 3/ 254 - 355.

المطلب الثاني الاعتراض الثاني وجوابه

أدى إلى فتح الباب لدخول الشبهة على كثير من الباحثين (¬1)، ذلك أنهم كروا على الأدلة واحدًا واحدًا بكثرة الاعتراضات والاحتمالات. وإذا تقرر أن الأحاديث الواردة في عصمة الأمة عن الضلالة والخطأ والأحاديث الواردة في تعظيم شأنها تفيد حجية الإِجماع لم يبق بعد ذلك إلّا النظر في إفادتها العصمة نصًا، وهذا الأمر متفق عليه (¬2)، فثبت أن الأمة معصومة وأن الحكم الناتج عن إجماعها معصوم كذلك، وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم (¬3). وإذا تحققنا من العصمة تحققنا من ثبات الحكم المجمع عليه. المطلب الثاني الاعتراض الثاني وجوابه إن الإِجماع لا يحتاج إلى سند، بل يمكن أن يلهم الله المجتهدين فيجمعون على حكم لا سند له إلّا الإِلهام، يؤكد ذلك أن الإِجماع لو كان سنده الكتاب ¬

_ (¬1) أشرت إلى ذلك في هامش ص 167. (¬2) وشذ من زعم أن الحديث إنما هو وارد في أن الأمة لا تجتمع على الكفر فترتد، أما اجتماعها على الخطأ فممكن. والجواب عنه: أنه مع التسليم أن الأمة لا تجتمع على الكفر إلى قيام الساعة كما هو مقرر عند العلماء المحققين من أهل السنّة وإن كثرت طوائف الضلال فيها، انظر الاعتصام 6/ 202 شرح الكوكب المنير 2/ 282، 283. إلّا أن الأحاديث وردت في عصمتها عن الخطأ في الحكم أيضًا لأن الخطأ في الحكم نوع من الضلال فإن لفظ الضلال عام يدخل فيه معنى الحيرة عن الحق كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ويدخل فيه ما هو دون الكفر من الانحراف، ويدخل فيه الكفر، فهي إذن معصومة عن الخطأ في الحكم أيضًا، وهذا الرأي الشاذ مع سقوطه أحببت التنبيه عليه والأصوليون متفقون بعد ذلك على أن الأحاديث تدل على إثبات العصمة. انظر المستصفى 1/ 175، كشف الأسرار 3/ 355. (¬3) شرح الكوكب المنير، قال الفتوحي و"الإِجماع حجة قاطعة بالشرع، أي بدليل الشرع كونه حجة قاطعة، وهو مذهب الأئمة الأعلام منهم الأربعة وغيرهم ... " 2/ 214.

أو السنّة لم يكن دليلًا مستقلًا، إذ الدليل حينئذ إما الكتاب وإما السنّة، وقالوا إن هناك إجماعات وقعت من دون سند (¬1). وبالجواب عن هذا الاعتراض يثبت أنه لا بد للإِجماع من سند من الكتاب أو السنة، وفائدته حينئذ هو حرمة النظر في المسألة بعد ذلك والحكم الناتج عنه ثابت أبدًا. الجواب عن الاعتراض الثاني: إن الأصوليين اتفقوا على أن الإِجماع لا بد له من سند، قال الآمدي "اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلّا عن مأخذ ومستند يوجب اجتماعها خلافًا لطائفة شاذة فإنهم قالوا بجواز انعقاد الإِجماع عن توفيق لا توقيف، بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب من غير مستند" (¬2). واستدل الأصوليون بدليلين: الأول: أن الإِلهام ليس بحجة، وإنما الحجة هي الكتاب والسنة والحمل عليهما بطريق من طرق الاستنباط، وحينئذ لا بد من مستند لأن عدمه يستلزم جواز الخطأ، ثم إن اتفاق الكل بدون مستند مستحيل، فلا بد من الدليل. الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي لا ينطق عن الهوى - لا يقول ولا يحكم إلّا عن وحي (¬3) فالأمة أولى، لأن الدليل دل على أن كل مسلم يحرم عليه القول في الدين بغير مستند، وقد بينت ذلك عند الكلام في الرأي المذموم وذكرت الإِجماع على ذمّة، وهو في حقيقته قول بغير مستند. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار 3/ 263. (¬2) الإِحكام للآمدي 1/ 261، وانظر كشف الأسرار 3/ 263 - 264 - 265، شرح الجلال على جمع الجوامع مع حاشية البناني 1/ 195، تيسير التحرير 3/ 254، شرح الكوكب المنير 2/ 259. (¬3) والمقصود بأن الرسول لا يحكم إلّا عن وحي أي أنه لا بد له من مستند من عند الله، أو أنه إذا حكم باجتهاده - وقد أجاز الله له ذلك - فلا بد من إقرار الوحي وإلّا فإن الوحي إذا حكم بغير صحته فإنه لا يكون منه. انظر 32 - 88 - 89 مما سبق. وانظر هامش الإِحكام للآمدي 1/ 261.

وهذا المعنى موجود في تعريف الأصوليين للإِجماع، فقد اتفقوا على أن الاجماع إنما يقع من المجتهدين، فلا بد إذن من الاجتهاد، ولا بد للاجتهاد من مستند. وأما قولهم أن انعقاد الإِجماع عن دليل يلغي فائدته، ثم إنه قد وقع، والوقوع دليل الجواز، ومن أمثلة وقوع الإِجماع عن غير مستند بيع المراضاة وأجرة الحمام .. فالجواب عنه: أولًا: أن وقوع الإِجماع عن مستند فائدته أن الإِجماع على الاستدلال بهذا المستند يزيده قوة إلى قوته، ويسهل رفع الخلاف عن المسألة - إن كان ثم خلاف - ويمنع النظر فيها بعد ذلك، إذ أن النظر في الحكم الذي ثبت الإِجماع عليه حرام قطعًا (¬1). ثانيًا: أن ما ادعوه من أن بعض الأحكام مجمع عليها من غير سند مردود بل إن العلماء اعتمدوا فيها على سند وبيان ذلك: "أما الاستصناع فقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - دليل وسند شرعي، وبيع المراضاة وهي المعاطاة لا إجماع فيها لأنها لا تصح عند الإِمام الشافعي على قول، وأجرة الحمام مقدرة بالعرف، وأخذ الخراج للإِمام تصرف بحسب المصلحة. ولا إجماع في زكاة الحلي" (¬2) فهذه المسائل إما أن يكون لها سند شرعي، وإما أن لا تكون من مسائل الإِجماع، وقد بين شيخ الإِسلام ابن تيمية حكمة وجود مستند الإِجماع فقال: "وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصًا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله ... فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلّا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإِجماع فيستدل به .. كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإِجماع، وكل من هذه ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 19/ 194، 195، 200، وكشف الأسرار 3/ 263، وأصول الفقه وابن تيمية 1/ 306 إلى 312. (¬2) وانظر بيان شذوذ هذا الرأي في الإِجماع للفرغلي 272 وما بعدها، وأصول الفقه وابن تيمية 1/ 306 إلى 312.

المطلب الثالث الاعتراض الثالث وجوابه

الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإِجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة .. " (¬1). وبهذا نتبين قوة الإِجماع وأنه مبني على الكتاب والسنة، فتحقق أنه لا بد من مستند، وأنه معصوم، ومن ثم تثبت الأحكام المبنية عليه لأنها معصومة كذلك. المطلب الثالث الاعتراض الثالث وجوابه ذهب بعض الأصوليين إلى أن الحكم المجمع عليه إذا كان سنده المصلحة الشرعية يمكن تبديله بإجماع آخر إذا تبدلت تلك المصلحة. قال صاحب كشف الأسرار: " .. ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع آخر على خلاف الأول" (¬2). وقال في آخر باب الإِجماع: "فأما الأحكام الثابتة بالاجتهاد أو بالإِجماع بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيجوز أن تنسخ، وهو مختار المصنف، بأن يوفق الله تعالى بعد ثبوت حكم بإجماع أو باجتهاد أهل عصر آخر أن يتفقوا على خلافه بناء على اجتهاد نسخ (¬3) لهم على خلاف اجتهاد أهل العصر المتقدم ويكون هذا بيانًا لانتهاء مدة الحكم الأول كما في النصوص، ولا يقال هذا غير جائز لأنه لا مدخل للرأي في معرفة انتهاء مدة الحكم، لأنا لا ندعي أنهم يعرفون انتهاء مدة الحكم بآرائهم، بل نقول لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة من غير أن يعرفوا عند الاتفاق تبدّل المصلحة ومدة الحكم "وأما التضليل فلا يجب لأن الرأي كان حجة يومئذ" (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 19/ 194 - 195. (¬2) 3/ 176. (¬3) لعل الصواب "سنح". (¬4) 3/ 250.

وبهذا الرأي قال بعض الباحثين المحدثين منهم الدكتور البوطي عند الحديث عن ضوابط المصلحة .. قال: "الأمر الأول: ضرورة سير المصالح في جوهر الدين المكون من صريح النصوص والأحكام وما تم عليه الإِجماع بمعنى أنه لا يجوز بناء حكم على مصلحة إذا كان في ذلك مخالفة لنص كتاب أو سنة أو قياس تم الدليل على صحته أو إجماع، إلّا إجماعًا تأسس أمره على مصلحة دنيوية غير ثابتة، فيجوز أن يتغيّر حينئذ ذلك الإِجماع بمثله إذا تغيّرت المصلحة الأولى وقامت مصلحة غيرها، مثال ذلك ما لو أجمع المسلمون في وقت ما على ضرورة قتل الأسرى، أو استرقاقهم، نظرًا لمصلحة تستدعي ذلك كالمعاملة بالمثل، ثم أجمعوا في وقت آخر على خلاف ذلك نظرًا لزوال الحالة السابقة، ومثاله أيضًا ما لو أجمع المسلمون في عصر ما على عقد الصلح بينهم وبين الكافرين لمصلحة تستدعي ذلك، ثم رأى من بعدهم وأجمعوا على عدم الصلح لزوال تلك المصلحة" (¬1). ومنهم صاحب كتاب تعليل الأحكام حيث قال: "وإذا رجعنا بالإِجماع إلى سنده الذي هو الدليل على الحقيقة وجدناه لا يخرج عن كونه نصًا أو قياسًا أو مصلحة (¬2) فإن كان نصًا فقد علمت ما فيه (¬3)، وإن كان قياسًا والأقيسة مختلفة، فقياس شبهي وآخر طردي، وثالث مناسب، وكل هذه لا تقوى على معارضة المصلحة التي ما شرع الحكم إلّا لتحصيلها، وإنْ كان مصلحة فقد تغيّرت فيجب الانتقال إلى ما يحصلها، وكون الاتفاق وقع على الحكم الأول بقصد أو بغير قصد لا يؤثر في الحكم إلّا بما قاله الفقهاء، أن الحكم ¬

_ (¬1) ضوابط المصلحة 61. (¬2) سيأتي بيان أن من العلماء من يستبعد وقوع الإِجماع على قياس أو مصلحة واستبعده الدكتور الشلبي قبل هذا الموضع بأسطر قليلة انظر 324 ومع ذلك جعل منه قضية للبحث!!! (¬3) لم أعلمْ ما فيه إلّا ما قدمه قبل هذا الكلام وهو عبارة عن إنكار لحجية الإِجماع وعصمته ثم عود منه - على طريقة الجدليين - للتسليم بالحجية، ثم تقسيم الإِجماع إلى قطعي وظني، ثم الكلام على استبعاد ثبوته، ثم التسليم به مرة أخرى 323 - 324، فلعله بريد أن يقول قد علمت ما قلناه في الإِجماع!!

أصبح قطعيًا لا يصح فيه الاجتهاد بعد أن كان ظنيًا مجالًا لاختلاف الأنظار، وهذه كما ترى لا تخرج عن كونها دعوى ... والآن نعرض لبعض الأحكام التي خالف فيها الأئمة ما سماه الناس إجماعًا فيما بعد .. " (¬1) .. مناقشة هذا الرأي: إن هذا الرأي استنكره عامة الأصوليين قال صاحب كشف الأسرار في باب النسخ بعد أن ذكر رأي البزدوي: "ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل تلك المصلحة فينعقد إجماع على خلاف الأول ولكن عامة الأصوليين أنكروا كون الإِجماع ناسخًا لشيء أو منسوخًا بشيء لما بينا أنه لا يصلح ناسخًا للكتاب والسنة ... وكذا لا يصلحِ ناسخًا للإجماع ولا منسوخًا به ... وكذا لا يصلح ناسخًا للقياس ولا منسوخًا به ... " (¬2). وقوله "ولكن" استدراك على قوله: "ويتصور أن ينعقد إجماع لمصلحة ثم تتبدل" وكما هو ظاهر يفيدنا أن عامة الأصوليين ينكرون نسخ الإِجماع بالإِجماع سواء ما كان عن مصلحة أو قياس أو نص. ولننظر بعد ذلك في سبب إنكار عامة الأصوليين لهذا الرأي ثم أبين الوضع الصحيح لهذه المسألة بعد ذلك، وسبب الإِنكار يرجع إلى أمرين: الأول: أن من العلماء من منع وقوع الإِجماع عن قياس فضلًا أن يقع على مصلحة، ومنهم الإِمام الطبري وأهل الظاهر (¬3). وقد رجح هذا المذهب صاحب رسالة "أصول الفقه وابن تيمية" وأثبت أن الإِجماع لم يقع عن قياس وذلك باستقراء المواضع التي ذكرها المجيزون، وأثبت وقوعها عن نص وقدم لذلك بقوله: " .. إنّ الحق هو أن الإِجماع لا بد له ¬

_ (¬1) 324 - 325. (¬2) 3/ 176. (¬3) الإِحكام للآمدي 1/ 264، الإِحكام لإبن حزم 4/ 640 تحقيق وتقديم محمد عبد العزيز - الطبعة الأولى 1398 هـ.

من مستند وأن سنده نص من الكتاب أو السنة أو قياس جلي إذ هو في معنى النص، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإِسلام ابن تيمية، أما إذا كانت علة القياس خفية لا تعلم إلّا بالنظر والاستنباط، والسبر والتقسيم، والترديد بين الأوصاف، وأوجه تأثيرها واستخراج أقواها تأثيرًا، وأوثقها اتصالًا بالحكم، فإن الاتفاق يندر بل يتعذر أن يحصل بذلك، فيتفق عليه الفقهاء في جيل من الأجيال في كل الأقاليم والأمصار (¬1). وباستعراض الأمثلة التي ذكرها المجيزون أدلة لهم على وقوع الإِجماع مستندًا إلى القياس والاجتهاد، وجدناها لا يخلوا واقعها من أحد أمرين: إما أن لا يكون فيها إجماع أصلًا بل فيها خلاف، - وإما أن يكون فيها إجماع لكنه مستند إلى نص لم يعلموه، وعدم علمهم بالنص لا يدل على عدمه، إذ أن السلف قد يكونون تركوا التصريح بالنص استغناء عنه بالإِجماع، ولشهرة الإِجماع جهل الكثير الذي هو مستند الإِجماع" (¬2). ثم أخذ في تتبع الأمثلة وبيان رجوعها إلى النصوص أو عدم وقوع الإِجماع فيها منتصرًا في ذلك لما ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى حيث يقول: "فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلّا وفيها نص أو بيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإِجماع فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص (إلى أن قال) ولا يوجد مسألة يتفق الإِجماع عليها بدون نص ... ". ويقول أيضًا: "لكن استقرأنا موارد الإِجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فوافق الإِجماع" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر إقرار الدكتور شلبي بذلك 324 وعدم استفادته منه. (¬2) أصول الفقه وابن تيمية 2/ 576. (¬3) ويدخل في هذا القياس الجلي إذ هو في معنى النص، انظر مجموع الفتاوى 9/ 194 - 195. (¬4) مجموع الفتاوى 19/ 196.

وقد ذكر صاحب "أصول الفقه وابن تيمية" أمثلة كثيرة وبين فيها أنها لا تخلوا من أحد أمرين: إما أن يكون الإِجماع فيها عن نص أو لا إجماع فيها، ومن أمثلة ما كان الإِجماع فيها عن نص خلافة أبي بكر واستدل على ذلك بسبعة أدلة (¬1)، ومن المسائل التي ليس فيها إجماع حد الشرب، فإن الإِجماع لم ينعقد على أن حده ثمانين بل وما زال الخلاف في عهد الصحابة موجودًا ومن بعدهم (¬2). وأما إجماعهم على جزاء الصيد فليس مستندًا إلى الاجتهاد بل هو مستند إلى النص (¬3) وكذلك إجماعهم على قتال مانعي الزكاة، إنما مرجعه النصوص الدالة على ذلك، وأما شحم الخنزير فمحرم بالحديث الذي رواه الجماعة وهو مستند الإِجماع (¬4). والحاصل أن هذا الفريق من العلماء يستبعدون وقوع الإِجماع عن علة خفية لا تعلم إلّا بالنظر والاستنباط والسبر والتقسيم والترديد بين الأوصاف فيبعد أن يقع الإِجماع عن مصلحة معتبرة من قبل الشارع وخاصة إذا كانت بواسطة الجنس البعيد المتحقق في الضروريات الخمس وهي المصلحة التي تسمى بالمرسلة. فالقول بأن الإِجماع الذي يتبع المصلحة يتغير بإجماع آخر غير وارد عندهم أصلًا لأنه غير متصور. ولذلك تجد الدكتور البوطي يميل في موضع آخر إلى عدم تصور التغيّر ويربط ما ذكر من الأمثلة بحق "الإِمامة" وحق الإِمامة: "هو أن يتصرف الإِمام في أمر أعطى الشارع له - أو لمن ينوب عنه من المجتهدين - صلاحية الحكم فيه " (¬5). ¬

_ (¬1) أصول الفقه وابن تيمية 2/ 576 - 2/ 577. (¬2) المرجع نفسه 2/ 578. (¬3) المرجع نفسه 2/ 580 - 581. (¬4) المرجع نفسه 2/ 584. (¬5) ضوابط المصلحة 61 - 62.

وهذه الصلاحية: "ليست إلا حكمًا إلهيًا دائمًا" (¬1) لأن الإِمام مخيَّر على سبيل الدوام - وهو حكم ثابت - بين المن والقتل والفدية والاسترقاق. ومن هنا فقد نص البوطي على أن مثل هذه الأحكام لا تنطوي في الحقيقة على نسخ للإِجماع وأن الإِجماع الثابت شأنه كالنص الثابت من الكتاب والسنة لا يجوز الخروج عليه بحال" (¬2). وهو بهذا يربط المثال الذي ذكره - استدلالًا أو مجاراة لما نقله عن البزدوي - بحق الإمامة بالحكم الثابت، ثم أخذ في ترجيح أن الخلاف بين الأصوليين - الذين يرون عدم النسخ والذين يرون النسخ أمثال البزدوي وصدر الشريعة - إنما هو خلاف لفظي (¬3)، وهذا تقرير جيد يفيدنا هنا، أن الخلاف ليس مبنيًا على معنى معتبر عند الفريقين لأن منهم من لا يتصور انعقاد الاجتماع على مصلحة شرعية، ومنهم من يتصور انعقاده، ولكن لا يرى تغير الحكم المجمع عليه، لأنه يربطه بحق الإِمامة كما صنع الدكتور البوطي وحمل على ذلك كلام البزدوي وصدر الشريعة، وقرر أن الخلاف لفظي وسأتجه بالمسألة وجهة أخرى وأحاول بيان السبب الذي أدى إلى القول بالتغير وسيكون ذلك من خلال التطبيقات التي ذكروها وقبل ذلك أذكر الأمر الثاني .. الأمر الثاني: أن عامة الأصوليين أنكروا النسخ، وإنما أجازه البزدوي وصدر الشريعة كما أشار الدكتور البوطي آنفًا، وأنا أذكر هنا أدلة الجمهور على أن الإِجماع لا يَنْسخُ ولا يُنْسخ به. وهي: (أ) أن العصمة ثابتة للحكم المجمع عليه أيًا كان سنده، ولا نسخ بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإِجماع إنما يكون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لأنه إن وقع في حياته فلا يعتبر إلا بموافقته وموافقته هي المعتبرة وحدها والحجة فيها لا في غيرها، فبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انقطع الوحي فلا يمكن أن يقع النسخ. ¬

_ (¬1) المرجع نفسه 62. (¬2) المرجع نفسه 62. (¬3) المرجع نفسه هامش 62.

(ب) أن الإِجماع لا ينسخه إجماع آخر، لأن هذا الاجماع الثاني، إما أن يكون عن دليل، وإما أن يكون عن غير دليل ولا يتصور ذلك، وإن كان عن دليل فيستلزم أن يكون الإِجماع الأول خطأ وذلك منتف، فيستحيل شرعًا أن يكون الإِجماع ناسخًا للإِجماع آخر. (ج) والقياس لا يعارض الإِجماع ولا ينسخه وذلك لأن من شرط العمل بالقياس أن لا يكون مخالفًا للإِجماع (¬1). وحفظ الشرع من النسخ والتبديل أمر مقطوع به، لأن هذه الشريعة معصومة، كما أن نبيها معصوم - عليه الصلاة والسلام -، والأمة فيما أجمعت عليه معصومة (¬2). ولذلك نرى الأصوليين يصرحون بعصمة الإِجماع وأبدية الشريعة، "وهذا بخلاف الشرائع المتقدمة فإن نسخها لما كان جائزًا، لم تقع الحاجة فيها إلى عصمة الأمة عن الخطأ، فأما شريعتنا هذه فلا يجوز عليها النسخ بل هي شريعة مؤبدة، فَعُصِمْت أمتُها عن الخطأ ليبقى الشرع فإجماع الأمة محفوظٌ" (¬3). والقول بأن الإِجماع يَنْسَخْ ولا يُنْسَخْ به من هذا المعنى المقطوع به. ولقد أحسن الأستاذ البوطي في ربطه المسألة بحق الإِمامة، وتخريج سبب الخلاف فيها، وأحاول هنا إزالة بعض الإِشكالات وذلك بالنظر فيما أوردوه من تطبيقات، وترجع إلى ثلاثة أمثلة: الأول: الإِجماع على قتل الأسرى، وقد تبين ما فيه سابقًا (¬4)، وأضيف هنا أن هذا لا يسمى إجماعًا، لأن النص قد جاء بتخيير الإِمام بين الأسر والفداء والقتل وهو قوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر إرشاد الفحول 192 - 193. (¬2) انظر ما سبق ص 116. (¬3) كشف الأسرار 3/ 261. (¬4) وقد تبين ما قاله البوطي سابقًا ص 556.

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (¬1). وهنا التخيير حكم ثابت لا يتغير ولا يتصور وقوع الإِجماع على قتل الأسرى وأنه ملزم للحاكم نفسه ومن يجيء بعده. وذلك لأن الأمة معصومة من مخالفة النص الثابت الذي دل على التخيير ولم ينسخ، فلا يقال والحال هذه أن الإِجماع قد تحقق على وجوب قتل الأسرى، لأن معنى تحقق الإِجماع أنه ملزم لمن بلغه حكمه، وهذا مقتضى العصمة، وكيف يتحقق الإلزام مع أن التخير حكم ثابت قطعًا، وهل يقول من ظن أن المسألة مجمع عليها أن على المسلمين وجوب قتل الأسرى في الجهاد وأن هذا حكم مجمع عليه!. بل يُقال إنّ الإِمام قد اختار هو ومن معه من المسلمين أحد الأحكام التي خُيروا فيها بنص القرآن، ولغيره من بعده أن يختار أحدها أيضًا، وليس في ذلك إجماعًا ولا تغيرًا ولا تبديلًا. ولذلك ظهر من كلام الأستاذ البوطي: جعل الخلاف بين القائلين بالنسخ وعدمه لفظيًا، وأقول هنا على ما بينته آنفًا أن الخلاف فرع عن صحة هذه التطبيقات إذْ هي عمدة المخالف ومسألة اختيار المسلمين قتل الأسرى هي أحد هذه التطبيقات وهي ليست مسألة من مسائل الإِجماع فلا تصلح دليلًا على القول بتغيّر حكم الإِجماع. الثاني: ومثلها قولهم: "الإِجماع على الصلح مع الكافرين لصلحة فإنه إذا رأى المسلمون بعد ذلك عدم الصلح مع الكافرين لزوال تلك المصلحة فإن لهم ذلك (¬2). وأجيب هنا بما أجبت به آنفًا، فإنه لا يقال عن هذا الحكم أنه من مسائل الإِجماع. بيان ذلك: أن القرآن أوجب على المسلمين جهاد الكافرين ابتداء، وذلك ¬

_ (¬1) سورة محمد: آية 4، وانظر تفسير ابن كثير 4/ 174. (¬2) انظر ضوابط المصلحة 61.

بتخييرهم بين ثلاثة خصال وهي: الدخول في الإِسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، ثم أجاز القرآن - ولهذا تطبيقات في عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصالح المسلمون أعداءهم بشرطين اثنين: الأول: تحقق الضرورة والمصلحة. الثاني: أن لا يكون الصلح مؤبدًا (¬1). فالحكم الشرعي الثبات في علاقة المسلمين بأعدائهم وجوب التخير بين ثلاثة خصال أو الدخول في صلح معهم بشروطه المعلومة. فإذا جاء على المسلمين وقت وكان لهم من القوة والسلطان ما يخيرون به أعدائهم بين تلك الثلاثة الخصال فلا يجوز لهم إلّا ذلك وهم في ذلك منفذون لحكم الله الذي هو ثابت في حقهم إلى يوم القيامة ما داموا في تلك الحالة (¬2). وإذا جاء وقت آخر ولم يكن لهم من القوة والسلطان ما يخيرون به الكافرين .. ودخلوا معهم في صلح بشروطه الشرعية فإنهم في ذلك منفذون لأمر الله الذي هو ثابت في حقهم إذا كانوا في حالة لا يستطيعون بها قتال أعدائهم" (¬3). هذه صورة الحكم الشرعي، بقي بعد ذلك تحقيق المناط، وهو النظر في ¬

_ (¬1) شرح السير الكبير 5/ 1689، لشمس الدين السرخسي تحقيق د. صلاح الدين المنجد مطبعة شركة الإِعلانات الشرقية، الجموع شرح المهذب 18/ 221 - الطبعة الأولى، بدائع الصنائع 9/ 4324 مطبعة العاصمة، القاهرة، الناشر زكريا علي، وحاشية الدسوقي 2/ 206، الطبعة بدون الناشر - دار الفكر. المغني لإبن قدامة 9/ 297. (¬2) شرح السبر الكبير 5/ 1689، بدائع الصنائع 9/ 4324، الأم 4/ 190، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/ 206، كشاف القناع 3/ 103 - 104 مطبعة الحكومة بمكة، نهاية المحتاج 8/ 106 - الطبعة بدون. (¬3) انظر بحثًا مفصلًا في هذا - مع ذكر مواطن الإِجماع - في رسالة ماجستير بعنوان "دار الإِسلام ودار الحرب وأصل العلاقة بينهما" مخطوطة بالمكتبة المركزية، من - ص 78 الخ.

حال المسلمين في وقت ما، هل يمكنهم تخيير أعدائهم وقتالهم إذا لم يستجيبوا أم لا يمكنهم ذلك؟ فإن أمكنهم لزمهم الحكم الأول، وإن لم يمكنهم لزمهم الثاني مع وجوب الاعتقاد أن الكفار هم أعداء الله ورسوله والمؤمنين، يجب تخييرهم بين تلك الخصال الثلاثة عند القدرة على ذلك. فإذا عمل المسلمون بالحكم الثاني باعتبار الحالة الثانية فهل يقال إن عملهم هذا هو إجماع على وجوب الصلح مع الكافرين، فإذا جاء وقت آخر وأمكنهم قتال أعدائهم قيل أنهم تركوا الحكم المجمع عليه لمصلحة، ثم يقال بعد ذلك أن حكم الإِجماع - الذي هو الدليل الشرعي - قد تغير وتبدل. والحق أن عمل المسلمين في عقد الصلح في الحالة الثانية تحقيق لمناط الحكم الشرعي الثابت، وأن جهادهم لأعدائهم في الحالة الأولى تحقيق لمناط الحكم الشرعي الثابت، ولا يعتبر اتفاقهم على تحقيق المناط في الأولى والثانية إجماعًا على حكم شرعي، نُسخ به حكم شرعي آخر. فخرجت هذه المسألة عن أن تكون تطبيقًا للقول بأن حكم الإِجماع الذي يكون سنده المصلحة يتغير بتبدل تلك المصلحة. 3 - إن الإِجماع على الصلاة في رمضان على إمام واحد قد تغير بعد ذلك، فصلى الناس وراء أئمة متعددين، وهذا يدل على أن حكم الإِجماع قد يتغير بتغير المصلحة التي بني عليها (¬1). والجواب: بنفي ثبوت الإِجماع، فإنه قد صح أن عمر - رضي الله عنه - قد جمع الناس في الصلاة في رمضان على إمام واحد فكانت سنّة يعمل بها المسلمون من بعده، وهي كذلك، ولكن أين الدليل على أن الناس كانوا يصلون على إمام واحد، ومن المعلوم أن جمع عمر للناس إنما كان في المدينة، وأهل القرى والمدن الأخرى كانوا يصلون خلف أئمة آخرين، أفليس في ذلك دليلًا على أن الصلاة تجوز خلف أئمة متعددين إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا في الوقت الذي يقال فيه ¬

_ (¬1) الإِجماع للفرغلي 189، 489.

إن الإِجماع انعقد على الصلاة خلف إمام واحد، ثم ما الفرق بين الصلاة خلف أكثر من إمام في مدينة صغيرة حولها قرى كثيرة وبين الصلاة خلف أئمة متعددين في مدينة كبيرة. ومن المعلوم أن الناس لم يكونوا يجتمعون كلهم من المدينة ومن حولها للصلاة خلف إمام واحد في عهد عمر - رضي الله عنه -، غاية ما فعله عمر - رضي الله عنه - أنه جمعهم على إمام واحد بعد أن كان هناك أكثر من إمام في مسجد واحد، وهو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأين الإِجماع على الصلاة خلف إمام واحد حتى يقال أن ذلك قد تغير فأصبح الناس يصلون خلف أئمة متعددين. نعم لو أجمع المجتهدون على جواز الصلاة خلف أكثر من إمام في مسجد واحد صح أن يقال أن هذا مخالف لما أجمع عليه المسلمون، ولكن ذلك لم يحدث قطعًا. والحاصل أن هذه التطبيقات وما ماثلها لا تصلح قاعدة لدعوى النسخ (¬1) ولايخالف بها ما اتفق المجتهدون عليه، وغاية ما يقال فيها أنها إما تطبيق وهو ما يسميه الأصوليون بتحقيق المناط وإما أن المسألة لا إجماع فيها أصلًا. وهي مماثلة لما زعمه بعض الباحثين (¬2) من أن الصحابة غيروا بعض الأحكام التي وردت بها النصوص مثل "سهم المؤلفة قلوبهم" ونحو ذلك من الأمثلة التي بينت أنها من تحقيق المناط وليست تغييرًا ولا تبديلًا. ¬

_ (¬1) وقد صرح د. البوطي بعد أن ذكر أن الإِجماع لا يُنسخ واستثنى حكم الإِجماع الذي يكون سنده المصلحة وقال: "ومن ناحية أخَرى فالتصرف بمقتضى تبدل المصلحة المعتبرة في الشرع لا يسمى في الحقيقة نسخًا كما ذكرنا، كيف وإن الشارع قد شرع من أول الأمر الأخذ بأي وجه من الوجوه (يقصد في حكم الأسرى (قد تجنح إليه مصلحة المسلمين فلئن ظهر التنفيذ من الحاكم أو المجتهد بمظهر الجديد فإن أصل التشريع له سابق وقديم" 64. (¬2) انظر تعليل الأحكام 326.

ولذلك لا أجدني في حاجة إلى الجواب عن القول بأن الإِجماع ينسخ النص استدلالًا بأن الصحابة أجمعوا على منع المؤلفة قلوبهم من سهمهم، وأن ذلك تغير للنص بالإِجماع. وقد أجبت عن أصل المسألة في موضع سابق وهو الجواب عن القول بنسخ النص بالإِجماع (¬1). نعم إذا كان هناك نص منسوخ فإن الناسخ له ليس هو الإِجماع، وإنما هو السند الذي انبنى عليه ذلك الإِجماع علمه من علمه وجهله من جهله (¬2). والجواب عما ذهب إليه هؤلاء الباحثون هو الجواب عما قاله الدكتور شلبي وأضيف هنا أن الأمثلة التي ذكرها والتي قال عنها: "والآن نعرض لبعض الأحكام التي خالف فيها الأئمة ما سماه الناس إجماعًا فيما بعد ... " (¬3) ثم ذكر بعض الأمثلة منها مسألة التسعير، وإعطاء المؤلفة قلوبهم في عهد عمر بن عبد العزيز -رَحِمَهُ اللهُ- ... إن هذه الأمثلة يمكن الجواب عنها من وجهين: الأول: إن المستدل بها قال إنها مما سماه الناس إجماعًا، فهي إذن ليست إجماعًا مقطوعًا به، وليس كل ما يسميه الناس إجماعًا يكون كذلك، ونحن نتحدث عن الإِجماع الثابت ونقول إنه معصوم وحكمه كذلك، ولا يجوز تغييره ولا تبديله. الثاني: إن مسائله المذكورة مشابهة لما ناقشته فيه عند الحديث عن المصلحة فمسألة المؤلفة قلوبهم تحقيق مناط بحسب حالتهم في زمن أبي بكر أو زمن عمر بن الخطاب أو زمن عمر بن عبد العزيز وليست تغييرًا ولا تبديلًا في الحكم الشرعي (¬4). ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 461. (¬2) المجموع الفتاوى الكبرى 19/ 201 - 202. (¬3) انظر تعليل الأحكام 325. (¬4) انظر ما سبق ص 461.

ومسألة التسعير مسألة مختلف فيها والخلاف فيها مشهور وليست من مواضع الإِجماع (¬1). ونقول هنا كما قلنا من قبل عند الرد على القائلين بتغيير الأحكام، إنّ الحادثة الواحدة المجمع على حكمها لا يتصور أن يتغير حكمها إلّا إذا أسقطنا حجية الإِجماع كدليل شرعي، تمامًا كما قلنا أن الحادثة الواحدة التي حكمت فيها السنّة أو حكم فيها القرآن لا يمكن أن يتغير حكمها، إلّا إذا أسقطنا حجية القرآن أو حجية السنّة، ولا يقول بذلك أحد من المسلمين، فآل الأمر إلى أن الحادثة قد نقع بصورة جديدة وخصائص أخرى غير خصائصها الأولى - ومن ثم فهي حادثة متميزة غير الحادثة الأولى التي أجمع عليها، وحينئذ تأخذ حكمًا خاصًا بها بحسب مناطها، وحادثتان لها حكمان كما قلنا ليس غريبًا ولا عجيبًا. وأما الإِجماع الذي لم يُتيقن من ثبوته، فهو إجماع مظنون لا يجزم المجتهد به، وهو مع كونه حجة إلّا أنه ليس في منزلة الإِجماع المتيقن، ومرتبته أن يُستدل به ويُقدم على ما دونه من الظن (¬2)، أي أنه من مسائل الاجتهاد، بحيث يمكن للمجتهد أن يقدم عليه ما هو أقوى منه من الأدلة، بخلاف الإِجماع المُتَيَقَّنُ من ثبوته فهذا لا كلام فيه، ولا يجوز أن يقدم عليه، أو أن يبدل لأنه معصوم وحكمه الناتج عنه له صفة الثبات، ذلك أن الشريعة معصومة والأمة فيما اجتمعت عليه معصومة، ولا تجتمع إلّا على الحق، ويستحيل أن تجتمع على خطأ أبدًا، ومن معنى حفظ الشريعة وعصمتها، عصمة الأمة أن تجتمع على ضلالة، تغيّر بها أو تبدل حكمًا واحدًا من أحكام الله، أو تقر التقديم عليه أو الإِعراض عنه، ولذلك فإن الانحراف مهما كثُر وعظُم وتفاوتت مراتبه من كفر أو شرك ¬

_ (¬1) انظر رسالة دكتوراه بعنوان الحرية الاقتصادية وتدخل الدولة 426 - 468 - للدكتور عبد الله مصلح الثمالي، وبقية أمثلته عبارة عن فتوى مجتهدين فإن صادفت إجماعًا فخالفته فهي مردودة، وإن لم تصادفه فليس له دليل فيها على ما ادعاه. انظر تعليل الأحكام 325. (¬2) مجموع الفتاوى 19/ 268.

أو بدعة أو معصية فإنه يظل انحرافًا يشار إليه بحسب جهد المصلحين والمنكرين له، ويستحيل شرعًا أن يجد إقرارًا من الأمة بأجمعها لأنها لا تجتمع على إقرار الباطل، وهكذا القول في ثبات أحكام الشريعة ما كان منها حجته الكتاب أو السنّة أو الإِجماع، فالعصمة ثابتة لهذه الشريعة ولجماعة العلماء، وهذا من أبرز معالم الثبات التي حفظت الشريعة من التغيير والتبديل - ولو في حكم واحد من أحكامها - وحفظت الأمة من أن يضيع الحق فيها، فـ "لا تزال طائفة .. قائمة بالحق لا يضرهم من خالفهم ... " وبثبات هذا المصدر الرباني وعصمة جماعة العلماء أهل السنّة والاتباع أمكن لهذه الأمة أن تعالج انحرافاتها، وتصمد أمام الغزو الفكري الجاهلي وتيار البدع الداخلي، وتتسلم قيادة البشرية مرات عديدة بعد أن كادت تسلم قيادها للانحراف العقدي لولا رحمة الله سبحانه المتمثلة في ثبات ذلك المصدر الرباني، وبقاء تلك الطائفة القائمة بالحق. والأمة في عصرها الأخير ما زال المصلحون يعتمدون في معالجة الانحرافات فيها على ثبات ذلك المصدر، وعصمة جماعة العلماء، والأعداء ما زالوا يكدحون دون أن يتمكنوا من هدفهم الأخير، وهو القضاء على هذه الأمة، ولن يتمكنوا لأن العصمة مكفولة لهذه الشريعة، ومكفولة لجماعة العلماء، وهي عصمة الإِجماع، ولا يزال الأعداء في ياس أمام هذا القدر الرباني (¬1) مهما بلغوا في الكيد من القوة ¬

_ (¬1) القدر الرباني يقتضي بقاء هذين العنصرين عصمة الشريعة وثباتها، وعصمة الأمة من أن تجتمع على الباطل والانحراف عن الشريعة، ومقصد الأعداء مضاد لهذين القدرين فأتى لهم بملاقاته وتغييره، ولازم ذلك أن لا يصلوا إلى مقصدهم، وهذا لا يعني أنهم لن يؤثروا في الأمة كلا فأثرهم واقع لا محالة، والأمة مكلفة بعد ذلك بأن تساير قدر الله الذي رفع منزلتها فتجاهد لتصل إلى التمكين في الأرض وستكون أضعف فتراتها التي تكثر فيها الفتن وتنتشر فيها طوائف الضلال ومذاهب الغزو الفكري ويعود أصحاب الحق إلى الغربة التي حدث عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستكون هذه الأمة مع ذلك في أمن من يضيع الحق فيها وتزول تلك الطائفة القائمة به وهي الطريق بمشيئة الله لاعادة الأمة إلى التمكين في الأرض وغلبة دين الله على الأمم الأخرى، وهذا هو الذي يزعج أعداء هذا (0) الدين ويفت في عضدهم. انظر كتاب موقف المستشرقين من ثبات الشريعة وشمولها دراسة وتطبيقًا.

ومن مهارة التخطيط ... {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وبهذا نتبين حفظ الله لهذا الدين كتابًا وسنّة وعصمة الأمة من أن تضيعه أو تبذله، وعلى هذا الأساس يقوم مفهوم الشمول، وقد تبين - فيما سبق - أن الثبات قاعدة الشمول، فلا شمول بغير ثبات. وأن المجتهد وهو يؤسس اجتهاده، على ما علمه من الكتاب والسنّة وما أجمعت عليه الأمة ليجد فيها من الأصول المتيقنة، وخاصة تلك التي تفهمها العلماء وأجمعوا عليها ما يجعله يبني اجتهاده عليها وهو متبع لعلم راسخ، يزيده قوة ورشدًا في استبانة الحق ورد الفروع إلى الأصول، وإعطاء النظير حكم نظيره. وإن هذا الذي أجمع عليه المجتهدون إمَّا أن يكون حكمًا جزئيًا وإمّا أن يكون أصلًا شرعيًّا، وكلاهما من قواعد الشمول كما بينا سابقًا فلا نعيده هنا (1). وننقل البحث بعد ذلك إلى المواطن التي لم يتحقق فيها إجماع. * * * ¬

_ (¬1) انظر تحقق الشمول في العموم اللفظي والعموم المعنوي، ص 314 وما بعدها.

المبحث الثاني كيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع

المبحث الثاني كيفية تحقق الثبات والشمول في الأحكام التي لم يتحقق فيها إجماع إن "الاجتهاد" الذي تحدثت عنه سابقًا، ثم تعرفنا على أهم طرقه ابتداء من العمل بالعموم، والقياس، ثم العمل بالمصالح المرسلة، وتبينا كيفية تحقق الثبات والشمول من خلال العمل بها، إن هذا الاجتهاد منه ما يؤدي إلى الاتفاق على معرفة الحكم الشرعي، ومن ثم الإِجماع عليه - وقد سبق بيان منزلته من الشريعة وكيفية تحقق الثبات والشمول فيه - ومنه ما لا يؤدي إلى الاتفاق، بل تتفاوت أنظار المجتهدين وذلك للأسباب التي أشرت إليها من قبل (¬1). وهذه الأحكام المتفق عليها وغير المتفق عليها تكوّن في مجموعها "الفقه الإِسلامي" ونتحدث هنا عن الجزء الثاني من هذه الأحكام ونتعرف على كيفية تحقق الثبات والشمول فيها، ومن خلال ذلك نتعرف على منزلة الفقه الإِسلامي تأصيلًا على ما سبق بيانه من الفرق بين "الشريعة" و"الفقه"، ويتضح لنا الموقف الوسط من بين مواقف التفريط والإِفراط التي وقع فيها بعض الدارسين "للفقه الإِسلامي" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 545. (¬2) من طبيعة الترتيب المنطقي للبحث أن يكون هذا "البحث" خلاصة لبيان منزلة الفقه الإِسلامي - وخاصة الأحكام التي لم يتفق عليها - وذلك لأن جميع البحوث السابقة منها ما هو بيان لمنزلة الشريعة - وذلك يساعد عل معرفة منزلة الفقه - ومنها ما هو بيان لحقيقة الاجتهاد وطرقه وذلك مبين لعمل المجتهدين - من خلال العمل بطرق الاجتهاد - بالصورة المعتدلة التي ظهرت لنا عند دراسة المسائل الأصولية، وكل ذلك =

ويدخل تحت هذا العنوان الأحكام التي تعددت فيها الأقوال نتيجة لتفاوت أنظار المجتهدين وتفاوت قدراتهم، سواء منها ما اختلف فيها على قولين (¬1) أو ثلاثة أو أكثر، وبلفظ آخر يدخل تحته ما سوى المجمع عليه. ¬

_ = يعطينا فكرة واضحة عن آثار الاجتهاد الشرعي وإيجابيته .. لينتهي بنا المطاف إلى معرفة الإِجماع في الفقه الإِسلامي .. فلم يبق إلا المواضع المختلف فيها .. وهنا تكتمل الصورة وتتضح منزلة الفقه الإِسلامي. ومن هنا يكون هذا "المبحث" تأسيسًا على ما سبق وتتمة لما بقي. (¬1) ينصب الأصوليون مسألة تحت عنوان "إذا اختلف الصحابة على قولين المقتضى نفي الثالث هل يجوز إحداث ثالث" فمنهم من ذهب إلى المنع ويُنسب هذا إلى جمهور الأصوليين، انظر كشف الأسرار 3/ 234 - 235، 236، وتيسير التحرير 2/ 250، والإِحكام للآمدي 1/ 198 وشرح جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/ 197، ومختصر ابن الحاجب 2/ 40 - 41، وإرشاد الفحول 86، وحاصل ما عندهم أن عدم ذهاب الصحابة لقول ثالث يدل على عدم وجود الدليل له فلا يجوز إحداثه، ولا يُظن وجود دليله الشرعي وعدم علمهم به. ومنهم من أجازه مطلقًا واستدل بأنها مواضع مختلف فيها وقد أحدث التابعون قولًا ثالثًا في مسائل الاجتهاد، انظر إرشاد الفحول 86، والإِحكام للآمدي 1/ 198، ومختصر ابن الحاجب 2/ 40 - 41. وفضل آخرون فأجازوا إذا لم يؤد إحداث الثالث إلى رفع العمل بالقولين معًا، انظر الإِحكام للآمدي 199، وشرح جمع الجوامع 2/ 197، تيسير التحرير 2/ 250، ومختصر ابن الحاجب 2/ 41. وقد كنت فصْلتُ البحث في هذه المسألة واخترت المنع، ثم تبين لي أن سبب ترجيحه غير قوي، لأنه مبني على عدم العلم بقول ثالث للصحابة، وعدم العلم به ليس دليلًا على عدم وجوده، وقوي عندي إمكان وجود الثالث لأن سكوت المخالفين للقولين واعتقادهم للثالث لا محظور فيه، ولأن المسألة اجتهادية فقد يكون عند المجتهد قول فيها لم يستكمل بعد النظر فيه، أو استكمله ولم ينشره، أو نشره ولم يعلم به المجتهدون الآخرون، أو علموه ولم ينقل. فمن المعلوم أن مسائل الاجتهاد لم يُنقل فيها لنا جميع أقوال الأئمة، لا من الصحابة ولا من غيرهم، مجموع الفتاوى 20/ 250. هذا مع علمنا بتورع الصحابة ومن بعدهم من السلف عن التصريح بالفتيا، وإن بعضهم ليحيلها إلى غيره وعنده من العلم ما يكفي لها ولمثلها، فليس إذًا عدم العلم بالقول الثالث دليلًا على عدم وجود قائل به، =

وقبل أن ندرس ونبين منزلة هذا القسم نشير بإيجاز إلى الفرق بين الخلاف المذموم شرعًا وغير المذموم وكيف يقع غير المذموم مع وجوب الرد إلى الكتاب والسنّة. فأقول: الخلاف المذموم هو ما حمل عليه الهوى والتعصب، ولم يلتزم فيه الناظر ضوابط منهج الاستدلال الشرعية، أو إلتزمها ولم يستفرغ وسعه في طلب الحق. وغير المذموم هو ما كان بضد ذلك، والدليل على عدم ذمه وقوعه بين ¬

_ = ومن ثم لا يلزم من الذهاب إلى قول ثالث له شد من الشريعة تخطئه جماعة الصحابة، لأنا لم نقطع بأن جماعتهم ليس عندهم إلّا هذين القولين، وهنا نفرق تفريقًا واضحًا بين ما نقل فيه إجماعهم - وقد قدمنا الكلام في الإِجماع - وبين المسائل الاجتهادية. وأؤكد ما قلته آنفًا إن الاختلاف على قولين ليس له حكم الإِجماع، لأنه يختلف عنه من حيث إمكان تجدد الاجتهاد فيه، وهذا أهم فارق بينهما، تجعل ما اختلف الصحابة فيه على قولين ألصق بمسائل الاجتهاد، وبيان ذلك من عدة أوجه: الأول: إمكان تجدد الاجتهاد فيه من حيث الرجوع إلى قول واحد وترك القول الثاني. الثاني: إمكان تجدد الاجتهاد فيه من حيث زيادة بعض الصحابة أنفسهم لقول ثالث، وذلك من خلال نظر شرعي مستأنف في أدلة المسألة. الثالث: إن استئناف الاجتهاد من الصحابة أنفسهم والذهاب إلى قول ثالث لا يعتبر شذوذًا. ومن هذه الأوجه يتأكد لنا دخول هذه المسألة في مسائل الاجتهاد لاختلافها عن طبيعة الإِجماع، وإن كانت تشبهه عند أصحاب القول الأول في عدم جواز إحداث قول اجتهادي ثالث، فلنلحقها بمسائل الاجتهاد المختلف فيها، لصدق هذا الوصف عليها، ولنحتفظ لها بمنزلة خاصة بين مسائل الاجتهاد المختلف فيها، تشبه منزلة قول الصحابي، عند أحمد والشافعي. وهذا كله مبني على عدم التيقن من حصر الخلاف في قولين، ومبني أيضًا على عدم إمكان هذا الحصر لا في جيل الصحابة ولا في الأجيال التي تليه، ويترتب عليه عدم القول بتخطئة جماعة المجتهدين، مع فتح باب الاجتهاد كشفًا عن حكم آخر، أو تصحيحًا لقول سابق، واختيار الأقرب إلى نصوص الكتاب والسنّة، والله أعلم.

الصحابة - رضوان الله عليهم - (¬1) ولم يقتض ذلك ذمًا لهم وحاشاهم، ولم يكن كرههم للخلاف - ومنزلتهم في الدين معلومة وتوفر شروط الاجتهاد والصدق فيهم مقطوع به، لم يكن ذلك كله مانعًا من وقوع الخلاف في المسائل الاجتهادية. وأيضًا فالصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يردون إلى الكتاب والسنة كما أمرهم الله سبحانه في قوله وأمر المؤمنين {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... } والرد يرفع الخلاف ولكن بشرط أن تتفق أفهامهم للنص المردود إليه، أما إذا لم يتفقوا فلا يرتفع، على أنه بالنسبة للسنة المطهرة - وبعض الآيات - يختلف الرادون على إثبات النص نفسه، أما من حيث السنّة فالاختلاف في السند، وأما من حيث الآيات فالاختلاف في القراءة، وهذه يترتب عليها اختلاف في الفهم، فمن رأى صحة السند أوجب الرد إليه على ما فهمه ومن لم ير ذلك لم يوجب الرد، ولم تبلغ جميع الأحاديث الصحيحة الأئمة كلهم كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬2). فالصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يردون إلى الكتاب والسنّة، ومع ذلك وقع بينهم تفاوت في فهم بعض الأحكام، ولم يكن ذلك بمذموم في الشرع، ولا بمنتقص من منزلتهم، فهم القدوة لجميع الأجيال من بعدهم لأنهم السباقون في الفضل علمًا وعملًا واعتقادًا وصدقًا وجهادًا (¬3)، وبعد أن عرفنا الفرق .. ¬

_ (¬1) انظر الأمثلة الدالة على وقوعه في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، مجموع الفتاوى 20/ 233 - 238. (¬2) المصدر نفسه 20/ 238. (¬3) ولا يعني ذلك أن الخلاف واقع في الشريعة، فالشريعة لا خلاف فيها ولا تضاد كما وصفها الله سبحانه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .. بل هي محكمة معصومة. انظر الموافقات - المسألة الثالثة 4/ 74 .. ولا يعني أيضًا أن الحق يضيع بين الأمة وأن ذلك يوجب عدم التصحيح وبيان الصواب من الخطأ، كلا، أما الحق فإنه لا يضيع بين الأمة قطعًا وقد سبق بيان ذلك ص 118، وأما التصحيح فمتعين وهو مهمة الاجتهاد، وسيأتي بيان أن الاجتهاد كما يكون كشفًا واستباطًا للحكم يكون كذلك تصحيحًا لعمل المجتهدين فنعتقد عدم التأثيم لهذا النوع من الخلاف وعدم الذم لأهله مع اعتقادنا وجوب المراجعة والتصحيح وبيان الصواب.

نذكر بعض المقدمات المسلمة عند أهل العلم ثم نبني عليها دراستنا لكيفية تحقق الثبات والشمول في مسائل الاجتهاد المختلف فيها، سواء ما كان منها مبنيًا على نفسير بعض الدلالات أو مبنيًا على العمل بالأقيسة أو المصالح .. وهذه المقدمات هي: المقدمة الأولى: إن الاجتهاد فرض لازم على من توفرت لهم ملكة الاجتهاد، وأنه لا ينقطع العمل به ولا يستقيم أمر هذه الأمة إلا به (¬1). وأن على المجتهد العمل بما أداه إليه اجتهاده لا يجوز له إلّا ذلك .. المقدمة الثانية: أن المجتهدين كلفوا بهذه المهمة وهم بشر يصيبون ويخطئون وأنه لا عصمة للواحد منهم، وعصمة الإِجماع إنما هي لجماعتهم (¬2) .. وموقفنا العدل من علمهم أننا لا نعصمهم ولا نؤثمهم لأن كل واحد منهم استفرغ جهده في طلب الحق، فإذا أخطاه فهو مأجور، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عمرو بن العاص "أنه سمع رسول الله يقول: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (¬3). وهذا يحفظ لنا أمرين: الأول: الحفاظ على الشريعة أن ينسب إليها ما ليس بصواب. الثاني: الحفاظ على حق المجتهدين على الأمة، ولهم عليها حقوق كثيرة، منها أن تشهد الأمة بما شهدت به هذه الشريعة لهم من استحقاق الثواب والأجر والمحمدة في حال الصواب والخطأ. والحاصل أن "المجتهد" لا يُعصّم ولا يُؤثّم، وهذه قاعدة ذهبية، أثبتها ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 211. (¬2) انظر ما سبق ص 546. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13/ 318.

شيخ الإِسلام بتطبيقات كثيرة، دلت على وقوع الخطأ من المجتهدين، فلا بد إذن من التصحيح (¬1)، مع اعتقاد عدم ذمهم، وهذا الذي قاله -رَحِمَهُ اللهُ-: لا خلاف فيه بين الأمة، ولم يشذ عن ذلك إلا بعض أهل الأهواء (¬2). المقدمة الثالثة: إن الإِجماع لايمكن أن يتحقق في كل مسألة، فلابد من أن ينظر المجتهدون كل بحسب طاقته وموقعه الذي هو فيه، وأكثر المسائل ينظرها المجتهدون وهم فرادى ذلك أن جمع العلماء كافة للنظر في كل مسألة - مع مخالفته لطبيعة المجتمع الإِسلامي - كذلك فإنه مستحيل عادة ولم يكلف الشرع به هذه الأمة، وأقصى ما في الوسع جمع نفر منهم. فتحصل من هذه المقدمات المسلمات، أن المجتهد مكلف بالاجتهاد، وأن الإِجماع الذي تثبت له العصمة لا يمكن تحققه في كل مسألة، وأن المجتهد وحده غير معصوم فعمله قد يكون صوابًا، وقد لا يكون كذلك، وهذا العمل الفردي هو المُكَوِّن للمسائل الاجتهادية التي تقابل مواضع الإِجماع .. وإذا أمكن معرفة ثبات الحكم المجمع عليه، فليس لأنه عمل ناتج عن الاجتهاد بل لأنه عمل ناتج عن الإِجماع الذي اجتمعت عليه جماعة المجتهدين الذين أثبتت الشريعة لإِجماعهم العصمة، فهو إذن حكم مجمع عليه ثبتت العصمة له من الشريعة، فعلمنا أنه صواب وحق، ومن هنا قلنا أنه حكم شرعي ثابت .. أما الاجتهاد الفردي فله شأن آخر ولنذكر الآن بعض صفاته ومنها: ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 20/ 231 - 232، وانظر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير علم فحكمه مردود لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" فتح الباري 13/ 317، ولا يلزم من رده تأثيمه إذا بذل وسعه فأخطأ، 13/ 318 - 319، وقد ترجم الإِمام البخاري في الموضعين بما يفيد الأمرين معًا. (¬2) مجموع الفتاوى 20/ 250، 251، 252.

صفات الاجتهاد الفردي: 1 - الاجتهاد الفردي ضرورة لإِقامة الحياة الإِسلامية، وذلك للتعرف على حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يسد مسده شيء آخر. 2 - الاجتهاد الفردي فهم مجتهد - وهو من مكونات الفقه الإِسلامي والشريعة لم تشهد بعصمته من الخطأ، والثبات فرع العصمة. 3 - إن المجتهد وإن لم يعتقد عصمة اجتهاده، إلّا أنه يلزمه العمل به ولا يجوز له إلّا ذلك، وهذا مقتضاه أن هذا الحكم عنده صواب وثابت في حقه وإلّا لما لزمه العمل به. 4 - إن المجتهد إذا تبين له من العلم ما يوجب تغيير اجتهاده، وجب عليه تغييره، لأنه علم أن اجتهاده الأول غير صواب. والاجتهاد الذي انتقل به إلى الحكم الآخر له نفس المرتبة التي كانت للاجتهاد الأول، وهي المذكورة في الصفة الثالثة. فتحصل من هذا أن فهم المجتهد - في مسائل الاجتهاد - ملزم له ويجب عليه العمل به مع القطع بنفي العصمة عنه، وهذا يقتضي أمرين: الأمر الأول: أنه لا يعتبر من أحكام الشريعة المعصومة الثابتة الملزمة لجميع المجتهدين (¬1). الأمر الثاني: أنه يعتبر من أحكام الفقه الإِسلامي وهو ملزم للمجتهد وثابت عنده لأنه صواب في اعتقاده، ويأخذ شرعيته وثباته من شرعية الاجتهاد وثباته إلّا أن يغير المجتهد اجتهاده. والفرق بين ثبات الحكم المعصوم .. وبين ثبات الحكم الاجتهادي الفردي أن الأول ثابت ثباتًا مطلقًا من حيث الزمان والمكان، لا يقيده شيء، وثابت من حيث كونه لازمًا لجميع الأمة، لأنه شرع أبدي معصوم لا يتصور تغيره. ¬

_ (¬1) سيأتي معنا أنه يمكن أن يأخذ صفة الإِلزام إذا اختاره الحاكم المسلم وحكم به.

وأما الثاني فهو ثابت ثباتًا مقيدًا بالنسبة للمجتهد يأخذ ثباته من ثبات المجتهد على اجتهاده، وهو لازم له ولجميع من تابعه عليه، وذلك لأنه فهم شرعي غير معصوم يمكن تغيره. وهذا الثبات النسبي تقويه عوامل أخرى وتؤكده نذكر منها: 1 - أن الاجتهاد الشرعي يدور حول تحقيق مقاصد الشريعة، وتختلف أنظار المجتهدين وتتفاوت، وكل واحد منهم يحوم حول تحقيق تلك المقاصد، ولشمولية تلك المقاصد وسعتها فإن أنظار المجتهدين كثيرًا ما تتفاوت فيذهب كل مجتهد إلى تحقيق جانب من تلك الجوانب (¬1) .. ونقول هنا أن الثبات وإن لم يكن لعين الحكم كما قلنا في الحكم المعصوم، إلّا أنه مع ذلك يدور في دائرة الشرعية، من حيث شرعية الاجتهاد وتحقيق مقاصد الشريعة، ويثبت عند المجتهد ويلزمه العمل به ومن تابعه وهو شرع مُتعَبدٌ به عندهم إلّا أن يعدل عنه الجتهد إلى اجتهاد آخر كما قلنا من قبل. 2 - أن الاجتهاد الشرعي قد يدور حول تفسير نص معين، وهذا التفسير وإن تعدد إلّا أنه محصور قطعًا، فاللفظ المشترك مثلًا وإن اختلفت أنظار المجتهدين في تفسيره إلّا أنه لا يخرج عن أوجه معدودة محصورة، فمتى اختار المجتهد وجهًا من هذه الأوجه لزمه وأصبح محددًا وثابتًا، ولزمه العمل به، وهذا يؤكد الثبات النسبي في الحكم الفردي الاجتهادي. 3 - العامل الثالث الذي يؤكد الثبات وينقلنا إلى بيان الشمول في الحكم الاجتهادي الفردي وهو اختيار الحاكم المسلم لأحد الآراء الاجتهادية، وهذا الاختيار يترتب عليه لزوم الحكم المختار للأمة ومن فوائده ما يلي: (أ) أن هذا الاختيار يخرج الحكم المختلف فيه من حيّز الاختلاف وما يترتب عليه من عدم الإِلزام للأمة جمعاء - حيث يكون الاجتهاد ملزمًا ¬

_ (¬1) الموافقات 4/ 81.

للمجتهد فقط ومن تابعه عليه - يخرجه من ذلك كله ليكون ملزمًا للأمة لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف في المسألة (¬1). (ب) أن هذا الاختيار يقوي جانب الثبات في هذا النوع من الاجتهاد فبعد أن كان ثباته نسبيًا، محدودًا بالجهة التي نتج عنها الاجتهاد - وهي المجتهد - وبمن يتابعه عليه - اتسعت دائرته ليصبح ملزمًا للأمة جمعاء، فيكون ثباته ليس محصورًا في دائرة الاجتهاد الفردي، بل يشمل الأمة ويثبت في حقها بمجرد حكم الحاكم به، ويبقى بينه وبين الاجتهاد الجماعي فرق مهم، وهو أن اختيار الحاكم لا يوجب العصمة لهذا الحكم بخلاف الاجتهاد الجماعي، فإنه موجب للعصمة كما قدمنا، غاية ما في الأمر أن اختيار الحاكم - وإن لم يثبت العصمة للحكم - إلّا أنه يوسع دائرة ثباته ولزومه، وهذا مهم من الناحية التطبيقية. وبعد أن عرفنا معنى الثبات في الاجتهاد الفردي الذي لا عصمة له، والفرق بين حالة اختيار الحاكم وعدمها، انتقل إلى معرفة كيفية تحقق الشمول، وأبدأ من حيث انتهى الحديث عن الثبات فأقول: ان إدراك شمولية هذا النوع من الأحكام تظهر بجلاء في الناحية التطبيقية فالاجتهاد الفردي عمل متجدد دائمًا لا ينقطع ولا ينبغي له، وإذا ضعف مجتهد لسبب من الأسباب قوي غيره والفرض كما سبق وأن بيناه، أن المجتهدين كثر في هذه الأمة، فاستمرار هذا النوع من الاجتهاد يثري الفقه الإِسلامي ثراء لا شبيه له، فهو عمل شرعي مبرراته مستمرة وأدواته متحققة وله من جهد المجتهدين السابقين في الأمة معينٌ لا ينضب، وله في هذه الشريعة المباركة مصدر عظيم لا ينفد عطاءه ثم تأتي مرحلة أخرى مع استمرارية هذا الجهد، وهي عمل طبيعي أيضًا ألا وهي عملية التصحيح، ذلك أن الاجتهادي الفردي - مع ¬

_ (¬1) انظر الفروق 2/ 103 الفرق السابع والسبعون: للقرافي، دار العارف، بيروت، ومعنى أنه يرفع الخلاف أي في المسألة التي حكم فيها الحاكم بعينها، وحينئذ يكون ملزمًا للأمة، وبه تستقر قاعدة الحكم لفض الخصومات والمنازعات.

أهميته وضرورته - غير معصوم، فلابد من التصحيح لما عسى أن يقع من أخطاء اجتهادية، سواء صححها المجتهد الذي وقع منه هذا الخطأ، أو قام بذلك غيره من المجتهدين، ويستمر هذا وذاك في عمل واحد يمتزج بعضه ببعض يدخل في مسمى الاجتهاد، فالاجتهاد كشف عن الحكم وإظهاره، أو تأكيد لصوابه أو بيانٌ لخطئه، وهذا هو الذي كوّن الفقه الإِسلامي وحقق شموليته. أثر الاجتهاد في الفقه الإِسلامي: 1 - أن الاجتهاد هو القاعدة التي تقوم عليها شرعية الفقه الإِسلامي فهو ليس منعزلًا عن الشرعية (¬1)، كما أنه ليس منعزلًا عن صفة الإِلزام والجزاء، والذي يدرك منزلة الاجتهاد يدرك شرعية أحكام الفقه الإِسلامي وكونها ملزمة يقع عليها الجزاء الدنيوي والأخروي، ذلك أن المجتهد ومن تابعه لا يجوز لهم أن يدعوا العمل بما ظهر لهم صوابه، أضف إلى ذلك أن الاجتهاد بما أنه تكليف من الله فإن أول ما يترتب عليه الأجر عندما يقع بشروطه الشرعية، وقد وقع الأجر في حالتي الصوات والخطأ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويترتب عليه أن نتيجته ملزمة لمن رأى صوابه من مجتهد أداه لذلك اجتهاده أو متابع تابعه على ذلك، فالاجتهاد فرض لا يجوز التفريط فيه وكذلك نتيجته .. ويترتب عليه أيضًا أن هؤلاء الذين ثبت عندهم ذلك يلزمهم العمل به ويعاقبون على تركه إن تركوه، ويثابون على فعله إن فعلوه، وهذا لا يكون إلّا إذا علموا أنه حكم وجب عليهم التزامه تعبدًا لله، ومن هنا ندرك بجلاء شرعية الفقه الإِسلامي ولزومه للأمة، كل مجتهد بحسب اجتهاده وكل متابع بحسب ما تابع عليه، هذا إذا لم يختر الحاكم ذلك الحكم الاجتهادي فإن اختاره أصبح ملزمًا للأمة كلها، عليه يقع الجزاء الدنيوي والأخروي، فهو من حيث ¬

_ (¬1) هنا نصل إلى النتيجة في موضعها المناسب ونذكر ما يترتب عليها خاصة بعد أن بينا الفرق بين الشريعة والفقه، وبينا الشرعية للفقه الإِسلامي، انظر ص 60 - 98 وبهذين الموضعين يرتبط موضع آخر عند مناقشة المسترقين ومن تابعهم في موقفهم من الشريعة والفقه. انظر كتاب موقف المستشرقين من ثبات الشريعة وشمولها.

وقوع الجزاء كالحكم المعصوم - ومن حيث ثباته يختلف عنه بقدر معلوم كما بيناه سابقًا. 2 - أن الاجتهاد هو القاعدة أيضًا لشمولية الفقه الإِسلامي سواء ما كان منه كشفًا عن الحكم ابتداء، أو ما كان منه تصحيحًا لمسيرة الاجتهاد ونتائجه - وهنا ندرك خطورة أمرين اثنين: الأول: ما يزعمه البعض من قفل باب الاجتهاد، وهنا ينقطع على اعتقادهم كل من الكشف أو التصحيح، ويجمد الفقه الإِسلامي. الثاني: ما يقع فيه متعصبة المقلدة حيث لا يرون مراجعة اجتهادات المجتهدين، إما برفع منزلتهم فوق ما أعطاهم الشارع، وإما بزعم فقدان الأمة القدرة على ذلك، وبهذا يقطعون عملية التصحيح ويجمد كل عمل اجتهادي على ما فيه من الأخطاء، ذلك أنا قطعنا بعدم عصمة المجتهد ومقتضى ذلك وقوع الخطأ منه، فإذا لم يستمر التصحيح استمر انتشار الخطأ، وجمد الفقه الاسلامي على الخطأ، وأثقله عن مواكبة مسيرة المجتمع المسلم المتجددة ولا يمكن أن نتصور الشمول تصورًا صحيحًا عند هذين الفريقين (¬1). إن نظرية هؤلاء ترجع إلى اعتقاد سقيم يتمثل في الامتناع عن استمرارية الاجتهاد، ويقع في المقابل في اعتقاد أشد سقمًا منه ألا وهو اعتقاد عدم جواز مراجعة جهد المجتهد، وكلا الاعتقادين لا يقل خطورة عن اعتقاد بعض المحدثين نزع الشرعية عن الفقه الإِسلامي باعتبار أنه من وضع المجتهدين. وهذا تفريط وإفراط، أما الإِفراط فهو الغلو المنهي عنه - وقد وقع فيه المتعصبة من الفقهاء، وأما التفريط وهو إهدار قيمة الفقه الإِسلامي، وقد وقع فيه أولئك ¬

_ (¬1) حتى لو قال المتعصبون من المقلدة أن التخريج والتفسير لكلام الفقهاء يمكن أن يحقق شمولية الفقه الإِسلامي، فماذا يقولون في جمود الفقه على الأخطاء التي تكثر فيه ولا بد! إلّا أن يقولوا بعصمة المجتهدين وهنا ينقطع الطريق بيننا وبينهم.

الباحثون الذين يجهلون طبيعة الاجتهاد ومن ثم جهلوا منزلة الفقه الإِسلامي (¬1). ومسلك هؤلاء وهؤلاء مسلك خاطئ تظهر خطورته من حيث تفريغ الفقه الإِسلامي من أهم صفاته، وهي الشمول، وإيقاف أثره الشرعي وإيجابياته العملية، ليقبع إما على نفسه يحفظه المتعصبة من المقلدة دون أن يعطوه حقه، ويفيدوا المجتمع الإِسلامي من شموليته، ولا شمول إلّا باجتهاد - إما كشفًا أو تصحيحًا - وهؤلاء ينفرون منه أشد النفور، أو لينخلع عن شرعيته لكي يُدمج مع القوانين الوضعية كما يفعل بعض الباحثين المحدثين الذين زعموا أنه من وضع الفقهاء، ويطوّرونه بزعمهم كما يشاؤون لا يقيدهم الاجتهاد الشرعي الذي ألزمت الشريعةُ به الأئمة الفقهاء (¬2). وسيبقى الفقه الإِسلامي - الذي يكوّن أكثَر أحكامه الاجتهادُ الفردي يحظى بما حظي به هذا الاجتهاد من الشرعية والثبات والشمول على ما قدمنا بيانه، وسيقبع أصحاب التفريط والإِفراط في جهالتهم لا يضر الفقه الإِسلامي منها شيئًا، وقد ظهرت مرحلة الاجتهاد كشفًا وتصحيحًا في هذا العصر وينبغي أن تستكمل مسيرتها ملتزمة بتلك القاعدة الذهبية "وجوب الاجتهاد ولا نعصم ولا نؤثم" وفي ذلك منار هداية لمن أراد الصواب والاستقامة. ففي وجوب الاجتهاد رد على أهل الإِفراط الذين غلوا في الأئمة وغلوا في نقدير منزلة الاجتهاد، وضعفوا منزلة العلماء المتأخرين حتى صوروا الاجتهاد من المستحيلات، وترتب على ذلك منع الكشف عن الأحكام الشرعية للوقائع المتجددة، ومنع التصحيح لأعمال المجتهدين. وفي وجوب الاجتهاد رد على أهل التفريط الذين فرطوا في منزلة الفقه الإِسلامي، فإن الاجتهاد الشرعي موجب لإِثبات الشرعية للفقه ليكون فقهًا ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 96. (¬2) انظر كتاب موقف المستشرقين من ثبات الشريعة وشمولها.

إسلاميًا له منزلته المعلومة، ويشترك في نتيجته من حيث الجزاء مع "الشريعة الإِسلامية" نفسها فالنظر في الشريعة مثل النظر في "الفقه" له شروطه وضوابطه الشرعية، ونتيجته تشترك في كثير من الأحكام كما بينا سابقًا. وكذلك الحال في رفع العصمة ومنع التأثيم، فلا نشهد بالعصمة ولا نقارب فنغلوا في بيان منزلة الأئمة - ومن ثم نغلوا في بيان منزلة الاجتهاد - فنقع فيما وقع فيه أهل الإِفراط. ولا نؤثمهم أو نسقط "الشرعية" (¬1) عن اجتهاداتهم وفي ذلك إهدار لقيمة الفقه الإِسلامي وتشكيك في جهد المجتهدين، ووقوع فيما وقع فيه أهل التفريط. فلا بد إذن من الحذر مما وقع فيه الفريقان، والاقتداء بالسلف الأول في إدراك حقيقة الاجتهاد كشفًا وتصحيحًا وفي تحديد الموقف من الفقه الإِسلامي وأعلامه، تمامًا كما وجبت متابعتهم والاقتداء بهم في موقفهم من بيان منزلة الشريعة وكيفية الاستنباط منها. وإذا أحسنا الاقتداء والمتابعة في توازن واعتدال استطعنا أن نقف الموقف العدل من أنفسنا ومما ورثناه في العصور المتأخرة - بعد القرون المفضلة - ومن ثم نستطيع أن نَثْبُتَ على الاستقامة في فهم هذا الدين عقيدة وشريعة ونسلم بعون الله من إسراف المتعصبة وجمودهم، ومن جهل الذين نزعوا عن الفقه صفة ¬

_ (¬1) إسقاط الشرعية نوع من التأثيم لأن مقتضاه أن الفقهاء كانوا مخالفين عن الشرعية فيما قالوه فهم آثمون. والحق في خلاف ذلك كما بينا وسيأتي رد مفصل على آثار الغزو الفكري في انتشار هذه الشبهة في كتابات المستشرقين ومن تابعهم وهي شديدة الصلة بموضع الثبات والشمول في الشريعة الإِسلامية، حيث اتخذ هؤلاء شبهة التغيير سبيلًا إلى دمج القوانين الوضعية البشرية بالشريعة الإِسلامية، عن طريق بعض الأفكار التي تصف الفقه الإِسلامي بأنه وضع بشري، وسنعالج شبه المستشرقين ومن تابعهم ونرد عليها مبينين أهم الفوارق بين طبيعة القوانين الوضعية و"الفقه الإِسلامي". انظر كتاب موقف المستثرقين من ثبات الشريعة وشمولها.

الشرعية ووصفوه بأنه فقه وضعي، وتستمر عملية الاجتهاد كشفًا وتصحيحًا بقدر المستطاع، لِتدخلَ جميعُ الوقائع الجديدة تحت حكم الشريعة، ولتتم عملية التصحيح للأخطاء، وبهذا نستطيع أن نحول بين المسلمين وبين الشبه التي قام بتوزيعها في داخل العالم الإِسلامي "الفرق الضالة" و"المذاهب الفكرية المعاصرة"، والتقت كثير من أهدافهم على فتنة "التبديل والتغيير"، ومخالفة مقاصد الشريعة، وترك اتباع المنهج الرباني الذي أرسل به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يخرج العالم الإِسلامي من فتنتهم، ولا يسلم الفكر الإِسلامي منها إلّا إذا صبرنا على تصحيح الاعتقاد، وحافظنا على مقاصد الشريعة، وكانت طريقة تفكيرنا وحكمنا على الأشياء والأحداث هي الطريقة التي تعلمها السلف الصالح من الجيل القدوة جيل الصحابة - رضوان الله عليهم -، الذي جعله الله سبحانه خير أجيال هذه الأمة، وحينئذ يتحقق لنا فهم "الإِسلام" وتطبيقه تطبيقًا صحيحًا، وذلك هو طريق النجاة في الدنيا والآخرة.

خاتمة

خاتمة وبعد أن انتهيت من دراسة موضوعات البحث أسجل هنا أهم ما ورد فيه من نتائج وهي: * أن إنزال الشرائع حق الله الخالص لا يشاركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأنه سبحانه عزل عنه أهل السماء والأرض، فلا أحد يطاع لذاته إلّا هو (والرسول إنما هو بشر يوحى إليه، بشير ونذير وسراج منير). وليس لأحد حق في التشريع، كما أنه ليس لأحد حق النسخ والتبديل والتغيير، فللَّه الخلق والأمر. * أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يطاع بإذن الله فطاعتهُ طاعة لله، لأنّ كلَّ ما جاء به إنما هو وحي أوحاه الله إليه، حكّمه على نفسه وبلَّغه لأمته فهو مبلّغ ومبشر ونذير وسراج منير، واجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - لا تكون وحيًا إلّا بإقرار الوحي لها. * أن الرسول وإخوانه من المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، ومن تبعهم من المؤمنين، والبشر بعد ذلك أجمعون مكلفون بالخضوع لما جاء من عند الله من غير تبديل ولا تغيير لا يسعهم إلّا ذلك. * أن الشريعة هي "نصوص الكتاب والسنة". * الأدلة الشرعية حجة الله على الخلق على الإطلاق والعموم، تثبت بها أمور الدين ابتداء وتخصيصًا وتقييدًا .. ، ويزاد بالسنة على ما في القرآن ولا يسع

أحد العذر في عدم اعتقاد موجبها والعمل به وعلامة ثبوتها صحة سندها والسلامة من الشذوذ والعلة. * أن هذه هي عقيدة الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان كما نقل العلماء الثقات الإِجماع على ذلك قبل نشوء الأهواء. * أن القول بظنية الأدلة النقلية وتضعيفها بدعة من بدع المعتزلة وهي من آثار المسلك العقلي الفلسفي الذي ورثته المعتزلة عن طريق الثقافات الخارجية. * أن شبهة "المعارض العقلي" جهالة من جهالات المتكلمين لا يدعمها دليل شرعي ولا دليل عقلي. * أن علم الكلام هو أساس هذه البدع وبسبب انتشاره وُزّعَ الفكر الفلسفي وأثّر أَثَرَهْ في الأصول، وحجب الأدلة عن الاستدلال على أمور العقيدة وتعدى ذلك إلى تضعيفها عند الاستدلال بها على الأحكام الشرعية. * أن عمل المجتهدين في هذه الأمة هو الكشف عن أحكام هذه الشريعة وأفهامهم لها صفة الشرعية ويُطلق عليها اسم "الفقه الإِسلامي" ومهمتهم هي الفهم والتطبيق لا معارضة النصوص بآرائهم وعقولهم. * الفقه الإِسلامي منه المعلوم ومنه المظنون، ويشمل المعلوم من الدين بالضرورة. * أن الفقه الإِسلامي يأخذ طبيعته من طبيعة هذه الشريعة من حيث الإلزام، ومن حيث اشتماله على العلم الذي يوجب لأهله الألفة والمتابعة للجيل القدوة، بخلاف "علم الكلام" فهو على الضد من ذلك. * الاجتهاد كشف واستنباط، والتشريع إنشاء للحكم ومن أهم الفروق بينهما: - التشريع حق الله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، والعصمة ثابتة لهذه الشريعة ولرسولها - صلى الله عليه وسلم -.

- والاجتهاد عمل المجتهدين ولا عصمة له، ويسألون عن الدليل، وهو بعد ذلك قابل للتصحيح، مع ثبوت الأجر في حالة الصواب والخطأ، ولا نُعصّم ولا نؤثّم. * أن المشرع له حق النسخ والتبديل، وأما المجتهد فليس له حق في ذلك. * أن أفهام المجتهدين إما أن تتفق وإما أن تختلف ففي الحالة الأولى هي الإِجماع ومن صفاته: - أنه لابد له من مستند وحكمه ثابت لأنه معصوم ولا يتبدّل أبدًا، وهو ملزم للأمة جمعاء، وأصل محكم يُبنى عليه. وفي الحالة الثانية وهي حالة الاختلاف: - الحكم غير معصوم. - ثابت عند المجتهد إلّا أن يغيّر اجتهاده. - ملزم له ولمن تابعه، وفي حالة اختيار الحاكم له يرتفع الخلاف ويكون ملزمًا إلزامًا عامًا. - أن الاجتهاد لا بد له من مستند. * الاجتهاد فريضة محكمة وهو الطريق لمعرفة قدرات المكلفين وحفظ عقيدة الأمة، وادخال الحوادث المستجدة تحت أحكام الشريعة. * أنه ضروري ولا ينقطع إلّا بانقطاع التكليف وإن تحقيق المناط وتخريجه نوعان من الاجتهاد اتفق الأصوليون على عدم انقطاعهما. * أن أهم شروط الاجتهاد العلم بالعربية، ومقاصد الشريعة، والمقصود منهما تحقق الملكة لا الإحاطة بالمفردات، وبيان أن مذهب الشاطبي مساعد لأقوال أئمة الأصول، وتحقيق ذلك. * أن الشروط الأخرى للاجتهاد يتضمنها هذان الشرطان. * أن ثبات الشريعة وشمولها لا يمكن أن يتحقق في واقع المجتمع إلا عن طريق الاجتهاد.

* أن الاجتهاد في الشريعة مراتب كما أن الاجتهاد في اللغة مراتب وعلى علماء السنة السعي لإقامة مهمة الاجتهاد والبناء على ما سبق وللمجتهد أن يستظهر بغيره ويبني على ما عنده ولا يكلف الله نفسًا إلّا وسعها. * أن مهمة التأسيس -كما هو الشأن عند الأئمة الأربعة- ليست كمهمة البناء بالنسبة لمن بعدهم فهذه أهون وأيسر. * أن المسالك الفاسدة التي وَرَّثَتْها الفرق الضالة هي أخطر ما يواجه مفهوم الثبات والشمول في الشريعة. * أن البناء على غير أصل من شيم المبتدعة وهو طريق للتبديل والإحداث في الدين. * أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للمجتهد أن يبني إلّا على أصل من كتاب أو سنة، وذلك هو منهج الصحابة - رضوان الله عليهم -، والرد على الدكتور شلبي وتفنيد شبهه. * أن اتباع العقل والمتشابه مانع من ثبات الأحكام الشرعية، والثبات قاعدة الشمول. * مناقشة الشيخ محمد عبده في حل الفائدة الربوية وبيان أنه بناه على مسلك فاسد - وهو اتباع العقل والمتشابه - وبيان خطورة ذلك على نظام الاقتصاد الإِسلامي. * مناقشة مؤلف كتاب الإِسلام وأصول الحكم، وكشف مسلكه الفاسد وبيان خطورته على نظام الحكم الإِسلامي ودفع الشبه عن ذلك، وإثبات أصول الحكم الإِسلامي من خلال آية واحدة. * الجهل بالعربية مؤد إلى تغيير الأحكام والإِخلال بمفهوم الشمول. * البراءة من مسالك المبتدعة هي الضمانة الوحيدة للمحافظة على ثبات الشريعة ولا شمول بغير ثبات.

* أهل السنّة مجمعون على اعتقاد كمال الدين عقيدة وشريعة، وتضمنه لما يحتاجه الخلق فلا توجد واقعة من الوقائع إلّا وفي نصوص الشريعة بيان لحكمها. * أن آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} تفيد معنى الإِكمال المقصود وبيان ذلك والجواب عما يعارضه. * أن الشريعة موضوعة على الأبدية فلا يختل لها نظام، وأن الأمة معصومة في تبليغها، كل طائفة وما يخصها، وأن الصحابة أعلم الخلق بذلك وأشدهم محافظة على ثبات الشريعة بالقول والعمل. * منهج القرآن في تربية الصحابة على الاعتقاد في صفات الله من أعظم الأسباب التي جعلتهم مدركين لصفات الشريعة محافظين عليها اعتقادًا وعملًا من التبديل والتغيير، بخلاف سلوك المتكلمين في دراسة الصفات فإنه سبب في نشاة التبديل والتغيير وتحكيم العقل في الشريعة بالزيادة والنقص وذلك خصيم الثبات، وإذا انتفى الثبات انتفى الشمول. * أن الكمال والثبات والشمول ألفاظ أتراب لا يقوم أحدها إلّا بالآخر. * أن العمومات في الكتاب والسنة من أهم قواعد الثبات والشمول وهي قطعية، وأن الشاطبي أشد العلماء انتصارًا لهذه القضية، وأنه متابع لإبن تيمية وأقوالهما فيها بعضها من بعض، وهو مذهب السلف، ولا تخصيص بالمنفصل، وإنما هو بيان لقصد الشارع من العمومات، وإلى ذلك يؤول مذهب الأصوليين عند التطبيق. * سلامة منهج الشاطبي من آثار علم الكلام، واعتماده على مقاصد العربية ومقاصد الشريعة، ووقوع مسلك المتكلمين في الاحتمالات والظنون. * الربط بين مسلكهم في وصف الأدلة بالظنية وفي وصف العمومات بها على الخصوص. * تقوية العمومات الشرعية والاستدلال بها على القطع بالحكم قاعدة من قواعد الثبات، وتخصيصها بما ثبت من الأدلة متواترًا أو أحادًا قاعدة من قواعد الشمول.

* اثبات أن منهج الصحابة في الاستدلال بالعمومات وتخصيصها كما ذكرت آنفًا، وبيان مجافاة مسلك المتكلمين له، وأن ما يُنْسبُ إليهم من القول بظنية العمومات أو ظنية أخبار الآحاد فرض لا صحة له. * الإِعجاز التشريعي في العموم اللفظي والمعنوي متسق مع الإِعجاز الكوني، وهو طريق لزيادة الإِيمان ولإدراك مقاصد الشريعة وتحقيق شمولها وأنهما من العمق والتنوّع وتجدّد العطاء بحيث لا يتصور لهما انقطاع ما دام التكليف. * أن القياس الشرعي قاعدة من قواعد الشمول، وبالتزام ضوابطه كما هو منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - يكون قاعدة من قواعد الثبات. * الشاطبي أعظم العلماء إدراكًا لسبب الخلاف بين المتوسعين في القياس والصادين عنه، وفيه دلالة على أن المنكرين له متأوّلون بخلاف موقف بعض أئمة الاعتزال فإنهم معاندون في إنكاره. * طريقة الشاطبي في دراسة القياس مشابهة لطريقة ابن القيم من حيث الترتيب والاستدلال والأسلوب، وهما متبعان لمذهب الصحابة - رضوان الله عليهم - ووسط بين المتوسعين في القياس والصادين عنه، وفيما قرراه السلامة من تغيير الأصل وتبديله، وبه يتحقق الشمول، وكل ذلك تبين من خلال مقارنة علمية بين طريقتيهما. * التعليل بالحكمة بشرط إنضباطها محقق للشمول وهو قياس شرعي، وبه يتحقق ثبات حكم الأصل، أما إذا لم تنضبط فلا يجوز القياس عليها لأنها تؤدي إلى الاضطراب وهو خصيم الثبات. * أن مذهب الشاطبي في التعليل بالحكمة موافق لذلك، وأن طريقته في العمل بالقياس منضبطة والرد على الدكتور محمد مصطفى شلبي فيما نسبه إليه. * العقل لا يستقل بإدراك المصالح والمفاسد، ومهمته الفهم والتطبيق واكتشاف المعاني الشرعية، وليس من مهمته إنشاء الحكم ولا تغييره ولا تبديله والقياس منهج شرعي لا مسلك عقلي.

* أدق التعريفات للمصلحة هو تعريف الشاطبي، فهو متضمن للضوابط الشرعية للعمل بالمصلحة عند أهل السنة. * التزام المجتهد بالعمل بالمصالح على هذا النحو سبب في تحقيق الشمول والثبات في آن واحد. * أن معاني النصوص لا تتناهى وعليها تُحمل الحوادث المستجدة ويُعرف حكمها، وجميع الوقائع متشابهة فهي في الحقيقة متناهية، ورد الشبه عن ذلك، وتصحيح مقالة ابن الجويني. * الشريعة ثابتة كليات وجزئيات وما كان حكما لله فهو كذلك إلى يوم القيامة، الواجب واجب، والمندوب مندوب، والحرام حرام، وتغير الفتوى إنما هو تحقيق مناط واختلاف وقائع ولا تغيّر في حكم الشريعة ولا اختلاف. * الصحابة - رضوان الله عليهم - محافظون على ضوابط الاستدلال الشرعي وعلى ثبات الأحكام، وما ذكره صاحب كتاب "تعليل الأحكام" من أنهم غيّروا وبذلوا الأحكام تقوّلٌ عليهم بغير علم، وكذلك زعمه أنهم يبنون على غير أصل، وأن منهج الأصوليين على خلافهم، كل ذلك قول بلا علم ولا برهان. * أن اتباع المصلحة مشروط بشروط شرعية، والأصل في العبادات التعبد والأصل في العادات الالتفات إلى المعنى، وفي كل معنى التعبد، وتحقيق مذهب الشاطبي والرد على صاحب تعليل الأحكام فيما نسبه إليه. * أن ما يسمى بقاعدة "تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان" لا أصل لها عند السلف الصالح، وأن ما نسبه صاحب رسالة "تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان" إلى الشاطبي وابن القيم، وكذلك ما نسبه الدكتور صبحي الصالح ليس بصواب. * عصمة الإِجماع أصل من أصول الثبات في الحكم المجمع عليه، ويرفع الخلاف عن سنده بعد ذلك، والعبرة فيه بإجماع العلماء ولا عبرة فيه برأي العوام، والمقصود بالجماعة هم العلماء المتمسكون بالسنة والاتباع.

* كما تدل السنّة على عصمة الإِجماع يدل القرآن والحجة في ذلك بيّنةٌ كما هو مذهب الشافعي وابن تيمية. * حكم الإِجماع لا يُبدّل ولا يغيّر فهو معصوم أبدًا وسبب في ربط أجيال الأمة بعضها ببعض، ومانع من تسرب آثار الكيد الذي يقوم به أعداء الإِسلام وفي الوقت نفسه قاعدة من قواعد الشمول والثبات. * * * وبعد الفراغ من هذا الكتاب نختم بحمد الله على توفيقه وإحسانه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين " {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ".

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع - أباطيل وأسمار، لمحمود شاكر. الطبعة الأولى 1965 م، مطبعة المدني - القاهرة. - أبو حامد الغزالي والتصوف، لعبد الرحمن دمشقية. دار طيبة - الرياض. - الاتجاهات الوطنية، لمحمد محمد حسين. دار النهضة، الطبعة الثانية. - الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه في هذا العصر، تأليف الدكتور سيد محمد موسى "توانا" "الأفغانستاني"، إشراف الشيخ مصطفى محمد عبد الخالق، دار الكتب الحديثة بمصر، الطبعة بدون. - الإِحكام في أصول الأحكام، للآمدي. تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي، ط 1387 هـ. - الإِحكام في أصول الأحكام، لإبن حزم. تحقيق محمد أحمد عبد العزيز، مكتبة عاطف، 1398 هـ، الطبعة الأولى. - أحكام القرآن، للإمام محمد بن إدريس الشافعي. دار الكتب العلمية - بيروت. - أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي. تحقيق علي محمد البخاري، دار المعرفة - بيروت. - أحكام القرآن، لأبي بكر أحمد الرازي الجصاص. طبعة دار الفكر. - إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي. طبعة الشعب، القاهرة. - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، المتوفى 1255. طبعة مصطفى البابي الحلبي، 1356 هـ.

- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني. إشراف زهير الشاويش، الطبعة الثانية، المكتب الإِسلامي، 1405 هـ. - الإِسلام والخلافة في العصر الحديث - نقد كتاب الإِسلام وأصول الحكم. الطبعة الأولى، 1393 هـ، الناشر: العصر الحديث - بيروت، لمؤلفه ضياء الدين الريس. - الاستقامة، لأبي العباس تقي الدين بن تيمية. تحقيق الدكتور محمد رشاد، الطبعة الأولى، 1403 هـ، طبعة جامعة الإِمام محمد بن سعود. - الإِسلام وأصول الحكم - نقد وتعليق د. ممدوح حقي. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت - 1978 م. - الإِسلام والحضارة الغربية، للدكتور محمد محمد حسين. المكتب الإِسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 1399 هـ - 1979 م. - أصول الحديث: علومه ومصطلحه: للدكتور محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، الطبعة الرابعة. - أصول الفقه، للدكتور حسين حامد حسان المطبعة العالمية - مصر. - أصول الشرعية الإِسلامية: مضمونها وخصائها، الدكتور علي جريشة. طبعة 4. - تاريخ بغداد، للحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي. الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت. - تاريخ التراجم في طبقات الحنفية، ابن قطلوبغا. الناشر: مكتبة المثنى، بغداد - 1962 م، نشر ببغداد. - تاج العروس، لمحب الدين محمد الزبيدي. المطبعة الخيرية بمصر، 1306 هـ. - تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، مؤسسة الرسالة. - التشريع الإِسلامي والفقه الإِسلامي، الدكتور القطان. الطبعة الأولى، الناشر: مطبعة التقدم، محرم 1396 هـ. - التعريف بالفقه الإِسلامي، الدكتور محمد فوزي فيض الله. نشر وتوزيع مكتبة دار التراث - الكويت.

- تعليل الأحكام، للدكتور محمد مصطفى شلبي. طبعة 1401 هـ، دار النهضة العربية - بيروت. - تفسير القرآن الحكيم، الشهير بتفسير المنار، لمحمد رشيد رضا. دار المعرفة، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية. - تفسير ابن كثير، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير. دار الفكر، لبنان، طبعة سنة 1401 هـ. - تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، للإمام محمد الرازي. الطبعة الأولى، 1401 هـ - 1981 م، دار الفكر - بيروت. - أصول الشرعية الإِسلامية، د. علي جريشة. الطبعة الأولى، 1399 هـ، الناشر: مكتبة وهبة. - الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، لخير الدين الزركلي. الطبعة الثالثة. - الاعتصام، للعلامة المحقق الإِمام أبي إسحاق إبراهيم الشاطبي - وبه تعريف المدقق السيد محمد رشيد رضا. دار المعرفة، بيروت 1020 هـ، الناشر: محمد علي صبيح. - الإمامة عند أهل السنّة والجماعة، للأستاذ عبد الله الدميجي. مخطوط بجامعة أم القرى - المكتبة المركزية، رسالة ماجستير. - أقيسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، تأليف ناصح الدين عبد الرحمن الأنصاري الحنبلي، تحقيق أحمد حسن جابر وعلي أحمد الخطيب. الطبعة الأولى، 1393 هـ. - الأم، للإمام الشافعي. أشرف على طبعه محمد النجار، دار المعرفة - بيروت، الطبعة الثانية 1393 هـ. - الإنسان - ذلك المجهول، د. ألكسيس كاريل. تعريف شفيق أسعد فريد، مكتبة المعارف - بيروت، الطبعة الثالثة. - شبهات التغريب في غزو الفكر الإِسلامي، للأستاذ أنور الجندي. المكتب الإِسلامي، طبعة 1398 هـ. - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للعلامة علاء الدين الكيساني الحنفي، المتوفى 587 هـ. قدَّم له أحمد مختار، مطبعة العاصمة - القاهرة.

- البداية والنهاية، لإبن كثير. مطبعة السعادة - مصر. - البرهان في أصول الفقه. تحقيق عبد العظيم الديب، ط 1، 1399 هـ. - التمهيد، للقاضي أبي بكر بن الباقلاني. المكتبة الشرقية - بيروت، جامعة الحكمة ببغداد. - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لإبن عبد البر. تحقيق عبد الله بن الصديق، 1399 هـ، طبعة وزارة الأوقاف - المغرب. - تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، لشهاب الدين أبو العباس أحمد القرافي، المتوفى 984 هـ. حققه طه عبد الرؤوف، الناشر: دار الفكر، الطبعة الأولى. - تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي. الطبعة بدون. - ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه، للأستاذ عداب الحمش. الطبعة الثالثة، دار حسّان للنشر والتوزيع. - جامع بيان العلم، لإبن عبد البر. وقف على طبعه إدارة الطباعة المنيرية، 1398 هـ. بيروت - لبنان. - الجامع لأحكام القرآن، لإبن عبد الله محمد القرطبي. الطبعة الثالثة، دار الكاتب العربي، 1387 هـ. - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري. ط 3، 1388 هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر. - جمع الجوامع مع حاشية العطار. الطبعة بدون، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى. - حاشية البناني جمع الجوامع، شرح الجلال المحلي. الطبعة الثانية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر. - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للعلامة محمد بن عرفة الدسوقي، لأبي البركات أحمد الدردير. الناشر: دار الفكر، الطبعة بدون. - حاشية السعد على ابن الحاجب. تصحيح شعبان محمد إسماعيل، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، 1363 هـ.

- حجية الإِجماع وموقف العلماء منها، للدكتور محمد محمود فرغلي. الناشر: دار الكتاب الجامعي - القاهرة، 1391 هـ. - خبر الواحد وحجيته، للأستاذ عبد الوهاب الشنقيطي. رسالة ماجستير رقم (58) بجامعة أم القرى. - خصائص التصور الإِسلامي ومقوماته، للأستاذ سيد قطب. دار الشروق، الطبعة بدون. - خصائص الشريعة الإِسلامية، للدكتور عمر الأشقر. الطبعة الأولى، مكتبة الفلاح - الكويت. - دار الإِسلام ودار الحرب وأصل العلاقة بينهما، عابد السفياني، مخطوط بالمكتبة المركزية، رسالة ماجستير - مكة المكرمة. - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإِسلام ابن تيمية. تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، 1399 هـ. جامعة الإِمام محمد بن سعود. - ديوان ذو الرمة: غيلان بن عقبة العدوي، شرح أبي نصر الباهلاني. تحقيق الدكتور عبد القدوس أبو صالح، 1393 هـ. من مطبوعات اللغة العربية بدمشق. - رفع الحرج في الشريعة الاسلامية: ضوابطه وتطبيقاته، للدكتور صالح بن حميد، 1401 هـ. جامعة أم القرى. - روضة الناظر وجنة المناظر، لإبن قدامة المقدسي. المطبعة السلفية، 1385 هـ. - مجموعة الرسائل المنيرية، وهي رسائل في موضوعات شتى. الناشر: محمد أمين دمج - بيروت. - رسائل الإصلاح، لمحمد الخضر حسين. الناشر: دار الاعتصام - القاهرة. - الرسالة، للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي. تحقيق أحمد شاكر، 1309 هـ. - سنن أبي داود. تحقيق عزت الدعاس وعادل السيد، الطبعة الأولى، 1393 هـ. - سنن ابن ماجة. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، 1372 هـ. - السنّة ومكانتها في التشريع الإِسلامي، الدكتور الشيخ مصطفى السباعي. المكتب الإِسلامي، الطبعة الرابعة، 1405 هـ - 1985 م.

- شذرات الذهب، لإبن العماد الحنبلي. منشورات دار الآفاق الجديدة - بيروت. - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، لبهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري (698 - 769 هـ). الطبعة السادسة عشرة، الناشر: دار الفكر، 1394 هـ - 1974 م. - شرح التلويح على التوضيح. الطبعة بدون، الناشر: محمد علي صبح، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، الطبعة بدون. - شرح السير الكبير، لشمس الدين السرخسي. تحقيق د. صلاح الدين المنجد، مطبعة شركة الإعلانات الشرقية. - شرح العقيدة الطحاوية، للقاضي علي بن علي بن أبي العز الدمشقي. تحقيق بشير محمد عون، الناشر: مكتبة دار البيان - دمشق، الطبعة الأولى 1405 هـ. - شرح فتح القدير، للإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد، المعروف بابن الهمام الحنفي، مع شرح العناية على الهداية. الطبعة الثانية، 1397 هـ. دار الفكر. - شرح الكوكب المنير المسمى مختصر التحرير، لمحمد بن أحمد الفتوحي. تحقيق د. الرحيلي ود. نزيه حمَّاد، ط 1400 هـ. دار الفكر بدمشق. - الشريعة الإِسلامية: تاريخها ونظرية الملكية والعقود، للدكتور بدران أبو العينين بدران. الناشر: مؤسسة شباب الجامعة الاسكندرية. - الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين. تحقيق د. سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأولى، 1337 هـ. - صحيح الجامع الصغير وزيادته، للألباني. نشر المكتب الإِسلامي، 1392 هـ. - صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، ومعه شرح النووي. الطبعة الثانية، دار الفكر - بيروت. - ضوابط المصلحة، للدكتور البوطي. الطبعة الرابعة، 1402 هـ. مؤسسة الرسالة. طبقات الحنابلة، لإبن أبي يعلى. مطبعة السنّة المحمدية، بتصحيح محمد حامد فقي. - العرف والعادة في رأي الفقهاء، للدكتور أحمد فهمي أبو سنّة. مخطوط بدار الكتب المصرية.

على طريق العودة إلى الإِسلام: رسم المنهاج وحل المشكلات، للدكتور سعيد رمضان البوطي. مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى - 1401 هـ - 1981 م. - عقيدة الشيخ محمد عبده: عرض ونقد. جامعة أم القرى، رسالة دكتوراه، د. حافظ الجعبري. - غياث الأمم، للإمام الجويني. تحقيق ودراسة فؤاد عبد المنعم ومصطفى حلمي، الطبعة الأولى، دار الدعوة. - فتح الباري بشرح صحيح الإِمام البخاري، للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. تصحيح وتحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، المطبعة السلفية ومكتبتها، ط القاهرة، 1380 هـ. - فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، للقاضي عبد الجبار بن أحمد. الدار التونسية للنشر. - الفقه والقضاء وأولو الأمر ودورهم التطبيقي لقاعدة تغيّر الأحكام بتغير الزمان. إعداد محمد راشد علي، كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، رسالة ماجستير. - الفرق بين الفِرَق، للبغدادي. الطبعة الأولى، دار الآفاق - بيروت. - الفروسية، لإبن القيم. دار الكتب العلمية، تصحيح عزت العطار. - الفروق، للإمام القرافي. دار المعارف - بيروت. فواتح الرحموت، لعبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري .. بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، للإِمام محب الله بن عبد الشكور. الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر 1322 هـ. - في ظلال القرآن، للأستاذ الشهيد سيد قطب. دار الشروق للنشر، بيروت، طبعة 1393 هـ - 1973 م. - القراءات العشر، للحافظ ابن الجزري. طبعة دار الفكر. - القواعد الفقهية وأثرها في الفقه الإِسلامي، للأستاذ علي أحمد غلام الندوي. مخطوط جامعة أم القرى، رسالة ماجستير. - لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن منظور. بيروت 1388 هـ. دار صادر.

- مجموع الفتاوى الكبرى، لشيخ الإِسلام أحمد بن تيمية. طبعة 1398 هـ. - المجموع شرح المهذب، للإمام شرف الدين النووي. الطبعة الأولى. - مجمل اللغة، لأحمد بن فارس. دراسة وتحقيق زهير سلطان، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1404 هـ. - المحصول في علم أصول الفقه. ط 1، 1399 هـ، لفخر الدين الرازي، تحقيق د. طه جابر العلواني. - مختصر الصواعق المرسلة، لإبن القيم. اختصره محمد الموصلي، الطبعة الأولى، 1455 هـ، دار الباز للنشر. - مدخل لدراسة الشريعة، د. عبد الكريم زيدان. ساعدت جامعة بغداد على نشره، الطبعة السادسة منقَّحة، مكتب القدس، مؤسسة الرسالة. - المدخل الفقهي العام، د. الزرقا. الطبعة التاسعة، الناشر: مطابع الألف باء، دمشق 1967 م. - المدخل للتشريع الإِسلامي: نشاته وأدواره، للدكتور محمد فاروق النبهان. الناشر: وكالة المطبوعات - الكويت، دار القلم - بيروت، الطبعة الأولى 1977 م. - المدخل للفقه الإِسلامي: تاريخ التشريع الإِسلامي، الدكتور بدران أبو العينين بدران. الناشر: مؤسسة شباب الجامعة بالاسكندرية. - المدخل للفقه في الإِسلام، الدكتور حسين الشاذلي. طبعة سنة 1396 هـ، الناشر: مطبعة السعادة، أسهمت جامعة الكويت في طبعه. - مذاهب فكرية معاصرة للأستاذ محمد قطب. دار الشروق، الطبعة الأولى، 1453 هـ. - المستصفى مع فواتح الرحموت، لأبي حامد الغزالي. المطبعة الأميرية بولاق، 1324 هـ، الطبعة الأولى. - سنن الترمذي. تحقيق إبراهيم عطوة، طبعة الحلبي، 1385 هـ. - المسودة في أصول الفقه. تتابع على تصنيفه ثلاثة من أئمة آل تيمية، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة.

- المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي. بيروت - 1398 هـ. توزيع دار الباز - مكة المكرمة، الطبعة بدون. - المعتمد في أصول الفقه، لمحمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي. تحقيق محمد حميد الله، دمشق، 1358 هـ. - معالم الشريعة الإِسلامية، الدكتور صبحي الصالح. دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الثانية. - معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة. الناشر: مكتبة المثنى - بيروت. - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، بتحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الثالثة، 1402 هـ. مكتبة الخانجي بمصر. - المغني، لإبن قدامة. حققه محمود فايد وعبد القادر عطا، الطبعة الأولى، 1389 هـ. - المغني في أبواب التوحيد والعدل. أملاه القاضي عبد الجبار الاسترابادي، 415 هـ. حرر نصه أمين الخولي، دار الثقافة - مصر. - مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، لأبي الأعلى المودودي. طبعة سنة 1397 هـ. دار القلم - الكويت. - مفهوم تجديد الدين، بسطامي سعيد. الطبعة الأولى، 1405 هـ. دار الدعوة - الكويت، رسالة ماجستير. - مفهوم الفقه الإِسلامي، لنظام الدين عبد الحميد. ط الأولى 1404 هـ - مؤسسة الرسالة. - المقاصد في العقود، للدكتور عثمان المرشد. قسم المخطوطات - جامعة أم القرى بالمكتبة المركزية - رسالة دكتوراه. - مقالات الإسلاميين، لأبي الحسن الأشعري. بتحقيق محمد محى الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية، 1389 هـ. مكتبة النهضة المصرية. - الملل والنحل، للشهرستاني. الطبعة الثانية، 1395 هـ. الناشر: دار المعرفة، ومعه الفصل في الملل والأهواء والنحل، لإبن حزم.

- منهاج الأصول في علم الأصول، للقاضي البيضاوي مع شرحي البدخشي والأسنوي. مطبعة محمد علي صبح، بمصر. - منهاج السنّة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية. طبعة بيروت، دار الكتب العلمية. - كتاب الربا وأثره على المجتمع الإنساني، للدكتور عمر الأشقر. دار الدعوة. - الموافقات في أصول الشريعة، للإمام أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي (790 هـ) وأكثر الإحالات على النسخة التي بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: مطبعة المدني، الطبعة بدون. واعتمدت في مواطن معدودة على النسخة التي بتحقيق الأستاذ عبد الله دراز وأشرت إلى ذلك، الطبعة بدون، الناشر: المكتبة التجارية بمصر. - المواقف في علم الكلام، القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإِيجي. عالم الكتب - بيروت. - نزهة النظر شرح نخبة الفكر، للحافظ ابن حجر. الطبعة بدون.

§1/1