التيجان في ملوك حمير

عبد الملك بن هشام

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن يا كريم حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن جده لأمه وهب بن منبه إنه قال: قرأت ثلاثة وتسعين كتاباً مما أنزل الله على الأنبياء فوجدت فيها أن الكتب التي أنزل الله على جميع النبيين مائة كتاب وثلاثة وستون كتاباً أتزل صحيفتين على آدم بكتابين صحيفة في الجنة وصحيفة على جبل لبنان وعلى شيت بن آدم خمسين صحيفة وعلى اخنوح وهو إدريس ثلاثين صحيفة وعلى نوح صحيفتين صحيفة قبل الطوفان وأخرى بعد الطوفان وعلى هود أربعاً وعلى صالح صحيفتين وعلى إبراهيم عشرين صحيفة وعلى موسى خمسين صحيفة وهي الألواح قال الله {إنَّ هِذا لفي الصُّحُفِ الأولى صُحُفِ إبراهيم وَموسَى} وعلى داود الزبور وعلى عيسى الإنجيل وعلى محمد الفرقان صلى عليه وآله وسلم وعلى

جميع النبيين. قال وهب بن منبه: وأنزل الله على عيسى بدأ الخلق حين أنشأه وابتدأ ابتدعه فقصه الله على نبيه موسى صلى الله عليه من يوم ابتدأه حتى أنزل عليه التوراة. قال وهب: أن الله لما خلق الماء على الهواء وخلق الهواء على ماء. . . . . . الله بجميع ما وراء ذلك إلى الحي القيوم وكان عرشه على الماء حين لأسماء مبنية ولا أرض مدحية. قال وهب: فاضطرب الماء وهاج فاصطفق فأزبد فصار أرضاً فخلق الله الحوت والبحر من ذلك الزبد ثم رفع الله السماء وهي دخان {فقال لها وللأرض أتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين} وخلق الملائكة في كل سماء أمرها أسكنهم السموات يسبحون ويهللون ويقدسون الواحد القهار وخلق الجبال في الأرض أوتاداً. قال وهب: وخلق فلك سماء الدنيا شمسه وقمره ودراريه ونجومه وخلقه دائراً مستمراً قال الله: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}. وقال وهب: وخلق الجنة وخلق فيها أجناس الملائكة يسبحون الليل

والنهار لا يفترون ثم خلق النار بعد الجنة بألف عام فزفت النار وتغيظت فتطاير منها الشرر فخلق الله من ذلك الشرر إبليس والجان وأسكنهم الجنة يسبحون الله تعالى كما يرون الملائكة يفعلون ويعيد الله إبليس مع الملائكة. قال وهب: وخلق الله الأزمنة أربعة، شتاء وصيفاً وربيعاً وخريفاً. قال وهب: فبسط الله الأرض بقدرته وأمسكها كيف شاء بحكمته وخضعت لعظمته ورفع السموات كيف شاء بحكمته وأدار الأفلاك بإتقان حكمه وحسن تدبيره فدار الفلك بهذه الأزمنة الأربعة فأول ما خلق الله من الأزمنة الشتاء بارداً طباً وخلق الربيع حاراً رطباً فكان متصلاً بالشتاء بالرطوبة مخالفاً له بالحرارة وخلق الله الصيف حاراً يابساً فكان ملائماً متصلا بالربيع بالحرارة مخالفاً له باليبوسة وخلق الخريف بارداً يابساً فكان ملائماً متصلاً بالصيف باليبوسة مخالفاً له بالبرد ولذلك زعمت الفلاسفة أن الله خلق الإنسان على خلق الأربعة الأزمنة على أربع طبائع كطبائع الأزمنة فأول طبائع الإنسان البلغم وهي مبنية الجسد وقوامه وأسكنه الأعضاء والمفاصل وعنصره الرأس وكان البلغم مضاهياً للشتاء لبرده ورطوبته ثم خلق الدم حاراً رطباً متصلاً بالبلغم ملائماً له بالرطوبة

مخالفاً له بالحرارة مضاهياً للربيع وخلقه سفاحاً مسكنه العروق والعصب وعنصره الكبد وهو جوهر الجسد وحياته ثم خلق الصفراء حارة يابسة متصلة بالدم ملائمة له بالحرارة مخالفة له باليبوسة وهي خادمة الجسد منضجة للغذاء مميزة له ومسكنها المعدة وعنصرها الكلى ثم خلق الله السوداء باردة يابسة متصلة لا صفراء ملائمة باليبوسة مخالفة لها بالبرد مضاهية للخريف بالبرد واليبوسة وزعموا أنها الريح خاملة في الجسد عنصرها الطحال وأنها ميزان الجسد وأنها ضد الدم والصفراء ضد البلغم. قالوا: وحقيق على التحرير العاقل أن يقابل الأزمنة بما يضادها من الأغذية فيقابل بالحار اليابس لأنه ضده ويقابل الربيع بالبارد واليابس لأنه ضده ويقابل الصيف بالبارد الرطب لأنه ضده ويقابل الخريف بالحار الرطب لأنه ضده وقالوا الآن كل طبيعة يهيج سلطانها في زمانها فيعدل الجسد والطبيعة باختلاف الأغذية ولا باقي مع الله. قالوا: فوجدنا ذلك مبيناً عيناً موجوداً في الإنسان وذلك أن الجوع حار قاتل فإذا قوبل بالشبع مات الجوع وإن العطش حار قاتل فإذا قوبل بالري أمات ذا العطش فكان هذا دليلاً على غيره من الأدواء ودليلاً على غيره من الأدوية الدافعة الآفات تدفع الآفات المعينة. قال وهب: وإن الله لما خلق الجنة حين شاء كيف شاء حيث شاء في سابق علمه وخلق النار وصار إبليس والجان إلى الجنة وهم لا يتناسلون

في الجنة وإن الجان تنافسوا في الجنة وطغى بعضهم على بعض وعصوا الله وسفك بعضهم دم بعض عج الملائكة إلى الله بالدعاء - قالوا سبحانك ربنا ما أحلمك وأكرمك يتقلب في نعمك من يكفر بك لم تعبد زيادة في ملكك ولم تعص مغالبة في سلطانك تمهل من أساء وتصفح عمن عصى لم تخش الفوات فإليك المصير وأنت على كل شيء قدير لا يفوتك هارب ولا ينجو منك هارب لم ينقص ملكك من عصاك ولا زاده من أطاعك أنت قبل كل شيء وأنت بعد كل شيء لم يؤدك حفظ ما خلقت فأنت بكل شيء عليم. قال ابن منبه: فغضب الله على الجان فأوحى الله إلى جبريل أن أخرج الجان من جواري وطهر منهم جنتي فأخرجهم جبريل من الجنة إلى أرضنا هذه فأسكنهم جزائر البحار وقفار الأرض وبقي إبليس مع الملائكة يعبد الله ثم خلق الله آدم عليه السلام لما شاء كيف شاء حين شاء في سابق علمه المكنون وحكمه النافذ من أديم الأرض من سهلها وجبلها وأبيضها وأسودها وأحمرها فجمع الطين فصار صلصالاً حمأ مسنوناً فصور آدم من تلك الطينة. قال وهب: فلذلك وجد في بني آدم اختلاف الصور للسهل والجبل واختلاف الألوان لاختلاف ألوانهم فرفع جبريل آدم إلى الجنة فلما رأته الملائكة قالوا ربنا ما هذا قال الله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} وأنت أعلم ربنا {قال إني أعلم ما لا تعلمون} وطاف إبليس بآدم فغمه ما رأى من جماله وحسن خلقه حسداً ثم جسه بيده فدوى آدم فقال خلق مجوفاً

أصبت والله فيه حاجتي ونفخ الله تبارك وتعالى الروح في آدم صلى الله عليه وعلى محمد وسلم فجال الروح في رأسه فأبصر فرأى جبريل فقال له جبريل عليه السلام: يا آدم وكان قد خلق الله تعالى آدم ملهماً ثم انتشر الروح في جسم آدم فشق جوفه إلى حقويه فاستوى جالساً فلذلك أنزل الله {وخلِق الإنسان عجولا} لأنه جلس قبل أن يصل الروح إلى ساقيه وفخذيه وقدميه. قال وهب: فقال جبريل يا آدم إن الله لم يخلق بشراً قبلك أنت أبو البشر فاشكر الله تعالى فرفع آدم بصره إلى العرش فلم يحجب عنه العرش فرأى في ساق العرش مكتوباً بالنور (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكان ملهماً للقراء فقال يا جبريل ألم تقل إني أبو البشر وهذا محمد مكتوب في ساق العرش فقال له جبريل صدقت يا آدم صدقتك هذا محمد حبيب الله أكرم البشر على الله خاتم الأنبياء من ولدك وبه تكنى يا أبا محمد له غداً المقام المحمود وله الشفاعة واللواء والحوض والكوثر. قال وهب: وإن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى. قال وهب: فقال بعض أهل العلم إن الله خلق حواء من الأرض كما قال {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} قال: أولئك الأولون قال الله: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها}، فعطف على النفس لا على للأرض لأنه لم يسبق ها هنا الأرض قصة.

قال وهب: خلق حواء بيضاء نقية صافية البياض ناصعة كحلاء سوداء الأشعار وبه سميت حواء فأسكنها الله الجنة فعلم الله آدم اسم كل شيء في الجنة بكل لسان نطقت به ذريته بعده ثم قال تعالى للملائكة {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} في قولكم، {أتجعل فيها من يفسد فيها}، {قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}، {قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}، وأمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وعتا أن يسجد لآدم وقال {أتأمرني أن أسجد لمن أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فغضب الله عليه وقال له {اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} قال الله له {إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} قال وهب: ولم يعطه الله سؤاله ولكن أخر، لما سبق في علمه إنه يكون محنة وابتلاء لآدم وبنيه. قال وهب: ولم يعط الله تعالى إبليس الحياة إلى يوم القيمة ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وهو نذر قبلته الملائكة قال الله تعالى {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} وقال قوم إنه باق إلى موت الخلق كلهم فيموت. قال وهب: وإن الله أنزل صحيفة على آدم قال {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} ونهاه عن فتنة إبليس ألا يفتنه ويطغيه وإن إبليس أظهر لآدم عبادة الله رياء ثم طرقه ووسوس إليه وقال له: يا آدم أنا أحبك وأنا لك ناصح إن الله لم ينزل عليك النهاية عن هذه الشجرة إلا أن لا تكون أنت وزوجك ملكين فتكونا من الخالدين في الجنة واقسم بالله إني لكما ناصح، قالت له حواء: يا آدم هل يحلف خلق الله وهو كاذب لا يكون ذلك. فذكر آدم النهاية فأبى وإن إبليس

راعى أحوال آدم فلم يجده يغفل إلا عند إفاقته من نومه فلما أفاق آدم من نومه أتاه إبليس فقال له كل من هذه الشجرة يذهب عنك ما تجد من كسل ووسن وهو رأس النهي، فمد يده فأكل وأكلت حواء لما رأته أكل ثم ذكر النهاية آدم فرمى بما في يده وتفل بما في فمه وفعلت ذلك حواء وزجر آدم إبليس عن نفسه فقال له إبليس: إني برئ منك يا آدم عصيت الله، قال آدم: رب إني نسيت واستفزني عدوي عند ساعة نومي وذلك قول الله {فنسي ولم نجد له عزماً} أي لم يعزل على مضغ ما في فمه ولا حبس ما في يده. قال: ثم تطايرت عنهما حلل الجنة فعلم إنه عاص {فلما بدت لهما سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}. قال وهب بن منبه: ولما أراد الله خروج آدم من الجنة للذي سبق في علمه قال: يا آدم اخرج أنت وزوجك من جواري. قال وهب: قال بعض أهل العلم أن إبليس ركب الحية وكانت ذات قوائم أربع حين أتى آدم ليأكل من الشجرة، قال لهم الله اخرجوا من الجنة اهبطوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو قال وسلبت الحية قوائمها وأخذ جبريل يجتاحه فرماه بجبل جي بخراسان. وزعم بعض أهل العلم إنه يخرج منه الدجال في آخر الزمان فنزل آدم على جبل لبنان وقال قوم على الجودي ونزلت حواء على جبل الطور وإن آدم لما غوى وأمره الله بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة يمسح دموعه بتلك الجوهرة

حتى اسودت من دموع الخطيئة وتاب الله على آدم قال الله {ثم اجتباه ربه فتاب عله وهدى} ثم أنزل الله عليه صحيفة نزل بها جبريل كتاب من عند الله أمره أن يسير إلى البلد الحرام ويبني البيت العتيق وكيف يكون نكاح ولده وولد ولده بما يصلحهم من معاشهم وهو قول الله تعالى {اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فأما يأتيكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}. قال وهب: وإن آدم قال يا حبيبي يا جبريل لا أعرف البلد الحرام فأوحى الله إلى جبريل اني دليل الأدلاء دله على البلد الحرام فسار جبريل بآدم حتى أوقفه على الحرم وعلى المسجد واراه مبتدأ البيت وإن حواء وجدت رائحة الجنة من قبل المسجد الحرام عن آدم فتوجهت قبل آدم فلما رأى آدم شخصها من بعيد سعى إليها فالتقيا بعرفات فتعارفا فمن ثم سميت عرفات ثم بنى آدم البيت وتعينه حواء حتى رفع الحطيم فأمره جبريل أن يجعل فيه الجوهرة التي خرج بها من الجنة ففعل وقال هذا منسك لك ولودك من بعدك فلما تم بناء البيت أمره جبريل بقطع خشبة من المسجع بين الطائف ومكة وقال بعض الناس بل من المسجد الحرام فقطع خشبه فرفع سمك البيت وأمره بالحج إليه والصلاة وأعلمه إنه قبله له ولبنيه فأول أثر على وجه الأرض مكة وقال الله تعالى {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً}.

قال وهب: وأول ما تكاثف من الأرض وانعقد وصار أرض البيت حين كانت الأرض زبداً ثم تكاثف المسجد الحرام حولها ثم دحى الله الأرض تحتها قال الله تعالى {ولتنذر أم القرى ومن حولها} مكة أم الدنيا وما فيها من أثر. قال الذي ألف هذا الكتاب: أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اختلفت في الجنة التي اهبط منها آدم عليه السلام فقالت فلاقة أن الجنة التي خرج منها آدم هي جنة من جنات الدنيا وليست جنة الخلد التي وعد الله المتقين وكذلك النار التي أوعد الكافرين ولم يخلقا وإنما يخلقان غداً يوم الفصل واحتجوا في ذلك وقالوا أقاويل فكان ما احتجوا به أن قالوا قال تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} فإن كانتا خلقتا فهما يهلكان بهلاك الدنيا وما فيها وقالوا قوله إلا وجهه ما أراد إلا هو كما تتقول هذا وجه الأمر وهذا وجه الحق أرادوا بوجه هنا هو الأمر وأما الأمر فما له وجه ولا قفا وهذا هو الحق وكذلك قوله لا وجهه إلا هو. ومما احتجوا به أيضاً أن قالوا إنما سميت الدنيا لأنها دنت بجميع ما فيها من خلق الله من كل شيء مخلوق وسميت الآخرة آخرة لأنها تأخرت بعد الدنيا بجميع ما فيها فهذه الدنيا بما فيها وتلك أخرى بما فيها وليس في

الآخرة إلا داران جنة ونار فإن كانتا خلقتنا فقد خلقت الآخرة في الدنيا فحينئذ يكونان دنيا جميعهما وانتفت الآخرة وذلك غي جائز ويكونان جميعاً آخرة ولا دنيا وقد بينها الله في كتابه فقال في الآخرة تلك الدار الآخرة وقال في الدنيا {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} فدار الآخرة عند الله ممدوحة غير غرور وهذه غرور فهذا من الله تبارك وتعالى البيان. ومن حجتهم أن قالوا: إن الجنة دار الخلد لا يخرج منها من قد دخلها وهذه قد خرج منها آدم وحواء وإبليس والجان فهذا دليل على أنها ليست جنة الخلد. ومن حجتهم أن قالوا: إن جنة الخلد ليست دار تكليف وإنما هي دار جزاء لعمل الدنيا وليس يكلف فيها أحد وقد كلف فيها آدم وحواء ألا يأكلا من الشجرة وكلف إبليس والملائكة السجود لآدم فهذه عبادة تعبدهم الله بها. ومما احتجوا به أن قالوا إن الجنة التي وعد المتقون فيها فاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقد منع آدم وحواء في هذه الأكل من الشجرة وقالوا إن احتج من ناظرنا أن الله قال {اسكن أنت وزوجك الجنة} إنما هي جنة الخلد سماها الجنة فقال الله {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} فهذا يلزم أن تكون جنة الخلد لأنه سماها جنة. وقد احتج أيضاً من زعم أن الجنة مخلوقة والنار مخلوقة فقالوا: قال

الله {جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وأخبر أنها أعدت ولم يقل تعد لأن قوله أعدت فعل ماض وتعد فعل مستقبل وقال {اتقوا النار التي أعدت للكافرين} وقد أبان الله الماضي من المستقبل قال {فأتى الله بنيانهم من القواعد} ماض وقال {يوم يأتيهم الله في ظلل من الغمام} مستقبل والماضي كثير شاهده في القرآن. ومما احتجوا أن قالوا: قال الله {ادخلوا آل فرعون أشد العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشيا}. ومما احتجوا أن قالوا: قال الله تعالى في حبيب النجار الشهيد {قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} فأراد قومه الذين خلف في دار الدنيا يعلمون كرامة الله له. ومما احتجوا به أن قالوا: قال الله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. لا خوف ولا حزن على الذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم المؤمنين الذين في دار الدنيا قالوا: والآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة غير أنا اكتفينا بالقرآن وجعلنا القرآن الناطق المحكم. وقالوا بالقياس السوء فقد حمل القياس الفاسد على القرآن الناطق والآثار الصادقة فحملوا القياس السوء وادعوا به علم الغيوب ويعلمون من علم الله ما لا يعلمونه وقد قال الله تعالى {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات

بل أحياء ولكن لا تشعرون} فقال الله لا تشعرون وقالوا بل نشعر نحن رداً على الله وقد نهاهم فقال ولا تقولوا فقال ولا هم أموات وقد احتجوا به أن قالوا قد حملوا رأيهم بالقياس على الخصوص فجعلوه عموماً في قوله {كل شيء هالك إلا وجهه} وقد أجمعنا نحن وإياهم على أن أعمال العباد أشياء وإن الله عدل لا يجوز أن يعذبهم على غير شيء وقال {ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} فهل تفنى أعمال العباد والكتب التي كتبتها الحفظة الكرام الكاتبين والله يقول {اقرأ كتابك} فإن هلكت الأعمال والكتب فما يقرئون غداً وما يجزون - وأعظم غيهم أنهم يقولون أن أسماء الله وصفاته أشياء وهي غيره فهل تفنى أسماؤه وصفاته فأرادوا أن يدركوا علم الغيب بالقياس وقال الله {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض} وقال آخرون احتج هؤلاء ونحن نرد علم هذا إلى الله وقال الله {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيامة} فلم نؤمر إلا بهذا ونرد علمه إلى الله تعالى غير أنا نعلم أن الله جنة وناراً يثيب بهذه المتقين ويعذب بهذه الكافرين وهو العالم إن كان خلقهما الآن أو يخلقهما غداً فقد صدقنا بما قال والكلام غي هذا كثير غير أنا اختصرنا تأليف هذا الكتاب عن السلف الصالح. قال أبو محمد عن أنس عن أبي إدريس عن وهب قال: حبلت حواء وآدم بمكة يبتني فولدت شيئاً وعناقاً في كل بطن غلاماً وجارية وكانت حواء

تحمل في كل عام فتلد في كل بطن غلاماً وجارية فنزل جبريل على آدم فأمره أن يزوج الغلام من البطن الأول الجارية من البطن الآخر ويزوج أيضاً الغلام من البطن الأخير الجارية من البطن الأول ثم أمر الله تعالى آدم بالسير إلى البلد المقدس فأراه جبريل كيف يبني بيت المقدس فبنى بيت المقدس ونسك فيه وقبلته منه المسجد الحرام ويحج إليه وقت الحج ويحج معه ولده فكان آدم وولده يبنون البيت ويقربون القربان في جبل الطور فمن قبل سعيه نزلت النار من السماء على قربانه فأكلته فمن أكل قربانه علم إنه قبل سعيه ومن لم تأكل النار قربانه علم إنه لم يتقبل سعيه فتفكر في ذنبه وسأل آدم أن يستغفر الله له من ذنبه ثم يقرب قرباناً آخر حتى إذا أكلت النار قربانه علم أن سعيه مقبول وقد تاب الله عليه. قال وهب: وأنه لما أتى وقت الحج نزل جبريل على آدم فقال السلام يقرئك السلام يا أبا محمد ويقول لك أنا الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء حكمت عليك بالموت وعلى زوجك وعلى ولدك إلى يوم الدين ولا يبقى معي لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا جن ولا شيطان كل يذوق الموت فأتى آدم حواء وهو باك قالت له مالك قال لها حكم ربي علي بالموت وعليك وعلى جميع الخلق من الجن والأنس والملائكة بكت حواء لفراق الدنيا قال لها آدم: الدار الآخرة خير للمتقين ثم سار آدم إلى الحج وإن هابيل وقابيل قربا قربانا تقبل من هابيل ولم يتقبل قربان قابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين

لئن بسطت إلي يدك لتتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}. قال وهب: قال ابن عباس كانت منافستهما على أخت قابيل على أخت قابيل التي ولدت معه في بطن وكانت جميلة فطلب هابيل أن يتزوجها وقال له قابيل أنا أتزوجها فقال له هابيل أن تحل لك قال له قابيل أقرب معك قربانا فمن أكلت النار قربانه تزوجها فقربا فأكلت النار قربان هابيل فبقى قربان قابيل فحسد هابيل عليها ونفز عليه فقتله. قال وهب: قال بعض أهل العلم أن شيئا وهابيل وقابيل وحبيب وعبد الصمد وعبد الرحمن وصالحاً وعبد الله وعبد الجبار. قال وهب: فلما رآه ميتاً حين قتله أقبل عليه يدعو وينادي: يا هابيل يا هابيل فلما لم يجبه أقبل عليه يقلبه ليتحرك، فلما رآه ميتاً لا يتحرك ولا يحير جواباً ولا ينظر، ندم وأدركه الخوف وعلم إنه الموت وداخلته وحشه الموت وعلم إنه عصى الله فطلب الحيلة له فلم يدر ما يفعل فيه وضاقت عليه الأرض فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فلما مات بحث الغراب الحي حتى خد في الأرض أحدوداً ثم جر إليه الغراب القتيل فالقاه في الأخدود فقال: هذا غراب علم ما يعمل بأخيه فما لي لا أواري سوأة أخي هكذا فلما حفر ليواريه

أتت حواء لتطلبهما لما غابا عنها فوجدته قد حفر له قبرا ووجدت هابيل قتيلاً فحملته وسارت به إلى آدم وقالت: له يا آدم هذا هابيل أكلمه فلا يكلمني ولا ينظر ولا يتحرك. قال: ما باله، قال له قابيل: أنا فعلت به هذا، قال آدم: اذهب عني فقد عصيت الله إياك أن تلقاني، فذهب فلم يلق آدم بعدها. وقال آدم لحواء: هذا الموت الذي أعلمتك به تزودي منه فإنك لن تريه إلى يوم الدين يرجع إلى الأرض التي خلقنا منها، فلما أيقنت بفراقه وأنها لا تراه أبد الأبد عظمت عليها المصيبة ورفعت يديها إلى رأسها صاحت، فمن أجل ذلك صارت كل امرأة على الدنيا إذا أصابتها مصيبة تأدت بيدها على رأسها وصاحت كفعل حواء، فلما بكت حواء قال لها آدم: مذ خلق الموت في الدنيا لم تجف لعاقل فيها عين ولا تجف لأهلها عين يبكون ويبكي عليهم حتى يتفارقوا ونفارقهم يا حواء ذهب الأمل وحل الأجل فمن قدم خيراً وجده ومن قدم شراً وجده وأنشأ يقول يرثي هابيل: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح وجاورنا عدوٌ ليس يهدي ... لعينٌ لا يموت فاستريح أيا هابيل يا ثمر الفؤاد ... أبعد العين مسكنك الضريح محل تخلق الأجسام فيه ... ويبلى عند الوجه الصبيح

فعيني لا تجف عليك سحاً ... وقلبي الدهر محزون قريح قال وهب: قال قوم من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن قابيل لم يقتل أخاه هابيل قتلاً مفنياً ولكنه تناظر معه في الملكوت وكانت قابيل أبعد بالحجة في ذلك فقتله بالحجة. والغراب عندهم تأويل ويحتجون أن الأنبياء لا تقتل الأنبياء ولو كان ذلك لما ذم بني إسرائيل بغير حق وإذا كانت الأنبياء تفعل ذلك فما بال غير الأنبياء - واحتجوا فقالوا: قال الله {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل إنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} أي من استدعى نفساً إلى الشرك فقتلها فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها ودعاها إلى الإيمان فأحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً فكان قتل ابن آدم لأخيه بالحجة لا بالقوة لأنه لم يقتل نبي نبياً. قال وهب: قال جبير بن مطعم هذه القصيدة ليست لآدم وهي منحولة، وقال ابن عباس، تكلم آدم بجميع الألسن التي نطق بها بنوه ومن بعده من عربي وعجمي، وهذه الأسماء لم تعلمها الملائكة {فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم}. قال وهب: إن آدم غرس الثمار التي هبط بها من الجنة فأول ما غرس بالبد المقدس ثم انتشر بنو آدم إلى الجزيرة وغلى بابل وإلى اليمامة وإلى الطائف

وبلغوا البحرين يغرسون الثمار وبلغوا اليمن وعمان يغرسون الثمار ويحفرون الأنهار ويبنون المصانع وينحتون الجبال. ثم أن آدم لما بلغ دعوة الله وعلت حجة الله في بنيه وفي الجن وكثرت ذريته في الأرض فتكملت أيامه آتاه وعد الله آتاه جبريل فقال له: يا أبا محمد السلام يقرئك السلام ويأمرك أن تقيم شيثاً خليفة من بعدك في الأرض للأنس والجن يقيم فيهم حجة الله وينهاهم عن معصيته فعلم آدم أن نعيت إليه نفسه فأوصى شيثا واستخلفه. قال وهب: لم يقبض الله آدم عليه السلام حتى وصل خلفه ألف رجل من بنيه وبني بنيه، ثم إن الله قبل روح آدم وأعلمه جبريل فلذلك قال: يا حبيبي يا جبريل نعيت إلى نفسي بموت حواء، وكان موت حواء قبل موت آدم بعامين، ثم دعا آدم فقال: رب هب لأوصيائي القائمين بجنبك عمري ما قاموا على عهدك وأظهروا حجتك وقاموا بحقك فمن بدل فإنك أنت العليم الحكيم. قال وهب: وكان عمر آدم عليه السلام تسعمائة وثلاثين سنة ثم قبضه الله صلى الله عليه وسلم واسمه بالسرياني والعربي (آدم) وكان عمر حواء تسعمائة وثمانية وعشرين سنة. خلقت حواء بعد خلقه. وولي أمر بني آدم من أنس ومن الجن شيث (شيث) اسم عبراني وتفسيره باللسان

العربي خلف وشايث باللسان السيرياني وتفسيره بالعربي نصب لأن عليه نصب الدنيا على ذريته ليس على الدنيا ذرية شيث وجميع ولد بني آدم أغرقهم الطوفان فقام شيث في الأرض وخليفة بأمر الله يصدع بالحق وذلك أن بني آدم وبني البنين انتشروا في الأرض يبنون ويغرسون فتنافسوا فيها وطغى بعضهم على بعض فأنزل الله على شيث خمسين صحيفة في صلاح الأرض يدعو الثقلين الجن والأنس وكان شيث مخبولاً على القراءة ولا يكتب. فأنزل الله شريعة آدم في نكاح الأخ للأخت لأن آدم صلى الله عليه وسلم كان يزوج الأخ من الأخت إذا اختلفت البطون فأتت شريعته بخلاف ذلك ولا يزوج إلا ما تباعد نسبه كبنات العم وغير ذلك. قال الله تعالى {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً}. فأنكر عليه ذلك بنو آدم وسرجوا فقام فيهم بأمر الله وغلب عليهم الله حتى تمت كلمة الله وعمت دعوته. قال وهب: وإن لامك بن هنوش بن هابيل بن آدم وهو هابيل قتيل قابيل مر عليه وهو يرعى غنماً له راكباً على فرسه ولامك أعمى فتكلم قابيل فقال: لامك من هذا المتكلم فقد انتفض لكلامه كبدي واقشعر له جلدي فقالوا: هذا قابيل قاتل هابيل جدك قال: أوتروا إلى قوساً فأوتروا له قوساً ثم استمع الكلام من أين يأتيه حتى علم أين هو ثم قال: ألهم أهدني وانتقم ثم رمى فأصاب نحر قابيل فسقط عن فرسه. ثم سال من هذا قيل لامك بن هنوش بن هابيل قال: حسبي أبناء الأبناء قروا حدود الأجداد

ومات فأتوا بنو قابيل بلامك الأعمى إلى شيث فقالوا: هذا قتل أبانا قابيل قال لهم: أخذ الله حقه بأضعف خلقه دعوه النفس بالنفس فإن الله أوحى إلى آدم أنا أرحم الراحمين قتل ولدك ولا آمرك بقتل ولدك الآخر دعه لا يفوتني هارب ولا ينجو مني غالب وأنا القوي الطالب فلما بلغ شيث حجة الله وتمت كلمة الله بالصحف خمسين صحيفة وخمسين كتاباً وقد ذكر الله صحف شيث وغيرها من الصحف فقال: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة} وقال: {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} حكمنا حق في الأولين والآخرين، وقال: لا تبديل لكلمات فأوحى الله إلى شيث أن اتخذ ابنك أنوش صفياً ووصياً فعلم إنه نعيت إليه نفسه فأوصى إلى ابنه انوش واستخلفه فلما بلغ تسعمائة سنة واثنتي عشرة سنة قبضه الله وولي أمر الله في الأرض ومن فيها انوش بن شيث فحكم بما في صحف شيث واسمه باللسان العبراني انوش بكسر الهمزة الألف والشين وتفسيره باللسان العربي إنسان واسمه باللسان السيرياني انوش بفتح الألف والشين وتفسيره باللسان العربي صادق فعمل في الأرض بطاعة الله حتى بلغ عمره تسعمائة وخمسين سنة، فلما بلغ العمر المسمى في الدعوة أوصى إلى ابنه قينان ثم قبضه الله عز وجل. (قينان): عبراني تفسيره باللسان العربي مشتري وكذلك اسمه بالسرياني، فعمل بأمر الله وقام بحق الله واسمه في الإنجيل واينان وتفسيره بالعربي عيسى. فلما بلغ من العمر غاية دعوة آدم وعاش تسعمائة سنة وعشر

سنين أوصى إلى مهليل ابنه، ومات قينان وولي الأمر ابنه. (مهليل): عبراني وتفسيره باللسان العربي ممدوح واسمه بالسرياني في الإنجيل مالالي وتفسيره بالعربي مسيح الله فصار بأمر الله قائماً فلما بلغ الغاية من العمر من دعوة آدم وعاش بضع مائة سنة وعشرين سنة أوصى إلى ابنه يارد: اسمه في التوراة عبراني وتفسيره بالعربي ضابط، واسمه في الإنجيل سرياني وتفسيره بالعربي هبط أي هبط في الأيام ثم قبض الله مهليل وولي الأمر في بني آدم يارد، فعمل بأمر الله فلما بلغ إلى غاية الدعوة وعاش تسعمائة سنة واثنين وستين سنة أوصى إلى ابنه (اخنوخ) ثم قبضه الله إليه. (واخنوخ): اسمه في التوراة عبراني وتفسيره بالعربي إدريس وهو إدريس عليه السلام، واخنوخ اسمه سرياني وأنزل في التوراة إنه حي إلى موت جميع الخلق وموت الملائكة فيذوق الموت حتماً مقضياً، وأنه عاش في الأرض ثلاث مائة سنة وخمساً وستين سنة ثم رفعه الله إلى السماء السابعة فهو مع الملائكة. وقال الله: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبيا ورفعناه مكاناً علياً}. وقال بعض أهل العلم: ورفعناه مكاناً علياً أي إنه رفعه في النسب مكاناً علياً أن ليس بعد آدم وشيث نبي غيره والله أعلم. قال وهب: إدريس النبي أول من كتب بيده من أهل الدنيا أنزل

عليه الكتاب السرياني وعلمه إياه جبريل. فأول من أنزل الله تبارك وتعالى عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} في صحيفة وبعده في الصحيفة مكتوب شهد الله إنه لا اله إلا هو. إلى آخر الآية ثم أنزل عليه أبجد إلى آخرها فكتب وقرأ ولما رفع الله إدريس استخلف ابنه متوشلح: عبراني تفسيره باللسان العربي مطلوق وهو بالسرياني متشالح وتفسيره بالعربي مات الرسول. فعمل متوشلح بأمر الله وحكم بحكم الله حتى بلغ علم المدة التي علم بها آدم فأوصى إلى ابنه لامخ. (لامخ): عبراني وهو بالعربي لمك وهو بالسرياني لامخ فبنى المصانع وتجبر واحتجب فلما رآه بنوه كذلك فعلوا كفعله ونافسوه ودافعوه، فعاش لامخ تسعمائة سنة وسبعاً وسبعين سنة ثم قبضه الله ومرج الناس وطغى بعضهم على بعض فبعث الله نوحاً (نوح) صلى الله عليه وسلم: هو نوح بن لامخ فدعا الناس والجن إلى طاعة الله وأنزل الله عليه صحيفتين بكتابين ودعاهم إلى ما في الصحف فعصوه وارتفع عنهم الغيث فقال لهم: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين}. قال وهب: وأوحى الله إلى نوح {لا تبتئس بما كانوا يفعلون} فإن حكم الله نافذ إلى يوم الوقت المعلوم فاصنع الفلك فكانوا يسخرون منه

ويقولون ترك الكذب وصار نجاراً فأقام نوح يدعو الثقلين الجن والإنس ألف سنة إلا خمسين عاماً فكان الآباء يوصون الأبناء بتكذيبه ويقولون لهم: لا تطيعوا هذا الشيخ الكذاب فانا أدركنا سلفنا يكذبونه، فأوصى الأبناء أبناء الأبناء بتكذيبه فكلما طاف الأرض يبلغ حجة الله فيأتيه وقت الحج فيرجع إلى البيت الحرام فيحج. فلما رأوه يفعل ذلك قالوا: لو هدمتم بيت نوح لكف عنكم فائتمروا بهدم البيت وخراب المسجد الحرام فهدموا البيت وخربوا آثار المسجد الحرام. فأوحى الله إلى نوح فقال له جبريل: يا نوح السلام يقرئك السلام، يا نوح جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا اشتد غضب الله وحقت كلمة العذاب على الكافرين لا ملجأ ولا منجا لأهل الأرض من عذاب ابنه احمل في السفينة من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم، فإذا رأيت التنور فاركب أنت ومن معك وكان الذي آمن معه سبعين رجلا. قال الله: {وما آمن معه إلا قليل} فلما رأى التنور ركب بالسبعين رجلاً بلا نساء معهم وركب بنوه سام وحام ويافث ونساءهم كن قد آمن، ثم رفعت الأرض ماءها وهرب ابن نوح الرابع إلى جبل فقال له نوح: يا بني آمن واركب معنا {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}، قال له نوح: {لا عاصم اليوم من أمر الله}. والعرب تجعل فاعل في موضع مفعول قال الله {في عيشة راضية} و {ماء دافق} أي مرضية ومدفوق. قال وهب: فآوى ابن نوح إلى جبل وهربت معه امرأة باينها فلما طما الماء على قنن الجبال وأخذها الماء جعلت المرأة ابنها على رأسها فلما ألجمها الماء جعلت ابنها تحت رجليها لتنجو ثم علاها الماء فغرقا وغرق ابن نوح. فأوى الله إلى نوح (لو كنت أرحم منهم أحداً لرحمت أم الطفل). ثم انهمرت

السماء بماء منهمر والتقى الماءان ماء الأرض وماء السماء. قال الله: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} ولو نزل الله ماء السماء على الأرض لأغرقها ولكنهما التقيا في الهواء ودار الماء على البيت وعلى المسجد فلم يعد وبقي ما فوقه هواء وأنه لما آن وقت الحج قذفت الرياح السفينة إلى البلد الحرام فطاف نوح بالبيت أسبوعاً ثم قال نوح لبنيه: إنكم في حج فاعتزلوا النساء فجعل نوح النساء بمعزل وجعل دون النساء رماداً وإن حام جاز إلى امرأته ليلاً فوطئها فلما أصبح نوح رأى الأثر في الرماد قال: من جاز إلى النساء؟ قالوا: لا نعلم من جاز. وكتمه حام. فقال نوح (اللهم سود وجهه ووجه ذرية من عصى ووطئ أهله) فولدت امرأة حام غلاماً أسود فسماه كوشا فعلم أن الدعوة أدركته. قال وهب: أقام الماء على الأرض أربعين عاماً وقال بعض الرواة أربعين يوماً ثم أمر الله السماء فأقلعت ماءها وأمر الأرض فغاصت ماءها ونزلت السفينة بنوح على الجودي فقال: {بعداً للقوم الظالمين}. قال وهب: وعاش نوح بعد الطوفان خمسمائة عام وإن السبعين رجلاً الذين كانوا معه في السفينة ماتوا بلا عقب وإنما أعقب بنو نوح الثلاثة سام وحام ويافث، فولد سام ارفخشد وارم وبنين كثيراً درجوا ودرج أبناءهم، فولد أرم: عوص فولد عوص عاد الأكبر، وولد عابر بن

نسب ولد حام

أرم فولد عابر ثموداً وطسم وولد آرم أيضاً لاوي فولد لاوي عملاقاً وريثاً وولد أيضاً فارساً ومارما، فولد فارس الفرس. وقال بعض الرواة أن طسم وجديش ورايش وعملاقاً أولاد من ابن ارم فأما بني ازفخشد فهم النخلة يعني نسبهم في نخلة النسب فاغنى عن أبنائهم هنا. نسب ولد حام ولد حام كوشا وماريع، فولد كوش الحبشة، ولد لماريح بن حام كنعان بن ماريع بن حام فولد بربر بن ماريع ونوبة بن ماريع، وولد حام قبط بن حام وسند بن حام وقول بن حام وعامور بن حام، وولد يافث عجلان بن يافث، وولد يافث عوجان بن يافث وبرجان بن يافث، فولد عجلان بن يافث ياجوج وماجوج والترك والخزر أولاد عجلان بن يافث، وولد عوجان بن يافث صقالب بن عوجان وسكس بن عوجان وقوط بن عوجان.

قال وهب بن منبه: ولما خلق الله الجنة جعلها خير معد لأوليائه وخلق الألسن فاختار لجنته من جميعها العربية وخلق بني آدم فاختار للعربية العرب. قال وهب: ولما أراد الله إتمام أمره وإظهار العربية أنزل كتاباً مقطعاً وهو: {شهد الله بالحق بسم الله الرحمن الرحيم شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. حكم الحي القيوم إنه إذا اعتكر الزمان وكثر النسيان وحكم في ذرية آدم الشيطان وغلب هذا اللسان فعبدت الأوثان وقتل الولدان بعث الله محمداً بالعدل والبيان يصدع بالقرآن وينصر الإيمان زمان ظهور السودان نبي لا نبي بعده ولم يخلف الله وعده. قال وهب قال جبريل يا نوح خذ هذه الصحيفة فإنها كنز لذريتك فاحبسها عنهم فانه من صارت له من ولدك القسلة تعلم إنه خير ولدك وذريته خير ذريتك محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يزل تبارك وتعالى ينقله من الأصلاب الطاهرة والمحتد الطيب حتى بعثه الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت الصحيفة عند نوح لا يعلم ما فيها حتى نعيت إليه نفسه فقال له جبريل: ساهم بين بنيك بني سام وحام ويافث فقال لهم نوح: اقترعوا على هذه الصحيفة فأيكم صارت له فهو خير ولدي وذريته خير ذريتي، فاقترعوا عليها فارت لسام فأخذها سام فصارت إليه وكانت في يدي سام ولا

يعلم ما فيها. (سام): تفسيره بالعربية اسما، ومات نوح وولي أمر أهل الأرض سام وهو وصي نو. وقال بعض أهل العلم: أن وصي نوح ابنه نون بن نوح. قال وهب: وكان سام جزوعاً من الموت فسأل نوح الله ألا يميته حتى يسأل الموت. فعاش أربعة آلاف عام نبي القين وعمّر ألفين وإن سام اعتل بنسمة فسأل ربه الموت فمات. قال وهب: أتى الحواريون عيسى بن مريم فقالوا له: يا روح الله وكلمته أرنا جدنا سام بن نوح ليزيدنا الله يقيناً فسار بهم عيسى إلى قبر سام فقال: أجب بإذن الله يا سام بن نوح فقام بقدرة الله كالنخلة السحوق قال له: كم عشت يا سام؟ قال له عشت أربعة آلاف سنة تنبيت ألفين وعمرت ألفين، قال له عيسى: فكيف كانت الدنيا هناك؟ قال له سام: كبيت ببابين دخلت من هذا وخرجت من هذا ثم أن ساع قرع بين أولاده في الصحيفة فصارت إلى ارفخشد فعلم سام إنه خير ولده فأوصى له واستخلفه وولي ارفخشد. وتفسير (ارفخشد) بالعربي مصباح مضيء، وارفخشد باللسان السرياني واسمه بالعبراني ارفخشاد، فعاش ارفخشد أربعمائة وثلاثاً وستين سنة فكانت الصحيفة عنده لا يعلم ما فيها وهو على دين الله فساهم بين بنيه فصارت الصحيفة بالسهم إلى شالخ بن ارفخشد وولي أمر الناس شالخ. وشالخ بالعربي وكيل وكان على حق والصحيفة لا يعلم ما فيها، فعاش

ثلاث مائة سنة وثلاثاً وستين سنة، فلما حضرته الوفاة ساهم بين بنيه فصارت الصحيفة إلى عابر بن شالخ فأوصى شالخ إلى ابنه عابر فولي أمر الناس عابر بالحق والعدل فبنى المجدل وحلب النهر والصحيفة عنده لا يعلم ما فيها حتى أراد الله تفرقة الألسن للذي سبق في علمه لظهور الحجة. قال الله {واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}. قال وهب: وإن عابر رأى في منامه كأن باباً من السماء فتح له ونزل منه ملك فأخذ بيديه فأقامه قائماً فشق صدره ونزع قلبه فشقه وغسله ثم أطبقه فعاد صحيحاً كما كان ثم رده في صدره وريده فعاد سوياً. فلما أصبح داخلته وحشة وهيام منها فتوارى عن أخوته وقومه وأنكره أهله وولده وامتنع من الطعام. فلما رأى إلى فراشه رأى كما رأى في الليلة الأولى، فرأى كأن الملك آتاه فأخذ بيديه وأقامه على نفسه ثم قال: هات الصحيفة يا عبر فأتى بالصحيفة عابر فقال له الملك: اقرأ يا عابر، قال له عابر: ما الذي اقرأ؟ قال: (اقرأ (شهد الله بالحق بسم الله الرحمن الرحيم شهد الله إنه لا إله إلا هو). إلى آخر الصحيفة ثم قرأها معه مراراً فلما أصبح عابر ازداد وحشة وفراراً من قومه، فقالوا: أن عابر خولط في عقله، فجعلوا يحرسونه وهو يتوارى عنهم بالصحيفة يتذاكر ما علمه الملك ويتدبر الأحرف بعقله وافتراقها كيف واتصالها كيف نهاره أجمع. فلما أوى إلى فراشه عادت

الرؤيا ثم أخذ الملك بيده فأقامه وقال هات الصحيفة يا عابر! فلما آتاه بها قال له: يا عابر أمر هذه الأحرف وسمها بما أعطاك لسانك وشفتاك ألا ترى أنك قلت باء بشفتك فسم حرف الباء، ثم قلت سين فهو سين، ثم قلت ميم توالي الحرف بالحرف يكن بسم. وكذلك سائر الحروف فتدبرها وسمها بما أعطاك لسانك وشفتاك لتسعد. فلما أفاق عابر تدبر الصحيفة كما رأى فسهل عليه أمرها وفتحت له قراءتها فقرأها وعلم ما فيها فدعا ابنه هود وهو هود النبي صلى الله عليه وسلم - فقال له: يا هود إن الله اختصني بعلم عظيم جليل القدر لنا به الشرف في الدنيا والآخرة، ثم أخرج الصحيفة فقرأها فقال له هود: يا أبت رأيت رؤيا كأن آتياً أتاني فأطعمني طعاماً فلما وصل إلى جوفي تضوع له من فمي نور ملأ ما بين المشرق والمغرب. قال له عابر: أنت يا بني صاحب الصحيفة سيقال لك وتقول فاحترس بما في يديك. ثم تبلبلت ألسن الخلق فأقاموا بالمجدل وبأرض بابل يموجون ويعالجون اللغات فسلبوا اللسان السرياني إلا أهل الجودي فإنهم لم يعتوج لهم لسان يتكلمون بالسرياني. وأجرى جبريل صلى الله عليه على كل لسان كل أمة لغة فنطق بالألسن العجمي والعربي وأفصح يعرب بالعربية وهود أبوه وفالغ بن عابر أخو هود بالجودي يتكلم بالسرياني، ويتكلم مع عابر جميع أخوته وبني عمه أرم بن سام ما خلا الفرس فإنها تكلمت بلسان أعجمي، وأما عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وراتش فإنهم نطقوا مع ابن عمهم عابر بالعربية فأدركتهم بركتها وشرفوا وتغلبوا على جميع من كان معهم من الألسن

حتى زهوا على الناس وأظهروا فيهم الطغيان وأشرفوا على الناس وكانوا كذلك إلى حين والناس إذ ذاك ببابل. قال وهب: ولما تغلب المتعربون من ولد سام بن نوح على الناس ببابل وطغوا عليهم وعاثوا فيهم، بعث الله إليهم أخاهم هوداً نبياً فدعاهم إلى طاعة الله فعتوا وهو قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً}. فإنه لما تغلب بنو عابر على جميع أهل الألسن وقهروا الناس، هبت الرياح الأربع الصبا والدبور والشمال والجنوب وهو أن تقف وتستقبل بوجهك مطلع الشمس فما هب عن وجهك فهو صبا وما هب عن يمينك فهو جنوب وما هب عن شمالك فهو شمال وما هب عن خلفك فهو دبور. قال وهب: ولما هبت لقوم تبعوا ريح الصبا أين سارت واقتدوا بها وهم بنو حام فساروا حتى نزلوا اليمن ولم يسم إذ ذاك يمن. ثم هبت بعدهم ريح فتبعها قوم من بني يافث وهم القوط فنزلوا بجوار بني حام والموضع الذي نزلت به بنو حام يسمى العالية والموضع الذي نزلت فيه بنو يافث يسمى الهيفاء، فعملوا الأرض وافتتحوها وغرسوا الثمار وأجروا الأنهار ثم تنافس بنو حام وبنو يافث فاقتتلوا فغلب بنو حام على بني يافث وملكوهم وأجروا عليهم الخراج، والقوط أول من أدى الخراج على الأرض من ولد نوح، وفي ذلك كله هود يدعو الناس ببابل إلى الله ثم أن هوداً رأى رؤيا كأن

آتياً أتاه فقال له: يا هود إذا ضربت رائحة المسك إليك أو إلى أحد من ولدك من ناحية من نواحي الأرض فليتبع من وجد رائحة المسلك ذلك النسيم حتى إذا كف عنه فذلك مستقره وللناس سعى ولله فيه علم وقضاء سبق ذلك فجاء مكنون علم الله. فقص الرؤيا هود صلى الله عليه وسلم على ولده وقومه. ثم آتاه آت في الليلة الثانية فقال له: يا هوج من وجد رائحة المسك اتبعه فإنه يفضي به إلى خير بلد الله وفيه بيته العتيق وحرمه وهو البيت الذي بناه آدم والملائكة ورفعه الله من الطوفان. وقال بعض الرواة: بل هدمه ثوم نوح. فأقام هود ببابل على الرجاء فلا يجد شيئاً وهو يدعو الناس المتقربين من ولد سام بن نوح عاد أو ثمود وطسماً وجديساً وراتشاً وعملاقاً وبني ارفخشد بن سام وعاد وإخوانهم بنو أرم بن سام ببابل. قال وهب: وإن يعرب بن قحطان بن هود النبي عليه السلام وجد رائحة المسك فقال له هود: دانت ميمون النقيبة يا يعرب أنت أيمن ولدي مر فإذا سكن عنك ما تجد فانزل على اليمن ولا تمر فإنها لك خير وطن وجاور بيت الله يا خير جوار. فصار يعرب بمن تبعه من بني قحطان وبني عابر ومن خف معه من بني ارفخشد فساروا في جمع عظيم ووجوه أهل بابل وكان يعرف وسيماً كريماً أفضل غلام ببابل وقال في ذلك: أنا ابن قحطان الهمام الأقيل ... لست لكاك ولا مؤمل يا قوم سيروا في الرحيل الأول ... قحطاننا الأوفر غير الأرذل

إني أنادي باللسان المسهل ... بالمنطق الأبين غير المشكل ومنطق الأملاك بعدي الكمل ... حسرت والأمة في تبليل أجرى بعين الشمس في تمهل ... لا قهر الأملاك بالتفضل عن قول نوح غير ذي تغزل ... وقول نوح ذاك علم الفيصل يرجى لتعقيب الزمان الأحول ... زمان ذي الوحي الكريم المفصّل محمد الهادي النبي المرسل ... والناس عند سبقنا بمعزل عن خير قول قلته وأجمل ... لله در الماجد المستقبل قوله بمنطق الأملاك يعدي الكمل: طعن في علم ما يكون بعده أراد منطق التبابعة من ولده وأراد بقوله الزمان الأهول بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه يحارب الجار جاره ويعادي المرء كلبه ووالده وأمه. قال وهب: وقوله عن قول نوح - يريد الصحيفة كنز ذرية سام - ثم سكنت عنه رائحة المسك على رأس العالية فنزل بجوار بني حام فشاجره بنو حام كما فعلوا ببني يافث فرجعوا إلى يعرب وبني عابر اللذين معه فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم يعرب ونفاهم إلى غربي الأرض فآتاه بنو يافث مذعنين فأمرهم بالإقامة ورفع عنهم الخراج الذي كانوا يؤدونه إلى بني حام. قال وهب: وورث يعرب أرض اليمن. قال وهب: اسم (يعرب) يمن ولذلك قيل أرض يمن وأقام يعرب

بها يغرس الثمار ويجري الأنهار. وكان يعرب أول من قال شعر ووزنه وذهب في جميع الأعاريض ومدح ووصف وقص وشيب فتعلم منه أخوته وبنو عمه حتى وصل الأمر إلى المتعربين ببابل عاد وثمود وطسم وعملاق وراتش فاستطابوا الشعر وخف على ألسنتهم وراموا قوله فنسج لهم قوله. قال وهب: وبلغ عادا ما يعرب فيه هو وبنو أبيه من النعمة ورفد العيش وكان شخص مع يعرب من بابل إلى أرض يمن رجل من عاد يقال له رقيم ابن عويل بن الجماهر بن عوص بن أرم فلما رأى يعر ومن معه في أمن وسعة ورغد من عيشهم حسدهم وكان يعرب يرى الأسباب في منامه وكان يخبر بها قومه ليكون الذي رأى رواية - رأى أن آتياً آتاه فقال له: يا يعرب هلا جعلت نقباً في الجبل الأغر من أرض برهوث في غربي الأرض فإنه معدن عقيان وأفقر شرقيه فإنه معدن لحين ففعل ثم إنه يرى ويستخرج معدن الجوهر من العقيق والجوهر فكبر اللجين والعقيان في أرض يمن وإنما زيد في يمن الألف واللام لصلة الكلام، وإن رقيم بن عويل لما رأى أرض اليمن أتى قومه عاداً وكان فيهم رأساً فجمع عاداً ثم أخبرهم بما فيه بنو قحطان مع يعرب وأنكم ها هنا لستم على شيء وأعنتم على أنفسكم هوداً بكل من غشيم عليه وقهرتموه من جميع الناس فصاروا يداً عليكم مع هود ولكن

لاينوا هوداً وأعطوه عقوداً حتى يلين لكم ثم اخرجوا إلى اليمن وانزلوا ناحية منها واسألوا أخوانكم الجوار فإذا سكنتم كنتم من وراء أمركم فويل للمنزول عليه من النازل. قال وهب: فأوحى الله إلى هود يخادعونك والله من ورائهم محيط أعطهم ما سألوا فاني لا أخشى فوتاً فوعزتي وجلالي ما ينتقلون إلا من أرضي إلى أرضي ولا يفرون من قدرتي إلا إلى قدرتي. فأعطاهم هود ما سألوه ورفعوا إلى اليمن فنزلوا بالأحقاف فلما نزلوا الأحقاف لم يتعرض لهم يعرب بشيء وقال لقومه: أخوانكم لجئوا إليكم فقال لهم رقيم: تحرموا عليهم الديون حتى يقاتلوكم فإذا طفرتم بهم قويتم على حرب هود بقتلكم ذريته فليس لأحد بكم طاقة وذلك إن الله خلقهم خلقاً عظيماً. قال الله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد} أي ذات الأصلاب الطوال التي لم يخلق مثلها في البلاد ثم إن عاداً شاجرت يعرب وبني قحطان وتسببوا إليهم للحرب. فقال يعرب: يا بني قحطان إن كان أعطى الله عاداً أعظم الأجسام فقد أعطاكم الصبر والجلد فقاتلوهم بإذن الله تعالى ثم التقى بنو قحطان ويعرب ومن معهم مع عاد بموضع من اليمن يقال له بارق بين الأحقاف والعالية فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزمهم يعرب وقتلهم مقتلة عظيمة فقال يعرب في ذلك: لعمري لقد شادت على الدهر خطبة ... سيوف بني قحطان في يوم بارق

لقد حضرت عاد إلى الموت ضحوة ... وللمرهفات الغر فوق العواتق دلفنا إلى عاد بجمع كأنه ... على الأرض يعدو كالسيول الدوافق أرادوا دفاع الله والله غالبٌ ... فكن عليهم منه إحدى الصواعق لنا لجة وسط العجاج يُرى لها ... على فارسات الصبر حر الودائق إذا عججوا أو لججوا خلت جمعهم ... صخوراً تدلت من رؤوس الشواهق بكل فتى ماضٍ على الهول باسقٍ ... يلاقي المنايا بالسيوف البوارق نفينا بني حام عن الأرض عنوة ... إلى الجانب الغربي رجم المضايق لنا شرفات العز من حصن عابر ... علونا بها عن كل بان وسابق أبونا هو الهادي النبي الذي له ... على أمم الدنيا عهود المواثق سمونا إلى هود ومن كان مثلنا ... يقول بفخر واضح النور صادق قال وهب: وإن الله أنزل على هود صحيفة أمره فيها بالحج إلى البيت الحرام وأنزل عليه ما بقي على أبيه من العربة وأنزل عليه (اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ع غ س ش هـ ولا ي) فأنزل لها تسعة وعشرين حرفاً ولذلك علا اللسان العربي على جميع الألسن لأن كل لسان من الألسن مثل العبراني والسرياني إنما هو اثنان وعشرون حرفاً، وأنزل عليه - يا هو أن الله قد آثرك أنت وذريتك بسيد الكلام وبهذا الكلام يكون لك ولذريتك من بعدك استطالة وقدرة وفضيلة على جميع العباد إلى يوم القيامة ويجري هذا الكلام فيهم أبد الأبد حتى يختم بنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آخره في الأصلاب الطاهرات يخرجه من صلب إلى صلب نبي مطهر ثم يخرج من ولد أخيك فالغ على عشر آباء من نوح إليه.

قال وهب: فحج هود وقحطان ابنه ولحق بهم بمكة يعرب بن قحطان وحج معه يعرب بن قحطان والبيت مهدوم، فإذا مر بموضع الحجر الأسود وهو مدفون أومأ إليه واستلم فقضى حجه. فقال يعرب: أتأمرني يا رسول الله أبنيه قال له: لا قد أخر الله أمره يبنيه ويبني معه النبي بعده وتعينه الملائكة وذلك قول الله {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} (وقال} وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}. قال وهب: نبي معه إسماعيل. قال وهب: ثم أن رأس عاد وهو عاد بن رقيم بن عابر بن عوص بن ارم قال لرقيم: أنت مشئوم ورأيك نكد دعوتنا إلى حرب يعرب ولم يردونا بسوء فلما قتل عاد أدرك الجزع فلبست الذل وإن ملك عاد عاد بن رقيم دعاه إلى حرب يعرب وأنشأ يقول: ألا يا عاد ويحكم فسيروا ... إلى العلياء واحتملوا برشد لقد ظفرت بنو قحطان منا ... بيوم طالع من غير سعد لقد نزلوا البلاد فأوطنوها ... وكانوا في المحافل غير جند ولينوا في مداهنة لهود ... فقد صرتم إلى ذل وجهد وداروه ومن يهوى هواه ... ليرضى من سجيتكم بود وفي غب النفوس يكون غلا ... دفينا في الصدور له بحقد

فأجابوه إلى المسير وخرجوا إلى حربه ويعرب بمكة ومعه وجوه بني قحطان وحملة أمورهم فلما برزت عاد أنشأ يقول عاد بن رقيم: يا قوم أجيبوا صوت ذا المنادي ... سيروا إليهم غير ما أرواد إني أنا عاد الطويل النادي ... وسام جدي غير جد هادي سيروا إلى أرض بذي اطواد ... بنهد أرض في ثرى الثماد اذ يعرب سار على الجياد ... يظهر قفر أو ببطن وادي قد شد من قبل على الآساد ... حتى سبا وعاث في البلاد قوموا ليشهد خافق الفؤاد ... ويلق منا صولة الأعادي يرمي إلينا مرسن القياد وبلغ بنو قحطان خروج عاد بقومه فعادوا إليهم فخرجوا والتقوا ببارق فاقتتلوا قتالاً شديداً ونال بعضهم من بعض فكان بينهم قتل عظيم وبلغ ذلك يعرب بمكة فأمره هود بالانصراف إلى اليمن، فلما جاءهم يعرب تهيأ للزحف إلى عاد وإن الله أمر هود بالمسير إلى اليمن لينذر عاداً ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى. فسار هود حتى نزل بجوار الأحقاف بموضع يقال له الهنيبق وأمر يعرب فكف عما كان عليه من حرب عاد ودعا عاداً إلى الله تعالى ووعدهم الجنة إن هم أطاعوا الله وخوفهم بالنار إن هم لجوا وتمادوا على ما هم عليه من الكفر فقالوا له: صف لنا هذه الجنة التي وعدتنا؟ فقال

لهم: هي جنة بناؤها بطون العقيان وطينها لجين وفيها حور العين أبكار والفواكه الدائمة التي لا تنقطع والأنهار من كل الأشربة تجري بين القصور تحتها والغرف المبنية من الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والزبرجد وقيعانها من فتيت المسك والكافور والزعفران. قالوا: فصف لنا النار؟ قال لهم: هي سوداء مظلمة مدلهمة وهي طبقات الهاوية والحجيم ولظاً وجهنم والسعير وأوديتها موبق والزمهرير وطعامها الزقوم من أكله سالت عيناه وأحرق حشاه وشرابها الغسلين يتساقط منها لحم الوجوه قبل أن يصل إلى أفواه الشاربين مع مقاربة الزبانية المعذبين. فقالوا وهذا هود قد وصف لنا ولكن أرسلوا إليه وفداً من أهل الرياسة والشرف والعقول يسألونه أن يريهم الجنة ويريهم النار؟ فأجمع أمرهم على ذلك فأرسلوا ألف رجل وفداً. فقال لهم ملكهم عاد بن رقيم: اسألوه أن يريكم هذه الجنة وسموها على اسم جدكم أرم بن سام بن نوح فيكون اسم جدكم موجوداً مذكوراً أبداً ويكون له به فضيلة على الخلق أجمعين وينسى اسم جدهم ارفخشد فيكون لكم علواً ولهم ضعة إلى آخر الدهر. فبعثوا منهم رجلاً من أهل الشرف والرياسة والمنطق يقال له البعيث بن وقاد بن خضرم بن هاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، فوفد البعيث على هود مع ألف رجل فقال له: يا هود أنت وعدتنا بالجنة ووصفتها لنا وأوعدتنا بالنار ووصفتها لنا في الآخرة وخير

هذه الدنيا قد رأيناه فلسنا تاركين الحاضر للغائب بقول قائل صادق أو كاذب فنحن من قولك في شك أو تبين ما قلت من جنة أو نار وإلا فأنت كاذب وإنا رأينا حور الدنيا وفواكه الدنيا، ثم وصفت لنا ما هو أحسن من هذا فحقيق على من كان له لب أن يرغب فيما وصفت ثم رأينا نار الدنيا محرقة فزعمت أن تلك النار أشد إحراقاً وظلماً فحقيق لمن خوفته بها أن يخافها فاخرج لنا مدينة نسكنها ونسميها على اسم أبينا أرم بن سام بن نوح تكون لنا فضيلة إلى آخر الأبد واخرج لنا ناراً نتعظ بها ونزداد فيما دعوتنا إليه رغبة وتخرج لنا حيث نريد - وهم يسألونه ذلك على وجه الاستهزاء به وأنه لا يقدر على ذلك - فقال لهم هود: سألتم أمراً وهو يسير عليه ولكن أخشى عليكم أن لا تقوموا لله بوفاء العهود وإنما يقول له كن فيكون فإن عصيتم الآية قال: لما يهلككم كن فيكون فاذهب يا بعيث مع أصحابك فخذوا عهودهم لله ثم أعلموهم أن هم أعطاهم الله سوء لهم أن كذبوا أن الله يهلكهم بمثلة تكون عبرة للعابرين فرجع البعيث والذين معه فقال للملك ولعاد البعيث: لقد جئتكم من عنج هود بقصة ... وما عنده قول إلى الحق يتبع دعاكم لأمر ليس فيه حقيقة ... وما فيه شيء للجماعة ينفع دعاكم لآمال غرور بعيدة ... وترك الذي يهوى ألذ وأنفع كتمت له في النفس مني جوابه ... وظني به يا عاد يخدع واني مشير فيكم بنصيحة ... وإن أصبحت عاد تطيع وتسمع فإن تقبلوا رأي تنالوا سعادة ... خذوه برشد في الذي قال أو دعوا

ذروني أقل من قبل يبدأ قائل ... فاني له إن قلت بالفلج أطمع قال له عاد: ما رأيك يا بعيث؟ قال له: نسير إلى هود فنسأله أن يخرج لنا هذه المدينة في الحفيف. وهو واد يسيل ويخرج من بين جبال وجرز وعود شعث والحفيف نهر يسير ليلاً ونهاراً بالرمل يتيهأ بالرياح العواصف. فخرج من عاد ثلاثة آلاف وفدا إلى هود، فاتوا هوداً فقالوا له: يا هود اخرج لنا هذه المدينة على عهد الله علينا وعلى قومنا أن نؤمن وأخرجها لنا بنهر الحفيف؟ فسار معهم حتى وقفوا على الحفيف. فقال لهم هود: اذهبوا عني إلى نجاد الأحقاف فإذا هب لكم نسيم المسك أقبلتم إلي. فذهبوا وناجى هود ربه فأخرجها الله لهم قصور الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والدر والزبر جد وقصوراً مبنية بلبن اللجين والعقيان وقيعانها بالمسك والكافور والزعفران. فلما رأوا ذلك عشيت أبصارهم وخشعت قلوبهم وداخل قلوبهم منها رعب ورقي إليهم منها نور كشعاع الشمس. فقال لهم هود: هذه التي اسمها أرم على أسم أبيكم فإن آمنتم كان لكم بها فضيلة على الخلق إلى يوم القيامة وإن رغبتم فإن الله قوي عزيز يهلككم كما أهلك من قبلكم ممن كان أشد منكم عتواً في الأرض، فأنا أعلم أنكم لم تؤمنوا ولن يراها أحد من خلق الله إلا رجل من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال وهب بن منبه: رآها تميم الداري زمان عمر بن الخطاب، ثم هموا بدخولها فعميت أبصارهم واقشعرت جلودهم فولوا مدبرين، فقال لهم ميسعان بن عفير: ويحكم آمنوا فإنها آية من الله، فقالوا: أن هوداً

لساحر من سحرة أرض بابل، قال لهم ميسعان: آمنت بما جاء به هود، ثم ساروا ومعهم ميسعان يعظهم حتى بلغوا موضعاً يقال له لكنة المعتال فأنزل الله عليهم ناراً بريح صرصر عاتية فأحرقتهم وخلص ميسعان فلذلك الموضع يسمى الحرقانهة إلى اليوم فانطلق ميسعان سالماً حتى أتى عاداً ليلاً أول رقده فاستوى على شرف من رمل ونادى بأعلى صوته وهو يقول شعراً: قد منحت القوم رشداً ناصحاً ... فأبى لي النصح من قد وفدوا آمنوا بالله وارضوا بالذي ... قال هود يال قوم اعبدوا بعد أن ساروا وسألوا آية ... فرضوها بعد عقد عقدوا جعلوا الآية فيهم نسبا ... كانتساب الأب لما وردوا ثم قالوا إنما هم أرم ... وهي بحر عليها وكدوا فرضي هود بما قالوا معا ... فسني المسك ولاح العمد قد رضوها فرأوها نسبا ... واليها بعد عاد قصدوا ثم خانوا بعد صلح ورضي ... وعهود لنبي عهدوا إنما مهرج شؤم وبه ... عن هوى هود لعمري عمدوا حلت النار لهم فاحترقوا ... وكذا النار عليهم تقدُ أوقد النار عليهم خيرهم ... ما نجا غيري منهم أحد ويل عاد يا ويل لهم ... قدموا شيئاً فها هم وجدوا

ومهرج هو الذي أمرهم أن لا يؤمنوا لهود، وأنها لما سمعت عاد ميسعان ثاروا عليه في جوف الليل فقص عليهم ما كان من شأنهم فصاروا إليه يداً واحدة وقالوا له: يا ميسعان لقد دلنا شعرك على هوجك ولقد أعميت على وفدنا بالهوى. ولميسعان منعة بأخوته وولده وقومه فكرهوا أن يسرعوا إليه بسوء حتى يعذروا إلى قومه، فلما أعذروا إليهم قال له قومه: يا ميسعان ما حملك على خلاف جماعة قوم عاد؟ قال لهم ميسعان: لقد أوضحت لهم المنهاج أنرت لهم السراج لئلا يجهلوا الحق لاشتباه الفتنة وتخليط العمى أني رأيت آية باهرة للعقول أقام الله علينا بها حجة ثم صدرنا إلى قومنا منذرين لهم فرجعوا عنه إلى جماعة يعتذرون عنه فكفت عنه عاد فقال لهم هجال بن رفيدة: يا معشر عاد عليكم بهود فلاينوه حتى يسكن جأشكم فإن مصيبتكم بما حل في وفدكم عظيمة. قال لهم ميسعان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ثم سيروا إليه في الهنيبق نستبدل ما هو خير بما هو أدنى. قالوا له: لا حاجة لنا بقولك يا ميسعان فأنشأ ميسعان يقول شعراً: إلى جزع الهنيبق عاد سيري ... توفي الأمن والرأي المبينا وتبدو لي الحرون وحقف رمل ... وتترك بارقاً أبداً حزينا وترتحلي إلى بلد كريم ... وتتخذي المصانع والعيونا من الماء المعين وكل غرس ... بها ترضونه عنباً وتينا وتتخذون فاكهة وزرعا ... وماء في جعافره معينا ترون برأيكم فيها بحزم ... إذا ما كان رأيكم مبينا وإن عاداً عملت مهداً فاسداً للماء غرسوا تحته الجنات فكانت عجيبة بها

من جميع الفواكه والزرع، وأقاموا على ملاينتهم لهود حولين كاملين يرجو إيمانهم وهم من ذلك في حيرة ويعرب معتزل لحربهم فأرسل إلى هود أن عادا قد مردت وأصرت فأذن لي في حربهم فأرسل إليه هود أن أمر الله أعظم من حربك فكف. قال وهب: وإن الله تبارك وتعالى رفع عن عاد الغيث عامين العامين اللذين هادنوا فيها هوداً فهلكت زروعهم وأسرع الهلاك في جناتهم وهلكت أنعامهم وأسرع الهلاك في أموالهم فأتوا إلى ملكهم عاد فشكوا إليه ما نزل بهم فقال: استسقوا فقصدوا إلى شيخ لهم يقال له قيل بن عنز كان طلق اللسان خطيباً فقدموه وخرجوا خلفه فأنشأ أبو الهجال يقول: ألا يا قيل ويحك قم فهنيم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد أن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما فما ترجو بها غرساً وزرعاً ... ولا الشيخ الكبير ولا الغلاما ثم أن عاداً أرسلت إلى هود فشكت إليه ما نزل بها من القحط، فقال لهم هو دان: الله يرسل عليكم ثلاث سحابات: سحابة صفراء وسحابة حمراء وسحابة سوداء ويخيركم في إحداهن فاختاروا لأنفسكم ما شئتم؟ فرجعوا إلى قومهم فأعلموهم بقول هود. ثم أن الله أرسل ثلاث سحابات: سحابة صفراء وسحابة حمراء وسحابة سوداء فأقامت عليهم ثلاثة أيام معلقة من جهة المغرب فأرسلوا إلى هود: أنا قد اخترنا السوداء ولا حاجة لنا في الصفراء والحمراء. قال لهم: إن الله يرسلها عليكم واضمحلت الصفراء وذهبت ثم تبعتها الحمراء ثم أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً أحمت الشجر

ولونت الزرع، وكان درب العرب في الغربي من اليمن وكان في الدرب ثلاثة فجوج فنفحت عليهم من الفج الأوسط من الدرب فذلك الفج يسمى إلى اليوم فج العقيم وكان في طاعة عاد خمس مائة رجل طوال الأجسام - كما ذكر الله - فخرج منهم ثلاث مائة رجل إلى الفج يريدون يبنون الفج لدفع الريح وتعسكر الباقون إلى هود لئلا من خلفهم وبينهم وبينه ثلاثة أيام، وبينهم وبين يعرب شهران، وإن عاد بن رقيم ملكهم انتصب إلى هود بعاد وتكفل الطوال بالفج فجعلوا إذا وضعوا حجراً قلبته الريح، فقالوا: اجعلوا رجالاً منكم يردون الريح عن البناء حيث يثبت، فقدموا الخلخال وكان أطول عاد جسماً وأشدهم بطشاً، وخرج إليه هازل بن غسان فأمسك عنهم الريح وأسسوا بنيانهن إلى آخر النهار فعصفت الريح وصرصرت فأخذت رأس الخلخال وهازل فنزعت رؤوسهما بقلوبهما وأكبادهما وحشاً أجوافهما فرمت بهما وألقت أجسامهما وبقي الأساس على حاله لما أراد الله من هلاكهم وكان ذلك يوم الأحد ثم أرسل الله الريح يوم الاثنين أول النهار لينة لما أراد الله من هلاكهم ويجعلهم مثلاً للأولين والآخرين وعبرة للعابرين فلما غدوا الفج قلبت الريح الحجر فأخرجوا شداد بن حمام والأمنع بن اصبغ إلى آخر نهارهم فهبت الريح وصرصرت ثم أخذت رؤوسهما فنزعتهما بالأحشاء وألقت بأجسامهما ثم قام يوم الثلاثاء سجار بن الهيعقان

ومبدع بن قفال فنزل بهم مثل ما نزل بأولئك، ثم قام يوم الأربعاء يافث بن شرعب وسلاب بن الهيلجان فمثل ذلك، ثم قام يوم الخميس شرس ين عقاب وسجيل بن واغل فمثل ذلك، ثم قام يوم الجمعة تبان بن واقد وميدعان بن السبل فمثل ذلك، ثم قام يوم السبت سرحان بن عنبل وعامر ابن سالف فمثل ذلك، ثم قام يوم الأحد الرفصان بن هزيم فمثل ذلك، وخلفه الهندوان بن العميل فمثل ذلك، فاشتدت الريح وصرصرت لتمام سبع ليال وثمانية أيام فعصفت الريح وصرصرت فلم تدع منهم أحداً وهدمت الجبال وخددت الأرض وحطمت الشجر وأخذت الحجر كما قال الله تبارك وتعالى: {وفي عاد أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} فأخرجتهم من الكهوف والقنون فكانوا كما قال الله {وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما}، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية)، فلم يبق منهم إلا ميسعان بن عفير وبنوه الذين آمنوا معه وإنهم لعلى الدنيا إلى اليوم ولم يبق من الكافرين أحد فقال في ذلك ميسعان: ألم تر الريح العقيم إلا يدا ... والعارض العراض فيها الأسودا تمطر بالنار وتهمي باردي ... تخدد الأرض وتذري الجلمدا

أرسلها صرا عليهم سرمدا ... أضحت بها عاد رمادا أرمدا فلم تدع في الأرض منهم أحداً ... إلا هشيماً بالمنايا والردا قال وهب: وإن الله أنزل على هود أربع صحف، ثم أن الله تبارك وتعالى قبض هوداً ودفن بالأحقاف بموضع منه يقال له الهنيبق بجوار الحفيف فإن نهر الحفيف أخرج الله فيه الماء المعين وغرست فيه الثمار من يوم أخرج الله فيه آية هود. قال وهب: عن ابن عباس: أن هود النبي عليه صلى الله وسلم أرى عاداً الآيتين الجنة فأما النار فرأوها في وادي برهوت وزعم أن ببرهوت عيناً من عيون جهنم، وإن جهنم في أرض المغرب يسكن عليها شرار خلق الله وهم الحبشة. قال وهب: وأراهم الجنة بنهر الحفيف - قال: وصار أمر هود إلى وصيه ابنه (قحطان). فقام قحطان بأمر الله وهو خليفة هود وانه تغلب بأذربيجان الاسكنان بن جاموس بن جلهم بن شاد بن عجلجان بن يافث بن نوح على جميع الألسن ببابل بعد هود طسم وعملاق فهربت بنو عملاق إلى بيت مكة إلى جوار قحطان ولحقت بهم رائش وتبعتهم طسم وجديس فنزلوا اليمامة ورحلت ثمود ونزلوا بمأرب من أرض اليمن وشكوا إلى قحطان ما نزل بهم من الاسكنان بن جاموس فجمع قحطان أهل اللسان العربي وزحف إلى بابل يريد الاسكنان بأذربيجان وانتصب له الاسكنان في بني يافث فلقيه قحطان فهزمه وقتل الاسكنان وفضت جموعه من بني يافث إلى أرض أرمينية وإلى ما خلفها من الأرض وما والاها وهربت القوط

والسكس والإفرنج وهم بنو عرجان بن يافث ولحق بهم أخوتهم الصقالب بنو عرجان بن يافث. قال وهب: وكان قد تملك بيت المقدس وملك الشام ونمرود بن كنعان ابن ماريع بن كنعان بن حام بن نوح وأنه زحف إلى بيت المقدس وقحطان بسمرقند، فلم يكن لبني عملاق به طاقة فأجابوه ودافعه رائش بن لاوذ ابن سام بن نوح فقتلهما فمن بقي من رائش صاروا في إخوانهم عملاق في آخر الدهر. فأول قبيل انقطع عن الدنيا من ولد ارم بن سام عاد ورائش وبلغ قحطان خبر نمرود بن كنعان فأقبل إليه بجموعه فلم يستطع بنو حام مدافعة بني سام ومن لف إليهم من بني يافث فهربت النوبة والفرار إلى المغرب فنزلت النوبة والفراور بجوار القوط من بني يافث ولكنهم تقربوا إلى المغرب وكان القوط قبل ذلك باليمن فتبعتهم عاد إلى الشام وهربوا من قحطان إلى المغرب وإن قحطان لما نزلوا على بني كنعان ببيت المقدس وخذلهم إخوانهم من بني حام ورحلوا عنهم القوط فنزلوا على النيل أخذ نمروداً أسيراً فقتله وصلبه ببيت المقدس وكان النمرود بن كنعان أول قتيل صلب. ثم حج قحطان ورجع إلى اليمن فعاش مدة طويلة ثم مات بمأرب، وولي أمره ابنه يعرب بن قحطان، وكان ولي الملك من ولد قحطان لصلبه عشرة إلا أنهم من تحت ملك أخيهم يعرب بن قحطان وهم: جرهم بن قحطان وعاد بن قحطان وناعم بن قحطان وحضرموت بن قحطان وظالم بن قحطان وغاشم بن قحطان وأيمن بن قحطان وقطان بن قحطان والسلف بن قحطان وهميسع بن قحطان. فولي جرهم بن قحطان أمر مكة فنتملك أمر من كان بها، وولي عاد بن قحطان أرض بابل، وولي حضرموت بن قحطان أرض الحبشة، وولي ناعم بن قحطان عمان.

وولي أيمن بن قحطان الجزيرة، فلم يكن من هؤلاء من لم ينل الملك، ويعرب يملكهم ذلك، وعاش يعرب مدة طويلة ثم مات فولي (يشجب بن يعرب) بعد أبيه وكان سقيماً فدام به السقم حيناً ثم مات ولم يعمر في الملك. فلما مات يشجب ادعى كل رجل شريف من بني عابر الملك وأراد أن يتمنع ومرج أمر الناس فقام (عبد شمس بن يشجب) فجمع بني قحطان وبني هود فملكوه على أنفسهم. قال وهب: فلما ملك عبد شمس قال: يا بني قحطان إنكم ألا تقاتلوا الناس قاتلوكم وألا تغزوهم ولم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ركبتهم الذلة، فاغزوا الناس قبل أن يغزوكم وقاتلوهم قبل ان يقاتلوكم واعلموا أن الصبر فوز والعمل مجد والأمل منهل فمن صبر أدرك ومن فعل فاز فلتطب أنفسكم لغزو الأمم يعز غابركم، ففي الصبر النجاة وفي الجزع الدرك، ولا تغشكم الدعة فيطول داءكم والرأي اليوم لا غد وهو رزق مطلوب فواجد ومحروم فاعتمدوا العزم وكل ما هو كائن كائن وكل جميع بائن والدهر صرفان صرف رخاء وصرف بلاء والدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإن أدر يوم من يوميك فلا تقنط من الرجاء في يوم معقب، وإن الناس رجلان رجل لك ورجل عليك والزمان دول له حين ينصر وحين يغدر - والناس مجتهدون فمن لقي رشداً كان محموداً ومن لقي غياً كان مذموماً ورأى الناس منتظرين كل محتال لثواقب الدهر غير محتال للموت والتجارب علم والعزم عون وكل هذا الناس ينو الدنيا صحبوا أقدارها خيراً وشراً راجين خائفين ليس أحد آخذاً منها عهداً ولا آمناً غدراً قاصدين أجداداً حتمت وأقداراً قسمت حتمها غير نائم وقسمها من لا يلومه لائم فقد

يسعى المرء إلى الميقات يوم فيه فراق الدنيا أو بلوغ العليا والدنيا صاحبة الغالب وعدوة المغلوب والصبر باب العز والجزع بابا الذل ليس جمع خيراً من جمع ولكن جد خير من جد ولرب حيلة أزكى من قوة وكيد أسرع عياناً من جيش والأمل الخالب ولقدر الغالب والمرء الحازم من كيس دهره خالس) محملاً في بادله اقتصاده في دوله قدر ولم ينظر وبلى يخذل حذر من دهره ما لم ينزل به شرف همته بمحل النجم لم يرض من الزمان بأيسر خطة فلا تصحبوا التواني فإنه شر صاحب ولا ترضوا بالمنى فإنه مراتع العاجزين ولا تقروا على ضيم فإنه مصارع الأذلاء فقوموا قبل أن تمنعوا القيام. قال وهب: فأجابوه فسار إلى أرض بابل فافتتحها وقتل من كان بها من البوار حتى بلغ أرض أرمينية وافتتح أرض بني يافث، ثم أراد أن يعبر نهر الأردن يريد الشام فلم يستطع ذلك، فقيل له: إياها الملك ليس لك مجاز غير الرجوع في طريقك فبنى قنطرة سنجة وهي من أوابد الدنيا وجاز عليها إلى الشام، والشام اسم أعجمي من لغة حام وهو طيب تفسيره بالعربي فأخذ الشام إلى الدرب ولم يكن خلف الدرب أحد ثم نهض إلى المغرب فبلغ النيل فنزل عليه فدعا أهل مشورته، ثم قال: لهم إني رأيت أن أبني مصراً بين هذين البحرين يكون صلة بين المشرق والمغرب فإنه يلجأ إليه أهل المشرق والمغرب، قالوا له: نعم الرأي أيها الملك. فبنى المدينة وسميت مصر - كما قال لهم - وبنو حام بالمغرب سكنوا براري مصر فوصل إلى قمونية والقوط من ولد يافث بقمونية.

قال وهب: وإن عبد شمس كل من قتل من الأمم سبى ذراريهم وعيالاتهم، ولذلك سمى سبأ، وإن سبأ ولي على مصر ابنه بابليون وإليه تنسب مصر لملكه عليها ثم انصرف سبأ عبد شمس يريد مكة فسار بالعساكر على الشام وأوصى ابنه بابليون وأنشأ يقول: ألا قل لبابليون والقول حكمة ... ملكت زمام الشرق والغرب فأجمل وخذ لبني حام من الأمر وسطه ... فإن صدفوا يوماً عن الحق فاقتل وإن جنحوا بالقول للرفق طاعة ... يريدون وجه الحق والعدل فاعدل ولا تظهرن الرأي في الناس يجتروا ... عليك به واجعله ضربة فيصل ولا تأخذن المال من غير وجهه ... فإنك أن تأخذه بالرفق تسهل ولا تتلفن المال في غير حقه ... وإن جاء ما لابد منه فابذل وداو ذوي الأحقاد بالسيف إنه ... متى يلق منك السيف ذو الحقد يعقل وخذ لذوي الإحسان ليناً وشدة ... ولا تك جباراً عليهم وأمهل وكن لسؤال الناس غيثاً ورحمة ... ومن يك ذا عرف من الناس يسأل وإياك والسفر الغريب فانه ... سيثني بما توليه في كل منهل قال وهب: ورجع سبأ إلى اليمن فبنى السد الذي ذكر الله في كتابه وهو سد فيه سبعون نهراً ويقبل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر وإن سبأ لما أسس قواعد السد لم يتم له بناؤه حتى نزل به الموت وكان عمره خمسمائة عام وسبعين عاماًُ وكان ملكه خمسمائة عام فدعا بحمير وكهلان ابنيه. وكان لسبأ عدد عظيم من ولده غير إنه لم يكن له من ينقل ملكه إليه إلا إلى حمير وكهلان، وانه لما مات سبأ صار الملك بعده إلى ابنه (حمير) وقال ابنه حمير يرثي أباه سبأ وهب أول مرثية في العرب فأنشأ يقول:

عجبت ليومك ماذا فعل ... وسلطان عزك كيف انتقل فأسلمت ملكك لا طائعاً ... وسلمت للأمر لما نزل فيومك يوم وجيع العزاء ... ورزؤك في الدهر رزء جلل فلا تبعدن فكل امرئ ... سيدركه بالمنون الأجل لأن صحبتك بنات الزمان ... وبدت يد الدهر أوجه الأمل لقد كنت بالملك ذا قوة ... لك الدهر بالعزعان وجل بلغت من الملك أعلى المنى ... نقلت وعزك لم ينتقل فطحطحت في الشرق آفاقه ... وجبت من الغرب حرب الدول جريت مع الدهر إطلاقه ... فنلت من الملك ما لم ينل وحملت عزمك ثقل الأمور ... فقام بها جازماً واستقل فأبقيت ملكك بالخافقات ... وليس لرأيك فيها زلل له قدم بمحل العلا ... فزلت بك النعل عنه فزل فسام لك العيش عيب الهوى ... شربت بذلك نهلا وعل صحبت الدهور فأفنيتها ... وما شاء سيفك فيها فعل بنيت قصوراً كمثل الجبال ... ذهبت لم يبق إلا الظلل وجردت للدهر سيف الفنا ... تطاير عن جانبيه القلل نعمنا بأيامك الصالحات ... شبنا بسجلك وبلا وطل تؤمل في الدهر أقصى المنى ... ولم ندر بالأمر حتى نزل فزالت لفقدك شم الجبال ... ولم يك حزنك فيها هبل كأن الذي قد مضى لم يكن ... وفقدك بعد الفناء لم يزل وللدهر صرف يريد الردى ... فصرح عن قيل ما لم يقل نهار وليل به مسرعان ... فهذا مقيم وهذا رحل يسومان بالخسف ما يبديان ... أطاعا لما شاء فينا لال

ملك حمير

فيا عبد شمس بلغت المدى ... وشيدت مجداً فلم يمتثل وشيدت ذخراً لدار البقاء ... فلما أفلت إليها أفل فلم يبق من ذاك إلا التقى ... وذاك لعمري أبقى العمل فأحكمت من هود المحكمات ... وآمنت من قبله بالرسل وأحرمت فأهللت حتى إذا ... أناف الهلال بها واستهل رحلت وزادك خير التقى ... وقوضت * * عن حرميها بحل ملك حمير قال وهب: وولي حمير بن سبأ فجمع الملك الجيوش وسار يطأ الأمم ويدوس الأرضين، وأمعن في المشرق حتى أبعد يأجوج ومأجوج إلى مطلع الشمس وبقي قبائل ومن ولد يافث تحت يده، وهم: الترك والزط والكرد والصعد والخزر والقذر والذيلم وفرغان. ثم قفل نحو المغرب كما فعل أبوه سبأ، فسار حتى نزل بمكة فآتاه قبائل من اليمن من بني هود يشكون إليه ثمود بن عابر بن ارم وما نزل بهم منه من الخسف والظلم وآتاه رسول أخيه بابليون من مصر يستدعيه لنصرته على بني حام، وذلك لما بلغ بني حام موت سبأ بن يشجب، عتوا على بابليون بمصر وكان بالشام قبائل من ولد كنعان ابن حام، وهم: بنو ماريع بن كنعان، وكان نزول الحبشة بني كوش بن حام على النيل إلى برية الرمل، فتداعوا على مصر يريدون خرابها فرجع حمير إلى اليمن وأخرج ثموداً من اليمن فأنزل أبة من أرض الحجاز فعمروها

من آيلة إلى ذات الاصاد إلى أطراف جبل نجد وذات الاصاد نهر من أنهار الحجاز وهو يجري في صفا أملس يرده الحافر ولا يرده الخف تزلق فيه فقطعت فيه ثمود الصخر لطرق الإبل لمراعيها ونحتوا في جباله البيوت سترة من حر الشمس في الحجاز. قال الله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} وقال: {وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين}. وفي ذات الاصاد كان السبق بيت قيس بن زهير العبسي وحذيفة بن بدر الفزاري وفيه حبس فرس زهير داحس فقال في ذلك قيس شعراً: كما لاقيت من حمل بن بدر ... وأخوته على ذات الاصاد هم فخروا على بغير فخر ... وردوا دون غايته جوادي وكنت إذا منيت بخصم سوء ... دلفت له بداهية نآد فأنى الصقر منطلق كريم ... وسوف أريك من طعن الطراد أقاتل ما أقاتل ثم آوى ... إلى جار كجار أبي دواد مقيماً وسط عكرمة بن قيس ... وهوب للطرائف والتلاد كفاني ما أخاف أبو بلال ... ربيعة فانتهت عني الأعادي قال وهب: ونزل حمير بدمشق فقاتل بني ماريع حتى غليهم وأجرى عليهم الخراج، ثم مضى إلى الحبشة فلقيهم بالقيس والبهشة فهزمهم على النيل فتبعهم حتى بلغ بهم إلى البحر المحيط من المغرب فأذعنوا وأجرى عليهم إتاوة يؤدونها كل عام. فدرب الحبشة في غربي الأرض سبعة أشهر في سبعة أشهر، ثم رجع عنهم على النيل إلى مصر فتزود من مصر، ثم مضى في المغرب حتى بلغ إلى البحر المحيط ثم أجرى على القبط الخراج.

قال وهب: ولما توجه حمير إلى المغرب أقام في المغرب مائة عام يبني المدن ويتخذ المصانع، فمات بعده أخوه بابليون بمصر، وولي أمر المغرب امرؤ القيس بن بابليون وتكبرت عليه ثمود وطغوا على بني كنعان بالشام وعلى جميع من جاورهم، فأرسل إليهم صالح نبياً وهو صالح بن عويم بن ساهر بن هميسع بن همر بن عميل بن عابر فدعاهم إلى الله فعصوه وسألت أن يخرج لهم آية؟ - كما سألت عاد هوداً - فقال لهم صالح: ما هذه الآية يا قوم؟ قالوا له: اخرج لنا من هذه الصخرة ناقة. فدعا الله فأخرج لهم، فكانت تشرب الماء من نهر الاصاد ذات يوماً وهم يشربون يوماً، فأبوا أن يؤمنوا بعد الآية، ثم ائتمروا بها ليعقروها فمشى إليها قدار سالف فعقرها فأرسل الله عليهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. قال وهب: وإن حمير قفل من أرض المغرب راجعاً وكان يكتب بالمسند في جميع سلاحه من الحديد. وفي الأجيال إذا مر عليها فأكثر من ذلك فرأى في منامه كأن آتياً آتاه فقال له: اتق الله يا حمير. قال له: ومالي؟ قال: تكتب هذا الخط المسند الكريم على الله على الحديد والحجر والعود يدرس وتعلوه النجاسات والله كرمه واصطفاه وأدخره للفرقان يأتي به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان فصنه وأحفظه فإن الله تبارك وتعالى اصطفاه للقرآن أكرم الكتب إلى الله واللسان العربي سيد الألسن وللجنة خير خلق الله ولمحمد خير البشر ولكن استخدم هذا الخط أنت وولدك فإن لكم به على الخلق فضيلة إلى مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومر بنيك من بعدك بحفظ هذا الخط، ثم ارتفع. فلما أصبح دعا بنيه فقال: يا بني إنه كان من

أمري ما كذا وكذا، قالوا له: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال له وائل ابنه: سترى يا أبت أن الله كريم لا يمنعك شيئاً إلا جعل لك منه عوضاً. فلما نام الليلة الثانية آتاه آت فقال له: اقرأ يا حمير! قال له: وما أقرأ فنظر إلى جبينه فإذا عليه خط مكتوب قال له حمير: اقرن هذا بخط أبيك المسند من الأول إلى آخره هذا الخط فقرأ حمير وردده حتى فهمه. فلما أصبح دعا بنيه وكتبه وهو هذا. ثم قال له: يا حمير استخدم هذا ولا تستخدم المسند فإنه وديعة عندكم إلى وقته وإنما قيل له المسند أسند إلى هود عن جبريل. قال وهب: وإن حمير ملك الأرض ومن عليها حتى لم يبق منها مكان كما ملكها أبوه سبأ وكان عمر حمير أربع مائة عام وخمسة وأربعين عاماً أقام في الملك أربع مائة عام، فلما جاوز مائة قال: ملكت من عدد السنين هنيدة ... ذا الملك عمرك زينة الأيام وأرى السباب يميل في لهو الصبي ... ومع الشباب غواية الأيام فلما بلغ مائتين قال: سأميت عن مائتين ملكاً باذخاً ... والعمر لا يبقى مع الأعوام قالوا لحمير مدة محجوبة ... والغيب لا يخفى على العلاَّم فلما بلغ ثلاثمائة قال: لما ركبت من المأين ثلاثة ... كان الذي أمضيت كالأحلام والعمر يدأب والمشيب كلاهما ... يتسابقان إلى محل حمام

وائل بن حمير

فلما بلغ أربع مائة قال: بدلت من ذي أربع ملكتها ... عوضاً من الأيام بالأسقام هيهات ما حكم الخلود وقد أبى ... من أن أخلد حاكم الحكام فلما بلغ أربع مائة سنة وخمساً وأربعين سنة واتاه وقته وأيقن بالموت، دعا بنيه ثم قال لهم: يا بني لم تصحبوني على عهد أن لا أموت بل كنتم تنتظرونه في صباحاً وانتظره فيكم مساء فقد حل ما كنتم تنتظرون وقد أزف الوقت الذي ترقبون وأمري لك يا وائل، ثم أنشأ يقول: يا من رأى صرف الزمان مصوراً ... يغدو على الآباء والأعمام غدر الزمان بعهد ملكك فانقضى ... وبعبد شمس قبل ذاك وسام راميت دهرك بالمنى وخطوبه ... بالغدر دانية إليك روامي أزف الزمان على زمانك بغتة ... فغدوت مرتحلا بغير مرام يبكون أن مروا عليك قلما ... يغني البكاء على صوى الأعلام ولانت بعد حلوله مستيقظ ... من ضنك فاقرة لفضل مقام فلما مات حمير صار أمره وملكه إلى ابنه. وائل بن حمير ونزل قصر غمدان، وكان يعرب أسسه وجعل يبني فيه ثم غزا البيت فأصلح ما كان حوله من القبائل وأمر بنقش الخط الحميري في قصر غمدان، وقال في نقش الخط الحميري عمرو بن معد يكرب.

ملك وائل بن حمير

ورثنا حصوناً شتت الدهر أهلها ... أولي العز قدماً والحلوم الرواجح كأن خطوطها فوقها حميرية ... تهاويل وشي في متون الصفائح قال وهب: وكان يقال لحمير العرنجج، والعرنجج: العتيق، وكانت علته التي مات منها الغم، فقال: يا بني إني لأجد ثقل الثرى وغم الضريح ولكن اجعلوا لي نفقاً في هذا الجبل، جبل عنفر، ثم أجلسوني فيه ففعل به ذلك ابنه وائل بن حمير، فحمير أول من جعل في مغارة، وإن وائلاً جعل مع حمير في تلك المغارة جميع لأمته غيره وأنفة أن لا يلبسها بعده أحد من الناس وكتب في لوح من رخام هذا الشعر وعلقه فوق رأسه: عبر العرنجج مدة من دهره ... بعد الإقامة والأسى لمن يعبر واراش دهر لا تطيش سهامه ... ورمى فأثبت في العلا من حمير قبر الندى والجود عند محله ... والشخص باد فيهم لم يُقبر ماتت لميتته المعالي جملة ... والعز أصبح ثاوياً في عنفر ملك وائل بن حمير قال وهب: وإن الله لما أراد في سابق علمه إنه لما ولي الملك وائل بن حمير نافسه أخوه مالك بن حمير ودافعه حيناً، فتغلب على أطراف اليمن ملوك عدة وعلى أرض بابل حسان بن حراش بن عمل بن عابر وعلى الشام ملوك أخر. فلم يزل وائل يحارب أخاه ملكاً حتى مات مالك وولي أمره بعده

ملك السكسك بن وائل

قضاعة بن مالك، ومات بعده أخوه وائل بن حمير، وولي بعده السكسك ابن وائل. ملك السكسك بن وائل كان السكسك حازماً جلداً وكان له مقعقع العمد وكان إذا غلب على من ناوأه هدم بناءه وغير آثاره بالنار وهو أول من حرق بالنار وخرب المدن فسمي مقعقع العمد. وإن سكسكاً زاحف قضاعة بن مالك فغلب عليه وصار إليه ملكه. فجمع الملك، فلما اجتمع لسكسك الملك كله باليمن أنشأ يقول: سأركب قطعاً للقرين وإن أبي ... لي العزم في هذا الشقيق المجرب واقطع حبل الوصل بالسيف كارهاً ... وأركب أمراً للردى ليس يركب أألبس ثوب الذل والموت دونه ... أم اقطع قوماً قربهم لي مشغب عصيت به قول النصيح وإنما ... ألاقي لفقد الملك من ذاك أعجب سألقي المنايا السود بالبيض ضحوة ... وأقرع وجه الدهر والدهر مغضب وأبذل نفسي للمكاره طائعاً ... إذا ما جبان القوم بالسيف يغصب إذا الموت عند الجمع كالصاب طعمه ... يطيب لها عند الهياج ويعذب إذا البيض من قاني الدماء كأنها ... عليها خطوط الحميرية تكتب قال وهب: فغلب على الشام فلقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون ابن سبأ من أرض مصر بالرملة يهديه فقبل منه هداياه وأقره على مصر والمغرب ورجع إلى غزو أرض بابل يريد نمرود بن ماش، فلما نزل بحنو قراقر من أرض العراق اعتل فمات فحملوه ورجعوا به قافلين إلى اليمن وافترق ملك اليمن على ملوك شتى، وولي ابنه يعفر بن السكسك بعده في مكانه وافترق أمر اليمن للذي أراد الله وإن نمرود بن ماش جمع جموعاً

ملك يعفر بن السكسك

ليقاتل بها السكسك بن وائل، فلما مات السكسك رجع جمعه إلى اليمن زاده ذلك جرأة واستكباراً في الأرض فطغى ونمرود بن ماش أول أعجمي متوج. ملك يعفر بن السكسك قال وهب: ولما ولي يعفر بن السكسك زاحف ملوكاً من أهل اليمن كان عمره يسيراً فمات ومرج آمر حمير وافترقوا على ملوك شتى. قال وهب: وكان يعفر بن السكسك رجلاً سقيماً لم يكن يلي لزحوف بنفسه فكان يدخل عليه في عمالاته النقص ولم يكن له ولد فلما انقضت مدته وحان وقته وأيقن الموت أخذ تاجه وهو تاج جده وائل لن حمير فقال لقومه: يا قوم هذا تاجكم فخذوه فأخذ قومه التاج ووضعوه على بطن امرأة يعفر وهي مثقلة وملكوا ما في بطنها فولدت غلاماً فسموه النعمان فكان النعمان ملكاً في بطن أمه. قال وهب: كانت أم وائل ومالك وعوف بني حمير مالكة ابنة عميم ابن زهران بن يشجب بن يعرب، وكان وائب بن حمير حين ولي الملك يعد أبيه حمير ولي أخويه مالكاً وعوفاً فنافساه في الملك، فغلب على مالك أخيه فعزله وأذعن له عوف فأقره على عمان والبحرين، فعظم أمره وشأنه بعد أخيه وائل حتى ولي السكسك بن وائل الملك فدان له عوف. ومات النعمان فولي أمره باران بن عوف بن حمير، فلما هلك السكسك بن وائل بن حمير وولي بعده ابنه يعفر بن سكسك نابذه باران العداوة وراجعه وأخذ الهنبيق

عامر ذو رياش

والأحقاف، وكان يعفر رجلاً سقيماً ولم يكن يغزو فانتقص ملكه وعظم ملك باران بن عوف بن حمير، ثم مات فولي الأمر بعده ابنه عامر ذو رياش فزحف إلى غمدان وأخذه وأخذ صنعاء وما والاها فغيب نفسه النعمان بن يعفر بن سكسك في مغارة في جبل عنفر ومعه أمه نائلة بنت مالك بن الحاف ابن قضاعة بن مالك بن حمير. عامر ذو رياش أول الاذواء ولم يكن تبعا، قال وهب: فطلب عامر ذو رياش النعمان بن يعفر فلم يقدر عليه ولم يجد له مكاناً فجمع كل منجم كان بأرض اليمن وكل عائف وزاجر فقال لهم: ما الذي طلبت وقد فرقهم فجعل أهل النجم ناحية وأهل العيافة ناحية وأهل الزجر ناحية فنظروا فلم يجدوا شيئاً غاب عنهم أمره إلى أن قام إليه عائف فقال له: أيها الملك إن الذي تسال عنه امرأة وصبي. قال له الملك: لله درك من أين قلت ذلك. قال له العائف: أما ترى الجنازة التي مروا علي بها سألتهم عنها فقيل: إنها رجل فنظرت فإذا يده على صدره كأنه يقول: أنا الرجل والذي تسأل عنه صبي وامرأة ثم رجع إلى مكانه فنظر إلى صبي يقفوا أثر الميت والجنازة باكياً فرجع إلى الملك فقال: إنه صبي باك حقق ذلك العلم، ثم رجع فنظر إلى الصبي يتبع الجنازة حتى أدخلت مغارة ودخل الصبي في أثرها. فرجع إلى الملك فقال له: إن الذي تسأل عنه صبي حي غيب في مغارة في هذا الجبل فأمر العساكر فطافت بالجبل يتجسسون المغارات في

الجبل ويقفون الآثار حتى دخلوا المغارة التي فيها النعمان وأمه فأخذوهما وأتوا بهما إلى عامر ذي رياش فأخذهما ورجع فنزل قصر غمدان ولم يكن ينزل قصر غمدان إلا الملك الأعظم ولا ينزله إلا من استحق عندهم اسم تبع من ملوك حمير وحبس النعمان وأمه عنده في قصر غمدان، فلم يزل النعمان محبوساً فماتت أمه وشب الصبي واحتلم. فبينما النعمان ليلة من ذلك الزمان مع الحرس الذين كانوا يحرسونه وكانوا عشرة وفيهم رجل يقال له همدان بن الوليد بن عاد الأصغر بن قحطان، وكان يخدم السكسك جد النعمان، وكان يرق له سراً وكان أغلط الحرس في العلان فبينما النعمان في الحرس جالس إذ طلع القمر وقد خسف فبكى النعمان لما رأى القمر خاسفاً وقالوا له: مال الذي يبكيك؟ قال: أبكاني تقلب الدهر بأهله لن ينجو من غدر هذه الدنيا وعثراتها شيء في الأرض ولا في السماء. فلما كان في الليلة الثانية طلع القمر مشرقاً زاهراً فضحك النعمان فقالوا له: ما الذي أضحكك؟ قال لهم: لعل الذي أبكى يضحك، ثم قال لهم: أرى هذا الدهر يقيل واحداً عثرته فيدرك أمله وآخر يمضي عليه فيستريح وأنا كما ترون لا يمضي علي فأستريح ولا يقيلني عثرتي فأبلغ أملي، وكان همدان بن الوليد رجلاً عاقلاً قد استمال إليه الحرس بعقله ولطفه يصرفهم كيف ساء، فقال لهم: إن في الكلام راحة تريدون أن أجيب عنكم النعمان؟ قالوا: نعم. فقال همدان: يا نعمان لعل أملك أقرب من أجلك، ثم نظر همدان إلى من حوله وتصحف وجوههم ليرى من يرضى قوله ومن يسخطه، فقالوا له: رضينا قولك يا همدان - فنظر النعمان إلى القمر في الليلة الثالثة وهو مشرق زاهر فأنشأ يقول: اربد وجهك بعد حشن ضيائه ... وخسفت بعد النور والإشراق هل كان هذا الشأن منك سجية ... أم خان عهدك غادر الميثاق

واراك بعد محلة مذمومة ... أمسيت مشرقاً على الآفاق علَّ الذي أنشأ سناك بقدرة ... من بعد مهلكة يريح وثاقي إن الزمان بصرفه متقلب ... بين الورى كتقلب الأخلاق قال وهب: وإن همدان قال للذين معه ويلكم أن ذا رياش نكد جبار لن يرحم قريباً ولا بعيداً ولن تروا معه راحة ولكن قدموا في النعمان يداً فإن أدرك أمله ووفى لكم أفدتم وإن لم يكن هذا كنتم قد وفيتم لسلفه فأجابوه فقال لهم: يأتي كل رجل منكم غدا بجديدة ففعلوا ووضع النقب في وسط المجلس حتى خرجوا من خارج القصر وكان ذلك وقت رجوع ذي رياش إلى عمان خالفه إليها مالك بن الحاف بن قضاعة فأخرجوا النعمان من ذلك السرداب ليلاً وإن النعمان كان يرسل في وجوه بني وائل بن حمير وبني مالك ابن حمير وسائر بني قحطان، فأجابوه إلى القيام على ذي رياش. فجمع حمير ثم سار يريد ذا رياش وإن إذ رياش لقي مالك بن الحاف فهزمه ذو رياش - ومر مالك على وجهه يريد أرض برهوت قال طلبة لحق بأرض الحبشة ولما بلغ ذا رياش ومن معه من أهل صنعاء وأهل العالية والهنبيق خروج النعمان بن يعفر في ديارهم وطوع الناس له فارقوا عسكر ذي رياش هاربين إلى ديارهم وذراريهم، ثم خرج عنه من كان معه من بني وائل بن حمير وهم: أعد حمير وتبعهم مالك بن حمير، فلما رأى ذو رياش أن جمعه قد افترق أكثره عنه وصار إلى النعمان جميع من معه، سار يريد حرم مكة عائذاً به. وسار النعمان في أثره فلقيه بالمشلل فقاتله فهزمه النعمان وأخذه أسيراً. وسار النعمان إلى مكة فأوفى نذره ورجع إلى غمدان بذي رياش أسيراً ثم أن

النعمان دعا همدان فقال له: هذا الملك لك ولأصحابك فما رأيك في ذي رياش؟ قال له همدان: حبس بحبس لا عدوان فقبل منه وأحسن إليه وإلى أصحابه وأنشأ يقول: إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين الأقاول فأما حمام النفس تلقاه عاجلاً ... وأما تراث الملك عن ملك وائل فهل يدفع النعمان أمراً يريده ... وهل يتقي شر الذي غير نازل إذا لم يكن بد من الموت حتمة ... فما تغن عني خافقات الجحافل إذا لم يكن للمرء بد من التي ... تبذ الأماني عاجلاً أو بآجل ويصبح في الأهلين يوماً جنازة ... ويلحق حتماً بالقرون الأوائل علام يداري الدهر والدهر جائر ... ويرضى بظلم من يد المتطاول ولكن نباني الملك في درج العلا ... كنجم اعوجاج من فنا الملك وائل يفوز سعيداً أو يلاقي منية ... ويمسي على الدنيا بعيد المناهل فما المرء للأيام تخلق نفسه ... وهل كانت إلا حيضة للقوابل ألا أيها الراضي بأيسر خطة ... صبرت على خسف من الذل نازل قيامك في الدنيا حياة لأهلها ... وصبرك عنها * غير طائل إذا لم يكن للمرء عزم يزينه ... ولب يرى عيب القوي المخاتل له سطوة تكسو العزيز مذلة ... وتهدي حتوفاً للنساء الحوامل له علل تعلو النجوم وسطوة ... تصم فيخشى طرقها كل جاهل وللموت خير من لباسك ذلة ... تجاذب مأسوراً صليل السلاسل محلاً يراه الزائرون شماتة ... هواناً لمقدام العشيرة باسل

ملك المعافر بن يعفر

ملك المعافر بن يعفر قال وهب: كانت حمير إذا لقي بعضها بعضاً يقولون: ما حال اليتيم يريدون بذلك النعمان بن يعفر فيقول بعضهم لبعض: أصبح اليتيم معافراً للملك وذلك لبيت قاله وهو: إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين المقاول قال وهب: فسمى بذلك المعافر بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير. قال وهب: وإن المعافر بن يعفر سار يريد أرض بابا ولم يكن للتبابعة ملك أرض بابل هي من الأرض وينبوع الناس فسار النعمان وهو المعافر راجعاً وسار بذي رياش معه لئلا يفتق عليه من بعده فتقاً، فسار النعمان حتى أخذا أرض بابل توجه يريد خراسان حتى بلغ صحراء بر فنظر عامر ذو رياش إلى أفعى رقشاء قد خرجت إليه من تحت فرشه فمد يده فأخذ ذنبها والحرس ينظرون إليه فحركه فعركه حتى حميت وتلمظت وهم لا يدرون ما يريد ثم نصب ذراعيه ولدغته فمات مكانه وأعلموا بذلك النعمان فقال: سابقته في ميدان الموت فسبقني، أما والله لو كنت أصبت مثل هذا لأرحت نفسي منه به واروه، ثم مضى يأخذ البلدان ويتأدى إليه الخراج حتى أتى الفرات فعبره إلى أرمينية فأخذها وقتل من عانده من ملوكها ووجد فيها لوكاً شتى. ثم مضى فعبر قنطرة سنجة إلى أرض الشام فأباح من وجد فيها من الملوك، ثم قفل إلى البلد الحرام راجعاً فنزل بمكة فأصاب بها نفيلة بن مضاض الجرهمي وجرهم من قحطان وكان بها ملكاً بعد موت نابت بن إسماعيل فقدم بالبيت قدار بن إسماعيل وأمر نفيل بن مضاض بقصد مكة ورجع

إلى غمدان ومات بها فكان عمره في الملك ثلاثمائة سنة. قال وهب: وإن النعمان وهو المعافر بن يعفر مات فقال لبنيه وقومه: لا تضجعوني فينضجع ملككم ولكن ادفنوني قائماً فلا يزال ملككم قائماً. قال أبو محمد: قال أسد بن موسى عن أبي إدريس إن في خلافة سليمان ابن عبد الملك بن مروان فتحت مغارة في اليمن فأصابوا فيها جوهراً كثيراً وذهباً وسلاحاً ووجدوا فيها مالاً جسيماً ووجدوا فيها سارية من رخام قائمة ختم رأسها بالرصاص فاعلم بذلك سليمان بن عبد الملك فأمر بقلع ذلك الرصاص فأصابوا في السارية شيخاً واقفاً وعلى رأسه لوح من ذهب فيه بالحميرية: أنا المعافر بن يعفر بن مضر ... نسبي إلى ذي يمن مقر أسمو بحر مضري حر ... من فتن بالبائع المحفز باسق فرع وصميم سر قال أبو محمد: لقيت الليث بن سعد وهو من أهل مصر وولاة المعافر، وذلك أن عمرو بن العاص افتتح بعسكر معافر في سبعين ألفاً لم يكن معهم أحد غيرهم خلا كلب في ألف رجل وبهرة في ألف رجل ومهرة في ألف رجل فزعم الليث أن الشعر منحول وذلك فعل بني أمية ينتصرون بهم لمضر. قال وهب: حدثني كعب الأحبار قال سمعت أهل الكتب الأول والأخبار المتقدمون يقولون أن حمير في الأرض كالسراج المضيء في الليلة وإن الناس ليريدون هكذا وخفض يده ويريد الله بهم هذا: ورفع يده.

ملك شداد بن عاد

ملك شداد بن عاد قال وهب: ثم استجمع أمر حمير وبني قحطان على شداد بن عاد ملطاط بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. قال وهب: لما ولي (شداد بن عاد) الملك جمع الجنود وكان امرءاً حازماً فسار يدوس الأرض وبلغ أرمينية الكبرى فقتل فيها كل ثائر بها ثم عبر الفرات إلى المشرق فبلغ أقصاها لا أحد يقف له إلا هلك، ثم مضى على ساحل سمرقند إلى أرض التبت، ثم عطف على أرمينية فأمعن، ثم جاز إلى الشام وبلغ إلى المغرب فأكثر الآثار في المغرب حتى بلغ البحر المحيط يبني المدن ويتخذ المصانع فأقام في المغرب مائتي عام، ثم قفل إلى المشرق فأنف أن يدخل غمدان ومضى إلى مأرب فبنى به القصر العتيق الذي يسميه بعض الرواة (ارم بن العماد) فلم يدع باليمن دراً ولا جوهراً ولا عقيقاً ولا جزعاً ولا بأرض بابل وأرسل في الآفاق بجمع ذلك جواهر الدنيا من الذهب والفضة والحديد والقصدير والنحاس والرصاص، فبنى فيه وزخرفه ورصعه بجميع ذلك الجواهر وجعل أرضه رخاماً أبيض وأحمر وغير ذلك من الألوان وجعل تحتها أسراباً فاض إليها ماء السد فكان قصراً لم يبن في الدنيا مثله ثم مات شداد بن عاد بعد أن عمر خمسمائة عام فنقبت له مغارة في جبل شمام ودفن بها وجعل فيها جميع أمواله. قصة المغارة التي فيها شداد بن عاد والصعاليك الثلاثة حين دخلوها وما جرى عليهم

قال وهب: قال أبو محمد عبد الملك بن هشام، حدثنا زياد بن عبد الملك البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي عن عبيد بن شرية الجرهمي قال: حدثنا شيخ من أهل اليمن بصنعاء عام الردة وكان معمراً عالماً بملوك حمير وأمورها قال لنا: كان باليمن رجل من عاد بن قحطان وهو عاد الأصغر وأما عاد الأكبر فلم يبق منهم أحد. قال الله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} وإن هذا الرجل العادي كان يقال له الهميسع بن بكر وكان جسوراً لا يهاب أمراً وكان يعرف بذلك، وكانت الصعاليك تقصده من آفاق الأرض، وكان أكثر طلبه المغارات يطلبها في جبال اليمن وعمان والبحرين وأنه آتاه رجل فاتك من عبس وآخر من خزاعة وكانا صعلوكين جسورين فقالا له: يا هميسع احملنا من أمرك على ما تريده فانا نبلغ مرادك، فمضى معهما الهمسيع حتى أتى بهما جبلاً وعليه غابة فيها ثعابين لا ترام الهميسع أمام الصعلوكين قد أتى الجبل مراراً وحده وكان إذا عاين الثعابين يجزع فيرجع فلما آتاه الصعلوكان جسر بهما وقال: الق رأسك بين اثنين ولو غم إلى الأذنين ثم أخذ سيفه وزناده ومشاعله وزاده وسار بهما حتى وصل إلى الجبل ولم يزل يترايا لهم الثعابين وتهرب حتى بلغ باب كهف عظيم وكأن الجبال على أكتافهم عظماً وثقلاً، ودخلت قلوبهم وحشة عظيمة وسمعوا من داخل الكهف دوياً عظيماً وخيمنة وعلى بابا الكهف نقش بالحميري فقالا له: اقرأ يا ميسع فقرأه فإذا هو مكتوب هذين البيتين: لا يدخل البيت إلا ذو مخاطرة ... أو جاهل بدخول الكهف مغرور إن الذي عنده الآجال حاضرة ... موكل بالذي يغشاه مأمور فغاب الخوف والجزع على الخزاعي في أول أمره ثم أن الجزع أيضاً على العبسي فاستدرك نفسه العبسي وثبت فقال الخزاعي: يا هميسع قد عاش في الدنيا كثير ممن لم تبلغ نفسه هذا المبلغ - ثم ولى العبسي عن صاحبه

هارباً. فقال الهميسع: نمضي في هذا الكهف أم لا؟ فقال له: نعم. فسارا في الكهف حيناً، فإذا حيات يصفرن عن يمين وشمال ورياح تجري عليهما من داخل الكهف، وسمعا دوياً من داخل الكهف، فقال العبسي: لقد حملت نفسك على مكروه يا هميسع أعلى يقين أنت من هذا الكهف؟ فقال له الهميسع: ما تيقنت إلا ما رأته عيني، والرجاء فقال له: افعلي شك أنت هارش الثعابين وأبيع مهجتي ببخس يا هميسع لقد بعت نفسك من دهرك أبخس ثمن وهميسع في ذلك لا يلوي إلى كلامه وهو يسير داخل الكهف حتى وقف به على بابا آخر أعظم من الباب الأول وأهول وأشد وحشة وزاد عليهم الدوى والحسيس والهينمة وعلى ذلك الباب بالخط الحميري. فقال له العبسي: اقرأ يا ميسع! فقرأه فإذا هو: انظر لرحلك لا يساق فإنه ... حتم الحمام إلى العرين يساق يا ساكني جبلي شمام لعله ... يوفي بما أجنبتما الميثاق قوموا إلى الإنسي أن محله ... يدعو إلى يوم الفراق فراق قال: فولى العبسي هارباً عنه وناداه الهميسع فلم يلتفت إليه، وولى وهو يوقل: قاتل الله أخا عاد ما أجسره! قال: فهم الهميسع أن يفر ثم حمل نفسه على الأصعب ومضى حتى بلغ إلى باب هو أعظم هولاً وأشد وحشة وعليه نقش بالقلم الحميري فقرأه الهميسع فإذا فيه مكتوب: قد كان فيما قد مضى واعظ ... لنفسك البينة المسمعه إن جهل الجاهل ما قد آتى ... وكان حيناً قلبه في دعه فدخل الباب الثالث فسمع دوياً عظيماً كالرعد وهده عظيماً، فبينما

هو كذلك إذ برز إليه تنين أحمر العينين فاتح فاه فلما رآه الهمسيع رجع هارباً إلى خلفه، فسكن حس التيني فوقف العادي وقال في نفسه: قدر رآني ولو كان حيواناً لم يدعني وما هو إلا طلسم فرجع له ثانية حتى ظهر له، فسار نحوه فسمع له دوياً عظيماً فهرب فأقبل يسمع الدوى فإذا هو في رجوع التنين كما قاله في إدباره فعلم إنه طلسم فأخذ حذره من صدمته وأقبل يمشي قليلاً قليلا ويخفف وطأ قدميه حتى وضع قدمه في موضع فتحرك التنين ودوى، فأخذ قدوماً كان معه فحفر على الموضع حتى ظهرت له سلاسل على بكرات. فأجنه الليل فأسرع الخروج من الكهف وجمع حطباً من الغيضة وأضرمها ناراً وبات عند بابا الكهف، فلما غشيه ظلام الليل سمع بكاء وحنيناً داخل الكهف فلم يزل ينظر ويرتقب وينظر حتى نظر إلى نار عظيمة خارجة إليه من داخل الكهف، فلما رآها لم يبرح من موضعه حتى غشيته فصبر لها فلم تؤلم فيه شيئاً ثم أتته أخرى ثانية أكبر من الأولى فصبر لها كذلك، فلما مالت عنه أخذ مقياس النيران التي أضرمها وأقبل يضرب بها حيطان الكهف يميناً وشمالاً حتى سمع نداء من داخل الكهف يهتف: يا هميسع لا حاجة لنا في دخولك. فأقام حتى أصبح فدخل باب الكهف إلى أن وصل إلى البابا الذي رأى فيه التنين، ثم حفر على بقية حد التنين حتى قلعه وسقط التنين، فسار إليه فقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما، وسار حتى انتهى إلى بابا هو أعظم هولا وأشد وحشة فلما هم أن يفتحه سمع دوياً عظيماً وبدا له أسد عظيم فرجع أيضاً إلى خلفه فرجع عنه الأسد بدوي عظيم فحفر على موضع حركته كما صنع بالتنين حتى أبطل حركته وقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما، ثم دخل الباب فإذا هو بدار عظيمة وفيها بيت في وسطه سرير من ذهب شيخ على رأسه لوح

ملك لقمان بن عاد

من ذهب معلق وسقف البيت مرصع بأصناف اليواقيت وعلى رأسه في الحائط لوح من ذهب فيه مكتوب (أنا شداد بن عاد عشت خمس مائة عام وافتضضت فيها ألف بكر وقتلت ألف مبارز وركبت ألف جواد من عتاق الخيل) وتحته مكتوب: من ذاك يا شداد عاد أصبحت ... آماله مهزومة الأقدام يا من رآني إنني لك عبرة ... من بعد ملك الدهر والأعوام فكأنني ضيف ترحل مسرعاً ... وكأنني حلم من الأحلام احذر تصاريف الزمان وريبه ... لا تأمنن حوادث الأيام هلا يضرك من كلامي مرة ... يا ساكن الغيضات والآجام قال ثم ملت إلى الركن الذي عن يمينه فإذا هو سرير من ذهب وعليه جاريتان فوق رأسهما في الحائط لوح من ذهب أو قال من عاج فيه مكتوب (أنا حية وهذه لبة بنت شداد بن عاد أتت إلينا أزمان فيها الطارف والتليد على عبيدنا صاعاً من بربصاع من در فلم نجده - فمن رآنا فلا يثق بالزمان وليكن على بيان فإنه يحدث العز والهوان) - قال فأخذ الهميسع الألواح وما بالبيت من در وجوهر وياقوت وخرج. ملك لقمان بن عاد قال وهب: فلما مات شداد بن عاد صار الأمر إلى أخيه لقمان بن عاد وكان أعطى الله لقمان ما لم يعط غيره من الناس في زمانه أعطاه حاسة مائة رجل وكان طويلاً لا يقاربه أهل زمانه.

قال وهب: قال ابن عباس كان لقمان بن عاد بن الملطاط بن السكسك ابن وائل بن حمير نبياً غير مرسل. قال أبو محمد: لقيت عامة من العلماء يقولون أن لقمان وذا القرنين ودانيال أنبياء غير مرسلين وعامة يقولون عباد صالحين والله أعلم بذلك. قال وهب: لقمان بن عاد هو الذي سمته حمير الرايش لأنه كان متواضعاً لله لم يكن متوجاً. قال وهب: وكان لقمان بن عاد يدعو قبل كل صلاة ويقول: أللهم يا رب البحار الخضر ... والأرض ذات النبت بعد القطر أسألك عمرا فوق كل عمر فنودي قد أجيبت دعوتك وأعطيت سؤالك ولا سبيل إلى الخلود واختر إن شئت بقاء سبع بقرات عفر في جبل وعر ولا يمسهن ذغروان شئت بقاء سبع نوايات من تمر - مستودعات في صخر لا يمسهن ندى ولا قطر وإن شئت بقاء سبعة نسور كلما هلك نسر عقب بعده نسر. قال: فكان ذلك إنه اختار سبعة نسور. قال وهب: فيذكر إنه عاش ألفي سنة وأربعمائة سنة وهو صاحب لبد. قال وهب: وكان لقمان يأخذ فرخ النسر من وكره فيربيه حتى يموت وهو يطير مع النسور ويرجع إليه. قال وهب: وأعطى لقمان سؤله وأخوه شداد في ملكه وعاش معه

دهراً طويلاً وهو يدعو إلى الله، فلما مات شداد صار إليه الأمر فكان الناس يأتونه من أقاصي الأرض وأدانيها. قال وهب: وإن عاد الأصغر بن قحطان كانوا أهل غدر ومكر وختر لا يأمن فيهم ابن السبيل ولا يطمئن فيهم جار ولا ينزل فيهم غريب ولا يثق بهم معاهد، وكان فيهم قبيل يقال لهم: بنو كركر بن عاد بن قحطان فعاشوا بأقصى اليمن فحاربهم جميع قبائل عاد وأعانهم عليهم وناصرهم بنو غنم بن قحطان وبنو غانم بن قحطان وبنو ظالم بن قحطان فغلبوا بني كركر. فإنما رأى بنو كركر بن عاد ما صاروا إليه من الذل بعد العز ومن الضر والجهد بعد النعمة شكوا ضر ما نزل بهم إلى سيدهم وصاحب أمرهم السميدع بن زهير فقال لهم: يا بني كركر كنتم أهل غدر ومكر لا يثق بكم قريب ولا بعيد ولا يأمنكم بغيض ولا حبيب أقرضتم الدهر قرضاً فرده إليكم فلم ترضوه. قالوا له: قد علمنا أنا فتحنا على أنفسنا بابا الموت فدلنا على باب الحياة؟ قال لهم: أما ها هنا فلا ولكن سيروا بنا إلى هذا الملك الحميري لقمان بن عاد فإن عنده رشداً وسداداً وصلاحاً للعباد يدعو إلى الله وإلى أبواب البر ومن دعا إلى الله أمن من الأذية واطمأن من لجأ إليه وطاب له وجه أمره ورضي عاقبته. قالوا له: لك الأمر فخذ بنا حيث شئت، قال لهم: يا بني كركر قدمتوني إلى أمر جليل وإن الله لا يرضى من أفعالكم شيئاً وأنه رأى ما فعلتموه منكراً فغيره، وأنشأ يقول: من أضمر المكر وأبدى الغدرا ... يلقي مدى الأيام ضراً مر لم يدر ما سر وما قد ضرا ... يعذل فيما قد لقيه الدهرا ورحل بهم إلى لقمان بن عاد وقال: سيروا بني كركر في البلاد ... أني أرى الدهر إلى فساد

قد قام من حمير ذو الرشاد ... لقمانها فقد هداه الهادي يدعو لها النادي وأهل النادي ... من حمير السادة في العباد فغير المنكر بالسداد ... يا حبذا من رائد مرتاد دعو بني كركر كل عاد ... إلى مقام الفصل والميعاد فسار بهم السميدع إلى لقمان، وإن لقمان عرض عليهم الإيمان فآمنوا كلهم، فأنزلهم أرض العالية وتزوج منهم امرأة وهي سوداء بنت أمامة - وكانت جميلة - وكان لقمان غيوراً فأخذها فجعلها في كهف عظيم في رأس صخرة عالية لا يطيق أحد يطلع إليها إلا هو لطوله وتمامه، وكان يعبد الله في ذلك الكهف وكان له عيد يصلي بالناس فيه كل عام بالرجال والنساء فصلى ببني كركر وقد اجتمع النساء والرجال فبصر هميسع بن السميدع بن زهر إلى امرأة لقمان فهويها فقال: (معشر عاد والله إن لم تحتالوا لي حيلة أدرك فيها سوداء امرأة لقمان لأقتتلن لقمان ثم تأتي على آخركم حمير)، وكان جسوراً فتاكاً وعلموا أنهم إن لم يفعلوا ذلك يفعل ما قال، فاجمع أمر بني كركر على أن يحتالوا كيف يجمعون بينهما ولا يعلم كيف يجمعون بينهما ولا يعلم لقمان فقال رجل منهم - يقال له عامر بن مالك: أسأتم الجوار ونقضتم العهد فما أشبه أول أمركم بالآخر لا أمان بعد مكر ولا عذر بعد غدر ولا نقض بعد أصر، أطعتم غوياً عاهراً وعصيتم ناهياً آمراً أطعتم شيطانكم فكأني بكم وقد رمتكم العرب عن قوس واحدة فأحسن لقمان جواركم فكيف تخونونه في حريمه. فلم يلتفتوا إلى ما قال ومضوا فيما هم فيه من الحرام فقال عامر: أفي كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريقة تعبروا

وإن لعاد سنة من حياضها ... سنحيا عليها ما حيينا ونقبر وللموت خير من طريق تسبنا ... بهاجرهم فيما تسب وحمير قال: فضربه الهميسع بن السميدع بن زهير فقال: يا بني كركر أراد دماركم فاقتلوه فقتلوه ثم إنهم أتوا لقمان فقالوا له: إنا خشينا الحرب فيما بيننا، ولكن إن رأيت أن تحبس سلاحنا عندك في هذا الكهف فإن تنازعنا لم يكن لنا سلاح نسفك به دماً ولا نقطع به رحماً. قال: افعلوا فأخذوا السلاح فجعلوا في وسطه الهمسيع بن السميدع وستروه به من كل جانب وأعطوه لقمان فطلع به الكهف، فلما خرج لقمان تكلم همسيع إلى سوداء امرأة لقمان وقال لها: أنا همسيع بن السميدع، وأخرجته ونال منها وأطعمته وسقته ثم ردته في السلاح، فلم تزل تعمل معه إلى أن رقد معها على سرير لقمان ثم تنخم ورمى النخامة إلى سمك الكهف وقد التصقت النخامة في سمك الكهف ثم أن لقمان أتى وقد أعيا فألقى بنفسه على سريره ثم رمى بصره إلى سمك الكهف فرأى النخامة فقال لامرأته: من بصق هذه البصقة؟ قالت: أنا. قال: ابصقي فبصقت فلم تدرك. ثم قالت له: أنا جالسة حين بصقتها، قال لها: اجلسي فجلست فبصقت فلم تدرك، قالت له: واقفة كنت، قال لها: قفي، فوقفت وبصقت فلم تدرك، فقال لها: من السلاح أتيت - ثم بادر إلى السلاح ففتحه واستخرج همسيع. فدعا بحمير فقال لهم: ما رأيكم في بني كركر؟ قالوا له: يا لقمان انف بني كركر بن عاد من أرض حمير فإنهم أهل غدر ومكر لا يزرعون فينا إلا الغدر ويحملونا الأحقاد ويورثونا الضغائن. فقال لقمان لعاد: اخرجوا من جواري. ثم طلع على الجبل وشد سوداء امرأته مع همسيع في السلاح الذي كان همسيع فيه، ثم رماهما من أعلى الجبل، ثم رماهما بالحجر ثم رماهما جميع من كان معه، فأول من رجم في الحد حد الزنا

لقمان فقتلهما، ثم أخرج بني كركر من جواره. فقالوا له: يا لقمان إن أنت لم تشيعنا نتخطف في الأرض فسار معهم لقمان ليمنعهم من قبائل حمير، فبينما هو يسير إذ سمع رجلاً يقول لامرأة منهم: يا رجيم أين زوجك قالت له: يرعى غنمه وهذا عشي النهار وهو وقت إيابه إلينا ولكن خذ ما تريد قبل أن يأتيك فزنى بها ولقمان يسمعهما ويراهما فهما كذلك إذ سمعت ثغاء الشاء فقالت له: هذه غنمنا. قال لها: خذي لي حيلة فأخذته فأدخلته تابوتاً لها وأقفلت عليه ثم أتى زوجها إلى حيه ثم أنهم رحلوا ليلاً فقالت له: إن حيلتي وجميع شأني في هذا التابوت فأحمله فحمله قال، وساروا ومعهم لقمان فهم يسيرون اذ ضيق البول على الذي في التابوت فبال فلما سال على رأس زوجها، قال لها: ما هذا الذي سال على رأسي من هذا التابوت؟ قال له: في التابوت اداوة الماء. قال لها: إنه مالح، ورمى التابوت عن رأسه فانكسر وثار الرجل هارباً يسعى في سند الجبل فثار في أثره زوج المرأة فأدركه وأخذه وجاء يدفعه يريد به لقمان وتعاوره من كان معه حتى أتى به لقمان فقال: يا لقمان إن هذا من شأنه كذا وكذا، فلما أصبح أمرهم لقمان بالنزول ونزلوا ثم قال: جيئوني بالرجل المأخوذ وبالمرأة فأتي بهما فأنكرا قول الرجل. فقال لهما لقمان: قد رأيتكما وسمعت كلامكما وعلمت كل ما فعلتما، قال له بنو كركر: الأمر لك يا لقمان احكم فيهما. قال لهم: حملوها ما حملت زوجها فأخذ الرجل فحمله في التابوت وشده بالحبال على رأسها، ثم قال لهم: دعوها تجول حتى تموت ويموت. فلم تزل تجول به حتى ماتت ومات على رأسها. وإن رجلاً أتى لقمان قال له: يا لقمان إن سارقاً يأتي رحلي فيدخل يده في خرق الخيمة ويسرق ما أصابت يده من الخيمة، فقال له لقمان: احرسه

حتى إذا أدخل يده وسرق فخذ يده واقطعها. ففعل ذلك الرجل وإن السارق آتاه كما كان يفعل أول مرة فقطع رب الخيمة يده وذلك أن أول من حكم بالقطع في السرقة لقمان. قال وهب: وإن لقمان اخرج بني كركر بن عاد من أرض حمير وردهم إلى قومهم عاد بن قحطان. قال وهب: ورجع لقمان إلى مأرب ومعه لبد نسره الآخر وهو أطول النسور عمراً. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: كان عمر لقمان بن عاد أربعة آلاف عام عاشت ستة نسور كل نسر خمسمائة عام وذلك ثلاثة آلاف عام وعاش لبد وكان آخرها ألف عام. قال وهب: فلما كان اليوم الذي أصبح فيه لقمان مشرفاً على الموت فأراد أن ينهض فضربت عروق ظهره ولم يكن قبل ذلك يشتكي شيئاً منها فقال: يا لقومي نعى إلي بموتي ... اختلاف النساء وحبل الوتين ثم نظر إلى لبد وقد تطايرت النسور ولم يطير فلم يطق فقال له: انهض لبد نهضاً شدد ... إذ لم يكن أبد الأبد فأراك حين تطايرت ... تلك النسور فلم تعد بشرت لقمان به ... ولعله لم يعتمد قال: ثم أخذ لبداً بيديه ورمى به ليطير فسقط لبد وتطاير وتناثر ريشه

فلم يطق أن ينهض، ثم قال: يا لبد صحبتني فصحبتك وكذبتين فكذبتك، ثم عاد لقمان فأخذ لبداً فرمى به ليعلو ويطير فسقط وتطاير ريشه فقال: انهض لبد نهضاً شدد ... فإن الملك للمجرد يشير إلى الحرث بن ذي شدد. فلما أيقن بالموت قال: يا قوم دعوني من سير الجبارين واسلكوا بي سبيل الصالحين احفروا لي ضريحاً واروني ترباً وحصباً ولا تجعلوني للناظرين نصباً ومات لقمان ودفن بالأحقاف إلى جوار قبر هود النبي عليه السلام. وقد ذكر لقمان والنسور كثير من الشعراء فقال تيم اللات بعده: رأيت الفتى ينسى من الدهر حقه ... حذار لريب الدهر والدهر آكله ولو عاش ما عاشت للقمان انسر ... لصرف الليالي بعد ذلك يأكله قال النابغة يصف لبداً: أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقال لبيد بن ربيعة فذكر لقمان وقصته ولبداً وقصته: لله نافله الأجل إلا فضل ... وله العلى واثبت كل موصل لا يستطيع الناس محو كتابه ... أني وليس قضاؤه بمبدل سوى فاعدل دون عزة عرشه ... سبعاً طباقاً فوق فرع المنقل والأرض تحتهم مهاداً راسياً ... نبتت جنباتهم بصم الجندل بل كان سعيك في حياتك باطل ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل لو كان شيء خالد لتواءلت ... عصماء مؤلفة ضواحي مأقل بظلوفها ورق البشام ودونها ... طود يزل سراته بالاجدل

أو ذو زوائد لا يطاف بأرضه ... يغشى المهجهج كالذنوب المرسل في نابه عوج يجاوز شدقه ... ويخالف الأعلى وراء الأسف فأصابه ريب الزمان فأصبحا ... أنيابه مثل الزجاج النصل ولقد رأى صبح سواد خليله ... ما بين قائم سيفه والمحمل صبحن صبحاً حين حق حذاره ... أصبحن صبحاً قائماً لم يعقل لقد جرى لب فأدرك جريه ... ريب الزمان وكان غير مثقل ولقد رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل من تحت لقمان يرجو سعيه ... ولقد رأى لقمان ألا ياتلى غلب الليالي بعد آل محرق ... وكما فعلن يتبع وبهرقل وغلبن أبرهة الذي الفته ... قد كان عمر فوق غرفة موكل والحارث الحراب أمسى قاطناً ... داراً أقام بها ولم يتحمل والشاعرون الناطقون أبادهم ... سلكوا سبيل مرقش ومهلهل ودعت قومي بالسلام كأنني ... ماض إلى سفر بعيد المرحل وقال الأعشى في ذلك أيضاً: فأنت الذي سقيت عمراً بكأسه ... ولقمان إذ خيرت لقمان في العمر فقال مميت الخلق ما يصحب الندى ... ثم لم يلق بدعوتها القطر لنفسك أن تختار سبعة أنسر ... إذا ما مضى نسر خلفت إلى نسر فقال نسر حين أيقن إنه ... خلود وهل تبقى النسور مع الدهر وهي لبد والطير يخفقن حوله ... وقد بلغت منه المدى صحوة القدر فقال له لقمان إذ حلَّ ريشه ... هلكت وقد أهلكت هاداً وما تدري

ملك الهمال بن عاد المعروف بذي شدد ملك متوج

وأصبح مثل الفرخ أطلق ريشه ... وبادت به عمراه في ليلة الحشر قال وهب: كان بنو كركر بن عاد بن قحطان أصابهم قحط فسار لقمان إلى بيت مكة وسار معه قيل بن الكثير بن عنتر العادي يستسقيان ويدعوان الله تعالى، فكان يسأل لقمان العمر وقيل يسأل القطر فأجيبت دعوة لقمان ولم تقبل دعوة قيل ألا إنه رأى في المنام كأن آتياً آتاه فقال له: يا قيل انك ضيف الله في البلد الحرام قصدت الله وجاورت بيته فلك قرى الدعاء وقد استسقيت لقوم الله عليهم غضبان ولكن اذهب إلى الموضع الذي تدعو الله فيك فانك تصيب فيه كأساً فاشرب به كأساً من زمزم إجابة لدعائك فانك لن تصم ولن تعمى ولن تسقط لك سن ولا ضرس بعده حتى تلقى الله، فلما أفاق سار إلى الموضع فأصاب به كأساً فأخذه وسار به إلى زمزم فشرب به كأساً كما أمره فما اعتل بعده بعلة في جارحة حتى مات. ملك الهمال بن عاد المعروف بذي شدد ملك متوج وأنه لما مات لقمان بن عاد صار الملك إلى أخيه الهمال بن عاد بن الملطاط ابن السكسك بن وائل بن حمير. والهمال بن عاد هو ذو شدد، فلما صار الملك إلى هم الذي شدد دخل إلى المغارة التي دفن فيها أخوه شداد بن عاد فأخرج التاج وتتوج به وكان لقمان غيبه في تلك المغارة لأنه لم يكن متوجا كان متواضعاً لله، فلما ولي الهمال بن عاد أخذ الملك أخذاً شديداً فولي ذلك

ملك الحارث بن الهمال

حيناً من الدهر ثم مات، وإنما قيل له ذو شدد بلغة حمير كقولك ذو شطط ابن عاد بن مناح أي ذو عطاء. ملك الحارث بن الهمال قال وهب: وولي أمر الملك بعد الهمال بن عاد ابنه الحارث بن الهمال وهو الرائش الأصغر والرائش الأكبر عنه لقمان بن عاد وهو الحارث ذو مراثد بن الهمال ذي شدد بن عاد بن ذي مناخ وكانت تأتي هدايا الهند إلى التبابعة من أصناف الطيب والمسك والعنبر والكافور وحب البان والينجوج والزعفران وغير ذلك من أنواع الطيب ومرافق أرض الهند والفلفل والهليلج وغيره، ويأتي الجوهر والعقيق والدن، فلما أتت الهدية إلى الرائش الحارث ذي مراثد وذو مراثد في لغة حمير ذو أيادي وذو مرثد ذو يد. قال وهب: فلما أتت الهدية من قبل الهند إلى ذي مراثد ورأى ما رأى من عجائب الهند تطلعت نفسه إلى غزوها فعبى الجنود وجمع العساكر وأظهر إنه يريد المغرب في البحر وأعد السفن وكان غزاها قبله ثلاثة من الملوك على البر من جبال حران وأرض التبت حتى وصلوا إليها وهم: عبد شمس ابن * سبأ وبعده ابنه وائل بن حمير وبعده ابنه السكسك بن وائل، فكان خراجهم الذي أجروه على الهند جميع هذه الطرائف يطرفونهم بها. قال وهب: فلما أمكن لذي مراثد الرائش جواز البحر ركب وقدم بين

يديه رجلاً من حمير يقال له: يعفر بن عمرو. فسار يعفر حتى دخل أرض الهند وتبعه الرائش ذو مرراثد فقاتل أهل الهند يعفر حتى آتاه الرائش فغلب عليهم فقتل المقاتلة له وسبى الذرية وغنم الأموال ورجع إلى اليمن من جهة مطلع الشمس وكان طريقه مدينة الصغد وهي سمرقند وخلف يعفر بن عمرو في اثني عشر ألفاً في مدينة بناها الرائش ذو مراثد وسماها على اسم الرائش. فلم يقدر أهل الهند يقيمون اسمها فسموها الرائد فهي مدينتهم اليوم وبها ملكهم. وقال في ذلك نوفل بن سعد من رؤساء حمير: من ذا من الناس له ما لنا ... من عارب في الناس أو أعجمي سار بنا الرائش في جحفل ... مثل مفيض السيل كالأنجم يوماً لأرض الهند يسمولها ... تجري به الأمواج كالضغيم فأول الغاية قاموا بها ... واستسلموا للفيلق المظلم في بحرها المنشور سام به ... يوم أمام الملك المعلم يغيرها يعفر اذ جاءها ... يا حبذا ذلك من مقدم فصبح الهند له وقعة ... هدت قواه بالقنا الصيلم وانغص الرائش أملاكها ... وآب بالخيرات والأنعم فالدر والياقوت يجبي له ... والخرد الأبكار في الموسم قال وهب: ولما صار الرائش بجبال خراسان أتته هدايا أرمينية اتقوه خوفاً لما وقع في الهند فأرسل ملوك أرمينية ببزاة بيض وديباج وسروج ومتاع عجيب مما يقابل به الملوك فقال للرسل: كل هذا في أرضكم؟ قالوا: نعم أيها الملك. قال: فلم نأخذ شيئاً إذ لم نأخذ أرض أرمينية، فسار يريد أرض

أرمينية فقدم بين يديه شمر بن العطاف الحميري في مائة ألف وسار يتبعه بالجمع فأخذ أرمينية وأخذ في دروب الأرض إلى عجز الأرض ما تحت بنات نعش وأبواب زوايا الأرض، ثم قفل راجعاً حتى بلغ أذربيجان حتى بلغ إلى الصخرتين من أذربيجان وهما صخرتان قد تقابلا جبلان شامخان يحسر الطرف عنهما وليس يأخذ أخذ بأذربيجان إلا بينهما. فكتب في الصخرتين بالحميري المسند وسموا الحميري المسند لأنه على عدده وهو منثور مثله فكتب في الصخرة الواحدة أن الرائش ذا مراثد سيد الأوابد بلغ من الدنيا أمله وبقي ينتظر أجله فمتى ينقض يمض وتحته منقوش: يا جابيا خرج خراسان ... ملججاً في أرض حران فتحت أرض الهند مستأثراً ... يعفر الأول والثاني يتبع قرن الشمس إن أشرقت ... حتى بدا نور الضحى قاني سام على البيت مستعجلاً ... مقتحماً أرض أذربيجان سينقضي الرائش بعد الذي ... نال ويبقى الناس في شان وكتب في الأخرى: إلا أن الزمان أطاع أمري ... وسوف أطيعه قهراً بقسر ركبت الدهر إعصاراً عزيزاً ... سيسأم طول هذا الدهر دهري يخادعني بأيام حسان ... ويقطع دائباً في ذاك عمري لقد صبر الزمان على اعتزامي ... ليعلم أن عصاني كيف صبري له أيد طوال عن قصار ... تناول ذا الورى خسري ويسري

ملك الصعب ذي القرنين

قال أبو محمد: أن ذلك الكتاب لمكتوب فيها اليوم - قال: وإن الرائش ذا مراثد رجع إلى اليمن ونزل غمدان ومات، فكان عمره في الملك مائة عام وخمسة وأربعين عاماً، والله أعلم. ملك الصعب ذي القرنين وولي بعده ابنه الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد بن عامر بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام ابن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. قال وهب: رفع الحديث إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إنه قال (حدثوا عن حمير فإن في أحاديثها عبراً). قال وهب: وولي الملك الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد تجبراً لم يكن في التبابعة متجبر مثله ولا أعظم سلطاناً ولا أشد سطوة وكان له عرش من ذهب صامت مرصع بالدر والياقوت والزمرد والزبرجد، وكان يلبس ثياباً منسوجة من الذهب منظومة دراً وياقوتاً وكان عظيم الحجابة. قال: فبينما هو في ذلك المكان إذ رأى رؤيا كأن آتياً آتاه فأخذ بيده وسار به حتى رقي به جبلاً عظيماً منيفاً لا يسلك فيه سائر من هول ما رأى إذا شرف على جهنم وهي تحته تزف وأمواجها تلتطم وفيها قوم سوط تتخطفهم النيران من كل جانب. فقال له الصعب: من هؤلاء؟ قال له: الجبابرة فاخلع يا صعب رداء الكبر وتواضع لله يعطك عزاً أعظم من عزك وهيبة أجل من هيبة الكبر وعزاً أعظم من عز

الملك فاختر لنفسك أي المقامين أحب إليك. قال: فلما أصبح برز للناس بعد الحجابة وتواضع وانبسط بعد العز والقسوة وجلس بين الناس ودخل قلبه وحشة خوفاً من الله ثم أمر بالعرش فاخرج، ثم قال: أيها الناس اهتكوا ولكل يد ما أخذت فهتك العرش وانتبه الناس ثم رمى بثوبه فتخطفه الناس، ثم قال: أيها الناس إن الله الجبار يبغض الجبارين، قهر الموت من ادعى إنه ندره وأذل الملك من ادعى إنه ضده واستأثر بالبقاء بعد ذهابه الإملاء. قال وهب: ثم إنه رأى في الليلة الثانية كأنه نصب له سلم إلى السماء ورقى عليه، فلم يزل يرقى حتى بلغ إلى السماء فسل سيفه ثم علقه مصلتاً إلى الثريا ثم أخذ بيده اليمنى الشمس وأخذ القمر بيده اليسرى ثم سار بهما وتبعته الدراري والنجوم، ثم نزل بهما إلى الأرض، فلم يزل يمشي بهما وتبعته النجوم في الأرض، فأفاق. فلما أصبح خرج إلى الناس هائماً لا يدري ما هو فيه فاستنكر الناس أمره. قال وهب: ولما كانت الليلة الثالثة رأى كأنه جاع جوعاً شديداً وظهر إلى الأرض فصارت له غذاء فأقبل عليها يأكلها جبلاً وأرضاً حتى أتى عليها كلها، ثم عطش فأقبل على البحار يشربها بحراً بحرا حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على المحيط يشربه فلما أمعن فيه إذا هو بطين وحمأة سوداء لم تسغ له بما آتاه فترك ثم أفاق من نومه فلما أصبح هام وحار فيما رأى وغاب عن الناس لما به. فقال الناس: يوماً يظهر ويوماً يحتجب. قال وهب: فلما نام في الليلة الرابعة رأى كأن الأنس والجن آتوه من

الأرض كلها حتى جلسوا بين يديه، ثم أقبلت البهائم والأنعام من الأرض كلها حتى جلست بين يديه، ثم أقبلت الوحوش من الأرض كلها حتى جلست بين يديه، ثم أقبلت الطير حتى أظلته وأقبلت الهوام من جميع الأرض كلها حتى حفت به، ثم أقبلت الرياح حتى استدارت فوقه. قال: فأرسل أمماً من الإنس والجن مع ريح الصبا إلى المغرب فهبت بهم إلى المغرب، ثم أرسل أمماً من الإنس والجن مع ريح الشمال، فهبت بهم إلى يمنى الأرض فلما ذهبت الإنس والجن أمر البهائم والأنعام فذهبت بهم الرياح الأربع وجوهاً من ألأرض، فذهبوا في سبيل الأنس والجن، ثم أمر الطير فذهبت بها الرياح في الوجوه الأربع، ثم أمر الرياح فذهبت بالوحوش وحبس سباعها تحت قدميه، ثم أمر الرياح فذهبت بالهوام في سبيل من مضى من جميع من أرسل، فلما أصبح غلب عليه هول ما رأى من الرؤيا الأولى والثانية والثالثة والرابعة فأرسل في وزرائه وأهل مشورته ووجوه قومه فجمعهم، ثم قص عليهم ما رأى. قال لهم: كنت كتمتكم أمر وهو أمر جسيم. قالوا له: هال علينا حالك أيها الملك فتحيرنا في أمرك وخشينا من سخطك إن نحن سألناك من قبل أن تظهره، فلما كان إظهاره منك فرجت علينا أيها الملك أمراً جليلاً واطمأنت قلوبنا فما هو أيها الملك؟ قال لهم: رأيت رؤيا عظيمة، ثم رأيت في الليلة الأخرى أعظم منها، ثم رأيت في الليلة الثالثة ما هو أعظم منهما جميعاً، ثم رأيت في الرابعة من أعظم مما تقدم، فلم أدر ما أفعل؟ قالوا له: ما هي أيها الملك؟ فقص عليهم جميع ما رأى. فهالهم ما سمعوا منه فقالوا له: نامت عينك أيها الملك اجمع أهل العلم بالتأويل والنجم والكهانة والحبابرة من أهل الدين الأول فإنهم يفسرون للملك جميع ما رأى في

الليلة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، فقالوا له: أيها الملك هذا شأن عظيم لم تدرك عقولنا تأويل هذا، وإن نحن تأولناه لك لم نأمن إن نحن لم نصب وجه الرؤيا يسخط علينا الملك وقد يخرج تأويل الرؤيا على غير ظن المتأول. قال: ثم قام إليه شيخ منهم له عقل ودين وقد جرب الأمور وحكمته الدهور. فقال له: أيها الملك أما أنهم قد أحسنوا إلى أنفسهم إذا لم يفسروا شيئاً من رؤيا الملك ولو أجابوا الملك لرددت عليهم، أنا وإن تقدمت في ذلك بين يدي الملك تحسن العاقبة قال له الصعب ذو القرنين: لم ذلك؟ قال له الشيخ: ذلك لأن الله فوض إليك أمراً جليلاً وقلدك أمراً جسيماً ثم أراك وحياً عظيماً، فقد استمسكت بأمر الملكوت واني يفسره لك من الله عليه فاضطره إليك وجعل حكمك في دمه وماله فقد وقفك الله بين الجنة والنار فإن عدلت يميناً فجنة وإن عدلت يساراً فنار، ثم أراك هذا البناء العظيم فأردت أن تسبرن في علم الله من أباح لك جهله دمه وماله يحملون آراءهم على علم الملكوت ووحي الغيوب فقد رأيت أيها الملك عظيماً فليس على الأرض من يفسر تأويل رؤياك إلا نبي ببيت المقدس من ولد إسحاق بن إبراهيم الخليل. قال له الصعب: ولله نبي على الأرض؟ قال له الشيخ: نعم أيها الملك ما أتيت الملك إلا وقد لقيته وسمعت منه ما يدعو إليه فأمر ذو القرنين بالجنود فجمعت، فجمع جنوداً لم يجمعها ملك قبله، وذلك عند كمال قوة لابن سام ابن نوح صلى الله عليه وسلم وبه كانوا يتداعون في ذلك الزمان وهم عمود النسب من ناولهم من جميع العجم، فلكا اجتمع للصعب ذي القرنين الجموع العظيمة والعساكر البارزة أوقفها بمآرب وعمل بطاعة

الله وحكم بحكمه، ثم أمر بعمود من رخام فنقش فيه بالمسند الحميري: يلوم اللائمون الجهل جهلاً ... وداء الجهل ليس بذي دواء وعلم العالم التحرير جهل ... إذا ما خاض في بحر البلاء إذا كان الإمام يحيف جوراً ... وقاضي الأرض يدهن في القضاء فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء ثم أمر الصعب ذو القرنين الجنود فنهضت وجعل على طالعته ألف ألف فارس، ثم مشى بالخيل والرجل فسار حتى انتهى إلى البلد الحرام فنزل به، ومشى في الحرم راجلاً حافياً وطاف البيت وحلق ونحر، ثم قضى حجه ومشى في الحرم راجلاً حافياً حتى إذا خرج منه ركب ثم سار إلى بيت المقدس، فلما نزل بيت المقدس سأل عن النبي الذي ذكر له ولم يطلب شيئاً غيره حتى ظهر عليه. قال له الصعب: أنبي أنت؟ قال له موسى الخضر: نعم، قال له: ما اسمك ونسبك؟ قال له: موسى الخضر بن خضرون بن عموم بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. قال له الصعب: أيوحى إليك يا موسى؟ قال له: نعم يا ذا القرنين، قال الصعب له: يوما هذا الاسم الذي دعوتني به ما هو؟ قال: أنت صاحب قرني الشمس وذلك أن أول من سماه ذي القرنين الخضر. قال وهب: ثم قص عليه كيف رأى جهنم والجنة ثم قص عليه كيف رأى إنه علق سيفه بالثريا مصلتاً وأنه أخذ الشمس والقمر وتبعته النجوم والدراري ونزل بهم إلى الأرض ومشى بهما في الأرض والنجوم تتبعه، ثم قص عليه كيف أكل الأرض بجبالها وشرب البحار كلها، ثم شرب عامة ماء البحر المحيط

حتى آتاه كدر وحمأة فلم يستطع شربه وكف عنه. وقص عليه كيف رأى الأنس والجن والبهائم والأنعام والوحوش والطير والهوام وعقد الريح وكيف صرفهم في الأرض. قال له: أن الله مكن لك في الأرض وأعطاك من كل شيء سببا فأما جهنم فقد أنذرت فانتبه. فأما طلوعك إلى السماء فهو علم من عند الله تدركه، وأما الشمس والقمر والدراري والنجوم فإنه لا يبقى معك في الأرض ملك إلا خلعته ولا رأس إلا تبعك. وأما الأرض التي أكلتها إلى غايتها فلم تبق منها شيئاً فإنك تملك الأرض ومن عليها. والسبعة البحار التي شربتها فإنك تركب السبعة الأبحر وتملك جزائرها. وأما البحر المحيط فإنك تركبه وتبلغ منه غاية يأتيك عكر لا تستطيع تعبره فترجع دونه، وأما الأنس والجن فإنك تنقلهم في الأرض من مكان إلى مكان تحول أهل المغرب إلى المشرق وأهل المشرق إلى المغرب وأهل يمين الأرض إلى شمالها وأهل شمالها إلى يمينها، وأما الأنعام والبهائم فإنها تسخر لك. وأما الوحوش والطير والهوام فإنها تسخر لك لا تضر شيئاً في زمانك وحيث ما شئت عقدتها بيدك زمامها، وأما الرياح فانك تملك عقدها تصرف ضرها عن أي بلد شئت، وأما رؤياك أنك طفت بالشمس والقمر في الأرض فانك ستجاوز مغرب الشمس وتصير في ظلمة لا تهتدي إلا بما في يديك من العلم ويذهب عنك ضوء الشمس والقمر فانهض بأمر الله واعمل بطاعة الله فإن الله يغنيك ويسددك ويوفقك. قال وهب: وإن ذا القرنين نام فرأى أي سبباً كأن الأرض كلها عليها ليل إلى أن طلعت له الشمس من المغرب بيضاء صافية فسار يلقى الشمس فلم يزل يتبع نورها حتى بلغ أرضاً مفروشة بنجوم السماء، فمشى عليها، ثم أفاق فاعلم الخضر بهذا السبب، قال له الخضر: أمرت بأن تسير إلى المغرب

وتبلغ وادي الياقوت. فكان الخضر يأتيه الوحي فيعلم بذلك ذا القرنين، وتأتي الأسباب إلى ذي القرنين فيعلم بها الخضر. فكان ذو القرنين يعمل بالعلمين، ثم سار ذو القرنين إلى القرنين إلى المغرب وسار معه الخضر فسار ذو القرنين يطأ المغرب بالجنود يقتل ويسبي وينقل الناس من أرض إلى أرض فعاد على ارض الحبشة، فلم يزل يفتحها أرضاً أرضا وأمة أمة حتى بلغ أقصاها. قال أبو محمد عن أسد بن موسى عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله ابن عباس إنه قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام فثلاث مائة منها بحار ومائة قفار ومائة عمران، فثمانون منها لياجوج وماجوج وأربع عشرة للسودان وست منها لما سوى ذلك من الخلق. قال وهب: لما لجج ذو القرنين في أرض السودان يقتل ويحرق بالنار إلى أن أتى إلى قوم بكم قال له الخضر: هل لك أن تسمعهم فإنهم قوم لا ينطقون فمن عمل بما أمرته علم إنه قبل ومن لم يعمل قتلته. ثم مضى حتى انتهى إلى قوم سود زرق الأعين فقتل من قتل وآمن من آمن ثم مضى حتى انتهى إلى قوم بلق آذانهم كآذان الجمال فقتل منهم أمماً وعفا عمن آمن، ثم مضى حتى انتهى إلى قوم آذانهم كبار من أعلى رأس احدهم إلى ذقنه فإذا رقد وضع شقاً عليها وغطت الأخرى الشق الأعلى فقتل من كفر وعفا عمن آمن حتى غلب على أرض السودان وجلب منهم أمماً بين يديه في عساكره، ثم مضى حتى بلغ أرض بني ماريع بن كنعان بن حام فقتل وغنم وسبى وساق منهم أمماً بين يديه، ثم جاز إلى جزيرة الأندلس فغلب عليها إلى أقصاها، ثم رام ركوب البحر المحيط فزفر عليه البحر وصار كالجبال الشم فرأى في الأسابا عقدة فبنى منارة وجعل عليها صنماً من نحاس عقد بها عاصفات الرباح، ثم سكن البحر فلان فركبه وسار بجميع جموعه حتى أبعد عن العقد،

ثم طغى عليه البحر فبنى منارة أخرى ونصب عليها صنماً عقداً. فلم يزل يسير في المحيط وكلما عبر وزفر عليه بنى منارة وعقد عقداً حتى انتهى إلى عين الشمس فوجدها تغرب في عين حمأة في البحر المحيط ووجد من دونها جزائر فيها أمم لا يفقهون ما يقولون ولا ما يقال لهم فقال ذو القرنين: من رمى بكم ها هنا؟ فقالوا له: سبأ، فأخذهم ذو القرنين فأراد قتلهم قال له الخضر: يا ذا القرنين {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً، قال: أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً ثم أتبع سبباً} حتى بلغ وادي الرمل وأقبلت الشمس حتى سقطت في العين الحمأة، فكاد يهلك ويهلك جميع من معه من حر الشمس. فلما أتى وادي الرمل وجده يسيل بالرمل كالجبال الرواسي فرام أن يعبره فلم يطق، وأقام عليه أربعة أيام حتى دخل عليه السبت فسبت وأمر عمرو بن يعفر الحميري فعبر وادي الرمل في عشرين ألفاً فمضى حتى غاب عنه فلم يرجع إليه من عنده أحد، ثم أمر زهير بن مالك الحميري فعبر في عشرة آلاف رجل وقال له: يا زهير انظر إليه عمرو ومن معه وانصرف ولا تمض فعبر زهير فلما صار إلى مكان عمرو ولى بمن معه. فلم يرجع إليه من عنده أحد وغاب عنه، فلما رأى أن عمراً ذهب وذهب زهير فلم يرجعا بمن معهما علم إنه علم مغيب عنه فقال للمسقر بن حوشب يا مسقر أنت أعظم رجالي عندي وارجاهم فاعبر وارجع إلي بما رأيت وما صار إليه عمرو وزهير، فعبر المسقر في خمسة آلاف رجل، فلما عبر وصار مكان عمرو وزهير مضى جميع من معه مستعجلين، ووقف المسقر مكانه لا يرجع ولا يذهب حتى غشيه الليل وسقطت الشمس فأصبح الوادي يوم الأحد

وهو يجري كالجبال الشم وحال بينه وبين المسقر وغاب عنهم فلا يدري ما صاروا إليه. قال له الخضر: يكفيك يا ذا القرنين ف ' نه لن يجوز إلا من قد جاز اتبع ذو القرنين سبباً وسار مع وادي الرمل حتى بلغ إلى الظلمة فصار ليله ونهاره واحداً وعين الشمس تسقط خلفه فشق وادياً تزلق فيه الخيل والجمال وجميع ما معه. قالوا: يا ذا القرنين ما هذا؟ قال لهم: أنتم بمكان من أخذ منه ندم ومن تأخر ندم، فساروا فيه أياماً، ثم عطف بهم الوادي إلى جهة أشرق عليهم نور أبيض يكاد يخطف أبصارهم، قالوا له: يا ذا القرنين ما هذا الوادي الذي عبرناه؟ قال لهم: الوادي الذي عبرتم أنتم ذلك وادي الياقوت فمن أخذ منه قال: ليتني أخذت كثيراً ومن لم يأخذ قال: ليتني أخذت منه قليلاً. ثم انتهى إلى الصخرة البيضاء فكادت تذهب بأبصارهم من نورها وشعاعها وكان الذي وجدوا من الظلمة نور الصخرة ونظر ذو القرنين إلى منكب من مناكب الصخرة فرأى عليه نسوراً فعجب ذو القرنين منها ومن تعلقها في ذلك الموضع. قال ذو القرنين للخضر: يا ولي الله ما لهؤلاء النسور ها هنا! قال له الخضر: لهم شأن عجيب ونبأ جسيم، قال له ذو القرنين: ما هو يا نبي الله؟ قال له الخضر نعم يا ذا القرنين إنه لما أمر الله خليله إبراهيم بالهجرة إلى أرض بابليون أرسل إبراهيم جرجير بن عويم داعياً، وكان ولياً من أولياء الله داعياً من دعاته، إلى المغرب ليقيم حجة الله تعالى على الناس فبلغ قمونية فدعا الناس إلى الله تعالى فأجابه أمم وعصى أمم، ثم عبر إلى جزيرة الأندلس فأصاب بها أمما من بني يافث بن نوح وهم السكسك والقبط والإفرنج والجلائق والبربر والرعر فدعاهم إلى الله فقتلوه والقوه في

موضع يجتمع فيه حشوشهم، فأرسل الله له هذه النسور للذي أراد من خلاص وليه من ذلك الموضع فجبذوه وأزالوه منه ونزل غيث وابل فطهره، ثم أكله هؤلاء النسور حتى نخر لحمه من عظامه وتفرقت عظامه وأوصاله، ثم أتى النسور إلى هذه الصخرة المنيعة فنزلوا فلم يقدروا على إمساك لحمه في حواصلهم فتقيؤوا فألقوه في ذلك الموضع فلم يبق من لحمه في حواصلهم شيء، ثم أرسل الله عظامه طيراً بعد من فرقتها النسور فكانت تأخذها عظماً عظما فإذا استقلت بها في الهواء ألقتها في الأرض فتنزل العظام في غابة عظيمة تغيب فيها فيتبعها الطير وتمنعه الغابة فلا يجد الطير إليها سبيلاً فعظامه فيها إلى يوم القيامة ولحمه على هذه الصخرة إلى يوم القيامة طهره الله من نجاسات المشركين وقد حرم الله النبيين والشهداء دماءهم ولحومهم على الأرض والطير والوحوش والهوام حتى يقفوا بين يدي الحكم العدل فسائل ومسئول وخاصم ومخصوم فهناك الفوز والدرك، ثم دنا ذو القرنين من الصخرة ليرقى عليها فانتفضت وارتعدت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت، ثم عاد إليها ثانية فاتفضت وارتعدت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت، ثم عاد إليها ثالثة فانتفضت وارتعدت وتقعقعت، ثم دنا منها الخضر فسكنت فرقى عليها فلم يزل يرقى وذو القرنين ينظر إليه والخضر يطلع إلى السماء حتى غاب عنه فناداه مناد من قبل السماء امض أمامك فاشرب فإنها عين الحياة وتطهر فإنك تعيش إلى يوم النفخ في الصور ويموت أهل السموات وأهل الأرض فتذوق الموت حتماً مقضياً. فمضى حتى انتهى إلى رأس الصخرة فأصاب عيناً ينزل فيها ماء من ماء السماء فشرب منه وتطهر، فلما رأى الماء ينزل ويستدير ولا يسيل منه شيء

قال: إلى أين تذهب أيها الماء فنودي قد بلغ علمك، فلما رجع الخضر إلى ذي القرنين قال له: يا ذا القرنين إني شربت من ماء الحياة وتطهرت منه وأعطيت الحياة إلى يوم النفخ في الصور وموت أهل السموات والأرض ثم أموت حتماً مقضياً، ومنعت أنت ذلك ولك مدة تبلغها وتموت فارجع فليس بعدها مزيد لأنس ولا جن - ولم ير ذو القرنين سبباً فأقام حيناً ينتظر السبب، فأنشأ يقول: منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي وطلوعها بيضاء صافية ... وغروبها صفراء كالورس تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت للنفس لم أدر ما يقضيه حكم غد ... ومضى بفصل قضائه أمس وتشتت الأسباب تخلجني ... نحو العراق ومطلع الشمس أزجي لهم حرباً تؤدبهم ... يلقون ذاك بأوجه عبس تهوى المنون عليهم قذفاً بليوث غاب غير ما نكس في ألف ألف كالنجوم لهم ... زجل كأسراب القطا الهمس والصعب ذو القرنين قاد بها ... لصلاح أرض الترك والفرس يا رب معصوم لساحتها ... عن هالك بعالم درس للدهر أيام لعبن بنا ... يأتي القضاء بمحكم الطرس كم من قرير العين في دعة ... ومروع الأيام في نحس ومسود من غير مكرمة ... وممجد في ذاته يمسي وعسيف قوم ظل في سعة ... ومقام حر عاش في تعس ومعزز لم يلق قط وغى ... وحليف ذل فارس الدعس إني أرى الأسباب واضحة ... وأرى علوم الغيب في طمس

وصية الخضر عليه السلام

يجري الزمان لنا بأربعة ... غيرن ما أصلحن بالأمس يوم وليل دائر بهما ... نحس وسعد غاية النفس إن المسقر بعد عزته ... ناء عن الخلان والأنس والموت أس للنفوس متى ... حل القضاء رجعن للاس هيهات لم يخدع فكان فتى ... لابد أن يمسي بلا حس رهنا ببطن تنوفة أبداً ... بالحنو حنو الرمل في رمس وان الخضر عليه السلام قال لذي القرنين: قد بلغت مبلغاً ليس وراءه من مزيد ولا مرمى وطفت جزائر المحيط وبلغت حجة الله على الجن والأنس بالمغرب، فانتظر ما يوحى إليك فأقام حيناً ينتظر حتى رأى السبب الصادق فناداه مناد من السماء: يا ذا القرنين اليوم الغناء وغداً الفناء اليوم العارية وغداً الهبة يا ذا القرنين إن النار زفرت وتغيظت على من يعرف الله ولم يغضب له يا ذا القرنين عذ بالرضى من الغضب وبالولاء من السخط، يا ذا القرنين اطلع مشارق الأرض فإنها ثلاثمائة مطلع وخمسة وستون مطلعاً تحت كل مطلع أمة لا يعرفون الله ولا يقنون بالبعث فبلغ حجة الله وأقمها على من لا يعلم وعده ووعيده. وإن الخضر أتى ذا القرنين فقال له: يا ذا القرنين إن لم يقل لك فسيقال لك وإن لم تر فسترى فهل قيل لك أو رأيت؟ قال له ذو القرنين: رأيت الأسباب الصادقة وسمعت النبأ العظيم يأمر وينهي. وصية الخضر عليه السلام قال له الخضر: يا ذا القرنين إن الله مكن لك في الأرض وآتاك من كل

شيء سبباً ولم تعلم إلا ما شاء الله أن تعلمه من علمه ولو ظهر إليك حرف مما غب عنك لا نصدع قبلك فرقاً، يا ذا القرنين حملت أمانة لو حملت على السماء انفطرت وعلى الجبال انهدمت وعلى الأرض انشقت، أعطيت الصبر وأوتيت النصر، وسترى قوماً يرون أهل الأرض عبيداً وأنهم شركاء الله في خلقه، وهم يأجوج ومأجوج والله الطالب لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب والعقوبة بعد القدرة والمنع قبل الذل والغضب تحت الرضا والوفاء بعد العهد، يا ذا القرنين مرٌّ ينفع خير من حلو يضر، خذ ودع، خذ ما لزمك ودع ما لم يلزمك، يا ذا القرنين ربما رأت عينك شيئاً لم تدركه يدك ومثل لك أملك ما لم يبلغه عملك وحال دونه أجلك، يا ذا القرنين اعمل عمل من لا يموت وازهد زهادة من نزل به الموت واقنع من عيشك بالقوت. يا ذا القرنين أيقن وأتقن فإتقانك صلاح الدنيا ويقينك صلاح نفسك، يا ذا القرنين اجعل نفسك يدك في الدنيا وعينك في الآخرة امش مشي من لا يغفل ولا تعجل ولا تمهل فإن في الغفلة الهلكة وفي العجلة الندامة ومن المهل العطب كن بين حالين سدد ففي السداد الرشاد والحق دليل فاستدل ترشد والغنى لهو ومهلكة واني يفيق غاوٍ لاهٍ - يا ذا القرنين من نظر إلى الدنيا بعين سقيمة نظرت إليه بعين صحيحة وأرته النجاة وأعاضته جدة لا تخلق ومن نظر إليها بعين صحيحة شوقته بالآمال الكاذبة وكان حظه منها غدراً وزادته ندماً، يا ذا القرنين من عاش كذب ومن مات صدق مدة غايتها القطع كذب وغرور وابد لا يفي فالمطمئن إلى الحياة مخدوع والميت في منزل الأموات قدم علمه وأخر أجله فذلك الحي الذي لا يموت، يا ذا القرنين الناس عبيد الدنيا فمن نصح نفسه اعتقها ومن خلط طال رقه - راحة النفس القناعة وعذابها الحسد

وزينتها العفاف -، يا ذا القرنين خذ ما ما أتيت بحزم وعزم واجعل الصبر دثاراً والحق أشعاراً والخوف من الله جنة، يزكو لك العمل وتأمن من هول الأجل، خذ بيدك سيف الله فإنه ليس له دافع ولا لنصره مانع وحسبك من كان الله له ناصراً، يا ذا القرنين خذ تحت أكتاف السماء عن شمال الأرض. قال: فحمل عساكره في المحيط يريد جزائر الأرض خلف جزيرة الأندلس، فلما وصل وعبر إلى الأرض وأخذ أهل الجزائر، وأنشأ ذو القرنين يقول: ألا أيها الوراد قد نلت خطة ... علوت بعلميها ملوك الأعاجم سلكت غروب الأرض حزماً بجحفل ... لنأتي أرضاً غير أرض التشائم فعمت جميع الغرب لله دعوة ... إلى غايتها بالقنا والصوارم خرجت على الدنيا عن اللهو محرماً ... وسقت جموعاً كالهضاب الرواكم وردت بباب الغرب والجمع مشرع ... على موج بحر مزبد متراكم عقدت بعين الريح عقداً يكفه ... فامسك عن مجرى المدى المتفاقم فارجيت فيه أمة بعد أمة ... وقدمت فيه عالماً بعد عالم فأوردتها مثل القطا فيه نهلاً ... لندرك في الدنيا قسّ المعالم تجرعته عذباً من الماء سائغاً ... وكان أجاجاً طعمه كالعلاقم فصرت كمثل الطير فوق متونه ... تطير خوافيه بهز القوادم أتيت إلى واد حثيث مسيله ... برمل تراه كالجبال الرواسم

تسير مهاراً والليالي كاتبا ... ترامي بسافيه حفي المخارم صحبت ولياً مسكن الوحي قلبه ... ليعلم من أسراره كل كاتم وأعطيت أسباباً أرى الرشد عندها ... تناهت بصدق العلم عن كل عالم فلما آتاه السبت أسبت وارتقي ... على متنه عمرو وعاد بعاصم فبادر سباقاً ويعفر بعده ... بجمعها أهل النهى والمكارم وغودر إذا ذاك المسقر قائماً ... له همة تزري على كل قائم فرجم بعض الناس بالظن أمرهم ... وقال دعوا في الأمر دعوة حازم وقالوا رأوا مالاً يقيمون عنده ... فحثوا إلى الحور الحسان النواعم ومن قال في علم العيوب بعلمه ... له نومة تربى على كل نائم فهد جنا حيَّ المسقر فجعة ... وأنت على فقدانه غير نادم فودعني عمرو عليه تحيتي ... وفارقني من يعفر حزم حازم فهل مبلغاً في العهد يأتيه إنه ... ليعلم أن النقض غير المآثم كتبت بخط الحميرية آية ... بأن ليس بعدي من مسير لقادم ولا مذهب غير الذي قد أتيتم ... بني حمير غير النسور القشاعم ولا بد مما أن تريحون غزوة ... لقتل الأعادي والملوك النواجم ويوشك أن تدعوا يقيناً لمثلها ... إلى المشرق الأقصى لأمر ملازم ليعرف حق الله من قد أضاعه ... ويهتك بالأسباب سجف المظالم ويعلم أن الدهر يبلى جديده ... ومن قارع الأيام ليس بسالم ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ومن يك مهدوماً فليس بهادم

ثم أرسل عساكره إلى جزيرة الأندلس وأمرهم أن لا يبقوا عليهم حنقاً عليهم لما فعلوا بجرجير بن عويم داعي إبراهيم الخليل عليه صلوات الله إلا من آمن منهم أو من كان على دين جرجير وما دعا إليه من الحنفية دين إبراهيم. ثم أرسل الخضر إلى قمونية في عساكره وأمره أن يلقاه بدروب الشام، وأخذ ذو القرنين على ألأرض الفرقاء، وإنما سميت الفرقاء لانفراق جزائرها في البحر حتى وصل إلى الشام لا يأتي على أمة إلا آمنت أو هلكت، وسار الخضر إلى قمونية يفعل كذلك إلى أرض بابليون يقتل من صدف ويتجاوز عمن آمن ومر إلى الشام فاخربوه ونجوا هاربين إلى بيت المقدس مستجيرين، فأرسل إلى ذي القرنين استجاروا بالله نعم الجار، فمن كان قد آمن فله ذمام الإيمان وحرمة الدين ومن كفر فإن الله عدو للكافرين أخرجهم من حرم الله المقدس واجر عليهم الجزية ففعل ذلك الخضر حتى انتهى إلى الدروب، فلقي ذا القرنين، فسارا يريدان مطلع الشمس يدعوان إلى الإيمان ولا يأتيان على أمة إلا آمنت أو هلكت حتى بلغ المحيط من عجز الأرض تحت بنات نعش فأصاب فيها أمماً من بني يافث بن حام وأوساه من بني سام، فلم يزل يحملهم على الإيمان فمن آمن نجا ومن صدف عن الحق حمله على السيف ثم عطف على الجزيرة ومضى إلى الرعاق يدعو ويقتل، ثم قصد أرض فارس فآمن من آمن وقتل من غدر وكفر ونزل على جبل الصخر ونزل على قصر المجدل وهو القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح الذي بنى في زمان البلبلة حين تبلبلت الألسن وكان من أمره وشأنه إنه استخرج الصحيفة المستودعة عند النبي صلى الله عليه التي فيها العربية، فكان عابر أول من نطق بالعربية ونطق بها معه هود عليه الصلاة السلام، وذلك إنه لما بنى القصر

الأبيض وبني فيه الصرح وجعل حول القصر المجدل، وبني القصر بألواح الرخام الأبيض وسقوفه بالزجاج الأبيض وأرضه ألواح الزجاج الأبيض وكان لجامه الفردية، وأفرغ الماء تحت الزجاج من أسفل القصر، فكان القصر الأبيض أعجب ما بنى في الدنيا في وقته ولم يبن قبله في الدنيا مثله وهو أبدة من أوابد الدنيا، فلما بناه عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح وتكلم بالعربية تكلم بها معه ابنه هود النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم بها معه ابنه فالغ للذي أراد الله، وذلك أن فالغ بن عابر جد إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروع بن ارعوي ابن فالغ بن عابر، وعابر بن هود النبي صلى الله عليه وسلم وأبو فالغ، فهود أبو بني قحطان وأخوه فالغ أبو بني عدنان، فلما تكلم عابر بالعربية تكلم بها معه ابنه هود وتكلم بها معه بنو عمه ارم بن سام ين نوح وعملاق بن لاوي بن ارم بن سام بن نوح وطسم وجديس ورائش وقطورا بني لاوذ ابن ارم بن سام بن نوح فتكلم بنو ارم بن سام بالعربية كلهم ما خلا فارس بن لاوذ بن سام بن نوح فانه تكلم بالفارسية وهو فارس الأسود ورحل عابر من ارض بابل حتى نزل العراق وحير الحيرة وهو أول من نزلها وحيرها وعرق العراق بغرس النخيل وغير ذلك من الثمار وبقي ابنه فالغ لأقصر الأبيض فتكلم بالفارسية مع بني فارس الأسود فأقام فيهم هو وولده حتى بعث الله إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فأمره بالهجرة والخروج مع بني فارس إلى بني عمه هود وهم العرب بنو قحطان، فأمره أن ينزل ابنه إسماعيل في بيته مكة في بني جرهم بن قحطان للذي أراد الله من تمام أمره ووعده لنبيه إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبقي القصر الأبيض قصر عابر بن

شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح إلى زمان ذي القرنين الصعب بن ذي مراثد، فلما رحل ذي القرنين من جبل الصخر لاح له القصر البيض فقال: ما هذا؟ قيل له: هذا القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ، فأنشأ يقول: أين رب الملك بل أين الذي ... شيد القصر زماناً ثم جن أين من ينجو من الموت ومن ... أخذ العهد على رب الزمن ثم نزل على القصر ودخله فرأى فيه أعاجيب يرى من يمشي فيه من داخل القصر ويرى من في مجالسه من ظاهرها فقال حكم فيه ما أرادوا حكم فيه ما لم يرد، وأنشأ يقول: خرجنا من قرى الصخر ... إلى القصر فقلنا فمن يسأل عن القصر ... فمبيناً وجدناه رأينا القصر كالشمس ... منيراً حين أمناه فأين الساجد السامي ... مليك القصر بناه وقد كان به حيناً ... ولو كان سألناه عن القوم وما قالوا ... ولو قال لقلناه أراه العيش آمالاً ... على بعد ومناه جرى باللهو إطلاقاً ... وسلم الدهر هناه فراق القصر رب القصر ... حيناً ثم أفناه إذا ما أقبلت منه ... أماني حمدناه وإن ألوى لسوء منه ... أحياناً سئمناه إذا ما خاننا الدهر ... بصرف منه خناه

سريعاً بعدنا يفني ... إذا نحن تركناه ثم سار حتى بلغ إلى فج عظيم بنهاوند ثم لقيته جبال شم منيعة بينها شعاب عظيمة. فقيل له: يا ذا القرنين هذا الشعب ينفذ إلى جابر صا وهذا الشعب يصل إلى هرات ومرو وسمرقند وهذا ينفذ إلى جاجا وبلخا وحابلجا وبارد وأرض يأجوج ومأجوج، فأخذ شعب جابرصا وجابلقا فقتل من قتل وآمن ومن آمن وهو في عجز الأرض وغلب على أرمينية ومن بها، ثم عطف إلى فج نهاوند فقيل: هذا باب الأبواب وهو اسمه إلى اليوم بابا الأبواب، فأمشأ ذو القرنين يقول هذه الأبيات: جزعنا الغرب والشرق ... وجئنا باب أبواب وأعلا ما من الدنيا ... بآيات وأسباب بعلم صادق الحزم ... وبأس غير هياب بأمر الواحد القهار ... رب فوق أرباب وفي المر تصاريف ... وآيات لألباب وعلم فوق ذي علم ... وغلاب لغلاب ثم مضى حتى بلغ أرض ياجوج ومأجوج فقاتلهم فغلب عليهم وأناب أمة منهم وهم بنو علجان بن يافث بن نوح فتركهم في جزيرة أرمينية إلى ناحية جابرصا فسموا الترك لأن ذا القرنين تركهم ومضى يطلب ياجوج ماجوج حتى لجج في أرضهم فلم يزل يأخذها أرضاً أرضا وأمة وأمة حتى انتهى إلى الأرض الشماء وهي جبال شم شواهق شوامخ، فلم يزل يخرقها بالطرق وينزل

العلو ويرقع الوهاد ويفتتحها حتى غلب عليها وبلغ الأرض الهامدة فافتتحها - وهي أرض مبسوطة لا تلعة فيها ولا ربوة عليها - وغلب من بها من ياجوج وماجوج. ثم بلغ جزائر الأرض الرواب التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، فوجد عندها قوماً صغار الأعين صغار الوجوه مشعرين وجوههم كوجوه القردة وهم لا يظهرون في النهار وإنما يظهرون في الليل يختفون من حر الشمس في المغارات والكهوف في الجبال فدعاهم بلسانهم وقد أعطاه الله سبباً من كل لسان، ثم صار في أرضهم حتى بلغ أطراف جزائر المحيط فأصاب بها أمماً من ياجوج وماجوج يقال لهم الأحرار تطلع الشمس وهم قوم سود زرق الأعين طوال الوجوه طوال الأنوف تشبه وجوههم وجوه الخنازير وهم يختفون في النهار من حر الشمس ويظهرون في الليل فدعاهم وآمنوا. فكان كما قال الله تعالى وتبارك: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً}. ثم ركب البحر المحيط فسار فيه حولاً حتى ترك الشمس عن يمينه ولجج في الظلمات حتى وصل إلى أرض بيضاء كالثلج فيها نبات وعليها ضوء ليس كنور الشمس نور أبيض يكاد يخطف الأبصار. قال أبو محمد: فرام أن يمشي فساخت بهم الدواب إلى الصدور فترك عساكره كلها ومضى وحده وأعطى سبباً عبر به الأرض فسار أياماً حتى أشرف على دار مفردة بيضاء فيها بيت واحد وعلى باب الدار رجل أبيض واقف وعلى سطح الدار رجل مبيض واقف قد اخذ شيئاً كمزمار فحبسه في فمه وأمسكه بيديه جميعاً وعيناه تشخص إلى السماء يشخص بهما، قال له الرجل الذي على باب الدار: إلى

أين تريد يا ذا القرنين ألم يكفك أرض الأنس والجن حتى أتيت أرض الملائكة! قال له ذو القرنين: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا ملك من ملائكة الله، قال له ذو القرنين: فما هذه الدار ومن هذا عليها؟ قال له الملك: هذه الدار دار الدنيا وهذا الذي عليها ملك من ملائكة الله أوحى الله إليه أن يريك كيف أخذ اسرافيل الصور وعيناه شاخص بهما إلى العرش ينظر متى يؤمر بالنفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون إلى الميقات فهناك الفصل والعدل وكفى بالله حسيباً يا ذا القرنين ارجع فليس لك مزيد وخذ هذا العنقود يا ذا القرنين فأعطاه عنقوداً من عنب وقال له: كل منه يا ذا القرنين وليأكل منه عساكرك فإن لهم فيه آية وهو يبلغكم إلى أرض الأنس والجن وخذ هذا الحجر فأعطاه حجراً مثل البيضة وقال له: زنه بما ترى عينك في الدنيا فإن لك فيه عظة وعبرة فرجع ذو القرنين بالعنقود والحجر إلى عساكره فأكل العنقود وأكل العساكر كلهم ولا ينقص حتى بلغ أرض العمارة فكان مما زادهم يقيناً إلى يقين وكان لهم عبرة وآية، ثم أخذ الحجر فوزنه بجميع جواهر الأرض فرجح الحجر، فلم يزل يزنه بالحجر العظيم والحديد الكبير فرجح عليه، ولم يزل يرجح كل ما وزنه به ولو وزنه بالكثير من جميع ما في الأرض ما وزنه والخضر ينظر إليه ساكتاً قال له ذو القرنين: يا ولي الله هل عندك علم من هذا المثل؟ قال له: نعم هذا الحجر مثل لعينك لم يملأ عينك جميع ما في الأرض مثل هذا الحجر الذي لم يرجح عليه شيء في الأرض، ولكن هذا يملؤها ومد يده فأخذ قبضة من تراب فجعلها في الكفة وجعل لحجر في الكفة فرجح عليها التراب وخف الحجر. قال له الخضر: هذه عينك لا يملؤها إلا التراب وهو الغلب عليها. قال أبو محمد عبد الملك: ثم إن ذا القرنين رجع حتى بلغ السد وهو

بالصدفين ولا سد فيه فوجه فيه قوماً أوفر آذانهم حسيس الفلك فقليل ما يسمعون. قال الله تبارك وتعالى: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا، قالوا: يا ذا القرنين إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ قال: ما مكنني فيه ربي خير فأعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردماً، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال: انفخو حتى إذا جعله ناراً قال: آتوني افرغ عليه قطراً فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعاهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً}. قال أبو محمد فبنى السد ذو القرنين بين ياجوج ماجوج وبين الناس قال: عظم السد في جسمه ألف ذراع وفي طوله ألف ذراع. بنى جسراً دونه وهو من أوابد الدنيا من الصدفين إلى أرض أرمينية وهو مسيرة سبعة أشهر ثم سار يريد أرض الهند حتى بلغ قطر بيل فوجد بها قوماً سموا بالترجامنيين وهم من بني يافث بن نوح وإنما سموا بالترجمانيين لأنهم ترجموا صحف إبراهيم بلسانهم فأجابوا بما فيها، فلما آتاهم ذو القرنين وجدهم بقرطبيل وهم من بني عرجان بن يافث بن نوح وجدهم قد سكنوا مقابرهم ووجدهم لا غني فيهم ولا فقير ولا قاض فيهم ولا أمير ولاناه ولا آمر ورأى مواشيهم بلا رعاة ورآهم بين الأنهار في خلاء من الأرض وقفار واستغنوا منها باليسير عن الكثير، قال لهم: يا بني عرجان ما بالكم سكنتم المقابر؟

قالوا: يا ذا القرنين سكناها لئلا ننسى الموت ونطمئن إلى الحياة وتستهوينا الدنيا، وإنا رأينا الأرض كالبحر يسلكه المرء فيغطي قدميه ثم يمضي فيغطي ساقيه ثم يتمادى فيعلو حقويه ثم يمضي فيعلو منكبيه ثم يعلو رأسه ثم يضطرب بيديه ورجليه فتقلبه أمواجه فتذهب به حيث شاءت فلا يدري ما تحته من الهواء ولا ما فوقه من السماء، فكذلك تستدرج المرء تخدعه ويتبعها حتى إذا لجج سارت به حيث شاءت والدنيا دار إبليس والآخرة دار الله فمن عمل للآخرة أطاع الله وعصى إبليس ومن عمل للدنيا أطاع إبليس وعصى الله فإن إبليس نصب فتنة بكل سبيل. قال: وما بالكم أراكم ليس فيكم غني ولا فقير؟ قالوا له: رأينا غني الدنيا فقيراً بالآخرة، ورأينا معاش هذه الدنيا أعز أهلها وأعظمهم كعيش أذل من فيها وأحقرهم، ولو أن الدنيا كلها للعزيز ذهب وفضة ودر وجوهر ليس له من جميع ماله غير شبعه ولا من كسوته غير لبسه، فارفع طعام ذا في شبعه وأحسن لباس ذا في كسوته اذ دفع عنه حره وبرده كأحقر لباس ذا من كسوته اذ دفع عنه حره وبرده وكان الأمل من قلوبهما واحداً تواسينا فيما لا فضل فيه بين الأرواح والأجسام، ثم رأينا القوي منا لا غنى له عن الضعيف، والضعيف لا قوام له دون القوي وأنه متى هلك الضعيف منا هلك القوي، ومتى هلك القوي هلك الضعيف فتساوينا لئلا يكون منا ضعيف يحسد قوياً ويبغضه ولا يكون قوي يحقر ضعيفاً فواصل القوي الضعيف حتى تكافأ الناس في معاشهم فحسنت معاشرتنا. قال لهم: فما بالكم لا أمير فيكم ولا قاض ولا آمر ولا ناه؟ قالوا له: رأينا القرون من قبلنا والأمم في دهرنا يغصب القوي الجاهل الضعيف القليل الناصر، ويقهر العزيز القادر الذليل المهين ويستطيل كل ذي يد إلى ما قدرت

عليه. فما من عزيز إلا أرسل الله عليه أقوى منه يسلبه قواه وأذله بعد عزه ولا يد استطالت فبطشت إلا حال الله بينها وبين ذلك بيد أبطش منها وأجهل وما من متكبر إلا أديل عليه بمتكبر ولا من أمة إلا انتقم الله منها بأمة، فلما رأينا ذلك كففنا بعضنا عن بعض البغي والعدوان والجهل والتسافه والحسد والتواكل فأصبحنا وأمسينا أخواناً وليس فينا ظالم ولا مظلوم فلما لم يجر بيننا ظلم كفانا الله بغي غيرنا من الناس واطمأنت بنا الدار وطاب لنا القرار. قال: فما بالكم بين أنهار وأنتم في خلاء وقفار ليست لكم إلا عمارة يسيرة؟ قالوا له: اجتزينا بالقوت ويسير المعاش. قال لهم: أحسنتم في جميع أحوالكم خلا عمارة الأرض أعمروها لعقبكم فإن العقب إذا لم يجد متعة يتمسك بها من معاشه تطاول بها إلى ما في يده غيره فحمل نفسه على الهلكة فأما لا دنيا ولا آخرة وأما دنيا أن ظهر عليه عدوه كان بلا دنيا ولا آخرة وإن ظفر فدنيا بلا آخرة، ولكن ذللوا الأرض للحرث واغرسوا الأشجار واستخدموا الأنهار فإنها حياة النسل والبهائم والأنعام فإن لكل دين فترة ولكل فترة كفرة ولكل كفرة سكرة واحذروا التبديل فإن لكل أمة تبديلاً وتكذيباً. ثم مضى إلى أرض سمرقند فوجد فيها الزط والكرد والصغد فقتل منهم من قتل وأجاب من أجاب، ثم أخذ أرض مرو فوجد فيها الخزر وفرغان والديلم وجميع هؤلاء القبائل من بني يافث فقتل منهم من كفر وآمن من آمن ثم مضى إلى أرض هراة فوجد فيها الخوز والإفرنج فأجابوه فغلب عليهم وقتل الجبابرة وأهل العتو في الأرض، ثم سار على البر إلى

أرض الصين فلقي السند، وهم من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وقتل من قتل، ثم دخل أرض الهند - والهند أخوة السند - من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وعلى جميع أرض الصين، ثم رجع إلى أرض بابل فغلب عليها وعلى من بها من قبائل بني نوح حتى أجابوا، ثم سار يريد أرض تهامة والحج بمكة، فلما صار من رمل العراق بموضع يقال له حنوقراقر من ارض برقة رحرحان رأى في الأسباب إنه يموت بالحنو ويكون فيه قبره ومنه محشره وكان رآه أيضاً حين امتنعت من طلوعه عليها الصخرة البيضاء - فلما رأى الموت وأيقن به ونعيت عليه إليه نفسه أعلم بذلك الخضر فقال له الخضر: يا ذا القرنين انقضى الأمل وحان الأجل وبقي العمل فحكم عليك اليأس لما تقحم عليك الممات فنزل الرضا وغاب عنك القضاء، وقد وعدك الله وعداً والله متم وعده - عصم دعاته في الدنيا من المكاره وحرمهم في الآخرة على النار، فقال ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد الحميري: لما رأيت من المنون وعيداً ... قوضت رحلك سحرة تجريداً مثل لنفسك ملحداً أخدوداً ... واحذر لنفسك موقفاً مشهودا وبدت لك الأسباب عن آياتها ... لما بدرت وجردت تجردا إن اليقين يزيد لحظاً صادقاً ... وترى من الأمر الخفي وعيدا قد حقق السبب الخبير بأمره ... لما آتاك يصدق الموعودا ودعاك إذ حان الرحيل ولم تجد ... لما دعاك عن الرحيل محيدا ولقد رجوت بأن تقال فلم تجد ... عند الرجاء من السنين مزيدا ولت سنوك وغاب عنك مقامها ... وأرى لعمرك فقدها موجودا

ليس الذي ولى وإن أملته ... مما تحب إلى المنى مردودا أني يلوم أخو النهي أيامه ... سفهاً ويكثر عندها التفنيدا أسفاً لمن جارى الزمان ولم يزل ... بظبي المنية نحره مقصودا أين الذي يخشة وينسى عمره ... يوماً على بعد المدى معدودا لابد أن يلقي المنون وإن نأت ... تأبدت أيامه تأبيدا ولقد رأى من حكمها فيما مضى ... عبرا مشين معجلاً ووئيدا كم جددت من ذي السقام واخلقت ... بعد الغضارة والنعيم جديدا كم الفت من شاسعين وشتت ... بعد الإقامة والجميع عديدا من كان في حقب الدهور مخلد ... أو كان في جمع العبيد عتيدا تستعبر الأيام منه جدة ... بعد النعيم ولو غدا جلمودا يهتكن عنقة والثبير ووائلا ... وتحط بعد علوه عبودا لا يطمئن إلى الزمان وريبه ... من كان لم يعهد خلودا فايأس فلا يبقى وإن طال المدى ... من كان فوق أديمها مولودا ألوى بحمير والمقعقع بعده ... وأباد عاداً قبله وثمودا يا صعب حقاً كل شيء هالك ... إلا الإله الواحد المعبودا هتكت خطوب الدهر عزك هتكه ... أمسى حسامك دونها مغمودا أخذ الزمان من الشبيبة فرصة ... فأرى الزمان وعصره محمودا عمرت ألفاً بعد ألف قبلها ... في العالمين وقد دعيت وحيدا يا سائلين عن الزمان وسيره ... مذ كنت منه مضغة موؤدا أعطيت ما لم يعط قبلي قائم ... وجمعت جمعاً كالدبا محشودا وجلبت أهل الأرض من آفاقها ... ألفت أملاً كابها وجنودا

عج النساء لدى الحجون بمكة ... لما رأين حريمها مقصودا فنحرت فيها ألف ألف ضحوة ... ودعوت قولاً بالمقام سديدا فلقد أخم اللحم فيها برهة ... وحنذت لما أن أضل قصيدا وقصدت آفاق الغروب بقدرة ... فوجدت نحساً عندها وسعودا فهديت منها مرمناً ذا همة ... وفسرت منها كافراً وجحودا ما أن ارم لما أجاب مخافة ... حتى يظل عن الصراط لدودا ورأيت عين الشمس عند سقوطها ... ووردت أمواج المحيط ورودا وبلغت أعلام المشارق كلها ... أبقى لمن أبقى بهن حدودا فوطئت يأجوجا ومأجوجا بها ... وبنيت قطراً دونها وحديدا فجعلت عن سربيهما مندوحة ... والفج عن دفيهما معقودا وولجت في الظلمات حتى جبتها ... خوفاً وكان رتاجها محدودا ولقيت تحت الشمس قوماً خلتهم ... تحت الظلام خنازرا وقرودا وعلى بني حام غدوت بسطوة ... بالصين حتى بددوا تبديدا فلقد كشفت الناس عن أسبابهم ... وبولت منهم طارفاً وتليدا ولقيت منهم أنوكاو ولبيبا ... ورأيت منهم عاجزاً وجليدا يوماً يشب من الحروب خمودها ... يوماً وتطفى للحروب وقودا وعلوت في الدنيا بعزة قادر ... أكدت فيها للبقاء تأكيدا حاولت أن أعطي الخلود وارتقي ... في الخافقين إلى السماء صعودا فأبى لي الله الذي أملته ... أمسى المنى دون الرضا مردودا فالحنو للصعب المعبهل منهل ... يمسي به أمداً له ممدودا

سيموت من تنسى المنية يومه ... وتنال بنت الدهر منه بعيدا سلَّ المفاصل والنفوس رهائن ... تزجي البوارق فوقهن رعودا من ذاك يدري الاين من أرواحهم ... أو ما تراهم راقبين خمودا حالان لا تلقى النفوس سواهما ... فيها شقياً خاسراً وسعيدا قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن وهب بن منبه قال: لما نزل الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنو قراقر من أرض العراق، مرض ثماني ليال ثم مات ثم غاب الخضر، فلم يظهر إلى أحد بعده إلا إلى موسى بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع النبيين ودفن ذو القرنين بحنوقراقر، فقال النعمان بن الأسود ابن المعترف بن عمرو بن يعفر بن سكسك المقعقع الحميري يرثى ذا القرنين الحميري: بحنو قراقر أمسى رهيناً ... أخو الأيام والدهر الهجان لئن أمست وجوه الدهر سودا ... جلين بذاك للملك اليماني لقد صحب الردى ألفين عاما ... ولاقاه الحمام على ثمان إذا جاوزت من شرفات جو ... وسرت بايك برقة رحرحان وجاوزت العقيق بأرض هند ... إلى الصوبات والنخل الدواني وهناك الصعب ذو القرنين ثاو ... ببطن تنوفة الحنوين عانى فمن صحب الزمان بغير صعب ... لقد صحب الزمان بلا أمان هو الوزر الذي يلجأ إليه ... بنو الأيام من أنس وجان لقد جاز الخلود إلى مداه ... وسار كما جرى فرساً رهان ألم تر أن حنو الرمل أمسى ... لملك الدهر والدنيا مغان فقل للنازلين بكل أرض ... لكم امن على بعد وآن

وقال المحمود بن زيد بن غالب بن المنتاب بن زيد بن عملاق يرثى ذا القرنين بن الحارث ذي مراثد الملك الحميري: اسمع ذا القرنين لما علا ... عن المغاني النبأة الشامله فيا لها من نبأة لم تكن ... مصروفة عنه ولا حائله بخدعها عن نفسه ساعة ... فيا لها من خدعة قاتله فأصبح الصعب ذليلاً لما ... صبحه من صيلم نازله لم يجهل الموت ولكنه ... قد جهلت أيامه الجاهلة لم يدفع الموت الذي جاءه ... بسكسك العز ولا عامله سألوا على الدنيا كمثل الدبا ... ونفسه بينهم سائله لم يصرفوا عنه سهام الردى ... لما أتته الرمية القاتله فأصبح الحنو له منزلا ... أخرس لا يبني به سائله قد قدم المرء له عدة ... مستنصراً زاداً بلا راحله قال أبو محمد: حدثنا أسد عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله بن عباس إنه سئل عن ذي القرنين ممن كان؟ قال: هو من حمير وهو الصعب ابن ذي مراثد. هو الذي مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، فبلغ قرني الشمس وداس الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج، فقيل له: فالاسكندر الرومي؟ قال: كان الاسكندر الرومي رجلاً صالحاً حكيماً بنى على بحر افريقس منارتين واحدة بأرض بابليون وأخرى في غروبها بأرض أرمينية، وإنما سمي بحر المغرب بأفريقس لأنه عظيم من عظماء التبابعة أكثروا الآثار عليه في المغرب من المصانع والمدن والآبار.

قال: وسئل كعب عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من علوم أحبارنا وأسلافنا إنه من حمير وانه الصعب بن ذي مراثد والاسكندر رجل من بني يونان بن عيص بن يقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ورجاله أدركوا عيسى بن مريم صلوات الله عليه منهم جالينوس وارسطاطاليس ودانيال وجالينوس وارسطاطاليس من الروم من بني يونان ودانيال من بني إسرائيل نبي من أنبياء الله. قال كعب: لم تكن الروم تروم ذلك، ولا لها قوة ذلك. والذي بعث محمداً بالحق، ما حمير في أهل الدنيا ألا ما لأنف في الوجه أو قال: بين العينين ولقد قال، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوحى الله إلي {إني بعثتك أمياً وجعلت لك ما تحت قدميك وشددت ظهرك بمن خلفك من اليمن وجعلت لك ما بين يديك غنيمة العراق والشام والمغرب أما إنه ليزيدن الهدى فيهم وينقص من كل أمة}. فلا أدري قوله ليزيدن الهدى فيهم عنه أو رفعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال أبو محمد: رفع الحديث إلى عبد الله بن عمرو بن العاص إنه قال: كان ذو القرنين من حمير من أعظم تبابعتهم، وهو الصعب بن ذي مراثد الحميري. قال أبو محمد: عن أسد بن موسى عن أبي إدريس عن وهب قال: دخل عبد الله بن عباس بمكة على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص بعد وفاة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - ومعاوية وعمرو يقرآن سورة (الحمد لله) الكهف فقرأ معهم حتى قرءوا {وجدها تغرب في عين حمئة} فقرأ معاوية وعمرو وجدها تغرب في عين حامية من الحرارة وقرأ

عبد الله حمئة من الحمأة، فقالا: يا بن عباس قرأت في عين حمئة من الحمأة وقرأنا نحن حامية من الحرارة ولنا صحبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هي لك ونحن اثنان وأنت واحد فعليك البيان أو فارجع إلى قراءتنا. قال لهما: نعم فخرج من عندهما فلقي كعب الأحبار فقال كعب: مالك ي أبا محمد أراك حثيثاً مشغولاً؟ قال له عبد الله: نعم يا كعب الأحبار دخلت على معاوية وعمرو وهما يقرآن (الحمد لله الكهف) فقرءا {وجدها تغرب في عين حامية} وقرأت أنا {وجدها تغرب في عين حمئة} من الحمأة - فقال له: صدقت يا عبد الله والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما أنزل الله على موسى ابن عمران في التوراة إلا حمئة، قال له عبد الله: صدق الله ورسوله. ولكنهما طلبا شاهداً من كلام العرب، ثم مضى عبد الله بن عباس فلقيه نافع بن الأزرق فقال له: مالك يا ابن عباس؟ فقال له: كما قال لكعب وادعا عليه قصة القوم، فقال له: فأين أنت من قول تبع تبان أبي كرب في قوله حين غزا المدينة ومكة ورفع الجزية التي كانت بنو حنذف يؤدونها إلى جرهم وطسم وجديس واليهود. قال له عبد الله بن عباس: ما الذي قال تبع أبو كرب؟ قال نافع قال تبع أبو كرب هذه الأبيات: نحن ملوك ذو العلا والسؤدد ... نحن الحماة بنو الهمام الأمجد سميت أسعد والسعود طوالع ... لابد أن ترقى النحوس لأسعد أفبعد وائل والمقعقع بعده ... ترجو الخلود وأنت غير مخلد أودى بيعفر والمعاقر فانقضى ... ملك تضعضع للزمان الأنكد يعلو على الدنيا بعزة قادر ... يعلو العلو إلى المحل الأبعد نحن النجوم فلا نرام بهيضة ... منا المقاول في الزمان الأوحد

قدت الجياد إلى المشارق غازياً ... أضحت قلاع الروم قسراً في يدي فقتلتهم قتل الجهول سفاهة ... وتركتهم ترك الشقيق المسعد ما بال عيني لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بسم الأسود حنقاً على سبطين حلا يثربا ... أولا لهم بعقاب يوم مفسد فنزلت منزل عرصة في خيمة ... بين العقيق إلى بقيع الغرقد حتى آتاني من قريظة عالم ... من خير حبر في اليهود مسود قالوا ازدجر عن قرية محجوبة ... لنبي مكة من لؤي أحمد فعفوت عنها عفو راج ربه ... وتركتها لعقاب يوم سرمد وتركته لله أرجو عفوه ... يوم الحساب من الحميم الموقد ولقد تركت بها لمؤمن قومنا ... نفراً أولى حسب وبأس أيد ومضيت قصداً نحو مكة عائداً ... وتركت ترك مؤدب ومسدد قوماً إلى البيت العتيق صلاتهم ... أكرم بقوم ركع أو سجد قوم يكون محمد من نسلهم ... إن الكريم إلى الأكارم يهتدي فدفعت عنهم جزية يعطونها ... في الدهر من حكم الزمان الأربد ورفعت من أحيا قريش عصبة ... وفككت عنها غل كل مقيد ووهبتهم أموالهم وسلاحهم ... والسيف فوق رؤوسهم لم يغمد لما أتوا يستنصرون أجبتهم ... بجواب لا وكل ولا متبلد والأمر مسدود الحجاب متى يحك ... في قلب ذي عزم يغر أو ينجد وهززت سيفي في وجوه معاشر ... طلباً لحق فيهم لم يردد غضباً لما فعل اليهود بخنذف ... يرمون جرهم في الوريط الأوهد حلوا حماهم يعلمون حجازهم ... بيض الكنائس بالعبيد الحسد

لأقسمت صدقاً لا أرى بشراً بها ... يأوي إلى طلح هناك منضد ولقد آتاني من هذيل أعبد ... يستعجلون بشؤم يوم أنكد قالوا بمكة بيت مال داثر ... ومعالق من لؤلؤ وزبرجد فأردت أمراً حال ربي دونه ... والله يمنع من خراب المسجد لما أرادوني بمكر جبتهم ... من عيشة الدنيا بحد مهند فرددت ما أملوه مني فيهم ... وتركتهم مثلاً لأهل المشهد فالحمد لله الذي صرف الردى ... عنا فلولا منه لم نهتد بيت يطاف به وينحر حوله ... جزر لدى حرم وركن أسود في رأس جلمدة شديد أسرها ... مما يشبهها سواد الأثمد بيت به يوفي الحجيج نذورهم ... ويودعون طوافه للموعد وأقام ذو القرنين فيها حجه ... خوفاً يطوف على اللظى المتوقد إذ كان ذو القرنين جدي مسلما ... فمتى تراه له المقاول تسجد طاف المشارق والمغارب عالماً ... يبغي علوماً من كريم مرشد ورأى مسير الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد فلقد أذل الصعب صعب زمانه ... وأناط قوة عزه بالفرقد حكم الأمور وأحكمت أيامه ... تجري إلى أجل ولما يقصد لم يدفع المقدور عنه قوة ... عند المنون ولا ائتلاف المحتد من ذا يحيد عن الردى وسهامه ... تقضي على أوتاده وكأن قد قطع الزواخر لجة عن لجة ... وعلا المهامة فدفداً عن فدفد فهدى القبائل أمة عن أمة ... وأبار قتلا مفسداً عن مفسد كم من عمي القلب أضحى مبصراً ... وعميد قوم سيد لم يهتد

جريا بأمر غاب عنا حكمه ... نحس على فصل القضاء واسعد فلرب مسعود أزاح عقاله ... ولرب غاو منهم لم يرشد والله أجرى ذي الأمور بعلمه ... جعل المنية للأنام بمرصد قال: فروى عبد الله بن عباس الشعر عن نافع بن الأزرق، ثم دخل على معاوية وعلى عمرو فأتى به كما سمعه من نافع بن الأزرق، فقال له معاوية وعمرو: علمنا أن مقرأك أقرب إلا أنا طلبنا منك سبباً تأتي بهذا الشاهد عليه، ثم عطف على عبد الله بن عباس فقال له: يا أبا محمد هل تدري شكر تبع فيما فعل بقومك وما كشف عنهم؟ قال له عبد الله: به جعله الله خيراً منك. قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قومك (أهم خير أم قوم تبع)؟ قال معاوية: يا ابن عباس فما الخلب والثأط والحرمد؟ قال: الخلب الحمأة، والثأط ما تحتها من الطين، والحرمد ما تحته من الحصى والحجر. ولقد أتت العرب بالشواهد في أشعارها وخطبها بذي القرنين الصعب ابن ذي مراثد. قال امرؤ القيس بن حجر المقصور بن الحارث آكل المرار الكندي يذكر ذا القرنين الصعب بن ذي مراثد. ألم يحزنك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا أزال من المصادر ذا رياش ... وقد ملك السهولة والجبالا وفيه يقول قيس بن ساعدة الأيادي: - وكان قيس بن ساعدة أحكم

العرب في زمانه وأخطبهم - حدثنا زياد البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: أتى وفد أياد البيضاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اسلموا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم قيس بن ساعدة؟ قالوا له: مات يا رسول الله في العام الأول. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدته بعكاظ وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس ويقول: معشر الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، أما بعد فإنه من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا نجوم تمور ولا تهور، وبحور تفور ولا تغور، وسقف مرفوع ومهاد موضوع، ومولود يولد وحي يفقد، أقسم قيس قسماً بالله وما رفع ليطلبن من الأمر لخطا وإن كان في بعض الأمر رضا أن في بعضه لسخطا وإن بلغت لقد قصرت. أن وراء هذا لعجبا - أقسم بالله أن لله ديناً هو أرضى من ديننا هذا الذي نحن عليه - مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون - يموتون ولا يحيون ارضوا بالمقام فأقاموا لم تركوا كلا ليبعثن وقال أبياتاً لا أحفظها - وكان صلى الله عليه وسلم لا يروي الشعر ولا يقوله فقال له رجل من الوفد - أنا أحفظها يا رسول الله - قال له - قل - فقال له الأيادي قال يا رسول الله هذه الأبيات: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر ولا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر فعلمت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر

ثم قال رجل من الوفد - لقد شهدته قبل موته بعام يا رسول الله وهو على جمل وهو يخطب الناس ويقول: هيهات هيهات - أيها الناس كذب الكاذب وصدق الصادق وقد أفلا فاعتدلا ولا بد من موقف يشهد الشاهد ويحكم الحاكم - أين إحسان المحسنين وإساءة المسيئين - كلا لتجدن كل نفس سعيها - أيها الناس هيهات والله هيهات كذب الأحياء الأموات يسكنون منازلهم فلا يعتبرون ويرون مضاجعهم فلا يتعظون ويأكلون تراثهم فلا يحزنون - ويعلمون ما يعلمون وهم آمنون - أما بعد فإن كل آكل مأكول وكل وراث موروث وكل ساكن ظاعن وكل آمن خائف اليوم يوم وغد يوم فغد سالب واليوم مسلوب والغالب خير من المغلوب - أيها الناس هل أتاكم ما لم يأت آباءكم الأولين أم أخذتم عهداً من السنين أم عندكم من ذلك اليقين - أم أصبحتم من ذلك آمنين - بل والله أصبحتم في غفلة لاعبين - أين الصعب ذو القرنين جمع الثقلين وأداخ الخافقين وعمر ألفين لم تكن الدنيا عنده إلا كلحظة عين من لم يتعظ اتعظ بها - أيها الناس أين الآباء والأمهات والأخوة والأخوات والأبناء والبنات - أما ترون آيات بعد آيات وأمواتاً في إثر أموات إلا وإن علم الغيب باطن ونبأ الخلق ظاهر اضمحلت الأشخاص فذهبت العظام رفاتاً - كلا ليصلحن كل عامل كلا بل هو الله إله واحد - ليس بمولود ولا والد أسكنهم التراب وإليه المآب. أما بعد فإن الحي حكم بالموت أيها الأشهاد أين ثمود وعاد وأين الآباء والأجداد - أين الظالم والمظلوم - أين الحس الذي لم يسكن وأين الوعيد الذي لم ينتقم وأين الوعد الذي لم يتم - هل تعلمون أين ذهب أبرهة ذو المنار وعمرو ذو الأذعار - أن تردون ما صار إليه عبادة الفتاح وأذيتة الصباح وجذيمة الوضاح - عزوا فقهروا ونهوا وأمورا وبنو المصانع

والآبار وجدولوا الأنهار وغرسوا الأشجار واستخدموا الليل والنهار فكانا مطاياهم إلى دار القرار - أرسلوا مالهم وانتظروا ما يرجع به سؤالهم - ارتقبوا فلم يرقبوا - هجمت الآجال دون الآمال ألا وإن كل شيء إلى زوال وأنشأ يقول: قد كنت أسمع بالزمان ولا أرى ... أن الزمان يطيق نتف جناحي فأراه أسرع في حتى أصبحت ... بيضا متون عوارضي وصفاحي وأنا الكبير بسنه في قومه ... هيهات كم راوحت من أرواح صافحت ذا جدن وأدرك مولدي ... عمرو بن شمر يتقي بالراح والقيل ذو يزن رأيت مجليه ... بالقصر بين مرامر الصفاح فتك الزمان بملك حمير فتكة ... يسعى بكل مساً وكل صباح أودى أبو كرب وعمر وقبله ... وأبار ملك أذيتة الصباح وأباد افريقيس بعد مقامه ... بالمغرب المستغرق الفياح والصعب ذو القرنين أصبح ثاوياً ... بالحنو بين ملاعب الأرواح وغدا بأبرهة المنار فأصبحت ... أيامه مسلوبة الإصباح أخنى على صيفي بحادث صرفه ... مستأثراً بجذيمة الوضاح أم أين علكدة الهمام وملكه ... أم أين عز عبادة الفتاح والعبد والهدهاد صارا عبرة ... طارا عن الدنيا بغير جناح لا تمش في شك الظنون أما ترى ... أيامه مشهورة الإيضاح لا تأمنن مكر الزمان فإنه ... أودى الزمان بشمر الصباح

من بعد ملك الصين أصبح هالكاً ... أكرم به من هالك محتاح برك الزمان على ابن هاتك عرشه ... وعلى المقعقع حل بالاتراح شخصت على بعد النوى أشخاصهم ... فرآهم الأوهاج بالأشباح أفبعد أملاك مضوا من حمير ... أرجو الفرح ولات حين فلاح من ذا يصافق كفه كف الردى ... يشرى البقاء عن بيعة الأرباح قال أبو محمد: وفيه يقول الأعشى بني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة: والصعب ذو القرنين أصبح ثاوياً ... بالحنو في جدث أشم مقيما في شعر له قال أبو محمد: ومما ذكرت العرب به ذا القرنين في أشعارها قول ربيع ابن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة بن ذبيان وكان معمراً (عمر مائتي عام) وكان أحكم العرب في زمانه وأشعرهم وأخطبهم وشهد يوم الهباءة وهو ابن مائة عام وكان من انجد فارس في حرب داحس وهو القائل في يوم شبيم وأمر شبيم: ظلمتم يا بني فزارة والظلم عاقبته وخيمة، فداووا الظلم بالرفق أو فأنتم شاة الذئب وغرض الرامي. وقال لحمل لن بدر عند هزيمتهم: يا حمل هل تعلم ما لا أعمله ... سديت عزلاً لا تطيق للحمه والظلم للظالم حتماً يلجمه ... ألا ترى قيساً تأطت أسهمه يقتل ذا الظلم ومن لايظلمه وكان أنجد فارس يوم الهباءة حبس خلف بني فزارة حتى بلغوا

حريمهم، وهو القائل يوم الهباءة لما حبس خلف بني فزارة حتى أثخن جراحاً فقال: رأيت موتين علينا نزلا ... موتي وموت الغر من قومي الملا بذلت روحاً دونهم معجلا ... كيما ألاقي الموت منها منهلا قال أبو محمد: لما كبر وخرف وأدرك الإسلام فقال قوم: أسلم وقال قوم: لم يسلم منعه قومه ذلك، قال أبو محمد: جمع بينه وبين بنيه فقال لهم: ألا أبلغ بني بني ربيع ... فأشرار البنين لهم فداء بأني قد كبرت ودق عظمي ... فلا يشغلكم عني النساء وإن كنانتي لانت بقسر ... واني لا أسر ولا أساء إذا جاء الشتاء فدثروني ... فإن الشيخ يهرمه الشتاء وإن دفع الهواجر كل قر ... فسربال خفيف أو رداء ثم قال: يا بني اجمعوا لي بني ذوبيان، ثم قال: يا بني فزارة بن ذبيان من أعزكم؟ قالوا: أنت يا أبا سالم. قال: إن لكم أن تدوسوا أعزكم عليكم بأرجلكم، فذلك ارفع لقدرة عندكم. يا بني ذبيان آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالحلم فأنه بحسن المعاشرة والجود فإنه يزرع المودة. وآمركم بحفظ بعضكم بعضاً يهابكم الناس الأباعد، وآمركم بالعلم فإنه زين ومحبة في قلوب العالم. وأنهاكم عن: السفه فإنه باب الندم ومنزل الذل وأنهاكم عن البخل فإنه سلم السب، وأنهاكم عن التخاذل فإنه آفة العز، وأنهاكم عن الجهل فإنه رزية ومهلكة واسألوا عما جهلتم فإن

في السؤال هدى وفي الصمت على الجهل عمى ولا تستصغروا من لا تعرفونه ولا تحسدوا من لا تدركونه ولا تحمدوا غير كريم ولا تبخلوا على شريف ولا تفضلوا على غير محتاج فيذهب فضلكم هباء ولا تمنعوا السائل فإن منعه مقت ولا غبية فإنها قرض مردود ولاسيما أنها تعقب. يا بني ذبيان: اجعلوا قبري علماً فاني قدمت في الناس خيراً فانه شأن وذكر حسن وتركت للبنين فخراً، ولو قدمت سيئاً أمرتكم أن تخفوه فانه علم السب أحفظوا قولي فانه مقامي ورائي فيكم، وانشأ يقول: لقد عزفت نفسي عن اللهو جمه ... وإن نهلت من لهوها ثم علت رأيت قروناً بعد قرن تقدمت ... فلم يبق إلا ذكرها حين ولت ألا أين ذو القرنين أين جموعه ... لقد كثرت أسبابه ثم قلت خرفت وأفنتني السنون التي خلت ... فقد سئمت نفسي الحياة وملت تجاوزت في يوم الهباة هنيدة ... وألفيت عوداً حين ما حين حلت فكم مشهداً وردت نفسي وطيسه ... أجشمها مكروهه حين كلت وكم غمرة ماجت بأمواج غمرة ... تجرعتها بالصبر حتى تجلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الأمر ذلت هي النفس ما منيتها تاق شوقها ... وإلا فنفس أويست فتسلت وقال أيضاً الربيع بن ضبع: ألا يا لقومي قد تبدد أخواتي ... نداماي في شرب الخمور وأخداني وأنسى قليلاً ثم آتى سبيلهم ... فتبلى عظامي يال سعد وذبيان وأبلى ويبقى منطقي بعد ميتي ... وكل امرئ إلا أحاديثه فاني

سيدركني ما أدراك المرء تبعاً ... ويغتالني ما اغتال أنسر لقمان أحار مجير النمل من عز ملكه ... وأنزل سيف البأس من رأس غمدان والوى بذي القرنين بعد بلوغه ... مطالع قرن الشمس بالأنس والجان أنا بين يومين فأمس الذي مضى ... وصرف غد لا بد بالحتم يلقاني ألم تر الدهر يا قوم طالب ... وإن لم أكن يوماً لأوتاره جاني سيأخذ ما أعطى وإن كان محسناً ... وما كان من شرح الشبيبة أولاني وقال أيضاً الربيع بن ضبع: قل للذي راح عن أخيه وقد ... أودعه حين ودع الحجرا هل أبصرت عينه له أثراً ... أو سمعت أذنه له خبرا أين همام الجديل إذا مرا ... وأين رب السدير إذ قدرا أين بنو هود النبي ومن ... شمر عن راحتيه وابتكرا والصعب لما عتت أرومته ... وخان ريب الزمان فادكرا لم يدفع الموت بالجنود ولا ... رد بأسباب علمه القدرا فاز على الدهر ينحني فرمى ... فوق جناحي ومفرفي شررا لا تعجبني يا أميم من صفتي ... فقبل ما كنت أخسف القمرا أصبو بهند وزنيب أمماً ... ونسوة كن قبلها دررا لما رماني الزمان عن عوض ... وقامرتني خطوبه قمرا أصح عني الشباب قد حسرا ... أن ينأ عني فقد ثوى عصرا ودعنا قبل أن نودعه ... لما قضى من جماعنا الوطرا أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير أن نفرا والذئب أخشاه أن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا من بعد ما قوة أسر بها ... أصبحت شيخاً أعالج الكبرا

ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا وقال أيضاً الربيع بن ضبع: طال الثواء عن السنين أميما ... ألقى عذاباً للزمان أليما أنسيت أم لم انس أم عاهدته ... فوجدته بعد السفاه حليما لابد أن ألقى المنون وإن نأت ... عني الخطوب وصرفه المحتوما هلا ذكرت له العرنجج حميرا ... ملك الملوك على القليب مقيما والصعب ذو القرنين عمر ملكه ... ألفين أمسى بعد ذاك رميما ونبت به أسبابه حتى رأى ... وجه الزمان بما يسوء نسيما امن الأمور أخو الدهور فهل رأى ... ذا مرة من قبله معصوما طال الزمان وطال عني غيبه ... ما زال من قبلي الزمان قديما ألوى بشمر والمقعقع بعده ... وأباد سعداً بعده وتميما لما حشون حشا علي لطيفة ... واستحسن القيصوم والتنوما وفيه يقول الربيع بن ضبع بسوق عكاظ عند صلح عبس وذبيان. قال أبو محمد: لما همت عبس بصلح ذبيان قان بأمر الصلح بينهم عوف ابن حارثة بن أبي حارثة وحصن بن حذيفة وكان عوف بن مرة بن سعد بن ذبيان وكان حصن عن فرازة بن ذبيان وقام هرم بن سنان بن أبي حارثة المري عن بني عبس. قال: لما آتى بنو عبس بدية بني ذبيان، وأتى بنو ذبيان بدية عبس، وقع على حصين بن ضمضم المري عشرة أبكار وكان بخيلاً أكولاً لحماً، وكان فارس بن ذبيان فأدركه البخل فأراد نقض

الصلح وقال: والله يا بني عبس لا نصالحكم إلا الصلح المخزية جدع الأنوف والأذنين، فقال الربيع بن زياد: الحريم ولج الغريم وطال الشر وغدر الدهر. فغضب عنترة وقال: يا حصين الحرب خير لي والصلح خير لك. فدونك أضعفنا حقاً خسره الله فأرسلها مثلاً، قال حصين: أيها الغراب جار بك الخطاب اسكت يا بني عبد شمس، قال له عروة بن الورد العبسي وكان رأس الصعاليك وأجسرهم: يا حصين شهدتك وأباك وأخاك وأنتم تسألون العرب بسوق عكاظ سنة المسبغة؟ قال حصين: كف أيها الصعلوك الشاعر، فقال عروة ارتجالاً: أرى الناس في الآفاق جما وإنني ... على كل فج خائف الشعب واحد لي الذئب ندمان ولي الليث صاحب ... تثور إذا أحدر النعام الشوارد أطيل الطوى حتى إذا برح الخفا ... طعمت يسيراً والتجمل رائد وما بي أملاق ولكن تكرما ... أشيد ما شاد الكرام الأماجد ولست كمن يمسي بطيناً وانه ... يبيت خميصاً جاره وهو راقد أنيل نوالي الأقربين وانه ... ليدرك معروفي الأقاصي الأباعد أفرق جسمي في جسوم كثيرة ... واحسوا قراح الماء والماء بارد وقال الربيع بن ضبع: يا حصين تعرضت للسب، وقال الربيع: دار الصديق إذا استشاط تغيظاً ... والغيظ يخرج كامن الأحقاد ولربما كان التعصب باحثاً ... لمثالب الآباء والأجداد وقال عروة بن الورد يهجو حصين بن ضمضم: لن يكن فارس الهياج هجيناً ... إن شداد لم تلده العبيد

هل يجور الخطاب ليث عرين ... ولنار الخطوب فيه وقود إن خير العشير من جمع الشم ... ل وعاد بما تساد الصيد ويك أمر الإله في كل حين ... وقضاء بكل يوم جديد أين طسم ورائس وجديس ... ثم عاد من قبلها وثمود لم أبيت الرشاد من سلم عبس ... وآتانا من دون ذاك الوعيد أنت أوعدت للحروب وعيدا ... ذاك وعد يأتي بك الموعود ما عاقك العشار عن السل ... م وطعم الحروب مر شديد صدك البخل عن حريمك حتى ... جئت بالشؤم والبخيل صدود هل تخوفت ما مضى من سؤال ... وزمان الردى عليك يعود إن من عضت الكلاب عصاه ... ثم أثرى حقيق ألا يجود فجعل بنو عبس وبنو أمرهم أبي حكم الربيع بن ضبع. فقام الربيع بعكاظ بين عبس وذبيان خطيباً فقال: أيها الناس أصاب الاياس وأخطأ القياس، وبين الحق والباطل التباس أيها الناس من عبر غير وكل عثار جبار وكل فائت مطول: يا بني ذبيان الخير والشر على اللسان والنجاة في البيان. يا بني ذبيان: داروا الحروب فإنها تذل، يا بني ذبيان: طلب الثأر ضالة الأشرار ومزالق الأعمار وهلاك الأخيار، أخوكم عبس عدوكم أمس فطلاب أمس الذاهب هلاك غد المقبل هلا سألتم عن الأحقاد طسم وجديس وعاد. اعلموا أن كل ذاكر لناس وكل مقيم ظاعن وكل ثابت زائل وبين الأموات موت الأحياء والسرعة إلى الآجل ذهاب العاجل والذل غنيمة الظالم وقال: على حرج يا عبس أضحى أخوكم ... وبت على أمر بغير جناح حذار حروب الأقربين وانه ... ليأتي افتلاتاً وجه كل صباح

أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجاء بغير سلاح وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البارئ بغير جناح لنا عظة في الذاهبين وعبرة ... تفيد ذوي الألباب أمر صلاح ألم تعلموا ما حاول الصعب مدة ... وما صبح الساعي وآل رزاح فهل بعد ذي القرنين ملك مخلد ... وهل بعد ذي الملكين يوم فلاح تريش له الأطيار عند غدوه ... وتجنح أن اومى لها برواح فاصطلحوا على حكمه. قال أبو محمد: قال أبو مخنف عن كميل بن زياد النخعي إنه لما سار عمر بن الخطاب إلى الشام في خلافته سار بعلي بن أبي طالب من المدينة إلى الشام، فلما بلغ إلى الشام وعبر وادي الأردنين قال: قاتل الله الربيع بن ضبع حيث يقول: وكم غمرة ماجت بأمواج غمرة ... تجرعتها بالصبر حتى تجلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الأمر ذلت هي النفس ما منيتها تاق شوقها ... وإلا فنفس أويست فتسلت فزاد علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - عليه بيتاً فقال: وما جزت وادي الأردنين تطرباً ... ولكن أموراً وكلت بي فحلت وفيه يقول طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن وائل بن قاسط بن هنب بن بن افصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، حيث يقول: وكيف يرجى المرء دهراً مخلداً ... وأيامه عما قليل تحاسبه

ملك أبرهة

ألم تر لقمان بن عاد تتابعت ... عليه نسور ثم غابت كواكبه وللصعب أسباب تجلت خطوبها ... أقام زماناً ثم بادت مطالبه إذا الصعب ذو القرنين أزجى لواءه ... إلى ملك ساسان فقامت نوادبه يسير بوجه الحتف والعيش جمعه ... وتمضي على وجه البلاد كتائبه وقال أوس بن حجر السعدي: حنانيك يا أوس بن حجر فانه ... سيفقد من جاري الأمور ويهلك وتجري الليالي بانتقاص وفرقة ... وإن سبيل الصعب لا شك يسلك ملك أبرهة قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: لما مات ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد، ولي الملك ابنه أبرهة ذو المنار سماه الصعب على اسم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وإنما سمي أبرهة باللسان الحبشي وتفسيره وجه أبيض. قال أبو محمد: كان أبرهة أبيض وسيماً جميلاً، فلما دفن أبرهة أباه ذا القرنين الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنوقراقر في رمل العراق ورجع بعساكره، ظهرت لهم الزمردة بعد موت ذي القرنين وهي صنف من الحيات تسكن الرمل قصيرة لها رأسان في طرفيها وما أكلت بهذا الرأس ألقته برأسها الآخر وهي لا تظهر إلا في النهار وتعمى في الليل لأن جميع حيوان الأرض لا يستطيعها يسري سمها في الأبدان كسير البرق في الهواء تفر منها الثعابين والشجعان والأفاعي، فلما كثرت على عساكره الزمردة ذات الرأسين أضرت بعساكره ضراً شديداً، فكان يعرس نهاراً ويسير ليلاً فكانت تضل العساكر في الليل بعضها عن بعض فأمرهم أن يوقدوا النيران على رؤوس الجبال ليهتدوا بها. وهو أول منار جعل في الدنيا

فسمي أبرهة ذا المنار، فسار أبرهة حتى نزل بالمشلل، وكان أجمل الناس وجهاً فرأته امرأة من الجن فعشقته فهجمت عليه ليلاً إلى فراشه. قال له: أيها الملك إني عشقتك وليس لي منك بد وأنا حنيفية على دين إبراهيم: وأنا لا أرضى بالزنا ولا أدين به فاختر من أربع خلال أي خصال واحدة إن شئت قتلتك وإن شئت أعميتك وإن شئت أبرصتك وإلا فتزوجني. قال لها العاقل إذا خير اختار أنا أختار منك العافية يا عيوف فذهبت مثلا فأتته بنفر من الجن فيهم الرابع أبو هافز وجه إياها قال له الرابع: أيها الملك منزلي وادي الجن بالمشلل من أرض جو وهي أرض اليمامة اليوم وإن الأنس ينزلون وادي الجن من أرض الجو فتتعرى نساءهن إلى رجالنا ويتعرى رجالهم إلى نسائنا. قال له أبرهة: أنا أبدر إليهم وأمنعهم من أن ينزلوا بوادي الجن وهم لا ينزلونه ما عشت فمن نزله أحرقوه بالنار، فكان حرماً عند العرب حتى أتى رهط من بني حلوان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير فنزلوه فبينما هم نائمون في جوف الليل إذ سمعوا دوياً وهينمة ناداهم مناد: إنما هذا محرم الرابع وحمى أبرهة وأتتهم نار عظيمة فأكلت أموالهم وأكلت أناساً وولوا هاربين فسمي ذلك الموضع الحرقانة فهو اسمه إلى اليوم. حدثنا أبو مالك عن زياد البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي: أن عمر بن الخطاب دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فوقف بين يديه رجل كالنخلة السحوق فقال له عمر: من أنت؟ قاتل له الرجل: أنا حارق، قال له عمر: ابن من؟ قال له: ابن شهاب. قال له عمر: وأين مسكنك؟

قال له الرجل: بالحرقانة حرقانة الجو، فقال له عمر: ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا. قال: فرجع الرجل إلى الحرقانة فأصاب قومه قد أقبلت عليهم نار ليلاً فاحترقوا، وكان عمر أعيف العرب في الجهالية وأزجرها ولقد حكم بالقيافة. قال أبو محمد: ولن العيوف ابنة الرابع ولدت لأبرهة ولدين ذا الأشرار وعمراً ذا الاذعار، وفي العيوف يقول طرفة بن العبد بعد الزمان ويقال إنه للرابع الجني حيث يقول: لابنة الجني بالجو طلل ... حله الرابع حيناً وارتحل حرم الجن على الإنس فمن ... شاء بعد الملك والرابع الحل حل منه ذو منار أهله ... فتولى الجمع عنه واحتمل كل ما حل عليه راشد ... أوقدت نار عليه فاشتعل كم به من ذات دل حسن ... وقوام ووسام ومقل وجواد وهمام حازم ... عاقه عنهم زماناً ونزل قال أبو محمد: ثم أن إبرهة ذا المنار جمع الجموع العظيمة وسار يريد المغرب أرض بابليون فأرسل إليه حلوان امرئ القيس بن عملاق بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن بابليون بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم - وعمرو بن بابليون هو فرعون إبراهيم بمصر - فسار أبرهة يريد حلوان بن امرئ القيس إلى مصر أرض بابليون، وقد رجعا إليه الحبشة وبنو ماريع بن كنعان، فسار أبرهة بجموع عظيمة حتى بلغ مأرب ثم سار حتى بلغ الأحقاف حتى بلغ نهر الحفيف. فأصابوا بنهر الحفيف نصل سهم قد رشق في شق من صخر في صخرة منيعة وقد عفن القدح، فذهب وبقي النصل فأخذوه فوجدوا بجانب منه مكتوب

بخط من ذهب: لقلبك من بين الخليط سواد ... وحلت بموماة العراق سعاد نأى النوم عن طرف المشوق فهل له ... بطرف الذي يهوى عليه سهاد ألا هل إلى أبيات سمح بذي اللوى ... لوى الرمل يوماً فاعلمن معاد بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد وفي الجانب الآخر مكتوب: ألا حبذا العيش السنين التي خلت ... وأيامنا دهر الملوك المقاول خرجنا لنبني الملك للناس بعدنا ... ونتبع آثار القرون الأوائل على عهد ذي القرنين والمرء حازم ... يموت ويخلى للأمور النوازل رأى سبباً والله بالغيب اعلم ... فقام ولم يرقب مقالة قائل فقرءوا تاريخ السهم فأصابوا مكتوباً فيه بالمسند لذلك السهم ألف عام مذ سقط في ذلك المكان، فسار أبرهة بجموعه حتى دخل مكة فنذر وأقام حجه، ثم أخذ على الشام يريد أرض بابليون مصر وحمل ابنه العبد في السفن إلى أرض الحبشة فبلغ ذلك الحبشة فولوا منهزمين ولحق أبرهة بحلوان فتبع الحبشة على النيل وأمر حلوان أن يتبع بني ماريع بن كنعان إلى البحر المحيط من أرض المغرب، وسار أبرهة في طلب الحبشة وإن العبد بن أبرهة مضى على وجهه في أرض الحبشة فقتل وسبى حتى تضلل ولم يدر أين يسير وغرق في المخالب، فكاد يهلك ويهلك من معه، وكان العبد بن العيوف الجنية، فطلع على جبل من جبال أرض الحبشة في الليل، فقال: يا معاشر الجن أنا العبد بن العيوف بنت الرابع فأعطوني منكم دليلاً كيلا أضل فسمع

صوتاً وهو يقول: خذ الجانب الغربي مسلماً ... على النيل تحدوك المناهل يا عبد وخذ لبنى حام من الأمر صعبه ... إذا ما بدت للناس أوجهها الربد وعند حراج الأمر لو وبعده ... مقالة ليت لا يهولنك البعد فانك تلقى أمة ليس مثلها ... على الأرض أقواماً جدودهم مكد يكون مجال عنده الموت نازل ... ويدخل فيه النحس إذ ذاك والسعد فرجع إلى الموضع الذي أمره فأصاب النيل، فسار عليه شهراً حتى فرغ النيل وانقطع عنه وذهب عنه أشهراً حتى لقي قوماً سوداً قصاراً بيض العيون ليست لهم أعناق وجوههم على الصدور، فقاتلهم فغلب عليهم وأسر منهم أمماً وأصاب مالاً كثيراً وأصاب إذ جاءهم الذهب يدخر كما يدخر البر فغنم مالاً كثيراً وسبى أمماً من الحبشة، وقدم اليمن وقد عبر بحر النجاة ونزل بحرم مكة فجعل العرب يختلفون إلى الأسرى من الحبشة ويتعجبون من خلق أمم مختلفة، وإن أبرهة ذا المنار قفل من أرض الحبشة راجعاً، فأخذ على ساحل البحر حتى وصل إلى أرض بابليون، ثم أخذ على الشام وبلغ الدرب فلقيته هدايا الروم وأهل أرمينية، ثم سار حتى بلغ مكة فلقيه ابنه العبد بسبايا الحبشة. فرأى قوماً قصاراً فأمر بهم أن يمضي بهم إلى أرض البحرين وعمان يخدمون المراكب فيزعمون أن النوتيين الذين، ثم كانوا بعمان والبحرين من بقايا سبايا الحبشة الذين سبى العبد بن أبرهة، ثم

ملك العبد بن أبرهة

رجع أبرهة إلى غمدان وهو دار مملكة التبابعة، فكان ملك أبرهة ثلاثمائة سنة وستين عاماً، ثم مات فرثاه المحموم بن زيد بن غالب بن السياب بن عمرو بن ذي أنس بن قدم بن الصوأر بن سكسك فقال: أزفت خطوبك يا ابن هاتك عرشه ... لم تدر حتى صبحتك بذالكا عاصيت ذا إذ لم يكن لك عاجل ... وأطعت ذاك إلى مدى إذ لا لكا فلقد بلغت من البلاد مبالغاً ... يا ذا المنار وضعضعت لجلالكا قدت الجنود إلى الجنود سريعة ... وحملت منها على السفين كذالكا سرت الجيوش فأمعنت في سيرها ... ما تهتدي إلا بنور جمالكا حتى وطئت جميع حيث تغلبت ... أسباط حام بهلالكا أوغلت عبداً فاستقر به النوى ... حتى تشرد حالهم عن حالكا فسقيتهم سجلاً بكل مهند ... حتى أبرت حرامهم بحلالكا فآتاك بالنسناس خلق وجوههم ... فوق الصدور وليس مثل رجالكا زالت لك الشم الشوامخ هيبة ... لما قصدت إلى الوغى بنزالكا قالت لك الأرضون سمعاً وطاعة ... لم تستطع أن تصطبر لقتالكا قد قصرت همم الزمان عن التي ... كانت لمن جر الكتائب سالكا أنا هديت وأنت هاد للتي ... لما سعيت لمنتهى آجالكا من ذا يجاري من سموك خطة ... هيهات من يهدي لحسن فعالكا خضع الملوك لوجه ملكك هيبة ... لم ينج من حتم المنية ذالكا ملك العبد بن أبرهة قال أبو محمد عبد الملك: عن محمد بن السائب الكلبي: لما مات أبرهة

ذو المنار ولي الملك بعده ابنه العبد بن أبرهة وهو ذو الأشرار، وإنما له ذو الأشرار لأن الحبشة هم الأشرار وكان العبد هو الذي غلب على جميع أرض الحبشة وسباهم أمماً وسقاهم في الأغلال إلى مكة، وهو أول من رأت العرب في زمانه داء الكلب. وداء الكلب داء يعرو الدماغ فيسكن من حركته فلا يبرأ حتى يسقى الخمر بدم من دماء بني مذحج، قال عبد الله ابن حزم الأزدي: وجوه بني زبيد إن تجلت ... إلى الأبصار تخطف كالبروق إذا نطقوا يزينوه لعدل ... وإن صمتوا على علم حقيق وإن فخروا آتوك بعز بأس ... وبالأفعال والحسب العتيق دماؤهم على الأشفار أشهى ... إلى الكلبي من المسك الفتيق وقال حصين بن الحمام المري لبني العنقاء حين أعطاهم ابنه ديا رهينة فأبوا: خذوا ديا بما أحدثت فيكم ... فليس بكم على دأب غلاء فلستم من بني عمرو بن عمرو ... ملوك والملوك لهم نماء ولا العنقاء ثعلبة بن عمرو دماء القوم للكلبي شفاء زعم إنه من بني زبيد وذلك أن بني مرة بن سعد بن ذبيان يزعمون أنهم من بني زبيد وأما عبد الله بن حزم في قوله: دماؤهم على الأشفار أشهى ... إلى الكلبي من المسك الفتيق أراد أن دماءهم أطيب من المسك الذي يبري الدماغ عن داء الكلب وذلك أن النتن إذا خامر الدماغ أفسد طبيعته وأضعف قواه.

ملك عمرو بن أبرهة

قال عبد الملك: وولي أمر الملك العبد بن أبرهة بن الصعب فغزا الملوك ودانت له العرب والعجم وخضعت له الملوك فأقام في الملك ستين عاماً، ثم سقط من الفالج، فلم يغز بنفسه وكان يرسل الجيوش فدخل عليه الوهن في ملكه، ثم عدا عليه الفالج فمات وكان ملكه ستين عاماً. ملك عمرو بن أبرهة وولي الملك أخوه عمرو بن أبرهة وهو عمرو ذو الاذعار وأمه العيوف بنت الرابع الجنية، وقد ابى من هذا عامة الناس وزعموا إنه لا يظهر الجن للأنس وأنه لا يتناسل جنسان مختلفان ولا ينسل أنسي من جنية ولا جنى من أنسية وإن هذا باطل وأتى بهذا الحديث علماء والله اعلم أي ذلك كان. قال أبو محمد: لما ولي عمرو ذو الاذعار الملك قهر الناس بالملك وذعرهم بالجور فلا يرفق لقريب ولا بعيد وأسرف على العرب بالسلطان وشرد الناس ووسم من سخط عليه بالنار من أبناء الملوك وبدل على الناس السيرة التي كانوا عليها يعرفون. فذعر الناس من خوفه ذعراً شديداً وبه سمي عمرو ذو الاذعار وأنه كان يزني ببنات الملوك من حمير، فيؤتى بهن أبكاراً وغير أبكار فكن يشربن معه الخمر وكان ينادمهن على الخمر ويصيب منهن حاجته، فلما فعل ذلك بحمير كرهوا أيامه وأبغضوا دولته وكان شرحبيل بن عمرو بن غالب بن السياب بن عمرو بن زيد بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ نازلاً بمأرب في قصر بينون ولم يكن بني مثله ومثل قصر غمدان وسلحين باليمن، فجمع شرحبيل حمير وقبائل بني قحطان ممن كان بمأرب، ثم قام فيهم خطيباً، فقال: يا بني قحطان

ملك شرحبيل

النساء هن الحمى فدون الحمى سفك الدماء هل جزعتم يسمكم بالنار فالنار ولا العار. والصبر صبركم وصبر كفر. فقد صبرتم على ما لا يصبر عليه أحد. أغضبوا الله ولا عراضكم قبل أن تخذلوا ويسلط عليكم النقم وتسلبوا النعم وتلبسوا الذلة فلم كسبتم الأنساب واعتدتم اللامات فتنافست فيكم الأحساب إذ لا تدفعون عن الحريم وتكشفون الضيم. قد شكت الأرحام وضجت إلى الله من الآثام، فلما عزة وسلامة أو ذلة وندامة وناصر الله منصور أما والله لئن لم تغضبوا لله ولا نفسكم لأضعن سيفي هذا على صدري فأخرجه من ظهري، فالموت عن مثلكم حياة والذهاب عنكم نجاة فقدموه فيكم وملكوه. ملك شرحبيل فولى الملك بمأرب شرحبيل بن عمرو بن غالب فرجع الملك في نجلته، الأولى نجلة يعفر بن سكسك، فجمع القبائل من قحطان وأجابته حمير للذي أراد الله من انقطاع دولة ذي الاذعار، وبلغ خبر شرحبيل بن عمرو إلى عمرو ذي الأذعار فجمع جنوده وزحف إليه وزحف إليه شرحبيل بن عمرو فالتقوا بالعالية فاقتتلوا قتالا شديداً ثم افترقا ومات بينهما خلق كثير. ثم رجع عمرو ذو الاذعار إلى غمدان، ورجع شرحبيل إلى بينون فأقام شرحبيل في الملك سنة ثم مات. ملك الهدهاد ابنه وولى ابنه الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهو الهدهاد أبو بلقيس الملكة

باليمن، وكان الهدهاد بن شرحبيل رجلاً شجاعاً حازماً. قال أبو محمد، حدثنا ابن لهيعة عن مكحول عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إنه لما ولي الهدهاد بن شرحبيل، زحف إليه عمرو ذو الاذعار وبرز إليه الهدهاد والتقوا بموضع معروف باليمن فتحاربوا أياماً فلما فصل العسكران، وبرز بعضهما إلى بعض، خرج الهدهاد على ناقة في زي أعرابي حتى وصل إلى عساكر عمرو ذي الاذعار، فطاف به وتدبر عساكره، ثم سمع لغطهم وما يتوعدون به عمراً ذا الاذعار من الخذلان واسترق ما يريدون له فزاده ذلك عزماً إلى لقاء عمرو، فانصرف الهدهاد يريد عساكره، فسار حتى بلغ إلى شرف العالية في يوم قائظ أجرهد فيه الصخور، والتهبت الهواجر وقال الضب: فنظر إلى شجاع أسود عظيم هارب وفي طلبه رقيق أبيض فأدركه فاقتتلا حتى لغبا، ثم افترقا، ثم أقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد فتشبث مع ذراع ناقته حتى بلغ رأسه إلى كتفها ففتح فمه كالمستغيث، ثم عطف في طلب الأسود فأدركه فاقتتلا طويلاً فلغبا فافترقا، وأقبل الأبيض إلى الهدهاد كما فعل أولاً كالمستغيث فصب الهدهاد الماء في فيه حتى روي، ثم أقبل على الأسود وأخذه، فلم يزل الأبيض حتى قتل الأسود، ثم مضى على وجهه حتى غاب عنه، ومضى الهدهاد إلى شعب عظيم فاختفى فيه، فبينما هو مستتر بشجر أراك إذ سمع كلاماً فراغه سيفه فأقبل إليه نفر جان حسان الوجوه عليهم زي حسن فدنوا منه فقالوا: عم صباحاً يا هدهاد. لا بأس عليك وجلسوا وجلس

فقالوا له: أتدري من نحن؟ قال: لا. قالوا: نحن من الجن ولك عندنا يد عظيمة. قال: وما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له علام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه آثار خداش. قال له: أنت هو! قال: نعم، قالوا له: ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوجها منك وهي رواحة بنت سكن. فزوجوه إياها وقالوا له: لها عليك شرط لا تسألها عن شيء تفعله مما تستنكر منها فإن سألتها فهو فراقها قال: نعم، قالوا له ارجع إلى قصرك بينون فإنها تأتيك ليلة كذا ارجع فلا تقم لأن عمر ذا الاذعار ورجع إلى غمدان بعد انصرافك عنه، فرجع الهدهاد وفرق عساكره، ولحقه الخبر أن عمراً رجع فجلس في الليلة التي أمروه أن يجلس فيها مرتقباً حتى أحس ثقلاً في القصر وهرب جميع من معه في القصر من ثقل الذي أحسوه ووحشة داخلت قلوبهم حتى أتوا بها إليه فأدخلوها عليه وأولدها ولداً ذكراً، فلما شب وصار ابن سنة، فبينما هو يناعيه اذ أقبلت كلبة من باب المجلس فأخذت برجب الطفل وجرته حتى ذهبت به عنه فغاب فنظر إلى رواحة فسكتت وسكت، ثم ولدت أنثى، فلما صارت بذلك السن أتت الكلبة فجرت برجلها وهو ينظر فسكت وغابت عنه، ثم ولدت ذكراً، فلما بلغ سن أخيه وأخته أتت الكلبة وفعلت ما فعلت أولاً قال لها: يا رواحة، قالت له: كيف؟ قال لها: أكف ما نال هؤلاء الأطفال؟ قالت له: فارقتك يا هدهاد اعلم إنه لم يجر منهم أحد بل هو محمولون وتلك درة تحملهم وتربيهم حتى يبلغوا خمس سنين فيأتوك

ملك بلقيس

أنقياء. فأما ابنك الأول فقد مات أحسن الله عزاءك فيه وأما الآخر فإنه يأتيك وليس يعيش بعد أبي وهو يموت، وأنا ابنتك فإنها تأتيك وتعيش لك. ثم ذهبت عنه بعدها ووجد في الفراش ابنه وبنته بلقيس، فمات الصبي وعاشت بلقيس، وقد رد هذا الحديث عامة من العلماء ويقبله عامة من العلماء، والله أعلم أي ذلك كان. فأقام الهدهاد في الملك عشرين سنة فلما حضرته الوفاة أحضر جميع وجوه حمير وأبناء ملوكهم وأهل المشورة من بني قحطان فقال: يا بني قحطان أما أنكم تعلمون فضل رأي بلقيس علي فإنها لا تخطئ ما تشير به عليكم كيف تجدون بركة رأيها؟ قالوا: نعم قال: وإنها أعقل النساء والرجال، قالوا: نعم قال: فاني استخلفها عليكم، فقال له رجل منهم: أيها الملك تدع أفاضل قومك وأهل ملتك وتستخلف علينا امرأة وإن كانت بالمكان الذي هي منك ومنا؟ قال: يا معاشر حمير إني رأيت الرجال وعجمت أهل الفضل وسبرتهم وشهدت من أدركت من ملوكها فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً مع أن أمها من الجن واني أرجو أن تظهر لكم عامة أمور الجن مما تنتفعون به وعقبكم ما كانت الدنيا فاقبلوا رأيي فإنها مع اختياري فيها مؤدبة لغيرها من أهل بيتها واني كنت سميت الملك لمالك بن عمرو بن يعفر بن حمير بن عمي وهو غلام له حزم وعقل فإذا بلغ فله الملك أما في حياتها وأما بعد موتها. قالوا: سمعنا وأطعنا أيها الملك انظر لنا. فمات الهدهاد بن شرحبيل وولي الملك بلقيس. ملك بلقيس فلما وليت بلقيس الملك ازدرى قومها بمكانها لما كانت امرأة وأنفوا

من أن يلي امرأة وبلغ ذلك عمراً ذا الاذعار، فجمع الجيوش ونهض إلى بلقيس، فلم تكن لها طاقة فهربت مكتتمة بأخيها عمرو بن الهدهاد، وهما في زي أعرابيين حتى أتت جعفر بن قرط الأسدي وهو جعفر بن قرط بن الهميسع بن مالك بن عمرو بن أسد بن هزان بن يعفر بن سكسك ابن وائل بن حمير بن سبأ. وكان جعفر بن قرط عمر ثلاثمائة عام، وكان أنجد فارس في زمانه، وكان في ثورة من قومه أسد بن هزان، وكان قومه هزان لهم أرض جو وهي اليمامة، وكان هزان أطول الناس أجساماً وأعناقاً وكانوا يعرفون في العرب حيث ساروا - وفيهم قال الشاعر: لقد كان في فتيان قومك منكح ... وفتيان هزان الطوال الغرانق والغرانق: الطوال الأعناق - ومنه قيل للغرنوق غرنوق لطول عنقه فسارت بلقيس حتى نزلت على جعفر بن قرط وهو في حصنه علعال على نهر الخفيف من أرض الأحقاف، ونهر الحفيف هو الذي أظهر النبي هود صلى الله عليه وسلم لعاد بن لاوذ بن ارم الآية الباهرة حين هلكت عاد بالريح العقيم فأخر من بقي من هزان باليمامة كان بقي من طسم وجديس ورائش بن لاوذ بن أرم، وهلك طسم وجديس وبقي سعدانة بن هزان بعدهم وبعد قومه هزان باليمامة وكان أطول الناس جسماً وعمراً فأقعد من الكبر وهو الذي هجم عليه عبيد بن عبد العزى الربعي إلى اليمامة فأصابه جالساً وهو يأكل تمراً من نخلة سحوق وهو يقول: تقاصري آكل جناك قاعداً ... إني أرى حملك ينمي صاعداً فهجم عليه عبيد بالقناة ليطعنه، فقال له سعدانة: لا تفعل يا عبيد قال له عبيد: ومن أنبأك بي؟ قال له: السلف يقولون بالعلم الأول آخر

من يبقى من هزان ين يعفر باليمامة أرض جور رجل يسمى سعدانة وأول من يهجم عليه يجاوره فيها رجل من بني ربيعة بن نزار يسمى عبيداً، ولكن يا عبيد أجاورك قال له عبيد: لك سؤالك يا سعدانة، وأنشأ يقول: إن الليالي أسرعت في نقضي ... أكلن بعضي وتركن بعضي حنين طولي وطوين عرضي ... أقعدنني من بعد طول نهضي تركنني ملكاً لأهل الأرض ... أليس ذا يا زمني من قرضي هواك تركي وهواي يمضي فأجاره عبيد حتى مات، وتمثل هذه الأبيات هزان بعد سعدانة العمري بعد هذا الزمان. قال أبو محمد: وإن بلقيس أتت بن قرط الأسدي ثم الهزاني، فقالت له: أنا بلقيس بنت الهدهاد وهذا أخي عمرو أتيتك به هاربة مطيعة فأجرني وأخي. قال: هلم يا بنية أمنعك مما أمنع منه نفسي وبناتي فادخلي إلى بنات عمك آمنة. فأجارها جعفر بن قرط وأخاها عمراً وعمرو ذو الاذعار يطلبها وأخاها فلا يجد لهما حساً. وكان جعل على نفسه جعفر ابن قرط في كل عام عمرة يحج إلى مكة فيحرم بمكة شهر رجب ثم يرجع إلى حصنه علعال وجعل على نفسه بعد رجوعه عن العمرة يجاور قبر هود النبي صلى الله عليه وسلم شهر المحرم كله حتى ينسلخ، فكان يفعل ذلك كل عام، ثم يرجع إلى حصنه علعال، فكان بين حصنه علعال وبين قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم مسيرة يوم وهي مسافة وقد أخلى جعفر

بن قرط تلك المسافة من الناس فلا ينزلها أحد - كانت له حمى وكان جعفر ابن قرط رحل إلى قبر هود بالعيال والولد وكان غيوراً أنفاً لا يصحبه في ظعنه ولد أدرك الحلم ولا ابن عم، فرحل بأهله وولده الأصاغر وسارت معه بلقيس وأخوها عمرو طفل لا يعلم بهما أحد من الناس، فسار يريد قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم فأخذ على شاطئ نهر الحفيف بين النخل يأكل تمرها ويعلفه الخف والحافر وانه إذا نزل بالأحقاف بجوار قبر هود اتبعته السباع فيقاتلهم ويقتل من لقيه منهم، ثم يخرج إليه تنين عظيم فيقاتله حتى يولى من بين يديه ويقول لأهله: لا تجزعوا فانه لص شيطان وانه كان رجل بمأرب تحت السد يقال له عمرو بن عباد بن مهرس بن عفار بن أود الله بن سعد العشيرة. وكان صعلوكاً لا يقر به قرار ويطلب المبارزة في كل قبيل من العرب وفي كل أوب، وتبعه على ذلك شريك بن عمرو ابن هلال بن أود الله وتبلن بن ثور بن أسلم بن زبيد، وكانا صعلوكين فاتكين جسورين على كل هول فتبعه عمرو بن عباد فسار بهما يطلبون الأموال وغيره القبائل لا يصطلي بنارهم ولا يسلم من لقيهم، فبينما هم كذلك سائرين إلى أن رمت بهم الأرض نهر الحفيف اثر ظعن جعفر ابن قرط فمشوا على الرسم واقتصوا الأثر حتى تراءى لهم جعفر يمشي كالشبح خلف ظعائنه فجدوا في طلبه حتى أدركوه وبينهما نهر الحفيف - وهو نهر ينهال فيه الرمل فيبتلع من سقط فيه - فطلبوا سرحة للنهر يعبرون منها اليه، فلما دنوا منه ووقفوا في عدوة النهر قريباً منه رأوا شيخاً جالساً في سرجه كالنخلة ولحيته سقطت على عرف فرسه، فانحرف عليهم

بوجه كالمجن وقد بلغت ركبتاه حذاء أذني الفرس فقال لهم: من أنتم وما شأنكم؟ قال له عمرو بن عباد: أنا عمرو بن عباد الأزدي وهذا شريك ابن عمرو الأزدي وهذا تبان بن نور الزبيدي لم ندع في العرب مثلنا بأساً ولا نجده، فاسلم الظعائن وانج بنفسك. قال له تبان بن ثور: يا عمرو لا طاقة لنا بالشيخ اذهب عنه ودعه فلسنا من جيله ولا من خلقه، قال له عمرو بن عباد: دع عنك الجزع قوة الشباب تغلب صلابة الهرم. قال عمرو بن عباد للشيخ: ما اسمك يا شيخ ومن أنت؟ قال له: أنا جعفر بن قرط الأزدي، قال له عمرو: وهل لك في المبارزة؟ قال له جعفر: لو رمت غير هذا ما وجدته اللقيا الحمى قد عرف الحق أهله، فأنشأ عمرو ابن عباد يقول: زم المطى قليلاً ... فلست تبقى مقيلا حرمت أهلي ومالي ... وخنت فيه الخليلا تذوق عيناي بردا ... حتى أراك قتيلا يكون أهلك أهلي ... إذا أرأيت الأصيلا جدوا الرحيل فإني ... أبحث خيلاً فخيلا والدهر طوع تمني ... إذ ليس دهري طويلا قل للزمان يميني ... ما شئت قيلاً فقيلا فقال جعفر بن قوط: قد كنت عني غنياً ... فعش سليماً مليا ما أنت والقول في ذا ... تراه فخراً سنيا

فحسبك الآن مني ... إن كنت قرماً كميا فما أراك خؤنا ... ولا أراك وفيا فهم يسايرونه حتى أصابوا سرحة عبروا عليها ورأوا الظعائن ليس فيها رجل غيره، قالوا له: سلم الظعائن وانج بنفسك وحملوا عليه فثبت لهم فطعنوه فألقى إليهم الجن فلم يعمل سلاحهم فيه شيئاً وحمل عليهم فولوا، وثبت له عمرو بن عباد فطعنه جعفر فعقر فرسه ثم عطف على صاحبيه فعبرا النهر وعلما إنه لا طاقة لهما بجعفر، ووقفا لينظرا ما يصير إليه أمر عمرو بن عباد، فرجع الشيخ إلى عمرو فقال له: الق سلاحك واستأسر وإلا قتلتك، فألقى سلاحه ونزل إليه الشيخ فكتفه وشد وثاقه إلى نخلة وتبان وشريك ينظران فقال تبان لشريك: إلينا يريد فانج بنا، ثم عبر إليهما من السرحة التي عبروا إليه منها فعطفا إليه في السرحة قبل أن يعبرها فطعناه فألقى تبان الزبيدي عن نفسه فطعنه شريك بن عمرو فأصاب صدره فنشب سنان قناته في يلب جعفر فأخذ جعفر القناة من صدره فكسر السنان وجرحه جرحاً خفيفاً، فلما نظر شريك إلى سنانه كسر ولى فأدركه جعفر فعقر فرسه ولم يرد قتلهم إلا أسرهم لأن الأسر أشهر ذكراً في العرب وهو مال. فإن أطلق منّ وإن أخذ المال استغنى ثم قال: استأسر يا شريك فإنه لا ملجأ لك من نهر الحفيف ومعاطشه، فجلس شريك بن عمرو على لوى رمل وجد جعفر في طلب تبان وكانت فرس تبان كلت لأنها جائلة الليل والنهار فأدركه جعفر وفرس تبان توضع يديها فأدركه جعفر فطعنه تبان فشك جعفر درع تبان وضربه على الكشح فأخرجها من صدره ولم تعمل قناة تبان شيئاً في يلب جعفر، ثم عطف عليه ثانية فعقر فرسه وقال

له تبان: لم عقرت فرسي يا جعفر وهي لك مال زيادة في الفداء؟ قال له جعفر: إني قاتلك، قال له تبان: ولم؟ قال له جعفر: الجرح يقتلك، قال له تبان: ليست بجائفة فإنها سكلت في الكشح سلكاً فنزل إليه جعفر فحشى جرحه رملاً ثم ساقه بين يديه فأصاب شريكاً جالساً على حبل رمل فساقهما بين يديه حتى بلغ بهما إلى عمرو بن عباد فحل وثاقه وساقهم بين يديه، فلما بلغ قبر هود عليه السلام نزل ونصب بهم قبة بعيداً من الحي، ولم يزل تبان يتعاهد جرحه حتى برأ، ثم قال لهم: هاتوا الفداء؟ قالوا له: يا أبا عامر خذ منا ما رأيت؟ قال: ادفعوا إلى الجميع أموالكم حتى لا يبقى لكم سبد ولا لبد، قالوا: أو بالطف يا بن ملك الملوك؟ قال: هو ما قلت لكم قالوا: وليس من ذلك بد! قال: نعم، قالوا: يا أبا عامر جميع أموالنا نأتيك بها. قال: أقم أنت يا عمرو وأنت يا شريك رهينة واذهب يا تبان سق لي الأموال. فلما عبر تبان نهر الحفيف وعلم منهم العزم على ذلك ركض في طلب تبان، فلما رآه تبان جزع وظن منه الغدر فقال له بعد الأمن والرضا بالفداء: يا أبا عامر قال له جعفر: ارجع الذي رأيت أحسن من الذي رأيتم. قال له تبان: يا أبا عامر ملك الملوك أنتم وجه الدنيا وشم العرب لم يضعكم الله مذ رفعكم، فمضى به حتى رده إلى صاحبيه. قال له: يا أبا عامر الوفاء أشبه بك والجهل أشبه بنا. قال لهم: أني لم أعط نفسي منكم فداء ولا طمعت فيه ولكن كان مني سؤال الفداء ابتلاء لكم واختباراً إذ سألتكم جميع أموالكم فلم تبخلوا بها عن أعراضكم وأنفسكم وجعلتم أموالكم دونها فأحمدت لكم ذلك وجعلت العفو مني مكافأتكم وعلمت أن لأنفسكم منكم وفاء ولو بخلتم عن أعراضكم وأنفسكم

بأموالكم لقتلتكم فأقيموا في رحب وسعة ودعة، ثم يا بن عباد أردت الموت فنأى بك الأجل واستعجل العفو وأنشأ يقول: أتى يروع بإبراق وإرعاد ... ألف المنية في قرب وإبعاد هلا مررت بعلعال فقلت له ... من ذاك يدفع عنك الشر يا وادي بأبيض المتن صافي الماء ذي شطب ... وادهم أزرق الحدين وقاد خل الظعائن تسلك جانب الوادي ... واصرف جراءك عنا يا بن عباد لا تعرضن لقوم من بني أسد ... فإن خلفهم ضرغامة عادي يا أيها الراكب المزجي مظيته ... اذهب ودعني أمارس حية الوادي أما قصدت ولم تخشن الحتوف إلى ... ليث العرين ولم تقصد بميعاد لا تسأم الناس والدنيا مزخرفة ... والناس ناس لا صلاح وإرشاد إذا مررت على نخل الحفيف فقل ... اسلم سلمت حريم الحائم الصادي أقوى الوجيف مغانيه فقد سلفت ... له هنيدة لم تهل لرواد حريم ليث يخاف الدهر سطوته ... يصول عن مجد آباء وأجداد لم يعب بالموت إذا جاشت كتائبه ... وقدم الحين أمجاد الأمجاد تسربل النقع والأبطال كالحة ... والروع يحفز أكباداً بأكباد شد الإزار على قلب وأورثه ... طيب المعيشة آباد الآباد أردت قصداً إلى باب على عجل ... صفر اليدين بلا رحل ولا زاد والدهر ينقض والأيام فانية ... يا بعد دهرك من أيام ميلادي ما حبب العيش عندي غير واحدة ... خوف المذلة أن تنزل بجد جاد يا وهب لا تسأمي لما لقيت ردى ... أو تحزني فالذي أسررت لي بادي لاعرفنك بعد اليوم تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي

إني نذرت يميناً لا أفندها ... حتى أجاور قبر العالم الهادي جدجاد ابنته بكر في حجره لم يكن في وقتها أجمل منها ووهبة أحدى نسائه لم يكن لها نظير وإن جعفر بن قرط قال للأسرى الذين في يده: أقيموا حتى أقارع التنين - وإن التنين آتاه في الوقت الذي كان يأتيه فيه - فأخذ بيده شجرة أم غيلان وأخذ بيمينه خشبة عظيمة، فإذا هجم عليه التنين أدخل الشجرة في فمه وضربه بالخشبة في الرأس، فلم يزل يقاتله حتى كل التنين وانصرف، وانه كان كذلك يفعل وهبت ريح باليمن فهدت الصخر من قنن الجبال وخددت الأرض ونقلت أحقاف الرمل من مكان إلى مكان فزعم أهل اليمن أنها كالريح العقيم هبت من جور عمرو ذي الاذعار فكشف تلك الريح جبلاً من رمل من منبر هود النبي صلى الله عليه وسلم فقال جعفر بن قوط: يا جدجاد دافعت عنكم أهل الدنيا وبأس أهل الأرض ولا دافع لأمر الله وغلبت الرياح النصيح، وأنشأ يقول: لم يبق يا جدجاد من لذاتي ... إلا نزال الجحفل الكماء والصفرة الصدق من اللمات ... وراحة النفس إلى الميقات كم مشهد ارتاع من إبانتي ... وفيلق أزور من قناتي امنع من نجران والجنات ... ومسقط البحر إلى السفرات ما واحدٌ قرني ولا عداني ... يرجون مني أسرع الغايات قارعتهم بالموت بالساعات ... إذ لا زعيم ضامن حياتي وكل جمع فإلى شتات ... وكل حي في يد الممات ما جاز حر الشعر عن أبياتي ... بلغت غاية الصفات

يكتب للشعر من الرواة ... فقدك يا جدجاد من فتاة لابد أن يذهل عن هبات ... قد عبث الدهر على منساتي منتظراً فيه إلى دعاتي ... إذا أزلت الرحل عن أبياتي سابقت أيامي إلى ميقات ... أبو بنين وأبو بنات أحسب في الحي من الأموات ... هل مشتر أبيعه حياتي وإن الريح هبت فكشفت عن منبر هود عليه السلام دراً وياقوتاً، وعن يمينه عمود من جزع أحمر مكتوب فيه بالمسند لمن ملك ذمار الحمير الأخبار لمن ملك ذمار للحبشة الأشرار لمن ملك ذمار لفارس الأحرار لمن ملك ذمار لقريش التجار فيقال إن هود عليه السلام كتبه، وأنه من علم الوحي وذمار غمدان ومأرب وصنعاء والعالية وما بينها. ثم رأوا عموداً من جزع أخضر وفيه مكتوب بالمسند على باب مغارة هذا قبر قضاعة بن مالك ابن حمير ملك ثلاثمائة عام أدخل واعتبر وأخرج وازدجر، فدخل جعفر ابن قوط وعمرو بن عباد وشريك بن عمرو وتبان بن ثور فأصابوا شيخاً جالساً على سرير من ذهب أجمل من رأوا وأعظمهم جسماً وعليه ثوب منسوج من ذهب وعلى رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالمسند: أنا قضاعة بن مالك بن حمير سخطت ورضيت. سخطت غدر الأمل ورضيت حلول الأجل من لم يرض بالقدر جهل الخبر ومن لم يقنع بما أعطى تعب ولم يطب له العيش - بعدما كنا زينة للناظرين صرنا عبرة للزائرين - وتحت مكتوب: أنا رب العتيق وغمدا ... ن وبينون والعراقين حينا

والسديرين والهوى الأبيض القص ... ر الذي شاد عابر للبنبا وإلى الملك من سبا عبد شمس ... ملك الأرض والأنام مشينا ولي الأخضر الهنيبق بالطل ... ح أراعي عليه عيرا وعينا ولقومي يدعو الحجيج لدى البي ... ت يرون الحجيج ذلك دينا حين كنا على البرية نوراً ... وغياثاً وزينة الناظرينا فرمانا الزمان منه بصرف ... فمضى حكمه علينا وفينا من رآنا رأى المنية تحدو ... هـ الينا بذاك حتما يقينا ثم صرنا من بعد ذاك وهذا ... بالمغارات عبرة الزائرينا أنا بين الرجاء والخوف أمسي ... ت مقيماً إلى التنادي رهينا فأمر جعفر بن قرط بالخروج زل يأخذ شيئاً من منبر هود ولا من كسوة قضاعة ومنعهم ذلك وأم جعفر بن قرط أمر لهم بأفراس فحملهم عليها وأدن لهم بالانصراف، فانصرفوا. فلما بلغ عمرو بن عباد منزله هيأ هدية من جمال وخيل وغير ذلك وسار إلى جعفر بن قوط فأصابه في مكانه لم يرحل عن جوار قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم فدفع إليه عمرو الهدية فقبلها منه جعفر وكافأه جعفر وأضعف له الهدية ونصب له قبة بعيداً عن الحي وحمل عمرو معه خمراً، وكان استرق النظر فرأى جدجاد فهويها وهو أسير، فلما آتاه جعفر بالطعام أكل وجعل يشرب الخمر. قال له عمرو: اشرب من خمري يا أبا عامر. قال له جعفر: يا بني أنا راعي الحي فإن أنا سكرت ضاع الحي، قال له عمرو: اشرب شرابي فهو بري عندك فاني ضيفك، فلم يزل به حتى شرب وعملت الخمر في الشيخ فصرعته. فقام عمرو بن عباد فسل سيفه وضرب به رأس جعفر وجسده

وأبان رأسه من جسده وأخذ لحيته يجريها رأسه فلما نظر أهل الحي إلى رأس جعفر خضعن خيفة وليس في الحي إلا امرأة وطفل. قال لهم عمرو: زينوا جدجاد حتى أخلو بها، قالت لهم: بلقيس: ويلكن اني أيدة ليس في الرجال مثلي ولا من يدافعني وقد أعديت مدية خوصية للملك عمرو ذي الاذعار - وهي أول ما عملت من الخوصيات باليمن مكراً فجعلت نصاب المدية ذهباً ورأس النصاب ياقوتة زرقاء فتدخلها من مفرقها في قرونها حتى تخرج رأس المدية من شعر قفاها وتبقى الياقوتة والذهب على جبينها وهي زينة لا يدري ما وراء ذلك، فزين بلقيس ثم أتين بها إليه فقالوا: هذه جدجاد. وكانت بلقيس أجمل من جدجاد ومن نساء زمانها، فلما رآها أنكرها وعلم أنها ليست جدجاد، غير إنه رأى ما غلب على عقله، فلما خلا بها في القبة هم بها قالت له: يا عمرو إن الأبكار من النساء كالإناث من الخيل لا يمسحن إلا عن صهيل ومجابذة، وإنما أرادت أن تعلم أين هو من قوتها، ومد يده إليها ورأى إنه حاكم عليها فجذبها إلى نفسه ودافعته فغلبت عليه فأخذت يديه جميعاً بيدها الواحدة فأمسكته، فلم يستطع معها حراكاً، ثم مدت يدها إلى قرونها فسلت المدية فضربت بها نحره، فلما وجأته ومات أخذت برجليه تجره في الحري وتقول: قليل لك هذا مني يا أبا عامر، ثم قالت: لهن أسرجن فرس أبي عامر فركبته ولبست لامة أبي عامر وقالت ارتحلن من قبيل أن يشيع قتل أبي فيتخطفكن العرب من هذا الشعب. فرحلن ومشت خلفهن بلقيس كما كان أبو عامر يفعل. ولما رجعن إلى علعال بكين جعفراً وشاع قتله في العرب وعرف عمرو ذو الاذعار مكان بلقيس فأرسل عمرو فأخذها وقالت لأخيها: لي حيل إذا لقيت عمراً أخدعه وأنت لا حيلة لك إلا الموت فاهرب، فهرب عمرو بن الهدهاد - أخو بلقيس - إلى البحر مكتتماً في زي أعرابي فلم

ملك بلقيس بنت الهدهاد ملكة

يعلم به أحد. وسارت بلقيس حتى دخلت على عمرو ذي الاذعار، فأمر بالخمر ينادمها كما كان ينادم بنات الملوك ويفعل بهن، فلما أخذت الخمر منه هم بها، قالت له: أيها الملك سترى مني من المال أكثر مما رأيت من الحرص وحاجتي فيك أعظم من حاجتك في، وسامرته أحسن مسامرة، فألهاه ما سمع منها وما أعطته من نفسها من القرب وهي تعمل فيه بالخمر دأباً حتى علمت أن الخمر عملت فيه، فقامت إليه وسلت مديتها من قرونها ثم نحرته، فلما مات جرته فألقته في ركن مجلسه وألقت عليه بعض فرش المجلس، ثم خرجت إلى الحرس في جوف الليل وقالت لهم: يأمركم الملك بفلان أن تأتوا به، فلما أتوا به وكان يتبعه ألوف من حمير، فلم تزل ترسل إلى ملوك حمير وأبناء الملوك المسموع منهم المتبوعين، فلما اجتمعوا إليها في قصر غمدان خرجت عليهم فقالت لهم: إن الملك قد تزوجني على أني برئت إليه من ملكي في حياته وأنتم تعلمون إنه لا يولد له، فلما علم مني الخضوع بحقه والاستسلام لإرادته والطاعة لأمره فوض إلي بعده ورآني أهلاً له وأمرني أن آخذ عليكم بذلك عهداً. قالوا: سمعاً وطاعة للملك فيما أراد، فأخذت عليهم العهد أن لها الملك بعد عمرو، فلما توثقت منهم قالت لهم: هل تسمعون من الملك فأدخلتهم المجلس قالوا لها: أين الملك؟ قالت لهم: ها هو ذا وكشفت عنه فرأوه قتيلا، قالوا لها من فعل هذا؟ قالت لهم: أنا ولي العهد عليكم بالملك بعد موته وهذا هو قد مات وعهدي لكم لازم، قالوا لها: أنت أولى بالملك إذ أرحتنا من هذا الرجس الجائر. فوليت بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل ملكهم. ملك بلقيس بنت الهدهاد ملكة فوليت بلقيس ملك حمير وهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه ويزعم بعض الرواة أن تبع عمراً ذا الاذعار لم يمت من سقط شقه من الفالج

ولذلك قتلته بلقيس وكان ملكه مائة سنة وخمساً وعشرين سنة فرثاه المضرب بن وائل بن يعفر بن عمرو الحميري فقال شعراً: عجبت للدهر وأوانه ... وصرف أيام له فانيه فبينما المرء يريد الهوى ... إذ مال لا يبقى على باقيه لو كان هذا الدهر إذا جاءنا ... يختلف العبد وذا الداهية لو يعلم الدهر بما قد أتى ... لم يعلن البيان من ناعيه حال عن الدنيا بصرف الردى ... يختلس الحاضر والبادية عم على ملك لنا قاهر ... مالك أنس في ذرى ساميه وملك حيان هم أصله ... لم يكن الباقي بذي راقيه أخرج ذا الأذعار من ملكه ... ولكن الدنيا إلى ناهيه لم تلبس الشمس سرابيلها ... على مليك كان ذا تاليه قد خسف البدر ولاذت به ... لما تولى الأنجم السارية وقال عمرو بن الهدهاد بن شرحبيل يهجو عمراً ذا الأذعار: وهو أول هجو كان في العرب: أصبح ذو الاذعار في رمسه ... يأكله الجور الذي قدما لم يحمد الله له سعيه ... ولم يحرم دهره محرما لم تبك عين بعده حسرة ... ولم ير الدهر له مكرما محت ضياء الدهر أيامه ... فأصبح الدهر له اسحما اربدَّ وجه الدهر من دهره ... فظل عرنين الرضى أكشما عاصاه وجه الحق لما دعا ... إلى ردى الجور الذي جحما ينزل عن رفع العلى هابطاً ... ولم ير الدهر له سلما كم من فتاة طفلة غادة ... تذكر من يوميه ما أحرما

وكم كريم ما جد سيد ... ممن حمير الأنجاد قد أوسما شكت وجوه العدل أيامه ... أسلمه الحق الذي اسلما قال أبو محمد: لما وليت بلقيس الملك قالت حمير رجع الملك إلى نجلته الأولى وذلك أنها من نجلة يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ - وعمرو ذو الاذعار نجلة الملطاط بن سكسك، فكان الملك لأخيه يعفر بن سكسك وفي بيته من قبل الملطاط وبيته، وذلك إنه عمرو ذو الاذعار بن أبرهة ذي المنار بن الصعب ذي القرنين بن الحارث ذي مراثد بن الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير - فلما وليت بلقيس الملك جمعت الجيوش العظيمة وسارت إلى مكة فاعتمرت وتوجهت إلى أرض بابل فغلبت على من كان بها من الناس وبلغت أرض نهاوند وأذربيجان، ثم قفلت إلى اليمن وكان حرسها الرجال الذين يوازرونها وبطانتها النساء، وكانت لا أرب لها في الرجال، وأنها لما غلب عليها رسول الله سليمان بن داود صلى الله عليهما تلوم أمره فيها حتى آتاه الوحي ببراءتها من ريب الجاهلية فتزوجها وهي جارية عذراء، وكان معها ثلاثمائة وستون امرأة من بنات أشراف حمير، وكانت تحبس الجارية حتى تبلغ، ثم تحدثها حديث الرجال فإذا رأتها قد تغير لونها ونكست رأسها عرفت أنها أرادت الرجال فسرحتها إلى أهلها ووصلتها وزوجتها وأحسنت إليها ولا تزوجها إلا من أشراف قومها، وإذا رأتها مستمعة لحديثها معظمة لها أطالت النظر غير متغيرة اللون ولا مستحية من الحديث علمت أنها لا تريد فراقها وإن

الرجال ليسوا من بالها، فكانت بلقيس صائنة لنفسها غير واقعة في المساوئ ولا غافلة عن المكارم فكان ملكها قبل سليمان بسبع سنين. فلما أراد الله إكرامها بسليمان خرج مخرجاً لا يريد إليها، وذلك إنه لما بلغ ملك حمير مبلغاً لم يبلغه أحد من أهل الدنيا عظمت نفوسهم وتكبروا وتجبروا (ولله الكبرياء والجبروت) فأراد الله أن يريهم قدرته فأرسل الله سليمان بن داود بن ايشا بن حصرون بن عموم بن ناهب بن لاوي بن يهوذا بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم، وأعطاه الله ملكاً لم يعطه أحداً من قبله ولا ينبغي لأحد من بعده فأتى إلى حمير بالآيات التي لا يستطيع مخلوق أن يأتي بها تقله الرياح كما قال الله عز وجل {غدوها شهر ورواحها شهر} وتظله الطير وعلمه منطق الطير ومنطق كل شيء فما من شيء يسبح بحمده إلا فهم تسبيحه وتسير معه الجبال إذا أقلته الرياح تسبح بتسبيحه وسخرت له الأنس والجن والشياطين كما قال الله جل ثناؤه {كل بناء وغواص} لما أراد الله أن يهدي بلقيس وحمير، فبعث الله نبيه سليمان بالآية الباهرة التي بهرت عقولهم، فخرج سليمان مخرجاً لا يريد إليها فقضى أن يمر على بلدها وهو يريد غيرها وكان إذا ركب غدا من تدمر وكانت منزله فيقيل يا صطخر من أرض فارس، ثم يروح فيبيت بكابل فغدوها ورواحها مثل هذا المسير إلى كل وجه أخذ إليه - وقول الله أصدق القائلين {غدوها شهر ورواحها شهر} - وأمر سليمان الريح فأقلت عرشه وأمرها أن تنقل كراسي جلسائه، ثم جلس على عرشه وأجلس الأنس عن يمينه وشماله وأجلس الجن من ورائهم على مثل ذلك منهم قاعد

وقائم. ثم قال للريح أقلينا وقال للطير: أظلينا، فأقلته الريح وأعلته الطير ومن معه من الأنس والجن من الشمس والخيل واقفة والطباخون في التوابيت جلوس على أعمالهم، وأمرها سليمان بالمسير لا تزيل أحداً منهم عن مجلسه ولا تفسد عملاً في يده حتى يأذن لها في وضعهم على الأرض ففعلت، وإن سليمان سار في المشرق متوجهاً من تدمر ثم توجه من المغرب فمر بموضع المدينة فأمر الريح فوقفته تم أمر أصحابه بالهدو وقال: أنها مهاجر نبي يخرج في آخر الزمان من العرب اسمه أحمد وهو خاتم النبيين أكرم مخلوق عند الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سار إلى مكة فقال: هذا بيت الله الذي بناه إبراهيم أبي، وهو أول بيت وضع في الأرض، أمر الله به آدم يبنيه فبناه، فنزل سليمان فصلى فيه، ثم سار إلى مدينة مكة ومر بقبر إسماعيل صلى الله عليه وسلم فنزل إليه وألم به وكان ملك مكة يومئذ البشر ابن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم - وكان البشر عاملاً لبلقيس على من كان بمكة وبالحجاز، وكان نبت بن قيدار بن إسماعيل النبي بمكة يومئذ وبنو عمه فأتى البشر إلى سليمان مستجيراً مستسلماً، فأمره سليمان أن يبرأ من أمر مكة إلى نبت قيدار ابن إسماعيل وأقر البشر وجرهم على القيام بالبيت - كما فعل إسماعيل - ثم سار سليمان بن داود نحو أرض اليمن حتى نزل بنجران على القلمس بن عمرو - وهو أفعى نجران - وكان من بني عبد شمس بن وائل بن حمير ابن سبأ وهو عامل بلقيس على نجران والمشلل إلى البحرين وما والاهما من البلد. وكان القلمس أفعى نجران أحكم العرب في وقته كان حكيماً بما يظهر للناس في وقته وبما بطن عنهم - فلما رأى طوالع عساكر سليمان

طلعت، فتواضع وذل وقال: تواضع وذلة تحت عز وسلطنة أن هذا شأن سماوي، وإن القلمس أفعى نجران جمع أهل نجران وهي دار العلم وقال: يا أهل نجران أنتم أهل العلم الأول هل عندكم من هذا العلم؟ قالوا له: ما لم يكن عندك يا سيدنا وأنت جهبذ العالم فيكون عندنا، قال لم: إني البس لهم مسا وباءة وأسير إليهم بثلاث: بكهانة وطب وحكمه، فإن كان فيهم نبي لم يحتاجوا إلى طبي وكمتي لأن فيم طبا أبلغ من طبي ولا يسمعون من حكمتي لأن فيهم من حكمة الوحي أحيا من حكمتي ولا يلتفتون إلى كهانتي، لأن فيهم من علم الوحي أصدق من كهانتي، فلبس القلمس المسح - وكان أول من لبس المسح يعقوب النبي تواضعاً لله - وحرم الشحوم لي نفس ويعقوب هو إسرائيل ولي الله باللسان السرياني ومعنى أسرا ولي وايل الله وجبرائيل رسول الله جبرا رسول وايل الله وعزارائيل عبداً لله عزرا عبد وايل الله وميكائيل صفي الله ميكا صفي وايل الله فسار الملك القلمس بن عمرو الحميري حتى دخل عساكر سليمان فتعرضهم بالكهانة فلم يسألوه وعرض الحكمة فلم يلتفتوا إليه وعرض الطب فلم يسمعوا منه فتركهم ومضى إلى سليمان فرأى الريح تقله والطير تظله فرأى ملكاً عجيباً، فدنا من سليمان فقال سليمان: يا آصف - وكان آصف كاتب سليمان - سبحان قاصف الجبابرة ذلك عميد نجران المبتكر ادعه فقال له آصف: هلم الرجل؟، فلما وقف بين يدي سليمان سبح سليمان فسبحت الجبال فقال أفعى نجران: بطلت حكمتي ثم نظر إلى البقل بين يدي سليمان فكل بقلة تقول له: يا نبي الله اسمي كذا ذا لكذا فقال أفعى نجران: بطل طبي ثم قال لسليمان: إن هذا عميد نجران

له من الأمر أمران بين ضلال وبيان، فآمن أفعى نجران وصدق بما أتى به سليمان. ورجع أفعى نجران إلى قومه فقالوا: ما رأيت؟ قال: يا قوم {الرائد لا يكذب أهله} فأرسلها مثلاً ول يظهر لهم إنه أجاب سليمان إلى ما دعا إليه اتقاهم عن إيمانه، ثم بعث إلى بلقيس يخبرها بخبر سليمان وكتمها إيمانه وكتب إليها، فقال لها: إني رأيت قوماً لبسوا الذل تحت العز والفاقة تحت الغنى والصبر تحت القدرة ينصرون بلا حرب ويقدرون بلا استطالة فكتبت إليه بلقيس: تفعل الملوك ذلك يستميلون أهواء العالم حتى يقدروا فإذا قدروا عزوا فبزوا ولكن لا تحاربهم ودعهم فليس كل الناس صائناً لنفسه، فإن سرقوا فليسوا بأهل دين، فخلى أفعى نجران بينهم وبين الزرع فلم يأكلوا منه سنبلة، فأرسل إلى بلقيس أعلمها فكتبت إليه: أن ادفع إليهم الخف والظلف ففعل فلم يأخذوا منه شيئاً ورجعت إليه كما سارت، فأعلم بذلك بلقيس. فأرسلت إليه: ادفع إليهم الخيل ذكوراً إناثاً، ففعل فلم يأخذوا شيئاً ورجعوا على حالهم. فبعثت إليه أن ابعث إليهم بجارية حسناء وأعطها شيئاً تطوف به على عساكرهم حتى تغمر بها فأرسل أفعى نجران ابنته، ولم يكن في وقتها أجمل منها، فطافت في جميع عساكر سليمان، فكانوا يساومونها ولا يرفع إليها رأسه أحد حتى انتهت إلى سليمان فنظر إلى مال في يدها ولم ينظر إليها فرجعت وأعلمت بذلك أباها فكتب بها إلى بلقيس، فكتبت إليه: كف ومل إلى سلمه ولا تعرض أجنادنا إلى أمر الله فإن الله لا يغالب. ثم رف سليمان حتى كان من مأرب مدينة سبأ على مسيرة ثلاثة أيام، أراد النبي سليمان النزول - وكان لا ينزل إلا على الماء - وكان الهدهد الذي يدله على الماء وكان الهدهد الذي يدله على الماء فتفقد الهدهد لأنه دخلت عليه الشمس من موضعه وكان مثل البطة. وقال الله تبارك وتعالى {وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى

الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين}. قال أبو محمد عن أسد عن أبي إدريس عن وهب عن ابن عباس، إنه قال: لأعذبنه عذاباً شديداً، أي للأنتف جناحيه حتى لا يطير مع الطير. وقوله بسلطان مبين: العذر البين والسلطان: الحجة. وكان الهدهد تقدم من ذلك الموضع فلقي هدهداً من أرض مأرب فقال ذلك لهدهد سليمان: أخبرني ما هذا الذي أرى ما رأيت ملكاً أعجب من هذا الراكب الريح ومعه من الجنود ما أرى لم أره ولم اسمع به؟ قال له هدهد سليمان: هذا سليمان ابن داود نبي الله قال: فمن آنت قال: أنا من أرض سبأ قال له هدهد سليمان فمن ملكهم؟ قال: ملكتنا امرأة لم ير الناس مثلها في حسنها وفضلها ورأيها وحسن تدبيرها وكثرة جنودها والخير الذي أعطيته في بلدها وأمها من الجن، مع هذا وهي من ولد حمير، فقال: انطلق بنا إليها. فانطلقا حتى نظر إليها ورجع إلى سليمان - قال الله تبارك {فمكث غير بعيد فقال: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين أني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} قال {سليمان}: {سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فالقه إليهم، ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون} فكتب سليمان كتاباً ودفعه إلى الهدهد فأخذه الهدهد بمنقاره وانطلق حتى انتهى إليها فكان بحيال رأسها حتى حاذى تاجها وهي على عرشها ألقى الكتاب فوقع في حجرها فنظرت إليه ونظر الناس إلى طائر رمى الكتاب فقالوا: رمى إليك كتاب من السماء فخاضوا في ذلك، ثم أنها بعثت إلى مقاول حمير وكانت أول من استشار المقاول من حمير فقالت لهم: ما ذكر

الله في القرآن {يا أيها الملأ أني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وآتوني مسلمين. قالوا: نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظر ماذا تأمرين؟ قالت (لهم تمتحنهم): إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون، واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون}. قال أبو محمد: بعثت إليهم بهدية اختارت أربعين رجلاً لم تدع في أبناء الملوك أجمل منهم ولا أعقل ولا أشد ثقة ولا أبعد غاية ولا أعلى صوتاً فعنفهم صوتهم قبل أن يصلوا إلى سليمان وأرسلت إليه معهم بهدية تمتحنه بمائة وصيف ومائة وصيفة ولدوا في شهر واحد كما ولدوا في ليلة واحدة، وأرسلت إليه بحق مملوء ذهباً وفضة ودراً وياقوتاً وزبرجداً وزمرداً وختمت على الحق ولبست الوصائف والوصفاء زياً واحداً ليظن من رآهم كلهم غلمان، وأرسلت إليه بخيل عتاق ذكور وإناث وقالت لرسلها: مروه يخبركم بفرق بين الذكور والإناث من هذه الخيل بعضها من بعض من غير أن يخبره أحد، ومروه أن يخبركم بما في هذا الحق من غير أن يفكه. قال: فتوجه رسلها حتى بلغوا إلى موضع لا يدركهم أحد. فقال بعضهم: أن سئلتم عن شيء فعليكم بالحق الذي لا اختلاف فيه وإياكم أن يجيب كل واحد عن نفسه فيقع الاختلاف فيرتاب بكم، فمضوا وجمعت بلقيس أشراف حمير فقالت: خذوا في أهبة الحرب، فجمعت الجيوش واستعدت للحرب وقالت لقومها: إن هو قبل الهدية ولم يرد الحرب ودعا إلى الله فهو نبي فاتبعوه وإن هو لم يقبل الهدية ولم يعلمنا

بما سألناه فهو ملك من ملوك الدنيا حاربناه فما لأحد بنا طاقة وإن كان نبياً فما لنا بالله طاقة - فلما أتت الهدية إلى سليمان نسب لهم الخيل بعضها عن بعض وميز الغلمان عن الجواري في لباسهم وأخبرهم بما في الحق من عدد الياقوت والجوهر والزبرجد والزمرد ووزن العقيان واللجين. فأجابه الرسل وصدقوه إلى ما دعاهم إليه من طاعة الله، ثم دعا عفريتاً من الجن يأتي بعرشها - وكان عرشها ذهباً صامتاً مرصعاً بالدر والياقوت عشرين في عشرين ذراعاً وتاجها كالعنقل معلق إلى رهو المجلس بالسلاسل فقال العفريت {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي آمين} قال آصف بن برخيا - كاتب سليمان وقد كتب الوحي الذي أمر الله به سليمان -: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}. فأمر سليمان الريح فأقلت آصف أسرع من طرفة عين فأتى إلى العرش وهو في قصر غمدان ودونه عشرة حجب بالمجالس في كل مجلس حرس، فأمر آصف الريح فأقلته وأمسك آصف صدر العرش فأتى به سليمان وكان سليمان لا يحتجب عن آصف عند نسائه - فأتاه بالعرش، وأمر سليمان الجن والأنس فبنوا له مجالس لم يبن مثلها فجعل العرش في أقصى المجلس ولما رأى سليمان العرش من ذهب ولؤلؤ وجوهر قال: {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}. قال ابن عباس: زيد فيه جوهر وياقوت ونقص منه. وقال ابن عباس: للقرآن ظاهر وباطن: فعندي لظاهره تبيان ولباطنه علم يهتدي به إليه من اعتصم بالله. وإن وفد بلقيس الذين أوفدت إلى سليمان آتوها فأعلموها بما

رأوا وبإيمانهم. فأمرت بالجهاز وسارت في مائة رجل وعشرين رجلاً من أشراف قومها ورؤسائها وأخيارها مع كل رجل من وجوه جنده وأفاضل أصحابه وقادة خيله مائة رجل، ثم جمعت أبناء الملوك، ثم قالت: معاشر حمير أنتم تلاد الله اصطفاكم من أول الدهور وفضلكم بأفضل الأمور وقد ابتلاكم بهذا النبي سليمان بن داود، فإن آمنتم وشكرتم زادكم نعمه وإن كفرتم سلبكم النعم وسلط عليكم النقم. فقالوا لها: الأمر إليك وعلموا إنها شفيقة عليهم ناصحة لهم فخرجت إلى سليمان في مائة ألف واثني عشر ألفاً وتركت جميع أجنادها بغمدان وبمأرب فتركها ثلاثة أيام فقال لها قومها: ما في أمر هذا الرجل أتريدين الدخول في طاعته أم تحاربينه أم تقولين إنه نبي؟ قالت لهم: سأعلمكم منه ما تعرفون أنبي هو أم ملك من هؤلاء الملوك انظروا إلي إذا أنا دخلت عليه فإن هو أمرني بالجلوس فهو ملك من هذه الملوك لأن الملوك لا يجلس عندهم إلا بإذنهم وما أقل من يجلس عندهم إلا خاصتهم وإن هو لم يأمرني ولم ينهني فهو نبي ومع إني أساله عن أشياء إن هو أخبرني عنها فهو نبي وأنا داخلة في أمره ولا طاقة لكم بمحاربته قال: فأمر سليمان الجن فجعلوا له عن يمينه وشماله حائطين مموهين بالذهب وبنوا من وراء ذلك دراراً ومجلساً وجعلوا أرض الدار لبناً مموهاً بالذهب غير موضع لبنة واحدة، ثم أذن لها بالدخول، فلما رأت الحائطين ودخلت الدار فرأت أرضها وحيطانها من ذهب تقاصر إليها ملكها ورأت شيئاً لا يشبه ما كانت فيه وسليمان في مجلسه في أقصى الدار ومعها لبنة من ذهب في يدها تريد إن أمرت بالجلوس أن تجلس عليها فنظرت فإذا هي على بابا مجلس سليمان من خارج بموضع لبنة من فرش الدار ليس فيها لبنة فكرهت حين رأت ذلك أن تمضي بما في يدها بها فرمت باللبنة في الموضع الخالي وسليمان

ينظر فلما دخلت عليه وسلمت وحيته تحية الملوك وتواضعت له كما يتواضع للملوك تمتحنه بذلك. فقال لها سليمان: أهكذا عرشك؟ قالت له: كأنه هو، ثم قامت بين يديه فلا يأمرها ولا ينهاها عن القيام حتى إذا طال ذلك منها قال سليمان ورفع رأسه إليها: الأرض لله فمن شاء فليجلس ومن شاء فليقم. قالت: الآن علمت أنك نبي، قال: ومن أين؟ قالت: إنه لا يجلس عند الملوك إلا بإذنهم وأما القيام فعندهم يقام وما أقل من يقعد عندهم إلا من كان من خاصتهم، لكنك قلت مقالة أهل العلم بالله وقد أتيتك وأنا أريد أن أسألك عن ثلاث خصال فإن أنت أخبرتني بهن دخلت في طاعتك وإن لم تفعل فعلت رأيي فيما بيني وبينك. قال سليمان: فسلي ولا قوة إلا بالله. قالت: اخبرني عن ماء روي ليس من أرض ولا سماء، وأخبرني عن تشبيه الولد أباه وأمه ومن أين يأتيه ذلك، وأخبرني عن لون الرب تبارك وتعالى - سألته عن ذلك وهي جالسة مما يليه على كرسي - والأنس والجن عن يمينه وشماله. فقال سليمان للإنس: هل عندكم في هذا شيء؟ قالوا: يا نبي الله لا علم لنا. قال للجن: هل عندكم في هذا شيء؟ قالوا: لا علم لنا يا نبي الله، ثم قال سليمان للجن: اركبوا هذه الخيل فأجروها فإذا تصبب عرقها فخذوه وجيئوني به. ففعلوا وآتوه بماء كثير من عرق الخيل فقال لها: هناك يا بلقيس ما روي من أرض ولا سماء. قالت: أجبت عن هذه فماذا تقول في الخصلتين؟ قال لها: أما شبه الولد، فإن النطفة إذا سبقت من الرجل كان الشبه له وإن سبقت من المرأة كان الشبه لها قالت: صدقت، قالت: فالخصلة الثالثة؟ قال لها: تبارك وتعالى عن سؤالك وأنا راغب إلى ربي، فرغب سليمان إلى ربه في مجلسه ذلك فأوحى الله إليه - إني قد أنسيتها ذلك فاسألها عنه فسألها -

فقالت: ما أدري ما سألتك عنه يا نبي الله فعرض عليها سليمان الإسلام. فقالت: انظر في أمري هذا يومي هذا، فقالت الجن: كنا نصيب في سليمان رحمة النبوة، فيسأل عما نريد فإذا هو تزوج بلقيس أتتنا فطنة الجن وحيل الأنس وكيد النساء فلم نصب راحة فكيف إذا اجتمعت مع أعوانها من الجن والأنس أهل القسوة والتطاول على من دونهم لم نأمن على أنفسنا الهلكة يحجب عنا كل خير وينزل بنا كل سوء وشر. تعالوا فلنزهده فيها فإنه قد ذكر إنه يريد يتزوجها، فقال لهم عفريت من الجن يقال له زوبعة: أنا أكفيكم سليمان. فآتاه فقال له: يا نبي الله بلغني أنك تريد تزويج بلقيس وأمها من الجن ولم تلد جنية من أنثى قط ولداً إلا كان رجلاه مثل حافر الحمار وساقه أجمان صلب القسوة حاد النفس حار الجسم، قال سليمان: فكيف لي أن أنظر إلى ذلك منها واعلم من غير أن تعلم ما أريد به منها؟ قال له زوبعة: أنا أكفيك ذلك. فصنع زوبعة لسليمان مجلساً كمن قوارير وجعل أرض المجلس لجة وسرح فيها السمك، ثم جعل فوق ذلك صرحاً ممرداً من قوارير، ثم قال له: أرسل إليها فلتدخل عليك فإنك ترى الذي تريد. فبعث إليها وهو على كرسيه في البيت مجلس غيره، فلما رأت الماء والسمك تجول ضربت ببصرها لتنظر مكاناً تجلس فيه فلم تجد، وحسبته لجة، فكشفت عن ساقيها لتخوض الماء فلما رآها سليمان ونظر إلى ساقيها عليهما شعر كثير أسود على بياض ساقيها، قال لها سليمان: لا تكشفي عن ساقيك إنه صرح ممرد من قوارير. فنظرت فإذا

ملكها ليس هو شيء عند ملك سليمان وأيقنت أنها آية من عند الله ليس من تملك المخلوقين فقالت: يا نبي الله ظهر الحق وذهب الباطل، ثم قالت {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. فلما نظر سليمان إلى شعر ساقيها ورأى جسمها أحسن جسم صرف وجهه عن ساقيها للشعر الذي رأى، فعلمت بلقيس إنه إنما صرف بصره ووجه للشعر الذي رأى قالت: يا نبي الله إن الرمانة لا يدري ما هي حتى تذاق. قال سليمان: ما لا يحلو على العين لا يحلو على الفم، ثم تلوم سليمان أمره في بلقيس شهراً حتى أنزل الله عليه براءتها من ريب الجاهلية، فلما عزم سليمان على تزويجها، قال له رجل صالح من الجن - كان يجب ما وافق سليمان: يا نبي الله هل كرهت منها إلا الشعر؟ قال: بلى، قال: إني سأتركها لك مثل الفضة من غير عيب، قال له: افعل. فصنع لها النورة وبعث بها إليها واتخذ لها الحمام - قال بعض أهل العلم: كانت أول نورة عملها مخلوق وأول حمام صنع ذلك الجني وصنع لها ذلك الجني صرحين ممردين وضروب الصناعات - وتزوجها سليمان فأعجب بها وبعقلها وتدبيرها بحسن رأيها فولدت له داود ورحبعم فأما داود فمات في حياة سليمان أبيه وبقي رحبعم بعد سليمان وسرح بلقيس على ملكها ونزلت بمأرب، فكان يأتيها سليمان في كل شهر مرة فيقيم عندها سبعاً ثم يسر في الأرض، وكان يعينها بالشياطين يعملون لها. فعامة صناعات أهل اليمن من قبل الشياطين وافترقت عنهم في الناس شرقاً وغرباً. وان سليمان أمر الريح فسارت به إلى الأحقاف ليزور قبر هود النبي صلى الله عليه وسلم، فسار حتى نزل في الأحقاف ودخل إلى قبر هود ورآه ثم انصرف ومر على البحر حتى بلغ عدن.

قال أبو محمد: لما بلغ سليمان إلى عجز الأحقاف أمر الريح فأمسكت، ثم قال: وأشار بيده هناك ولي الله حنظلة بن صفوان صدق وكذبوه فنجا وهلكوا وإلى الله المصير. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ذكرت أحاديث القبور في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتشعبت بنا فيها فنون كثيرة فلن يبق منا أحد إلا حدث حديثاً، فأقبل رجل من جهينة يسمى جفينة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وعند جفينة الخبر اليقين) ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: قد أتى من يحدث فيحسن. فلما سلم ثم جلس ثم قال: أفيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلنا له: هذا رسول الله، فقام إليه مسرعاً فقبل يده فنفضها عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: إن هذا حمقة من حمقات الأعاجم كانوا يستطيلون على الناس بتجبرهم، فإذا جلسوا في مجالسهم فدخل عليهم من هو دونهم تملقهم بهذا يستجلب رأفتهم وإن تحية الإسلام المصافحة فقال: يا رسول الله أني أتيتك من ظهراني قوم جربتهم فقست قلوبهم ومرنت على التكذيب جلودهم وإني أحببت الإسلام وأتيتك فيه راغباً فاشرح لي إعلامه وادللني على فرائضه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بن عباس علمه من ذلك ما يفقهه. فمكث أياماً فتعلم السنة وقرأ سوراً من القرآن وحسن فقهه. وإن الأيام جمعتنا وإياه في مجلس كما كنا أول مرة فأعدنا ما كنا فيه من أحاديث القبور، فقال جفينة: حدثني أبو قنبرة بن الغسان عن أشياخه قالوا: نزلت بنا جحره

أزمة سنة شديدة أكل الناس خيلهم، فلما أكلوا خيلهم مطيهم فكانت الذخائر التي لا يفضي إليها إلا في الجهد الشديد، فلما أفنوها تتبعوا خشاش الأرض من الحرشة وأولادها من شدة الأزل فخرجت جماعة من الحي في طلب النبات فاشرفوا على هجل ذي نبات جم، فلما توسطوا ساحته رأوا غيراناً متقابلة تأوي إليها السباع وجن عليهم الليل في بعض ما كانوا يطلبون فأووا إلى غار منها وهم لا يعلمون البلد الذي هم فيه، فإذا فيه أولاد سبع. قال: فحدثني رجل منهم يقال له مالك قال: فرأيت في الغار أشبالاً حين شدت قال فخرجنا هاربين قال: فدخلنا وهدة من وهاد الأرض بعدما تباعدنا من ذلك الموضع فأصبنا على باب الوهدة حجراً مطبقاً فاعتلونا عليه فقلعناه فإذا رجل عليه جبة صوف في يده خاتم عليه مكتوب: أنا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس، رسول الله وعند رأسه صحيفة نحاس مكتوب فيها بعثني الله إلى عريب وهمدان والعرب من اليمن بشيراً ونذيراً فكذبوني وقتلوني. قال: فأعادوا عليه الحجر كما كان والصخرة في مكانها كما كانت. عن هشام عن أبي يحيى السجستاني عن مرة بن عمر الأيلي عن الاصبغ بن نباتة قال: أنا لجلوس ذات يوم عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في خلافة أبي بكر إذ اقبل رجل من حضر موت لم أر قط أطول منه ولا أكره وجهاً، فاستشرفه الناس وراعهم منظره وأقبل حتى وقف فسلم وحيا ثم جلس فكان كالقائم فكلم أدنى القوم إليه مجلساً وقال: من عميدكم؟ فأشاروا إلى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقالوا: هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعالم الناس والمأخوذ عنه. فنظر إليه

علي فقال. أجلس أيها الرجل. فقال: أنا جالس أيها الهادي فقال له علي: من حضر موت أنت؟ قال: نعم. ثم قام إليه الحضرمي فقال: أسمع كلامي هداك الله من هادي ... وأفرج بعلمك عن ذي لوعة صادي جاز التنائف من وادي السكاك إلى ... ذات الاماحل من بطحاء أجياد تلفه الدمنة البوغاء معتمداً ... إلى السداد وتعليم بإرشاد سمعت بالدين دين الحق جاء به ... محمد وهو قرم الحضر والبادي فجئت متنقلاً من دين طاغية ... ومن عبدة أوثان وأنداد ومن ذبائح أعياد مضللة ... نسيكها خائب ذو لوئة عادي فادلل على القصد وأجل ريب عن كبدي ... بسرعة ذات إيضاح ورشاد والمم بفضل هديت اليوم من شعثي ... ثم أهدني أنك المشور في النادي إن الهداية والإيمان شافية ... عن العمى والتقى من خير ازواد وليس يفرج ريب الكفر عن أحد ... أضله الجهل إلا حية الوادي قال: فأعجب علياً شعره وقال له علي: لله درك ما أرصن شعرك! قال: فسر به وشرح له الإسلام، فأسلم على يديه وحسن إسلامه، ثم أن علياً سأله فقال له: أعالم أنت بحضر موت؟ قال: إذا جهلتها ما أعلم غيرها. قال: أتعرف موضع الأحقاف؟ قال له: كأنك تسأل عن قبر هود النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال له علي: لله درك ما أخطأت. قال: نعم، خرجت في عنفوان شبابي في غلمة من الحي ونحن نريد أن نأتي قبيره لبعد صوته فينا وكثرة ذكره فسرنا في بلاد الأحقاف أياماً وفينا رجل

عرف الموضع حتى انتهينا إلى كثيب أحمر فيه كهوف مشرفة فانتهينا إلى كهف منها فدخلناه. فأمعنا فيه طويلاً، فانتهينا إلى حجرين قد طبق أحدهما على الآخر وفيه خلل يدخل منه النحيف متجانفاً، فدخلته فرأيت رجلاً على سريره فإذا مسست شيئاً من جسده أصبته رطباً لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتاباً بالمسند: أنا هود النبي آمنت بالله وأشفقت على عاد بكفرها وما كان لأمر الله مرد فقال لنا علي - رضي الله عنه -: كذلك سمعت من أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم. قال أبو محمد: لما نزل سليمان عدن وسار من اليمن بعتاق الخيل من بقايا خيل الصعب ذي القرنين، أخرجت إليه الخيل من البحر الخيل الخضر فأعجبته وفتن بها فطفق مسحا بالسوق والأعناق فأنسته التسبيح والتهليل. وقال لعض أهل العلم: بل نسي صلاة العصر، ذم ذكر الصلاة والتسبيح فقال: ليبلوني أأشكر أم أكفر، فأمر بالخيل الخضر فعقرت فزعموا أنها ردت إلى البحر. ثم سارت به الريح حتى بلغ تدمر وكان لخاتمه نور يقوم بين السماء والأرض فيزدحم عليه الطير في الهواء على رأس سليمان. ثم أن خاتم سليمان سقط من يده فذهبت الطير وسكنت الريح لما أراد الله أن يرى سليمان ومن معه من المؤمنين أن الدنيا وما فيها إلى زوال، ثم سلب الله سليمان ملكه ليبتليه، فلما سلب ملكه علم إنه لما نسي من ذكر الله فخرج هارباً يجول في الفيافي ويتضرع إلى الله وإن شيطاناً من الشياطين كان ساحراً كتب سحراً وجعله تحت كرسي سليمان وسحر به آصف كاتب سليمان وتمثل في صفة سليمان، وصعد على كرسيه ودخل على نساء سليمان وآزره آصف وهو لا يعلم إنه الشيطان، فلما نظر آصف إلى فعل ذلك

الشيطان أنكره وقال: أبطل جوره على عدله الأول، ثم دخل على نساء سليمان فسألهن عنه فقلن له: إنه يأتينا في المحيض وإذا طهرنا لم يقربنا! وقال: أنكرت لما رأيت من عدله وأظهره من جوره، ثم بث ذلك الشيطان السحر في الناس فقال: ليس هو سليمان. ورد الله على سليمان ملكه - وقال بعض أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لا يمكن الشيطان من هذا فيخلو بنساء النبيين - وقال قوم ذلك إن الله ابتلاء لخلقه والقتل أكبر من النساء وقد قتل الكافرون النبيين. قال الله {ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}، فلما رد الله على سليمان ملكه بقدرته وأتى فأصاب الخاتم فرفرف الطير على رأسه وعصفت الرياح وطافت به وهو يسبح وسبحت الطير والجبال بتسبيحه ودخل قصره وقتل الشيطان. ثم لم يمكث سليمان بعد ما رد الله عليه ملكه ونعمته حتى مات صلى الله عليه وسلم، فكان عمره بعدما تزوج بلقيس أربعين سنة، فلما مات صلى الله عليه وسلم قام بجران القلمس بن عمرو بن قطن بن همدان ابن سار بن زيد بن وائل بن عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ - والقلمس أفعى نجران - وكان داعياً من دعاة سليمان بنجران آمن وحسن إيمانه فقام خطيباً في أهل نجران مؤمنو نجران فقال: أيها الناس إن الدهر أنذركم والموت أدبكم فهل تجدون من ذلك مجيراً وعنه محيداً إن الله لم يشرك أحداً في ملكه خلقهم للفناء واستأثر بعدهم بالبقاء. جعل الموت منهلاً ليس عنه مزحل، إن سليمان نبي الله مات أعطاه الله ما لم يعط أحداً فلم يك بذلك يدفع المقدور ولا يصرف المحذور، ولما قرب الأجل اضمحل الأمل ونزل الموت عليه بالفوت، فهو لكم عارية وأنتم له تراث

فأضحى لكم نوراً وكنتم له مناراً، فمن استمسك فقد أصاب ومن الحد فقد أخطأ. دعا فأصاب ودعي فأجاب، غاب وشهدتم فأدوا ما سمعتم وعلمتم، أيها الناس هيهات والله هيهات أصبحتم بين طبقتين من الأموات تسابقون الساعات وتنتظرون الميقات خلقتم قبل الوعد والوعيد وتقدمتم النبأ وجاءكم الخطاب وغاب عنكم الثواب وإلى الله المآب - خلقتم قبل كل شيء ولكم نفع كل شيء وعليكم ضر كل شيء فعليكم الشكر ولكم النصر، أيها الناس سمعتم وأبصرتم والسمع والبصر للفؤاد، فمن سمع وأبصر نجا ومن لها هفا وعهد الدهر لكم هباء وثأركم جبار ولتعودن أخباراً، ثم من بعد من أين إلى أين، ثم أنشأ يقول: ألم يوجلك ذا الخبر اليقين ... بذاك وإن نأى وقت وحين ألم تر كلما ولى وأودى ... قرانا لا يعود ولا يكون وما دنياك إلا حلم يوم ... تنبه كي تدان بما تدين فإن الزاد محفوظ إذا ما ... تحمل عن مغانيه القطين ألم تسمع بذي القرنين لما ... تمكن عنده الملك المكين وكان الصعب في الدنيا بضغو ... وجد الدهر فيه له قرين تقضي طول مدته فأخنى ... عليه بصرفه دهر خؤون تعدت فيه أسباب الليالي ... وأخرج من أمانته الأمين فجاد بروحه لما دعته ... دواعي الحين وهو بها ضنين لقد جارى الخلود إلى مداه ... وبان فأنجم الأفلاك جون ألم تر صاحب الملكين أمسى ... تحزمه عن الدنيا المنون

ملك رحبعم بن سليمان عليه السلام

وكان عليه للأيام دين ... وقد قضيت عن المرء الديون رفاهة ملكه يوماً سواء ... عليه الغث فيه والسمين على الكرسي معتمداً عليه ... يرف الخد منه والجبين فخانته العصا من بعد ما قد ... لمما به حين وحين فخانته فخر لها وخرت ... وصرح عندها الخبر اليقين يسير بشر جع لا وصل فيه ... تحار الشمس فيه والعيون وتضحى الجن عاكفة عليه ... كما عكفت على الأسد العرين فسخرت الجبال له جميعاً ... عليها الطير عاكفة عزين فدان له الخلائق ثم قسرا ... ودان الجن فيما قد تدين بنوا صرحاً له دون الثريا ... وأجرى تحته الماء المعين تراه أملساً لا عيب فيه ... يحار بصرحه الذهن الذهين وقد ملك الملوك وكل شيء ... تدين له السهولة والحزون فأفنى ملكه كر الليلي ... وخون الدهر فيما قد يخون وكل أخي مكاثره وعز ... على ريب الحوادث مستكين كذاك الدهر يفنى كل شيء ... فيضعف بعد قوته المتين قال أبو محمد: لما مات سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم، ولي أمره في الخلق ابنه - وهو وصيه وخليفته - رحبعم بن سليمان - وهو بن بلقيس -. ملك رحبعم بن سليمان عليه السلام فولي اليمن رحبعم بن سليمان سنة فآتاه رسول بني إسرائيل من بيت

المقدس فقالوا له: إن أهل الشام ارتدوا بعد سليمان عن دين الله فاجتمعت إليه حمير، فقال له القلمس أفعى نجران: يا خليفة رسول الله أردت الشام وأهله وأهل باس وفتنة لا يعطون إلا عن قسر فاجعل سيفك دليلاً وعزمك خليلاً وإن للكفر طرباً من القلوب لا يحول بينها وبينه إلا الخوف ولن تخيفهم إلا بعزم وصبر وإن الله المعين. قال رحبعم: لله جنود بيت المقدس ينصرون الله وينصرهم، خذوا أهبة الحرب وأعدوا الجيوش حتى يأتيكم أمري فإن السنة محلة والجدب عام فتربص كل قوم من جيوش حمير عند أنفسهم ومضى رحبعم إلى الشام وخلف أمه بلقيس بمأرب حاكمة على اليمن، وسار رحبعم إلى بيت المقدس فاختار من بني إسرائيل مائة رجل، فسار بهم على مدائن الشام فأجابوه إلى أمر الله حتى بلغ إلى إنطاكية فأتمروا به فقتلوه وهم من الجبارين من بقايا بني ماريع بن كنعان بن حام بن نوح فقتلوه وقتلوا المؤمنين الذين كانوا معه وتجبر بنو كنعان بإخوانهم من القبط ابن كنعان والنوب بن كنعان، فلم يكن لبني إسرائيل بهم طاقة، وبلغ ذلك بلقيس وقد أدركها الرهم فلم تستطع النهوض إلى الشام ووقعت فتنو باليمن فنبغ الثوار كل يدعي الملك وتغلب على من تحت يده، وأرسل الله تبارك وتعالى جنداً من الملائكة على أهل إنطاكية فأغاروا عليهم فخرج أهل أنطاكية في طلبهم فلما فحصوا عطفوا عليهم ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم إلى باب أنطاكية فأغلقوا باب المدينة ونزل عليهم الملائكة في المدينة فقتلوهم أجمعين. فزعم أهل العلم: أن فيهم أنزل الله {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومسكنكم لعلكم تسألون قالوا: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى

ملك مالك بن عمرو بن يعفر

جعلناهم حصيداً خامدين}. ملك مالك بن عمرو بن يعفر قال أبو محمد بن عبد الملك بن هشام: ثم قام الغلام الذي سماه الهدهاد ابن شرحبيل للملك - وهو مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن حمير بن السياب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك المقعقع بن وائل بن حمير ابن سبأ - خطيباً فقال: يا بني حمير نطق الدهر وخرستم وانتبه الذل ونمتم، أما ترون الجبابرة تجاهلت وكل يد تطاولت، سفهت الأحلام وانتبه العوام والملك تراث أهل العزم والألباب دعوتكم ودعاكم الذل أجيبوا إحدى الدعوتين فلكم نبأ ولله وقد عهد إليكم الهدهاد عهداً فيه الفصل والسداد فأجابوه وقدموه في الملك فسمى مالك ناشر النعم. قالت حمير: نشر لنا مالك الملك بعد الموت وأحياه بعد الهلكة ورده بعد الذهاب - فقال في ذلك النعمان بن الأسود بن المعترف الحميري: أنا شر وجه العز من جدت القبر ... أجدت على ما شئت من أجركم أجري حييت بروح الملك في كل شارق ... تحية ملك في نماء إلى الحشر لعمري لقد جللت حمير نعمة ... ستبقى لها فخر السيوف على ذكر وراجعتها الملك الذي كان قد مضى ... فأنت حسام الدهر ذي النعم الزهر ولولا سليمان الذي كان أمره ... من الله تنزيلاً ووحياً على قدر لما كان انس يبتغي أن يرومنا ... ولا الجن إلا أن نساق على قسر ولكن قدراً كان تحويل ملكنا ... إلى ابن نبي الله داود ذي النصر

فنحن ملوك الناس قبل نبيه ... وقبل أبيه الحبر عصراً من الدهر ونحن ولاة الملك في الدهر ما بقى ... إلى أن يكون الدين قصراً إلى الحبر نبي أمين أمره غير زاهق ... رحيم بذي القربى لطيف بذي الوتر شفيق رفيق واهب متفضل ... أمين له أمر يؤول إلى أمر محمد الهادي وأحمد اسمه ... رسول منير مشرق الوجه كالبدر له أمة منا غطاريف سادة ... مصا ليتها أهل النكاية والصبر يدينون دين الحق عن دين أحمد ... يسيرون في الدنيا على الحق بالنصر وسوف ترى السودان من أرض حمير ... من الأثل والأحقاف قسراً إلى هجر يكون لهت ملك لهم غير طائل ... يقيم بها عشراً تؤول إلى عشر فيخرجهم ذو الشأن منها بقدرة ... ويقتلهم قتلاً ذريعاً إلى البحر ويغلب آفاق البلاد بعزمه ... ويبقى بذاك الذكر في آخر الدهر يرد عماد الملك من آل حمير ... يقوم له إلا الأملاك بالحمد والشكر بني حمير عدوا البلاء لعزكم ... فإن المعالي لا تصاب بلا صبر فليس ينال العز من كان خاملاً ... وليس يدينون العباد بلا قهر قال أبو محمد فلما ولي الملك ناشر النعم أقر بلقيس على ملكها بمأرب ولم يغير عليها شيئاً من ملكها - فقال الأعصم بن سام بت نوح بن زيد ابن المنتاب بن زيد بن عملاق الحميري يرثى سليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن يكن الدهر أتى عامداً ... فنال بالقسوة خير المنال معتمداً قهراً إلى ذي النهي ... وخير خلق الله عند الفعال إلى سليمان بن داود إذ ... علا على الناس بفضل الكمال

فهد بالملك ذرى ملكنا ... جلا بنور الوحي دين الضلال هدى سريعاً بالهدى أمة ... عارفة في الحق حسن المقال يا خير مفجوع فجعنا به ... مصطفياً بلقيس دهر الزوال لئن بعثنا من بني حمير ... فوارس الهيجاء يوم النزال راحوا إلينا بالذي قاله ... قلنا الذي يسأل خير السؤال دنا الذي دان على أننا ... لم نعطه الذلة عند المحال فلم يسرد حرباً ولكنه ... مال إلى الرحمة قبل القتال أقام رحبعم لنا دعوة ... من بعده يوماً كفئ الظلال انتقم الله له منهم بعاجل ... السيف وبرد الشمال فقام بالملك لنا ماجد ... يجود بالعرف وبذل النوال يا ناشر الخيرات أحييتنا ... يا ناصر الملك على كل حال قال أبو محمد وحدث أسد عن أبي إدريس عن وهب إنه قال - لما هزمت الملائكة أهل إنطاكية الذين قتلوا رحبعم غلقوا باب سورهم وعلوه فهبت عليهم ريح الشمال ببرد صرفا سقطتهم موتى ونزلت الملائكة إلى الباقين فقتلوهم والله أعلم - وعاشت بلقيس بعد ابنها رحبعم سنة وماتت فقال النعمان بن الأسود بن المعترف بن عمرو بن يعفر الحميري وهو من بيت الملك وأبناء الملوك يرثى بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل: أخرج الموت من ذرى قصر بينو ... ن هماماً على الحمادير حمير الخير قد رأيتك عصراً ... ذا بهاء من قبل تقضي الأمور فأراني إذا ذكرت هماماً ... ملكاً قد تضمنته القبور يا لقومي لقد أراهم وللدهر ... صروف تمضي بهم فتبير ناعماً بالنا قد أوطأت ذلاً ... في شروق البلاد والخيل زور

وغروب البلاد ترجف منها ... وعلى ملكها السحاب المطير فهم اليوم حشوة في قبور ... وأرى ما بقي إليهم يصير صاح إن كان ملك حمير أودى ... جار فيه الزمان فيما يجور أوحش العرش من ذوي أهل عز ... ورمى للزمان كف هصور إن بلقيس قد أذل لها الملك ... سليمان واصطفاها قدير إذ رسول له إلينا عجيب ... بكتاب وما آتانا غرور قد آتانا بذاك في الطرس سطراً ... فاهتدينا وكل ذلك نور ذاك وحي من الإله بيان ... فاضاً الحق إذ آتانا البشير هدهد من طيور أرض شآم ... فرمى في الهواء على العرش نور باقتضاء الهدى إلى ملك بلقي ... س بغمدان إذ آتاها النذير إذ أتى آصف فاختلس العر ... ش سريعاً وما لديه محير لم تحس الاحراس نبأته حي ... ن تولى وكأنه مسحور أبصرت في الكتاب بلقيس عجباً ... فأتى منظر مهيب كبير أرسلت في ملوك حمير إني ... قد آتاني الغداة لأمر منير فأشيروا فقد رضيت بما قل ... تم فإن الملوك ممن يشير فنطيب الصحاح منا لما جا ... ء ومر العباد أمر نكير قام أهل النهي وقالوا الخير ... إن منك السداد والتبشير نحن أهل الرشاد والملك والع ... ز لنا البأس والردى محذور قالت الآن فاتقوا الذل منه ... كل ما قلت عنده معذور إن اسنى ما لدي من الرأ ... ي وفي ذاك للجواب ظهور

لاطلاع الأنباء من خبر القو ... م وحكم من دونه مستور أرسلت بين عاتق وغلام ... مائة شبهت عليها الحرير وعتاقاً من الخيول تهادى ... وعليها من الملا تعبير وصنوف الفصوص حمراً وصفراً ... وعلى ذاك لؤلؤ منثور ولجين بحق عاج ودر ... مطبقاً ما يرى لديه فطور وأتى بالبيان والعلم وحيا ... وهداه به العليم الخبير كان ما كان بينهم من أمور ... وإلى ربها ترد الأمور وأتى الوفد بالجواب على الحين ... وكل يشأنه مأمور ثم ولوا بذاك من ذا وهذا ... ك وبادوا وملكهم مشهور استعاروا من مالك الملك ملكا ... وإلى الله ما أعار يحور اسلموا ملكهم ولم يسلموا ... من غير فلا ردى عليهم يدور كل عسر وإن تطاول دهرا ... بعده الموت ذاك عمر قصير قال أبو محمد: حدثنا أسد بن موسى عن زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق قال عبد الله بن عباس: أول من خرج من اليمن وشخص إلى أرض تهاتمة عملوق قال - عملاق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح النبي - وأنشأ عملاق يقول عند شخوصه إلى مكة: لما رأيت الناس في تبلبل ... وسائر مما درا النبأ الأول يعفر في الجم الغفير المعضل ... فقال سيروا في البلاد الأمثل قلت لقومي قول من لم يجهل ... سيروا بجمع القوم في تمهل إلى يماني الأرض ذات القرمل ... نزلته حينا ولما أرحل ثم رحلت عن مقام أطول ... إلى حريم البيت ذات الحرمل

وقلت يا طسم إلي فأعجل ... نحل بالبيت العتيق الأفضل فسار عملاق ببنيه وبني بنيه وهم قبيل كثير حتى نزل مكة وبها بقايا هزان بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ، ثم شخص بعده أخوه طسم بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم في طلب عملاق وأنشأ يقول: أني أنا طسم العلا بن سام ... ووالدي لاوذ بن رام لما رأيت من بني الأعمام ... عملاق قد سار إلى المقام قلت لنفسي الحقي في عام ... أخاك عملوقاُ وذا الإقدام وخلفي يافث وآل حام فسار حتى نزل الطائف وأرض جو - وهي اليمامة - وإنما سميت أرض اليمامة بالجارية الحادة البصر التي تسمى اليمامة، ثم شخص جديس ابن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح في أثر أخيه طسم - وقال سعيد بن سعد بن جديس: أنا ابن مأمون الحياة عبقر ... لما بدا عملوق ذو التهير إلى بلاد البيت ذي المحجر ... رأيت وجه الدهر في تغير وفاض منا غير نكس أمدر ... قضيت سيراً بالوجوه البصر إلى حريم الأرض ذات المشعر ... من ارض سام جدنا المعمر حتى نزلنا بالمقام الميسر فسارت جديس حتى نزلت بجوار أخواتهم من طسم، وكان طسم بنوه

نزلوا مران من أرض جو وغلبوا على بقايا هزان بن يعفر بن سكسك المقعقع، وكان بنو هزان قد هربوا من مكة وأرض تهامة وحرها إلى طيب اليمن، فما اقل من بقي منهم بمكة والطائف وجو. ونزل جديس زبنوه على هزان في بوادي جو فأساء جديس وبنوه جوار هزان وتطاول عليهم فقال الأعفف بن هزان الهزاني في ذلك: قد غرنا من دهرنا طول المنا ... وهرنا من دهرنا ما لزنا وشتت الله علينا أمرنا ... ثم اجتنى الأحياء علينا بالفنا قد غرنا الدهر لما قد غرنا ... أبناء عمرو ما نجوا من غمنا قد تبعتهم غمنا ذوي الغنا ثم سار قطورا ورائس ابنا لاوذ بن ارم بن سام بن نوح حتى نزلوا بأجياد. ولما ولي يعرب بن قحطان ملك مكة جرهم على بني عملاق وطسم وجديس ورائس وقطورا وجاور عملاقاً وكثر بنو جرهم بمكة حتى شاركوهم بها. فأقام جرهم بمكة دهراً طويلاً، ثم مات وولي الملك بعده ابنه عبد ياليل بن جرهم فولي عبد ياليل بن جرهم بمكة الملك دهراً طويلاً، وكان ملكه كملك أبيه من تحت ملك يعرب بن قحطان والملوك من بنيه. ثم مات عبد ياليل فولي الملك من بعده ابنه حشرم بن عبد ياليل. فولي الملك دهراً طويلاً وكان أجود خلق الله في وقته وأنداهم كفا فعمرت في زمانه مدينة مكة وكثر البناء وكثر الحجيج - فقال في ذلك الأسمر بن أسعد العملاقي يمدح حشرم بن عبد ياليل: لابن عبد ياليل المعظم حشرم ... تناهى الندى فاقعد لذلك أو قم

لقد جر سجف العرف حتى أباحه ... تناول منه كل غان ومعدم يرى ماله نهباً لمن رام أخذه ... كأن عليه فيه الوه مقسم لقد ضاع من يستودع الذئب شأنه ... كما ضاع مال ضمه بيت حشرم إذا عذت مما لا يطاق بعزه ... تعوذت بالحرمان من رأس جرهم فولي الملك بعده ابنه عبد المدان بن حشرم الجرهمي دهراً طويلاً، ثم مات فولي الملك بعده ابنه نفيلة بن عبد المدان بن حشرم الجرهمي وكان عاملاً لعبد شمس سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود. فولي الملك دهراً طويلاً، ثم مات فولي الملك بعده ابنه عبد المسيح بن نفيلة الجرهمي وغزا بالجيوش إلى أرض الحبشة وإلى بني ماريع بن كنعان، وإلى الشام فعمرت بذلك دهراً طويلاً، ثم مات فولي الملك بعده ابنه مضاض بن عبد المشيح، واسم عبد المسيح عمرو - فغزا بالجيوش وقاتل الأمم، فولي بعد ذلك دهراً طويلاً ثم مات، فولي الملك بعده ابنه الحارث بن مضاض الجرهمي. قال أبو محمد في زمان شرحبيل وعمرو ذي الاذعار وقعت فترة في ملك حمير فنبغ في بني ماريع بن كنعان بن جالوت بن هربال، وقام بالشام ونصره بنو حام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم ونصره القبط بن كنعان بن حام من أرض بابليون ونصره بنو النوب بن كنعان بن حام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم من برية أرض بابليون، وكان طالوت داعياً من دعاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طالوت بت روحيل بن شمعون ابن خصرون بن عمون بن واهب بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن

إبراهيم أمره داود بجهاد جالوت، فخرج إليه في بني إسرائيل وأمره النبي داود أن يحمل التابوت الذي فيه السكينة، فسار بين يديه وقال له داود: إن الله أنزل فيه السكينة وأسكنها قلوبكم وزلزل أكباد بني ماريع وقذف نفسه فيها الرعب فجعل طالوت التابوت بين يديه كما تسير العرب بالرايات وكما تسير العجم بالفيلة فحمل التابوت على القنا، ثم سار بريد طالوت إلى النبي داود صلى الله عليه وسلم يستمده فخرج داود عليه السلام بمن معه وكان طالوت عالماً بالحروب وبكل علم وأعطاه الله بسطة في العلم والجسم. فلما أتى داود انهزم جالوت وبنو حام وقتل داود جالوت، كما قال الله تعالى {وقتل داود جالوت}. قال أبو محمد: كان بنو إسرائيل من بعد داود سليمان يزحفون بذلك التابوت، وذلك إنه لما حمى الوطيس واستمر الوغى ألقى بنو إسرائيل القنا من أيديهم الذين يحملون بها التابوت فسقطت وحملت التابوت الملائكة فوق رأس داود صلى الله عليه وسلم حتى هزم الجبارين وقومهم. قال أبو محمد: لم يزل بنو إسرائيل يزحفون بالتابوت حتى كان في زمن الحارث بن مضاض الجرهمي بعد موت إسماعيل النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موت ابنه ووصيه نابت بن قيذار بن إسماعيل، فبدل بنو إسرائيل دين داود وسليمان صلى الله عليهما وسلم وانتحلوا على الزبور كتباً انتحلوها وأنهم زحفوا إلى أهل الحرم وهم إذا ذاك عملاق وجرهم وبمكة بنو إسماعيل وكان إذا ذاك القائم والوصي فيهم بدين الله ودعوة إسماعيل همسيع بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما. والملك يومئذ بمكة وما والاها الحارث بن مضاض الجرهمي، فلما أتى إسرائيل إلى مكة زاحفين بمن

نصرهم من بني إسحاق والروم الأول من أرض الشام برز إليهم جرهم في مائة ألف وعملاق في مائة ألف فقاتلوهم قتالاً شديداً فانهزم بنو إسرائيل ومن معهم ورموا بالتابوت فأخذته جرهم وعملاق فأتوا به إلى مزبلة من مزابل مكة فحفروا وله ودفنوه فيها فنهاهم عن ذلك همسيع بن نبت بن قيذار بن إسماعيل ونهاهم عنه الحارث بن مضاض الجرهمي فعصوهما وقال لهم همسيع: أن فيه صحف الزبور وفيه السكينة فأخذهم الوباء بالغم وكانوا لا يتداركون فعمد الحارث بن مضاض إلى التابوت في تلك المزبلة فاستخرجه ليلاً وأخذه همسيع وكان عنده يتوارثونه وارث عن وارث إلى زمان عيسى ابن مريم عليه السلام فإنه أخذه من كعب بن لؤي بن غالب، فلما هلكت جرهم وعملاق غماً وفنوا جميعهم ولم يبق من عملاق إلا عشرون رجلاً فكانوا مؤمنين على دعوة إسماعيل مع همسيع وثمانية رجال من جرهم مع الحارث بن مضاض الجرهمي. فلما رأى الحارث قومه هلكوا ترك ابنه عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي عند الهمسيع وخرج هارباً يجول في الأرض هماً وغماً ووحشة لما نزل بقومه، وشب ابنه عمرو وتغرب الحارث ابن مضاض ثلاثمائة عام، ولقد كثرت فيه الأمثال وسار بغربته الصوت حتى ذكره حبيب بن أوس الطائي في الإسلام فقال: غربة تقتدي بغربة قيس ... بن زهير والحارث بن مضاض والفتى من تعرقته الليالي ... في الفياقي كالحبة النضتاض صلتان أعداؤه حيث كانوا ... في حديث من ذكره مستفاض هذه الأبيات في شعر له. وحدث ابن لهيعة عن أبي مخنف عن كميل بن زياد النخعي عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه إنه حدث يوماً

عن غربة الحارث بن مضاض الجرهمي قال: أخبرني عبد مناف عن أبيه عبد المطلب بن هاشم إنه قال: أدركنا الحكماء والمعمرين وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل تهامة يذكرون غربة الحارث بن مضاض الجرهمي المتوج فكل قد رفع الحديث إلى الياس بن مضر وكان الياس بن مضر مؤمنا. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تسبوا جدي الياس فإنه كان مؤمناً ولا تسبوا تيما فإنه كان مؤمنا) زعم أن الياس قال: سالت عمي إياد بن نزار بن معد بن عدنان بن ادد بن همسيع بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام قال: قلت له يا عم ما كان أصل مالك؟ قال لي: نعم يا بني مات أبي نزار وخلفنا ونحن أربعة أخوة - أنا ومضر وربيعة وانمار - وكنت أكبر أخوتي فاستخلفني عليهم وأمرني إن لم يتراضوا في القسمة أن يرتفعوا إلى القلمس الحكيم - أفعى نجران - فبلغنا إلى أفعى نجران فحكم لي بالخف والظلف وحكم لمضر بالقبة وحكم لربيعة بالفرس وحكم لانمار بالأرض. فحلت علينا أزمة شديدة فأهلكت مالي فلم يبق لي غير عشرة أبعرة فكنت أكري ظهورها وأعود به إلى أهلي حتى أتت رفقة إلى الشام من أهل مكة وأهل تهامة فأكريت ظهور جمالي وخرجت معهم وخرج أخوتي في الرفقة ربيعة ومضر وانمار فباع الناس تجاراتهم واشتروا ثم إني أكريت ابلي إلى المدينة، فلما بلغناها التمست شيئاً أكري فلم أجد، وتواعد الناس للرحيل بلغداة وبيننا وبين مكة عشر مناهل، فأمسيت مغموماً، فبنما أنا كذلك إذ سمعت صوتاً كالرعد وهو ينادي ويقول: أيها الناس من يحملني إلى البلد الحرام وله وقر جمله دراً وياقوتاً وعقياناً، فلا يجيبه أحد، اشتغل الناس عنه بأموالهم، قلت لنفسي ومالي لا أعطيه جملاً فإن كان صادقاً كان في ذلك الغنى وإن كان كاذباً لم يضرني ذلك، فلم أزل أتبع الصوت حتى ظهر لي فإذا بشيخ كالنخلة

السحوق أعمى ولحيته تناطح ركبته فراعني ما رأيت من عظم جسمه. فلما دنا مني قلت: يا شيخ عندي حاجتك، قال: ادن مني يا بني، فدنوت منه فوضع يده على منكبي فكأني أحس يده على عاتقي كالجبل. قال: إياد ابن نزار؟ قلت: نعم من أنبأك باسمي؟ قال لي: علمك عندي عن أبي عن جدي أن إياد بن نزار يرد الحارث بن مضاض الجرهمي إلى مكة من بعد طول غربته. فكم عندك من الجمال؟ قلت: عشرة قال: يكفي. قلت: أمعك أحد غيرك؟ قال: لا ولكني أركب الجمل يوماً ويحيد قال: قلت أنا قد أنعمت له وبالله لا أرجع عن قولي أبداً، قال: قلت له نعم، قال: فمل بي عندك أبيت، فبات عندي، فلما أصبح رفع الناس يريدون مكة وحملت الشيخ أريد معهم مكة ليس معي أحد. فسرنا نهارنا أجمع إلى الأصل فحيد جمل فقطرته وحملته بالغداة على غيره فسرنا ولم يزل يحيد لي جمل في جمل حتى بلغنا مكة وعلونا جبل المطايخ، قال يا بني: أحس الجمل يجرني جراً أواقع جزت جبل المطابخ؟ قلت له: نعم، قال لي: أيجاورك أحد يسمع كلامي، قلت له: لا - قوماً أخرت وقوماً قدمت - قال: أتدري من أنا؟ قلت له: لا، قال لي: أنا الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم - كنت ملك مكة وما والاها من الحجاز والتهائم إلى هجر والأنعمين وحضر العالمين إلى مدائن ثمود وكان الملك قبلي أخي عمرو بن مضاض - وكنا أهل تيجان - كنا نعلق التاج يوماً على رؤوسنا ويوماً على الرتاج بالبيت العتيق، وأنه أتى رجل من بني إسرائيل بدر وياقوت تاجراً إلى مكة واشترى الملك أخي عمرو ما أتى به من الدر والياقوت ونقض الملك التاج

وزاد فيه العقيان والدر والياقوت وجعله كالمجن وإن الإسرائيلي غيب أحسن ما كان معه من الدر والياقوت ثم عرضه على بعض الناس وبلغ ذلك الملك عمراً، فأرسل إلى الإسرائيلي فأتى به فقال له: لم غيبت عني عتيق ما معك وبعت مني نفايته ألم أبلغك أملك في درك وياقوتك؟ قال: نعم أيها الملك، قال: فما حملك على ما فعلت؟ قال له الإسرائيلي: هو مالي أيها الملك أبيع منه ما أحببت وأحبس منه ما أحببت. فغضب عليه الملك وأمر به فنزع عنه ما معه من در وياقوت وكان يسيراً وإن الإسرائيلي رصد الذي يحمل التاج إلى البيت يوماً ليعلق على البيت فعمد إليه الإسرائيلي فقتله وأخذ التاج وركب نجيباً ورفع رأسه في أول الليل وأصبح الناس فلم يردوا من ذهب بالتاج واشتبه عليهم الأمر حتى أتى الخبر اليقين من بيت المقدس، فأرسل الملك عمرو إلى بني إسرائيل - وكان صاحب أمرهم فاران بن يعقوب بن سبط بن يامين - يأمره برد التاج ويأخذ منه كفاف حقه ويطل له الدم الذي أصاب، واعترف الملك بالزلة وندم عليه، فأبى عليه فاران. فأرسل إليه الملك عمرو: إنه يعلق على البيت العتيق بمكة ولم يجعل في ذلك التاج غصباً قط ولا غلولا، فأرسل إليه فاران أني أعلقه على بيت المقدس، فأرسل إليه الملك عمرو: إن الله هو الغني، فهل تسلب بيتاً لبيت فتعظم شعائر الله وتحلها بغلول؟ فأرسل إليه فاران: نحن أهل كتاب أعلم بالله منك، فأرسل إليه الملك عمرو: اعلم الناس بالله من أطاعة ولم يعصه ولم أر بيتاً يسلب بيتاً ولكن ملكاً يسلب ملكاً. فخرجنا إليهم في مائتي ألف نحن جرهم في مائة ألف وعملاق في مائة ألف ونصرنا الأحوص بن عمرو العبدودي بطن من قضاعة بن مالك بن حمير في خمسين ألفاً من عبدود بن كليب بن وبرة بن حلوان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير. واستنصر فاران بن يعقوب بقومه من الروم - وكان صاحب

أمر الروم شنيف بن هرقل - فنصره شنيف في مائة ألف من الروم. وخرج فاران في مائة ألف من بني إسرائيل ونصرهم أهل الشام في مائة ألف، فسار فاران بن يعقوب حتى نزل هذا الجبل وجاز عمرو الملك بمن معه حتى نزلنا هذا الجبل - جبل المطابخ - أفتدري لم سمي بجبل المطابخ؟ قلت: لا، قال لي: نعم لما نزل شنيف وفاران شرقي الجبل أوقدوا النيران فطبخوا. ونزلنا غربي الجبل فأوقدنا وطبخنا فسمي هذا الجبل جبل المطابخ. قال لي: فما اسم هذا الموضع الذي تريده؟ قلت له: قعيقعان، قال: أفتدري لم سمي قعقيعان؟ قلت: لا قال لي: نعم أصبحنا وأصبحوا تأخرنا لهم عن الجبل ونزلنا إلى سهب قعقيعان، فلما تساوت بنا وبهم الأرض قعقعنا عليهم الجحف فسمي ذلك الموقع قعيفعان، قال لي: أفتدري وترى ربوة يقال لها (فاضحة) قلت له: نعم ها هي تلك وأنا أراها، قال لي: فسمعت بيوم شنيف؟ قلت له: نعم، قال: أتدري لم سمي يوم شنيف؟ قلت له: لا قال: نعم لما برز الجمع إلى الجمع برز من جمعنا أخي عمرو والملك وقال لي: يا حارث لك الملك بعدي. ثم تقدم إليهم فقال لهم: من ملككم وصاحب أمركم وإني أنا عمرو بن مضاض. قيل له: آمرنا إلى شنيف بن هرقل، قال لهم: أبرزوه لي لأكلمه. فبرز إليه شنيف فقال له عمرو: لم يموت الناس بيني وبينك ولكن ابرز إلي فإن قتلتني سمع لك من معي وأطاع لك ولك جميع السلاح والخف والظف والحافر والذهب والفضة، وإن قتلتك سمع لي وأطاع جميع من كان معك ولي ما فيه من جميع ما ذكرت لك، آخذه منهم أن قتلتك. قال له شنيف: نعم. فتعاهدا على ذلك. ثم برز إليه الملك عمرو وبرز إليه شنيف فاختلفت طعنتان بينهما، فطعنه عمرو فقتله على ربوة فاضح ونزل

إليه فجره برجله وفضحه وكذلك فسميت تلك الربوة فاضحة لما فضح عليها عمر شنيفاً. ثم أرسل عمرو إلى فاران أعطني ما تعاهدت عليه مع شنيف، فأرسل إليه فاران أعطيكه بمكة من أموال أهلها إذا رغبت عليها. فراسل إليه عمرو يقول له: ما أشبه أول ظلمك بآخره وقد أوعدتك القتال غداً، فقال الأحوص بن عمرو العبدودي في قومه خطيباً فقال: يا عشيرتاه إن الرأي اليوم ليس له غداً أوصيكم بشكر ذي النعم والغيرة للحرم والتمسك بالحسن والكف عن المن على المن وعليكم بالحمية فإنها وجه العز ولا ترضوا بالدنية ففيها التلف، ولا تسارعوا إلى الحرب فإن فيها ذهاب المهج، وإن هجمت عليكم كرهاً فخذوها عزماً ولا تخدعوا عند اشتباهها فإن لها شبهات وشهوات تعمي القلوب واحذروا كيد الحروب فانه يهدم العز ويسلب المجد، وأنتم أهل الملك التالد والحرب الأول وبنو إسرائيل والروم ثوار في الملك والحروب، فإن زلت بكم قدم الحرب تقاعد أمركم بقديم الملك وإن تك عليكم الدائرة فهلاك الناس عند أول عثرة، فاصبروا يحييكم ربكم. وإن الملك عمراً نهض إليهم بمن معه ونهضوا إلينا فتضاربنا طويلاً فحطمناهم بالسيوف حطماً، ثم كانت لنا عليهم الدائرة فقتلناهم قتلاً ذريعاً فبذلك سمي يوم شنيف. وأدرك الملك عمرو فاران بن يعقوب على تل فقتله فسمي ذلك التل تل فاران وقال الملك عمرو شعراً: ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني قتلت شنيفاً ثم فاران بعده ... وكان على الآيات غير أمين فللموت خير من مذلة خامل ... يضيء بها حقاً لغير قرين ثم مضى في أثرهم إلى بيت المقدس فأذعنوا له بالطاعة وأتوه بتاج الملك

فأخذوه وكانت فيهم امرأة جميلة يقال لها وبرة ابنة شمعون لم يكن مثلها في وقتها من سبط يوسف بن يعقوب، فأرسلوها إليه تكلمه في أمر نزل بها، وقد لبست حليها وحللها، فلما رآها عمرو الملك فتن بها فتزوجها - وكان ذلك مكراً منهم له - فلما خلا بها قالت له: أرضيت؟ قال لها: نعم، قالت له: فأرضني. قال لها: لك ذلك. ثم رفع عنهم، فسار حتى بلغ مكة وكان سار معه مائة رجل من أكابر بني إسرائيل رهينة بالولد والعيال على السمع والطاعة من قومهم. ثم نزل بأجياد، ثم قال لي: أتدري لم سميت أجياد؟ قلت: لا، قال لي: نعم، لما نزل بأجياد عمدت برة بنت شمعون امرأته على حسكة من حديد فسمتها ثم ألقتها في فراشه عند منامه بالليل وأعدت نجباً ورجالاً يردونها إلى بيت المقدس، فلما القى عمرو الملك نفسه في فراشه شجته الحسكة جنباها ودخله السم فمات وهربت وهرب معها المائة رجل الرهائن. فأخذت فرسان جرهم وعملاق وبلغت تل فاران وليس لهم عنه محيد حتى أتوا، فأخذتهم وأخذتها ورجعت بهم وبها إلى مكة فأصابت الملك عمراً وقد تناثرت مفاصله من السم فحفرت له ضريحاً وواريته، ثم أمرت بالمائة الرجل فقدموا إلى السيف فقال المتقدم الأول للسياف: احتفظ لا ترفع ولا تخفض وانزل سيفك على الأجياد، فسمي الموضع (أجياد)، ثم وليت الملك بمكة وتوجت ورجعت إلى بني إسرائيل والروم وأهل الشام من كان منهم باللسان الأعجمي، فخرجت إليهم في مائة ألف من جرهم ومائة ألف من عملاق فقاتلتهم بأمر فهزمتهم وكانوا زحفوا إلى بتابوت

داود الذي فيه السكينة والزبور فالقوه، فأخذته جرهم وعملاق ودفنوه في مزبلة من مزابل مدينة مكة فنهيتهم عن ذلك فعصوني، ولم يكن لجماعة قومي طاقة ونهاهم عن ذلك همسيع بن نبت قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم فعصوه فعمدت إلى التابوت ليلاً فأخرجته وجعلت مكانه تابوتاً ودفعته إلى همسيع. ونزل بجرهم وعملاق الغم أجمعين إلا يسيراً ممن نهى عن ذلك، ثم أخذت برة لأقتلها فقال لي: خدعت في مجلس الملك ودخل إليه نقيب بني إسرائيل وهو المقتول الأول ففعل ما رأيت ولا علم لي بذلك وكيف أفعل ذلك وأنا مثقلة منه، وأمرت القوابل فأصابوا الحمل بيننا وكان عمرو منع الولد غير بنتين كانتا له. فلما قيل لي ذلك أدركني أمري وغلبت علي الشفقة فحطتها وأدخلتها داخل القصر وجعلت عليها حرساً حتى وضعت حملها فأتت بغلام سميته مضاضاً باسم أبي جده، فشب فلم يكن في وقته أجمل منه وجهاً. ودبرت أمري في قتل برة فقلت أقتلها لا آمن علي ولدها، ولكن أترك أمر أمه في أبيه إليه، ثم قال لي: أين أنت؟ قلت: برياض الغرقد قال لي: بلغنا مكة دع عنك أن تقصد مكة وامض بي إلى ذات اليسار إلى شعب الأثل والطلح، فلما بلغته قال لي: لجج بي يا بني حتى بلغت غيضة السمر والضال، قال لي: مل ذلك اليمين ومل ذات الشمال حتى أدخلني مواضع ما دخلتها قط على أني بمكة مسقط رأسي وكنت أفتك فاتك بها صعلوكاً بكل سهب وحالق، فلما لججت في غيضة الزيتون قال لي: يا بني أبعدت وقد خلونا وثالثنا الله الشاهد العالم الواحد، يا بني إذا أسديت إلى المرء نعمة وجب عليه الشكر وأنت أسديت إلي نعمة ووجب بها علي شكرك فعلي

لك النصيحة أو فلي النصيحة، يا بني أنبئك بما ينجيك واعلم أن ما به أهديك أحب إلي مما به أغنيك، يا بني هل ولد في بني مضر مولود اسمه محمد قلت له: لا. قال: أن ولد وإلا فسيولد ويأتي حينه ويعلو دينه ويقبل أوانه ويشرف زمانه فإن أدركته فصدق وحقق وقبل الشامة التي بين كتفيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقل له يا خير مولود دعوت إلى خير معبود أجب أو لا تجب فإن أمره يباريك إلى الموت، فعند الموت يأتيك فأما هلك وإلا ملك فذهب مثلاً. ثم قال لي: يا بني هل بلغت الزيتونتين؟ قلت نعم: قال: ما اسم هذا الموضع يا بني؟ قلت: لا أدري، قال لي: أنزلني فأنزلته، فقال: اقصد في الزيتونيتن، فقصدت به نحوهما وبينهما صخرة عظيمة مربعة منحوتة فطاف بها طويلاً فلمسها بيديه علواً وسفلاً ثم قال لي: يا بني هذا الموضع يسمى (موطن الموت)، ثم بكى حتى غسل دمعه وجهه ولحيته، وأنشأ يقول: أموت فقيداً والعيون كثيرة ... ولكنها بخلا علي جوامد فلم تبق لي الأيام إلا مشذباً ... أمت حين لا تأسى على العوائد ولكن سيبكيني العلائق بالسرى ... ويبكي على قبري البروق والرواعد تمادت بي الأيام حتى تركنني ... كمثل حسام أفردته القلائد ونادى بي الأدنى واشمت بي العدى ... ويأمن كيدي الكاشحون الاباعد ثم قال لي: يا بني أتدري لم سمي هذا الموضع موطن الموت؟ قلت له: لا، قال لي: أتدري لم سمي جبل مكة أبا قبيس؟ قلت له: لا، قال لي: أتعرف موضعاً يقال له الدار؟ قلت له: نعم. قال: أفتدري لما سمي (الدار) قلت: لا، قال: أتعرف موضعاً يقال له (الجار)؟ قلت: نعم، قال:

أتدري لم قيل له الجار؟ قلت: لا، قال لي: نعم يا بني، إنه لما شب مضاض ابن أخي عمرو الملك لم يكن بمكة ولا ما والاها أجمل منه وانه كان من بنات عمه من بيت الملك جارية تسمى ميا ابنة مهليل بن عامر صاحب الشعب وكانت معه في نسق واحد وكانت أجمل من رأته ففتن بها وفتنت به وشب معها وشبت معه في حي واحد وصان مئزرة عنها وكان ذلك خيفة الطعن في الملك، فلما بلغ بهما الهوى مبلغه وحذرا من الفضيحة أو السقم والموت بعثا إلي فشكوا ما نزل بهما من شوق بعضهما إلى بعض فأرسلت إلى مهليل بن عامر بن عمرو وأعلمته ما كان منهما، فقال لي: أيها الملك أنت وليهما افعل بهما برأيك وزوجها منه وقد هجم علينا الشهر الأصم رجب وكنا لا نحدث فيه حدثاً غير العمرة والطواف حتى ينسلخ، قلت له: يا مهليل ينصرف رجب وافعل. وإن مضاضاً اعتمر وطاف، وبلغ ذلك ميا فأقبلت تعتمر وتطوف متنكرة غيرة على مضاض أن يتعرض متعرض ومضاض لا يعلم بمكانها وإن قبيس بن سراج الجرهمي من رهط حقير في جرهم رأى ميا فهويها وهي لا تعلم ومضاض لا يعلم بذلك، وكان قبيس يراعي أحوال مي. فلما بلغه أنها اعتمرت خرج إلى الطواف ليقضي لبانته من النظر إلى مي فكانت مي تطوف وتراعي أحوال مضاض ومضاض لا يعلم بذلك ويطوف قبيس في إثر مي لا تعلم بذلك وإن رقية بنت البهلول الجرهمي طافت وكان يوماً قائظاً، فطافت رقية بنت البهلول فعطشت عطشاً حافت منه على نفسها الموت واحتشمت أن تقف لأهل السقاية وسدنة البيت من جرهم. فلما أبصرت مضاضاً نادت به لشبيبته وحملها عليه حالة الشباب فقالت له: يا مضاض اسقني جرعة من ماء فاني خشيت أن أموت طمأ، فأمر فناولها فرأته

مي حين ناول رقية الماء فاشتعل قلبها غيرة فسقطت مغشياً عليها وجعلت ترعد ولا تدري ما هي فيه، ونظر إليها الحجيج فقيل لهم: عرضت وإن ميا أدركت نفسها فقامت فلم تستطع الطواف وولت إلى منزلها، وكان منزل أبيها مهليل في سفح جبل مكة، فأتت أباها فقال لها: ما الحجيج يا بنية افترق؟ فقالت له: لم يفترق الحجيج يا أبت ولكن الكوت لا يكتم إليك شكواي واستعانتي لأنك عمادي ورجائي، قال: فما لك يا بنية؟ قالت له: انصدع قلبي صدعاً لن يلتئم بعدها صدعه، قالت: يا أبت إن مضاضاً ابن عمي دعا قلبي فأجابه، فلما أجابه قذف الهوى خلف النوى قالت له: رأيته يلاحظ رقية بنت البهلول وسقاها ماء ففارق روحي جسمي أسرع من طرفة عين، ثم تداركت أمري ورأيت إنه بدل حسباً بحسب وخطراً بخطر ولم يبلغ والله خطر البهلول مهليل بن عامر ولا رقية بنت البهلول ميا بنت مهليل بن عامر، قال لها أبوها: صدقت لا ورب الكعبة ما يكون ذلك، قالت له: يا أبت لن والله أقيم بموضع يكون فيه مضاض بن عمرو أبداً وإني راحلة إلى أخوالي جسر بن قين بن حمير من بلى (وبلى نسل من قضاعة بن مالك بن حمير وكانوا نزلوا بامج ذات الضال)، فقال لها: لك ذلك يا بنية، وأنشأت تقول: مضاض غدرت الحب والحب صادق ... وللحب سلطان يعز اقتداره غدرت ولم أغدر وللعهد موثق ... وليس فتى من لا يقر قراره إذا جاءني ليل تململت بالذي ... دعا كبدي حتى تمسكن ضاره أبيت أقاسي النجم والليل دامس ... وللنجم قطب لا يدور مداره إذا غاب لم أشهد وكان محله ... محلي وداري حيثما كان داره إذا هاج ما عندي لأول غيرة ... علاه اشتعال ما يطاق استعاره وإن قبيس بن سراج آتاها وأنشأ يبث لها أخباراً ليفرق بينها وبين مضاض

لما رأى من غيرتها حين سقطت بالطواف فعمل شعراً على لسان مضاض. وشعراً على لسان رقية وقال لها: يا مي رأيت عجباًَ! قالت: ما هو؟ قال لها: رأيت مضاضاً واضعاً كفيه على قرون رقية بنت البهلول في الطواف وهو يدافع عنها أهل الطواف سانحاً وبارحاً، ثم استسقته ماء فناو لها سقاء بيده فشربت وناولته، فأنشأ مضاض يقول، قال له: ما الذي قال يا قبيس، قال لها: قال: رقية قلبي قد تباين صدعه ... وللحب مني شاهد ودليل رأيت الهوى يهوى وللوصل واصل ... فهل لك أن يلقى الخليل خليل قال: فأجابته رقية فقالت: أصون الهوى والطرف مني كاتم ... ولا يعلمون الناس إذ ذاك ما دائي سوى أنني قد فزت منك بنظرة ... تجرعت عذب الحب منه مع الماء قال: فالتمستها حمية قول قبيس وجعلت تقبل بين خيام الحي مرة وتدبر أخرى وهي لا تعلم ما هي فيه، ثم قالت لأبيها: نذرت لله نذراً يا أبت لترحلن غداً إلى أمج ذات الضال وانزل مع جسر بن قين، قال لها أبوها: نعم. وحملته الحمية والأنفة على ذلك لما استبدل بخطره وقدره، وإن رجلاً من أهل الحي بلغ مضاضاً فاعلمه بما قال قبيس وبما قالت مي. فركب فرسه وأخذ سيفه وخرج يريد قتل قبيس وأنذر قبيس بمكان مضاض فخرج هارباً في البيداء، فما أدري أي الأرض انطوت عليه إلى يومنا هذا. فلما لم يجد مضاض من قبيس أثراً وأعجزه هرباً، رجع إلى مي وأصاب أهل الحي يحتملون وأصاب مياً راكبة على نجيب في هودجها فقصدها وقال: يا مي أعيذك بالله أن تغدري من لم يغدرك وهذا موقفي

بين يديك فجودي لمن لم يجترم جرماً، وقال: يعشى عن الناس لحظ طرفي ... وعنك يا مي غير عاشي أتهجريني بغير ذنب ... وتقتليني بقول واشي قال فولت عنه وعيناه تغرورقان دموعاً وتبعها وهي تقول: كذبت هوى وحنثت إذا يميني ... إذا طالبت أثراً بعد عين سأرحل والفؤاد له وجيب ... واقطع للنوى بيناً ببيني إذا شط المزار عن ابن عمرو ... نزلت بغربة جسر بن قين كأني حيت أطلبه وصالاً ... ويصرمه أطالبه بدين تعست إذا وخان أبي وأمي ... وبعت بعارها زيني بشين وتجهمته وزحفت غضبى وتمادى الحي للرحلة ومضوا وافترق الحي من سفح الجبل أبا قبيس لما فرق قبيس بن سراج من جمعهم منه - وإن مضاضاً لمت ظعن الحي رجع فركب ناقة وبدل زيه وخرج في طلب الحي وكان له خليلان من بني عمه عمرو وعامر فركبا في أثره حتى لحقاه فقالا له: يا مضاض خلعت تاج الملك بطلاب الهوى قال لهما: غلب الهلع التجلد والجزع والصبر والهوى حاكم والقلب محكوم عليه - وأنا إذ ذاك غاز إلى بني إسرائيل نزلت إليهم بجبل طورسينا - ثم بلغت أمج فنزلت لجعل عليها عيوناً يأتونه بأخبارها ويطوف حول أمج من حي إلى حي ولا يعلم من هو ومعه خليلاه عمرو وعامر - فقال: أعلل قلبي بالمنى ولعلها ... تقول أبارت لابن عم مقادره وترثى لمفتون الهوى ولعلها ... تصدق حباً صدقته سرائره يظل يراعي الحادثات نهاره ... فإن غبن عنه فالقيمر مسامره يحارس طرفي الشبه من أم غالب ... أناظر من أشباهها ما تناظره

لعل فؤاداً كنت قبل فؤاده ... يرق لمن أرجأه بالموت ناصره فإن صدق الناس صدق منيتي ... فإن رجائي صدقته خواطره لئن بان من مي مدى الوصل فانقضى ... لقد حل من محذوره ما أحاذره قال: وأتاه آت فقال له: إن أهل أمج يريدون الرحيل إلى خريف نجد وإن مهليل بن عامر يريد الرحيل إلى مكة فاستبشر بذلك فقال: خليلي من أمج فارتعا ... على الضال من مي حتى تريما لهوت ولم أدر حتى بدت ... لي الشمس تحتل ليلاً بهيما غزال يسف برير الأراك ... غرير يطرف طرفاً سقيما مهاب السنام وغصن اليشام ... وبدر التمام تبدي الغيوما فظل فؤادي غريق الهوى ... وظلت جفوني تراعي النجوما أعمرو وعامر إن تظعنا ... فإني على الضال أمسي مقيما ورحل مهليل يريد مكة وإن مضاضاً سار مع خليليه حتى لقيهم بالجار فغلب فرط الصبابة على مضاض فتعرض لها في طريقها فقال لها يا مي اتقي الله أن تغدريني: علام قبست النار يا أم غالب ... بنار قبيس حين هاجتك ناره على كبد حرى وأنت عليمه ... بغيب رفيق لا يبين ضماره سألتك بالرحمن لا تجمعي هوى ... عليه وهجر أنا وحبك جاره فتهجمته وولت غضبى وهي تقول: أبي حسبي من أن يهان وإن يكن ... وقد قدحت فيه العداة ذليلا فأبديتني للناس حتى نصبتني ... وأبديت من نفسي إليك خليلا

فلما تساوى الحب والأمر مقبل ... عدلت ولم تظهر إلي جميلا رأيت مكاني حين وليته معرضاً ... إلى حسب البهلول قليلا فرجع إلى عمرو وعامر فقالا له ما قالت: قال لهما: قالت: تصد بلا جرم علي بوجهها ... وتبعدني لما أردت التقربا كأني أنادي حية حين أقبلت ... سفاها فما تزداد إلا تغضبا قال: فسمي ذلك الموضع الجار لقوله: سألتك بالرحمن لا تجمعي هوى ... عليه وهجراناً وحبك جاره قال: فمضى حتى أتى مكة فغلب عليه الهوى ورجع منها عاطفاً فتعرض لها بالموضع الذي يقال له الدار، فقال لها: علام قبست النار يا أم غالب ... بنار قبيس حين هاجتك ناره على كبد حرى وأنت عليمه ... بغيب رفيق لا يبين ضماره سألتك بالرحمن لا تجمعي هوى ... عليه وهجر أنا وحبك جاره فام لم يكن وصل فلفظ مكانه ... إليه وإلا موطن الموت داره قال: فولت عنه وتجهمته وقالت له: والله لا ألقاك بها أبداً، فولى إلى صاحبيه وقال: والله لا أشرب بعدها ماءاً أبداً، وولى وأنف أن يدخل مكة ومضى معه صاحباه يستعطفانه على شرب الماء، فأبى لهما فجال حتى غلب عليه وانصدع قلبه في صدره لما خامره اليأس حتى بلغ هذا الموضع فغشيه الموت، فأناخ ناقته وأخذ رأسه عمرو وجعله في حجره وقال له:

قصفك الدهر يا مضاض، ففتح عينيه وقال له: قصفني قبيس، وقال: وكانت مي تكنى بأم غالب: علام قبست النار يا أم غالب ... بنار قبيس حين هاجتك ناره على كبد حرى وأنت عليمه ... بغيب رفيق لا يبين ضماره سألتك بالرحمن لا تجمعي هوى ... عليه وهجر أنا وحبك جاره فإن لم يكن وصل فلفظ مكانه ... إليه وإلا موطن الموت داره خليلي هذا موطن الموت فاندبا ... مضاض بن عمرو حين شط مزاره سلا صاحب الخيمات عن قبر هالك ... لدى دوحة الزيتون سرت صواره يحن له عود الصوار كأنها ... إذا هبت الأرواح فيه حواره فيا ليت شعري عنك يا مي ما الذي ... أردت بمأسور طويل أساره فيا ليت شعري عن قبيس بن شارح ... على كل غبرا أين قر قراره خليلي عوجا بي إذا مت وأبكيا ... على دنف بطن الضريح وجاره صريع هوى نائي المحلة نازح ... سجا بعد إشراق الصباح نهاره على إنه قرت إذا هب طارق ... فليت عرين لا يشق غباره عفيف عن الفحشاء في كل حالة ... إذا ما أبيح اللهو يوماً إزاره فيا شجر الزيتون ويلاك فاندبا ... على هالك ثوب الضريح شعاره قال: ثم مات وقد قفلت من غزاتي، فلما نزلت المطابخ نعي الي قيل لي: أوصاك أن تدفنه بموطن الموت بين الدوحتين، الموضع الذي مات فيه، فأصبته ميتاً ومعه صاحباه، فحفرت له ضريحاً في هذه الصخرة وواريته وجعلت عليه هذه الصخرة العظيمة، وهذا قبره تحتها، ولكن يا بني قف بي أودع قبره فبتنا عليه. ثم قلت له: فما كان من أمري؟ قال

لي: نعم، كان مهليل ينزل المطابخ، وكان منزله الأزهر وكان بجوار البهلول، فلقيت رقية بنت البهلول مياً ابنة مهليل فقالت لها مي: ما كان من شأنك ومضاض؟ فأعلمتها، فقالت لها: ظلمتيه يا مي بالله ما كان بيني وبينه قط سبب ولا كتمته غي استسقائي منه الماء وذلك أني كدت أموت عطشاً، واحتشمت أن أقف إلى السدنة، ولم أر من أعرفه من أهل الطواف، ولما رأيت مضاضاً حملتني إليه دلة القرابة وحداثة سنه فكلمته فسقاني، ثم ما رأيته بعدها إلى يومي هذا. قالت لها مي: فهل كان منك إليه شعر ومنه إليك شعر؟ قال لها: لا والله ما كان بيني وبينه كلمة غير استسقائي الماء إليه. وآتاها علم أمر قبيس وما وشى بينهما، فندمت على ما كان منها إليه، وبعث إليه، فلم تجده وتعاظم شوقها لما علمت من كلفه بها وبراءته مما أنطقته به. فبينما هي تسأل عنه وتلتمس من لقيه إذ نعي إليها، فتوارت عن الحي إلى تلعة أمام الحي وتبعتها جارية من الحي يقال لها سلمى من بنات عمها كانت مؤانسة لها مطلعة على أسرارها فوجدتها ساكتة تنظر يميناً وشمالاً كأنها جنت. قالت: ي مي أراك هبلاء وقد مات مضاض؟ قالت لها: قسوة أدركتني منعتني الدمع، وفي الدمع إراحة، لو أصبت إليه سبيلاً. فلما سمعت نساء الحي ينتحبن وعلت أصواتهن أجابها الدمع فبكت، وأنشأت تقول شعراً: آيا موطن الموت الذي فيه قبره ... سقتك الغوادي الساريات الهوامع ويا ساكناً بالدوحتين مغيبا ... لأن طرت عن ألف فالقك تابع ثم قالت: أيا شجر الزيتون ضميت مهجة ... أنت هضبة من دونها ورياض

ويا دوحة الزيتون بالله فرجي ... عن الكبد الحراء كيف مضاض لئن جاد لي وجداً بنفس كريمة ... أثبه بنفسي والثواب قراض أأرغب في الدنيا حياة سقيمة ... ويأتي سواد دونه وبياض قالت: وآلت على نفسها أن لا تشرب ماء حتى يرد جمل أبيها هوز - وكان هوز لا يرد إلا عن خمس - فأقامت يوميين وليلتين، فلما كان يوم الثالث - ولا أحد يعلم بها غير سلمى - غشيها الموت مع الليل فولت إلى الربوة واتبعتها سلمى. فلما بلغت أعلى الربوة سقطت، قال سلمى: فوضعت يدي على فمها فوجدته كالحجر الصلد، فرفعت رأسها إلي بلسان غليظ وصوت خفي، فقالت بكلام ضعيف لا أكاد أبينه (قولي لأبي يدفنني بالدوحتين بجوار مضاض) وقالت: يقولون مي أسرعت بفراقها ... فمات مضاض والهوى غير نادم فيا ليت أني مت من قبل موته ... بطيب الهوى قبل الردى المتفاقم لقد مت يوم الماء موتاً أمر من ... سمام الأفاعي في نقيع العلاقم فهل هو إلا الروح بالروح أسوة ... وها هي نفس ارتقت في الحيازم وقالت سلمى تبكي مياً: لم تكن لوعة الهوى لانفراج ... من يقاسي الهوى فليس يناجي إن يكن مات من هواها مضاض ... قد قضت دينه بأيسر حاج غرس الحب في حشاها فوجاً ... قلبها بعدة بمدية واج إن في الموت راحة المحب ... بات في الوصل ساعة غير راج ثم لم تلبث إلا يسيراً حتى ماتت وبلغت سلمى أباها فأعلمته، فدفنها في الدوحتين. وها هنا قبرها غير إني لا أقف عليه، ولقد ضرب بموت

مضاض المثل في زمانه، قال رجل من أهل الطائف يقال له بهنان كان من أهل هزان بن سكسك بن وائل بن حمير: أموت جد الفراق بيثرب ... كما مات من حر الفراق مضاض فتى لم يخن لكن ردى الدهر خانه ... تولى وللأيام فيه عضاض فباد ويحيي ذكره بعد موته ... حديث على طول الزمان مفاض وخاض ببحر لم يكن منه مصدر ... بعيد على الوراد ليس بخاض دعاه وقد قضى من الموت نحبه ... بنات الثرى من دونهن رياض قال: وإن الحارث بن مضاض ألقى بنفسه إلى قبر مضاض وأنشأ يقول: أنا الملك المحجوب بالحجر والصفا ... إلى البارقات الغر بين القوانس رضيت عن الأيام دهراً فخلخلت ... على الليالي بعدها بالهواجس فأفردت من طسم وعاد وجرهم ... وعملاق والشهبا جديس ورائس فلما رأيت الدهر ألوى بأسرتي ... وأفردني بعد الهمام الممارس تجشمت من كرمان كل تنوفة ... وجاوزت حد القصر من أرض فارس ولججت في لجى سمرقند فانتهت ... بي الأرض بهما أقعدت كل ناحس جبال بكل الطرف دون أنوفها ... وجوماته صاد قفار بسابس فسامرت رجل الجن في فلواتها ... وساريت جري العاصفات الروامس نزحت عن الدنيا ولست بنازح ... وعديت عن رسم الديار الدوارس تغربت في الدنيا مثيناً ثلاثة ... ولا بد من حتم الصروف العوابس بعيس إياد انتهبت إلى التي ... تطم على مجرى النجوم النواحس

أسير بطرف ما يغمض ساعة ... وقلب على نهج المنية دائس لنا نومة أنا نؤول إلى رضى ... وأما باقي النوى غير حابس وقال الحارث أيضاً: شكرت مسارعاً نعم الأيادي ... لخير الناس كلهم أياد إلى ابن نزار جبت القفر حتى ... نزلت برحلة من غير زاد تمدح لي فجئت إليه أسعى ... أجاب برأفة صوت المنادي أجاب نداي إذ صموا لصوتي ... فرد بدعوة منه فؤادي فلما أصبح قال لي: قم يا بني، فقمت معه فمشى وهو يحس بيديه الأرض حتى أتى إلى صخرة مطبقة على صخرة أخرى وبينهما خلل يسير فقال: ادن مني يا بني، فدنوت منه فأخذ عضدي وقلع الصخرة، فإذا تحتها سرب تحت الأرض فأخذ بمنكبي فأدخلني السرب وهو خلفي وحيات تصفر عن يميني وشمالي وريح زهمة تنطح وجوهنا. فسرت بين يديه حتى أتيت إلى صخرة أيضاً مطبقة على صخرة ليس لنا مسير، قال: فامسك عضدي بيده اليسرى وأدخل يده اليمنى إلى تحت الصخرة فقلبها فإذا بسرب آخر أسفل من ذلك، فأخذ بمنكبي لئلا أهرب عنه وأدخلني بين يديه. فسرنا حتى أفضينا إلى دار تحت الأرض مضيئة، ولا أدري من أين ضياؤها وفيها بيت قبلي إلى مكة. فقال لي: لا تخف مما ترى فانك ستخلص وتمشي على الدنيا من نسلك قبائل، قال: فخرج من البيت تنين أسود أحمر العينين يجر عرفه ودار في وسط الدار فصار كالجبل العظيم وجعل رأسه أعلاه. ثم دخلت البيت وأصبت في البيت أربعة أسرة ثلاثة عليها ثلاثة رجال وواحد ليس عليه شيء، وفي وسط البيت كرش من در وياقوت ولجين

وعقيان، فقال: خذ وقر جملك يا إياد، ليس لك غيره - فإن زدت غللت - وكان إياد دياناً بدين الحنيفية دين آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق صلى الله عليهم أجمعين، قال إياد: فأخذت وقر جملي دراً وياقوتاً وذهباً وتركت بقيته واخترت خياره ثم خرجت، فقال: أتدري من هؤلاء الموتى؟ قلت: لا، قال: هذا الذي يسار سريري الخالي مضاض أبي. وهذا الذي عن يساره عبد المسيح أبوه، وهذا الذي عن يسار عبد المسيح نفيلة أبوه ابن عبد المدان، قال وعلى رأس كل واحد منهم لوح من رخام مكتوب فيه كتاب بالمسند، فعمدت إلى السرير الذي كان عن يمين باب البيت فأصبت شيخاً كبير اللحية أسيل الخد تام العنق تام الصلب مسجى وعليه ثياب كالرماد السحق. فأخذت اللوح فقرأته فإذا فيه مكتوب: أنا نفيلة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم - عشت خمسمائة عام وقطعت غور الأرض باطنها وطاهرها في طلب الثروة والملك، فلم يك ذلك ينجيني من الموت، وتحته مكتوب: قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالصاً أثوابي وسريت البلاد قفراً لقفر ... بعنائي وقوتي واكتسابي فأصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صواب فانقضت شرتي واقصر جهلي ... واسترحت عواذلي من عتاب فدفعت السفاه بالحلم لما ... نزل الشيب في محل الشباب صاح أبصرت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب قال: ثم ملت إلى الثاني فإذا بفتى لم أر أجمل منه وجهاً بوجه كدره القمر وأشفار سقطت على خده ولحية سوداء بلغت سرته وسترت صدره تام

العنق تام الصلب وعليه ثياب كالهباء. وأخذت اللوح الذي على رأسه فإذا فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان، عشت مائة سنة وركبت مائة فرس، وافتضضت مائة بكر، وقتلت مائة مبارز، وأخذني الموت غصباً وأورثني أرضاَ وتحته مكتوب: حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أخضع لمعضلة كؤود وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود قال: فملت عنه إلى الآخر فأصبت شيخاً آدم كث اللحية خارج الوجنتين قصير العنق واسع المنكبين وعليه ثياب كالهباء، فأخذت اللوح عن رأسه، فإذا فيه مكتوب: أنا مضاض بن عبد المسيح عشت ثلاثمائة عام، وأخذت مصر وبيت المقدس، وهزمت الروم بالدروب، ولم يكن بد لي من الموت، وتحته مكتوب: قد تجرعت بعد طول زماني ... غصة فارقوني اللذات لا تغرن عيشك اليوم دنيا ... عمرا ما منها له ميقات منزل قد تحكم الدهر فيه ... ليس للنازلين فيه ثبات كل شيء تخني عليه الليالي ... آخر الحزن والسرور الممات ثم نظرت إلى لوح فوق رأسه معلق، فأخذته فإذا فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض، عشت أربعمائة سنة، ملكت مائة، وجلت في الأرض ثلاثمائة سنة متغرباً بعد هلاك قومي جرهم. وتحته مكتوب: هلَّ دمعي لفرقة الأحباب ... واغترابي عن معشر بالحضاب

أوطنوا الجزع جزع بيت أبي مو ... سى إلى النخل بين حجر وقاب من ملوك متوجين لديه ... وكهول أعفة وشباب وبهاليل كالليوث مصا ليس ... ت مغاوير في الحروب اللجاب بحلوم رواجح وبهاء ... واقتدار على الأمور الصعاب ونساء حواصل عاطلات ... وبدور مجوبة في القباب نازلات بين الحجون إلى الخي ... ف خرا عيب كالدمى اتراب ها هم نازلون بالذكر فيه ... حين غابوا به مغيب الشهاب أسعدتهم أيامهم ثم ولوا ... ما على الدهر بينهم من عتاب فهم المطمعون جوداً فعادوا ... طعمة للثرى وصم الخضاب فلي الويح بعدهم وعليهم ... وإليهم من بعد ذاك مآبي كل حي يموت حقاً فيفني ... سبب غالب على الأسباب قال: ثم قال لي: يا بني أعطني تلك القارورة التي في تلك الكوة، فأعطيته إياها فشرب نصفها وأطلى بنصفها جسده. ثم قال لي: يا بني إذا أتيت أخوتك وقومك فقالوا لك: من أين لك هذا المال؟ فقل لهم: أن الشيخ الذي حملت الحارث بن مضاض الجرهمي، فهم يكذبونك، فقل لهم: هذه آية لكم فمر بهم على الحجر المدفون بجوار زمزم فقل لهم: إن مقام إبراهيم في هذا الحجر الأحمر وإن شعر الحارث في هذا الحجر الآخر وهو قوله: كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا. قال ثم قال لي: أعطني القارورة الأخرى فأعطيته إياها فشربها، ثم صاح صيحة ما ظننت إلا أن أهل الدنيا سمعوها، ثم مات مكانه، ثم تمكن على سريره وهجم علي التنين واستدار

في وسط البيت على ما بقي من المال وخرجت أنا فبلغت مكة. فقال لي أخوتي وقومي: من أين لك هذا المال؟ فأعلمتهم فكذبوني فمضيت بهم إلى الحجرين فرأوا مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم وقرأ وأشعره وهو هذا: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر فهل فرج آت بشيء تحبه ... وهل حزن ينجيك مما تحاذر وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ملكنا فاعززنا وأعظم قدرنا ... فليس لحي غيرنا شم فاخر فإن تنثن الدنيا علينا بريبها ... فإن لها حالاً وفيه التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك بالإنسان تجري المقادر أقول وقد نام الخلي ولم أنم ... مدى الليل لا يبقى سهيل وعامر وبدلت منها أوجهاً لا أحبها ... وبدل منها حمير ويحابر فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة ... كذلك عضتنا السنون الغوابر وفيه حمام لا يراع أنيسه ... إذا خرجت منه فليست تغادر فسحت دموع العين تجري لبلدة ... بها إلا من آمن الله فيه المشاعر قال أبو محمد: وإن إياداً لم يعد إلى الموضع لما حرم عليه الحارث، وكان إياد على دين الحنيفية، وكان دين الحنيفية غالباً على العرب يدينون به حتى أنشأ عمرو بن قمعة الكناني - فهو أول من غير دين إسماعيل وإبراهيم ونفى أحكامهما - ولقد حدث ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {رأيت عمرو بن قمعة وهو يجر قصبة في النار}

عمرو بن قمعة أول من عبد اللات - وهي صخرة عظيمة يلت عليه الطعام ويطعمه قومه - فسميت الصخرة اللات. قال أبو محمد: حدثني أبي هشام عن أبي يحيى السجيستاني عن رجل من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن في أيام الإمام علي بن أبي طالب بالكوفة قال لي الرجل: خرجنا أنا وأبي إلى صحراء عدن وكان جدي ساكناً بعدن فدفن مالاً في صحراء عدن وأوصى أبي إنه احتاج أن يأتي موضع كذا من صحراء عدن، وانه قعد بنا الدهر فسرت مع أبي فأصبنا ثلاث روابي متقابلات، فقال لي أبي: لقد اشتبه علي الموضع، ما أدري أي هذه الروابي هي؟ فما رأيك؟ فقلت له: وهل بد من الحفر إن كنت تعلم أن المال في إحداهن، ثم لاح له أمر وعلامة فقال لي: احفر ها هنا، فحفرت فكنت إذا حفرت وأعييت حفر أبي مكاني حتى انتبهنا إلى بلاطة عظيمة فحرصنا على قلعها فعجزنا عن قلعها، ثم حفرت الثانية فوصلت إلى بلاطة أخرى مثل الأولى فأعجزتنا، فحفرنا الثالثة، فوصلت إلى بلاطة مثل الأولين فأعجزتنا أيضاً فقال لي أبي: ما ترى يا بني؟ قلت له: أنت شيخ كبير لا تستطيع شيئاً، فهل لك أن تخلفني ها هنا وتمضي تأتي ببعير وعبد من عبيدنا؟ فقال لي: يا بني الموضع مهول وأخشى عليك الوحشة وغلظ البلد، قلت له دع عندي من الشراب والطعام ما يكفيني، وخرج على وجهه. فبات عني ليلتين، فلما كان في الليلة الثالثة وأنا قائم أصلي وكنت كثير التلاوة للقرآن، فلم أشعر إلا ورجل جميل الوجه نقي الثياب طيب الريح يمشي وهو يقول: لولا تلاوتك القرآن ما امتسكت ... بالأرض رجلاك فاعلم أيها الرجل في بلدة لعتاة الجن ماردة ... في كل أفق لها من همسها زجل

لك النصيحة عندي وهي واجبة ... على ذوي الدين إن لم يسبق الآجل فاستوقر اليوم من رزق خصصت به ... ولا تعد راجحاً ينأى بك الأجل قال: فحفظت الشعر. وطلع إلي أبي والعبد معه والبعير فأخبرت أبي بما كان، وأنشدته الشعر. ثم أتينا إلى ما حفرنا أولاً فقلعنا الحجر، فإذا بشيخ يده مغلولة إلى عنقه بغل من حديد، في هامته وتد من حديد حتى نفذ من دبره، وأصبنا عند رأسه ورقه من ذهب مكتوب كتاباً لا نعرفه. فأخذنا الورقة، وأعدنا البلاطة إلى موضعها وأهلنا التراب على البلاطة حتى رجعت كما كانت. ثم أتينا البلاطة الثانية، فإذا تحتها عجوز مسودة الذوائب واضعة إحدى يديها على رأسها والأخرى على عورتها وإلى جانبها كتاب في لوح لا ندري ما هو، فأخذنا اللوح وأعدنا البلاطة وأهلنا التراب عليها. ثم قلعنا البلاطة الثالثة، فإذا تحتها سرب دقيق ضيق، فدخلناه فأصبنا خابيتين مكشوفتين فيهما رجلان متقاربة أسنانهما متشابهان عليهما حلل مرصعة بالذهب ورأينا كتاباً على الجرتين لا نعرف ما هو، وأصبنا مالاً كثيراً ذهباً وفضة وغير ذلك من الدر والياقوت ما لم ير مثله قط. فقال لي أبي: وثقنا بالله وبالغنى وحبور الدهر، فقلت له: يا أبت وكيف الخلود مع الفناء لا خير فيما يفنى وأم مالنا في هذا قليل في حياة قصيرة؟ فأوقرنا جملنا ثم أوقرنا نحن لنحمل فلم نقدر أن ننهض به، فلم نزل ننقص منه ونريد النهوض فلم نستطع حتى أخذنا في أيدينا ياقوتة ودرة فلم نقدر نهوضاً بهما. فقال لي أبي: الق ما معك يا بني فقد أخذنا رزقنا، فعلمنا أنا منعنا غير ما صار إلينا، فقلت لهما: قد رأيتما ما كان وإياكم أن يعود أحد منا فيهلك، وإن العبد أسر على مواليه الرجعة، فأعتق أبي العبد وكثرت نعمنا ووهب للعبد مالاً جسيماً يتجر به، وإن العبد أخذ لذلك الموضع ما يصلحه فأخذ معه عونين وسار

لأنه يعرف علامات الموضع، فلما نال من الغار توار عن عونيه ليقضي أربه وبات عوناه أرقين قد ذعرهما ما يريان من وحشة ذلك الموضع وهوله. فحدثني العونان قالا: سمعنا في جوف الليل حساً وذعراً وحركة شديدة من ناحية العبد واضطراباً، فجزعنا من القيام إليه لخوف داخل قلوبنا. فلما أصبحنا أصبناه ميتاً وفي حلقة آثار وفي ثيابه أخداش فحفرنا له وأوريناه وولينا هاربين لئلا يدركنا الليل في ذلك الموضع. قال: ومكثت الورقة واللوح عندنا سنين لا نجد أحداً يعلم ما فيهما، فبينما أنا في موضع، إذا أنا برجل من أهل نجران من بني الحارث بن كعب، نبيل جميل وهو يسأل، فقلت له: والله يا عبد الله انك لجميل وخليق بالخير فما اضطرك للمسألة؟ فقال لي: يا عبد الله الحمد لله الذي أحسن أبيك وأغناك عن خلقه ومنعك من هذا المقام، اعلم إن الغنى والفقر حظان مقسومان كنت عظيم الدنيا فابتليت بأن سلبت وملك رقي فأعلمت الذي ملك رقي رجل من البغاة من بني الحارث بن كعب من أبناء الملوك فاشتدت قسوته علي حين أعلمته فتركته ليلة من ذلك حتى تباعد عن الحي في بعض حاجاته، فأخذت سيفاً لبعض أهل الحي وقتلته، فصاح لما ضربته فسمعه ولداه، فتبعاني فرجعت عليهما، فلقيت واحداً فطعنني فبريت قناته ثم أمضيت عليه ولقيت الآخر وبيده سيف فغلبت عليه فقتلته. فإن علاني الزمان فلكل شيء دولة فالفقر يدال من الغني والسقم يدال من الصحة والهرم يدال من الشباب والموت يدال من الحياة. وقد كان سليمان بن داود بالمكان الذي علمت فابتلى بأن سلب ملكه وجلس عدوه على كرسيه، وابتلى بالفقر وتصدق عليه

وسلب النعمة أربعين يوماً، ثم رد الله عليه ملكه. وما ذلك كان من ذنب له عند الله ولكن ذلك صنعه بالنبيين والصالحين يبتليهم بذلك وينظر كيف صبرهم وليمحو ذنوبهم ويعظم في الآخرة أجرهم، قلت له: إنك لفقيه فما دينك؟ قال لي: الإسلام، قلت: فهل تقرأ؟ قال لي نعم: ثلاثة ألسن فوقع في نفسي أمر الورقة واللوح فأخرجتهما إليه فإذا هو يقرأ ذلك الكتاب وإذا هو بالمسند كتب، وإذا في الورقة التي كانت مع الشيخ المغلولة يده إلى عنقه والمضروب في رأسه وتد خارج من دبره، هذا الشيخ عمرو بن لحي أول من غير دين إسماعيل وعبد اللات. قال: وقرأ اللوح الذي أصبنا مع العجوز فإذا فيه: هذه سعدة بنت جرهم جلبت السحر من دنيا وند وتعلمته وسحرت سبعة أخوة من خيار جرهم فصيرتهم وحوشاً لا يقرون مع الأنس ولا يطمئنون إلى دعة ويرعون مع الوحش كما ترعى. فأتت أمهم إلى نابت بن قيذار بن إسماعيل في الشهر الأصم فقالت له: يا ولي الله إن سعدة الساحرة أتلفت أولادي عني أحوج ما كنت إليهم فأنا مؤمنة وهي كافرة فادعوا الله عليها، فقال لها: افعلي، فقالت: رب إنه الشهر الأصم حرمت ما حرمت فيه فانتقم ممن لم يحرم حرامك ولم يحل حلالك وقالت: يا رب إن سعدة السحارة ... تحملت مآثما كباره قد سحرت ظالمة أولادي ... وشردتهم فيغبا البلاد هاموا مع الوحش مع الغفول ... ويعسفون غامض المجهول فأبلها بنفسها يا رب ... ولقها سوء جزاء الكسب وانسها السحر بعدل منكا ... واهتك لها ستر الحياء هتكا ولقها ما عملت في عاجل ... وفرجن كرب المقام الهائل

قال نابت: اللهم افعل قال، فأنساها الله السحر وهتك عنها ستر الحياء فما لبست ثوباً حتى ماتت. ورجع السبعة النفر إلى نابت فأعلموه بما كان يتخايل لهم في أعينهم وقلوبهم، فدعا عليها نابت فهلكت فكففت، فلم تقبلها الأرض حتى غرقت، وذلك مقام الظالمين. فقلت له: هل لك أن تقيم عندي فأني توسمت فيك الخير وأزوجك؟ فقال: قد فعلت ذلك وأنت أهل لما أملت من الخير. فزوجته وشاركته في معاشي فأصبته موضعاً لما أملت ورجوت وقال لي: أين أصبت هذه الألواح؟ فقلت: في مغارة بصحراء عدن، قال: فاطرق ملياً فقلت له: مالك؟ قال لي: نعم لم يكن إسلامي إلا على مغارة قال لي: كنت أعبد ما يعبد قومي من الأصنام وكانت لنا أصنام على باب مغارة كنا ندفن فيها موتانا وكنت عاشقاً لابنة عمي، فكنت دهراً لا أستطيع ذكر ذلك، ثم إن الأمر عظم بي ففشا ذلك في أهل بيتي فمشوا إلى أبيها فسألوه أن يزوجها وكنت امرأ داعرا فقال لهم أبوها: كيف أزوجها وتسألوني تزويجه ولو سأل أحدكم أن يزوجه كريمته لم يفعل ولرده فارضوا لي ما ترضون لأنفسكم قال. فلما قال ذلك يئست منها قال، وخطبها رجل من غير له حسب ومال جم فزوجه إياها، فمكث أياماً معها ما شاء الله ثم إنه قال لأبيها لابد لي من الخروج إلى بلادي، فأذن له وأنها ماتت بعده وأدخلت في المغارة فغلب علي الوجد بها وجعلت تمثالها نصب عيني فألقيت ثيابي وأخذت ثياباً رثة كثياب سدنة الأصنام فأقبلت إليهم وصرت منهم وقلت لهم: إني أردت أن أكون معكم من سدنة الأصنام فأقبلت إليهم وصرت منهم وقلت لهم: إني أردت أن أكون معكم من سدنة الأصنام فقربوني، فلم أزل معهم حتى عرفت المكان الذي تركت فيه الجارية، فإذا هو بيت فيه أثريات من رخام في أثرة منها جسد

مكشوف الوجه. فأصبت غفلة من أصحابي وأتيت تلك القبور ومعي مصباح وجعلت أتصفح واحداً بعد واحد حتى انتهت إليها، فلما رأيتها عرفتها، فلم أملك نفسي أن وقعت عليها، فجعلت ألثمها وأقبلها فسمعت ناحية البيت هينمة خفية فأوحشني ذلك وجعلت الثمها وأقبلها أريد منها أمراً وذلك بعد ثلاث لها وجعلت الهينمة تدنو مني، فإذا أنا بثلاثة نفر عليهم أحسن ما رأيت من الثياب بياضاً ورائحة طيبة ووجوه جميلة، وأخذني هيبة لهم فدنا أحدهم فتفل في وجهي وقال: بؤساً لك. ثم أتى الثاني فمسح على صدري فخفق قلبي في صدري وعشي علي بصري. ثم دنا مني الثالث فمسح يده على وجهي وصدري وقال: أضلت الأصنام عبادها واغتبط من عرف الله لا اله إلا الله محمد رسول الله، فتجلى عن بصري الغشاء وسكن قلبي في صدري. فوليت هارباً إلى نجران فأصبت دعاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمضيت من فوري ذلك إلى المدينة فدخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاحمر وجهه كلما أخبرته حتى ذكرت له فعل الآخر وكيف ذهب عني عشا عيني وعن قلبي الوجيف فأشرق قلبه صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله أهدني، فشرح صلى الله عليه وآله وسلم لي الإسلام، فأسلمت وقرأت سوراً من كتاب الله. قال أبو محمد: حدثني أبو عبد الايلي عن ابن لهيعة إنه قال: إن آخر مال الحارث بن مضاض أصابه عبد الله بن جدعان التيمي من قريش. قال: حدثني مكحول عن أبي صالح عن عبيد بن شرية الجرهمي، وكان عبيد بن شرية معمراً أدرك حرب داحس وبلغ إلى أيام معاوية في الإسلام وكان مسامراً له. قال عبيد: جمع الحجيج بمكة عبد الله بن جدعان وكان أوسع المال كثير المعروف جواداً، فاجتمع وجوه العرب في داره

على مائدة، فقلنا له: ما كان أصل مالك يا عبد الله؟ قال: نعم كنت صعلوكاً من صعاليك قريش فتاكاً أطلب الغوائر فبينما أنا كذلك إذ آتاني عامر البراض أخو بني كنانة فقال لي: ألا أبغيك قنصاً يا عبد الله، قلت: نعم، قال لي: أن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن نزل بعراعر آمناً على أسرابه فركبت فرسي وسرت أنا ومالك البراض، فطردنا مائة ناقة حتى ألقيناها بالطائف، فأرسل كلاب إلى قريش أن سفيهكم أغار علي وطرد لي مائة ناقة فليس لكم أن تشهدوا سوق عكاظ ولي لديكم وبرة. وكان عكاظ في وسط أرض قيس عيلان، وإن قريشاً ائتمرت بقتلي لا أجني عليهم الجرائر فيطلبون بسيء وهم تجار لا يستغنون عن بلد. فلما أتيت منزلي من الطائف قيل لي: إن قبائل قريش ائتمرت بقتلك فانج بنفسك، فأخذت زاداً ومزاداً وخرجت هارباً مع الصباح إلى دوحة الزيتون أتظلل فيها وقريش تطلبني، واني أتيت دوحة الزيتون هارباً مستسلماً للقتل، فلم أزل أهرب وأطلب موضعاً أختفي فيه والقوم في طلبي حتى أتيت إلى حجر طبق على حجر بينهما خلل يدخل منه النحيف متجانفاً في ذلك الخلل، فدخلت وأدخلت معي زادي ومزادي، ثم هال علي السرب، ثم قلت لنفسي موتي في هذا السرب أحب إلي من أن يقتلني قومي فيشمت عدو ويحزن حبيب وأترك قومي دحلاً في قريش. فسرت هارباً ملججاً في السرب حتى دخلت داراً عظيمة فيها بيت وفي وسط البيت جوهر وياقوت ولجين وعقيان وفيها أربعة أسرة على كل سرير رجل قاعد وعلى رأسه لوح من رخام مكتوب بالمسند. فقرأت الألواح فأصبت فيها أن أهل الألواح الحارث بن مضاض وعبد المسيح ونفيلة ومضاض بن عبد المسيح فأقمت خمسة أيام في ذلك البيت آكل من زادي وأشرب من

ولاية عمرو بن الحارث بن مضاض

مزادي حتى أيست قريش مني فخرجت ليلاً وأحرزت فلم أجد أحداً في الغيضة فأخرجت ما أصبت من المال وأخذت الألواح خيفة من قريش تكون لي عندهم براءة، ثم بلغت منزلي فأخذت جملاً وخرجت إلى ذات الحليفة ليلاً. فلما أصبح أتت سيارة يريدون مدين، فسرت معهم لا يدرون من أنا ولا ما معي حتى بلغت مصر فبعت ما معي وأصبت مالاً جليلاً فرجعت فنزلت ينبع على مالك البراض أخي بني كنانة، فقصصت عليه قصتي مع قريش، فقال لي: هاك خمسين ناقة واجعل أنت مثلها وسر بنا إلى كلاب فقلت لها: لا أنا قد وسع علي في رزقي ولكن اشتر لي مائة فاشتراها وسقتها أنا وهو حتى أتينا كلاباً فأرسلنا إلى ابنه جعفر بن كلاب فدفعنا إليه العكرة من النوق، ثم تبعنا كلاب في بيته وهو شيخ كبير فقلت له: لا تموت هزلاً، فلما آتانا قال لي: ارجعوا بالرحب والسعة، فرجعنا من عنده، ثم سرنا إلى سوق عكاظ وأرسلت إلى قريش فشهدت عكاظ ذلك الموسم، ثم انصرفت معهم إلى مكة، فلما ظهر بعض مالي وثبوا علي وقالوا: غدرت وأعلمتهم بما كان من المغارة وأخرجت لهم الألواح فأرسلوا معي خويلد بن أسد بن عبد العزي وخويلد أبو خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووهب بن عبد مناف الزهري وهو جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو آمنة أم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فسارا معي وسرت بالألواح حتى دخلت ودخلا معي وعاينا الأشباح قالا لي رد الألواح فرددت كل لوح إلى مكانه وخرجنا واعتونا على حجر عظيم فسددنا به الخلل لئلا يكون القبر ملعبة للسفهاء. ولاية عمرو بن الحارث بن مضاض قال أبو محمد: إنه لما هرب الحارث بن مضاض من مكة، ولي الملك بعده

عمرو بن الحارث بن مضاض، وكان ملك عمرو ملكاً ضعيفاً، فأقام بذلك مدة، ثم مات فولي الملك بعدة بمكة وأرض تهامة ابنه البشر بن عمرو ابن الحارث بن مضاض، فأقام بمكة دهراً طويلاً وكان ملكه من تحت ملك بلقيس حتى أتى سليمان بن داود مكة والبشر يومئذ ملكها فآمن البشر بسليمان وأمره أن يدفع أمر مكة إلى بني نابت بن إسماعيل، وكان آخر ملك تملك من جرهم البشر إلا إنه أقرهم على السقاية وتركهم على سدانة البيت فولي أمر مكة عدنان دهراً طويلاً، ثم مات فولي مكة بعده ابنه معد بن عدنان، فأقام دهراً طويلاً، ثم مات، فتنازل الأمر بمكة بين نزار بن معد وقنص ابن معد فغلب عليه نزار فخرج قنص إلى العراق فزعم بعض أهل النسب أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة إنه من أبناء قنص بن معد. قال أبو محمد عن البكائي عن أبي مالك عن محمد بن إسحاق: إنه لما افتتح عمرو بن الخطاب العراق دخلت مغارة في الحيرة فأصابوا فيها سيف النعمان المرهف فأتوا به إلى عمر فقال جبير بن مطعم - وكان جبير نسابة عن أبي بكر - فقال له عمر: ممن كان النعمان بن المنذر؟ قال: سمعت أبا بكر يقول: هو من أشلاء قنص بن معد بن عدنان، فسلحه عمر بالمرهف سيف النعمان. وأقام نزار بن عدنان بمكة مقدماً دهراً طويلاً. قال أبو محمد: حدثني أبي عن محمد بن السائب الكلبي عن علماء العرب أن نزار بن معد بن عدنان لما حضرته الوفاة قسم ماله بين أولاده وكانوا أربعة - وكان أكبرهم إياد - وقال: لك العصا والحلة وأنت صبي. وقال: يا مضر لك القبة الحرماء وهي قبة من أدم، وقال لربيعة: لك

الفرس والقنا - فسمي مضر الحمراء وربيعة الفرس - ويا انمار: لك النخلة امة سوداء والحمار. وقال عباس بن مرداد السلمي يذكر مضر الحمراء: إلى مضر الحمراء ينمي عديدنا ... وأحسابنا إذ مجدنا غير قعدد وقال الحارث بن أوس يذكر ما ورث إياد من أبيه نزار: نحن ورثنا من نزار كله ... ونحن أرباب العصاء والحلة وأما ربيعة بن نزار فانه سمي ربيعة الفرس للفرس الذي ورث من أبيه لأنه اختصه به دون أولاده، وعمر ربيعة دهراً طويلاً فسمي ربيعة القشعم. قال أبو محمد: أكرم الإبل في العرب ابل مضر المهاري وخيل ربيعة أكرم الخيل، ثم خيل بني تغلب خاصة، وغنم انمار أكرم الغنم تأكل في سواد وتربض في سواد وغير ذلك انقص. وأوصى ربيعة للأكبر من ولده فأول من ورث الخيل عنزة بن أسد بن ربيعة. قال أبو محمد: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثنا محمد ابن إبراهيم حدثنا محمد بن السائب الكلبي قال: حدثنا إسماعيل بن مخزوم عن ابن عباس قال: لما حضر نزار بن معد الوفاة جمع بنيه وهم أربعة: إياد الأكبر وابنه ربيعة وابنه انمار وابنه مضر، وكانت أم مضر وربيعة عاتكة بنت يزيد بن زيد بن عمرو بن الهدهاد الحميري، وأم إياد أروى بنت ليث بن عمر الكلبي، وكانت أن انمار وازعة بنت غالب من بني مالك بن عريب ابن زيد بن كهلان. وقال لما حضرت نزار الوفاة: أوصى إياداً واستخلفه في أهله وأوصى له بأمة شمطاء وبالحلة والعصا، وأوصى لمضر بالقبة قبة حمراء من ادم وخاتمه من ذهب فسمي إياد الشمطاء ومضر الحمراء، وأوصى لربيعة بالفرس والقناة واللواء فسمي ربيعة الفرس، وأوصى لأنمار بالحمار

فسمي أنمار الحمار. وأعطى لكل واحد منهم قلة مسدودة على فمها وقال لهم: اذهبوا إلى القلمس بن عمرو - أفعى نجران - فهو حكيم العرب وقاضيهم. فلما مات نزار بن معد بن عدنان رثاه ابنه ربيعة، فقال - وهو أول من قال الشعر من بني معد بن عدنان: نزار بن خير الناس قدما وحادثاً ... معد بن عدنان سنا ليس يقبر فمن لمجال الروع والموت حائم ... إذا الخيل تدمي والفوارس تزأر سيذهب روح العز عن مستقره ... ويقبر معروف الندى حين يقبر سكنت بأعلام المحصب من منى ... وخلفت ريب الدهر في الخلق يعبر فيا ليت شعري ما الذي قلت بعدنا ... ويا ليت شعري أم إلى أين تعبر ثم أنهم ساروا فمروا بكلبة وجرو صغير يرضعها فنبحهم الجرو والكلبة ساكتة فعجبوا منه، ثم ساروا على مزابل منورة فتعجبوا منها، ثم أتوا على طريقهم فأصابوا ثلاث شجرات معطفة متقابلات واحدة في طريقهم وأخرى بارحة والثالثة سانحة، وعلى السانحة طائر وعلى البارحة طائر آخر فيطير الذي على البارحة إلى السانحة فينزل عليها ويطير الذي على السانحة إلى البارحة فينزل عليها، ثم يقيمان ساعة فيعود هذا إلى مكانه ويعود الآخر إلى مكانه والوسطى من الشجرات لا ينزل عليها منهما أحد. ثم ساروا فأصابوا شيخين قد اقتتلا وتضابطا باللحى، فأمروا انمار الصغير أن يفرق بينهما فأقبل انمار ليفرق بينهما، فكلما ضرب أحد منهما صاحبه وقعت الضربة على أنمار حتى أوجعاه فتركهما وتبرأ منهما. ثم نزل إليهما ربيعة ففعلا به مثل ما فعلاه بانمار، فلما أوجعاه تبرأ منهما، فنزل إليهما مضر. فلما دنا منهما افترقا وفر كل واحد منهما إلى ناحية، فلم يبعد كل واحد

منهما عن صاحبه حتى غابا. ثم ساروا فمروا على آثر جمل فقال إياد: هذا أثر جمل أعور. وقال مضر: بل أبتر، قال ربيعة: بل أزور. وقال انمار: بل شرود. فلقيهم صاحب البعير فقال: هل أحسستم من بعيري حساً؟ فقال له إياد: هل هو أعور؟ قال: نعم، وقال له مضر: هل هو ابتر؟ قال: نعم، وقال له ربيعة: هل هو أزور؟ قال: نعم، وقال له انمار: هل هو شرود؟ قال: نعم قال لهم: فأين البعير؟ قالوا: ما رأينا لك بعيراً. فتعلق بهم ثم أتوا أفعى نجران وهو متعلق بهم، فقال: أيها الحكيم ان بعيري قد ضل وهؤلاء عرضوا علي صفته وأبوا أن يدفعوه إلي! فقال لهم أفعى نجران: ادفعوا إلى الرجل بعيره أن أحطتم به علماً، قالوا له: مررنا على أثر بعير فعرفنا صفته بالأثر، قال لهم: كيف وصفتم؟ قال له إياد: مررت بأثر بعير أعور، قال له مضر: مررت بأثر جمل ابتر، قال له ربيعة: مررت بأثر جمل أزور، قال له انمار: مررت بأثر جمل شرود. قال لإياد: ما دليلك إنه أعور؟ قال: رأيته يركب أثر عينه الصحيحة وعليها رعيه. قال لمضر: ما دليلك إنه أبتر؟ قال: رأيت بعيره يقع مجتمعاً ولو كان له ذنب لفرقه به ووقع منتشراً، وقال لربيعة: من أين علمت إنه أزور؟ قال: رأيت أثؤر خفي يديه يركب بعضهما بعضاً وربما خالف بينهما فعلمت إنه أزور، ثم قال لانمار: من أين علمت إنه شرود: قال: رأيت أثره ربما زاغ عن طريقه فعلمت إنه يروغ عن طريقه يعترض له فيروغ، ولو كان غير شرود لأصبناه ثابتاً في مكانه. فقال أفعى نجران للرجل: اذهب اطلب بعيرك فليس هؤلاء به. ثم نظر إليهم أفعى نجران طويلاً فقال: (إن العصا من العصية وإن خشينا من أخشن وأراد الجبيل من الجبل وإذا لم يبرق لمع نور يدب أي حراك بنور، فذهب مثلاً.

قال أبو محمد: في قوله لم يبرق لمع نور يدب: إلى حرار يثرب أراد إنه رأى عليهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم القائم بيثرب. قال ثم أمر لهم بطعام وشراب، ثم أجلسهم مجلساً وقعد قريباً منهم يسمعهم ويراهم وهم لا يرونه، ثم قال لغلام له: يا غلام رأيت قوماً خليق أن يكون لهم نبأ عظيم، فلما أكلوا وشربوا وكان قدم إليهم عناقاً مشوية وخمراً. فقال إياد: هذه العناق أرضعتها كلبة، وقال مضر: إن هذه الخمر من كرمة نبتت في قبر، وقال ربيعة: إن هذا الرجل صاحبنا لغير أبيه، وقال انمار: إن هذا الغلام الذي آتاكم بالطعام من أبناء الملوك الحر. فقام أفعى نجران إلى الراعي، فقال له ما قصة هذه العناق؟ قال الراعي: ماتت أمها ولم يكن في الغنم شاة تحلب فأرضعتها هذه الكلبة. ثم أتى صاحب الكرم فقال له: هذه الخمر من أي كرم عصرتها؟ قال له: من هذه، قال له: احفر! فلما حفر على عروقها فأصابها في جوف طفل صغير شقيت جوفه، ثم أتى أمه فقال لها: نزل بي شياطين وقد زعموا أني لغير أبي وقد صدقوا في كل ما قالوا فاخبريني واصدقيني، فإن كشفك غدا أعظم من كشفك اليوم والحكم اليوم لك وغدا عليك، قال: يا بني ما عملت تحقيق أمري ألا يومي هذا وما كنت داعرة ولا كان أبوك عاهراً غير إنه تنافس أبوك وعمك، وكان أبوك شديد الملكة قاسياً، فضجرت الرعية منه فلجأت إلى عمك فقدموه وقاموا به على أبيك فتحاربا دهراً طويلاً، وإن أباك أتجمع إلى البلقاء من أرض نجران وأنه خرج تلقاء البحرين في عسكر وبلغ عمك الخبر فأتى بعسكر، وأخذ جميع الحي وصار بي إلى قصره وأدخلني القصر وأنه سكر ليلة من ذلك وغلبه السكر فخرج يمشي في قصره فلقيني فوقع علي. فلما أصبح أخبر بما فعل فندم وخلي سبيلي، وأتيت أباك فكنت في شك من

أبيك وعمك. وتالله ما كنت أرضى بالزنا وأنا كريمة لكرم وإن عمك حرم الخمر على نفسه، وهو أول من حرمها، وقال: شربت من الخرطوم صهباه مزة ... لها مسلك بين الحشا والجوانح لها نشوة تدعو الحليم إلى الصبا ... وتذهب من أحزانه كل فادح سوى أنها بالحي تجحف بالفتى ... وتفسد من أحواله كل صالح تجور بأهل الرأي عن فصل رأيهم ... وتزري بأرباب الحلوم الرواجح إذا لم أكن أنفك فيها أبت بها ... على شرجع ما بين أيدي النوائح فوالله ثم الله لازلت بعدها ... لها قالياً ما بين غاد ورائح أحرمها ما حرم البيت ربه ... وتحريم إبراهيم دم الذبائح وهو هرم بن عمرو - وكان أول من حرم الخمر على نفسه بلا ديانة - قال، ثم أتى إلى القوم وهو لا يدري من هم وقد سمع ما سمع منهم، فجلس مجلس قضائه وأحكامه ثم قال: ائتوني بالنفر المستضيفين، فقال لهم: هل من حاجة أقضيها لكم وتنصرفون؟ قالوا: نعم أيها الملك آتيناك نسألك عن بعض شأننا ونتحاكم إليك في أمرنا، وكان أفعى نجران أعلم أهل ذلك الزمان بعلم سليمان بن داود عليهم السلام، وكان داعياً من دعاته وكان قبل سليمان أعلم العرب بالنجم والزجر، وكانت العرب أعلم أهل الدنيا بالنجم عن إبراهيم وإسماعيل. فقالوا له: أيها الملك خرجنا نريد إليك في أمورنا فرأينا ثلاث شجرات سانحة وبارحة ووسطى على طريقنا، وعلى السانحة طائر وعلى البارحة طائر فجعل الذي على السانحة يطير إلى البارحى ويعافي الوسطى، ففعلا ذلك مراراً قال لهم: سيأتي زمان يهدي الغني إلى الغني والضعيف المحتاج بينهما لا يهدون إليه شيئاً، قالوا: ثم مضينا إلى

رياض جديدة وأقضينا منها إلى مزابل منورة، قال: سيأتي زمان يرتفع فيه العبيد والسفلة ويذلك فيه ويسقط الأحرار والأخيار. قالوا: ثم سرنا على كلبة وعلى بطنها جرو صغير ولا يكاد يقف، أعمى العينين فنبح وأمه ساكتة قال: سيأتي زمان ينطق أهل الجهل ويصمت العلماء. قالوا: ثم مررنا على شيخين وقد تضابطا باللحى فأمرنا أخانا وهو أصغرنا يفرق بينهما فاختلف بينهما الضرب فكان يقع عليه، فلما أوجعاه تنحى عنهما وأمرنا آخانا هذا الثاني ففعلا به كذلك، فزوال عنهما ثم أمرنا آخانا الثالث، فلما دنا منهما افترقا وهربا منه فجعل كلما دنا منهما وليا هرباً حتى غابا عنا، فال فنظر إلى مضر وهو الذي هربا منه نظراً طويلاً فقال له: بخ بخ أنت الشجرة المثمرة. ثم قام عن مجلسه فأجلسه فيه، ثم قال لهم: ذلك شيطانان أرادا أن يخبراكم ليعلما أيكم السبط وأنت أيها المرء مضر بن نزار في ظهرك محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكرم مولود وأحمد محمود له الدعوة الصادقة اليوم والمقام المحمود غداً به تستنقذون من الهلكة وبه تنالون الزلفى، وأنتم بنو نزار اختلفتم في ميراثكم وجئتم إلي أحكم بينكم وأنتم كما أرى وتسألوني؟ قالوا: إن أبانا أمرنا أن نأتيك إن اختلفنا تحكم بيننا، قال: فإن القبة والخاتم لمضر وإليه حكوماتكم، وإن إياد صاحب العصا والكلمة والحلة والشمطاء وإليه أمر معاشكم، وإلى ربيعة صاحب الفرس والقناة واللواء أمر حروبكم، فكونوا تحت لوائه في الحروب، وأما انمار صاحب الحمار فاحملوا عليه فادح وصاحب خدمة أهل الدنيا أعطاه الحمار لتكونوا له كذلك فقال في ذلك بعد ذلك الزمان يحيى بن أبي سلمة البجلي وبجيلة من ولد انمار.

نزار كان أعلم حين أوصى ... لأي بنيه أوصى بالحمار قال: أعطوه القلال المطبوع عليها، ففك قلة إياد فأصاب فيها تقليم الأظفار قال: يا إياد خذ ماله من عبد وغيره، ثم فك قلة مضر فأصاب قطعة من ذهب وقطعة من فضة، قال له: يا مضر خذ ما ترك من ذهب وفضة، ثم فك قلة ربيعة فأصاب قطعة مة حافر فقال له: خذ ما ترك من فحل وحافر وفرس وبغل وحمار، ثم فك قلة انمار فأصاب فيها ظلفاً فقال له: يا انمار لك الخف والظلف فتراضوا بذلك فقال: الأرض بينكم فقيل من يومئذ إياد الشمطاء ومضر الحمراء وربيعة الفرس وانمار الحمار. وكان أطولهم ربيعة وكان يقال له لذلك: ربيعة القشعم وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبشير بن الخصاصية السدوسي (ألست من ربيعة القشعم اللذين يزعمون إنه لولا ربيعة لانكفأت الأرض بأهلها) قال: نعم يا رسول الله. وكانت تلبية ربيعة في الجاهلية: لبيك ألهم لبيك رب ربيعة القشعم ثم لبيك. قال علي بن أبي طالب: نعم الحي ربيعة إباء الفجار أنجاد سادة. قال أبو محمد: حدثني أسد عن أبي إدريس عن وهب عن ابن عباس إنه قال: لما ولي الملك ناشر النعم، وإنما سمي (ناشر النعم) أي محي النعم لما أحيا ملك حمير بعد أربعين عاماً أيام سليمان بن داود عليهما السلام، وناشر النعم هو مالك بن يعفر بن عمرو بن حمير بن السياب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ. قال أبو محمد: لما ولي ناشر النعم الملك جمع حمير وقبائل قحطان وخرج

بالجيوش إلى ما حوى آباؤه والتبايعة العظماء فوطئ موطئاً من الأرض عظيماً واشتد سلطانه فخرج إلى المغرب حتى بلغ إلى البحر المحيط فأمر ابنه شمر وهو شمر يرعش بن ناشر النعم، وإنما سمي يرعش لأنه مسه ارتعاش من شرب الخمر. وقال الايلي: كان يسمى شمر يرعش، والشمر: البوار في لغة حمير، أن يركب البحر المحيط فركب في عشرة آلاف مركب وسار يريد وادي الرمل، وقال له: لا ترجع حتى تعبره وترجع إلي بما رأيت، فركب شمر ونزل ناشر النعم على صنم ذي القرنين فأخرج عساكر إلى الإفرنج والسكس وعبرت عساكره إلى أرض الصقالبة فغنموا الأموال وسبوا الذراري ورجعوا إليه بسبي من كل أمة في جزائر البحر. ثم سمع بالليل دوياً عظيماً على رأس منارة الصنم وهبت ريح عاصفة تكاد تهلك من معه فسمع عند وجه الصباح هاتفاً من رأس المنارة وهو يقول: أبي الله، أبي الله، سبق العلم الأول بالسبب الصادق والعلم النافذ من طلب معدوماً عدم، فقال ناشر النعم: يا أيها الناس هلك ابني شمر يرعش ومن معه. ثم أقبلت مراكب شمر يرعش بعد أيام وقد هلك منها ألف سفينة ونجا تسعة آلاف فقال لشمر يرعش: ما ردك يا شمر يرعش عن أمري؟ قال: أيها الملك حيل بيني وبين الحكم سمعت دوياً عظيماً وقعقعة علت رؤوسنا فكدت أن أهلك، ثم سمعت هاتفاً يقول: سبق العلم من طلب معدوماً عدم. ثم هبت الريح ففرقت المراكب، فلم تجتمع إلى عند قال: فعبر ناشر النعم البحر وسار على ساحله يريد أرض الحبشة فأخذها، ثم قفل على طريقه خوفاً من المخالب إلى ساحل البحر من شمال الأرض حتى بلغ مدينة شداد بن عاد فأقام فيها حولاً. ثم سار إلى المشرق، ثم أرسل عساكره إلى عزوة أرض الروم بني الأصفر وملكهم يومئذ باهان بن سحور بن

مدين بن روم بن اسطوم بن روم بن اسطوم بن روم بن ناطس بن سامك بن رومي بن عيص، وهو الأصغر ابن يعقوب النبي صلى الله عليه وسلم فلقيهم فهزموه وغلبوا عليه فهرب منهم إلى جبل فاعتصم به ورجعوا إليه بالغنائم والسبايا، وكان باهان متوجاً، ثم مر على أرض بابليون وأخذ على الشام يريد مطلع الشمس. قال أبو محمد: لما رجع شمر إلى أبيه من المحيط أمر بمنارة فبنيت إلى جانب منارة ذي القرنين، ثم أمر فكتب في صدر التمثال الذي عليها من النحاس بالمسند: ليس وراء هذا المكان مذهب لا يتكلف المضي أحد فيعطب بلغ من بلغ أثره وانتهى قدره، ثم أمر بالمنارة التي بني فهدمها ومضى. قال أبو محمد: لما توجه إلى المشرق نشر النعم عبر قنطرة سنجة، ثم قال: أنا تبع الأتباع في المجد والندى ... نشرت علا الآباء في الزمن الخالي ملكت وقومي مالكون ولم أكن ... لا ملك أعلى الملك إلا بأمثالي فرضت ملوك الأرض شرقاً ومغرباً ... جبالاً اسامي شامخيها باجبال يجمع كأن الليل تحت متونه ... بقوم غضاب غير نكس وأعزال فدانت لنا الأيام شرقاً ومغربا ... وسقنا سبايا كل حجل وخلخال وأذعن منها كل عاص ممنع ... واسلم فيها ما حوى ثم من مال وأقبلت نحو الشرق للصين قاصداً ... أدافع باب الترك جالاً على حال فهل تبلغ الأقوام في المجد مجدنا ... واني لهم في المجد في المركب العالي ولم أصحب الدنيا على أن لي بها ... خلوداً ولكن أغمضت عنه آجالي واني على ما نلت من ذاك موقن ... بأني سافني ثم تهلك آمالي ألم تر آثار الذين تقدموا ... تولوا عن الدنيا وباتوا بأوجال قال: فغلب على أرض الترك، ثم سار على طبرستان وباب الأبواب

ملك شمر يرعش بن ناشر النعم

ولجج جبال الصغد إلى أرض الكرد والزط والخوز وفرغان فغلب عليهم. فلما فصل يريد أرض التبت إلى الصين وأرض الهند وصار بنهاوند ودينور مات فدفنه شمر ابنه وولي الملك بعده. ملك شمر يرعش بن ناشر النعم وقال شمر يرثي أباه ناشر النعم: بمغاني الأيك والسمر ... ملك أشفى على قدر ما على الأرضين إن ونيت ... عن سنا الدنيا أبي شمر ماتت الدنيا لميتته ... ونأى بالسمع والبصر يا منار العز عدت صدى ... بنهاوند ودينور ثم قفل بالجيوش يريد أرض المغرب، فاخذ على باب ونزل بغمدان، وولي الملك شمر يرعش وهو تبع الأكبر الذي ذكره الله سبحانه في القرآن لأنه لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه لم يكن عنده من العرب طرف أغنى وأقنى يتجاوز عن مسيئهم ويحسن إلى محسنهم فكان جميع العرب بنو قحطان وبنو عدنان شاكرين لأيامه، وكان أعقل من رأوه من الملوك وأعلاهم همة وأبعدهم غوراً وأشدهم مكراً لمن حارب فضربت به العرب الأمثال وهو عندهم تبع الأكبر وإن كان قبله تبابعة عظماء أعظم منه ولكن لمحبتهم فيه وعظمته في قلوبهم. وإن الصغد والكرد والخوز والزط والقوط كلهم بنو يافث بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم بعثوا إلى إخوانهم من بني يافث من كان منهم بأرض أرمينية إلى بلجا وجاجا فقالوا لهم: ألا تغضبون

لما نزل بنا من ناشر النعم سبى منا مائة ألف بكر وقتل منا مائة ألف مقاتل فأجابهم إخوانهم من بني يافث إلى النصرة والقيام وهم: الترك والديلم والغور والخوز وبلغ ذلك بني فارس بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح. فاجتمعوا اللسان الأعجمي وكرهوا أيام التبابعة لما يكلفونهم من السخرة في المغازي وغير ذلك من أصناف العمل من المتاع والسلاح. فقدم بنو فارس قباذ بن شهريار الفارسي في الملك وتوجوه وإن الصغد والكرد وأهل نهاوند ودينور عمدوا إلى قبر ناشر النعم فهدموه وفرقوا رخامه وزجاجه وما كان فيه من جزع وغيره وبلغ ذلك تبعاً شمر يرعش فنذر الله نذراً ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلاً منيعاً شامخاً كما كان وغضب غضباً شديداً وغضبت العرب لغضبه، وكان بنى قبر أبيه ناشر النعم بالرخام الأبيض والأحمر والجزع الأزرق والأحمر حتى جعله جبلاً منيفاً شامخاً وأمر جميع من حوله من القبائل ألا تقرب منه ولا يقطنون حوله فيدمونه وما حوله فأمر تبع شمر يرعش بالجيوش فبرزت وخرج جميع أهل جزيرة العرب طوعاً وغضباً لغضب شمر يرعش بمحبتهم فيه فخرج في عساكر لم يجمع أحد مثلها من التبابعة من بعد ذي القرنين وبلغ ذلك بني يافث وقدمت فارس قباذ إلى قتال تبع شمر يرعش وأقبل بنو يافث بأجمعهم يناصرون قباذ وهم: الترك والديلم والخزر والغور والتبت والصغد والكرد والزط والخوز، وبلغ ذلك شمر يرعش وكان انتصاب قباذ بن شهريار ومن معه من فارس وبني يافث بجبال الري، فسار تبع شمر يرعش حتى نزل بالمشلل فخلف ابنه عمراً الأقرن بالمشلل في مائة ألف فارس وخلف ابنه صيفياً بعمان في مائة ألف، ثم سار فترك العراق الذي فيه جمع فارس وبني يافث وقصد الجزيرة وأخذ على الفرات يريد أرمينية وأنشأ يقول:

اثن على الله بالآية ... وارغب إلى الحق عن الباطل لعله ينسى مدى إنه ... ويرسل العاجل للآجل إلى مجوس الصغد والكرد أو ... خزر محل الأرذل السافل فقل لقحطان حلوم النهى ... أهل المقام الباذخ الهائل وقل لعدنان سليل الرضى ... قوموا فإن الرشد للفاعل أنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بعلم فاصل عاجل لا نجعل الجاهل في أمره ... يوماً ولا الأنوك كالعاقل ولا ذوي الغفل كأهل الحجا ... ولا رشيد الرأي كالجاهل نقضي على ذا وعلى ذا بما ... نقضي على العالم والواهل لعام أحلام لها منصب ... يجلي عمى الجهل عن السائل برزت في جمع كمثل الحصى ... يقذف بالرامح والنابل تسعين ألفا كالدبا يلقها ... والدهم مثل العارض الوابل والكمت والشقر وأسرابها ... مثل القطا المستورد الناهل والخيل تشتد بفرسانها ... بكب قرم ماجد باسل يا لك من جمع إذا ما دنا ... ليس بموهون ولا خاذل أقسم لا أنفك حتى أرى ... جماجماً تسحج بالآفل والسيف يمضي والردى حاكم ... يحكم بالمقتول للقاتل إن أغفلوا العهد وآياته ... فإن شمراً ليس بالغافل سيصبحوا يوماً على ذلة ... تجحف بالمأكول للآكل كم من فتاة طفلة غادة ... تصبح بالفيء إلى النافل

نكاح نمي غير ذي رشدة ... تفرح أو تحزن للعاقل إن صبحوا الأمن فلابد من ... ساعة شغل في مدى شاغل حتى يذيقوهم حتوفاً كما ... ذاقت ثمود الحتف في العاجل لنا وجوه الأرض مأمورة ... نطاع باليم وبالساحل والذهب الأحمر يجبي لنا ... يحمله الرق مع الجامل والمسك والأنجوج من صيته ... والدر في أصدافه الذابل لاشين إلا الموت يحدو بنا ... محلول الموت في تائل وإن تبعا شمر يرعش بلغ أرمينية فبلغ ذلك قباذ فأمر الترك بالمسير إلى أرمينية، فسارت الترك تريد أرمينية فقاتلهم قتالاً شديداً، ثم هزمهم فقتلهم قتلاً ذريعاً إلا من تحصن له في قلة جبل وسبى وخرب المدائن من أرض أرمينية وإن قباذاً زحف من موضعه يمن معه من فارس وفرغان والصغد والكرد والزط والخوز يريد أرض العرب لما بلغه ان تبع يرعش بأرمينية فسار قباذ بن شهريار حتى بلغ حنوقراقر من ارض العراق وبلغ ذلك عمراً الأقرن ابن شمر يرعش تبع فلقيه بالمشلل فاقتتلوا أياماً وبعث الاقرن إلى أخيه صيفي فآتاه من عمان في مائة ألف ونفر إليه المخلفون من أهل اليمن في مائة ألف فلما وصل صيفي إلى أخيه الاقرن هزم قباذ فهرب إلى القادسية فطلبوه، فهرب إلى القصر الأبيض من جبال خراسان وتحصن في رؤوس الجبال، وبعث الأقرن وصيفي إلى أبيهما فاعلماه بما كان من أمر قباذ، فرجع من بلجا وجاجا، وقد أمعن في قتل أهل المشرق فعبر الفرات وسار يريد أرض بابل، ثم قصد قباذ بن شهريار وقد تمنع في رأس جبل، فلما رأى قباذ الغلبة قال لابنه بلاس بن قباذ: اقتلني يا بلاس فاني ميت على يد تبع قال له

بلاس: لا تطاوعني يدي على ذلك، قال له: إن لم تفعل قتلت أنا وأخوتك وقومك وطلب من بقي من فارس، ولكن اقتلني وامض برأسي فخذ أماناً لك ولأخوتك وقومك ولودك من بعدك، فقال له بلاس: لست أقتلك ولكن إذا رأيت ذلك هو الرأي فانظر أي ميتة أهون عليك فمت بها، قال فعمد نفسه ففجر الأكحلين ثم تركهما يجريان حتى مات ثم عمد بلاس إلى رأسه فجزه وسار إلى نبع شمر يرعش فقال له: أيها الملك هذا رأس قباذ، هذا سبيل من عصاك فما يكون سبيل من أطاعك ولجأ إليك ورغب في رضاك، قال تبع: من طلب رضاي فله رضاه، قتلت أباك في رضاي فلك رضاك، قال بلاس: أيها الملك ليس أبي ممن أراد هلاكي ولكن أبي ممن أراد بقائي، قال له تبع: فما تريد يا بلاس؟ قال له أماني وآمان أخوتي وقومي ومن بقي من فارس ويجعلني الملك من بعض خدمه، قال له تبع: لك ما سألت. وكان يرعش أكرم ملك على الأرض وأعقلهم وأكثرهم عفواً وأقربهم رأفة. فقال له بلاس: نحن فارس بنو حام حاشية الملك، قال له: أما أني لم أرد قتلكم يا آل فارس لأنكم أخواننا الكرام من بني سام ولكن اعترضتم دون بني يافث وقد عدلت اتقاء عليكم وقد سألتني يا بلاس أن أجعلك من خدمي، فإن خجمتني في أرضي وفي قومي، لم تطب لك معيشة ولا وفيت لك بانقطاعك إلي ولا كافيتك فيما صنعت فانه ما سبقك أحد ممن كان قبلك إلى مثل فعلك وقد كرهنا لك قتل أبيك ورضينا لك قصدنا، فقد وليتك على قومك فارس، فخذ جيشاً من فارس ثم تقدم بين يدي إلى الصغد والكرد قال: أيها الملك إن أنا لم أنبلهم بين يديك بالسهام الكرمانية والنصال الهندية لم أف لك، فسار بلاس إلى أرض نهاوند ودينور فقتل الصغد والكرد والزط وأكثر القتل في الصغد والخوز والزط فهم

أقل بني يافث إلى اليوم وكانوا أكثرهم، وأخذ من كل أمة غلب عليها أمماً يستخدمهم في الصناعات كل قوم فيما أحكموه فيما أحكموه من الصناعات، ثم بلغ سنجار إلى قبر أبيه مالك ناش النعم فأمر ببناء قبر أبيه تبع ناشر النعم وكان نذر لله إنه إن ظفر بالزط والكرد والصغد أن يبني قبر أبيه بجماجم الصغد والكرد حتى يعود جبلاً منيعاً كما كان وأنه أمر بقبر أبيه فبني بجماجم الصغد والكرد حتى عاد كما كان فمشى إليه أشراف حمير فقالوا: أيها الملك وما في هذا من الشرف أن تبني قبر الملك ناشر النعم بجيف هؤلاء العلوج، وقد بلغ الملك أربه وقضى نذره فأمر به فهدم وأمر الكرد والصغد والزط أن يبنوه بأنواع الرخام الأبيض والأحمر والأزرق والأخضر ورصعوه بالجزع اليماني حتى عاد جبلاً شامخاً كما كان فطاف به ومشى في داخله، فلك يعجبه من بنائهم شيء فأمرهم يهدمه فهدموه وأمر الفرس ببنائه فينوه بأنواع الرخام وأنواع الجزع والزجاج والدر والياقوت، وأنه طاف به ومشى في داخله فلم يعجبه من بنائهم شيء. قال: ائتوني ببقايا سحرة سليمان بن داود بلقيس بنت الهدهاد فآتوه بهم فأمرهم ببنيانه فينوه بالكلس الأزرق وأجادوا فيه الصنعة بالدهن والصقل حتى صار جبلاً منيفاً وصار كالمرآة السجنجل ثم إنه طاف به فرأى نفسه وفرسه وجميع من معه فيه كما رأى نفسه فيه من خارجه في جميع جهاته، فأعجبه. فرأى الطير إذا همت أن تنزل عليه رأت تمثالها فيه فنفرت فلا ينزل عليه طائر، فأمرهم بعقد الجن حوله أن لا يدنوه منه أحد من الناس ففعلوا ذلك فمن نزل حوله رجمته الجن، فانه كذلك إلى اليوم بسنجار بين نهاوند ودينور. ثم هدم المدائن بدينور وسنجار فجميع الأرض التي خرب شمر يرعش سماها بنو فارس شمر كند أي شمر خرب باللسان الفارسي فأعربته العرب بلسانها فقالوا: سمرقند وهو اسمها إلى

اليوم. ثم رجع إلى قطربيل وسار يريد ارض الصين، وكان ملك الهند بأرض الصين نفير الهندي - والهند والسند والحبشة والنوبة والقبط بنو حام بن نوح عليه السلام - فلما بلغ نفير خروج تبع من بابسير من ارض قطربيل جمع الهند من جميع أرض الصين وانتصب إلى تبع من بابسير من ارض وعش، وخلف تبع الجرحى والزمني والمرضى بأرض نهاوند وسنجار ودينور، ثم أن تبعاً لقي نفير العندي ومن معه فقاتله قتالاً شديداً أياماً، ثم غلب عليه تبع فقتل أمماً من الهند وغلب على أرض الصين وتمنع نفير ومن معه في جبل عظيم، فلما رأى غلبة تبع وتثاقله في أرض الصين ضاق من ذلك واشتد عليه، فدعا آهل مملكته وجنده فقال: لي فيما تقدم من دهري عمر يرضاه المرء لم يبق لي من آخره إلا ما آسف به على أوله وإن شيئاً يكون الفناء آخره وغايته لحقيق على الحازم أن يزهد فيه وقد أردت أمراً فيه الموت والشقاء، ثم جمع أهل المكر والسحر فقال لهم: ماذا ترون في تبع وأجناده؟ قال له أهل المكر: أيها الملك (المحاجزه قبل المناجزة - والمكر قبل القسر - وليس بعد القسر إلا الرضا للأمر)، فقال لهم: سمعتكم، فقالوا أيها السحرة، قال له السحرة: أيها الملك الموت أعجل والسحر أنبل وقد سبق المثل الدهر عبد الدول وأنى ينفع سحرنا وقد سقط جدنا قال نفير: عرف الرأي أهله، ثم عمد إلى أذنيه فقطعهما وجدع انفه وأمرهم فضربوه بالسياط، ثم أتى تبعاً فقال له: أيها الملك إن قومي الهند هم في هذا الجبل الوعر وهم أهل غدر ومكر، وقد أمرتهم أن يسمعوا للملك ويطيعوا فأبوا ذلك وفعلوا في ما ترى، ولكن أيها الملك أقود بك وبعسا كرك إلى موضع تطلع منه إلى هذا الجبل فلا يعلمون حتى يؤخذ عليهم الجبل فتقتل من أحببت وتدع من أحببت؟ قال له تبع: ليس لعساكري في أرضكم ما يحملها أجمع ولكنني أرسل معك عسكراً جحفلاً أهل النجدة والبأس والفضل في

الرأي والسابقة، قال له نفير: افعل أيها الملك. فأمر تبع بعسكر لميدع من أهل الفضل والبأس أحداً إلا بعث معهم وتقدمهم نفير فسار بهم حتى أتى ماء فقال لهم: خذوا الماء لثلاثة أيام، فأخذوا، ثم مضى بهم إلى مجانة لا آخر لها فلجج بهم في المجانة فقال لهم: اتقوا من الماء فاني ذاهب إلى موضع الماء فاحتسبوا معهم شيئاً من الماء، فاسرع بهم في المجانة وهم يتعللون بذلك الماء اليسير الذي معهم فأبعدهم مسيرة أيام في المجانة وفرغ الماء الذي معهم، وقد خلفوا خلفهم من المجانة ما لا يقدرون أن يقطعوه بلا ماء مسيرة أيام، فقالوا: ويلك يا هندي أين الماء ومتى نقطع هذه المجانة؟ فقال لهم: إلى الأبد الآبد تقطعونها وترون الماء، ويلكم أسعدتكم أيامكم فحملتم أموركم على الغرور وصحبتموها بالجهل، هل أبصرتم طائراً ووحشاً يدلكم على أن بين أيديكم ماء والله إنها مجانة لا تخرجون منها أبد الأبد أيها العرب لكم الصبر ولا تعلمون الغدر، أتدرون من أنا؟ قالوا له: لا قال لهم: أنا نفير ملك الهند فعلت بنفسي ما ترون لأقتلكم وأشتفي منكم نقمة لقومي وشفقة عليهم فأخذوه ورجعوا في طريقهم. قال أبو محمد: لما سار نفير عن تبع بعسكره جمع حمير فقال: معاشر حمير أن العجم قليل صبرهم عند اللقاء وسريع غدرهم عند البلاء وقد مضى هذا الهندي بجميع رجالي ولم يمض بهم إلا إلى معاطش فاني لا أرى في أرضهم شيئاً يكاد به إلا المجانة فأخرج ذا جدن بن المسكين الحميري وأمره بحمل الماء على الجمال ففعل ذو جدن ما أمره به تبع، وتبع أثرهم فلقيهم وهم يتساقطون عطشاً فشربوا وسقوا خيولهم ورجعوا. فلما نظر

إليهم نفير لم يمت منهم إلا اليسير من الأتباع قال: يا نفير دافعت القضاء بالمنى، ولكن أنت بين أمرين إن خلصت ناصحت لتبع وإن مت وفيت لقومك وكلا الحالين كرم. ثم إن عسكر تبع رجع إليه وأمر بنفير فمثل بين يديه فقال له تبع: أنت نفير؟ قال له: نعم أيها الملك، قال له تبع: لم غدرت؟ قال له نفير: أيها الملك إني لم أغدر لأني لم أعهد بل وفيت لقومي ومكرت بعدوهم فإذا قتلتني قتلت مانحاً وإن تركتني تركت ناصحاً والعفو أخلق بقدرة الكريم. قال له تبع: يا نفير وفيت لقومك وقد يكون لك منهم العدو الكاشح والحسود الضاغن والمماري الملحد فكيف بك أن أحسن؟ فاني يا نفير قد عفوت عنك وصفحت عن زلتك وذنبك ووليتك على قومك، قال له نفير: أيها الملك أسأت إليهم وأحسنت إلي فأوثقت به عهدي وملكت به رقي وهل أنت مطيعي أيها الملك؟ قال تبع: قل، قال نفير: أيها الملك أرض الهند وبيئة لطارئها فلا تقارعها بالمهج فمن تاجر بروحه لم يربح وقومي في جبل كما تراهم يموتون اجمع فيه ولا ينزلون فيطلق يدي الملك افعل برأيي. فطلع نفير إلى قومه الهند إلى الجبل فأنزلهم وأنزل جميع أولاده حتى أتى بهم تبعاً - قال له يا نفير: أمنهم وأنزلهم منازلهم وبلغهم مراتبهم فإن كل أمة لم تبلغ مراتبها دخلت صدورها ووغرت قلوبها فاستخفت فتكها وهانت عليها أعمارها وملك أمورها أشرارها وأنت أعلم بها - ففعل نفير ما أمره به تبع، ثم جمع بنيه ودخل بهم على تبع فقال: أيها الملك غرست ولم تأكل ثمر غرسك هؤلاء أولادي وهم بقايا عفوك وغرس نعمتك فامنحهم بالطاعة لك فمن أوفى فقد كافى ومن غدر ففي سيفك الوزر والحكم لمن غدر، قال تبع: أنا لا آمرك فيهم ولا أنهاك، لأن المرء أعلم بولده. فقال له نفير: أيها الملك هذا أحزم أولادي وأضبطهم للملك وأصلبهم حجراً وأحسنهم عقلاً فقدمه تبع

على أرض الصين وكان اسمه جلهم بن نفير فهو أول من تتوج بأرض الصين تأسى في ذلك بتبع. قال تبع لنفير: أنت أقوم بهذا الأمر؟ قال له نفير: أيها الملك أزعجني عن أرض الصين فإن قومي الهند قد أدركهم ثلاث خلال: أما واحدة فإنه مات من قومي ما بغضت إلي أرض الصين إلا بعدهم، والثانية ذهب أنفي وأذناي فكرهت أن ينظر إلي بالنقص من يعرفني بالتمام، والثالثة وهي أعظمهن عندي إن عجزت عن خدمتك لم أكافئك بإحسانك وإني لبصير بكيد الملوك وإدارة الحرب ولن يستغنى عني الملك لأن رجال الملك لهم آلات كآلات الصناع رجال للمشورة ورجال للحجاجة ورجال إدارة الحرب عند اللقاء ورجال يصلون الناس ورجال للخدمة، فلا يقوم للملك ملك ما لم يجمع هذه الطبقات من الرجال، وأنا أيها الملك معي عامة الخصال المحمودة وأنا أيها الملك من خاصتك ما عشت. فشكر له تبع قوله وفعله، ثم جمع نفير بنيه فقال: يا بني عليكم بالسمع والطاعة لجلهم ولا تنازعوا فتهدموا ملككم ولا تخالفوا. أمره فيجيش صدره عليكم، ثم أقبل إلى جلهم فقال له: ساجلهم لا تستأثر عنهم لملكك فيحسدوك ولا تطاول عليهم فيقتلوك ولا ترغب في أموالهم فيغضبوك، ابسط لهم وجهك ويدك وجنبهم سخطك وبطشك وكن لهم معقلا ومرتقى، أحسنوا حالكم يا بني فإنكم لن تروني بعدها ولن تخشى علي من سطوة تبع ولا من غدر العرب، إن لم أوت من قبلي لم أحذر ولكن أفي للملك بإحسانه وأكون بين يديه عمري. ثم رجع إلى تبع فقال له تبع: يا نفير أي وجه من الأرض آخذ عليها راجعاً عن بلدك، قال له نفير: العلم كثير والخير قليل والأرض واسعة والرأي يصيب ويخطئ وأنت أيها الملك امرؤ نبيل والطريق قطربيل والأمر يحدث والسيف

حيث أراد، واني أيها الملك أرى ما تلاه، فقال له تبع: وما هو يا نفير؟ قال: أنتم العرب لكم بأس عند اللقاء وسلامة صدور عند الرضا وأراك أكثرت في عساكرك من الأعاجم وهم قليل صبرهم عند اللقاء كبير غدرهم عند الرضا، فأخرجهم عن عساكرك لا وغرون صدور العرب فإن الفرس السوء تملي، واعلم أيها الملك أن الأعجمي يضطرب إلى الغدر كما يضطرب البازي إلى صيده. فأمر بهم تبع فشردهم من عساكره ثم قفل من أرض الصين ومعه نفير ملك الهند حتى بلغ إلى قطربيل، فآتاه أن الزط والكرد والخوز غدروا عساكره التي كانت عندهم من المرضى والجرحى، وكان أسباب علوم الدهر عن ذي القرنين وموسى الخضر وسليمان بن داود عليهم السلام وكان قريب العهد من سليمان فقال: أرقت وما ذاك بي من طرب ... ولكن بدا لي وهنا سبب قتلت جموعاً فأفنيتها ... وفي الأرض مني لقومي أرب وخبرت بالصين لي بغية ... ثياب الحرير وكنز الذهب فسرت إليهم بجيش لهام ... كثير اللهاء شديد اللجب لقيت من الترك آسادها ... فقتلتها حين جد الوصب فغادرت أيامها سدفة ... وموطنها بالقنا منهب لها عاصفات إذا وجهت ... تكاد الجباتل لها تنقلب وبالشرق والغرب آثارها ... وبالخافقين رياح تهب بأبناء قحطان من حمير ... بهاليل أسد صميم العرب رزان الحلوم نجوم العلوم ... خفاف المعاذير بيض النقب

فلما نزلت بأرض العراق ... عبرت العراق بعزم حرب فسار قباذ إلى فارس ... إلى البحر يسعى لأمر كتب فبادره الأقرن المستطيل ... سريعاً حثيثاً شديد الأرب واقبل صيفي منارض عمان ... لمن شذ منهم ومن قد قرب فكان ببابل يوم عبوس ... بقتل ذريع أليم النصب فخام قباذ وأشياعه ... وولي سريعاً حثيث الهرب رأى الموت تحت ظلال السيوف ... وحتى النفوس له يضطرب تجر المنية أذيالها ... فكان العزيز بها من غلب فأضحوا كأن لم يكونوا بها ... كذاك العزيز بها من غلب فأضحوا كأن لم يكونوا بها ... كذام الزمان إذا ما انقلب فاتبعه شمر في جمعه ... إلى القصر ذي شرفات الحجب سقينا البرية في دهرنا ... سماماً مدوناً بضرب القضب نقود الجياد لأقصى البلاد ... إذا ما قضينا قضاء وجب نهضت بجمع كمثل الدبا ... صباح الوجوه صلاب الحسب ربيعة منها هداة السبيل ... علوم المجال لنول الشعب وبأس إياد رفيع القذال ... طويل العنان شديد الكلب وانمار عند اللقا سادة ... تزيل النفوس وترجي السلب ترى مضراً عند ارزامها ... مكللة روسها بالذهب لها لجة عند نار الوطيس ... ببيض مضار بها تلتهب تصاممت عن نبأة أسمعت ... لقد صرحت عن حديث عجب لقد جد غدر بني يافث ... وجد المنون بهم فاقترب عذيري لحرب تلافيتها ... لقد ألهبوا بأسها والتهب

جموع ليافث لما بدت ... تريد النزال فتمسي حصب لقد غدروا بعدما أكدوا ... مهاريق عهد يقوم غيب سيعلوا المشيب على طلفها ... بيوم مخوف ولما يشب وسوف إذا ما اقتضاني الردى ... يلي الملك بعدي كآل قسب ويستلب الملك من حمير ... مجوس وسود عليها رهب وينقلب الدهر عن وجهه ... ويضحى به الرأس تحت الذنب للعشرين حولاً بها يقتلون ... ويستلب الجمع منها الحلب إلى أن يلي الملك من هاشم ... بني أمين كريم النسب رسول من الله أتباعه ... على الحق منا رجال غلب فلو مد عمري إلى عمره ... لفرجت عنه جميع الكرب واني أدين بما دانه ... ولا أقول له قد كذب فيبلى به الله من خلقه ... قرونا من الناس أعطوا الغلب وتأتي العجائب من بعده ... إذا ما بدا نجمها ذو الذنب وتأتي الدلائل حتى ترى ... لهم الشم عن أسرها تنقلب ويرقى الدخان بآفاقها ... ويعلو بيثرب صوت صخب إذا قتل الروح روح الرضا ... وسالت دماء بني المطلب هنالك خسف بأرض الحجاز ... فلا تنظر العين غير الشهب ويأتي على النيل حيشانه ... إلى البيت قصداً لها بالقضب يهدون منه ذرى سمكه ... ويعلون أركابه بالصلب كأنه لم يكن حرماً قبلها ... إذا أعاد نهباً محالاً خرب يقوم بها من بني حمير ... كريم شجاع كريم النسب

حديد السلاح رفيع الصياح ... ربيط الجنان لها محتسب فيأتي بقوم من أقصى العراق ... ومن حضر موت ومن ذي حلب ثمانين ألفاً على نجبها ... فليس لهم عندنا منتصب ويقتل بالنيل أملاكهم ... ويعطب في لجة من عطب ومن بعده الملك في حمير ... يقوم به الماجد المغترب ومن بعده الموت يزجى بنا ... إلى البعث والفصل غير الكذب قال أبو محمد: ثم سار تبع شمرؤ يرعش حتى بلغ دينور ونهاوند وسنجار فقتل من أصاب بها من بني يافث وهم الزط والكرد والصغد والخوز وسبى النساء فقال لهم تبع: احبسوا ما أخذتم من نساء الصغد والزط ولا تحسبوا من نساء الكرد والخوز سباء بيعوهن فإنهن يفسدن النسل ويغيرن العقل ويدلن الألسن ففعلوا ومضى تبع حتى بلغ أرض فارس، فقدم على فارس بلاس بن قباذ وجعله بأرض فارس وأرض خراسان، ومضى تبع فسار على الشام إلى أرض بابليون فأصاب الحبشة على النيل نازلين، فلما علموا بتبع وقد قاتلوا مصر شهراً بعثوا إلى تبع بهدية ليداروه بها حتى يخلصوا من بين يديه من أرض بابليون، فلما انتهت الهدية إليه أي إلى تبع جمع رجاله فقال: هذه هدية الحبشة فما رأيكم؟ فقال المعترف بن عامر الحميري: أيها الملك لن يجوز سخر هذه الخدعة عن ذي لب رصين، قال له نفير: أيها الملك من رام أن يخدعك حمل النقص على عقلك، قال مقداد بن ينفر بن شرحبيل الحميري: أيها الملك لو راموا مسألتك لم يزحفوا إلى قومك ولو أرادوا برك أهدوا إليك من أرضهم إلى أرضك ولا يخدع بهذا الخدع إلا أم عامر فتمكن من عدوها

نفسها في بيتها ونصف حمق الدنيا في رؤوس السود وقد راموا أن يسخروا من الملك فهلا قدموا هديتهم قبل الزحف إليك كما قدموها قبل الهرب. فعبر إليهم النيل فقاتلهم بالقس والبهنسة أياماً، ثم هزمهم وتبعهم على النيل يقتلهم، فلما رأوه أمعن في طلبهم زالوا له عن النيل إلى الرمل فافترقوا له في الرمل فقتل من قتل وتلف من تلف في الرمل وبقي أياماً فكاد يهلك ويهلك معه عطشاً حتى أفضوا إلى ماء معين ورمل مبسوط فنزل وأقام بها عشرين سنة يغرس النخيل ويبني القصور ويتخذ المصانع حتى بعث الرواد والأدلاء إلى أرض الحبشة وعلموا مسالكها ومناهلها، ثم رجعوا إليه. فرجع إليهم فدخل عليهم أرضهم فانتصب له أملاك الحبشة من ارض فقاتلهم قتالاً ذريعاً فلم يكن لهم به طاقة غلبهم بالنبل، ولم تكن الحبشة ترمي بالنيل إلا من زمان تبع شمر يرعش - فداس أرض الحبشة وقتلهم قتلاً ذريعاً فهربوا إلى غربي الأرض إلى البحر المحيط وتبعهم تبع فهبت عليهم ريح سوداء من نحو البحر المحيط فهلك جمع من عساكره. فقفل عنهم راجعاً فجعل طريقه على أرض بني ماريع بن كنعان فقتل أمماً وهربوا إلى فنن الجبال فبلغ البحر المحيط، ثم رجع قافلاً إلى المشرق فمر إلى قمونية وتمادى إلى أرض بابليون ثم مر على الشام وعبر الفرات والدجلة يريد زيارة قبر أبيه تبع ناشر النعم بسنجار، فبلغ سنجار، ثم أمر أن يكتب على باب مدينة سنجار - وهي أعظم مدينة بأرض سمرقند - جنبيه وكتب فيها بالمسند: هذا ملك عرب لا عجم لشمر يرعش الأشم نزلها في الشهر الأصم فروى السيف من مهج ودم من فعل

فعلي بعدي فهو مثلي ومن جاوزه فهو أفضل مني بريت قسمي ووفيت لذمتي. قال أبو محمد: حدثني عامر بن جرهم الأنصاري عن مكحول عن الشعبي، قال: حدثني رجل من خيوان همدان يقال له عبد الله قال: بينما نحن بالصغد مع قتبية بن مسلم الباهلي حين افتتح سمرقند ونظر إلى حجر في جنبة باب مدينة سمرقند وفيه خطوط كأنها بالعربية وليست هي قال قتيبة: والله إني لأظن هذا حمقات حمير اطلبوا في الجند رجلاً حديث العهد باليمن يعرف كتاب حمير فوجد فانطلق به إلى قتيبة فقال له: اقرأ هذا الكتاب. فقرأه فقال قتيبة: ما أرى بتبع من حمير إلا الآثار فما في هذا أعظم شيء وهذا أنا بلغتها. قال له الحيواني: يا قتيبة لم تصغر بالأول ولكن بالآخر إن بلغت الصين وجاجا وقطربيل فقل - فاسكت قتيبة - ثم قال: يا قتيبة تقدم فرسخاً وإلا اشمت بضعف الإسلام. قال: فرجع من سمرقند. قال أبو محمد: ورجع تبع إلى اليمن يريد غمدان فقال الباني بن قطن ابن مالك بن همدان بن منتاب الحميري شعراً: تقول عرسي حين جد النجا ... حتى متى أنت تريد النوى أليس في عيش قد أوتيته ... مقام ذي الدهر بعيش غلا قلت فقد قلت فما خيرنا ... بعد الذي فيه الطيب الثنا إنا نرى أن أك ذا هبوة ... جليسكن اليوم دون الوغى وجارح اقصدني سهمه ... ماذا عليه في الهوى لو وفا

يرمي ولم يرم فما أخطأن ... وراش بالسهمين لما رما رمى بطرف العين الطرف غيري فما ... جادت به عيني سهام الردى ويحك يا مي على ما الذي ... قلت على ماذا تطيل النوى وحمير تسمو بأفعالها ... فيها أسود البأس يوم اللقا وشمر رعش ذو النهى قادها ... يريد بالشرق اغتنام النسا فقد وطئنا أرض حمر بها ... وساعفت منا ليوثاً ضرا وكان يوم شانه معظم ... وقرت العيان يوم الفنا فسائلي يا مي عن يومنا ... في مغرب الأرض بيوم الوفا يخبرك من يعلم أفعالنا ... بصبرنا عند حلول اللقا إنا لنعتام رؤوس الوغى ... فقد جميع الناس ذبح وحى كانت لنا الأيام مأمورة ... والدهر نجريها بحكم القضا فآبت الفرسان من حمير ... بكل بيضاء كعفر الظبا وحل من سنجار قطانة ... فشيد القصر بصم الصفا وغودر الصين على بابه ... يجيب للداعي متى ما دعا فأصبحت جاجا وقطربيل ... يحدوهما الدهر لغير البقا أثر في آفاقها تبع ... أثراً يزيل الريب عن ذي العمى تكون للعابران هو رأى ... أمراً إعجاباً منه بعد الثنا ورجع تبع شمر يرعش بن عمرو ناشر النعم إلى قصر غمدان، وقد ملك الأرض كلها ودانت له ملوكها. فجمع أبناء ملوك حمير ووجوه العرب فقال: معاشر العرب عندنا علم مصون مكنون نعمل بأمره ونزدجر لنهيه ونتبع الأثر ويهجم علينا الأمر وقد غيب عنا القدر فحيناً تخطئ وحيناً نصيب وكل إلى غاية ومدة، وقد جاريت الدهر وقضيت

ولم يقض لي وحاكمت فحكم عليّ، فإذا كان ما هو كائن فإن ابني صيفيا هو تبع ثان، فإن رأيتم خيرا منه فلكم، وإن رأيتم شراً فالأمر للعام لا للخاص، قدموا أفضل منه. ثم قال: سرت على الآفاق كالشمس ... بين طلوع السعد والنحس أجوب غور الأرض في أثره ... بما رج للعلم عن أس أوجفت بالخلق فلم أنتظر ... أسير في رفق وفي همس انقل من أرض إلى أرضها ... أصبح في أرض ولا أمسي كنت على الأرض كشمس بدت ... تشرق للناس بلا حس حتى إذا عادت إلى حجبها ... عاد ضياء الشمس في طمس حفظت ما خولت حتى إذا ... سلبته أمهل عن نفسي من ذا يرجي العيش من بعد من ... حاط جموع الجن والأنس أفصح ذو القرنين يوماً على ... ترجمه العالم في طرس لا يصحب الأيام إلا امرء ... غاد وإن خلد كالأمس والدهر يحدو أهله مسرعاً ... عن زهرة الدنيا إلى رمس ثم مات تبع شمر يرعش فكان عمره ألف سنة وستين عاماً، وكان قد منع الولد فلم يولد له إلا بعد ثمانمائة عام. فقال الباني بن قطن ابن همدان بن مالك بن منتاب الحميري يرثى تبعاً: أيها السائل الحوادث جهلاً ... هل سألت الزمان عن شمر رعش ملك أطد الجبال فلت ... وأطاعته حيث يمشي فتمشي قاد بالصين من تهامة حتى ... ترك الهند بين بهش ونهش كاد نفير حين كاد وولي ... ترك الجيش بين قفر وعطش

لم يهب للزمان صرفا فأعطاه ... مقاليده على غير غش وردت خيله نهاوند تسقي ... أهلها المرهفات عن سم رقش ساعدته الأيام حتى إذا ما جدت ... هفوة أراشت بهش قصدته من المنون سهام ... حملت شلوه على ظهر نعش وقال أيضاً: عاد رهن الهمود والأطلال ... نصباً للصبا وريح الشمال شمر رعش ومن كشر إذا ما ... طرفت بالعضال إحدى الليالي بعد ملك وعزه واقتدار ... لم يجد للردى محيداً بحال وقال تبع الأقرن بن تبع شمر يرعش يرثى أباه: يا بعد تبع حين شط مزاره ... بل بعد حالي عزتي وفلاحي لم ترتقي زهر النجوم لموته ... فالموت أفلته عن الإصباح لم ترتقي زهر النجوم لموته ... فالموت أفلته عن الإصباح ناحت مقلقلة فقلت لها اذهبي ... دهري ودهرك هالك الأنواح قلي العويل أو كثري فلك العزا ... أن المنية منهل الأرواح هل بعد ملك الصعب يرتجى ... يهدي بكل مسا وكل صباح ملك السعود بكل أرض حكمه ... تبع الهدى مستبصراً بنجاح سامي إلى الظلمات عن أسبابه ... والشمس تسجد في حما الضحضاح ولي وخلف ذكره من بعده ... وهما لنا شبحاً من الأشباح قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أبيه عن جده محمد بن السائب قال: حدثني أبو صالح عن ابن عباس، إنه قال: أول ملك أمر بصنعة الدروع السوابغ المفاضة التي منها سواعدها وأكفها وهي الأبدان تبع شمر يرعش بن ناشر النعم. قال أبو محمد: جعل على فارس ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله على فارس بلاس بن قباذ. وجعل على الروم ألف درع يؤدونها كل

عام، وكان عامله على الروم ماهان بن هرقل، وكان بلاس متوج في فارس وهرقل أول متوج في الروم، وفي استعماله لفارس الدروع يقول امرؤ القيس مهلهل بن ربيعة بعد ذلك الزمان شعراً: سيبكي كليباً كل عاق وعامل ... وخطية سمر وخيل عوابس وتبكيه بيض للخدود لواطم ... وما ذية مما اقتنتهن فارس وكان أصعب الدروع دروع الروم وهي كذلك إلى اليوم، وجعل على أهل بابل وعمان والبحرين ألف درع، وكان أهل اليمن ألف درع. وأحسن السيوف اليمانية والدروع الفارسية، وكان بلاس ملك فارس يرسل بما عملت فارس من الدروع مع إتاوة إلى تبع شمر يرعش، ويرسل ماهان ملك الروم من الدروع بألف مع إتاوة إلى تبع شمر يرعش وفي ذلك يقول مسلم بن الوليد في الإسلام: من حمير نسل العرنجيج إذ جرت ... لهم على حقب الزمان دهور ملكوا على الدنيا فما أحد بها ... إلا وهو في حكمهم مقهور أعطاهم ذل الإتاوة قيصر ... وجبي إليهم خرجه سابور وفي تبع شمر يرعش يقول أبو ذؤيب الهذلي بعد زمانه: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داوداً وصنع السوابغ تبع وهذا البيت له في شعره الذي رثى به بنيه اذ قتلوا بذات الهجال. قال أبو محمد: كان يؤتى بها إلى تبع كل عام طول مدته. قال أبو محمد: وكان مما حقق أمر ذات الهجال إنه كان أديار بين بني يعصر بن سعد بن قيس بن الياس وهو عيلان - وإنما سمي الياس

عيلان - لفرسه، وكانت له فرس تسمى عيلان. وكان بنو يعصر باهلة ابن معن بن يعصر وغني بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر يطلبون بني عمرو بن مدركة بن الياس بن مضر بذحول سلفت لهم (فكان يغير عليهم). وبنو عمرو بن مدركة هذيل بن عمرو بن مدركة بن الياس ابن مضر ولحيان بن عمرو بن مدركة والقارة بن عمرو بن مدركة، وكان يغير عليهم ثابت بن جابر وهو تأبط شراً. - وإنما قيل له تأبط شراً لأنه سارق صرة فمر على حاو فسرق جرابه وفيها حيات وظن أن فيها مالاً وانه تاجر فتأبطها. فلما خلا بها فتحها فرفعت إليه الحيات رؤوسها فألقاها وقتل الحيات - وقال: ضل عن سيده ولبده من حمل حتفه بيده وكان أحد السرعان، وكان يغير راجلاً مسيرة سبعة أيام يمشي الليل ويختفي نهاراً، وكان أجسر أهل زمانه تطلبه الخيل فلا تناله ويفوتها بسرعة قاتل الأصمعي عبد الملك بن قريب الباهلي: كان يثير الظبي، ثم يطلبه فيدركه، وتأبط شراً هو القائل: عوى الذئب فاستأنست إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير رأى الله إني للبرية مبغض ... ويشنؤهم لي مقلة وضمير وفيه يقول السليك بن السلكة أحد الغرابيب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا من خلال المسالك إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالي من قلب شيحان فاتك ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخضر باتك

يهب هبوب الريح عند انحراقها ... ويسري على نهج النجوم الشوابك تكل متون الصافنات إذا جرت ... تباريه أو تدمي نسور السنابك فكان يغير على هذيل ولحيان نهاراً ويغير على القارة ليلاً يتقي نبلها لأنها كانت أرمى العرب بالنبل لا تخطئ ما تريد، وقال في ذلك ابن عباس: قد أنصف القارة من رامها ... عن مقوس الغلوة أو ساماها وان تأبط شراً أغار على هذيل راجلاً فقتل قوماً أصابهم على ماء لهم فناموا وهم لا يعلمون إنه تأبط شراً، فقام إليهم فقتل منهم ثلاثة نفر ونجا منهم واحد ستره الليل ونادى في نادي قومه: يا بني هذيل والله ما أعلم أذل من قوم قتلهم تأبط شراً في حريمهم وغنم أموالهم ونجال سالماً. فنفرت هذيل خيلاً وراجلاً في طلبه فاقتصوا أثره - وتأبط شراً أشغل بسوق الغنائم - فما شعر حتى أدركته الخيل مع الليل فتثاقل في وعث من الأرض حتى أدركته الرجل فأسلم الغنيمة وولى هاربا، وتصدى له رجل من القارة كان مع هذيل فرماه بسهم فأصاب ودجه فصرعه فتعاوره القوم فقتلوه واستاقوا أموالهم التي غنم لهم ورجعوا. وبلغ خبر ثابت تأبط شراً قومه باهله وغنياً ابني يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان فركبوا إليه ليرفعوه فأصابوا كل ما أكل من لحمه من سباع الوحش وسباع الطير وهوام الأرضي موتى حوله. قال أبو محمد: قال الأصمعي وزعمت العرب أن لحمه سم. قال: وكان غذاؤه العلهز وشحوم الحيات وهبيد الحنظل ويحنذ قومه الحيات، فزعموا إنه إذا عض من كان غذاؤه هذا أحداً ممن كان غذاؤه البر واللحمان والغذاء الحسن، وأثر في لحمه بأسنانه إنه يبرصه أو يجذمه أو يقتله.

قال عبد الملك: وإن الهجال ابن امرئ القيس الباهلي ابن أخت تأبط شراً - وكان رئيساً شاعراً فارساً - استدعى باهلة بن معن بن يعصر وغني ابن يعصر ونصرهم أخوانهم من بني سعد بن قيس بن عيلان، وهم بنو غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ابن معد بن قيس بن عيلان، وعبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، وبنو عبد الله بن غطفان، وبنو ثعلبة بن بكر بن غطفان. وأشجع ومحارب ابنا غطفان. وهؤلاء القبائل أخوة، وبلغ ذلك أبو ذؤيب - وهو عمير بن مرثد زيد بن عامر بن قراد بن هذيل - وكان أبو ذؤيب معمراً، فجمع أبو ذؤيب هذيب بن عمرو، ولحيان بن عمرو والقارة بن عمرة بن مدركة ابن الياس بن مضر فقال: يا بني عمرو آتاكم جمع بني سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وأرى بني مدركة بن الياس وطابخة قطعوا رحمهم منا وحقروا ودنا وأضاعوا ذمامنا واني سائر إلى بني الشقيقة - وبنو الشقيقة بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة قريش وبنو بكر وبنو أسد بن خزيمة وغفار ابن خزيمة ومدلج بن خزيمة - وأمهم شكل بنت عمرو أخت هذيل ولحيان والقارة، وكان رئيس بني خزيمة عمرو بن بكر الأسدي - وكان يكنى بأبي الهزبر - فآتاهم أبو ذؤيب فقال: يا أبا الهزبر ان بني قيس بن عيلان تناصروا علينا بثأر تأبط شراً ثابت بن جابر الفتاك فما فعلكم يا بني الشقيقة؟ فعزمت قريش وبكر - وهما كنانة على نصر أبي ذؤيب - فقام عمرو بن بكر الأسدي فجمع بني فقعس بن أسد ودودان بن أسد ومدلج بن خزيمة وغفار بن خزيمة فقال: يا أخواننا، ما لأخوننا كنانة قريش وبني بكر يسرعون إلى حرب قيس يحملوننا على الضغائن ويورثوننا أحقاد قيس بن عيلان فإنما حكمه على رد أبي ذؤيب وخذلان هذيل ولحيان والقارة

مخالفة لذبيان وعبس وذبيان ابنا بن ريث بن غطفان - هم الأحلاف - فلما بلغه زحف ذبيان إلى هذيل والقارة، لم يرد أن يزاحف بني ذبيان بالحرب فقال سهم بن بكر البكري: يا بني كنانة إن أسداً أقرب إليكم من هذيل، وإنا إن طلبنا رضا هذيل بسخط بني أسد وغفار ومدلج لم تربح ومن اشترى وجد قريب برضا بعيد اشترى خسراناً. فلما يئس أبو ذؤيب من نصرة بني خزيمة، رجع إلى قومه فقالوا له: ما الذي أجابك به القوم؟ فقال: يا قوم من نصره الله وخذله أبو الهزبر فمنصور ومن خذله الله ونصره أبو الهزبر فمخذول، وأنشأ أبو ذؤيب يقول: ألا لله نصره آل عمرو ... وليس إلى الخليع أبي الهزبر أبعد المنذرين أرى سؤالا ... يرد بدعوة من غير عذر تحامتنا الفوارس من معد ... بخذلان وهل شفع كوتر أبعد فوارس النعمان أسعى ... إلى الأقيال من أسد وفهر وثقت بعامر وبني أبيه ... ومن عدوان أدعو كل صقر طويل الباع أبلج مشرفي ... أشد به على عزمات دهري وطابخة الذين رأوا مقامي ... وأهل العز من أبناء مر وقوله (طابخة الذين رأوا مقامي) أراد بذلك نصرة بني طابخة - وهم تميم بن مر بن اد بن طابخة، ومزينة بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر - وقوله (وثقت بعامر وبني أبيه) يريد عامر بن الظرب العدواني - إمام مضر وحكمها وفارسها وخطيبها - وهو عامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ ابن يشكر بن عدوان، واسم عدوان الحارث بن أسلم بن قيس بن عيلان، وإنما سمي الحارث عدوان - لأنه عدا على أخيه فهم بن أسلم بن قيس بن عيلان

فقتله فسمي عدوان - وكان بنو عدوان اعز قيس بن عيلان - وذلك أن عدوان كان كثير المال - فولد له ثلاثون ولداً كلهم أعقبوا. فلما بلغ قول أبي ذؤيب إلى عامر بن الظرب العدواني، جمع بني عدوان وسار يريد نصرة أبي ذؤيب، وكان أبو ذؤيب حليف عدوان، فقال زهير ابن مرخة العدواني: كبرت وساويت طمساً وعاداً ... ولابد مما ألاقي المعادا أقول لقومي ألا فاسمعوا ... وإني أرى القول فيه سدادا دعتني هذيل إلى نصرة ... أطيع عميراً بها حين نادى فأقسم لا بد من موته ... وتسمى عظامي رفاتاً رمادا وعاذبكم عائذ فاعصموا ... ولبوا دعاه إلى ما أرادا ومن لم يكن غرضاً للردى ... يجازى من الدهر حتماً سدادا وإن عامر بن الظرب لم يصل إلى هذيل ولحيان والقارة حتى نزل عليهم الهجال بن امرئ القيس الباهلي ابن أخت تأبط شراً، وكان نزل هذيل والقارة ولحيان بذي قار، فقاتلوهم قتالاً شديداً فانهزمت هذيل والقارة ولحيان فقتلوا قتلاً ذريعاً. قال أبو محمد: فمن يوم ذي قار الأول صارت هذيل والقارة ولحيان أقل حي في مضر. فلما انصرف الهجال - وكان حرم على نفسه الخمر حتى ينتقم لخاله تأبط شراً - قال الهجال بن امرئ القيس يرثى خاله: أطرفك مأموم أم الوجد مانع ... أم الأشوس الفتاك عن ذك شاسع فمتى كان شهم النفس للذل دافع ... وإن سيل عرفا فهو بالجود نافع

يشيم يروق الموت عن كل مأزق ... ويسرع إقداماً إذا لاح لامع حديداً كنصل السيف ينهض للوغى ... تلاعبه فيه السيوف القواطع ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع وما شاب من أعوام دهر تطاولت ... عليه ولكن شيبته الوقائع يغادي أناساً كل يوم بفتكه ... وينأى فلا تأويه إلا البلاقع يسامر رجل الجن في فلواتها ... تباريه في ميدانهن الزعازع يطيل الطوى في العارمات وتارة ... له من سرابيل السموم مدارع يجاري مدى الآجال والأمر غائب ... وكل فتى يوماً إلى الله راجع وما هذه الأيام إلا وديعة ... ولا بد مما أن ترد الودائع ثم قال أيضاً: إن بالشعب الذي جند سلع ... لقتيل دمه ما يطل قذف العبء على وولي ... أنا بالعبء له مستقل ووراء الثأر مني ابن أخت ... مصع عقدته ما تحل مطرق يرشح سما كما أط ... رق أفعى ينفث السم صل خبر ما نابنا مصئل ... جل حتى دق فيه الأجل بزنى الدهر وكان غشوماً ... بأبي جاره ما يذل يركب الهول وحدياً ولا يص ... حبه إلا اليماني الآفل ينفل المال منيلاً ويمسي ... وهو في الحي كريم مقل عل بصدق على حاذيته ... وله المغنم شربي محل إن رأى البأس فليث هموس ... أو رأى طمعاً فسمع أزل

يابس الجنين من غير بؤس ... وندى الكفين شهم مدل شامس في القر حتى إذا ما ... ذكت شعري فبرد وظل وله طعمان أرى وشرى ... وكلا الطعمين قد ذاق كل رائح بالخمر غاد عليه ... من ثياب الحمد ثوب همل فهو في المهمة سمع صموت ... ولدى الأحياء أحوى رفل افيح الباب مفيد مبيد ... جاد من جدوى يديه المقل فلئن فلت هذيل شباه ... لبما كان هذيلاً يفل وبما أبركها في مناخ ... جعجع ينقب فيه الأظل صليت مني هذيل بخرق ... لا يمل الشر حتى يملوا يورد الآلة حتى إذا ما ... نهلت كان لها منه عل تضحك الضبع لقتلي هذيل ... وترى الذئب لها يستهل وسباع الطير تهفو بطانا ... تتخطاهم فما نستقل وفتو هجروا ثم اسروا ... ليلهم حتى إذا انجاب حلوا فاحتسوا أنفاس نوم فلما ... هوموا رعتهم فاشمعلوا كل ماض قد تردى بماض ... كسنا البرق إذا ما يسل فاسقينها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي يعد خالي لخل حلت الخمر وكانت حراماً ... وبلأي ما ألمت تحل فأتى عامر بن الظرب بجميع عدوان إلى هذيل والقارة ولحيان وقد قتلوا فقال لهم شهاب بن أبي ذؤيب: كان الموت أقرب من نصركم يا قومنا فقال عامر بن الظرب: اقسم بالله قسماً حقا لأطلين بوتركم كل واتر. وتركهم فسار بنو خزيمة، فقال شهاب بن أبي ذؤيب لقوم بني أسد:

أكل بني الشقيقة قد أطاعوا ... على خذلاننا عمرو بن بكر لقد عدلوا برأي أبي ذؤيب ... وقد جهلوه رأي أبي الهزبر سيحملهم بذاك على هلاك ... بجعجاع لدى ضنك ووعر سيبلغ عنهم قابوس أمر ... يعز على بني سعد بن مر جلبت بفعلهم صبراً وحسبي ... بما ألقى به من مر صبري بنو شكل أضاعوني ولما ... يروا نصراً يعزهم كنصري أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ولو بعده أو قول ليت ... على لهف وما شفع كوتر فلم يجبه بنو أسد بشيء. فسار شهاب بن أبي ذؤيب مع أخوته يريدون بني طابخة - وكان بني أبي ذؤيب عشرة شهاب والحارث وزهير والأزهر والأزور وعمرو وعامر وسالم والقسور وسهيل - ركبوا خيلهم في درعهم ومغافرهم حتى بلغوا موضعاً يقال له ذات الهجال من أرض بني أسد فغشيهم الليل فنزلوا وهم في حزن من الأرض، وهم نازلون إلى أن أقبل قانص من بني أسد ومعه كلاب له وهو سباق بن سابق بن بكر ابن أخي عمرو بن بكر، وقد أرسل سباق الأسدي كلابه على ظبي والكلاب في طلبه. فلما مر بين أيديهم رموه بالنبل فعقروا الظبي وأصاب سهم كلباً من كلاب سباق الأسدي فقتله - فأتى الأسدي فأصاب كلبه مقتولاً فأغلظ على بني أبي ذؤيب - فقال له شهاب بن ابي ذؤيب: يا سباق أردنا الظبي والسهم يخطئ ويصيب، فتمادى الأسدي في غضبه وبطش علي الأزور بن ذؤيب فضربه بالسيف فألقى إليه المجن وضربه الأزور بالقوس فشجه في رأسه فولى ودمه يهطل على وجهه فسار حتى

هجم على بني عمه عمرو بن بكر وهم على خمر لهم وميسر، فقال لهم: أترضون بالذل وتقرون للضيم، أما والله ما أعلم أذل من قوم أتى ناديهم بنو أبي ذؤيب فضامومهم فألهبهم حمية وأسعرهم لهباً - فركب بنو عمرو ابن بكر واستنفروا بني أسد وأجابوهم وساروا يأخذون على بني أبي ذؤيب الشعاب ليلاً وبنو أبي ذؤيب لايدرون بذلك. فلما أصبح نهضوا إليهم فنقر من بين أيديهم ظبي أعضب فمر عليهم وهجم في غيضه اثل وضال، ثم ظهر إليهم جمل أجرب عليه رجل أعور، فقال شهاب بن أبي ذؤيب - وكان زاجراً شاعراً -: اركبوا فإن هذا ظبي أعضب عضب أمركم، وجمل أجرب جرب دهركم، ورجل منقوص مقص جمعكم، وسلك الظبي أثلاً وضالا يمر يومكم ويشوك جمع آتاكم وقال شعراً: قل لركب السرى بذات الهجال ... احذروا من مصارع الآجال أيها النائمون هبوا فهذا ... أعضب بارح بأثل وضال زجر الزاجر المترجم أمراً ... روعة الظبي عيلة الاقيال ورأى أثله من الخطب مرا ... وشبا ضاله صدور العوالي إنني والذي يحج له النا ... س حليف الهموم والأوجال يا تراث الأيام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها وصرف الليالي وخذوا من أخي التجارب نصحا ... وأفيقوا من نومة الجهال اركبوا مسرعين حتى وإلا ... صرتم بعدها كقيل وقال ثم آتاهم بنو أسد بالعدد وتداعى عليهم بنو أسد وعطف عليهم شهاب

ابن أبي ذؤيب يناشدهم الله والرحم. قالوا له: تركت العفو خلفك وأناخ الموت فرسك، فكان يعطف عليهم ولا يضرب، وتكاثرت عليهم بنو أسد فأصيب أخوه الحارث. فلما رأى أن الحارث قتل قال: يا بني أبي ذؤيب لا ينقذكم من شر اليوم إلا اليأس من غد، ثم هجم فأدرك فارساً لبني أسد فصرعه، ثم يكر القوم فقتلوا من بني أسد نفراً. فلم يزل بنو أسد - وقد أخذوا عليهم الشعاب - يتكاثرون عليهم بالخيل والرجل، وبنو أبي ذؤيب يسقطون واحداً بعد واحد حتى قتلوا العشرة، وأخذوا خليهم وسلاحهم. وبلغ ذلك أبا ذؤيب وعامر بن الظرب فركبا في هذيل وعدوان حتى رفعوهم وأتوا بهم - وكان إذا مات الشريف لا يدفن حتى يحضره أشراف العرب ورؤساؤهم من كل أوب - فنصب أبو ذؤيب على أولاده قبة على شرف ونصب عليهم لواء. فآتاه أشراف الناس من كل قبيل من العرب وىتاه قابوس بن النعمان الأكبر بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمير بن نمارة ابن لخم - وكان قابوس ملكاً بالمشلل - فجمع جيشاً عظيماً وأتى أبا ذؤيب. فلما اجتمع الناس إلى أبي ذؤيب فدم بنيه فنصبهم ووقف عليهم، وأنشأ يقول: أمن المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع إلى آخرها. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن الهيثم بن عدي عن أبي عباد الهمداني، عن محمد بن إسحاق إنه قال: لما اجتمع أشراف العرب إلى

عمير بن مرثد أبي ذؤيب الهذلي، قام المستوغر الأكبر وهو - سالم بن منفر بن سعد بن زيد مناة بن تميم - فقال: يا أبا ذؤيب لا تدفن أولادك حتى يتكلم أشراف الناس فتعلم من يخذلك ومن ينصرك. وأتى الأشراف إلى عامر بن الظرب فقالوا له: يا أبا مالك هذا مشهد عظيم وأنت إمام العرب وحكيمها فقم زودنا منك حكمة نتأسى بها بعدك ويدركنا نفعها - وكان معمراً عمراً طويلاً عمر ثلاث مائة عام - وإن أبا ذؤيب نصب كرسياً لقابوس بن النعمان الأكبر - والنعمان الأكبر محرق أول من عاقب بالنار وأحرق بها - وهو النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة - وعمرو بن عدي أول من ولي من لخم العراق وأول من حير الحيرة - فقام نمارة بن سعد من بني عمرو بن تميم فقال: أيها الناس هذا أبو ذؤيب يطلب عمرو بن بكر بثأر بنيه ولايطلب أسداً ويهدم شرف مضر - وكان نمارة بن سعد يعبد بيتاً يقال له ذو الخلصة - فقال أبو ذؤيب: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زوراً ... ولم تر النصرة فيه بورا فخفت أمراً لم يكن محذوراً ... إذ كان حتماً قتلنا مقدورا وكرهت العرب فعل بني أسد وعظم عليهم قتل بني أبي ذؤيب ظلماً فقام المستوغر الأكبر - وكان عمره ثلاثمائة عام - فقال: أيها الإملاء من أنصف من نفسه حمد عاقبة أمره ومن لم ينصف من نفسه ضلت حكمته ومن مارس الأمور حكمته ومن جارى الأحقاب افتنه ومن قامر

الدهور قمرته رأتني الأيام من حيث لا أراها، ذهب الطرب وبقي الجرب لابد من دعوة الداعي وإجابة المجيب، فقال شعراً: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وعمرت من عدد السنين كئينا مائة حدتها بعدها مائتان لي ... وازددت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يمر وليلة تحدونا هل ترغب الأرواح إلا ساعة ... تلقى سقاماً عندها منونا فانظر لما قدمت سوف تزوره ... حتماً وتمسي عنده مرهونا أيها الإملاء: ما رغبة امرئ القيس بالعيش إذ ليس بد من الموت وهو يرى موقف المظلوم من الظالم! أبت الأحساب الزكية والمناقب السنية من الأمور الدنية، أما إنه على كل امرئ منكم رقيب يأمره وينهاه، فإن من لا يرضى الظلم عدو للظالمين ومن والى الخالق نبذ المخلوقين ومن عرف الحق وجهل الباطل، هذا أبو ذؤيب بعد العز الرفيع والعدد الجميع والشرف المنيع تناولته الأيدي بالظلم وقد اضطر من ظلم إلى مانع عدل حكم فليس لكم قول صادق الخالق دون إيضاح العذر فقد أرسلكم إليه ووجه الأمر بالمقدرة دون المعذرة ومن حذر مائقاً فذاك مائق، وأنشأ يقول: وما كل ذي لب يعاش بعقله ... ولكن إذا قاد الأمور حكيمها برأي ذوي الألباب في الأمر يهتدي ... وهل يبرم الآراء إلا عليمها وقد يتقي المظلوم من ذي ظلامة ... بعير همام أو يطاع ظلومها وما سقطت يوماً من الناس أمة ... إلى الذل إلا أن يسود ذميمها فعندك عن هذا أو ذاك ما هما ... فهذا له حط وذاك سقيمها

وما قادها للخير إلا مجرب ... عليهم بإقبال الأمور كريمها إذا ساد فيها بعد ذل لئيمها ... تصدى له ذل وقد أديمها أيها الإملاء: من أبصر أمر ومن جهل أقصر إلا وإن لكل حيلة غيلة، ولكل ساقطة لاقطة، ولكل عوراء واع. افعلوا الخير وقوله ودعوا الشر واهجروه انبذوا الخبيث وانصروا المستغيث، من استنصر بكم فانصروه، ومن بغى عليكم فانذروه، ومن اعتذر إليكم فاعذروه. ثم قام عامر بن الظرب فقال: أيها الناس إن عامر الأيام طليق العوام وغرض الأسقام فد فنى وجرب على أسف وكلف كلفت بغرور الأمل وأسفت على شباب أفل منعت الدنيا وأعطيت الآخرة فتركى لمنزل أنا عنه زائل، أحسن من الغفلة من منزل أنا إليه راحل ذهب منا الجميل وتحكم منا البديل بدلت من الصحة سقماً، ومن الشباب هرماً، ومن القوة ضعفاً، ومن الجمال قبحاً. إني لأرى ما يعمل الإصباح وما يؤدي الرواح يتعاقبان فلا يملان ويذهبان، أما والله لئن مضيا فهم سفر يرتقبون ليلحق بهم الباقون، غلقت منهم الرهائن على خوف وآمان، أيها الناس: إن أحزم الرأي ترك ما يفوت والعمل لما يأتي به الموت وأنشأ يقول: لعمري لقد ذهبت الأطيبان ... شبابي ولهوي فعدوا الملاما ألم تر أني إذا ما مشيت ... أخطرف خطوي وامشي أماما وأكره شيء إلى مهجتي ... إذا ما جلست أريد القياما وأسهر ليلي على أنني ... أراعي الدجى لما أذوق المناما

وأرمي بطرف إذا ما نظرت ... كأن على الطرف مني غماما عدو النساء قليل العزاء ... كثير الأسى ما ألذ الطعاما أرى شعرات على حاجبي ... بيضاً رقاقاً طوالاً قياما أظل أراعي بهن النجوم ... أراها هلالا علا فاستقاما وأحسب أنفي إذا ما مشيت ... شخصاً أمامي رآني فقاما أرجي الحياة وطول البقاء ... وعفو السلامة عاماً فعاما وهيهات ههيات هذا الردى ... يريد صروفاً ليقضي حماما ولابد لي من بلوغ المدى ... والحق هاداً ونوحاً وساما ثم التفت إلى الملك قابوس بن النعمان فقال: يا بن وجه الزمان وثمرة الرأي ومعدن الملك وقاصف الجبابرة وعماد العز أنتم نعمة الله في أرضه وسخطه في خلقه بجودكم ينعم وبأسيافكم ينتقم، بكم يقمع الظالم وينتصف المظلوم من أشعر قلبه بغضكم طال غمه ومن أحبكم سعد جده ويومه استسعاك من رضي سعيك وقدمك، ومن أراد ينتقم بك نصر بك من استغاثك، ورضي بك من عهد عنك، فصدق عزمتك وعدك وتقدم وعيدك بأسك، فأنت الوزر وعندك الخبر والناس شتى والعمل لرب واحد. فأنت أيها الملك الرفيع جده والباسق مجده والطالع سعده من معرفتنا بحقك لم نرغب فوق رأيك رأياً ولم نرد منك عوضاً، فاجعل عفوك لنا فرضاً نمحص لك النصيحة محضاً، واعلم أيها الملك إن الحوادث أعداء الكرام فلا تطمئن إلى الزمان فإن له في كل بيان وقال: أرى الدهر سيفاً قاطعاً كل شاعة ... يقدم منا ماجداً بعدما جد وإن المنايا قد تريش سهامها ... على كل مولود صغير ووالد وكل بني أم سيمسون ليلة ... ولم يبق من أعيانهم غير واحد

ثم أقبل على عمير بن مرثد أبو ذؤيب الهذلي يعزيه فقال: يا عمير بنيت وهدمت وقمت وقعدت ورضيت وسخطت، ألا وإن كل بان هادم وكل قائم قاعد وكل مسرور ساخط وكل قريب شاسع وكل مقيم ظاعن. - يا عمير - إنما الخلق للخالق والأمر للآمر والشكر للمنعم والتسليم للقادر - فلا بد مما هو كائن. - يا عمير - لا أضعف من مخلوق ولا أقوى من خالق ولا أهون من مطلوب في يدي طالب - يا عمير - إن التفكر نور والغفلة ظلمة والجهل سفه والحلم أناة، الأول سابق والآخر تابع - والسعيد ومن وعظ بغيره - يا عمير - كم رأيت من قريح ولم يترك قريحاً - ياعمير - كم نازحاً من ريبه ومدركاً من طلبه مسلماً من دهره ممتعاً من سنه رمته أيدي الردى بطارق من عطبه والدهر لا يقلع عن حوادث من عجبه (من ير يوماً ير به والدهر لا يغتر به) - يا عمير - ذهب عنك ما تريد وآتاك ما لا تريد - يا عمير: - آتاك ما لا يدفع وذهب عنك ما لا يرجع ومعك ما سيذهب عنك - يا عمير: - أنظر إلى طبقات حالاتك من لدن من في صلب أبيك إلى أن بلغت منزلة الشرف وحد العقل وغاية العزيمة، هل قدرت أو قدروا أن ينقلوك إلى طبقة قبل أن تعطاها وتعجيل نعمة قبل أوان محلها، أين أهل الملك الأول بنو وائل بن حمير ذووا الأحلام المحمودة والآلاء الموجودة أهل التيجان ملوك الأزمان، هل وجدوا إلى ما أحبوا سبيلاً وتركوا إذا أصبحوا مقيلا وأخذوا مما جمعوا قليلاً - يا عمير: - إن أكمل العدد عند المصائب الصبر وأعظم البديل منها الأجر - يا عمير: - أين مفر الهارب وهو يتقلب في يدي الطالب، ولا شيء أعجز ممن لم يجد مهرباً من طالبه إلا إليه - ياعمير: - لا تخلق عزم

الرجال ببعض الظن وهلع الجزع فإن احمد الأمور أصدقها وأثبتها عند كما لها وبعد الابتلاء الحمد والذم - يا عمير: - لعمري قد أسمع الداعي واعذر الطالب وبلغ النبأ، فلا شيء أضيع من مضيع النفس وخطاه تسويف الأمل - يا عمير: - إن خير الأمور ما استكرهت عليه وأكرهها ما استدعيته ولم يأتك من استدعى أمراً لم ينزل به آتاه بما لا ملجأ له منه - يا عمير: - من طلب غير السلامة كان عقباه الندامة، من لم يشكر النعمة استعجل النقمة يا عمير - هل للجزع عاقبة تنفع أو مانع يدفع، فإن حاولت ذلك فأسال القرون الماضية والأمم الخالية قبلك هل تمنع من أسف وجزع أو خاب من صبر وقنع - يا عمير: - ليس ينزل بك ينهى ولا يرجع عنك مأمور - يا عمير: - أنظر الأيام ثلاثة: يوم مضى ولا ترجوه، ويوم أنت فيه لا بد منه، ويوم يأتيك لا تأمنه، فأمس واعظ واليوم غنيمة وغد لا تدري ما حكمه فأمس شاهد مقبول وأمين مؤد فحكم مؤدب وعظك بنفسه وأمضيت معه زاداً خيراً أو شراً وترك لك منه خلفاً لتحسن صحبته وهذا اليوم الذي أنت فيه صديق أدبك بغدره وبواك غير محله، سريع الظعن فأحسن له الصحبة يلقنك حجة ويحبوك شهادة، واليوم المقبل حاكم تنتظر قدومه، أما حبيب فلا تظلم أو فقد فلا ترحم - يا عمير: - الحرص فضول ما عناؤك في طلب ما هو لك وأسفك على ما ليس لك - يا عمير: - كيف ترجو أن يرجع إليك هالك وأنت به لاحق ورجاؤك البقاء بعده طمع في درك ما لا يكون وترك ما هو كائن والمرجع قريب ولا تمعن في الطلب فيطيح بك الأمل وتنأى بك

الغفلة، ومع الأمل الأجل ومع الغفلة الردى وإن أعظم من المصيبة هو كلف الخلف منها - يا عمير: - من مد يده إلى أخذ مالا يؤخذ انتشبت في يده الخيبة - يا عمير: - من معدن الجزع يستفاد الغنيمة. ثم أقبل على عامة الناس فقال: أيها الناس البقاء بعد الفناء والغناء بعد العناء والحياة بعد الموت والعرض بعد القرض اليوم العارية وغداً الهبة وخلقنا ولم نك شيئاً وسنعود ولا شيء ورثنا من كان قبلنا وإنا وارثون موروثون فاستخلصوا ما تقدمون عليه بترك ما تطمعون فيه وتسألون ما هو وتخبرون خيره وشره. ثم أقبل على بنيه وبني بنيه وقومه عدوان فقال: يا بني اتقوا إلهكم في الليل إذا دجا والنهار إذا أضاء وتجنبوا كل ما يخاف ويتقي وإياكم ومعصية الله فليس لكم وزر ولا لكم عن إلهكم من مفر، جودوا بالنوال وكفوا عن السؤال يا بني إن أعطيتم قليلا فلا تستقلوه فقد تحمل المروءة المرء إلى قدر ما لا تستطيعه يده وكافئوا بالإحسان إحسانا وبالسيئة غفراناً وعليكم بالحلم وليس في كل الأمور، فإن طول الحلم شين ولرب جهل عذرينا ولا تضمرا السفه فيعقبكم الذل وكونوا عند قولي شعرا: الجهل نار وماء مطفئها ... والحلم إن طال فيه نقص أحلام والذل عار وسيف الجهل كاشفه ... والجهل إن طال فيه ذل أقوام يا بني: لا تمنعوا سائلا محقاً كان أو مبطلاً فإن كان محقاً فلا تحرموه وإن كان مبطلاً فقد طرح رداء الحياء عن وجهه بالسؤال إليكم فأعطوه ولا تماروا عالماً ولا جاهلاً، فإن العالم يظهر حجته عليكم فيكشف جهلكم فينزلكم عن أقداركم - والجاهل بلد ويلح عليكم ويحرج ضغنكم - وربما

كان في الغضب العطب وإياكم والفخر المسلم إلى الكبر فإن معه تواكل الأعراض وإياكم والخمر - فإنها متلفة للمال، مضيعة للعمل، مفسدة للعقل هادمة للأبدان والآداب - وإياكم والتواني والكسل فإنهما يورثان الندامة وقد سبق، في ذلك قول مجاجة الكندي: اخرش بنفسك في المكارم والعلى ... لا خير في الجثامة النوام وإياكم والآمال الكاذبة فإنها تنسيكم الأقدار وتتلف الأعمار ويكون منها على كرب وانتظار، وخذوا الرأي إذا سمعتموه من أصغركم سناً وأقلكم قدراً ولا تأنفوا عنه ولا تسألوا أسيركم أكثر من ماله فيعجز ويموت في أيديكم وتكون مصيبة عليكم، وأكثروا العتاق في أسارى العرب يحبوكم وينصروكم، وأوصيكم بالضيف فإن كل قافل مكلم غيره فلا يخرج من عندكم وهو يستطيع أن يتكلم فيكم، وأوصيكم بجيرانكم أحسنوا مواساتهم ولا تغشوا منازلهم، وكفوا عن حريمهم ألحاظكم وألفاظكم ويجلوا ذوي الأسنان منكم وشرفوا علماءكم وسودوا ذوي الفضل منكم وأوصيكم بالحلفاء خيراً ولا تغرموا، واغرموا معهم في ناديهم فإنهم لكم سيوف ما داموا فيكم وينفعوكم إن ساروا عنكم، وارقبوا عورات نسائكم فإنها مسبة عليكم، وإذا نكح فيكم الغريب فاختاروا له أهل العفاف من نسائكم فأنتم أستر لعيبكم وإذا نكحتم في غربة فاطلبوا النجباء واغلوا الصداق أو فدعوا وعليكم بالصلة فإنها تزرع المودة وتميت الضغائن، وإياكم والغيبة فإنها تفرق الجماعة وتوغر القلوب وتورث الأحقاد واذكروا قومكم إذا غابوا عنكم بما تحبون أن

يذكروه منكم إذا غبتم عنهم، أحسنوا إلى أقاربكم يكن عز لكم عند مصائبكم. يا بني: خذوا من أدبي واحفظوا وصيتي ولا تدخلوا شيئاً في قبري فاني لم أزل كارهاً لثلاث: - الزناء والسرقة والغبية، لا فارقني جار ولا خليل عن قلي ولا حملني هواي على عيب كنت أعصي الهوى لطلاب العلى. يا بني: القالة سريعة والآذان سميعة وليس كل عذر مقبولاً، يا بني: أدركت كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر شيخاً كبيراً محجوباً والعرب تحج إليه فاخبرني إنه قد آن خروج نبي بمكة يدعى أحمد يدعو إلى الله البر والإحسان ومحاسن الأخلاق فاتبعوه تزدادوا شرفاً إلى شرفكم ولا تسارعوا إلى الحروب فإنها تهدم الأعمار وتخلق الأبدان، وإياكم وعهد الملك قابوس - فانه حليم ما استحلم سفيه وما استسفه رشيد وما استشرد وكفوا أيدي سفهائكم عن الظلم وإن ظلموا فانصروهم أحفظوا ترشدوا. وان الملك قابوس بن النعمان وعامر بن الظرب والمستوعز وأبا ذؤيب رجعوا إلى بني أسد بثأر بني أبي ذؤيب، وكان بنو أسد بن خزيمة وغفار ابن خزيمة ومدلج بن خزيمة نازلين قنان، فنزل بهم قابوس وعامر بن الظرب ومن معهم فقتلوهم وأكثروا القتل في غفار ومدلج، ولجأ عمرو ابن بكر وأولاده ومائة رجل من بني أسد إلى قنة جبل فأحاط بهم قابوس بجيوشه، فأخذه وبنيه ومن معه من المائة الرجل وأعطاهم لأبي ذؤيب الهذلي وقال له: هؤلاء وترك ولك الأمر فيهم، فرجع بهم أبو ذؤيب إلى قبور بنيه فقتل عمروبن بكر وبنيه وقال: انتم ببني ولاعدوان، وأطلق المائة من بني أسد وقال: من يجاوز في الشقوة يجاوز إليه الدهر. ثم سار الملك قابوس وزحف عامر بن الظرب بعدوان والمستوغر بمن كان معه من بني

ملك نبع صيفي بن شمر يرعش بن عمرو ناشر النعم

تميم وأبو ذؤيب بهذيل والقارة ولحيان إلى باهلة بن معن بن يعصر بن سعد ابن قيس بن يعصر وفهم بن سليم بن قيس فالتقوا بذي قار وهو يوم ذي قار فاقتتلوا قتالاً شديداً فكانت الجرة على باهلة وفهم وغني. قال أبو محمد اختلف الرواة: فبعض يقول أن يوم ذي قار الأول هو المعظم في أيام العرب لقتل هذيل ولحيان والقارة بني عمرو بن مدركة بن الياس بن مضر، وبعض يقول: اليوم الآخر يوم ذي قار لقتل باهلة وغني والقارة وفهم بني قيس عيلان بن مضر. وفي ذي قار الآخر قتل أبو المغوار الغنوي - وهو مارب بن سعد بن قيس بن الصعل بن قراد بنغني بن يعصر بن سعد بن قيس عيلان - وقتل معه أخوه المقداد. فقال كعب بن سعد الغنوي يرثى آخاه ماربا أبا المغوار وأخويه جبلاً والمقداد - وكان أبو المغوار فارس بني يعصر وجوادهم - فقال فيه أخوه كعب يرثيه بقوله: تقول سليمى ما لجسمك شاحبا ... كأنك يحميك الشراب طبيب إلى آخرها. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: لما مات تبع شمر يرعش بن عمرو ناشر النعم ولي الملك بعده ابنه صيفي بن شمر يرعش. ملك نبع صيفي بن شمر يرعش بن عمرو ناشر النعم قال أبو محمد: كان صيفي أجمل أهل زمانه وأجود التبابعة كفاً، فولي أهل اليمن باللطف والكرم وأقام بغمدان عشرين عاماً، ثم جمع

الجيوش وسار إلى مكة - كما كانت التبابعة العظماء قبله يفعلون - وكانت التبابعة منهم من يلي الجيوش في مشارق الأرض ومغاربها ومن ينزل مكة فيقيم بها ويبعث الجيوش: جيشاً إلى المغرب فلا يرجع إليه حتى يبلغ البحر المحيط، وجيشاً إلى المشرق فلا يرجع حتى يبلغ البحر المحيط، وجيشاً في يمن الأرض فلا يرجع حتى يبلغ البحر المحيط، وجيشاً في شمالها فلا يرجع حتى يبلغ البحر المحيط. فنزل صيفي إلى مكة وبعث الجيوش في آفاق الأرض، فأقام بمكة عشر سنين، وإن رجلاً آتاه فقال له: أيها الملك رأيت كأن الشمس سقطت في سملق من هذه الجبانة فابتعلتها؟ قال له عراف كان بمكة: أسكت هتك الله فمك، والله لئن صدقت رؤياك ليهلكن الملك، وإن الملك تبعاً لم يلبث إلا يسيراً حتى اعتل في وجهه بقرحة، فلم يقم إلا ثلاثة أيام ومات فسميت قرحة الملوك، فكان ملك تبع صيفي ثلاثين عاماً. فقال جلهمة بن العراف الكندي يرثى تبعاً: كر الليالي لآجال الفتى سبب ... يزجي له أثر بالحتم موقوتا يضحي على أمل يمسي على أجل ... بفجعة تترك الإنسان مبهوتا اعلم ولا بد إن طال المقام به ... لمنهل ثابت يأتيه مبغوتا لا يدفع الملك عن صيفي منيته ... فملكه صار بعد الموت موروثا قد كان شمساً على الآفاق مشرقة ... وتاجه محكماً دراً وياقوتا من كان لم يدر ما يقضي عليه غدا ... لم يبرم الأمر بالآيات منعوتا من قامر الدهر لم يحمد عواقبه ... والدهر قامر طالوتا وجالوتا احذر وإن كنت لا تمشي على حذر ... فالأمر عن غفلة من أمنه توتى

عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع

عمرو بن عامر مزيقيا ملك متوج تبع قال أبو محمد: حدثني محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عمرو بن عامر مزيقيا بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد - وإنما سمي مزيقيا لأنه كانت تنسج له في كل سنة ثلاث مائة وستون حلة، ثم يأذن للناس في الدخول فإذا أرادوا الخروج استلبت عنه وتمزق قطعاً - ولذلك سمي مزيقياً، وكانت الحاكة بمأرب تقيم له حلة في كل سنة نسجها ذهب أحمر، وكان له عيد من الحول إلى الحول تعدله، فإذا أراد الرجوع إلى منزله مزقت عليه. وكانت له سنة من ذي القرنين يوم هتك عرشه ومزق حلته، وكان فراغ الحاكة منها يوم عيده، ثم تمزق عليه. وإنما كان يغفل ذلك لئلا يتخذ أحد ما يلبس منها بعده. وكان اسم أبيه عامر ماء المزن لأنه كان إذا نزل بقومه جدب فتح بيوت أمواله وعالهم حتى يخصبوا ويقوم لهم مقام المطر إذا فقد وكانوا يقولون: كفانا عامر هو ماء المزن لنا وكان عامر ماء المزن ابن حارثة الغرف بن امرئ القيس الجواد بن ثعلبة الضمر بن مازن ابن الأزد. وفي ذلك يقول عمرو بن حرام جد حسان بن ثابت: ورثنا من البهلول عمرو بن عامر ... وحارثة الغطريف مجداً مؤثلا كرائم من أبناء نبت بن مالك ... ونبت ابن اسمعيل ما إن تحولا وإنما كان أول نقلة عمرو بن عامر من اليمن بالأزد وتفرقهم في البلاد إنه كان باليمن سد بناه يشجب بن يعرب بن قحطان وأتمه من بعده الصعب ذو القرنين عليه السلام.

وهو السد الذي ذكر الله في كتابه العزيز، وكان السد بين جبل مأرب وجبل الأبلق - وكان الأبلق متصلاً بالجبال الزرق - وإنما قيل الأبلق: لأنه في أرض سوداء فيها معادن اللجن وأرض غبراء فيها معادن العقان وأرض زرقاء فيها معادن الزبرجد والجزع - وكان يقال له الأبلق الباذخ - ومأرب الشامخ، فمأرب متصل بجبال عمان والأبلق متصل بجبال لجة وما فوق السد ستة أشهر وما تحته ستة أشهر يدركه نفع الماء وكان يأتي إلى السد سبعون نهراً كباراً سوى ما كان يأتيه من السييول من أرض حضر موت وأرض برهوت إلى باب الحبشة. فكان ما يلي مأرب عن شمال السد لبني كهلان، وما يلي الأبلق لبني حمير بن سبأ. فكان يحبس السد لما فيه من الماء سنة من الحول إلى الحول يسقون به جناتهم وزراعتهم وما حاولوه من أمرهم على قدر ما يريدون فكان كما قال الله تعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال} إلى قوله: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا نفسهم}. وكان لعمرو بن عامر مزيقيا من الجنات والزروع مثل ما كان لجميع أهل سبأ، وكان لعمرو بن عامر من الولد أحد عشر الأكبر ثعلبة العنقاء وحارثة وأبو حارثة وعوف وعلبة ومالك - قاتل الجوع - وكف ووداعة وعمرو وقيس وعبيد وأمهم مارية ذات القرطين بنت ظالم بن معاوية بن كندة بن مريع بن مالك بن عريب بن زيد ابن كهلان. وكان لعمرو أخ أكبر منه يقال له عمران بن عامر، وكان ملكاً متوجاً قبله، وكان كاهناً لم يكن في الأرض أعلم منه، وكان بيده علم من بقايا دعاة سليمان، وكان له حظ عظيم من ذلك، وكانت العرب لا تعدل بعلم عمران بديلاً وكان يخبر قومه أن بلادهم ستخرب آخر

الزمان حتى يفترق قومها في مشرق الأرض ومغربها، وكانوا يكتمون ذلك من قوله ويقولون: شيخ قد كبر وبلغ من السنين أربعمائة عام، وكان أخوه عمرو بن عامر قد بلغ ثلاثمائة عام. فلما حضر عمران الموت دعا بأخيه عمرو وقال له: يا عمرو إني ميت وهذه البلاد ستخرب ويفترق أهلها وإن لله عليها نعمتين وسخطتين: أما النعمة الأولى فهذه النعمة التي كنتم فيها، والسخطة الأولى: ينهدم هذا السد ويفيض عليكم فيهلككم ويهلك زروعكم وجناتكم وأموالكم وتفترقون في الأرض، والسخطة الثانية تغلب عليكم الحبشة. والنعمة الثانية: يبعث الله النبي محمد التهامي صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة ويغلب أهل الأوثان في آخر الزمان أهل الأديان فيخرجونهم من البيت الحرام ويخربونه، فيرسل الله عليهم رجلاً من حمير يقال له شعيب بن صالح فيهلكهم ثم يخرجهم منه، فلا يكون بالدنيا إيمانا لا بأرض اليمن. واني أخبرك بما يكون لك النجاة ولقومك وذلك أن امرأة من قومك يقال لها ظريفة بنت الحبر الحجورية - وهي وارثة علمي - فلما مات عمران وولي أخوه عمرو تزوجها وتتوج عمرو بعد أخيه، وكان عمرو أعظم ملك بمأرب وكان له تحت السد من الجنات ما لا يحاط به. كانت المرأة تمشي من بيتها وعلى رأسها مكتل فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة من غير أن تمس منها شيئاً وكانت كما قال الله تعالى {بلدة طيبة ورب غفور} وإن الرجل يمشي تحت ظلال الشجر شهرين فلا تصل إليه الشمس من كثرة الجنات حتى دعوا على أنفسهم فقالوا: {ربنا باعد بين أسفارنا} فأرسل الله عليهم السيل. قال: وإن ظريفة لما تزوجها عمرو بن عامر كانت ذات يوم نائمة إذ رأت كأن آتياً آتاها وقال لها: ما تحبين يا ظريفة علم تطيب به

نفسك أو مولود تقر به عينك؟ فقالت: بل علم تطيب به نفسي فجر بيده على صدرها ومسح بظاهر كفه على بطنها فعقمت فكانت لا تلد واتسعت في العلم وأعطيت منه حظاً عظيماً. فبينما هي ذات يوم نائمة إلى جانب عمرو بن عامر غذ رأت كأن سحابة غشيت اليمن فأبرقت وأرعدت فلم تقع على شجر إلا أحرقته، فذعرت ذعراً شديداً، فقام إليها عمرو وقال لها: مالك يا ظريفة فقالت: أزف بكم الغرق وآتاكم من الأمر ما قدر وسبق فخفضها عمرو حتى سكنت وقال لها: يا ظريفة ما تقولين؟ فقالت: وقلبها يختفق ودمعها يندفق: يا عمرو هلك النسل بالوحل. ثم إن عمرو ابن عامر لم يلبث أياماً حتى خرج إلى بعض حدائقه ومعه قينتان وله وبلغ ذلك ظريفة فخرجت تمشي تريده ومعها وصائف لها. فبينما هي تمشي إذ عرض لها ثلاث مناجد معترضات وهن منتصبات على أرجلهن وأضعاف أيديهن على أعينهن، فلما رأتهن ظريفة وضعت يدها على عينيها ونزلت إلى الأرض وقالت لوصائفها: إذا ذهبن هؤلاء المناجد فأعلمني، فلما ذهبن أخبرنها فقامت مسرعة فعارضها خليج جنات عمرو فوثبت منه سلحفاة فوقعت على التراب واستلقت على ظهرها ورامت أن تنقلب فلم تستطع فجعلت تبحث بيديها ورجليها لتنقلب فلم تقدر وعي تحثو التراب على رأسها وعلى بطنها تزرق بولها. فلما رأت ذلك ظريفة جلست والفت بيديها على عينيها وقالت لجواريها: إذا عادت إلى الماء فأعلمنني، فلما عادت السلحفاة إلى الماء أعلمنها فمضت مسرعة حتى دخلت الحديقة نصف النهار حين سكن الريح فإذا شجر الحديقة متناصلة يميناً وشمالاً من غير ريح، فمضت وعمرو في قبته، فلما رأى ذلك ظن أن غيرتها حملتها فاستحيا منها فأمر الجارتين فخرجتا وقال لها: مرجباً بك

يا ظريفة هلمي إلى فراشك وإن كنت قد أتيت في ساعة لم يكن المجيء من عادتك، فقالت: هيهات هيهات يا عمرو - تفاقم الأمر ومنع السر - قال: وما ذلك لله أبوك؟ فقالت: والنور والظلماء والأرض والسماء ليهلكن الشجر والماء، ثم الماء. ففزع عمرو وذكر قول أخيه عمران قال لها: وما ذلك؟ قالت أخبرتني المناجد بسبع سنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد وترمي بقومك إلى أرض المستجد وتوالون الأباعد. فارتاع عمرو وقالها: انظري ما تقولين! فقالت: إني أقول تلهفاً لما رأيت السلحفاة علت خليجاً آنفاً تغترف التراب بيديها غرفا ولا تني ببولها أن تقذفا، قال لها: هذا خطب عظيم، فقالت: إن الإنسان إنسان وباللسان الحق والبيان والدهر ذو غير وألوان والصمت خير من البيان وفي باطن الأرض كتمان وفي ظاهرها إيضاح وتبيان. فعلم عمرو أنها قد كرهت أن تخبره وعنده القينتان فقال لهما: اخرجا فخرجتا عنه، ثم قال لها: ما تقولين يا ظريفة؟ فقالت: أرى أموراً جسيمة تأتي بأوابد عظيمة وأموراً أبيمة أشأ من الهزيمة نهاراً أو عتيمة، قال لها: ويحك وما هو لقد أشرف مكروه؟ قالت: أجل ثم أجل قلتكن من أمرك على وجل ينجو بنو وائل ويهلك الوسائل وما لك من ناثل فكأني أسمع رنة القائل عند جولة القبائل فاحذروا ما تأتي به الدلائل فإن علمي جل عن سؤال السائل قال لها عمرو: بيني لي فإني رأيت في علمك نجاتي؟ قالت: أنعي لك تفرق الأحباب وذهاب الخيل والركاب والماشية والاهاب والذهب والفضة والثياب من السيل الأسود المنتاب. وكان عمرو متكئاً فاستوى جالساً وقال لها: بيني لي النجاة؟ فقالت: خطب طويل وأمر جليل والقتل خير من السيل، قال لها: صدقت فما وجه ما تذكرين. فقالت: أيت السد ولا تبعث أحداً

فيكون ذلك آكد فإن رأيت جرذاً يقلب برجليه الصخر ويكثر بيديه الحفر فاعلم إنه قد نزل الأمر فعليك بالصبر ولا تجزع للدهر، قال لها: أما ترين هذا الأمر؟ قالت: لا أدري غير إنه وعيد من الله نزل ونكال منه لم يكل، يقتل به من قتل لا يصرف عن سهل ولا جبل إلى حيث ما أراد الله من أرض وصل فليكن مغيرك يا عمرو التكل أو فلك الهبل. فانطلق عمرو إلى السد ولم يكل لغيره وكان يحرسه حتى رأى جرذاً يبحث برجليه ويقلب الصخر بيديه التي لا يقبلها أربعون رجلاً وذلك للذي أراد الله عز وجل وسبق في علمه إنه كائن فصدق ظريفة وعلم أنها صادقة فرجع إليها مغموماً فقالت له: ما وراءك؟ فقال شعراً: ابنة الجير والفلاح أصدقينا ... قد رأينا بعض الذي تعدينا قد رأينا الذي ذكرت يقينا ... إنما الدنيا غرور اللاعبينا قد رأينا الجرذ في السد يقينا ... فأشيري بالذي تعلمينا قالت: يا عمرو إذا ظهر الجرذ الحفار فاستبدل لنفسك داراً من دار وجاراً من جار فعندها تنزل الأقدار، قال: ومتى يا ظريفة؟ قالت له: ما بينك وبين سبع سنين ينزل الأمر اليقين وتحول البنين، قال لها: فكيف النجاة؟ فقالت: هيهات يا بن ماء المزن انقطع علم ذلك من كل ذي علم ولو علم ذلك أحد لعلكته ظريفة، ولا يأتي علي يوم وليلة إلا وأنا أتوقع ذلك. قال لها: وما علاقة ذلك. قال لها: وما علاقة ذلك؟ قالت: ادع بقدح من زجاج في مجلسك دون الرتاج وأضرم أمامه سراج فانه يمتلئ رملاً بلا مزاج. ففعل ووضع قدحاً دون رتاج مجلسه فما لبث أن امتلأ رملاً والريح لا تصل إليه. ثم قالت له: يا عمرو إذا رأيت الحصباء في شربك فاغتنم بيع أرضك واخرج إلى النخيل فإن رأيت سعفها يتناصل ويميل فارحل فقد آن

الرحيل وبع ما لك بمأرب من مال، قال: يا بنية الحبر يضيق بذلك الصدر وما على هذا الأمر من صبر. قالت: يا عمرو - النجاء النجاء من أقام غرراً أساء فاعزم ولا يخدعنك المنى فإن العجز عاقبته البلاء وإن الجلوس غرر فالحذر الحذر ولله الفعل والأمر يهلك من يشاء ويذر، فاصدق نفسك ولم ينجو منه ذو ناب ولا ظفر. فكتم عمرو أمره وعزم على بيع ما كان له بمأرب من مساكن وجنات وقصور واجمع أن يرحل بولده وأخوته وقومه وفزع أن ينكر عليه ذلك فأمر بمائة من الإبل فنحرها وذبح البقر والغنم وكان كثيراً ما يصنع ذلك فأصعم ثلاثة أيام وأرسل في جميع مأرب حتى لا يتخلف عنه أحد وكان عمرو قد أمر ولده ثعلبة العنقاء - وهو أكبر أولاده، وهو جد الأنصار - قال: يا ثعلبة إذا أمرتك غداً بأمر فاعصني وأغلظ علي في القول، فإذا ضربتك بالعنزة التي بيدي فالطمني، فقال له: يا أبت لا تساعدني يدي، قال له: إن لم تفعل هلكت أنت وأخوتك وقومك، فقال له: نعم. فلما اجتمع الناس أمره الملك عمرو فأبى عليه وأغلظ له في القول فصربه بالعنزة التي كانت في يده فلطمه ثعلبة ابنه، فقال عمرو: في يوم مجدي يلطم خدي فيه ولدي وأذلاه، فوثب الناس إلى ابنه ليقتلوه إعظاماً للملك، فقال لهم عمرو: لا تقتلوه فإن الرحمة سبقت له في قلبي من السخط، ولكني سأبلغ منه استطال ثعلبة وأطغاه علي المال ولكني سأعدمه وأبيع جميع مالي بمأرب تحت السد ونذر لله نذراً ليفعلن حتى يفقر ثعلبة ويدفع الأموال إلى أخوته وينتقل من مأرب إلى غيرها ويخلف ثعلبة. فقال الناس من أهل الشرف والقوة: اغتنموا من عمرو بن عامر غضبه وابتاعوا منه جميع ما كان له بمأرب فإن هو تمادى على غضبه فقد أفدتم أموالاً

عظيمة وإن هو رجع رددتم عليه أمواله وكانت لكم عنده يد فاشتروا منه جميع ماله. فلما قبض ثمن أمواله دعا بمالك بن النعمان - وهو سيد الأزد بعده - فأخبره الخبر ودعا بظريفة فقال لها: ما عندك يا ظريفة أين تريدين لنا السير؟ فقالت: يا مالك بن النعمان يا بن زيد بن كهلان - أهل الفضل والبيان - أرى أن تغدو من الغد ولا تقيم ساعة لو عد أمر يسير كالرعد فباعت عند ذلك الأزد أموالها وقالوا: لا نتخلف عن ملكنا. فسار عمرو في الأزد - وكانوا يعمرون أعماراً طوالاً - حتى إنه ليكون مع الرجل من ولده وولد ولده عسكر جرار، فكان كل سيد على من يليه، وكان مع عمرو ثلاثة وعشرون رهطاً من أولاده وأولاد أولاده وسائر ذلك، فلما اجتمعوا للسير دعا بظريفة فقال لها: يا ظريفة: أين تريدين لنا السير؟ فقالت: فيكم الأمير وعليكم التدبير. يا أهل المجد من سبأ الممزقة سيروا لنا فلا بد لكم من فرقة يتقدمها اليسار وتعفو الآثار فتنأى الديار وتطول فيها الأسفار وتنقضي منها الأوطار عجلوا ففي كل بلد لكم خبر كلما لتقيم نفراً كان لكم الظفر تتوارثون الملك بعد الملك وتلبسون التاج بغير شك وبدأ الأمر من عك. فسارت الأزد مع عمرو بن عامر وجعلوا على مقدمتهم مالك بن النعمان بن الجلهم بن عدي بن عمرو بن مازن الأزدي، فنما هم يسيرون إذ قال ظريفة: يا معشر غسان أنذرتكم من هذا المكان أنتم أهل العز والسلطان وفوراس الطعان وسيوف بني قحطان، قالوا: وما ذلك يا ظريفة؟ قالت: والسرابيل المحترقة التي يمشي فيها سملقة بالغدرة المعبقة والسيوف المطبقة قالوا: وما ذلك يا ظريفة فأمرينا بالسرعة إذا شئت والكف متى شئت؟ والأمر إليك، فقالت: إني أرى منكم إيضاحاً ووجوهاً صباحاً تسبق

الرماحا وتكثر الصياحا، قالوا: فأين ذلك يا ظريفة؟ فقالت: سيروا إلى عك بالسيوف، فلكم منهم صروف وضراب وحتوف. فزعموا أن ظريفة أول من سماهم غسان، وقيل أن غسان شرب مازن من السد وقال حسان بن ثابت: أما سألت فانا معشر نجب ... الأسد نسبنا والماء غسان وقد اختلف الناس في غسان فقالوا: هو ماء لبني زبيد نزل عليه بنو مازن فسموا به، وقال قوم: هو ما بين الجحفة والمشلل نهر يسمى غسان فنزلوا عليه فغلب عليهم اسمه، وقال أكثر العلماء: إنه شربهم من السد - وعلى هذا عامة العلماء - وغسان هم: بنو مازن بن الأزد خاصة وهذا وفق الأحاديث لأنه شرب لبني مازن من سد سبأ. فلما انتهوا إلى عك أرسل الملك عمرو بن عامر إلى سملقة بن حباب العكي يسأله في النزول في أرضهم قليلاً ثم يرتحلون عنهم إلى أرض غيرها، وإن سملقة سيدعك دعا قومه فقال لهم: ما ترون أن الملك عمراً قد أرسل إلي وقال: إنا قدمنا بلادكم وأردنا المقام يسيراً مقام الزيارة فواسونا قليلاً حتى نرحل عنكم، فما ترون في بني عمكم وقد سألوكم حسن الجوار يسيراً وقد كرهوا أن ينزلوا أرضكم بغير رضا منكم ولا إذن؟ فقالت عك: ذلك إليك يا سملقة غير إنه ما نزل قط قوم على قوم وعرفوا وجوه أرضهم فوطوءها إلا كانت لهم الغلبة عليهم. وقد قال يعرب بن قحطان: ويل للمنزول عليه من النازل المنزول عليه يلين الجوار والنازل مع ذلك متطول. فقال سملقة: ليس هذا من فعل عمرو بن عامر لأنه ملك، سيروا إليه بأسركم فإنه أقرب إليكم رحماً وأعظم عندكم منزلة من أن يفعل بكم هذا. قالوا له: امض أنت وافعل ما أحببت. فسار إليه سملقة فقال له:

أيها الملك اختر أي جانب من الوادي شئت ان شئت شرقيه وإن شئت غربيه فانزله. فقال له: جذع بن سنان - وكان صعلوكاً في غسان وفاتكها في ذلك الزمان -: أيها الملك الغربي أحسن لأنه مجمع السيول ومستقر الماء. فقال له الملك: الغربي أحسن يا سملقة. فنزل عمرو في غربي الوادي بمن معه وبعث ابنه حارثة رائداً مع رواد في خيل يرتادون له منزلاً، وبعث ابنه الحارث في جهة أخرى بخيل يرتادون له منزلاً، ثم نحر الملك عمرو وأمر بالطعام ونادى إلى عك فأجابوه إلى طعامه فأحسن إليهم وجملهم وأعطاهم - وإن عمراً بن عامر اعتل فمات قبل أن يرجع إليه ابناه - وستخلف ابنه ثعلبة العنقاء في قومه وأقام ثعلبة ينتظر أخويه المرتادين. قال: ونزل عند بني حارثة بن عمرو بن عامر وهم رهط جذع بن سنان رجال من الجن وفيهم قاشر الجني، فلما جلسوا حلبوا لهم اللبن وشربوا، فقال لهم قاشر الجني: يا معشر غسان ما بال لبنكم ليس كلبن بني عمكم عك، لبنكم مالح مصرح رقيق ولبن بني عمكم غليظ دسم؟ قالوا له: لا ندري لم ذلك! قال لهم قاشر الجني: نحن أعلم بذلك منكم، إنما أتيتم في أموالكم ومواشيكم من قبل الأرض وذلك أن بني عمكم أنزلوكم غربي الوادي وأسفل النهر ومستقر السيول فمواشيهم تشرب صفو الماء ثم تسرح في غربي الوادي فتستقبل الريح بوجوهها وتستدبر الشمس بظهورها فتسخن متونها وتنزل ضروعها وإذا طلعت الشمس طلعت مكانها فأصابت الكلأ قد اطعم نواره وذاب جليده وشرب نداه أصله فاستد نياته وزكى طعمه. قال: ونزلتم يا معشر غسان في غربي الوادي وأسفله فأنعامكم تشرب كدر الماء وتسرح شرقي الوادي وتستقبل

الشمس بأبصارها فتكل عن البذر وتضعف أبدانها وتستدير الريح بظهورها فتبرد متونها وتنكمش ضروعها، وإذا طلعت الشمس فلا تبلغكم إلا بعد ارتفاعها، فكلاكم ظليل أبداً لا يبرز زهره ولا يشرب نداه أصله - فمن ثم لبنكم رقيق مالح فكلموا بني عمكم يعاقبوكم من أرضهم قبل أن تهلك أنعامكم - قال: فعند ذلك بعثت غسان إلى عك اعقبونا من المنزل ولا تستأثروا علينا هذه الأثرة كلها، فقالت علك: يا قومنا الأرض أرضنا، وإنما أنتم ضر علينا ولولا السيد الكريم والملك الرحيم عمرو بن عامر ما أنزلنا كم ولو كنتم قد أخذتم الشرقي ما منعناكم فقد واسيناكم أفضل المواساة فلا تبغوا علينا فانه لا يسعكم البغي، فقال ثعلبة العنقاء: صدق بنو عمكم فكفوا عنهم فقد أحسنوا إليكم في مواساتكم فاخترتم منزلكم الذي أنتم فيه فلا تجعلوا لهم ذنباً لم يذنبوه غليكم ولا ذنب لهم ولا تبغوا عليهم وهذا منكم بغي. فقام جذع بن سنان - وهو أعور وأصم - فقال: صدقت أيها الملك. ثم أتى إلى ابن عم له يقال له زوبعة فقال له: إن الملك أراد أن يتم لعلك عهدهم - وهو حدث غر لا يعرف الشر من الخير - ولكن يا زوبعة لا بد لك أن تقتل لي سملقة بن حباب - وكان زوبعة صاحباً لسملقة - فقال له زوبعة: ويحك يا جذع إنه أخي وصاحبي فكيف أقتله؟ قال له جذع: قد أخبرتك، فأتى زوبعة الغساني إلى سملقة العكي فقال له: يا بن العم عقب ابن عمك في المنزل لتعرف العرب إكرامه فانه يكره الرحم وفساد ما بيننا وبينك واعلم أن مقامنا في بلادكم قليل حتى نرتاد منزلاً؟ فقال له سملقة: إني أحب مسرتك وانك لتطلب غير النصف وانك لتعلم ما يريد أصحابك وما قال لهم قاشر

الجني وأصحابه، قال لهم: كذا وكذا ولم يرد بنا وبكم الخير وأنا أعلم ما يؤول إليه هذا الأمر - وكان سملقة رجلاً عائقاً زاجراً يقول الشعر - فقال لسملقة: ما لنا من حاجة وكان ذلك اليوم نزل سملقة قوماً من زبيد وكان كريم عك فباتوا عنده. فبينما سملقة يكلم زوبعة إذ قال له سملقة: يا زوبعة إن الذي أتيت فيه مخنوق أو مذبوح، قال: وكيف ذلك يا سملقة؟ قال له انك لما كلمتني وامرأة من الحي قد مرت بي وفي يدها ديك فعلمت بزجري ما قلت لك. ثم إنه بان معه تلك الليلة وتركه حتى تحكمت الخمر في رأسه فقتله وأتى إلى الزبيديين فقال لهم: فروا فإن سملقة قد مات، وأخشى عليكم من عك، ففر الزبيديون ورجع زوبعة إلى جذع فأخبره. فعند ذلك لما أصبح ووجدت عك سملقة مقتولاً ثارت بالسلاح إلى غسان، فقال لهم جذع: مالكم أنتم أخواننا؟ قالوا له: يا جذع قتل زوبعة سيدنا سملقة. قال لهم: كأنه للم يبت مع سملقة في القبة إلا زوبعة؟ قالوا له: بات معه نفر من زبيد، قال لهم: لا تعلمون من قتله، وإن زوبعة لن تروه بعد هذا وما كان عن أمر منا وهذه أموالنا لكم تحكمون فيها وأنه لولا وع ثعلبة بن عمرو لغذا عليكم - فنظر بعضهم إلى بعض وأتمروا بجذع - فقالوا: نقتل أعور أصم دنيا في قومه. ثم قالت عك: قد اعتذر إليكم بنو عمكم وقد علموا ما كان منكم من سوء فعل زبيد وصاحبهم، ولكن كفوا حتى يدفعوا إليكم زوبعة تقتلوه بسملقة. قال لهم جذع: ذلك لكم، فرجع جذع ومضى إلى ثعلبة بن عمرو فلم يخبره إنه أمر زوبعة بقتل سملقة فقال له ثعلبة: ادفع إليهم زوبعة يقتلوه بسملقة - فإنه لا عذر لكم - قال له جذع: لا تعجل إن كان هو من صاحبنا زوبعة - فهو من الزبيديين - ثم إن جذع بن سنان أتى إلى غسان

تخير منهم مائة رجل ثم قال لعك: تخيروا منكم مائة رجل يحكمون الأمر بيننا وبينكم فتواعدوا للعهد على مكان بعيد. ورجع جذع واختار مائة رجل من قومه وأمر أن ينطلقوا ليلاً إلى المكان الذي تواعدوا فيه وأمرهم أن يدفنوا فيه سلاحهم. فلما أصبحوا قال لهم جذع: يا معشر غسان أصحابكم لن يغدوا حتى يروكم فاغدوا في رفيع الثياب، ففعلوا وتعرضوا دون سلاح. فلما رأوا ذلك عك اطمأنوا وخرج منهم مائة رجل من أشرافهم بمثل ذلك الزي - وقد كان جذع قال لأصحابه احبسوهم بالأحاديث واضربوا لهم الأمثال حتى يحمي الهجير وتعلو الشمس ويدخل جميع عك فإذا لوحت لكم بثوبي فعليكم بالسلاح - ففعلوا ذلك وقلوهم حتى أبادوا المائة رجل. ونظر رجل من عك - يقال له يزيد بن زياد - إلى قتلهم فنادى: يا آل عك غدرتم في أصحابكم. فأقبلت إليه عك على الصعب والذلول وتداعت غسان فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى انهزمت غسان ووقعت عك في الغنائم. فلما ملئوا أيديهم وانصرفوا تبعتهم غسان فقتلوهم حتى أمعنوا هاربين في الأرض وخلوا منازلهم. فنادى جذع في أصحابه: ارفعوا السيف فلا حاجة لنا فيمن بقي من عك ولا تقربوا غنائمهم وعيالاتهم وحال بينهم وبين ذلك ثعلبة بن عمرو وقال: إياكم وبنات عمكم. فقال المقنع العكي: حين انهزمت غسان: غسان غسان وعك عك ... والأشعريون رجال ضنك والقوس فيها وتر عنك ... والنبل كالنيران صفر سك والمشرفيات لنا والد لك ... والخرد العين لنا والمسك سيعلمون أينا الأرك

فلما كرت غسان عليهم وهزمتهم، أنشأ جذع بن سنان يقول: نحن بنو مازن فينا الملك ... سيدفع الأبطال عنا الشك سيعلمون من هو الأرك ... إذا التقينا والمكان ضنك غسان غسان وعك عك ... ليس لكم من البلا مفك قال فعظم على ثعلبة بن عمرو غدر عك ولم يجد سبيلاً. ومالت قبائل غسان مع جذع، فقال ثعلبة: لا خير لنا في المقام معك بعد غدرنا بهم فقال جذع: أوطنوا أرض عك يا آل غسان. فأرسلت عك إلى الملك ثعلبة وقالت له: أعطنا عهد الملك، فتشاءم ثعلبة بجذع، وأتى إلى ثعلبة أخوته المرتادون فأخبروه عن أرض همدان وخصب أرضهم ومراعيهم. فدعا بظريفة فقال لها: ما ترين؟ فقد جاء بنوك بخير وبخصب أرض همدان وقد أسأنا جوار عك وكرهت المقام فيهم وأردت المسير إلى همدان فما ترين؟ قالت: أما عك أهل المكر فقد أرسلتم عليهم الأمر نقمة من نقم الدهر وأما أرض همدان فقد أعلمتكم بها منذ زمان. ثم قالت: والشهاب والفلك والنظرة والوعك ليتخلفن منكم حيان في عك ويملكنهم أيما ملك وليد ألن عليهم بالدك. فساروا إلى همدان وتخلف منهم حيان عنس وبولان فانتسبوا في عك إلى الآن. فقيل عنس وبولان ابنا أصحاب بن عك وإنما عك وبولان أصحاب الحارث بن مازن بن الأزد، فبينما هم في مسيرهم إذ قالت ظريفة لغلام لها - يقال له سنان -: يا سنان بشر الأزد غسان من ولد الأغر كهلان بالنصر على همدان والملكإلى زمان. فلما انتهوا إلى بلاد همدان لمهم الملك ثعلبة العنقاء ففزعوا أن يكون منهم إليهم ما كان منهم إلى عك بن عدنان بعد المواساة والإحسان قاموا عليهم فناصبوهم إلى القتال فاقتتلوا قتالاً شديداً بموضع يقال له (البطحاء) فانهزمت همدان

ورحلوا عن بلادهم وأموالهم. فقال ثعلبة بن عمرو: لا تمسوا شيئاً من أموالهم فانظروا إلى موضع من بلادهم ترضونه فانزلوه إلى أن تروا مكاناً وترحلون عنهم فانا لا نريد الإقامة في بلادهم وهم كارهون، وأحسنوا جوار من رجع منهم. ثم بعث إلى همدان: هلموا إلى أموالكم وبلادكم فإنا لا حاجة لنا فيهم، فرجعوا فقالوا لهم: يا قومنا وقعت بيننا وبينكم قتلى كانت حياتهم خيراً لنا ولكم من موتهم وليس بد من المقدور فاطمأنت همدان ورجعت إلى منازلها وأصلحت مع غسان. قال ثعلبة لهمدان: يا قومنا نريد أن نرحل عنكم، فقالت همدان: أيها الملك سخطنا قدومك وأساءتنا رحلتك، فما أحسن الفرقة قبل المعرفة، وأحسن الاجتماع بعد الفرقة. ثم إن ثعلبة وغسان رحلوا وتخلف في بلاد همدان بنو وادعة ابن عمرو فأحسنت همدان جوارهم وملكوهم على أنفسهم وأسندوا إليهم أمورهم حتى دعاهم ذلك إلى أن انتسبوا إليهم فقيل وادعة بن عمرو بن جشم بن حاشد بن همدان. فلما اجمعوا للمسير دعا ثعلبة ظريفة فقال لها: يا ابنة الخير أين ترين وجه السير؟ فقالت: والبرق والبيان والذهب والعقيان لتحار بن الفرسان ولتلقون خيلاً ذات سنان ذوي أسل وأبدان وصفائح الإيمان. فقدموا إلى أهل بنجران فعليكم بنجران فلما آتوها لقيهم مذحج سعد العشيرة فقاتلوهم حتى حال بينهم الليل. فلما هدأ الناس نادت ظريفة في جوف الليل: يا بني عمرو بن عامر يا عظام المنابر قد جرى لكم خير طائر فإذا أضاء صبح وأصبح واعتلج الليل وبرح، فوبى لمن أفلح ونظر في أمره والصلح. فلما أصبح غدوا إلى مذحج فقاتلوهم قتالاً شديداً فانهزم قبائل مذحج ووقعت بينهم قتلى، ثم تصالحت غسان مع مذحج وانتسبت في مذحج من غسان بنو زيد بن الهبور وصاروا معهم أخوة فيقال

إلى اليوم بنو زيد بن الحارث بن كعب بن عبيد بن خالد بن مالك. ثم أجمع ثعلبة على المسير فقال لظريفة: أين ترين لبنيك المسير؟ فقالت: نحو السراة عجلوا الرحيلا ... لا تجعلوا من دونها بديلا أصبح وجه الأمر مستحيلا ثم قالت: يا ثعلبة من هذا المكان أحكم بالبيان امضوا الآن مسرعين ويتخلف منكم حيان. فمن كان منكم ذا هم بعيد ومراد جديد وحمل شديد فليأت كابر وليد وقصر عمان المشيد فأنت هذه نصر الأزد. فسار من سار إلى عمان من الأزد وكان الذين تحملوا إلى عمان بنو نصر ابن الأزد هم أهل بيت عمرو بن الخليد بن البكير وسار بهم رئيسهم خيوان بن سالم بن ناهدة بن عمرو بن نصر بن الأزد فنزلوا عمان والبحرين ثم قالت: يا ثعلبة من كان منكم ذا هم أمدن وخيل أدكن فليلحق أرض شنء - فكانت هذه صفات أزد شنوءة - فلحق بهم عون بن عدي بن حارثة بن عمرو وهؤلاء أزد شنوءة. ثم قالت: يا ثعلبة من كان منكم ذا حاجة وأسر وأناة وصبر على أزمات الدهر فلينزل الأراك من بطن مر - فأنت هذه صفة خزاعة - فسارت خزاعة حتى نزلوا ببطن مر. ثم قالت: من كان منكم ذا رمح نجل وسيف نصل ورأي جزل وقول فصل - يريد صدق القول - والراسيات في الوحل المطعمات في المحل يعلم بعد الجهل وينصر خاتم الرسل فلينزل بيثرب ذات النخل - وهي المدينة - فنزلت بها قبيلتان: الأوس والخزرج - أهل الوجوه الوضية والأنفس الرضية والمناقب السنية فليخرجوا قبل نزول المنية وحلول القضية ولينزلوا

بيثرب بجوار هزان بن حمير ذات التيجان أفضل الأخوان والجيران - فخرج حارثة وأخوته بنو ثعلبة العنقاء. قالت له: يا ثعلبة تفرق قومك ثم تلحق بنيك فمن كان منكم يريد بلداً عالياً وعيشاً راضياً وخيلاً صوافنا وملكاً دانياً فليلحق بالمشرق من أرض بابل بين القبائل في أطيب المنازل وأحسن المناهل وأعلى المعاقل - فهذه صفة بني همدان بن الأزد - فسار نحو العراق إلى بابل. ثم قالت: ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وديباجاً وحريراً وملكاً كبيراً وتأميراً فليأت بصري وحفيراً ودمشقاً وغويراً، ومن كان وجهه منيراً وفرسه حميراً وطعمه قديراً وولده كثيراً فليمض إلى دمشق - فكانت هذه صفة علبة بن عمرو بن عامر - وعلبة هو فنة، فسار جفنة وبنوه وكان لعلبة ولد كثير - وهو أعز غسان وأعز ولد عمرو بن عامر - وتخلف بمأرب مالك بن النعمان بن عمرو ابن مازن بن الأزد بعد خروج عمرو بن عامر على متخلف من وشل الأزد. ونزل السراة من لأزد بنو هبير بن الهبور بن الأزد، والبعض من ولد الهبور بن دهمان وأمر وآهلة ابنا عبد الله بن نصر بن كعب بن الأزد - وهم أزد شنوءة - فهذه القبائل الذين سكنوا السراة بظهر الجبل الذي يقال له (الحجاز) أعلى نجد شديد البرد والحجاز ما حجز بين نجد وتهامة. ففي أعلى نجد الحر في الشتاء والصيف وفي أسفله غور في الشتاء بارد، ونزل سهب ومنهب وراسب بنو مالك بن نصر بن الأزد - وهم برق دهمان بن دهوان بن كعب بن نصر بن الأزد وهم اولاد عامر الجادر أول من جعل للبيت جداراً - وهو الجادر بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد - وهم أهل بيت المهلب بن أبي صفرة - وهو ظالم بن سراق

ثم قالت ظريفة لحارثة ولولده: خذوا الجمل الأزور فضرجوه بالدم الأحمر وأرسلوه يمشي على قدر حتى ينزل بكم البلد الأغر بلد النبي الأزهر صلى الله عليه وآله وسلم. فنزلوا هؤلاء القبائل الذين نزلوا السراة الذي يقال له الحجاز - لأنه حجز بين نجد وتهامة - وهو السراة - وإنما سمي السراة لاستوائه كاستواء سراة الفرس - وأقام بالسراة من غسان من ولد عمرو بن عامر وولد عمران بن عامر. ثم سار ثعلبة بن عمرو في أصحابه ووجوه قومه، حتى إذا كان ببعض الطريق قالت لهم ظريفة: وحق ما نزل من علمي بالبيان وما نطق به اللسان ما أعلم مني إلا الرب الأعظم رب جميع الأمم إني لا أرى علماً يكتم، قالوا: ما ذاك يا ظريفة؟ قالت: خذوا البعير الشدقم فانحروه وخصبوه بالدم حتى تأتوا أرض جرهم ولا تبغ بالغلبة فتندم وكف يسلموا وتسلم جوار بيت الله الحرام بيت بناه النبي الأكرم خليل الولي المنعم بيت النبي الأعظم يقتل من كفر وأجرم. قال: فأخذوا الجمل فنحروه ثم مضوا حتى انتهوا إلى مكة فأصابوا بها جرهم وبني إسماعيل. فقال ثعلبة لجرهم: يا معشر جرهم أنتم أهل العز ولكم البأس والمجد ولكم على الناس حق بولايتكم هذا البيت ولسنا نحب أن يكون بينا وبينكم حرب فانا ما نصب لنا أحد من الناس حرباً إلا نصرنا عليه فخلوا لنا السهل والوطاء حتى تشحم وتلحم أنعامنا ونمضي عنكم ولا يكون بيننا وبينكم حرب فإنكم لا تدرون لمن تكون الغلبة ألكم أن عليكم. فغضبت جرهم وقالت: ما كنا نرى أن يطمع فينا أحد بهذا أو يرجوه. ثم تهيئوا للقتال هم وبنو إسماعيل وكانت جرهم وبنو إسماعيل قليلاً - فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم. وأقام ثعلبة بمكة في بطحائها. فذاق شدة العيش هو وأصحابه، ثم شخصوا عنها وبقي بمكة من

غسان أبو حارثة بن عمرو بن عامر فولي أمرها فأخذه الرعاف ومات، فكان كل من وليها منهم لا يقيم إلا سبعة أيام ثم يموت من الرعاف. ثم عم الرعاف عليهم فكانوا لا يتداركون، فهربوا ولحقوا ثعلبة. وإن ثعلبة انتهى إلى الجحفة. فلما بلغ المشلل قالت ظريفة: يا بني عمرو بن عامر أوصيكم - فقد حان موتي - ولكل أمر نبأ ولكل نبأ يولد ارتضاء، ثم قالت: انزلوا وأقيموا فاني ميتة هذه الليلة وقد رأيت أن علمي يخلفني فيه مولودان في هذه الليلة فجعلهما الله آية للأولين والآخرين فهو مولود من غسان - ويقال له مسعود بن مازن بن ذؤيب بن عدي - ثم قالت: والاسم والرياء والعلم والإباء والنور والضياء لقد ولد في تميم آخر من بني العم ليس له مفصل ولا عظم يخرج ممسوحاً ثم تموت أمه لسبع ليال ينبئ بالزيادة والنقصان إلى فراغ الخلق والزمان واقسم بالنور والفلق ما له رأس ولا عنق فكان يكبر كل شيء حتى صار كالرجل من أهل زمانه، وماتت أمه لسبعة أيام من مولده فأتوا به إلى ظريفة ففتحت فمه فنفثت فيه وقالت: لا تسقوه لبن امرأة وأغذوه فإن هذا يكفيه إلى بلوغه ثم قالت: أنت خليفتي من بعدي، ثم قالت: اقسم بالله يمين الحق ليأتين مثل هذا شق يعلم ما جل وما دق به يد واحدة ورجل واحدة وآية الله عليه شاهدة يعلم ما خفي وما ظهر يبني بالحق عند تصديق الخبر فأتوها به فتفلت في فمه وقالت له: أنت خليفتي من بعدي، ثم قالت: يا ثعلبة إذا جاوزت الحجر والمقام فانزلوا على الأعلام من أرض الشام، فإذا آتاك الملك الأعجم في الجحفل العرمرم فقوموا عند انصر أم الليل الأدهم فالتمسوا امرأة في جيبها إرقم فقلدوها الحرب الأصم، ثم سر أنت في

الجيش اللهام إلى البلد الحرام. ثم قالت: إن ابنة الخير لها أعجوبة ... وميتة تقضي لها مكتوبة يؤدي بها في ليلة العروبة فماتت ليلة الجمعة في عقبة الجحفة وقبرها هناك مشهور، وإن عمرو ابن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر نزل مكة فاحتقر فيها بئراً وسماها غسان وخزاعة من بني عمران الكاهن ولما تخزعت خزاعة قال فيهم عمرو ابن أنيف الغساني: ولما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في بطون كراكر حمت كل واد من تهامة واحتمت ... بيض القنا والمرهفات البواتر ولما نزلت أزد شنوءة السراة وجدوا بها امرأة من قوم عاد بن قحطان فقالت لهم: إني بقية من قوم عاد أنا أعلم بالبلاد منكم فاحملوني على بعير وسيروا بي أخبركم عن الأرضين. فحملوها على بعير، فلم يستقل بها فقالوا لها: ما نجد بعيراً يحملك؟ فقالت: هل من ناقة هبراء فحملوها عليها فسارت بهم حتى أتت أرضاً تسمى ظطرب فقالت: هذه طرب حجرها ضر وجبلها وعر يلقى الراعي بها شر. ثم خرجت بهم حتى أتت كراء. فقالت: هذا كراء مرملة قاتلة للنساء، ثم سارت إلى بيشة فقالت: منزلة خربة آمنة مانعة. فنزلت الأزد بهذه المنازل كلها. فقال لها رجل يومئذ - أي القسي خير - قال: أما السدرة فإنها مذرة هذرة ولكن عليك بالتبع فأنه أصلب عند تقارب النزع وإياك والشريان فإنها قسي الصبيان. ثم ساروا عنها وتركوها بالوادي، فقامت أزد شنوءة بالسراة

وسارت منهم قبائل إلى عمان - فأول من خرج بهم مالك بن فهم - وكان سبب خروجه إنه كان له جارة وكان لجارته كلبة وكان له أخ له أولاد كثيرة، فرمى ابن أخيه كلبة جارته فقتلها، وكان بنو أخيه أكثر من بنيه، فلم يستطع أن يفعل في بني أخيه شيئاً فغضب وقال: والله لا أقيم ببلد يفعل هذا فيه بضيفي، فسار حتى نزل عمان فسمي الموضع الذي رحل إليه نجد الكلبة إلى اليوم. فلما ورد مالك بن فهم عمان تزوج بها امرأة من بني عبد القيس فولدت له غلماناً كثيرة وكان أصغرهم سليمة وأنه أناخ إبله ذات ليلة وخشي عليها الطرد فعقلها ومعه سليمة فباتا فيها. فلما كان في الليل قام يفتقد عقلها فرآه سليمة وهو يكب عليها ويرفع رأسه فظن إنه لص فنزع له سهماً فرماه فقطع نساه فقتله ثم لحق بعمان ثم أن الأزد ضاقت بهم أرض السراة فخرج من كل قبيلة منهم ناس، فخرج بنو رابعة بن عمران وبنو حارثة بن عمرو وبنو غالب بن دهران، فخرجوا ونزلوا بالشعب من أرض عمان فقال في ذلك شاعر من غسان: كونوا كعمران إذ سبه محلته ... فقال حبس وضيف بات في رصد شد المطي على الانساع فانشمرت ... تطوى الصحاصح حتى منتهى الرصد وان ثعلبة العنقاء سار حتى قدم الشام - وكان أكثر من مضى إلى الشام بنو جفنة بن عمرو بن عامر - فلما نزلوا بالشام عورض ثعلبة العنقاء وكان جميلاً فقتلته الجن فاستحلف ابنه حارثة وهو ابن الأوس والخزرج وأمره أن يشاور في أمره جذع بن سنان ولا يعصيه. فكان جذع ذا رأي مبين على ما كان من عوره وصممه - وكان شجاعاً لا يملأ قلبه شيء - ومات ثعلبة

العنقاء وهو ابن مائة سنة. ومضى القوم حتى بلغوا الشام، وبالشام سليح وهو قبيل من قضاعة، فأصابوا قيصرة قد تغلب على الشام وذلك بالفترة التي كانت باليمن بعد انقضاء التبابعة، وذلك بعد موت قيصر ماهان عامل تبع شمر يرعش، فولي بعده ابنه دقيوس بن ماهان فقالت غسان لسليح: ارعونا بلدكم، قالوا لهم: ليس لنا من الأمر شيء وذلك إلى الملك قيصر، فقالت لهم غسان: أنتم شفعاؤنا إليه فكلموه في غسان وأخذوا لهم منه عهد على عهد عيسى وأذن لهم بالنزول بالشام وأقاموا مع سليح وجاوروهم بأحسن جوار، وهند غسان كتاب من عند قيصر بالعهد، وخرج عامل لقيصر يجبي من تحت يده من الروم وغيرهم فأتى غسان يجيبهم فعظم ذلك عليهم لأنهم كانوا لا يعرفون الجباية ولم تكن التبابعة تفعل ذلك ولا هي من سنتهم وما كانوا يدخلون بيوت أموالهم إلا ما جبوه بأسيافهم. فلما آتاهم في الجباية عظم عليهم ذلك وثقل فقالوا له إن كتاب قيصر بالعهد عندنا وإنما جاورنا لوجه الراحة! قال لهم: ما أدري ما تقولون ولكنكم أدوا ما عليكم وإلا فلكم عندنا السيف والسيئ، ثم قال لهم: لا يبقى منكم إنسان إلا أعطاني ديناراً فاصطفوا صفاً واحداً فإذا مررت برجل ناولني ديناراً. ففعلا وجعل لا يمر برجل إلا أعطاه ديناراً حتى أتى على الصفوف والملك حارثة بن ثعلبة العنقاء قائم بمعزل عنهم فقال لهم: ما بال هذا لا يعطيني! قالوا له: هات ديناراً، فقال له حارثة: أنا راعي قومي والملك أبصر لنفسه يحمل عنهم الضيم ولا يؤدي قومه إلى ما يكرهون - وكان اسم الجابي وسيطاً - فمر على جذع بن سنان وهو واقف في طرف الناس

وفي يده سيف خلق الجفن وقد قعد به الدهر - فقال له جذع: خذ سيفي حتى أعطيك ديناراً فكاكه، فانتهزه الرومي وقال: أدخله في حرامك. فلم يسمع ما قاله، ولكنه علم إنه لم يقل خيراً له، فقال لمن حوله: ما قال؟ قالوا له: لم يقل شيئاً وكرهوا أن يعلموه لشدة نفسه، فقال له ابن أخت له قال: كذا وكذا، فسل جذع سيفه فضرب به رأس الرومي فرماه، ثم قال: خلفت الراحة والدعة في سد سبأ، ثم أحمل ضيماً لطلب الراحة والدعة، فقال رجل من سليح للجابي: خذ من جذع بن سنان ما أعطاك؟ قال: فذهبت مثلاً، وخرج كاتب لقيصر فأعلمه الذي كان فبعث إليهم قيصر مائة رجل ليسوقوا غسان فيقتلوا منهم من شاءوا فلقوهم غسان بوادي الكسوة (تسمى بذلك للكسوة التي أخذت غسان من الروم فيه) - فعمدت غسان إلى المائة الرجل فقتلوهم وأخذوا كسوتهم وخيلهم وأتى الخبر إلى قيصر فبعث إلى غسان الجاثليق وقال له: انظر لي خبر القوم وما هم عليه فأتى الجاثليق إلى غسان فوجدهم على عهد قيصر وأخرجوا له كتاب قيصر فرجع إليه فأعلمه بذلك وقال الجاثليق لقيصر: أيها الملك ارفع عن القوم الجور واعلم أن لهم منعة فاكفف عنهم جندك وأوف لهم شرطك فبعث إليهم أن ابعثوا إلي بمائة رجل من أشرافكم وخياركم حتى أعهد بيني وبينهم عهداً واعقد لهم عقداً - وإن الأعاجم سريعة قلوبهم إلى الغدر عند الغلبة - فلما آتاهم رسول قيصر قال حارثة: ما تقول يا جذع؟ قال له جذع: كلا يا حارثة ليس الأمر على ما قال قيصر ولكن أرسل معي تسعة وتسعين عداً وأنا تمام المائة، فقال له حارثة: الرأي رأيك، فسار إليه. فلما أتى جذع إلى قيصر قال: من أنت؟ قال: جذع بن سنان، قال قيصر: ومن هؤلاء الذين معك سمهم؟ قال له جذع: هؤلاء تسعة

وتسعون عبداً ليس فيهم حر غيري، وأما على أن يأتيك خيارنا ووجوهنا فتفعل بهم بأمرك فلا فافعل خيراً إن أردنه وإن كان شراً قتلت تسعة وتسعين عبداً وقتلتني شيخاً أعور أصم. فلما رأى قيصر ذلك وأنه لم ينل حاجته شاور أصحابه وقال لهم: ما ترون؟ فقالوا له إذا لم تنل حاجتك فأعط هذا الكلب الأصم حاجته، فقال له قيصر: ما حاجتك؟ فقال له جذع: إن في نفسك منا شيئاً لا بد لك منه ومقامنا معك غرور وأنت ملك تقدر أن تقول فتفعل، وإذا قدر الأعجمي فعل ونحن العرب نقدر ونترك لطفاً ورأفة. فقال قيصر: أسمعتم ما لقيني به هذا الكلب الأعمى! قالوا له رجاله: أتذر الحب العالم لمن يريد أن يذبحه قاتل فقال له جذع: اكتب لي كتاباً بالصلح بيني وبينك وأعطنا فيه ذمة إبراهيم وإسحاق وتفي بالكتاب الأول الذي قد كنت كتبت لنا ولا تمنع منا من أراد الدخول في بلدك ولا من أراد الخروج ولا تمنعنا مرعى نرعاه ولا يأتينا عدو إلا كانت عساكرك أنصارنا ولا يظلمنا ظالم إلا نصرتنا والمواساة منك بالعدل. فأعطاه ذلك وكتب له كتاباً وأرسله إلى عامله وأرسله العامل إلى حارثة وقال لهم: لكم العدل المقام متى شئتم الرحيل متى شئتم، فقال جذع لأصحابه: أعطاكم الله عطفاً تحته حتف، فأعطوه استقامة تعقبها ندامة واحذروا فاني لا آمنه عليكم! إنما أراد أن يسكنكم حتى تسكنوا، ثم يفاجئكم بغدره كأن قلبه لكم كالمرجل وإني والله ما التقى بصره وبصري حتى رأيت العداوة في نظره وبعد ذلك فإن ظريفة قد وصفت لكم من يقيم بأرض الشام وما تلقون من حروبهم - وإنهم بنو علبة بن عمرو وهم بنو جفنة - فأقيموا وقد وصفت من يلحق بيثرب فإنهم يا حارثة بنوك وبنو بنيك فأطيعوني

عمرو بن جفنة أول من تتوج من ملوك غسان بالشام

فما زلت لكم ناصحاً، فقال له حارثة: صدقت يا جذع. فسار حارثة وبنوه الأوس والخزرج للوصف الذي قد كانت ظريفة وصفته لهم، وأقام بنو جفنة ومن أقام معهم من أخوانهم من بني عمرو بن عامر وغيرهم من قبائل الأزد، فدخلوا في نسب بني جفنة - وهم بنو قيس بن جفنة وعمرو ابن جفنة وعامر بن جفنة وجبلة بن جفنة وأولادهم - وتقدم حارثة بن ثعلبة العنقاء إلى يثرب وقدم عمرو بن جفنة على قومه وأخوته وبني عمه بالشام وانصرف حارثة إلى يثرب. عمرو بن جفنة أول من تتوج من ملوك غسان بالشام وان عمرو بن جفنة نزل أرض البلقاء أرضاً يقال لها (بالعة) وبلغ ذلك قيصر دقيوس أن ملكهم حارثة خرج يريد أرض العرب، ولم يبق إلا أناس فجمع إليهم روم البلقاء وأمر سليح أن تعين الروم فقالت سليح: نغدر بإخواننا وقد لجئوا إلينا ولم نر منهم إلا خيراً فقال لهم رجل منهم: إنكم بين أمرين: إما قيصر وإما غسان فكونوا بأجسامكم مع قيصر وبقلوبكم مع غسان، ففعلوا فالتقوا بالبلقاء فاستدعت سليح الهزيمة على الروم وغمهم تطاول الروم عليهم وغدرتهم بغسان، فقتلت غسان من الروم بالبلقاء مقتلة عظيمة، فقال في ذلك عمرو بن جفنة: كأن الجماجم بيض النعام ... بقارعة الشعب من بالعه أقمنا الظبي في رؤوس العدى ... نقد بها في الوغى قاطعة على كل طرف رفيع القذال ... وقباء سلهبة رائعة ثم أنهم التقوا مرة ثانية بمرج الظباء وهو يوم حليمة فتداعت عليهم الروم وكثروا ولنو جفنة قليل ومن كان معهم قليل فصبروا للروم فاقتتلوا

قتالاً شديد. فلما رأى عمرو بن جفنة قلة قومه وازدياد الروم وتكالبهم عليهم وسليح وكنانة وجذام مع الروم على غسان ورأى ذلك زيد بن نمر الكناني نادى يا آل حلب تأنف النفوس من هذا ما ترون الروم يقتلون غسان ويهدمون بني قحطان ونحن نسر بذلك ونعين عليهم وإن عمرو بن جفنة قال: يا بني جفنة أطيعوني في أمر أشير به عليكم قد افترق عنكم من هولكم وفشت فيكم الجراح وتكالبت العلوج عليكم والله لأمرن السيف على ودجي قبل أن أولي ظهري أعجمياً، قال له: رأيك يا عمرو؟ فأرسل إلى القيصر في المهادنة، فأرسل إليه القيصر: لا صلح حتى ترموا سلاحكم وتسلموا أنفسكم للبلاء، فقال في ذلك غسان بن جذع ابن سنان: لعمري لقد فاز الذين تقدموا ... وصاروا إلى عز ولم يتذللوا فما الموت عار أن يصاب به الفتى ... ولكن عاراً أن يزول التجمل فلا تخضعوا للدهر عند ملمسه ... فكل الذي يؤتى به المرء ينزل ثم نهض للقتال مع غسان فأرسل إليهم قيصر أن احبسوا سلاحكم واسمعوا وأطيعوا. فأرسل إليهم عمرو بن جذع بن سنان فقال له: نحن قوم لم تجر علينا طاعة لأحد غير تبع وكانت علينا وعليكم ولكن أرى ما أحببت غير هذين فقال: أعطوني ديناراً جزية عن كل واحد منكم، فصالحوه على أن يعطوه ديناراً على كل واحد، وأتى رسول قيصر يجني المال من غسان، فنزل بباب دمشق فسمي باب الجابية إلى اليوم، ثم أن غسان أخذتهم سنة جدبة فنزلوا لواد يقال له (المحفف) وشتوا فيه في جهد شديد، ثم أن عاملاً لقيصر من سليح يقال له وسيط بن عوف الضجعمي أرسله قيصر إلى غسان وأمره فيهم بالغلظة وقال لرجاله: القوا بهم الشر

بالشر فإن كان شراً كان برؤوسهم وإن كان خيراً فلنا وإن وسيطاً أتى غسان ليستوفى منهم الإتاوة في أصحابه ومعه نفر من الروم ومن وجوه روم الشام فجمع وسيط الإتاوة حتى انتهى إلى دار جذع بن سنان فوجدوه وامرأته تغسل رأسه وفي رأسه شيب كثير فضحكت الروم وعلم ذلك جذع وأسره في نفسه. فلما نظرت امرأة جذع إلى وسيط وجماعة الروم ألقت بكمها على رأسها وكانت من أجمل النساء فجعلوا يختلسون النظر إليها وجذع ينظر، فقال لها وسيط: أعطيني ما عليك واتركي جذعاً فقال له جذع: يا وسيط أما ترى ما نحن فيه من الهزال وما بينك وبين الخصب إلا انسلاخ هذا الشهر فاصبر إلى أن تأخذ فقال له وسيط: ما أنا بفاعل، قال جذع: اصبر اغسل رأسي وأعطيك، فقال له رجل من الروم: دع الكلب يغسل صرفه، فقال له وسط: والله لئن لم تعجلن لآخذن بيد امرأتك، فقام جذع وترك الغسل وقال: علي أبي وبي أخي أودي عنهم فنادى بهم فآتوه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم قبض على القائم وأعطى وسيطاً النعل فأخذها وسيط فضربه جذع بالسيف بعد أن أخرجه وضرب رأسه إلى الأرض وقال لبنيه وبني أخيه: عليكم بالعلوج فتواثبوا إلى العلوج فقتلوهم أجمعين وأخذوا ما معهم من المال الذي جمعوه من غسان، ثم قال (لا يرد الشر إلا الشر) فذهبت مثلاً، ثم نادى في غسان من أعطى شيئاً فليأخذه فأخذ كل رجل منهم ما له وأخذ جذع وبنوه مال الروم وكساءهم وكانوا مائة رجل. واجتمعت سليح لقتل وسيط واشتعلت الحرب بين الروم وغسان ونصرت سليح الروم فقاتلهم غسان وأتى حارثة بن ثعلبة العنقاء في بني عمه وبني جفنة وعدد عظيم من الأزد إلى الروم فجمع جمعاً عظيماً وأتى بهم إلى غسان فاقتتلوا بالمحفف فقاتلوهم قتالاً شديداً

فانهزم قيصر إلى الدرب فأرسل إلى غسان وخشي أن يدخل عليه من الخلل في ملكه وخشي أن يفتق عليه ما لا يستطيع رتقه وقال لهم: إن الرعية قد ظلمتكم ولم أعمل بظلمكم إلى الآن فصالحوه على ما أرادوا وعظم ملك عمرو بن علبة وبني جفنة - وعمرو وهو أول ملك من آل جفنة متوج بالشام حتى أخرجهم جبلة بن الايهم. فقال في ذلك رجل من غسان يقال له حبة بن الأسود: فمن مبلغ عنا يماني قومنا ... بأنا قتلنا بالمحفف ضجعا قتلنا سليحاً والذين تضجعموا ... بأسيافنا إذ صيروا الأمر مبهما أرادوا ليجروا عند ذلك جزية ... علينا ويضحي ما لنا ثم مغنما وما إن قتلناهم بأكثر منهم ... ولكن بأولى بالطعان وأكرما أراد ملوك الروم أن يبلغوا العلا ... فلاقى وسيطاً نحبه بقطر الدما فذوقوا من الوجد الذي هو دائم ... فإن لكم يوماً عبوساً سرمرما قال: ثم أن الروم صالحت غسان. على أن لغسان ملك الشام وأن لأشرافهم بالشام ما لأشراف الروم بأرض الروم وإن لملكهم عمة على الروم وعلى الروم إن دهمت غسان شدة أربعة آلاف فارس وثمانية آلاف راجل. فلبثوا على ذلك دهراً، ثم أن الملك حارثة بن ثعلبة ترك بني عمه بالشام وسار حارثة يريد يثرب بمن معه من ولده وولد ولده، وسار معهم ثعلبة بن جفنة أخو عمرو بن جفنة ومعهم جذع بن سنان فوردوا يثرب فنزلوا بصؤار وأهل يثرب يومئذ اليهود وملكهم شريف بن كعب اليهودي، فقال لحارثة بن ثعلبة: لا ندعك تقيم معنا إلا على شرط وعهد تكتبونه بيننا وبينكم، قال له حارثة: وما هو؟ قال: تكتبون عهداً بين بني إسرائيل وغسان: أن اليهود لغسان حاضرة وإن غسان لليهود بادية،

فقال جذع: عاهدوهم حتى تعفى أموالكم وتستريح دوابكم وأنفسكم، فانه يحدث بعد الأمر أمر - وهم عجم والعجم لا تقيم على عهد إلا على الذل والخوف - ولا يصبرون على خطة وإنكم تجدون فيهم ما تريدون، فنزلوا وكتبوا العهد وأقاموا زماناً. وإن رجلاً من غسان اشترى من يهودي كرباسة بأربعة دراهم فاشترط عليه الغساني أن يريها لأهله، فإن لم يرضوها ردها عليه ورد اليهودي عليه دراهمه وأشهد رجالاً من غسان كانوا بحضرته. وإن الغساني لم يرضوا أهله الكرباسة فردها على اليهودي فأبى أن يقبلها منه اليهودي، ورجع الغساني راجعاً بها إلى أهله فسبوه وقالوا له: فزعت من اليهودي. فردها إلى اليهودي ثانية فسبه فانتهره. فترافعا إلى شريف بن كعب، وأتى الغساني بالشهود الغسانيين فشهدوا إنه قد اشترط عليه ردها إن لم يرضوها أهله، فقال لهم شريف: انتم معاشر غسان لكم آنفة وأنفتكم تحملكم على شهادات الزور، قال له شهاب بن عبد الله الغساني: كذبت بل لنا أحساب تمنعنا من شهادات الزور بلى قد كان بينهما ما كان ولكم أنتم يا شريف بكل ارض أذلاء إلا بأرض العرب، فكيف لا تسرع بلسانك في سبهم ولو البسوك الذلة وكسوك المسكنة لعرفت لهم حقهم، ثم سار بقومه فولي بهم وإن صاحب الكرباسة أتى إلى جذع بن سنان فشكا إليه ما نزل به من اليهودي ومن أهله. فمشى جذع إليه وكلمة وقال له: خذ من الرجل كرباستك ورد عليه دراهمه، فقال له اليهودي: يا أعود أمرتني عينك الواحدة فأمهل حتى تأمرني عينك الأخرى. فولى جذع وأخذ بيده صاحبه وخلا به وقال له: ويحك إن قومي قد تشاء موابي واني لا أحمل فيهم ضيماً وانصب روحي غرضاً دونهم واني أجني عليهم الجنايات وأسوق إليهم الحروب، وسأبلغ مرضاتك

فاصدقني الخبر على وجهه إن كنت ظالماً أو مظلوماً فانه أطيب لنفسي، فحلف له الغساني إنه مظلوم. فبعث جذع إلى ابن أخت له إنه أجلب إلي قومك. فلما آتاه بهم قال لهم مروا بناتكم يدخلن يثرب على نساء اليهود يضربن نسائهم وكونوا أنتم على أهبة وخذوا ولاماتكم فإذا سمعتم الصيحة اقتلوا من وجدتم من اليهود واسكنوا في المدينة فلم يتحرموا علينا إلا بهذه المدينة، وإن جذعاً مضى إلى صاحب الكرباسة فجلس بإزائه، فلما وقعت الصيحة كان أول قتيل قتله جذع، ثم قامت الصيحة في السوق فانتهبته غسان وقتلوا من فيه فلم تصل الصيحة إلى منزل شريف إلا وغسان في المدينة - فما وصل إلى المدينة وكان بين منزل شريف وبين المدينة عشرة أميال - وإن غسان تمكنوا منها وأخذوا ما كان فيها من مال وسلاح وثياب واتقوا به غسان، ثم حبسوا نساء اليهود عندهم واتقوها. فلما رأى اليهود ما لقوا من قتل الأنفس ونهب الأموال وسبى الذراري طلبوا الصلح ومفادة الأولاد، ثم أرسلوا إلى من كان منهم من يهود الشام يستنصرون بهم على غسان، وجعلوا ذلك مكراً وخديعة، وبلغ الأمر إلي حارثة الملك وما اجتمع إلى يهود من أخوانهم من أهل خيبر وفدك والعوالي والشام. فقال لجذع: ما ترى؟ فقال له جذع: كلما كثروا كان أضعف لهم، ولكن ابعث إليهم بالصلح فصالحوهم على أن يعطوهم من حوزة يثرب ومنازلهم ما يكفيهم ويسعهم وينزلون معهم ويجاورونهم. ففعلت اليهود ذلك ورضوا به ونزلت الاوس والخزرج بيثرب وسكنوا فيها. قال أبو محمد: ولما كان الوقت الذي أراد الله فيه خراب السد انهدم فأرسل الله سيل العرم ففاض على الأرض فاحتملها، فلم يبق منها إلا ما ذكر الله في كتابه على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم {لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان} إلى قوله {أكل خمط} الآية. وقد قال في

ربيعة بن نصر بن مالك متوج باليمن بين أضعاف التبابعة

ذلك كثير من العرب الأخبار والأشعار - قال الأعشى: وفي ذاك للمؤتسى أسوة ... بمأرب عفى عليها العرم رخام بناه لها حمير ... إذا جاء دفاعه لم يسرم فاروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم فساروا أيادي لا يقدرو ... ن منها على شرب طفلفطم وقد ذكرته العرب في أخبارها وأشعارها في مواضع كثيرة. ربيعة بن نصر بن مالك متوج باليمن بين أضعاف التبابعة قال أبو محمد: حدثني زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق قال: كان ربيعة بن نصر بن مالك بين أضعاف التبابعة، فرأى رؤيا هالته فجمع كل من كان في اليمن من منجم وكاهن وساحر فقال لهم: قد رأيت رؤيا هالتني وفزعت منها فاخبروني بها وبتأويلها، فقالوا له: أيها الملك اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال لهم: ان أخبرتكم بها لا أصدقكم في تأويلها وإن انتم أخبرتموني بها صدقتكم؟ فقال له رجل منهم: فإن كنت تريد هذا فابعث إلى سطيح وشق فانه ليس أحد أعلم منهما. فبعث إليهما فاقبل إليه سطيح قبل شق فقال له: اني رأيت رؤيا هالتني وفزعت منها فاخبرني بها وبتأويلها وإن أنت أصبتها أصبت تأويلها فقال له: افعل أيها الملك، رأيت أيها الملك حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة، فقال الملك: ما أخطأت منها شيئاً يا سطيح - فما عندك في تأويلها - فقال: احلف بما بين الحرتين من حنش ليملكن أرضكم الحبش وليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال له الملك: وأبيك يا سطيح

إن هذا لغائط لنا موجع، فمتى هو كائن أفي زمامنا هذا أم بعده؟ فقال: بعده يحين أكثر من ستين إلى سبعين - قال: فيدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ويخرجون منها هاربين. فقال: ومن يلي ذلك من إخراجهم؟ قال: يليه ارم ذو يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحداً منهم باليمن. قال: فيدوم ذلك من ملكه أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: ومن هو هذا النبي؟ قال: هو من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون ملكه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: أي والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما نبأتك به لحق. قال: ثم قدم شق وقال له مثل قوله لسطيح وكتمه ما قال سطيح لينظر هل يتفقان أم يختلفان فقال له شق: رأيت في منامك أيها الملك حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة. فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئاً فما عندك في تأويلها؟ قال: اخلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان وليملكن كل طفلة البنان وليغلبن على ما بين أبين إلى نجران. قال له: يا شق إن هذا لغائط لنا موجع فمتى يكون في زماننا هذا أم بعده؟ قال: لا بل بعده بزمان. ثم يستفزهم ملك عظيم الشأن ويدفعهم بأشد الهوان. قال: ومن هو العظيم الشأن؟ قال: غلام ليس بدني ولا مزن يخرج من بيت ذي يزن. قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل بقطع برسول مرسل يأمر بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. قال له: وما يوم الفصل؟

تبان أسعد أبو كرب ملك متوج باليمن

يوم تجزى فيه الولاة ويدعى فيه من السماء بدعوات يسمعها الأحياء والأموات ويجمع فيه الناس للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات قال: أحق ما تقول. قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض. قال فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم وتب كتاباً إلى سابور بن يزن خرزاد فأسكنهم الحيرة فمن بقية ولد ربيعة بن نصر هو النعمان بن المنذر. فلما هلك ربيعة ابن نصر رجع ملك اليمن إلى تبان أسعد أبي كرب. تبان أسعد أبو كرب ملك متوج باليمن قال ابن هشام ويقال له - الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر ابن كعب كهف الظلم - وتبان أسعد أبو كرب هو الذي قدم المدينة وساق الحبرين من اليهود وكسا البيت الحرام وكان ملكه قبل ربيعة ابن نصر وهو الذي يقال له: ليت حظي من أبي كرب ... أن يسد خيره خبله وكان جعل طريقه حين قفل من المشرق إلى المدينة، وكان قد مر بها في بداية أمره، فلم يهج أهلها وخاف بين أظهرهم ابناً له فقتل غيله - قتله عمرو بن طلة الأنصاري من بني عدي بن النجار فزاد ذلك تبعاً حتنقاً عليهم فقاتلهم فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه نهاراً ويقرونه ليلاً ويعجبه ذلك منهم، ويقول: إن قومنا لكرام فبينما تبع ذلك من حربهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من قريظة آتياً إليه حين سمعا إنه يريد خراب

المدينة وهلاك أهلها فقالا له: أيها الملك لا تفعل فإن كان أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبين ما تريد ولم تأمن من العقوبة، قال لهما: ولم ذلك فقالا له: لأنه حرم مهاجرة نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان يكون داره وقراره فأعجبه ما سمع منهما ورأى أن لهما علماً فبنى المدينة وانصرف عنها واتبعهما، وهذا الحي من الأنصار يزعمون إنما كان حنق تبع على اليهود وإنما كان مراد تبع هلاك اليهود فمنعه الحبران من ذلك وكان أصحابه أصحاب أوثان يعبدونها. فتوجه إلى مكة وطريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان وأمج آتاه نفر من هذيل فقالوا له: أيها الملك ندلك على بيت مال دائر فيه اللؤلؤ واذهب والفضة، قال لهم: بلى. قالوا له: هو بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده وإنما أراد الهذليون بهذا هلاكه لما عرفوا من هلاك كل من أراد مكة من الملوك بسوء فأرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك؟ فقالا: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، أوما علمت أن لله تعالى بيتاً في الأرض اتخذه لنفسه ولئن أنت فعلت ما أمروك به لتهلكن وليهلكن جميع من معك. قال: فما تريان؟ إني اصنع قالا له: اصنع عنده ما يصنع أهله وتطوف به وتعظمه وتكرمه وتحلق رأسك عنده وتتذلل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ فقالا له: أما إنه لبيت أبينا إبراهيم الخليل وأنه لكما أخبرناك به وإن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله والدماء التي يهرقون عنده فعرف صدق حديثهما وقرن النفر الهذليين وقطع أيديهم وأرجلهم، ثم ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده وحلق رأسه وأقام بمكة سبعة أيام ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل. ورأى في المنام أن يكسو البيت فكساه الحصف وهو حصير من السعف. ثم رأى

قصة النار التي كانت تعبدها حمير وكيف تركتها ورجعت إلى دين اليهودية

أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء والأدوية والحرير فإن تبع أول من كسا البيت وأوصى به ولأنه من جرهم وأمر بتطهيره وإن لا يقربوه بدم ولا ميتة وجعل له باباً ومفتاحاً وانصرف إلى اليمن. قصة النار التي كانت تعبدها حمير وكيف تركتها ورجعت إلى دين اليهودية وان تبعاً لما رجع إلى اليمن بمن معه من الجنود والحبرين معه. فلما وصل إلى اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن. قال ابن هشام: وإن تبعاً لما دخل اليمن حالت حمير بينه وبينها وقالوا له: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا. قال: إنه خير من دينكم، فقالوا له: حاكمنا إلى النار، قال: نعم. وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نا تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر المظلوم شيئاً فخرج قومهم بأوثانهم وما يتقربون به، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلدين بها حتى قعدوا للنار عند مخرجها - فخرجت النار إليهم - فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فأمرهم من حضر بالصبر وصبروا حتى غشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير. وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما ولم تضرهما، فاتفقت عند ذلك حمير على دينه فمن هناك كان أصل دين اليهودية باليمن. وقد حدثني محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير اتبعوا النار ليردوها وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير

حسان بن تبان أسعد أبو كرب ملك متوج

ليردوها فلم يقدروا ودنت منهم لتأكلهم ولم يستطيعوا ردها، فدنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة وهي تنكص إلى مخرجها الذي خرجت منه. فرجعت عند ذلك حمير إلى دين الحبرين. والله أعلم، أي ذلك كان. وكان رئام بيتاً له يعظمونه وينحرون عنده ويتكلمون فيه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران: لتبع إنما هو شيطان يفتنهم فخلب وبينه فقال: شأنكما به، فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلياً أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت. ويقال أن تبعاً هو الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يره وهو القائل شعراً: شهدت على أحمد إنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلي عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم وعمر ملك بع ثلاثمائة وعشرين سنة، فلما هلك ولي بعده ربيعة بن نصر - الذي تقدم ذكره - فلما هلك ربيعة بن نصر رجع الملك إلى حسان ابن تبان. حسان بن تبان أسعد أبو كرب ملك متوج والملك حسان بن تبان أبو كرب هو الذي بعث إلى جديس باليمامة فأبادها - وكانت جديس وطسم تنزل باليمامة وكان بها ملك من طسم وكانوا لا يزوجون امرأة من جديس إلا بعث إليها ليلة هدائها فافترعها قبل أن تزف إلى زوجها - فوثبت جديس على طسم فقتلت مقتلة عظيمة. فبلغ ذلك إلى الملك - وكان اسمه عملوق - فمضى جمع من طسم إلى

عمرو بن تبان ملك متوج

حسان تبع مستنصراً به فوجه جيشاً إلى اليمامة - وتسمى يومئذ جوا - وكان بها امرأة يقال لها زرقاء اليمامة تبصر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام وباسمها سميت اليمامة. فلما خافوا أن تبصرهم قطعوا الشجر وجعل كل واحد منهم بين يديه شجرة. فنظرت إليهم اليمامة فقالت: يا جديس لقد سارت إليكم الشجر وأتتكم حمير. فقالوا: وما رأيت؟ فقالت رأيت في الشجر رجلاً معه كتف يأكلها ونعلاً يخصفها، فكذبوها. فصحبهم حمير فأوقعت بهم وقعة أفنتهم إلا يسيراً. وسار حسان بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم العرب والعجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فكلموا أخاً له يقال له عمرو - وكان معه في جيشه - وقالوا: اقتل آخاك حسان وتملك أمرنا ونرجع إلى بلادنا. حتى أجابهم وأجمعوا على ذلك غير رجل يقال له ذو رعين الكلاعي فإنه نهاه عن ذلك، فلم يقبل منه فقال في ذلك: إلا من يشتري سهراً بنوم ... إلا من لا يبيت قرير عين فأما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين ثم كتبهما في رقعة وختم عليها وقال له: أيها الملك احبس هذه عندك فمسك الرقعة وقتل أباه وتابعته حمير ورجع إلى اليمن ومعهم وولي. عمرو بن تبان ملك متوج وملك عمرو بن تبان فمنع النوم فشكا ذلك فقيل له: لا يأتيك النوم حتى تقتل من أمرك بقتل أخيك - فنادى في أهل مملكته - أن الملك يريد أن يحدث عهداً، فاجتمعوا إليه وأقام لهم الرجال وقعد في مجلسه وأمرهم

عبد كاليل بن ينوف ملك متوج

أن يبخلوا عليه خمسة بعد خمسة، فإذا دخلوا عدل بهم فقتلوا حتى أتى على عامة القوم، ثم أدخل ذو رعين فلما رآه ذكر ما قال له في البيتين اللذين في الكتاب فأمر يتخليته وإكرامه وقربه واختص به، واضطربت عليه أموره وبرد العز فسمي موثبان لقعوده والمواثب الفراش، وأرادوا إنه لازم الفراش. وفي مملكته نزوح عمرو بن حجر الكندي جد امرئ القيس الشاعر ابنة أخيه حسان تبع فولدت الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو - وكان سيد كندة وكان من فوارسها - وكان ملك عمرو بن تبان ثلاثاً وستين سنة. عبد كاليل بن ينوف ملك متوج ثم ملك بعده عبد كاليل بن ينوف وكان مؤمناً على دين عيسى وستر إيمانه، وكان ملكه أربعاً وستين سنة - وكان حسن السيرة جيد العشرة وكان قليل الغزو. تبع بن حسان ملك متوج ثم ملك بعده تبع بن حسان بن تبع، وهو تبع الأصغر آخر التبابعة - وكان مهيباً - فبعث ابن بنت أخيه الحارث بن عمرو بن حجر الكندي إلى معد وملكه عليها وسار إلى الشام فلقيه قوم من بني عمرو بن عامر فشكوا إليه ما نزل بهم من اليهود بيثرب وذكروا له سوء مجاورتهم لهم ونقضهم العهد الذي بينهم. فسار إلى يثرب ونزل في سفح أحد وبعث إلى اليهود فقتل منهم ثلاثمائة رجل وذللها لهم. وتبع هذا - هو الذي عقد الحلف بين اليمن وربيعة - وكان ملكه ثمانية وسبعين سنة.

ربيعة بن مرثد ملك متوج

ربيعة بن مرثد ملك متوج ثم ملك ربيعة بن مرثد بن عبد كاليل، وكان عاقلاً حسن التدبير، وكان ملكه سبعاً وثلاثين سنة. حسان بن عمرو ملك متوج ثم ملك حسان بن عمرو بن تبع - وهو الذي أتاه خالد بن جعفر بن كلاب في اسارى قومه فأطلقهم - وكان ملكه خمساً وثلاثين سنة. أبرهة بن الصباح ملك متوج ثم ولي أبرهة بن الصباح - وكان عالماً جواداً - وكان يعلم أن الملك في بني نضر بن كنانة، فكان يكرم معداً، وكان ملكه ثلاثاً وسبعين سنة. لخيعة بن ينوف ملك متوج ثم ملك بعده رجل ليس من أهل الملك ولكنه من أبناء المقاول يقال له (لخيعة بن ينوف) فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل الملك منهم - وكان رجلاً فاسقاً يعمل عمل قوم لوط، وكان يرسل إلى الغلام من ابناء الملوك فيقع عليه في مشربة قد صنعها لذلك - ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده - وقد أخذ مسواكاً جعله في فمه ليعلمهم إنه قد فرغ - ولم يزل كذلك حتى بلغ إلى زرعه ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان - وكان صبياً صغيراً - حين قتل حسان، ثم شب غلاماً جميلاً،

ذو نواس زرعة بن تبان أسعد ملك متوج

فلما آتاه رسوله عرف ما يريده فأخذ سكيناً لطيفاً وجعله بين قدمه ونعله. ثم آتاه، فلما خلا به وثب عليه ذو نواس فقتله، ثم حز رأسه وجعله في الكوة التي كان يشرف منها على الحرس ووضع مسواكه في فمه، ثم خرج على الناس فقالوا له: ذو نواس أرطب أم يباس؟ فقال لهم: سلتحماس اسطرباس لا باس فلما نظروا إلى الكوة إذا رأسه مقطوع، وكان ملكه سبعاً وعشرين سنة. ذو نواس زرعة بن تبان أسعد ملك متوج فلما بلغ حمير ما فعله ذو نواس قالوا له: ما ينبغي أن يكون لنا ملكك غيرك، إذ قد أرحتنا من هذا الخبيث - وكان آخر ملوك حمير - فأقام في ملكه زماناً وهو صاحب الأخدود الذي ذكره الله في القرآن، وذلك إنه بلغه عن أهل نجران أنهم آتاهم رجل من آل جفنة من غسان، فردهم إلى دين النصرانية، فسار إليهم ذو نواس بنفسه حتى احتفر أخاديد في الأرض وملأها ناراً، فمن تبعه على دينه خلى عنه ومن أقام على النصرانية قذفه فيها حتى أتى بامرأة ومعها صبي صغير ابن سبعة أشهر فقال لها: ابنها أمضي يا أماه على دينك فإنها نار وليس بعدها نار، فمر بالمرأة وابنها في النار رجل يقال له ذو ثعلبان واسمه دوس، فسار في البحر إلى ملك الحبشة فأخبره بما فعل ذو نواس بأهل دينه، فكتب ملك الحبشة إلى قيصر يعلمه بما فعل ذو نواس ويستأذنه في التوجه إلى اليمن. فكتب إليه يأمرن بالمسير إليها. فأعلمه إنه سيظهر عليها وأمره أن يولي ذا ثعلبان أمر قومه ويقيم فيمن معه باليمن. فأقبل ملك الحبشة في سبعين رجل فجمع أهل ذو نواس وحاربهم فهزمهم وقتلوا كثيراً من أصحابه، ومضى مهزوماً - وهم

في أثره إلى البحر - فاقتحم فيه فغرق بمن معه من أصحابه، وكان ملك ذي نواس ثمانية وثلاثين سنة، فقال رجل من حمير يرثى حمير وذهاب ملكهم: دعيني لا أبا لك لن تطيقي ... لحاك الله قد انزف تريقي لدى عزف القياناذ انتشينا ... وإذ نسقي من الخمر الرحيق وشرب الخمر ليس علي عاراً ... إذا لم يشكني فيه رفيقي فإن الموت لا ينهاه ناه ... ولو شرب الشفاء مع السويق ولا مترهب في اسطوان ... يناطح جدره بيض الانوق وغمدان الذي حدثت عنه ... بنوه مسمكاً في رأس نيق مصابيح السليط يلحن فيه ... إذا أمسى كتوماً ماض البروق فاسلم ذو نواس مستكيناً ... وحذر قومه ضنك المضيق وان الحبشة هدمت سلحين وبينون، وكان الذي هدمهما ارياط الحبشي، ولم يكن يوجد مثلهما في الدنيا - فقال في ذلك شاعر من حمير: أو ما رأيت وكل شيء هالك ... بينون خاوية كأن لم تعمر أو ما رأيت وكل شيء هالك ... سلحين خاوية كظهر الادبر أو ما رأيت بني عطاة ناهيا ... قد أصبحت تسقي عليهم صرصر أو ما سمعت بحمير وقصورها ... أمست معطلة مساكن حمير فابكيهم أما بكيت لمعشر ... لله درك حمير من معشر قال ابن هشام - وهو الذي عنى شق وسطيح الكاهان - حين قال: سطيح: ليملكن أرضكم الحبش وليملكن ما بين أبين إلى جرش

أبرهة الاشرم

- وهو الذي عنى شق بقوله -: لينزلن أرضكم السودان وليغلبن على كل طفلة البنان ليملكن ما بين أبين إلى نجران. أبرهة الاشرم أول ملك من الحبشة افتتح اليمن وملكها - وهو الذي أراد هدم البيت - فسار إليه ومعه الفيل، فأهلك الله جيشه بطير أبابيل، ووقعت في جسده الآكلة، فحمل إلى اليمن فهلك بها. وفي ذلك العصر ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال نفيل سائس الفيل حين رأى ما أنزل الله عز وجل من نقمته: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب وقال أيضاً: إلا حييت عنايا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا ردينة لو رأيت فلا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسى على وأأمبما فات بينا حمدت الله إذ أبصرت طيراً ... وخفت حجارة تلقى علينا وكل القوم يسأل عن نفيل ... كان علي للحبشان دينا فخرجوا يتساقطون بكل طريق فهلكوا على كل منهل، فيقال: أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري في أرض العرب من ذلك العام. فقال طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب في ذلك: ألم تعلموا ما كانفي حرب داحس ... وحرب أبي يكسوم إذ ملكوا الشعبا فلولا دفاع الله لا شيء غره ... لا صبحتوا ولا تملكون لكم شرابا

يكسوم بن ابرهة الاشرم ملك متوج

يكسوم بن ابرهة الاشرم ملك متوج ثم ملك بعد ابرهة الاشرم ابننه يكسوم، سار سيرة الحبشة باليمن، فخرج سيف بن ذي يزن الحميري - ويكنى أبا مرة - حتى قدم على قصير فشكا إليه ما هم فيه وسأله أن يخرجهم ويليهم قيصر ويبعث إليهم من شاء من الروم فيكون لهم، فلم يجبه إلى ما سأل. فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر - وهو عامل كسرى على الحيرة - وشا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان: أن لي على كسرى وفادة فيكل عام فاصبر حتى يكون ذلك ففعل. ثم خرج معه فأدخله على كسرى - وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه تحت تاجه، وكان تاجه مثل الهيكل فيه من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة عشرة قناطير، وتاجه معلق بسلسلة في رأس طاقة في مجلسه وعنقه ولا يحمل تاجه وإنما يستر السلسلة بالثياب حتى يقعد تحت التاج فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا سجد له هيبة - فلما دخل عليه سيف بن ذي يزن برك. قال ابن هشام: ولما دخل عليه سيف بن ذي يزن طأطأ رأسه. فقال الملك: ما بال هذا الأحمق يدخل مجلسي من هذا الباب ثم يطأطئ رأسه؟ فقيل ذلك لسيف فقال: إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء، ثم قال له: أيها الملك غلبت الأغربة علينا في بلادنا، فقال كسرى: أي الاغربة السند أم الحبشة؟ قال له: الحبشة. وجئتك لتنصرني ويكون ملك أرضي لك. قال له كسرى: بعدت أرضك مع قلة خيرها ما كنت لأورط فارس في بلاد الحبشة لا حاجة لي بذلك. ثم أجازه بعشرة آلاف درهم وكساه بكسوة حسنة، فلما خرج سيف نثر ذلك الورق للناس. فلما بلغ ذلك الملك قال: إن لهذا شأناً، ثم بعث إليه

فقال: عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس، فقال: ما اصنع به من جبال أرضي كلها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها. فقال: فجمع سرى مرازبته وقال: ما ترون في أمر هذا الرجل وما حاله؟ فقال له رجل منهم: أيها الملك أن في سجونك رجالاً حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكها كان في ذلك الذي أردت، وإن ظفروا كان ملكاً زاده الملك إلى مله فبعث كسرى بمن كان في سجونه معه - وكانوا ثمانمائة رجل - واستعمل عليهم وهرز وكان ذا سن فيهم وفضل وحسب، وخرجوا في ثمان سفن فغرقت سفينتان ونجا منها ست غلى ساحل عدن. وجمع سيف من استطاع من ثومه وقال لو هرز: رجلي ورجلك حتى نموت جميعاً أو ننصر. فقال وهرز: أنصف الرجل. فخرج إليهم يكسوم بن ابرهة بجنوده، فأرسل إليهم وهرز ابناً له فقاتلهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقاً عليهم. فلما أخذ الناس على مصافهم قال وهرز: أروني ملككم؟ فقالوا له: هو ذلك الذي على الفيل عاقداً تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة، قال: قد رأيته اتركوه. ووقف طويلاً وقال: أين هو؟ قالوا له: قد ركب البغلة. قال وهرز: بنت الحمار ذل وذل ملكه سأرميه، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا إلى أن أوذنكم فاني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم وقد اجتمعوا فقد أصيب فاحملوا عليهم. ثم أوتر قوسه وكان لا يوترها غيره لشدتها، ثم رمى بقصد الياقوتة التي بين عينيه فنفذت النشابة من الياقوتة وخرجت من قفاه واستدارت الحبشة عليه وحملت عليهم الفرس وقبائل اليمن فانهزموا وقتلوا وهربوا في كل وجهة. فقال سيف بن ذي يزن في ذلك: يظن الناس بالملكين ... أنهما قد التأما

سيف بن ذي يزن أول ملك متوج

ومن يسمع بأمرهما ... فإن الأمر قد فهما قتلنا القيل يكسوما ... واروينا الكثيب دما وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي في ذلك أيضاً: وقال في غير الكتاب أمية بن أبي الصلت: ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... إذ ريم البحر للأعداء أحوالا يمم قيصر لما حان رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذي سالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إليك عندي لقد أشرفت إقبالا لله درهم من عصبة صبروا ... ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا واطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعداً بوالا سيف بن ذي يزن أول ملك متوج وأقام سيف بن ذي يزن ملكاً من قبل كسرى يكاتبه ويصدر في الأمور عن رأيه إلى أن قتل وإن سبب قتله إنه أخذ من أولئك الحبشة خداماً فخلو به في منضدة فزرقوه بحرابهم فقتلوه وهربوا فطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً. وانتشر الأمر باليمن ولم يملكوا أحداً على أنفسهم غير أن كل ناحية ملكوا عليهم رجلاً من حمير، وكانوا كمثل ملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام. وهذا ما كان من أخبار الملوك الدابرة والأمم

الغابرة والحمد لله على ذلك كثيراً كما هو أهله. تم الكتاب بحمد الله الوهاب. وما ذكر من أخبار سيف بن ذي يزن الحميري في نسخة من غير هذا التأليف. قيل: لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنين أتته وفود العرب وأشرافا وشعراؤها لتهنئة وتمدحه وتذكر ما كان من آلائه وطلبه بثار قومه. فوفد عليه عبد المطلب بن هاشم وأمية بن أبي الصلت وأمية بن عبد شمس وخويلد بن أسد في جماعة من أهل بيته وإذا الملك جالساً في رأس غمدان - وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت لطلب الوتر: إن المكارم والأفضال في يزن ... لجج في البحر للأعداء أحوالا أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده النصر الذي سالا ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا حتى أتى ببني الأحرار يقدمها ... تخالهم فوق متن الأرض أجبالا من مثل كسرى وما دار الملوك له ... ومثل وهرز يوم الموت إذ صالا لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا لا يفخرون وإن جدت مفاخرهم ... فلا ترى منهم في الطعن ميالا غر حجا حجة بيض مراجحة ... أسد تربب في الغيطان أشبالا يرمون عن شدف كأنه عطب ... في جحفل جعل الأموات أسجالا أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا

ثم أطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد ابوالا ثم استأذن وهو على سريره وتاجه على رأسه ووميض المسك في مفرقه وسيفه بين يديه وعن يمينه وشماله الملوك والمقاول وأبناء الملوك، فسلم عبد المطلب، ودنا وأستأذنه في الكلام. فقال له سيف: إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فقد أذنا لك. فقال عبد المطلب: أيها الملك، إن الله جل اسمه قد أحلك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً وأنبتك منبتاً طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن. وأنت أيها الملك رأس العرب وربيعها الذي به تخصب وأنت عمودها الذي عليه عمادها ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك لنا خير سلف وأنت لنا منهم خير خلف ولم يخمد ذكر من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه، نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا الذي أبهجنا إليك لكشف الكرب فنحن وفد التهنئة لا وفد الرزية. فقال سيف: أيهم المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم أصلح الله الملك. قال: مرحباً وأهلاً وناقة ورحلا وملكاً ربحلا يعطي عطاء جزلاً قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، فأهل الليل والنهار ما أقمتم ولكم الحباء إذا ظعنتم، ثم انهضوا إلى دار الضيافة وأجرى عليهم الإنزال وأقاموا لا يصلون إليه ولا بأذن لهم شهراً. ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأحضره وأدنى مجلسه ورفع قدره. ثم قال له: يا عبد المطلب إني مفوض إليك أمراً لو كان غيرك لم أبح له به، وجدتك معدنه فأطلعتك عليه: إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون خيراً عظيماً وخطراً جسماً فيه شرف الحياة

وفضيلة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة. فقال عبد المطلب: أيها الملك عز جدك وطال عمرك ودام ملكك، فهل المملك مخبري بإيضاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح. فقال سيف: هذا حبه الذي يولد فيه أو قد ولد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه وقد وجدناه مراراً والله باعثه جهاراً وجاعل له منا أنصاراً بعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويضرب الناس عن عرض ويستبيح بهم كرام الأرض بعبد لرحمن ويكسر الأوثان، قوله فصل ووجهه سهل وأمره عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله غضيض الطرف عفيف للفرج مبارك الطلعة ميمون الغرة، صادق اللهجة تظله الغمام ويهتدي به الأنام. قال: فخر عبد المطلب ساجداً لله. فقال سيف: ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئاً؟ قال: نعم. أصلح الله الملك كان لي ولد وكنت به معجباً وعليه شفيقاً فزوجته بكريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجاءت بغلام سميته محمد. مات أبوه قبل أمه وكفلته أنا وعمه. فقال سيف: والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب، انك يا عبد المطلب لجده غير الكذب، فاحفظ ابنك واحذر عليه من اليهود فأنهم له عدى ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً وأطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الذين معك، فلست آمن أن تدخل النفاسة بأن تكون لك الرياسة فيبتغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم غافلون عن ذلك وآباؤهم ولولا أن الموت محتاجي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته. فاني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون أن بيثرب استحكام أمره ودار هجرته وأهل نصرته وموضع حفرته ولولا أني أخشى عليه

الآفات واحذر عليه العاهات لا وطأت رقاب العرب كعبة وأعليت على حداثة سنه ذكره ولكني سأصرف ذلك إليك من غير تقصير مني، ثم أمر لكل واحد منهم بثمان من الإبل وعشرة من الخيل وعشرة ن البقر وعشرة من الغنم وعشرة من العبيد وعشرة أرطال ذهب وعشرة أرطال من الفضة وبكرش مملوءة عنبر أو بكرش كلؤلؤة مسكاً، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: يا عبد المطلب إذا رأس الحول فأتني بخبر ابنك وما يكون من أمره. فمات سيف قبل رأس الحول. فكان عبد المطلب يقول: لا يغبطني أحد بجزيل عطاء الملك ولكن يغبطني بما سيبقى لي شرفه وذكره إلى يوم القيمة - والله أعلم. تم الكتاب بحمد الله تعالى ومنه وكرمه وحسن توفيقه فله الحمد على كل حال وكان الفراغ من رقمه وقت العصر من يوم الأحد الرابع عشر من شهر جمادي الآخرة أحد شهور سنة أربع وثلاثين بعد ألف من الهجرة وذلك بخط الفقير إلى الله سبحانه وعالي المطهر بن عبد الرحمن بن المطهر بن الإمام شرف الدين وكتبه يومئذ في الدار الحمراء ولي سبع سنين وثلاثة أشهر أسيراً. فلله الحمد على ما قسم لي واسأل الله بحق القرآن العظيم أن يضاعف الأجر ويمن بحسن الصبر والقبول لما كتبه الله وإن يفك أسري بحق محمد المصطفى ويفك أسر الجميع من المسجونين آمين آمين آمين وصلى الله على أشرف خلقه إليه وأقربهم منزلة لديه خاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها على الوفاء والكمال والحمد لله على كل حال

أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها على الوفاء والكمال والحمد لله على كل حال

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله حمد الشاكرين وسبحانه تعداد الأيام والسنين وصلى الله على رسوله خاتم النبيين وخيرته من خلقه الأمين وعلى آله الطاهرين ورحمته وسلامه. حدثنا عبيد بن شرية الجرهمي عن البرقي يرفع الحديث: أن معاوية بن أبي سفيان، كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عشر سنين ووليها لعثمان أيضاً عشراً، ثم وليها بنفسه عشرين سنة، ودانت له المشارق والمغارب ونال رفاعة الملك - وهو أول من تملك واتخذ المقصورة ووقف على رأسه إذا سجد وجمع الأموال - وكانت أفضل لذاته في آخر عمره المسامرة وأحاديث من مضى. فقال له عمرو بن العاص: لو بعثت إلى الجرهمي الذي بالرقة من بقايا من مضى فانه أدرك ملوك الجاهلية وهو أعلم من بقي اليوم في أحاديث العرب وأنسابها، وأوصفه لما مر عليه من تصاريف الدهر. فبعث إليه معاوية، فأتى في محمل بعد أيام كثيرة وشدة شوق من معاوية إليه، فدخل عليه شيخ كبير السن صحيح البدن ثابت

العقل منتبه ذرب اللسان كأنه الجذع فسلم على معاوية بالخلافة، فرحب به معاوية وقال له: أني أردت اتخاذك مؤدباً لي وسميراً ومقوماً، وانا باعث إلى أهلك وأنقلهم إلى جواري وكن لي سميراً في ليلي ووزيراً في أمري. قال: يا أمير المؤمنين (رأيتني ورأيت رحلي) فأرسلها مثلاً في العرب، قال له معاوية: فذلك أخف لمئونتك وأحلى للزومك. فأمر به معاوية فأنزله في قربه وأخدمه وأمر من يجري وضيفته ووسع عليه وألطفه. فإذا كان ذلك في وقت السمر فهو سميره في خاصته من أهل بيته وكان يقصر عليه ليله ويذهب عنه همومه وأنساه على كل سمير كان قبله ولم يخر على قلبه شيء قط إلا وجد عنده فيه شيئاً وفرحاً ومرحاً. فإذا به كان يحدثه وقائع العرب وأشعاره وأخباره أمر أهل ديوانه وكتابه أن يوقعوه ويدونه في الكتب. فبينما هو ذات يوم في مجلس لمعاوية وفيه عمرو بن العاص وجماعة من قريش - وقد أخذوا في الحديث وعبيد بن شرية يحدثهم - قال له معاوية: كما أتى عليك من العمر يا عبيد؟ قال: كثيراً يا أمير المؤمنين، كفاك إنه لم يبق جرهمي غيري أتى علي مائة سنة وخمسون سنة. قال له معاوية: هل شهدت دخول الحبشة ورجمها البيت الحرام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. إنما كان ذلك بالأمس، ولقد أدركت عامة ملوك لخم وكندة وحمير وغسان. قال له معاوية: حدثني يا عبيد كيف كانت الجاهلية باليمن ولم يكن لبنى معد بن عدنان معهم ذكر ولم يظفروا منها طائل؟ قال: يا أمير المؤمنين، ومثلك يجهل هذا إنما كانت مضر بالأمس وكانت اليمن وملكت ولم يكن مضر ولا معد ولا عدنان ولا إسماعيل، إنما اليمن من ولد هود واسمه بالسريانية عابر وبينه وبين

إبراهيم عليه السلام ثمانمائة سنة وعاش صلوات الله عليه مائتي سنة وقيذار عاش مائة سنة وأربعين سنة ومضر من ولد قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم فكيف حتى ولد عدنان ومعد ونزار ومضر وكيف حتى شعبت الآثار وانتشروا في البلاد؟ فالله معاوية: صدقت وبررت. أخبرني عنك مالك إذا ذكرت إبراهيم لم تملك أن تصلي عليه، وقد ذكرت والدكم هوداً نبي الله فلم تصل عليه وهو نبي الله! قال: يا أمير المؤمنين والله لهو أحب إلي من أبي الذي حملني في صلبه وأحب ألي من أمي التي أرضعتني ولا أعدل بخليل الرحمن أحداً ولا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولا هودا صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء. قال له معاوية: انك لمنصف فخذ في حديثك يرحمك الله عن ملوك اليمن. وقد بلغني عن حمير وسيرها في البلاد وملكها في مشارق الأرض ومغاربها وكيف كان ذلك تسخر العرب والعجم؟ وعن افتراق السنة الناس وعن أهل بابل؟ ومتى كان ذلك؟ وكيف كان ذلك؟ وسألتك الاتمر بشعر تحفظه فيما قاله أحد إلا ذكرته؟ قال: يا أمير المؤمنين لك في غير هذا الحديث ما يقصر ليلك وتلذ به في نهارك فإن فيه ما تهوى وما لا تهوى ومغضبة وشغفاً للملوك! ونعش المودة. قال: عزمت عليك إلا اتبعت هواي وحدثتني ما علمت مما أسألك عنه فأنت في جوار الله وذمته وآمان مني ومن غضبي ونعش مودتي. قال جميع جلساء معاوية: ولك منا ذلك من جميعنا. وأمر معاوية كتابه أن يدونوا ما يتحدث به عبيد بن شرية في كل مجلس سمر قيه مع معاوية. قال عبيد: سل يا أمير المؤمنين، قال معاوية: فمن العرب العاربة ومن العرب المستعربة؟ قال: يا معاوية أتعلم أنت وغيرك من أولى العلم إنما هي عاد وثمود وسم وجديس وأرم والعماليق ورهم وقحطان بن هود، فهم

كانوا أوائل الناس منهم يعرب الذي تكلم بالعربية كل أخذه من يعرب ابن قحطان بن هود وإليه تنسب العربية. فقيل: عربي لأن يعرب أول من نطق بها وليس أحد غيره تكلم قبله بها، فهذه الأجناس التي سميت لك تكلمت بكلام يعرب بن قحطان بن هود، النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كان إسماعيل ونقله أبوه إبراهيم صلى الله عليه وسلم من بلاده فأنزله بمكة فكنا نحن جرهم أهل البلد الحرام فنشأ إسماعيل فينا وتكلم بكلام العربية وتزوج منا. فجميع ولد إسماعيل من بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وأبوه وإسماعيل منا. وأنتم يا قريش منا، والعرب بعضها من بعض. ألم تعلموا أنكم من ولد إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم ونحن ولدنا وأبوه آزر واسمه تارخ بن ناحور بن ارغو بن شارخ بن فالغ بن عابر - وهو هود - فهو أبونا وأبوكم فنحن ولدناكم وأنتم منا ونحن منكم قليل في كثير - قال معاوية: كانك تحدث عن حديث الجاهلية! قال عبيد: يا أمير المؤمنين لك في الإسلام ما يغنيك عن ذلك، فقد محق الإسلام ما كان قبله - كما محق الشمس ضوء القمر - قال: عزمت عليك إلا حدثتني عما أسألك عنه؟ قال: يا أمير المؤمنين كان من خبر أهل بابل وافتراق السنة الناس، إنه لما كثر ولد سام ويافث وحام - أولاد نوح - في بلاد الله وأراد الله أن يفرقهم في البلدان ويخالف بين ألسنتهم، فبعث عليهم الأرواح الأربع، قال معاوية: ما هذه الأرواح الأربعة؟ قال: الشمال والجنوب والصبا والدبور، فضمتهم الأرواح الأربع من أربع جوانب من كل ناحية كانوا بها ساقتهم فجمعتهم ببابل وكانوا بها، ثم مكثوا بها ثلاثة أيام يموج بعضهم في بعض وعلموا أن ذلك أمر من السماء ولا يدرون ما يراد بهم غير أنهم لا يشكون أن الله

الذي فعل بهم ذلك، والله مظهر إرادته. فلما كان اليوم الرابع سمعوا من قبل السماء صوتاً ينادي: إلا أن الله مفرق بين ألسنتكم ومسكنكم أطراف الأرض فأيما قوم توجهوا وجهاً فكلامهم ولسانهم واحد. قال معاوية: وما كان اللسان يومئذ؟ قال عبيد: سرياني أوله وآخره وهو لسان أبينا آدم عليه السلام ونوح وإدريس. قال معاوية: كيف اختصت أرض بابل باجتماع الناس فيها؟ قال عبيد: هي سرة الأرض في فضلها وأراد الله ذلك بها. قال معاوية: ومن أول من انطقه الله غير السريانية، وأول من توجه من بابل؟ قال: أول من توجه من بابل يعرب بن قحطان ابن عابر - وهو هود النبي عليه السلام - بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح توجه من بابل بجميع ولده ومن اتبعه، ثم نادى إني سائر في بلاد الله فمن تبعني فله ما لي وعليه ما علي. قال معاوية: بالعربية أم بالسريانية؟ قال عبيد: لم ينطق بغير اللسان السرياني حتى استقر به قراره في بلد سوى بابل. قال معاوية: سألتك إلا أخبرتني بما تكلم يعرب أو ما تكلم؟ قال: يا أمير المؤمنين ذكر اسم ربه عند نزوله بالعربية وتكلم شعراً وتكلم بها بعده ولده. قال معاوية: أذكر الشعر الذي قاله يعرب. قال عبيد قال يعرب: أنا ابن قحطان الهمام الأقيل ... لست بنكال ولا مؤمل والمبتدئ باللسان المسهل ... بالمنطق إلا بين غير المشكل برزت والأمة في تبلبل ... نحو يمين الشمس في تمهل ونقهر الأمة في تفضل ... قد جاءنا نوح بقول فيصل ونوح جد للجدود الأول ... لابد في عقب الزمان الأطول

نميركم ينطق بالمرسل ... بالنحو والإعراب والتنزل وكل خير ما روى الرواة لي ... من الآلة ذي الجلال المفضل قال معاوية: فأين توجه؟ قال عبيد: لما خرج يعرب بجميع ولده - وكان أقوى ولد سام بن نوح - وأعظمهم شأناً لم يقصر حتى نزل بأرض اليمن التي هم بها اليوم. قال معاوية: فمن شخص بعد يعرب؟ قال: عاد ابن عوص بن ارم بن سام بن نوح حتى جاوره. قال معاوية: فما صار إليه شأنه وبما أنطقه الله؟ قال عبيد: لما توجه إلى ما قبل يعرب تكلم بكلام يعرب. قال: فهل نطق بشيء من الشعر؟ قال: نعم كثير. قال: فاذكر بعض ما ذكره فانا نرويه، قال عبيد: سأذكر لك من كل شيء سبباً. قال عبيد: لما استقر باد قراره أنشأ يقول: إني أنا عاجد الطويل النادي ... ذو العز والقوة والسداد والبطش والموال والأولاد ... يا قوم أجيبوا صوت ذا المنادى فقد سمعتموه إذ ينادي ... من غير ما شخص ترون بادي ففيه عبرة لذي السداد ... فسرت بالطارف والتلاد حتى حللت بالهمام عادي ... قد قال نوح خيركم أولادي عاد المعادي غالب الأعادي ... من ولد عوص الغر ذي الميعاد وحل عاد بالأحقاف، ثم شخص بعده ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح في وادي صنعاء ليعرب حتى حل في جهتهم وتكلم بكلامهم - وبعض ما قال حين نزل مضاهياً لقول بني أعمامه: يا قوم سيروا واعلموا القعودا ... لعلنا ندرك ذا الوفودا

ويعرب المتوج الصنديدا ... وخلفوا الأرذال والوغودا والمعشر الأنذال والعبيدا ... قد مات نوح راشداً محمودا وقال إن خيركم ثمودا ... وسوف بعدي يوصفون جودا ويبعث الله لكم وليداً نبي صدق راحماً ودودا ونزل هؤلاء الحجر إلى قرح وهو نجو وادي القرى بين الشام والحجاز، قال ثمود أيضاً يدعو آخاه جديساً ويرغبه في إتباعه إياه: أيا جديس يا جديس ويحكا ... أخوك لا تؤثر عليه عمكا ولا تصر من منه حبلكا ... ويعرب الهمام بادر مجدكا وعاد ما عاد فاوطا الملكا ... لا تكثرون في المقام رأيكا قال: فلما انتهى قوله إلى جديس رحل في طلبهم بجميع ولده ومن اتبعه معهم فنزل بقربهم ونطق بكلامهم لام يعرب - وبعض ما قال له جديس: أيا ثمود قد أجبت صوتك ... وقد عرفت أن المجد مجدك فدتك نفسي يا ثمود أنك ... دعوتني فما عصيت أمرك وكيف صبري يا ثمود بعدك ... وبعد عاد لا عدمت قربك ثم شخص بعده عمليق بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح متوجهاً في أثرهم حتى حل بقربهم بجميع ولده ومن ينسب إليه فتكلم بلسانهم وهو كلام يعرب. قال معاوية: سألتك إلا شددت حديثك ببعض ما قالوا من الشعر ولو ثلاثة أبيات؟ قال عبيد: في بعض ما قال عمليق: لما رأيت الناس في تبلبل ... وسار مناخيرنا في أول خير الملوك يعرب المفضل ... بالسادة الغر ذوي التجمل أهل الحجا والنبل والتبتل ... وسار عاد ذو القوام الأطول فجد منا في لحاق المعقل ... بمورد الحزم بأمر فيصل فقلت سيروا غير ما تخزل ... فسرت طرداً بلا سوام النقل

فقلت يا طسم إلي فأعجل ... إني أنا عمليق غير مشكل أريد أرضاً ذات ملك أطول ... لعلنا نحل دار العدمل ثم اتبعه طسم بن لاوذ بن ارم بنسام بن نوح حتى لحق آخاه عمليقاً فتكلم بكلام يعرب قال: إني أنا طسم شبيه سام ... ووالدي لاوذ بن أرم لما رأيت من بني أعمامي ... وإخوتي الرحيل باعتزام قد اقتدوا بيعرب الهمام ... كرهت بعد أخوتي مقامي وكيف صبري بعد آل سام ... عمليق ثم عاد ذي القوام ويعرب ذي العزم والإقدام ... وخلفنا يافث وآل حام قال معاوية: هؤلاء أجمع ولد سام بن نوح؟ قال عبيد: نعم لم يرحل معهم سواهم. قال معاوية: فنزلوا جميعاً أم شتاتاً؟ قال: كل ذلك يا أمير المؤمنين لما ناداهم الصوت ببابل كل قوم توجهوا ناحية واحدة وكلامهم واحد، توجه يعرب أول من توجه بولده ولحق به ولد سام فتكلموا جميعاً بالعربية نزلوا جهة واحدة: فنزل يعرب وولده باليمن ونزل عاد بالأحقاف، ونزل ثمود مما يليهم على الساحل وجاور بعضهم بعضاً، وبقي ببابل ولد يافث وولد حام. قال معاوية: فلم صار أمرهم إليه؟ قال: يأتي عليك في الحديث حتى أخبرك خبراً يغنيك، إنه لما كثر ولد يعرب وولد عاد وثمود وطسم وعمليق وجديس ضاقت بهم أرضهم، فأول من رحل منهم عمليق وولده حتى أتوا الحرم فنزلوا به كافة. قال معاوية: وهم يعلمون إنه حرم الله؟ قال عبيد: نعم قد كانوا لمعلمون أن آدم وإدريس ونوحاً كانوا يعظمونه. قال عاوية: فمن قال في نزولهم

الحرم شعراً. قال: نعم قد قال أصغر بن الحارث بن يعفر بن عمليق: أنا ابن مأمون الجوار الأصعر ... الحارث المفضال نجل يعفر وجدي السيار غير المنكر ... عمليق إذ سار بجيش مشهر لما رأيت الدهر ذا غير ... فسرت سيراً بالجموع البهر من آل عمليق الكريم المفخر ... إلى حريم الأرض أرض المحشر من أرض سام جدنا الموثر فلما رأى ذلك ولد جديس رحلوا بأجمعهم حتى نزلوا بأرض اليمامة فاتسعوا بها. فلما رأى ذلك جميع ولد طسم لم يهنئهم المقام بعد ولد جديس وضاق بهم المقام وقد بلغهم عن بني جديس سعة بلادهم فرحلوا حتى حلوا بهم وقال في ذلك الأعجب بن مهراق بن سلام بن جديس: غرنا الدهر بطول للبقا ... ورمى الدهر فأودى إذ رمى فلقد أخنى علينا كلكلا ... مهد القوة منا والقوى رحلت طسم إلينا للقضا ... بعدما ضاقت بها الأرض الفضا فقبلناها على ما كان من ... حدث الدهر وقلنا مرحبا ليس عيش دونكم يصفو لنا ... كل عيش بعد طسم لا صفا ابلغا يعرب عنا لما ... دارت الشمس وأوفت بالسما يا خليلي سلاماً دائماً ... من عشير بهم شط النوى ليت شعري كيف أنتم بعدنا ... يا بني يعرب يا أهل الحجا يا بني يعرب أنتم سادة ... كنتم من آل سام في الذرى ولقد فضلكم خالقكم ... بلسان فيه نور وسنا فجميع الناس طوعاً لكم ... كلهم فلا عز فيكم والسنا

وبنو عاد جميعاً غلبوا ... من يناويهم بعزوبها وبني عمليق منا فاذكروا ... وبني طسم وكل قربا إنما ابكي لنأتي عنهم ... وبحق يسأل منا من بكى ذل من أصبح من أخيارنا ... نازح الدار وأمسى موهنا لست أنساه إذا نادى بنا ... يوم نادانا بلا شخص يرى فانصرفنا إلى أوطاننا ... بكلام غير سر بيننا بعدما كان لساناً واحداً ... صار اثنين وسبعين سوا قال: فما صنع من بقي ببابل من ولد حام ويافث وقد سبقهم ولد سام إلى أفضل البلدان؟ قال: فسار طسم بن لاوذ بن يافث بن نوح راغباً عن مسير ابن عمه حتى دخل أرض فارس، فيقال ان جميع أجناس الفرس منولده، فلما رآهم جميع ولد يافث بن نوح قد رحلوا، بأجمعهم حتى حلوا بين المشرق والمغرب من ناحية الجربياء - وهم فيما يقال الترك والصقالبة وياجوج وماجوج وبرجان والروم والأسبان - والروم ولد ياوار بن يافث بن نوح وولد ياجوج وماجوج بن يافث بننوح، الترك وأجناسهم وماشج بن يافث بننوح وبرجان من بني يافث بن نوح، والصقالبة ولد اشميل بن يافث بن نوح، ثم سار جميع ولد كوش بن حام ابن نوح وأجناسهم حتى حلوا أطواف المشارق والمغارب. وأما ولد كنعان ابن حام بن نوح فهم ولد كنعان بن كوش بن حام - وهم البربر - فسار حتى جاز بفلسطين وبيت المقدس وفي أطراف الأرضين وأتوا بها حتى بعث الله نبيه داود وهو الذي أسس بيت المقدس وسليمان بن داود معه ولقد بلغني أن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم سأل الله أن لا يدخل

بيت المقدس مؤمن بالله ورسله وكبه إلا أخرجه الله من ذنوبه كيوم ولدته أمه فأعطاه الله ذلك ولم تسخر الريح بعده لأحد ولا الشياطين ولا العفاريت ولا الطير، وبلغني إنه لم يملك أحد ملكه. فدعا داود البربر إلى الله فكذبوه وقاتلوه كما سمعت في كتاب الله {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة} وبلغني عن هذه الآية {إن فيها قوماً جبارين} أنهم أولاد بربر ابن كنعان بن كوش بن حام، فقتلهم بعد ذلك يوشع بن نون، فلم يزل يقاتلهم حتى نقلهم إلى أطراف الأرض ملك من ملوك حمير يقال له افريقيس. ثم ابرهة ذو المنار بن الرائش كثير الغزو ومغير في الأرض. فلما دخل أرض أفريقية وباسمه سميت أفريقية، فرأى أرض المغارب يبة خالية طنجة وتنيس فنقلهم إليهما وعمر بهم المغارب وأطراف الأرض. وأما أخوتهم ولد قبط بن مصرايم بن حام فنزلوا بفلوات المغارب ففيهم أنزل الله {إن فيها قوماً جبارين} و {قتل داود جالوت} وهم يدعون إلى قيس وكانت البربر ولم تكن قيس قاطنة مصر - وهم ولد سام بن نوح والبربر من ولد حام - فأين الملتقى إلى نوح ولكنهم بالأمس نظروا أهل تنيس إذ كانوا ببيت المقدس ولو دعاهم أحد إلى نسبه أيضاً أجابوه ولكنهم ولد بربر بن كنعان بن كوش بن حام، وذو والأحلام منهم يعلمون أن هذا باطل - وهم أقدم من ذلك - وهل يجهل ما وصفت لك أهل العلم منهم - وهم أخوة النوبة - وولد قوط الحبشة، وفيهم ما في ولد حام من عزة النفس والشجاعة والشدة وقلة الرحمة ونساءهم أرحم من رجالهم، وفيهم الجفاء والخلف نرى ثقل أهل الحلم منهم، فنقول: صالحون ما لم يغضبون فإن غضبوا كفروا، دين أحدهم على طرف لسانه أصحاب غدر

وسحر لا يعرفون المكر من جاء إليهم منعوه كان على الحق أو غيره. ولا ينقادون بعضهم لبعض - تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى - لهم بأس وصبر وقد حرموا النصر يربحون ولا يربحون ولا يدينون وإن قهروا يتبعون أهواءهم ويعصون أمراءهم إلا أن كانوا من غيرهم، حالفهم الخسران ولا ينظرون في النقصان، يكثرون الحجج من غير نية ويحلون في الحمية وأومأت أحدهم على غية، أطوع الناس لمخلوق في معصية الخالق أصحاب لهو وطرب، وأمورهم عجب من العجب لا يوقرون كبيراً ولا يرحمون صغيراً، يسيغون الأنساب ويتبعون الغراب من جاءهم بالإفك صدقوه، وإن دعاهم أجابوه، ويهينون الأموال ويكثرون الانتقال، يطرحون المودة ويخلفون الصديق، والقسوةمن رجالهم والرحمة من نساءهم. وبلغني في الحديث يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم {إن الملح والشهرة نزعت من بني إسرائيل وجعلت في نساء البربر} وبلغني أن أولاد بربر بن كنعان بن كوش بن حام الذين يزحفون لرجل من ولد فاطمة حتى يردوه إلى مكة - وهو صاحب العدل في آخر الزمان - وأصحابه يقال لهم الغرباء. قال له معاوية: قلت الصواب إن شاء الله وإن كلامك طيب وشقاء لما في الصدور، فأخبرني من كان الملك؟ قال عبيد: كان الملك يومئذ فارس بن أرم بن سام بن نوح، وافترقوا في البلدان، ثم ملك يعرب جميع ولد سام وكل جنس ملكهم منهم. قال معاوية: أخبرني عن القبط، من أبوهم وهل ملك منهم أحد؟ قال عبيد: أبوهم مليط بن ماش، وكان ملكهم دارا بن دارا الذي قتله الاسكنر. قال معاوية: فهل ملك القبط؟

قال: نعم كان ملكهم نمرود بن كنعان بن كوش بن حام وهو الذي أرسل إليه إبراهيم الخليل صلوات الله عليه قال: قد كان ادعى الربوبية قال: نعم يا معاوية يا سبحان الله لقد رغبته نفسه إلى أمر عظيم. قال عبيد: وقد كان فرعون قال أنا ربكم الأعلى ولم يملك إلا مصر وحدها وقوله: يدلك على ذلك إنه قال {أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} قال معاوية: فما فعل نمرود؟ قال عبيد: لم يزل إبراهيم صلى الله عليه وسلم يدعوه وأهل مملكته فعصى فأهلكه الله ومن معه من الكافرين، فأقام إبراهيم يدعوه ما شاء الله، ثم دعا بالختان فزعموا إنه اختتن وهو ابن عشرين سنة ومائة سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة وأمر بالمسير إلى بيت الله الحرام ووضع عند البيت ابنه إسماعيل وأم إسماعيل وكان أهل البيت يومئذ العماليق وجرهم وكانت أمور كثيرة بعد. قال: يا معاوية كان صالح وهود قبل إبراهيم بمائتي سنة، ولقد بلغني أن بين موت هود وصالح خمسمائة سنة. قال معاوية: كذلك بلغني. قال معاوية: فما الذي أخرج جرهماً من دار اليمن إلى الحرم؟ قال: لما تبلبلوا ولد يعرب وكثروا وضيقوا عليهم وتمادوا بأجمعهم على جرهم فرحلوا إلى الحرم. قال معاوية: فكم كانوا ولد قحطان الذين من صلبه خاصة؟ قال عبيد: كان جميع ولد قحطان أكبرهم يعرب وهو أول من تكلم بالعربية وأول من حيي بتحية الملوك أبيت اللعن وهي تحية الملوك ملوك الجاهلية وهو أول من حيي بها، والحارث بن قحطان وحضر موت بن قحطان ولام بن قحطان والعاص بن قحطان والشمر بن قحطان والملتمس بن قحطان وتحاسم بن قحطان وماعز بن قحطان وتبع بن قحطان والقطام بن قحطان وظالم بن قحطان وجرهم بن قحطان وامهم

حديث هلاك عاد

امرأة من ولد عاد وكلهم قد ملك ملكاً عظيماً غير ظالم كان يسير بالجيوش. حديث هلاك عاد قال معاوية: فحدثني يا عبيد عن هلاك عاد وكيف كان هلاكهم؟ قال عبيد: يا معاوية. إنه كان عاد بن عوص بن سام بن نوح - وهو الذي أحدث له عشرة من الولد وهم: شداد وهو أول من ملك منهم وطال ملكه وهو الذي عمل أرم ذات العماد، والخلود وهم رهط النبي هود صلى الله عليه وسلم، وتيم بن عاد وبر وبهار والعنود والحقود والصور وهم رهط أبي سعيد المؤمن وصدوهم رهط لقمان بن عاد صاحب النسور، ووفد وثمود ومتاب وهم رهط صاحب السحابات وأس وفد غار ورمل - وكانت عاد عشر قبائل وكانوا عرباً، وكانت مساكنهم الأحقاف - وهي الرمال ما بين حضر موت وبحر عدن - وذلك قول الله تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف}، وكانوا قد كثروا وانتشروا في البلاد من ارض اليمن كلها وما قاربها من البلاد وقسوا في البلاد، وكان الله قد أعطاهم بسطة في الجسم وقوة في الأبدان وسعة في الأرزاق ومهلاً في الأعمار لم يعطه أحداً من الخلق من بعد قوم نوح، وذلك قول الله عز وجل: {وزادكم في الخلق بسطة}، وقال سبحانه: {أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون}. فكفروا ربهم وطغوا بما فضل به على غيرهم فافسدوا في الأرض وعتوا عتواً كبيراً واغتروا بجهلهم وقالوا لنبيهم هود: أن هذا إلا خلق الأولين ظن وقال الله عز وجل: {وأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة} الآية. فلما كثر

عتوهم وكفرهم وظهرت فيهم المعاصي بعث الله نبيه هودا صلى الله عليه حجة عليهم لينذرهم وابعثه إليهم، وكان من أوسطهم بيتاً وأكرمهم حسباً وأعزهم رهطاً ليمنع من سفاهتهم حتى يبلغ رسالات الله، وقد سمعت ابن عمك عبد الله بن عباس يقول: إن الله لم يبعث نبياً قط إلى قومه إلا من أوسطهم بيتاً وأعزهم ليمتنع من سفاهتهم حتى يبلغ رسالات الله. قال: صدقت يا أخا جرهم، فهل تعرف أحداً من شعر العرب ذكر هوداً في شعره؟ وإن في كتاب الله لشفاء من العمى وبياناً من الجهلة ونحب أن نزداد، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: {إن من الشعر لحكمة}؟ قال عبيد: يا معاوية قال فيه حسان بن ثابت الأنصاري حيث يقول: وإن أخا الأحقاف إذ يعذلونه ... يجاهد في دين النبي ويعذل قال معاوية: صدقت يا ابن شريه، فحدثني حديثك عن عاد؟ قال: يا معاوية، وكان لعام أصنام يعبدونها دون الله تسمى صداء وبغاء وصمود. قال معاوية: فهل قيل فيها شعر؟ قال عبيد: نعم. قال أبو سعيد المؤمن - وهو من بيت سعيد - حيث قال: لنا صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والبغاء قال معاوية: صدقت، فخذ في حديثك عن عاد. قال: فبعث الله إليهم نبيه هوداً صلى الله عليه برسالاته وداعياً إلى عباداته فبلغهم الرسالة ونصح لهم ما استطاع. فردوا نصيحته وطرحوا قوله وكرهوا ما جاءهم به وكان من قولهم ما ذكر الله في كتابه في غير آية ولا آيتين: {وقالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين

أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}. قد سمعت ابن عمك يقول: أصابك بعض آلهتنا بجنون، قال هود: {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه} الآية. وسمعت ابن عمك يقول: إني بريء من آلهتكم الذين تزعمون أنها أصابتني بسوء فأصيبوني بأعظم من ذلك أن أخببتم، وقوله تعالى: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون} - يعني بكل نجد - والربع هو النجد مما ينصبون من الحجارة في النجاد وهي للنائي. سمعت ذلك من ابن عمك أيضاً. قال: صدقت يا عبيد وجئت بالبرهان الواضح، فحدثني عن هود. قال: نصح لهم هود بجهده وآتاهم بالحق من ربه، فلم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً وتمادياً في معصيته. وأسلم مع هود منهم نفر يسير لا يبلغون أربعين رجلاً وأسلم رجل من أشرافهم وساداتهم وذوي أحسابهم يقال له: أبو سعيد بن سعد بن عفير، وكان يكتم إيمانه - وهو رأس الوفود وصاحب البر والتقوى وودها - وقد بلغني يا معاوية إنه كان سائراً ذات يوم إذ مر بجماعة منهم في نادي قومهم فدعاهم إلى الله ووعظهم فحمل عليه رجل من سفهائهم بحجر فأدمى كعبه، فدعا عليهم هود عليه السلام أن يبتليهم الله بالقحط ويحبس القطر عنهم ثلاث سنين، فاستجاب الله له فحبس عنهم المطر وابتلاهم بالقحط ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك. قال معاوية: لله أنت يا عبيد فهل قيل في ذلك شعراً؟ قال عبيد: نعم. قال: فاسمعني ذلك. قال: لما دخلت السنة الأولى عليهم علموا أنها سنة قحط وأزمة فسموها حجرة. فقال في ذلك رجل من المسلمين - يقال له حماد هذا الشعر:

قد نزلت بأرض عاد حجره ... لها لهيب وعليها غبره فأرضهم جادبة مغبرة ... جاحمة وحرثها مصفرة ليس لها في يومها مسره ... ولا لعين بالنهار قره حلاوة الإتراف فيها مره ... لطاعة الله وفيها عبره وفي معاصيه الردى والحسرة ... فقد رأوا منك عظيم القدره إذ أرضهم يابسة كالصخره ... موحشة دون البلاد قفره مستبدلين خيره مضره ... إذ لم تزل تربتها مغبره وصادفت من ربها المعره فأجابه رجل من المشركين قال: وما أسمه؟ قال: اسمه الخلجان ابن الوهم فأنشأ يقول: إن السنين حلوه ومره ... فاخرة ولدنة مخضرة فمرة جدب وخصب مره ... ليست بنكر سنة مغبره معينهم ليست تدوم العره ... وعاد أولو همة وخبره محتالة للكسب ذات قدره ... وكلهم ذو وسعة يمره لهم بعز شوكة مسره ... كأنهم عند اللقاء جمره وهم معا في الخافقين عبره قال: فلما دخلت الثانية سموها كحلاً. فقال رجل من المسلمين يقال له مبتدع شعراً يقول فيه: قد نزلت كحل بآل عاد ... من السنين الازم الشداد حين بغت عن سنن السداد ... تذل ذا الإتراف والفساد من في القرى منهم وفي البوادي ... كلوحها على العزيز بادي

تمنع عاداً سنن الإيراد ... عقوبه من ملك العباد إذ جانبت عاد هدى الرشاد ... ثم طغت في البغي في البلاد مغترة بأوهن الأجناد ... بعد اصامتنا مع المراد فأصبحوا في سمة الحساد ... وسلكوا في طرق الفساد فأجابه رجل من المشركين يقال له جيحون: إن السنين لم تزل تجاد ... لم تزل السنين في ترداد لها بروق جمة الإرعاد ... بروقها رائحة غواد من غير ما وعث ولا فساد ... أمر قضاه ملك العباد ولا تضر دعوة الأنداد ... وكل أنداد إلى المعاد إلى العلى الخالق الجواد ... يرجون أمراً حاضر السداد شفاعة ترجى لآل عاد ... قد علمت جماعة الأوغاد وكل ذي رأي وذي فؤاد ... من ساكن القرى أو البوادي بأن عاداً صعبة القياد ... قاطنة الأوطان والمهاد قاهرة الأقران في العناد ... شديدة الأركان والاعضاد قوية في البطش والعماد ... غالبة جماعة الحساد تصيب بالمخالب الحداد ... ذا المنعة المغالب المعادي قال: فلما دخلت السنة الثالثة سموها لح. فقال رجل من المسلمين هذا الشعر: كيف لعاد بعد كحل بكلح ... بذات قحط وغبار وبلح تمنع ذات لذات الفرح ... لأن عاداً حاربت نهج الفلح

ولم تطع نبيها حين نصح ... ورام أن تصلح فيمن قد صلح فأنكرت دين الهدى لما وضح ... وغرها التمهل من رب صفح فاتبعت من المحارب جمع ... من الصمود ذبحة لما ذبح فذكره منقطع إذا افتتح ... فخف في ميزانه وما رجح فأجابه رجل من المشركين يقال له الخلجان أيضاً: إن لعاد قوة لن تفتلح ... وعزها رأس لها أن يقترح والأمر فيها بينهما أمر صلح ... والعز فيها خالد لا يطرح وأمر شاويها إذا شاء سرح ... تم لها فيها مناخ منفسخ عارفة غبوقها والمصطبخ ... نحو الذي يكسب كساب النقح تذل بالعزة منها من جمح ... ومن بي عمداً عليها أو طمح وكلهم ذو منعة وذو فرح ... وإن يشا من خرد بيض نكح قال معاوية: لقد جئت بالبرهان في حديثك يا عبيد فماذا فعلوا؟ قال: يا معاوية، لما تولت عليهن سنون ب. متها وحطمتها، فاشتد فيها قحطهم وهم في ذلك غير تائبين ولا مطيعين لنبيهم هود صلى الله عليه. ثم قام رجل من أشرافهم وذوي أنسابهم - يقال له زميل بن عنز أخو القيل ابن عنز - وكان القيل رأس عاد وسيدها في زمانه وصاحب السحابات والريح التي أهلكت عاداً بإذن الله عز وجل - فقام زميل فنادى قومه، فقال: يا قوم إني فكرت لما نزل بكم من هذا القحط ورأيت رأياً وقلت فيه قولاً وأنا عارض ذلك عليكم - أن رأيتم ذلك - فقالت له الجماعة: إن رأيك لأصيل وإن فعلك لجميل فقل نسمع ما تقول. فقام زميل فيهم

منشداً هذا الشعر حيث يقول: إلا نزلت بنا حجج ثلاث ... على عاد فما تحتال عاد فدمعهم يبل الترب منها ... وما يدرون ما بهم يراد وقد علمت بنو عاد بن عوص ... بأن مشورتي لهم سداد واني عارض رأيي عليهم ... وما مني به فيه انفراد بأن يتخيروا وفدا يسيروا ... إلى البت العتيق لهم سداد من القول السداد إذا آتوه ... وهيمنه لهم فيها اقتصاد فيستسقوا المليك البرغيثا ... به تحي البرية والعباد وقد جربتم ذاكم فعرفي ... لديه في بدايته السداد لأن الله مقتدر حكيم ... غفور رزاق بر جواد فإن يسمع مقالتنا سقانا ... فقد نزلت بنا أزم شداد وإن نهلك فأمر الله ماض ... له منا المقادة والقباد قال: فلما سمعوا مقالته أجمعوا على المسير إلى بيت الله الحرام يستسقون الغيث. قال معاوية: لله أنت يا عبيد وكيف كانوا يطمعون إن الله يستجيب لهم وهم مقيمون على الشرك بالله وعبادة الأصنام؟ قال عبيد: يا معاوية. كان الناس في ذلك الزمان العرب وغيرهم من المشركين، إذا نزل بهم فادحة أو نابهم نائبة أو جهدهم قحط أو غيره فزعوا إلى الله، فيأتوا إلى البلد الحرام يطلبون من الله الفرج، فيطيعون مسائلهم ويعرفون من الله الاستجابة عند بيته الحرام فيجتمع بمكة بشر كثير مختلفة أديانهم يطلبون من الله حوائجهم كلهم عارف بمكة وحرامها فلا يبرحون حتى يعطى السائل سؤاله مما سأل.

قال معاوية: فهل كان في ذلك الوقت يعرف موضعه؟ قال عبيد: نعم يا معاوية. قد كان موضعاً منذ وضعه الله لآدم إلى أن بناه إبراهيم عليه السلام معروفاً مكانه، ولم مبيناً يومئذ. فلما أجمعت على المسير إلى مكة ليستسقوا جهزوا من عظمائهم وأشرافهم وذوي أحسابهم سبعين رجلاً. ثم وضعوا على السبعين أربعة منهم قيل بن عنز وهو رأسهم وصاحب أمرهم ولقمان بن عاد - هو صاحب النسور - وأبو سعيد مرثد ابن سعد - وهو خير النفر - وجلهمة بن الخيبري. فساروا حتى أتوا مكة - وسكانها يومئذ العماليق - وهم يومئذ ملوك الحجاز وأرضها، فنزلوا على رجل منهم يقال له بكر بن معاوية بن بكر وجميع ولده وكانت أخت لبكر بن معاوية وهي هزيلة ابنة هزال بن معاوية متزوجة في عاد وزوجها أبو سعيد المؤمن مرثد بن سعد، فولدت عمراً وعامر وعميراً أبناء مرثد بن سعد وهي وولدها التي نجت من العذاب يوم الريح - وبنو أبي سعيد هؤلاء هم عاد الآخرة - فلما قدم وفد عاد إلى الحرم نزلوا على صهرهم بكر بن معاوية وابنه معاوية، وكان منزلهما بظهر مكة خارجاً من الحرم ففرحا بالوفد وأكرماهم وأحسنا منزلتهم عند ابن أختهم معاوية ابن بكر. وكان معاوية قد كبر وضعف وكانت الرئاسة لابنه بعده، فأنزل أخواله وحبسهم عنده شهراً يأكلون الخبز واللحم ويشربون الخمر وتغنيهم قينتان يقال لهما الجرادتان - ويقال إنه أول من اتخذ القينات في الأرض للغناء - وكان أكثر العرب مالاً في زمانه. فأقبل وفد عاد في اللهو والشراب وتركوا ما جاءوا له. فلما رأى ذلك معاوية بن بكر غمه ذلك

وقال: لئن تركت أخوالي وأصهاري إنها لهلكتكم وهلك من خلفوا من أهلهم وقومهم في بلادهم - وهم أيضاً ضيفي ووجوه قومي - وأنا استحي أن آمرهم بالشخوص لما قاموا له - فلما طال مقامهم ولم ينظروا في ما قدموا له قال شعراً، ثم حفظه لجاريتيه وأمرهما إذا انتشى القوم وأخذ فيهم الشراب أن تقوما على رأس كبيرهم وشريفهم قيل بن عنز وغنياه. فأضاف لهم الطعام والشراب. فلما انتشوا قامت الجاريان على رأس قيل بن عنز، وأنشأتا تقولان: إلا يا قيل ويحك قم فهنيم ... لعل الله يصحبنا غماً ما فيسقي آل عاد إن عادا ... قد أضحوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فما تراهم ... ولا الشيخ الكبير ولا الغلاما وإن الوحش تأتيهم نهاراً ... فما تخشى لعادي سهاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم أيامي وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم نياما فقبح وفدكم من كل وفد ... ولا لقوا التحية والسلاما قال: فلما قالتا الشعر ووعته أسماعهم فزعوا لذلك وتركوا ما هم فيه من اللهو وحلو الحياة وقال بعضهم: يا قوم إنما بعثكم قومكم لهذا البلاء الذي قد نزل بهم وقد أبطأتم فسرتم شهراً من بلدكم وأهلكم إلى ها هنا ولكم منذ شهر ها هنا فانطلقوا إلى بنية ربكم واطلبوا الغوث من ربكم لقومكم. فقال أبو سعيد المؤمن: يا قوم هلمكم لأمر أدعوكم إليه تذكرون به

حاجتكم وتغيثون به قومكم. قالوا: وما ذاك؟ قال: تؤمنون بنبيكم هود عليه السلام تؤمنون بربكم فذلكم خير لكم. قال: فكرهوا قوله وردوا النصيحة. قال معاوية: فهل قيل في ذلك شعر؟ قال عبيد: نعم. قال في ذلك أبو جلهمة: أبا سعيد كأنك من قبيل ... سوى عاد وأمك من ثمود أتأمرنا لنترك دين وفد ... ورمل وآل صد والعنود أنترك دين أقوام كرام ... ذوي حسب ونتبع دين هود وإنا لا نعطيك ما حيينا ... ولسنا فاعلمن على عهود قال: فغضب من ذلك رجل من الوفد من قوم أبي سعيد فأجابه: فمرثد مخ عاد في ذراها ... وأنت لساقط وغد كنود نماه يا زنيم إلى المعالي ... من أخوال وأعمام صمود وأفضل قوم عاد بعد هود ... وخيرهم الكريم أبو سعيد قال معاوية: فما فعل الوفد يا عبيد؟ قال: إن الوفد لما أرادوا المسير إلى الكعبة سألوا بكراً وابنه أن يحبسا أبا سعيد ففعلا وكلماه في ذلك. فقال: نعم. ووقف عنهم هو ولقمان بن عاد، ومضى سائر الوفد إلى البيت يتقدمهم قيل بن عنز وصف الوفد حوله ولاذ بالكعبة ودعا وتضرع فسمع منادياً ينادي من السماء يقول: يا قيل بن عنز ما جئت تطلب فاسأل تعط، فقال: جئت أطلب القطر الذي ينبت الشجر ويكثر الثمر ويحيي به البشر ويصلح به قومي وبلادي. قال: فأنشأ الله ثلاث سحابات بيضاء وحمراء وسوداء، ثم قيل له: اختر أيها شئت، قال: أما البيضاء فجهام ليس فيها مطر ولا لغيثها روي، وأما الحمراء فجهام غير أتى الذي ينفي

السراء ويأتي بالضراء ولا حاجة لنا فيها، وأما السوداء فكثيرة الماء والروي معقبة لرخاء مبلغة المنى غائطة الأعداء وقد اخترتها لقومي وبلادي. فناداه المنادي رماداً أرمد لا يبقى من عاد بن عوص أحداً لا والدً ولا ولداً إلا القبيل الأبعد. قال معاوية: لله أنت من يعني بقوله إلا القبيل إلا بعد. قال: من ولد عملوق بن لاوذ وهي أخت بكر بن معاوية - يعني هزيلة بنت هزيل العمليقة - وهي أخت بكر بن معاوية، وهي زوجة أبي سعيد المؤمن؟ وقد بلغني يا معاوية أن هزيلة كانت امرأة فاضلة في عقلها وأدبها وكانت محبة لهود عليه السلام وأصحابه وتلطف بهم وتوسع عليهم في مالها وكانت كثيرة المال. وقد كان الإسلام وقع في قلبها وهي تكتم ذلك في قومها فنجاها الله من العذاب وولدها وانصرف وفد عاد إلى منزلهم عند بكر بن معاوية فرحين مسرورين أنهم قد أصابوا الغيث. ولما رجعوا انطلق أبو سعيد المؤمن ولقمان إلى البيت العتيق، فقدم أبو سعيد المؤمن إلى البيت فلاذ بالكعبة ودعا وتضرع وقال: رب إني جئتك في حاجتي فأعطني سؤالي، فسمع مناد من السماء يقول: يا أبا سعيد بن مرثد ما جئت تطلب سل تعط؟ قال: جئت أطلب البر والتقوى، فنودي: إلا قد أوتيتهما ولك بهما الفضل الكبير. قال معاوية: أقيل في ذلك شعراً؟ قال عبيد: نعم يا معاوية. قد قالت العرب في ذلك أشعاراً فإن أحببت انشدتكها وإن شئت في آخر الحديث فإنه أصلح لحديثك. قال معاوية: سمعنيها في آخر الحديث فهو أحسن. قال: ثم تقدم لقمان بن عاد فلاذ بالكعبة ودعا وتضرع وقال: اللهم إني لم آتك وافداً إلا لنفسي فأعطني سؤالي، فسمع منادياً من السماء يقول:

يا لقمان بن عاد ما جئت تطلب وما تريد فاسأل تعط؟ قال: جئت أطلب العمر، قال فنودي: اختر عمر سبعة أنسر حين تنفلق عن الفرخ البيضة أحب إليك إلى أن تبقى كثيراً، فإذا هلك نسر أعقب نسر آخر أو تبقى سبع بقرات سمر من سنوات عفر في جبل وعر لا يمسها قطر؟ فقال لقمان: بل عمر سبعة أنسر. فنودي: أن قد أوتيت سؤالك ولا سبيل إلى الخلود. فانصرف لقمان وأبو سعيد إلى الوفد في منزل بكر وابنه، وأقاموا معاً حتى آتاهم هلاك عاد. قال عبيد: وكان هلاك عاد يا معاوية، أن السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عنز لقومه جعلها الله سبحانه ريحاً عقيماً عقوبة من الله وذلك قول الله عز وجل: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم}. قال: سمعت ابن عباس يقول: إنما عقمت من الرحمة ولقحت بالعذاب. قال الله سبحانه: {بريح صرصر عاتية}. سمعت ابن عباس يقول: عتت يومئذ على خزنتها خزنة الريح خرج منها مثل منخر الثور فيه أهلك الله عاداً. قال: وسارت الريح يزجيها أمر الله وقدرته معها جنود الله وملائكته، ملائكة العذاب يقودونها بازمه حتى انتهت إلى بلاد عاد فأتتهم من قبل واد يقال له (مغيث) كان يأتيهم من قبله الغيث. فلما رأوه فرحوا واستبشروا وطمعوا أنها غيث من قبل الله، ولم يعلموا أنها نكال عليهم وعقوبة. قال الله تعالى: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أليم تدمر كل شيء بأمر ربها} وقولهم لنبيهم هود عليه السلام: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}. سمعت ابن عباس يفسر ذلك. قال: معاوية: صدقت. فماذا قال؟ قال: كان أول ما تبين به إنها ريح

عقوبة من الله لهم جارية يقال لها مهد فإنها لما رأتها صاحت، ثم صرخت، ثم غشي عليها فاجتمع إليها قومها. فلما استفاقت قامت تنوح وهي تقول: البلية البلية ... ما جنى الوفد عليه إن وفد الريح كانوا ... شر وفد في البرية أرسلوا يبغون غيثاً ... فآتوهم بالبلبه سخرت ريح عليهم ... تركت عادا خليه سخرت سبعاً عليهم ... لم تدع منهم بقيه ويقال: يا معاوية. أنها أول نائحة ناحت في الأرض، فقال لها قومها: ويحك ماذا ترين وماذا دهاك؟ قالت: الويل لعاد التي طغت في البلاد فأكثروا فيها الفساد. أي رياحاً كأمثال الجبال لها لجم بأيدي رجال كأن في وجوههم شهب النار، والرجال الذين ذكرت ملائكة الله عز وجل مع الريح. قال معاوية: هل قيل فيه شعر؟ قال عبيد: نعم يا معاوية. قد قال أمية بن أبي الصلت أو النابغة الذبياني في ذلك شعراً حيث يقول: رأت ما رأت مهد فقيل لها ... ماذا ترين فقالت انظر العجبا أرى رياحاً كأمثال الجبال لها ... لجم بأيدي رجال تشبه اللهبا قال معاوية: خذ في حديثك. قال: فلما تبين لهم إنها ريح عقوبة من الله عليهم، قاموا إلى صعيد واحد ووضعوا العيال والذراري. قال: ثم بنوا عليهم بالأبنية والمتاع كالردم العظيم فوقهم ليقيهم بزعمهم من الريح فاجتمع جميع أولي القوة والجلد والبأس وصفوا بينهم وبين الريح على فم

وادي وانتدب منهم رجال كالاطواد العظام - وهم عمرو بن خلي والحارث بن أسد والمقدم بن سفر والخلجان بن الوهم وصيد بن سعيد وزميل بن عمرو وزمر بن أسود - فبرزوا دون قومهم وقالوا: نرد هذه الريح عنكم. قال معاوية: فما كان من أمر هود عليه السلام؟ قال عبيد: أن هوداً كان فيهم وكان يدعوهم إلى طاعة الله. فلما رأى أن العذاب قد نزل بهم وعلم أن الله مهلكهم اعتزل عنهم في ثلاثين رجلاً ممن أسلم معه وانطلقوا حتى وقفوا على حظرة على تل قريب من الوادي يسمعون كلامهم وينتظرون ما الله فاعل بهم. فلما انتهت الريح إلى عاد. قام عمرو بن خلي أحد الجبابرة السبعة وهو رأسهم فبرز دون أصحابه يلقى الريح، وأنشأ يقول: من الذي تحذر عاد أوهنه ... هي الجبال في البلاد الممكنة الصعبة الشامخة المحصنة ... هي السود الضاريات المكبنة وكلنا فيها ربية عسونة ... قاسية عند اللقاء محجنة من جرب الدهر أراه الونه ... وطنه أكلبه واقفنه فسمع هود صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه المسلمون قوله: فأجابه رجل منهم وأنشأ يقول: هل عاد إلا أنفس مضمنة ... إلى مدى آجالها مرهنه وكبل ليس يحمي مدنه ... من ريب دهر كاد يدفنه يبعث أيدي أنفس موهنه ... إلى مدى أنفسها مضمنه وقد أتم آية مبينه ... في أنفس لموتها موطنه

وقد أتتكم صولة مغلنة ... بعاصف عليكم موطنه بها أفانين الردى مكونه ... يهلك فيها الأسرة الملونة يلقى عماها يحيدها في محنه ... من بعدما كانت عليها ممكنه قال: ثم عصف الريح بعمرو بنخلي فقام مقامه الحارث بن أسد وأنشأ يقول: يا عاد إن العز فيكم قد رسخ ... وقد نشا فيكم وقد شمخ كسقرة عتقتها بعد الفتح فصرعته الريح. قال: ثم قام مقامه المقدم بن السفر وأنشأ يقول: يا عاد قومي إنما الأمر نزل ... بكم بكم يا عاد والكيد بطل إني أرى الدهر بحتف قد أطل ... قد شرب الدهر عليه وأكل أولى لمن أوردنا هذا المحل ... أفاً له دهر أو تعساً ونكل فصرعته الريح. قال: ثم قام مقامه صيد بن سعيد وأنشأ يقول: يا ويل قيلا ثم يا ويل أمه ... ماذا جنى لنفسه وقومه والدهر غير معتب من لومه ... من لامه طارت ببيت حومه وليلة هلاكه في يومه فصرعته الريح. فقام مقامه زمر بن أسود وأنشأ يقول: يا ويح عاد كيف أدهاها الزمن ... واغتالها الدهر بذحل واحن أف له دهراً وتعساً وغبن ... قد احتوى الأهل جميعاً والبدن فصرعته الريح. ثم قام بعده الخلجان بن الوهم وأنشأ يقول: يا لك يوماً غاب عنا شمسه ... يوم شديد لا يؤدب أمسه لم يبق إلا الخلجان نفسه ... لم يبق إلا سيفه وترسه

يا خير فرع قد أصيب أسه ... طوبى لمن وارى قرار رمسه يا من كجذع النخل ثاو حسه ... أمكن مني السد فإن قوسه من بعد ما كان منيعاً مسه ثم صرعته الريح مع أصحابه، فهلكت الجبابرة السبعة بإذن الجبار. ولقد بلغني يا معاوية أن أحدهم يلقى الجاري بيديه فلا يجري. ثم عصفت الريح على جماعة آل عاد فأهلكتهم بقدرة الله تعالى، لم تدع منهم عيناً تطرف لا صغيراً ولا كبيراً. ثم طفقت الريح تقلب أجسامهم بين السماء والأرض في الجو مصعدين ومنحدرين سبع ليال وثمانية أيام حسوماً حتى تركتهم كأنهم أعجاز نخل خاوية. وذلك قول الله عز وجل: {كأنهم أعجاز نخل خاوية}. وهدمت البيوت وتركتهم كأنهم جذوع النخل اليابسة وخربت القصور والحيطان والبساتين أقلعتها من أصولها، حتى كأنها لم تكن على وجه الأرض ولم تترك منهم أحد إلا هزيلة بنت هزال العملقية وبينها - وهي امرأة أبي سعيد المؤمن - فإن الله نجاهم من العذاب بإيمان أصحابهم وأمر الله سبحانه وتعالى الريح فحملتهم برفق وشفقة هي وولدها لم تؤذهم ولم تضرهم حتى أتت بهم مكة فألقتهم في منزل بكر بن معاوية الذي فيه وفد عاد وأصحابه. قال: فبينما القوم في لهوهم ولذتهم إذ أقبلت هزيلة ببنيها حتى هجمت على عمها الشيخ بكر بن معاوية في منزله. فلما رآها فزع منها فزعاً شديداً وقال: ويحك ما دهاك وما وراءك ومن قدم معك من أصحابك، فاستعبرت هزيلة باكية وقالت: الخبر أفظع وأوجع واجزع من أن أصفه لك. قال: ويحك خبريني ما ذاك فقد أكثرت وجدي! قالت: وأين

وفد عاد؟ قال: هم أولاء في منزل ابني معاوية. قالت: ما فعلا؟ قال: فزعوا إلى بيت ربهم فأعطى السائل منهم سؤاله. قالت: كلا ورب الكعبة قد أعطوا الخزي الطويل والذل الذليل. قال: ثكلتك أمك يا هزيلة اخبريني ما ذاك؟ قالت: ما أنا مخبرتك بشيء حتى تحضر إلي جميع الوفد. فأرسل إليهم بكر فأخبرهم بمكان هزيلة، فأقبلوا يبتدرون فزعين مرعوبين. فلما توافوا عندها قالوا لها: ويحك أخبرينا من الذي جاء بك ومن جاء بصحبتك وما وراءك وكيف تركت قومك؟ قالت: بل أخبروني عن مسيركم وأمركم. فأخروها. قالوا: سرنا شهراً وأقمنا شهراً عند عمك وابنه، ثم فزعنا إلى البيت العتيق، فأعطى السائل منا سؤاله، وقد توجهت السحابة نحوكم بالغيث فما عندك من الخبر؟ فقالت هزيلة: إن الخبر أفظع وأشد وأوجع من أن اسمعكموه قيلا ولكني سأقول شعراً وأرويه الجرادة تسمعكموه، فقالت هزيلة هذا الشعر: إن عاداً آثرت حقاً ... على الرشد الصدودا لم تقل في غيها حين ... عتت قولاً سديدا بل طغت بغياً وقالت ... لن نطيع الدهر هودا كذبوا عبداً تقيا ... مسلماً براً رشيدا وعصوا ربا عظيماً ... قاهر البطش مجيدا قادراً أمسى له الخل ... ق معاطراً عبيدا فدعا هود مليكا ... مبدياً لهم معيدا إن يذلهم بأيد ... يقمع العاصي الكنودا فاستجاب له آله ... عز مقتدراً حميدا جل رباً ذا اقتدار ... منعماً عدلاً أبيدا

كي يتوبوا فأراهم ... ما يرد الصد قودا من سنين ما اسطاعوا ... للنكال لها ردودا ازما جاءت ثلاثا ... ما يبل القطر عودا حجرة تبعث بكحل ... واحتوت كلح السعودا لم يتوبوا بل تعصوا ... عن ذو الفضل البرودا عابدين من ضلال ... صنماً يدعى الصمودا يطلبون الغيث منه ... بعدما خروا سجودا الذي حوي سفاها ... سألوا منه رفودا أفلوا من حيث طاعوا ... فيه شيطاناً مريدا ثم قال لهم زميل ... بعدما ذاقوا الجهودا اسمعوا قولي ورأيي ... وابعثوا وفداً جنودا نحو بيت الله يما ... يسألوا الرب ودودا أن يغيث الخلق منا ... متهماً ثم النجودا بعثوا سبعين كهلاً ... تبعوا قيلا جليدا ثم أربعة أرادوا ... هم على الوفد شهودا بعثوا لقمان رأساً ... وأبا سعد مزيدا وأبا جلهمة القر ... م فتى الحي الحقودا ثم قيل نجل عنز ... قائد ليس مقودا ثم ساروا بسوادٍ ... نحو حسداءٍ أسودا

فاتوا مكة سحا ... بين خزا وبرودا أحسن الناس اعتدالا ... ووجوهاً وخدودا كلهم أكرم عاد ... أمهات وجدودا نزلوا بالمرء بكر ... وابنه شهراً جديدا يشربون الخمر صرفا ... لا يملون الركودا ثم هبوا بعدما هي ... الهم بكر نشيدا ثم غنتهم بصوت ... قينة تسمى الجرودا نهضوا إذ سمعوها ... كأنهم كانوا رقودا فأتوا بيت مليك ... لم يزل للخلق عيدا فدعوا فاختار لقما ... ن فتى الحي الخلودا ببقا عمر نسور س ... بعة دهراً أبيدا أسرا تبقى صحاها ... وخلوداً لن تبيدا وحبا الله أبا سع ... د تقاه والسعودا فنجا بالبر زادا ... ثم تقوى الله زيدا وارى قيلا ثلاثاً ... من سحابات فرودا قطعة بيضاء كانت ... ما بها في الغيث جودا ثم حمرا لم يردها ... ظنها غيثاً ثميدا فارتضى السودا التي صا ... ورت بها الأقطار سودا ثم سارت نحو عاد ... كي تذيقهم كؤودا خيولهم إذ رأوها ... غيمها السود عبيدا فاكتسوا فرحاً وبشرى ... بارزين لها الصعيدا أبصرت مهد على الر ... يح مطيعين ركودا

في أكفهم لها لجم ... يخيلين الوقودا قالت الويل لعاد ... ويلها ويلاً جديدا ليلة حلت به الد ... هر على عاد الصدودا إن ترى السبعة منهم ... كلهم كانوا حسودا كل قوم مثل طود ... لابس فيها الحديدا كير يردوها ومن ذا ... يستطيع لها ردودا خلفت أجسامهم في ... الجو والقفز بديدا عذبت سبع ليال ... أمة كانت يهودا ثم أياماً ثمانا ... ما هبوطاً ما صعودا تحسب الأصوات إذ ... يهوون في الجو رعودا ثم خروا في قصور ... صيرت فلقاً بديدا استباح الدهر صدا ... ومنافاً والخلود وجهاراً لم تذره ... وهباء والعنودا وبنو سرد ورفد ... صادفت دهراً كنودا فهم كالنخل صرعى ... ليس للضر الخلودا قيل فانظر أين عاد ... ثم دع عنك السمودا لن تراهم آخر الدهر ... كما كانوا قعودا ثم نجاني الهي ... وبني جدي الابيدا قد تفانوا ثم بادوا ... في ديارهم حصيدا حملتني وبني ... نحوكم ريح برودا ونجا هود وأصحا ... ب له خروا سجودا

للذي نجاهم مم ... ابه أفتى العديدا معه ثم ثلاثو ... ن يقيمون الحدودا نزلوا الاحقاف أما ... رين بالعرف الوفودا سكنوا الأرض على ما ... شكروا الرب الحميدا ثم نناهين عن المنكر ... من خاف الوعيدا أعيني جودى بدمع ... ليس يبدو أو جمودا وابكيا عاداً بسجل ... من دموع ثم زيدا أسعداني بدموع ... من درور ثم جودا وقال أسد بن ناعض يذكر أمر الوفد والسحابات والتخيير على حديث مرثد بن سعد يقول فيه شعراً: بعثت عاد إلى الله ... لتسقي الغيث وفدا ورسول الله فيهم ... رغبة عنه وزهدا ثم أعطى بعضهم بع ... ضاً على الغية عهدا أنهم لن يتبعوا هو ... د طوال الدهر بدا أو يتوبوا فيكونوا ... شرعاً في الموت حصدا فاجر هدّ القوم للغي ... وعافوا الرشد رشدا فتوافوا ليردوا ال ... ريح كل جد جدا غضباً حتى إذا ما ... جعلوه للحديدا ثم عادوا فتلقو ... ها عناقاً يتصدى فدعا هود وصلى ... ثم عادوا ثم بدا ودعا القوم آله الناس ... . . . . جهدا

فأجيبوا إن سلوا ما ... شئتم تعطوه قصدا فدعا لقمان بالعم ... ر ليعي العمر مدا فحباه بمناه ... غير أن لم يعط خلدا ودعا ثم مزيد ... يرتجى براً وحمداً فحبا بالبر والحم ... د أبا سعد وسعدا ودعا قيل فقال الغي ... ث يسقي العيش رغدا دعوة فارق فيها ... قصده وازداد بعدا فرأى نشء سحاب ... فاصطفى السوداء فردا أنشئوا منه منو ... يرديهم وتردى يترك الأقوام صرعى ... ود الصخر خدا افعمت حي مغيث ... من حيا حير جهدا سمعوا فيها دوياً ... شبهوا ذلك رعدا ولقد قاموا إليها ... كي يردوها مردا ولقد قالت مهد ... فعصوا في القول مهدا إن في الريح لأمرا ... عجباً يا قوم إذا من احابيش تمد الل ... جم بالأفواه مدا ورجال كحريق الن ... ار شدوا اللجم شدا لا يراخون لها اللج ... م تهد الأرض هدا صدقوا هوداً تكونوا ... تصمدوا الخيرات صمدا وترديهم فردت ... هم عباديد وكندا جاءت الريح ترقى ... بثبوت الحي ضدا

أسبلت سعد نساها ... لم تجد من ذاك بدا أينما كانت عناكم ... ثم سلماكم وهندا أهلكت زمر أو رفدا ... وأبا سود وصدا ولقد كانوا عتوا ... وعلى ذا الناس أسددا كل بار كنود ... مرة للحق جندا وقال المهيل بناعض المسلم رحمه الله تعالى رحمة واسعة: لو أن عاد أسمعت من هود ... وقبلت من رأيه الرشيد وقد دعا بالوعد والوعيد ... ما أصبحت عاثرة الجدود صرعى على الأنف والخدود ... ما فضله الأجساد بالوطيد من عصف ريح عوهج سجود ... آتية من الاهاب السود ما جابه الوفد من الوفود ... على ابن صيد ثم آل سود ذاهبة كالعمرس الصخود ... يبلى صداها جدة الحديد أتتهم بالطائر الفقيد ... فغادرتهم كالهشيم المودي أحدوثة لأبد الابيد وقالت هزيلة بعد مصيرها إلى عمها حين نظرها تبكي على عاد وهي تقول: ما جنيتم أيها الوف ... د على القوم الحضور شرة عمت على عا ... د أحاطت بالشرور أهلكت عاداً جميعاً ... من صغير وكبير لعلى وفدهم من ... بعدهم ريح الابور سبقت البلوى إليهم ... بالعذاب القمطرير

منوه بعد فهالا ... مؤدبي وهرير خافت الموت فولت ... أمرها قوم الزئير والاهيين حال ... لغبير أو حمير يتعارين جميعاً ... سرة السر الشرور لو رأيتم ما رأوا من ... غصة الموت السعير يوم جرتهم شعوب ... بالفاء المستطير وشآبيب شآبي ... ب كاهدام الكسير إنما أهلك عاداً ... عهدها يوم الصدور كرهوا العذر فأمسوا ... حطب النار السعير كل يوم لهم منه ... اعذاب ذو كرور سبعة ثم آتاهم ... ثامن بالعنقفير فتوافوا شرك المو ... ت وصاروا للمصير قال: فلما سمعوا قولها يا معاوية وعلموا ما انزل الله بقومهم من العذاب والعقوبة ورأى أبو سعيد مرثد بن سعد ما صنع الله له إذ نجى أهله وإذا هم غليه سالمين ازداد إيماناً ويقيناً بالله وأظهر إسلامه عند ذلك. وأنشأ يقول: عصت عاد نبيهم فأمسوا ... عطاشا ما تبلهم السماء لقد كفروا بربهم جهاراً ... فارقهم مع الجوع الظماء وساروا وفدهم شهراً ليسقوا ... فحل بهم مع القحط البلاء فقد أمسوا مثل النخل صرعى ... على آثار عاد كم العفاء إلا قبح الإله حلوم اد ... فإن حلومهم صفر هراء من الخير الشفاء إذا رأوه ... وما يغني التخبط والبكاء

فنفسي والبنون وأم ولدي ... لنفسي نبينا هود فداء آتانا والقلوب مصممات ... على ظلم وقد أزف الضياء على صم يقال له صمود ... يقابله صداء والبغاء فأبصره الذين له أنابوا ... وأدك من يكذبه الشقاء فاني سوف أنحو نحو هود ... وإخوته إذا دخل المساء وكان لأبي سعيد أخ يقال له جنحوي بن سعج - وكان كافراً غاشاً متبعاً لعاد ولم يكن رأيه رأي أخيه وكانت له امرأة من قومه - يقال لها جفينة لها منه ابن يقال له عفير وابنة يقال لها عنجهور - فسال أبو سعيد امرأته عن أخيه وأهله فأخبرته بهلاكهم وكيف رأت الريح تفعل بهم فرق لهم عند ذلك، وأنشأ يرثيهم وهو يقول: كأني الآن أنظر جنحويا ... عليه الريح عاصفة تدور عليك وأنت في كربات موت ... آتاك بها مليك لا يجور تنادي يا جفينة أين يهوى ... عفير والبنية عنجهور فبينا ذاك إذ هبت شمال ... كما يتقاذف البحر الزخور فأودى بالرياح وكل حي ... على الدنيا إلى الموتى يصير بهذي الريح لم تضرر غريباً ... سوى عاد أصابهم النكير تفرقهم بأفهار صلاب ... وتدمغهم وليس لهم نصير وقد أمست بلادهم خلاء ... وهم فيها وما قدم المشير كشبه النخل خاوية جناها ... كذلك فاعلموا هذا الكفور وقد قال النبي لهم أقيموا ... على الحق المبين ولا تجوروا فإن الجور يعطب سالكوه ... وفي الحق السلامة والسرور وأنا لا نطيعك ما بقينا ... وأنت مكذب فينا حقير

فنادى فاستجاب له مليك ... عظيم لا يجار وقد يجير فأهلكهم بما كسبوا جهاراً ... هو القهار والملك الكبير قال معاوية: لله درك فقد جئت بالبرهان، فما فعل أبو سعيد، وما كان من هود وأصحابه؟ قال عبيد: يا معاوية، تحمل أبو سعيد بأهله وولده حتى أتى هوداً وأصحابه مؤمناً مسلماً ووجدهم على ساحل البحر مما يلي أرض عاد فأقاموا جميعاً يعبدون الله على أحسن حال. ووهب الله لأبي سعيد المال والولد حتى كان أكثر العرب مالاً وولداً في زمانه ذلك. وبلغنا يا معاوية أن عاداً الآخرة من نسله. قال معاوية: وهل عاد غير هذه؟ قال: نعم يا معاوية. فإن أحببت أخذت في الحديث حتى آتي بحديثهم. قال: بل خذ في حديثك. قال عبيد: كان هود وأصحابه يعبدون الله حتى ماتوا وانقرضوا. وذكر بعض أصحاب السير عن عبيد بن شرية بأمر هود. قال: أخبرني البختري عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، أن رجلاً من حضر موت جاء يسأله العلم فقال له علي عليه السلام: يا حضرمي أرأيت كثيباً أحمر تخلطه مدرة حمراء فيه أراك وسدر في موضع كذا وكذا من بلدك، هل رأيته قط أو تعرفه؟ قال الحضرمي: نعم والله يا أمير المؤمنين. قال علي: فإن فيه قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم.

رجع الحديث إلى عبيد بن شرية ومعاوية. قال معاوية: يا عبيد أخبرني عن وفد عاد ما فعلوا بعد هلاك قومهم؟ قال عبيد: يا معاوية. إن الوفد لما سمعوا قول هزيلة فيما أصاب قومهم أقبلوا على قيل بن عنز يعذلونه ويلومونه وقالوا: أنت شأمتنا وجررت علينا الهلاك. فقام رجل من أشرافهم - يقال له موت بن يعفر بن عرعر - وهو يقول: لو أن عاداً أرسلت زميلاً ... أو تبعت هوداً لنالت نيلا لجاءها الوادي يسيل سيلا ... بالماء يحيي آيله وأيلا فضلاً من الله له وطولا ... لكن عاداً أرسلت قييلا ويلاً لعاد ثم ويلا ويلا ... دعوت يا قيل لعاد عيلا فصادفت دعوتك الضليلا ... فجاءت الريح تجر ذيلا تقصد أحياناً وحيناً سبلا ... تخترم النساء والرحيلا ولم تدع زرعاً ولا بقولا ... كلا ولا تيناً ولا نخيلا إلا رماداً أرمد ضئيلا وقال موت: يذكر الريح والوادي الذي جاءت منه، ومنه اهلكوا وأنشأ وهو يقول: أفعمت حي مغيث ... من حيا صير جهدا سمعوا في الريح صوتاً ... شبهوا ذلك رعدا ولقد قاموا إليها ... كي يردوها مردا أهلكت عاداً وزمرا ... وزميلاً ثم صدا ثم مقداماً وحاراً ... ثم من بعد الاعدا خلجاناً تركته ... مثل جذع النخل جردا عين فابكيهم بدمع ... يخضب الخدين وردا

قال عبيد: ثم إنهم أقاموا بالحرم عند بكر بن معاوية وابنه ما شاءوا ومكثوا على ذلك ما شاء الله. وقد بلغني أنهم أقاموا سبع سنين، ثم أنهم تذكروا الأوطان وحنت نفوسهم إلى البلاد، فأرادوا المسير إلى بلادهم، فأقبل عليهم بكر بن معاوية وابنه وقالا: يا قوم إنا نكره لكم أن تأتوا أرضاً قد هلك فيها قومكم فترون مل تكرهون وأنتم هاهنا في حرم الله وأمنه والسعة والرحب، ولكم الأثرة في المال ما بقينا، فامكثوا. فقالوا لهما: إن النفوس قد حنت إلى الأوطان والآثار ولا بد لنا من إتيانها والنظر إليها. فأجمعوا في ذلك. فأرسلوا إلى ركابهم - وكانت في بادية لبكر من بوادي مكة - فأتوا بها سماناً حسناً فقال في ذلك حسان أبو كلهدة هذه الأبيات وأنشأ يقول: رعينا السرب والريان حتى ... إذا ما هاج وامتنع المذاقا وصار كأنه أصفار نمل ... إلى تيهاء تدفنه دقاقا أتينا ننقل الأوتار منها ... لنفض الريح غيثاً أو دفاقا قال: ثم ارتحل وفد عاد جميعاً سوى أبي سعيد المؤمن ولقمان بن عاد حتى أتوا أرضهم ومنازلهم بالأحقاف فنظروا إليها مقلوبة مهدومة موحشة من الأهل والمال ورأوا ما نزل بقومهم من العقوبة والنكال فدعوا إلى الله عز وجل فقالوا: أللهم ألحقنا بقومنا وانزل بنا ما أنزلت بهم. فأماتهم الله بصاعقة من السماء فدمرتهم، فماتوا إلى النار. فسحقاً لأصحاب السعير. قال معاوية: وأبيك! لقد أتيت وذكرت عجباً من حديثك عن عاد

وقد علمت أن الشعر ديوان العرب والدليل على أحادثيها وأفعالها والحاكم بينهم في الجاهلية، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول {إن من الشعر لحكمة}. قال: لقد صدقت يا معاوية، ولقد سمعت ابن عمك يذكر عن رسول الله ذلك وأخبرك يا معاوية إنه لما كان من وفد عاد ما كان، وما قد حدثتك عنه وصارت عاد ووفدها أمثالاً وأحاديث وقالت العرب فيها أشعاراً منها ما حفظنا ومنها ما لم نحفظ. قال معاوية: فهات أسمعني ما حفظت من ذلك. قال: عبيد ان أبا سعيد المؤمن من مرثد بن سعد عند هلاك القوم، قال شعراً: عجب لعاد وأمثالها ... تحاول بالعز والمكرمات وحالوا العيال وشدوا القاح ... بأجساد مر أنديات فقالوا ونحن أولو قوة ... ومن ذا يخاف تبار السنات فأضحوا وقد همدوا في الديار ... بريح من العاصفات وأهلك عاد وأصحابه ... بوقع عواصفها المهلكات بأيد المليك وسلطانه ... وقدرته ذل باغ وعات وقال في ذلك العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي وهو يعظ رجلاً من قومه - كان ظالماً لعشيرته - ويزجره عن الظلم فيها وأنشأ يقول: أراك امرءاً في ظلم قومك جاهدا ... وما لك في ظلم العشيرة من رشد فالا تدع ظلم العشيرة طائعا ... تلاق أمراً من بعض قومك ذا حقد من الرجلة الساعين أو تلق فارساً ... على فرس في الخيل أدهم ذي ورد جواد كنصل السيف أين لقيته ... فيضربك أو يطعنك طعناً على عمد ألم تر عاداً يف فرق جمعها ... قبيل وقد ما جار عن منهج القصد

وقالت بنو عاد هلكنا فجهزوا ... خيارهم أهل الرفاعة والمجد وكان أبو سعد وقيل فعوقبوا ... بلقمان أذرد الحبيب إلى الجعد فلما أتوا عزف الجرادة اخلدوا ... ثلاثين يوماً ثم هبوا على وجد فقيل لهم أعطيتهم فتخيروا ... مناكم ولكن لا سبيل إلى الخلد دعاكم قبيل بالمنية ربه ... ولله قيل ذلك من وفد وقال أضربوا رأسي ولا تتهيبوا ... تجورا من الاطواد ذي أجد صلد فعاجله وقع الصواعق كالذي ... أراد سفاهاً والسفاهة قد تردي وملك لقمان الحياة فردها ... إلى ناهض حرقوا أئمة نهد وكان يحب الخلد لو حصلت له ... أفاحيص صار ليلة القطر الرعد وقال أبو سعد الهي فأعطني ... مناي على ما كان أذهب من وجدي فزوده براً وتقوى كلاهما ... وما كان عن وفد الوفادة من صد وقال عباس بن مرداس أيضاُ: ويل لقوم لقد حاولت بينهم ... في القول لو أن لهم في المجد أحلاما إلا ثلاثة أحلام فتزجوهم ... فإن في عدم الأحلام إعداما أني أرى الحلم محموداً عواقبه ... والجهل أفنى من الأقوام أقواما أمست سراة بني سعد لقومهم ... حرباً وكانوا لهم من قبل أعماما إذ لا يردون للمظلوم مظلمة ... بل يجمعون له لوماً وإسلاما في كل يؤملنا وفد نجرهم ... من حر باحتنا طراً وأجساما كانوا موفد بني عاد أضلهم ... قيل واتبع من هاماتهم هاما عند الرادة تسقيهم وتسمعهم ... حتى إذا فدوا مالاً وأنعاما قاموا فلم يجدوا من دار قومهم ... إلا مغانيها وحشاً وآراما

وقال في ذلك عبيد بن الأبرص الأسدي بن نعمان بن المنذر وأنشأ يقول: يخبرني نعمان في يوم بؤسه ... خصالاً اتا في كلها الموت قد برق كما خيرت عاد من الجو مزنة ... سحاباً وما فيها لمختارها انق وفي ذلك يقول الأعشى بن نصير أعشى بني وائل وأنشأ يقول: ولو كان حي خالداً ومعمراً ... لكان سليمان البريء من الدهر براه الهي واصطفاه لخيره ... وملكه ما بين درتا إلى مصر وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً عليه يعملون على أجر فأنت الذي ألهيت قيلا بكأسه ... ولقمان إذ خيرت لقمان في العمر فقيل أما والصار تختار في الصفا ... يكر له الابعار في ظلل القطر فيبقى بقا أبعارها في كهوفها ... محصنة من قطر سار إذا يسري لنفسك أن تختار سبعة أنسر ... إذا ما خلا نسر خلوت إلى نسر فقال نسور حين ظن بأنها ... تدوم وهل بقى النسور على الدهر وفي ذلك يقول أسد بن ربيعة الكلابي وهم القرون الأولى فأنشأ يقول: ألم تر إلى حي عاد ... أفناهم الليل والنهار بادوا فلما مضوا ... باد على أثرهم قدرا وبعدهم غالت المنايا ... عاداً فلم ينجهم حذار وأهل جو أتت عليهم ... فانتدبت عليهم وباروا وحل بالحي من جديس ... يوم من الشر مستطار وأهل غمدان قد أبيدوا ... بالدهر ما يجمع الخيار فصحبتهم من الدواهي ... جائحة عقابها الدمار ومر دهر على وبار ... فاضت لها وحشة ونار

يا ليت شعري فأين ليت ... وهل تدوم لي المغار وهل يعودون بعد عسر ... على أخي شدة يسار في ذلك يقول كريم بن معشر التغلبي لبعض قومه في جرهم: لا تكونوا قومي أحدوثة ... كبني طسم أو الحي أرم بعثوا قيلا ووفداً كلهم ... طائش الحلم وبئس المدعم ولقيماً ومرثداً ذا التقى ... وسفار أوان عوف والصنم خرجوا وفداً إلى خالتهم ... حين أبطأ عنهم غيث الديم بعدما ردوا نبياً مرسلاً ... وتتعاطوه بتفخيم الحرم عجلوا حرباً من الله لهم ... لم تدع خفاً ولا ذات قدم قال معاوية: لله درك يا عبيد حدثتنا عجباً من أمر عاد فالحمد لله القادر على ما يشاء من أمره فهات يا ابن شرية فحدثني عن لقمان بن عاد صاحب النسور، وكيف كانت نسوره وكيف يناديه المنادي، وكيف كان يجيبه وما كان عمر نسوره وعمره وما قيل في ذلك من الشعر؟ قال عبيد: يا معاوية. إنه لما وقع من وفد عاد وقتل أصحابه من التشاجر فارقهم مرثد بن سعد المؤمن واعتزلهم لقمان. قال لقمان بن عوص: قال لا يا معاوية، ولكنه لقمان بن عاد بن هزيل بن همل بن صدر بن عاد بن عوص. قال: صدقت فحدثني حديثك عنه. قال: عبيد: وأنه لما توجه لقمان مع الوفد حدثتك بحديثه وأنه اختار طول عمره فكان من دعائه حين سأل طول العمر وترك ما وفد له أن قال فيما دعا: اللهم يا رب البحار الخضر ... والأرض ذات النبت بعد القطر أسألك عمراً فوق كل عمر

النسر الأول

فنودي أن قد أعطيت ما سألت ولا سبيل إلى الخلود فاختر إن شئت سبع بقرات من ظبيات عفر في جبل وعر لا يمسها قطر وإن شئت بقاء سبعة أنسر سحر، كلما هلك نسر أعقب نسر. فكان اختياره بقاء النسور. النسر الأول فبينما لقمان يدور ذات يوم في جبل أبي قبيس بمكة سمع منادياً لا يرى شخصه وهو يقول: يا لقمان بن عاد المغرور ببقاء النسور اطلع رأس ثبير ليس يعد وقدرك المقدور، فطلع رأس ثبير فإذا بوكر نسر فيه بيضتان قد تفلقتا عن فرخيهما فاختار لقمان أحد الفرخين، ثم عقد في رجله سيراً ليعرفه وسماه المصون، ثم قال: المصون الخالص المكنون من بيت المصون ومحذور السنون وغبط العيون والباقي بعد الحصون إلى آخر الدهر الخؤون. قال معاوية: لله أنت يا عبيد كيف كان اختياره وفرقه بينهما، وهما فرخان لنسر واحد؟ قال عبيد: بلغني إنه كان ينظر إلى أعظمهما رأساً وأجلهما عظماً فلا يشك إنه الذكر منهما فيختاره، لأن الذكر أبدى وأقوى وأصلب وأحذر لأن مضغه الطير تشك. قال معاوية: فخذ في حديثك يا ابن شرية. قال عبيد: وكان لا يغفل عن إطعامه حتى تم طائراً مسخراً له يدعوه باسمه للمأكل فيجيبه حتى أدركه الكبر، فضعف فلم يطق أن يطير فبينما لقمان يطعمه لحماً قد بضعه له إذ غص ببضعة منه فخر ميتاً، فجزع لذلك جزعاً شديداً وقال هذا بلاء - وأنشأ يبكي نفسه ويقول شعراً: موت المصون دل على أنا ... نذوق الحمام حقاً يقينا

النسر الثاني

أفنى الدين للناس حتى غدا ... لا يلبس المنا والمصونا فكلانا نبكيه يوماً فلم ي ... لق رشداً اختاره بل شجونا أنسرا تبقى كما ليس يبقى ... بعرفي الطياح تلقى كنينا في ذرى ما أن يراه بصير ... حين مد إليه طرفاً حصينا إن كل النفوس من خلق ربي ... للمنايا أمسى وأضحى رهينا ضل رأيي عند اختياري واني ... خفت من حسرتي عليه جنونا حين ألقيت تاركاً من خطامي ... كيد رشد يراه غير مبينا فعلى رأيي ابكي وابدي ... بالغنى الردى وبالفضل دونا النسر الثاني وكان لقمان يومئذ بالطائف، فبينما هو يبكي نفسه، إذ سمع المنادي ينادي: يا لقمان دونك البدل رأس الجبل فوق مرعى الوعل رأس السرماج المعتزل مأمور بطاعتك كالأول. فطلع لقمان حيث وصف له المنادي فإذا بوكر سير ليعرفه، فسماه عوض، ثم قال: أنت العوض المبرأ من تلف العرض وآفات المرض وعواج الجرض وحقك علي أفضل مفترض أوديه كلما عرق نبض. وكان لقمان لا يغفل عن إطعامه حتى نهض طائراً له يدعوه باسمه فيجيبه حتى أدركه الكبر فضعف، فدعاه لقمان ذات يوم تحت شجرة ومعه اللحم قد بضعه له ليطعمه إياه، فأقبل النسر كاسراً بجوزه غصون الشجرة فخر ميتاً. فهال لقمان موته هولاً عظيماً، فأنشد يبكي نفسه ويقول:

النسر الثالث

أيقنت أن مايتي تلف ... أصبر للموت والردى عرضا أرمي بسهميهما على كسر ... أعبطني عبطة المنا مرضا ما كان لي نعشاً مرعياً عمري ... حسبته مبرم العرى نقضا أسلو وأرجو اليأس في طمع ... ومن رجا ساطع المنا قبضا هل عمر الباقيات إلا كمن ... عمر منها الأمر صحبتي فمضى ما لي صبر عن المصون وقد ... عوضت من بعده عوضا فارقهما الموت من حمامهما ... واخلفا ما رجوت فانرضا كذاك أفنى حقاً كما فنيا ... أجرع كأساً ممزوجة عرضا كذاك الحمام لن يصد إلى ... تكركر الحفظ بل تمخضا تخرج نفسي من كل مدخلها ... كم هال من محنة لديه قضى متى يكون شيء منزله ... منفضاً أو مجرعاً معضا وكل من ظن أن مهجته ... تدوم في عيشه فقد دحضا النسر الثالث قال: وكان لقمان يومئذ بالسراة - فبينما لقمان يبكي نفسه تحت شجرة - إذ سمع منادياً ينادي: يا لقمان بن عاد اطلع الصفا تجد عند العرتون شرفاً تصادف فيه خلفاً وشبحاً مأموراً يطيعك منصفاً لمن تجد عنده خلفاً واسمه خلف واقبل بالحياة نصفا. قال: فطلع لقمان رأس الجبل، فوجد وكر نسر فيه بيضتان قد تفلقتا عن فرخيهما، فاختار أحد الفرخين، وعقد في رجله سيراً ليعرفه

به، وسماه خلفاً، ثم قال: أنت الخلف كما وصفك من وصف احترازاً من التلف وأبقى مما قد سلف ولك عندي أفضل النصف. وكان لا يغفل عن إطعامه حتى نهض طائراً مسخراً له، يدعوه للطعام فيجيبه، حتى إذا أدركه الكبر وضعف ولم يقدر أن يطير، أخذ له لقمان قفصاً يحمله فيه حيثما توجه ويطعمه فيه - ويقال إنه يا معاوية أول من حمل طائراً في قفص - فينما لقمان في مجمع عكاظ ومعه نسره ذلك في قفصه، إذا اجتمع إليه من حضر من العرب بعكاظ وطلبوا إليه أن يريهم نسره. فبينما هم يلبونه وينظرون إليه إذ مات النسر في أيديهم وبينهم، فاغتم لقمان لموته وجزع عليه جزعاً شديداً وانحل جسمه وقافي ذلك شعراً: يا نفسي أبي عليه أن تجدي ... عند اختياري أن عندي لك النصفا اخترت من هفوتي بلا حدث ... ولا احترام متى لك التلفا عليك ابكي إذ صرت نصب الردى ... ولست ابكي بعبرتي خلفا أيقنت أن النفوس لاحقة ... لا شك في ذا كم بمن سلفا والموت لاشك فيه يطلبني ... وهو مدركي وملحقي قرفا عيناي لا تبخلا بد معكما ... علي بل فاهطلا به وكفا وأسعداني بمسيل سرب ... محدراً دانياً ولا تقفا فمن عليه يجود دمعكما ... بعدي بإدراره وإن نزفا واستعبرا بالدما بقاءكما ... ولا تضنا به فقد أزفا موتي فجودا لمهبع درر ... من نهر جرت بالشيخ معترفا ثلاثة كلهم قد كن لي حزنا ... وصيرت نفسي للردى لها هدفا فما نجاتي من مدركي هربا ... ومن غلوب علي قد عكفا فالقلب مني لخوف سطوته ... واحدة في الوقت قد رجفا والخوف منه أن سوف يلحقني ... في غفلتي سادراً قد التحفا

النسر الرابع

وكان عمرو بن نمارة بن لخم ملكاً من ملوك العرب في ذلك الزمان - وكان قد شهد عكاظ بجنوده يوم هلك نسر لقمان بن عاد الذي سماه خلفا - وكان عمرو بن نمارة قد عرف أمر لقمان فقال في شعر له، وهو يعظ قومه يذكر لقمان بن عاد: أنعم الرأي ليس ذو أرب ... يدعى إلا بما قد رأى كونوا لدى الحزم والتوكل ما ... لاقاه أتى وإن فلا صبرا أنتم كلقمان في بينكم ... أمسوا كما يمسي لم يكن صغرا فمن رأى منكم الملوم ومن ... لاقى سروراً يقول قد ظفرا في أمر لقمان عبرة لكم ... إذ قال نسراً يختار أو بعر في كهف طود ولا ترى أبداً ... وطأة وأط ولا ترى مطراً أو أنسر سبعة لها أمد ... يفنى فقال الشقي بل أنسرا ففاته الخلد إذ تخيره ... يفنى كفاكم بذاكم عبرا خير فاختار جاهداً تلفا ... فصار للموت والردى جزرا من ذا إليه حوى مناه ومن ... عنه بما احتال يصرف القدرا والخير والشر ملك مقتدر ... كلا بعز وقدرة قهرا النسر الرابع قال: ثم توجه لقمان يا أمير المؤمنين إلى جبل قريب منهم، فلما دنا من الجبل سمع منادياً ينادي به: يا لفمان بن عاد اطلع إلى الجبل تلق عند السهور ذي الرتب في تلة العرتون المنتصب مغيباً لم يغب من حلول موت

النسر الخامس

قد كتب على أهل المشرق والمغرب، فطلع لقمان ذلك الجبل حيث وصف الذي ناداه، فإذا هو بوكر نسر فيه بيضتان قد تفلقتا عن فرخيهما، فاختار أحد الفرخين وعقد في رجله سيراً ليعرفه به وسماه مغيباً، ثم قال: أنت المغيب - كما سماك من لا يكذب - عيشك معي العيش المخصب ويزاح عنك المكد المخرب وأنا عليك حدب في بقائك مرتقب، فكن أبقى ممن قد ذهب. فكان لقمان لا يغفل عن إطعامه حتى نهض طائراً له يدعوه باسمه للمأكل فيجيبه حتى إذا كبر وضعف ودعاه لقمان ذات يوم من رأس الجبل فلم يجبه، فطلع إليه فوجده ميتاً. هاله ذلك من موته هولاً شديداً ونزل به كرب عظيم فأنشأ لقمان يبكي نفسه وهو يقول: أملت ما لا أناله أبداً ... إذ أزم الرأي نال ما طلبا مرثد نلت العلي ونلت بلا ... أرعى نسوراً بقاؤها عزبا أرعى نسوراً لم يرعها أحد ... قبلي كأني بذاكم نصبا أن تقبلي وادياً فالسدر يقلعها ... كي لا يصد القرى به جدبا أودين عنا فصرت في عمر ... رث القوى واهياً وما انتصبا لا مغيب كاسمه فيا عتب ... بل زاد قلبي اقراحه ندبا أورثتها بالذي كسبت وذا ... اللحوم له غبطة بما كسبا على شقائي إذ صرت أسفاً بما ... خيرت جهلاً لا ينقضي عجبا قد نال منه السرور والفضل في ... أسرابه والشقي قد كتبا النسر الخامس فبينما لقمان في تلك الحال يبكي نفسه، إذ سمع منادياً يقول: يا

لقمان بن عاد لك في الجبل اليسر بين منبت الشت والعرعر فوق الشاهق الأغر، فأخرجه منه واستبشر فبطاعتك قد أمر وإلى الموت يصير البشر فطلع لقمان الجبل، فإذا هو بوكر فيه بيضتان تفلقتا عن فرخين فاختار أحد الفرخين وعقد في رجله سيراً ليعرفه - وسماه ميسرة - ثم قال: أنت الميسر الباقي المحبب إليك اليسر انك النسر الباقي بقاه الدهر وكان لقمان لا يغفل عن إطعامه حتى نهض طائراً مسخراً له يدعوه باسمه فيجيبه للمأكل حتى أدرك ذاك النسر الكبر وضعف، فدعاه لقمان ذات يوم ليطعمه فأقبل نحوه كاسراً فوقع على منكبه يصيح ومعه لحمه قد بضعه له، ثم حركه لينهض فلم يطق أن يطير، فذهب لقمان فجمع له عيداناً لينحت له قفصاً يجعله فيه فوجده ميتاً. فهاله لقمان موته وجزع لذلك جزعاً شديداً كادت أن تذهب نفسه فأنشأ يقول: دنا الموت إذ نشاب موتي شوارع ... إلي بنيران المنايا تسعر رجوت بأن أبقى وعمر ميسر ... ففات وأودى مفرد إلى ميسر فصرت أرجي واحداً بعد واحد ... نسور وهل تبقى على الدهر أنسر فلا تعجبوا بالرأي بعدي فإنني ... جهدت اختياراً حين نادى المخير فقلت ستبلى بعرة الضأن ذلة ... ولم اك فيما كان مني أفكر وتبقى نسور سبعة كل واحد ... طيل المدى يوقى الردى ويعمر ولو عشت أضعاف الذي عشت لم يكن ... من الموت بد ذاك حتم مقدر وما هو آت قبل ورد حلوله ... على غفلة مني به لست أشعر كأني على ما ينقضي من سنيننا ... وطول زمان قد مضى لست أذكر فما قد مضى ينسى وما هو آتى ... قريب وصافي العيش قد يتكدر

النسر السادس

النسر السادس فبينما لقمان يبكي على نفسه ذات يوم، إذ سمع منادياً يقول: يا لقمان بن عاد اطلع فوق الصفا الأملس مستقبلاً مطلع الشمس تجد وقرة كالترس فيها راسخ محترس عن طاعتك لا يحتبس وستموت كل نفس. فطلع لقمان حيث وصف له المنادي، فوجد وكر نسر فيه بيضتان قد تفلقتا عن فرخيهما، فاختار أحد الفرخين، ثم علق في رجله سيراً ليعرفه وسماه أنسا، ثم قال له: أنت الأنس من روعات الدحس والدهر غير التعس وحياتك ببقاء النفس. وكان لقمان لا يعدل عن إطعامه حتى ينهض طائراً مسخراً له يدعوه باسمه إلى المأكل فيجيبه حتى كبر وضعف. فبينما لقمان سائراً من الطائف إلى مكة ومعه لحم قد بضعه له والنسر يحوم فوقه إذ دعاه لقمان باسمه فأنقض كاسراً نحوه فوقع ميتاً. فاغتم لذلك لقمان غماً شديداً واشتغل صدره وذهب عقله وبكى عند ذلك وأنشأ لقمان يبكي نفسه وهو يقول: أمرضني سادس النسور وقد ... جدد حزناً وإن قد درسا سميته لي لوحشتي أنسا ... أودى لعمري ولم يدم أنسا شبهت ما قد مضى ومنزلتي ... كنبهة من مسافر نعسا أخلف ظني وذو طمع بالخلد ... قبلي أخطاه ما حدسا هل يبتني المبتنى بلا أسس ... الله الباني إذ بنى أسسا ما عمر الحي غير ما نفس تنام ... إذ لا ترى له نفسا فإن أمت قد حييت مجتنبا ... للعيب لم اجر سادراً دنسا النسر السابع فبينما لقمان يبكي نفسه، إذ سمع منادياً يقول: يا لقمان بن عاد لك

فوق الصفا الأسود حيث الشجر المتلبد خلصة بيت الرشد فرخ به وفاء الموعد مأمور بطاعتك فاصعد. فصعد لقمان رأس ذلك الجبل، فإذا هو بوكر نسر فيه بيضتان قد تفلقتا عن فرخيهما فاختار أحد الفرخين وعقد في رجله سيراً ليعرفه به وسماه لبداً وقال: أنت لبد الباقي المخلد إلى آخر الأبد عيشك معي رغد ويزاح عنك النكد ويوفق لك الرشد وعمرك لا ينفد - وكان لقمان لا يغفل عن إطعامه - حتى نهض طائراً مسخراً له يدعوه باسمه للمأكل فيجيبه حتى أدركه الكبر وضعف. وبلغني يا أمير المؤمنين أن رجلاً من عاد الآخرة جاء إلى لقمان فقال له: يا عم ما بقي من عمرك غير هذا النسر، فقال: يا ابن أخي هذا لبد. قال معاوية: لله أنت ما اللبد؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين قد علمت أن اللبد في لغة العرب الدهر. سمعت ابن عمك عبد الله بن عباس يقول: ويذكر في كتاب الله عز وجل يقول {أهلكت مالا لبداً} يقول كثيراً. قال معاوية: صدقت فخذ في حديثك. قال عبيد: فلما دنا أجل لقمان وبلغ الميقات، أقبل ذلك النسر لبد حتى وقع على شجرة النتظب فدعاه ليطعمه من لحم قد بضعه. فأراد لبد أن ينهض فلم يطق أن يطير، فأقبل لقمان فزعاً مرعوباً حتى قام حتى وقال (انهض لبد أنت الأبد لا يقطع بي الأمد نهضاً شدد نهض الملك المجرد الحارث بن ذي شدد). قال معاوية: لله أبوك من الملك المجرد الإرث بن ذي شدد الذي يعني؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين هو الرائش ملك من ملوك حمير باليمن - فإن شئت حدثتك حديثه - قال معاوية: بن أتم حديثك حتى أسألك عما أريد - إن شاء الله تعالى - قال عبيد: فلم يطق لبد أن ينهض وتفسخ ريشه، فهال ذلك لقمان هولاً عظيماً ووقع موته موقعاً جسيماً، فأنشأ لقمان يبكي نفسه ويقول:

موتي إني أموت اليوم يا لبد ... وحسرتي أن قد تصرم الأبد فطر كما كنت سالماً لبداً ... تحيا ونحيا معاً ونحتفد إني وإياك في تفرقنا ... سيان شقا كالروح والجسد إن مت لم أبق إنما أجلي ... ما عشت فابق ما أن لك الرشد ما لي سوى ما بقيت من عمري ... فليس لي من سبيلك السدد قد هالني ما أرى وأرعبني ... أني واجد فترة كما تجد أنكرت ظهري وركبي ويدي ... فالبطن والصدر فيهما ويد قد غالني كلما أرى نفسي ... والموت آت إذا انقضى لبد وإن يكن آتياً سأكرهه ... لأنه متعب للمراد يرد يسل نفساً من المفاصل لا ... يخلف إن جل موعد لقد ثم سقط لبد ميتاً، فجاء لقمان لينهض فاضطربت عروق ظهره وخرَّ ميتاً - وكان أمرهما هذا بمرأى من رجل من العمالقة، يقال له المثنى بن عمرو العمليق - والعمالقة يومئذ سكان السراة والحجاز كلها، وكان المثنى شاعراً حافظاً، حفظ قول لقمان وشعره وعاين كيف كان هلاك نسره فقال وهو يبكي على لقمان ويرثيه: فنيت وأفنى الله نسلك من نسر ... هلكت وأهلكت من عاد وما تدري فمن ذا ينجي بعد لقمان فكره ... يخلصه يا قوم من تلف الدهر فاسنوا منكم أنفساً ببقائها ... فما لكم في الرأي في ذاك من عذر وخيرها فاختار لم يك عالماً ... محيطاً بها إلا على الشك أو نسر قال: ثم انطلق المثنى إلى ناس من قومه العماليق فأخبرهم بأمر لقمان

ونسره فانطلقوا حتى دفنوهما، والمثنى صهر لقمان بن عاد. وبلغني إن موت لقمان كان في زمان ملك فارس. قال معاوية: لله أنت يا عبيد! أخبرني كم كان عمره؟ قال: بلغني أن عمره كان ألف سنة وسبعمائة سنة وأربعاً وستين سنة. قال معاوية: فعمر النسور من ذلك كم؟ قال عبيد: إني سمعت ابن عمك يقول: كان عمر كل نسر مائة سنة وزيد لبد عليها نيفاً. وذكر غيره أن أعمارها كانت مختلفة، والله بالصواب أعلم. كان عمر النسور التي متع بها ألف سنة وأربعمائة ونيفاً، وكان عمر لقمان قبل النسور ثلاثمائة ونيفاً وستين سنة. قال معاوية: لا يفضض الله فاك يا عبيد، لقد حدثت بالعجائب! أخبرني هل قيل فيه شعر؟ قال: نعم يا معاوية، كان لقمان ونسوره مثلاً في العرب، فقال لبيد بن ربيعة الكلابي شعراً يقول فيه: لما رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالعقير الأعزل من تحته لقمان يرجو نهضه ... ولقد رأى لقمان إنه لا يأتلي ولقد جرى لبد فأدرك شأوه ... ريب المنون وكان غير مغفل غلب الليالي خلف آل محرق ... وكما فعلن بتبع وبهرقل وغلبن أبرهة الذي الفنيه ... قد كان يخلد فوق غرفة موكل والحارث الحراب كانت دراه ... داراً أقام بها ولم يتحمل تجري مواهبه على من نابه ... جري الفرات على قرار الجدول وفيه يقول النابغة الذبياني حيث يقول: أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبلد

يتلوه حديث عاد الآخرة

قال معاوية: من أين علمت إنه آخر النسور! وكيف علم ذلك النابغة حيث قال فيه؟ قال: الخبر فيه يا أمير المؤمنين مع الأعشى قد فسر ذلك في شعره. قال معاوية: وكيف قال الأعشى؟: قال يا أمير المؤمنين في شعره الذي يقول فيه: فلو كان حياً خالداً أو معمراً ... لكان سليمان البريء من الدهر حتى أتى إلى آخر البيات، وقد ذكرناها في كتابنا هذا. وهذا ما كان من خبر لقمان بن عاد وخبر نسوره وطول عمره من جهة أخباره بعد نسوره، والله أعلم بالغيب. يتلوه حديث عاد الآخرة قال معاوية: لله أنت يا أخا جرهم، لقد ذكرت من حديثك عجباً فلله الحمد على ما قضى في خلقه، فقد سمعتك ذكرت عاد الآخرة في حديثك فهات حدثني حديثهم؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين، إنه لما هلك عاد الأولى وتوفي هود النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بقي ولد أبي سعيد المؤمن، فكثروا وانتشروا في البلاد وحدثت منهم القرون حتى كثروا وعتوا وبغوا في الأرض بغير الحق، فألقى الله شرهم بينهم وأهلك بعضهم ببعض وأفناهم الله بذلك. قال معاوية: لله أنت يا عبيد! وكيف كان ذلك؟ قال عبيد: كان منهم رجل - يقال له سالم بن هزيمة - أحد بني عفير بن لقيم سادة عاد الآخرة، فكان رأساً في قومه وفيهم العدد والقوة والثروة - وكان سالم بن هزيمة رئيسهم وصاحب أمرهم - ثم أن رجلاً من قومه إلا من غير أهل بيته هو من بني لقيم - يقال له لقمان بن

عاد بن عمرو بن لقيم - تزوج أخت سالم، فمكثا على ذلك دهراً طويلاً فلما أراد الله بهم ما أراد من الهلاك ألقى بين أخت سالم وبين زوجها التشاجر وكان بينهما شر كثير حتى تناولها فضربها وأساء إليها فخرجت المرأة إلى أخيها بأسوأ حال، فغضب سالم مما صنع لقمان بأخته وصرخ في قومه فاجتمعت إليه جماعة منهم، فانطلق بهم حتى أتى صهره لقمان فكلمه فيما صنع بامرأته؟ فرد عليه قولاً سيئاً، وكانت بينهما منازعة شديدة حتى ساء الحال فيما بينهما والتحمت الحرب بينهم. فاجتمعت قبائل عاد إلى بني عفير بن لقيم، قم إلى سالم بن هزيمة، واجتمعت لنو عمرو بن لقيم إلى لقمان ابن عاد والتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فظفر لقمان بن عاد وقومه بسالم بن هزيمة وقومه من بني عفير وبجميع ما كان مع بني عفير من سائر فرق عاد فقتلوهم جميعاً حتى أفنوهم، ولم يتركوا منهم أحداً إلا امرأة - يقال لها صنيعة من بني عمرو بن لقيم، كانت متزوجة في ثمود رجلاً من أشرافهم فولدت له رجلين، يقال لهما الوضيع وغانم - ثم أن زوجها مات فرجعت إلى ما بقي من قومها عاد الآخرة - أهل بيت لقمان بن عاد - الذين قتلوا أهل بيتها ومعها ابناها، فأقامت معهم ما شاء الله وشب ابناها فأدركها. قال: فلما كان ذات ليلة إذ نزل بها ضيف من أصهارها من ثمود بينه وبين أبيها قرابة - يقال له حبيب بن جارية - فوثب عليه رجل من عاد - يقال له معاوية بن مرثد بن لقمان بن عاد - فقتله. فلما رأت ذلك منيعة - وكانت امرأة أنفة عارمة، غضبت لقتل ضيفها وجارها فدعت إلى ابنيها - فقالت: اذهبا إلى هذا الفاسق فقد عدا على ضيفكما وابن عمكما فقتله، وقبل ذلك فإن جده وأهل بيته قتلوا جدودي وأهل بيتي فاذهبا إليه فاقتلاه. فانطلق الغلامان حتى أتيا معاوية فقتلاه، ثم انطلقت منيعة

يتلوه حديث ثمود بن عابر بن أرم بن سام

هاربة في ليلتها بابنيها ونفسها، حتى صارت إلى أختا لها من ثمود - وهم يومئذ أمنع العرب وأعزهم - فاستجارت برجل من ثمود - يقال له غنم ابن عمرو بن مبلغ - فأخبرته خبرها، وأنشأت تقول: أتيتك يا غنم بن عمرو بن مبلغ ... بنفسي وابني الوضيع وعاديا فررت إليكم من سفاهة معشر ... ومن قدرة تعلي علي الافاعيا وقالوا أأهلكت ابن زيد سفاهة ... فلا صلح فينا بعد قتل معاويا بنو حرب ولقمان بن عاد عدونا ... وقد كان لقمان زماناً رجائيا فاخلف لقمان رجائي وذمتي ... بقتلهم جاري حبيب بن جاريا فلا تسلمني يا بن غنم إليهم ... فتبلغ مني إن فعلت الدواهيا فأجارها غنم بن عمرو وقام دونها، وطلبها بنو لقمان بن عاد وابنيها ليقتلوها وابنيها، فمنعهم غنم عن ذلك هو ورهطه، وكادت أن تهيج بينهم حرب حتى أصلح بينهم ردم الطسمي - وكان يومئذ حكم العرب - فاصطلحوا ومكثوا على السلم ما شاء الله، ثم أن رجلاً من بني لقمان بن عاد قتل رجلاً من غنم بن ثمود، فنهضت عليهم ثمود وغضبوا في قتل صاحبهم غضباً شديداً فحاربوهم وأعطوا عليهم الظفر فقتلوهم جميعهم حتى أفنوهم عن وجه الأرض فلا أعلم لهم اليوم بعقب، والله أعلم. فهذا ما كان من حديث عاد الآخرة يا أمير المؤمنين وأخبارهم. يتلوه حديث ثمود بن عابر بن أرم بن سام ابن نوح بن ملك بن متوشلخ بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيت ابن آدم - أبي البرية صلى الله عليه وسلم على الطيبين من ذريته الطاهرين

والأنبياء المنتخبين والأئمة التابعين والأولياء والأصفياء الصالحين. قال معاوية: تبارك رب العالمين، ثم قال: حدثني عجباً منهم يا عبيد! فحدثني بحديث ثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم وعن أخبارهم وكيف كان سبب هلاكهم وقصص أمورهم؟ قال عبيد: يا معاوية، لما اهلك الله عاد الأولى والآخرة وانقضى أمرهم خلفت ثمود بعدهم، وانتشروا في البلاد وملئوا الأرض وأثاروها وتكبروا وعتوا وطغوا وساروا في الأرض بغير الحق وأكثروا فيها الفساد وعبدوا الأصنام، وكانت منازلهم بالحجر - وهو وادي القرى إلى رملة فلسطين - وهو ثمانية عشر ميلاً بين الشام والحجاز. ذلك قول الله عز وجل {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين}. وكانوا قوماً عرباً، وكان الله جل جلاله قد أعطاهم فضلاً من القوة والأبدان وسعة في الأرزاق وطولاً في الأعمار، فلم يزدهم إلا طغياناً، فلما عتوهم على الله عز وجل، بعث إليهم صالحاً - عليه السلام - وكان من أوسطهم بيتاً وأكبرهم حسباً وهو صالح بن عمرو ابن وهبة بن كماشخ بن أحقب بن الوذ بن عابر بن أرم بن سام بن نوح - فأرسله حجة عليهم، وكان بعد هود وصالح إبراهيم خليل الله - عليه السلام - فآتاهم صالح برسالة ربه على ما شاء بأمره، فمكث يدعوهم إلى عبادة الله عز وجل وترك عبادة الأصنام ويخوفهم عذاب الله ونقمته حتى صار شيخاً كبيراً أشمط، وكان من دعائه إياهم وردهم عليه ما ذكر الله تعالى لنبيه في كتابه في آيات كثيرة. فلما ألح صالح على قومه بالدعاء لعبادة الله وترك عبادة الأصنام وحذرهم عذاب الله ونقمته لأعدائه،

فأخبرهم بما عنده لمن عبد الله من الفضل الكبير الدائم وبما عنده عز وجل لأوليائه، فلم يتبعه إلا القليل المستضعفون في الأرض، فلما طار عليهم دعاؤهم إياهم، اجتمع إليه ذات يوم أشرافهم وذو القوة منهم وذو الرأي منهم. فقالوا: يا صالح قد أكثرت علينا الدعاء وخوفتنا العذاب وأنت بشر مثلنا وذكرت لنا ان الله أرسلك إلينا، ونحن نحب أن تأتينا بآية وترينا آية نعتبر بها ويكون ذلك مصدقا لقولك لعلنا أن نتبعك، وذلك قول الله عز وجل {ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين}. فقال لهم صالح: أين تريدون؟ قالوا: تخرج معنا في عيدنا فما سألناك من شيء أو طلبناك فعلته لنا. قال صالح: فإذا فعلت ذلك لكم وفعله لي ربي ما الذي تفعلون أنتم لربكم ولي؟ قالوا: نعبد ألهك ونؤمن به ونتبعك، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق في ذلك وتأكد عليهم أشد تأكيد. وكان لثمود عيد من كل سنة يخرجون فيه إلى بعض نزهاتهم بأوديتهم فيخرجون بالخمر والطعام والاجزار ويخرجون معهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله تعالى فيذبحون لها الذبائح ويقربون لها القرابين ويقيمون هناك أياماً يأكلون ويشربون ويلعبون وتضرب لهم القيان بالدفوف والمعازف ويجتمعون لذلك العيد من قراهم كلها في ذلك الموضع لذلك اليوم - وكان رأس ثمود من أشرافهم وسادتهم، يقال له جندع بن عمرو بن خراش بن الدميل بن عاد بن ثمود، وهو صاحب أمرهم والمطاع فيهم وكان معه أشراف منهم ريان بن صمغة بن خليفة بن خراش وهو كاهنهم وذؤاب بن عمرو بن لبيد بن خراش - وهو صاحب أوثانهم والجناب وشهاب ابنا خليفة ابن عمرو ولبيد بن خراش وهو صاحب حربهم وبأسهم، وهؤلاء أهل بيت واحد ومعهم أشراف من بني غنم وعبيد بن ثمود ليسوا بدونهم في الشرف والعز، فخرجوا في عيدهم بزينتهم ولهوهم وما احتاجوا إليه من

صلاحهم، وخرج معهم صالح - صلى الله عليه وسلم - وهو يرجو إسلامهم فأتوا مكان مجمعهم فقضوا ما كانوا يحتاجون إليه يومهم ذلك فاعتزلهم صالح في ناحية قريباً من شجرة كانت يصلي ويعبد الله فلما كان في الغد اجتمعوا إليه باجمعهم، فأتوا صالحاً فتحدثوا عنده ما شاء الله، ثم نظروا إلى صخرة عظيمة منفردة في قاع أفيح فأعجبتهم فقالوا: يا صالح إن طلبنا منك أن تخرج لنا في هذه الهضبة - يعنون الصخرة - ناقة حمراء شعراء وبراء مهبرجة، والمهبرج من الإبل: يماشي كل النجب لها ضجيج وعجيج ورغاء شديد تفور لبناً سائغاً. فإن فعلت ذلك فعلنا لك ما عاهدناك عليه وإلا علمنا أنك كاذب. وإنما سألوا صالحاً ذلك استهزاء به فظنوا إنه لا يفعل ولا يكون منه ذلك ولا يقدر عليه. ولم يكن الله ليحقر نبيه - وهو القادر على ما يشاء - فقال لهم صالح: زيدوا لهم صالح: زيدوا فأعطوني في عهودكم ومواثيقكم على ذلك. فأعطوه ما وثق به، ثم قام صالح فصلى ما شاء الله، ثم رفع رغبة إلى الله ودعاه وتضرع إليه. فسمعت ابن عمك عبد الله بن عباس يقول: فبنيما هم على ذلك - وهم يدعون أصنامهم أن تحول بين صالح وبين ذلك - وهم ينظرون ما يفعل لصالح الهه وما تفعل لهم أصنامهم إذ نظروا إلى الصخرة تتحرك وترتعد من خشية الله تعالى، ثم اضطربت فنظروها تتمخض كما تمخض المرأة للولد، ثم انصدعت وتغلقت عن ناقة عظيمة على ما سألوا ووصفوا إلا أن الله عز وجل عظم خلقها على خلق كل دابة في الأرض فكانت كأنها طود عظيم رأسها كأعظم بعير، ثم أقبلت إلى جماعة القوم حتى ظنوا أنها مهلكتهم ونظروا إلى أمر عظيم هالهم من أمر الله وعزته وقدرته. فلما رأى ذلك رئيسهم جندع بن عمرو خر لله ساجداً وسجد معه بشر كثير من عظمائهم وسفلتهم وأقر الله عين نبيه - عليه السلام - وصدق ظنه

وكانت العامة من ثمود عند ذلك قد خشوا أن يموتوا تلك الساعة. فقام فيهم نفر من مشايخهم - مشائخ الكفر والضلالة - منهم: ريان بن صر - صاحب كهانتهم - والجناب بن خليفة وذؤاب - صاحب أوثانهم - فكلموا ثمود ونهوهم وزجروهم عن الإسلام. وقول الله عز وجل {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}. يقول: هداهم أراهم آية عظيمة فاهتدوا وأبصروا ثم استحوذ عليهم الشيطان وأطاعوا سادتهم وكبراءهم فارتدوا إلى الكفر وهو العمى. قال عبيد: سمعت ابن عمك يقول ذلك. قال: صدقت فخذ في حديثك. قال عبيد: وثبت جندع بن عمر رئيسهم وسيدهم على الإسلام وناس معه حتى ماتوا - رحمهم الله وغفر لهم - وكان شهاب بن خليفة بن عمرو قد أسلم مع جندع بن عمرو، ثم رجع عن ذلك مع من رجع وارتد مع ثمود، فدعاه جندع بن عمرو إلى الإسلام فعصاه فكان ممن استحب العمى على الهدى، فخاب. وفي ذلك يقول رجل من المسلمين اسمه مهوش ابن علقمة شعراً فأنشأ يقول: دعونا عصبة من آل عمرو ... إلى دين الإله دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعاً ... فيأبى أن يجيب ولو أجابا لا صبح آمناً فينا عزيزاً ... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر ... تولوا بعد رشدهم ارتيابا قال: ومكثت الناقة في أرض ثمود بين أظهرهم ترعى الشجر وتشرب الماء، ثم أن صالحاً عليه السلام خشي عليها سفهاء ثمود فزجرهم عنها وأوحى الله إليه بذلك. قال: يا معشر ثمود {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض

الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}. قال: ثم قسم الله الماء بينها وبينهم. وأوحى إلى صالح نبيه ونبيهم صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر} فقال {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} قال: فكان شربها يوماً معلوماً يقام يوم الأربعاء، فكانت ترد يوم شربها، فإذا وردت وضعت رأسها في الوادي فتستقيه حتى لا تدع قطرة. قال: فترفع رأسها فتقوم فتفجح لهم، ثم تدر فيحلبون ما شاءوا من لبن فيشربون منه ما اشتهوا حليباً ويدخرون منه ما أحبوا يتزودونه في أسقيتهم كما يتزودون الماء، فيكون لبنها لهم خلفاً من الماء، ثم تصدر من غير الموضع الذي منه وردت لا تقدر أن ترجع من حيث وردت لضيق ذلك عليها من عظمها - وسموها الهجول - وإذا كان يوم وردهم وشربوا من الماء ما شاءوا وادخروا ما شاءوا ليوم وردها، فكانوا من ذلك في سعة وفضل وحالة حسنة. وكانت الناقة إذا كان الصيف طلعت ظهر الوادي فهربت منها المواشي والدواب من البقر والغنم وغيرها من الوحوش، فهبطت منها المواشي إلى بطن الوادي في برد شديد وحر شديد وجدب ذلك. إن الدواب كانت تنفر منها وتخاف أن تتخطفها، وإذ كان الشتاء والبرد شتت في بطن الوادي ونفرت منها وارتفعت إلى ظهر الوادي في برد شديد وجدب. فاضر ذلك بمواشيهم وذلك للبلاء الذي أراده الله بهم وقدره عليهم وجعلها سبباً لهلاكهم وكانت مراعيهم ما بين حسمى إلى وادي القرى. فلما كان ذات يوم أصبحت الناقة في بطن الوادي ومعها سقب لها على مثل خلقها وهيئتها، إلا إنه لم تبلغ، فلما رآها كفار ثمود قالوا: سحر صالح الناقة حتى نتجت سقباً وكذب أعداء الله. فمكثوا على هذه الحالة حتى دنا الوقت الذي أحب الله فيه هلاكهم، فنبغت منهم

عجوز فاسقة ملعونة يقال لها أم غنم وهي عنيزة أم غنم بن المختار - وهي من بني عبيد بن المهل وهي العجوز الملعونة التي ابتليت بها ثمود - فكانت تحت ابن عمرو زوجة له، وكانت ذات ماشية كثيرة من ابل وغنم وبقر فألقى الله بغض الناقة في قلبها لحال ماشيتها، وكانت لها بنات حسان منهن الرباب التي كانت أجمل نساء العرب في زمانها، وكانت لها أخت من نساء أشراف ثمود - يقال لها الصدوف ابنة المحيا بن زهير بن المحيا سيد بني زهير وصاحب كهانتهم وأوثانهم في زمانهم الأول - وكان واديهم يقال له (وادي المحيا) وكانت صدوف ذات جمال وكمال ومال كثير واسع من ابل وبقر وغنم، وكانت هي وعنيزة متواخيتين ملعونتين، وهما كانتا من السباب التي قدر الله عز وجل نقمة لثمود وكانتا من اشد نساء ثمود بغضاً لصالح والناقة، وكانتا تحبان عقر الناقة لمكان ماشيتهما، وكانت صدوف تحت رجل - يقال له ضيم - قد أسلم مع صالح وحسن إسلامه، وكانت الصدوف قد فوضته في مالها كما تفوض المرأة زوجها، فكان ضيم ينفقه على من أسلم مع صالح من اتبعه يريد بذلك وجه الله. فلم يزل على ذلك حتى رق المال في يده واطلعت صدوف على إسلامه وما يفعل بالمال فشق ذلك عليها ولامته وعاتبته على فعله. فلما أكثرت عليه أظهر لها إسلامه ودعاها إلى الإسلام ورغبها فيه، فأبت عليه وأظهرت له الشناءة وانتقلت إلى أهلها وأهل بيتها بني عبيد الذي هي منهم وأخذت بنيه وبناته فبعثتهم إلى بني عمها، فقال لها زوجها ضيم: ردي علي ولدي، قالت: لا أردهم حتى أناظرك إلى ضبعان أو مبدع ابني عبيد. فقال لها: لا أناظرك إلى بني مرداس، وذلك أن بني مرداس كانوا قد سارعوا إلى

الإسلام وأبطأ عنه الآخرون. قالت له الفاسقة: لا أناظرك إلا إلى من دعوتك إليه. فاستعان عليها ببني مرداس فقالوا لها: والله لئن لم تدفعي إليه ولده طائعة لتدفعنهم إليه كارهة ولنقومن من دزنه. فلما رأت الفاسقة ذلك علمت إنه لا طاقة لها ولا لرهطها ببني مرداس، فدفعت إلى ضيم ولده، فذكر ضيم أمر صدوف ومعاتبتها إياه على الإسلام وعلى المال فقال في ذلك شعراً يقول فيه: تقول كان ضيم لا منبت له ... فقلت ذو رحم منه ومن زال إن ابن أمي أغواه وأفسده ... فأهلك المال في أسباب أخوالي فقلت ويحك إن الله بصرني ... دين الهدى فاشتريت الدين بالمال وقلت حسبي بدين الله أبلغه ... في آل صالح إدباري وإقبالي قال معاوية: لله أنت يا لبيد، وما يعني بقوله هذا: قال: يا معاوية. قوله ذو رحم مني ومن زال فكان زال آخاها لأبيها وأمها وهو زال بن المحيا قد اسلم مع صالح، ثم استقام على الهدى. وقوله أغواه وأفسده تقول إن آخاها أفسده زوجها وأغواه حتى أسلم وأفسد المال وهي الغوية لعنها الله ليس هما، وأما أخوالي فهو خال صدوف وخال أخيها ذلك وكان مسلماً، وكان ممن أنفق عليه ضيم فهلك في صيحة صالح عليه السلام وذلك قوله: افسد المال أسباب أخوالي، ثم أن الفاسقين لعنهما الله عنيزة وصدوف أجمع رأيهما على عقر ناقة صالح فأخذتا في المكر والحيل لأسباب الشقاء الذي حل بثمود فأتت الصدوف رجلاً من قومها - يقال له الجناب ابن خليفة من أشراف ثمود ومترفيها - فدعته إلى عقر الناقة وعرضت عليه نكاحها ومالها فأبى عليها ذلك ونزه نفسه عن طاعتها، فبعثت إلى

رجال ثمود وأشرافها تدعوهم إلى ذلك، فأبوا عليها حتى أتت ابن عم لها - فاسقاً فاجراً ملعوناً مقدماً على المكاره والشراب يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا - فدعته إلى عقر الناقة، ونكاحها إن فعل فأجابها إلى ذلك لما رغب فيه من جمالها وكمالها وسعة مالها، ولما كتب الله سبحانه وتعالى عليهم وانطلقت عنيزة الفاسقة إلى أشراف ثمود ومترفيها تدعوهم إلى عقر الناقة وتبذل مالها وابنتها الرباب لمن يفعل لها ذلك، فلم تجد أحداً يتابعها على ما طلبت حتى أتت المدينة قرح - وهي المدينة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فقال {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} - قال: فكلمت رجالهم حتى أتت إلى رجل منهم يقال له - قدار بن سالف بن مليف بن جندع، وكان فاسقاً فاجراً ملعوناً جرياً على الله سبحانه وعلى المحارم والفواحش، وكان من صفته إنه كان أحمر أزرق أكسف ولد زنا - ويقال أن أمه باغية ملعونة، وكانت تفجر برجل من قومها - يقال له ضبعان بن عبيد - وكان قدار شبيهاً به، فكان قومه يقولون إنه ابنه، ولكنه ولد على فراش سالف فادعاه فالولد لضبعان والاسم لسالف وقدار هو الشقي الذي عقر الناقة وبه شقيت ثمود، وكان قدار - مع حاله هذه - مقدماً عزيزاً منيعاً في قومه. وذكر محمد بن إسحاق في غير حديث عبيد بن شرية، قال محمد ابن إسحاق، حدثني هشام بن عروة بن الزبير في حديث زمعه بن الأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى، إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم يخطب الناس على المنبر فذكر الله وذكر ناقة الله التي عقرت ثمود، والذي عقرها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قام

إليها أحمر أصعر وأزرق منيع عزيز في قومه مثل زمعة بن الأسود في قومه. رجع الحديث إلى عبيد بن شرية. قال عبيد: فكلمته عنيزة الفاسقة بعقرها وبذلت ابنتها الرباب وأي بناتها شاء، فأجابها عدوالله إلى ذلك - وكان قدار عدو الله محباً للرباب وامقاً بها، وكان قد طلبها فلم يجد ليها سبيلاً، وكانت الرباب أجمل امرأة في زمانها وأتمها - فلما ذكرتها معاً لعدو الله تاقت نفسه إليها فطاوعها، فاجتمع هو ومصدع فتكلما في ذلك، ثم ناديا في ثمود فاستغويا ناساً غواة سفهاء من سفهائهم ومترفيهم من أهل المدينة مدينة قرح فاتبعهما تسعة نفر من أشباههما فكانوا تسعة نفر، وهم الذين ذكر الله تعالى في كتابه {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}. وهم: قدار بن سالف - وهو رئيسهم في الشر - ومصدع بن مهرج، ومبلغ بن غنم - وهو خال قدار، وكان عزيزاً في قومه - ودعيم بن حلاوة بن المهل، وذؤاب بن مهرج - أخو مصدع - وأربعة لم تحفظ أسماؤهم، وكلهم من أشراف ثمود وأعزائهم وأهل النعمة منهم - وهم الأذلة عند الله - فتتابعوا وتحالفوا على عقر الناقة، وفي حديث وهب بن منبه: أن اسم الرهط الذين تحالفوا على عقرها قدار بن سالف ومصدع بن مهرج وذؤاب بن مهرج والهزيل ابن متروك وغنم بن غنم وعفير بن كردم وعاصم بن مخرمة وسليط بن حدقة وبسيط بن نعيق. رجع الحديث إلى عبيد، قال: فاجتمعوا في بيت الفاسقة عجوز النار

أم غنم وأختها الصدوف فمالتا عليهم بما شاءوا من الخمر واللحم وعمدت إلى ابنتها الرباب فزينتها وحلتها وألبستها قرفيرا وإزاراً وخماراً، وأبرزتها إليهم وأمرتها أن تبدي محاسنها. فلما رآها الفاسق قدار ذهب عقله وتاه حمله، وتبرجت الصدوف لمصدع، فهذبت بعقله - وكان ذلك يوم الأربعاء يوم ورد الناقة - وكانت الفاسقتان اعتمدتا ذلك ولم يدخرا شيئاً من الماء ليوم ورد الناقة اعتماداً منهما على ذلك. فبينا هم في أربهم ذلك إذ قل عليهم الماء لمزج الخمر، فطلبوا ماء، فلم يجدوا شيئاً، فقالتا لهم الفاسقتان: إذ لم يجدوا ماء لمزج الخمر أن عندنا خمراً كثيراً فلابد له من فراج فاطلبوا لنا الماء، فذهبت التسعة الرهاط بأسيافهم يطلبون الماء فوجدوا الناقة قد شربته جميعاً، فلم يقدروا منه على شيء، فرجعوا إلى مجلسهم، وقد جسرهم على عقر الناقة فأكد بعضهم على بعض في عقرها، وطلب قدار ومصدع من المرأتين أنفسهما، فقالتا: ما إلى ذلك سبيل حتى تريحانا من هذه الناقة التي قد أهلكت مواشينا وقطعتنا من الماء. وشاع خبر قدار وأصحابه في قومهم وما هموا به من عقر الناقة، فشق ذلك على عظماء ثمود ومشايخها ورأوا ذلك هولاً عظيماً، وعلموا أنهم لا طاقة لهم برهط قدار وأصحابه لعزهم ومنعتهم في قومهم. وبلغ ذلك صالحاً صلى الله عليه فأتى الرهط، فقال لهم {هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم}، فلم يزدهم ذلك الكلام - كلام صالح إلا عتواً ونفوراً وجرأة على عقرها - وهموا بصالح، فخرج هارباً إلى قومه. ثم أن عدو الله قدار وأصحابه جدوا في عقر الناقة فصقلوا أسيافهم وأخذ قدار معولاً فسنه، ثم تقلدوا أسلحتهم، فأخذ قدار معوله

وساروا يريدون الناقة في يومهم ذلك في يوم وردها، فانطلقت معهم عنيزة الفاسقة معها ابنتها قد زينتا وألبستها ثوباً معصفراً وقلدتها بدر وياقوت، وسارت معها صدوف على مثل ذلك حتى أتوا على طريق الناقة التي تصدر منها، وكمن لها قدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل شجرة. فلما صدرت الناقة من الماء وقف الرجلان عنها وجبنا عن عقرها واستعظما أمرها. فلما رأت ذلك عنيزة وعرفت حالهما أخذت دفها وجاءت بابنتها الرباب حتى وقفت على رأس قدار، وأنشأت تقول: فدت نفسي لقدار أعز قومي ... ومفزعهم إذا المكروه نابا به عزت ثمود فإن دعته ... ليكشف كربة عنها أجابا وكان لها لدى الحدثان حصناً ... يذل من الأولى عز الرقابا أطاعته ثمود فعز طرا ... وأحصنها كما أوتوا كتابا فقدم للذي أكدت عهداً ... لعلك في المكاره أن تهابا ولا تجبن فإن الجبن عار ... وكان أبوك يكره أن يعابا فقد أشبهته جوداً وبأساً ... ولم تشبه صميماً ولا ذؤابا فأنقذ من يحول الشر قومي ... فلست بمتبع فيها عقابا وطفقت تضرب بدفها وأقبلت صدوف الفاسقة في زينتها حتى وقفت على رأس مصدع وهي تضرب بدفها وتنشد هذا الشعر: الآن الشعر أحلو لي وطابا ... وودعنا المكاره والتبابا ونؤتى بالذي نهوى جميعاً ... ونهدي نحو مصدعنا الشرابا

فنفسي قد وهبت وكل مالي ... لمصدع بالذي أهوى ثوابا فعندي ما اشتهيت فثق بقولي ... ولا تخش لما قلنا انقلابا فمثلك قد أراح النفس مما ... رأوا منها ينبهم عتابا فما في ناقة عقرت عقاب ... لآل ثمود قد كانت عذابا قال: فلما سمعا عدوا الله قول الفاسقتين ابتدرا فحمل عليهما مصدع فمرت به فرماها بسهم فانتظم بالسهم عصبة ساقها وحمل عليها قدار فضرب عرقوبيها بمعوله حتى أبانهما فهرت صريعة لها رغاء شديد، ثم طعن بالسيف في لبتها فنحرها وهرب سقبها فتعلق بجبل يقال له صنو، ولاذ بصخرة - يقال لها الكتانة - ولحقه مصدع وأخوه فامتنع منهما بالصخرة ولم يقدرا عليه وسمع الناس بعقر الناقة وبنحرها فتبادروا إليها فما كان كشيء حتى اقتسموا لحمها. وذكر محمد بن إسحاق من غير رواية عبيد بن شرية، أنهم قد أصابوا السقب مع أمه، قال: وتبعه مصدع وأربعة نفر من الذين عقروا الناقة فرماه مصدع في لبته بسهم - وكان أرمى أهل زمانه شلت يده - فانتظم قلبه فجر برجله حتى أنزله فالقوا لحمه مع لحم أمه. قال ابن إسحاق: فلم يسمع بأن السقب قتل إلا في الحديث واحد عن رجل لم يتابعه على هذا الحديث غيره ولم يقل في ذلك أحد من ثمود ولا من غيرها من العرب شعراً إلا رجل واحد من أصحاب صالح عليه السلام ولا يمكن هذا أن يكون وإنما كانت الصيحة التي أصابتهم من صيحة السقب. - رجع الحديث إلى عبيد بن شرية. قال عبيد: واكب قدار وأصحابه

على الناقة فذبحوها وجزوا لحمها أعضاء وأتتهم عنيزة والصدوف بالخمر والقدور فنصبوها وشووا وشربوا وأكلوا وظلوا في ذلك المكان ينعمون ويملون ويقولون الأشعار فكان ما روى لنا مما قالوا هذا الشعر: قد أصبح صالح فرداً حقيراً ... وما يرجو بناقته نصيرا عقرناها بأيد ثم عز ... ولم نخش لذي ثار نكيرا وما نلقي لنا فيما فعلنا ... بها إلا الكرامة والسرورا وأصبح لحمها فينا غريضا ... بلهوجه وطائفة وغيرا سنطلب صالحاً ومصدقيه ... لنلحقه بناقته عقيرا سنطلبه لنقتله فمن ذا ... يكون له وإن هرب المجيرا فأجابه رجل آخر من المسلمين وهو يقول: عصت بغياً ثمود رسول ربي ... أخاهم صالحاً وعصوا قديرا على الأشياء اخرج كي يتوبوا ... لهم من صخرة الوادي بعيرا كما سألوا نبيهم فكانوا ... لما قد عاينوا من ذلك بورا سقاهم مثلها ماء معينا ... وأرواهم لها دراً عزيرا فما اعتبروا بها أبداً ولكن ... طغوا وبغوا وغالوها كفوراً وقالوا فاعقروها ثم ملئوا ... لنا من لحمها الوادي قدورا أطاعوا مصدعاً وقدار غيا ... ورهطاً سبعة كسبوا الشرورا فسوف ترى ثمود ومن أطاعت ... عواقب ما أتت حوباً كثيرا وتعلم حين يأتيها عذاب ... من الجبار من ورا نكيرا ويعلم مصدع وقدار ماذا ... يجازي إذا عصى الله الكبيرا

قال: وكان صالح، صلوات الله عليه - نازحاً عنهم في دار قومه لا علم له بما فعلوا بالناقة، حتى بلغه الخبر وقيل: هل علمت أن ناقة الله قد عقرت ويقسم لحمها؟ وغلت بلحمها وشحمها المراجل؟ فخرج نحوهم مسرعاً في عصبة من قومه حتى وقف عليهم، فإذا لحم الناقة عندهم وهم يأكلون ويشربون، فقال لهم صالح أعقرتموها؟ رماكم الله بما لا طاقة لكم به من العذاب وأنتم تنظرون وشتم قومه من ثمود وأوعدهم العذاب الأليم فشتموه. فقام صالح فصلى ودعا إلى الله - وهم يسخرون منه - فأوحى الله تبارك وتعالى إلى صالح عليه السلام إني قد قبلت دعاءك واني مرسل عليهم صيحة تزهق أنفسهم وتهلكهم أجمعين وذلك نازل بهم إلى ثلاثة أيام. فقال صالح: يا رب أعجل من ذلك، فقال الله تبارك وتعالى: إني إذا قضيت أمراً فلا مرد له وإن وعدي غير مكذوب، ثم أقبل صالح على القوم فقال: اجترأتم على الله وانتهكتم حرمته فانتظروا نقمته واعلموا أن العذاب نازل بكم بما فعلتم، فقالوا: - وهم يستهزئون به - ومتى يكون ذلك يا صالح؟ فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، فقالوا: - وهم يسخرون منه - وما علامة ذلك يا صالح؟ فأوحى الخميس مصفرة، ثم تصبح يوم الجمعة محمرة، ثم تصبح يوم السبت وجوههم مسودة، ثم يأتيهم العذاب غداة يوم الأحد مشرقين. يقال:، قال لهم صالح: إن علامة ذلك أن تصبح وجوهكم غداة مؤنس مصفرة، ثم تصبح في عروبة محمرة، ثم تصبح يوم شيار مسودة، ثم يأتيكم العذاب يوم أول. قال: وكانت العرب تسمي الأيام في الجاهلية الأحد يوم أول والاثنين أهون والثلاثاء جباراً والأربعاء دباراً والخميس

مؤنساً والجمعة عروبة والسبت شياراً، فذلك الذي عنى بهم صالح، صلوات الله عليه. فلما سمعوا قوله كذبوه واستهزئوا به وتآمروا بقتله وقالوا: هلموا فلنقتل صالحاً وأصحابه في ليلتنا هذه ونلحقه بناقته ونستريح منه فإن بك صادقاً، فقد عجلناه، وإن يك كاذباً فقد اشتفينا منه. فتعاقدوا على ذلك وتعاهدوا على ذلك عليه واجمعوا على قتله. فانطلق الرهط التسعة قدار وأصحابه حين أمسوا حتى أتوا منزل صالح وهم يريدون أن يغتالوه فوجدوه وأصحابه المؤمنين قعوداً يذكرون الله. فلما طال عليهم ذلك تآمروا فقالوا: هلموا بنا فلنقتله وأصحابه المؤمنين ولا يعلم أحد من قتلهم، فإن طلبنا أحد من أوليائهم أقسمنا لهم ما شهدنا مهلك أهله ولا لك قول الله عز وجل في كتابه {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا: تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}. سمعت ابن عمك يقول ذلك يا أمير المؤمنين. ثم وثبوا ليقتحموا البيت على صالح، فبعث الله جل جلاله نفراً من الملائكة معهم حجارة من نار فدمغتهم الملائكة بتلك الحجارة فقتلتهم جميعاً، فهلك قدار وأصحابه من آخر ليلتهم وأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وأنزل بهم نقمته وقدرته قبل قومهم وما أعد لهم من العذاب في الآخرة أشد وأخزى فسحقاً لأصحاب السعير. وكان العامة من ثمود وجلهم قد رحلوا مع قدار وأصحابه بعد عقر الناقة وأكلوا لحمها ورضوا بعقرها جميعاً والتي منهم يومئذ ما لا يحصى عدده فلما أبطأ قدار وأصحابه عن قومهم انطلقوا إلى منزل صالح وأصحابه في طلبهم، فوجدوهم على بابه موتى قد رموا بحجارة، ولم يكن صالح وأصحابه علموا بشيء من قتل قدار وأصحابه ولا بمجيئهم إليهم، فأخذوا صالحاً فقالوا له: أنت فعلت هذا وقتلت أصحابنا هؤلاء قتلوا على بابك. فوثب رهط صالح دونه وقالوا: والله لا وصلتم إليه أو

نموت دونه عن آخرنا، وقد أخبركم أن العذاب نازل بكم إلى ثلاثة أيام فإن بك صادقاً فذاك أعز له وإن يك كاذباً أسلمناه إليكم بما جنى على نفسه من الكذب - وكان رهط صالح أعز بيت وأشرفهم في ثمود وأمنعهم وأكثر عدة وعدداً - فرضيت عنهم ثمود بذلك وتركوا صالحاً. وأوحى الله إلى صالح بأمر قدار وأصحابه الرهط، قال الله عز وجل {إنا دمرناهم وقومهم أجمعين} - أي بالصيحة التي تأخذهم - قال: فلما رأوا ذلك أيقنوا بالعذاب وعلموا أن صالحاً قد صدقتهم وازدادوا كفراً وطغياناً وجرأة على الله وتعصباً لنبيه صالح واجمعوا على قتله وقتل أصحابه، وقالوا: لسنا ندعه يعيش بعدنا هو وأصحابه، وشغل عنه رهطه بما جاءهم من الأمر وبلغ صالحاً عليه السلام ذلك عنهم، فهرب بنفسه حتى أتى بطناً من ثمود - يقال لهم غنم بن مبلغ، وكانوا أعز بطن في ثمود وأمنعهم منزلاً، رئيسهم وسيدهم نفيل، وكان مشركاً وكان يكنى بأبي هدب، وهو نفيل بن عمرو بن غنم بن مبلغ وكان هو وقومه مشركين فلجأ إليهم صالح وتحرم بأبي خهدب فآواه وأجاره ومنعه وخفي على المشركين أمر صالح، فلم يقدروا عليه، ولم يعلم به احد، فأخذوا أناساً من أصحابه فعذبوهم أشد العذاب وعرضوهم على القتل ليدلوهم عليه، فقتلوا منهم نفراً - رحمهم الله تعالى - فلما رأى ذلك رجل من المؤمنين - يقال له مبدع ابن هرم الشاعر - انطلق حتى أتى صالحاً، فأخبره الخبر وقال له: قد قتلوا منا نفراً وقد خشيت أن يقتل أضعافنا وأحداثنا حتى يدلوهم عليك، فما ترى يا نبي الله؟ قال صالح: دلوهم علي ولا حرج. قال: نحن بحل من ذلك. قال: نعم لا جناح عليكم - غفر الله لكم - فرجع مبدع فأخذه المشركون وقالوا: دلنا على صالح وإلا قتلناك وأصحابك، فأشأ مبدع

يقول: فإن يك صالح أمسى مقيماً ... ببلدتكم فلن يعدو نفيلا وإن يك صالح في آل غنم ... فلم تجدوا إلى غنم سبيلا بنو غنم سراة ثمود طرا ... وإن كانت بنو غنم قليلا وظني أن يمنعه رجال ... بضرب يترك الأعناق ميلا أبو هدب وأخوان لهدب ... إذا فزعوا رأيت لهم خيولا مجردة لدى الهيجاء بلقا ... تجاوب بعضها بعضاً صهيلا أخافوا صالحاً لما دعاهم ... فظلوا حول حجرته حلولا وأشياع هنالك من شباب ... وأشياخ تخليهم فلولا وقالوا لن تخاف وأنت فينا ... كفاك برغمنا فينا كفيلا فلا تخش التجبر يا آل قومي ... كفى لكم بذلكم دليلا فلما سمعوا قوله هذا وعلموا مكان صالح حيث هو كفوا عن المسلمين وانطلقوا بأجمعهم حتى أتوا أبا هدب وقومه فكلموه في صالح. فقال لهم أبو هدب: هو عندي وقد أجرته وآويته فلا سبيل لكم إليه. فقالوا: أتتبع دينه وتترك ديننا؟ قال: لا، ولكن قد أجرته ولن تخفروني في جواري، فتركوه وانصرفوا عنه، وشغلهم ما نزل بهم من العذاب وجعل بعضهم يخبر بعضاً بما يرون في وجوههم من التغير، ثم أصبحوا ووجوههم يوم الخميس مصفرة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة. فلما كان ليلة الأحد، خرج صالح من بين أظهرهم ومن معه من المسلمين إلى الشام فنزل إلى رملة فلسطين، وتخلف رجل من أصحاب صالح، صلوات الله عليه يقال له

مبدع بن هرم، فنزل قرحاً - وهو وادي القرى - وبينه وبين الحجر ثمانية عشر ميلا، فنزل على رجل يقال له عمرو بن غنم - وكان سيدهم وكان قد أكل من لحم الناقة ولم يشرك في عقرها - فقال له مبدع: يا عمرو اخرج من هذا البلد، فإن صالحاً قد قال: من خرج من هذه البلد نجا ومن أقام بها هلك. فقال عمرو: والله ما شاركت في عقرها ولا رضيت بما صنع بها. وأمسك عنه مبدع، فلما أصبح الأحد ورأوا ما نزل بهم من العذاب اجتمعوا كل قوم في مجلسهم فحفروا لأنفسهم قبوراً في بيوتهم ونحتوا ولبسوا أكفانهم - وكانت أكفانهم الانطاع وحنوطهم المر - وجلسوا في حفرهم. فلما ارتفع الضحى أخذتهم الصيحة. فلم يبق منهم أحد لا صغير ولا كبير إلا جارية من ثمود يقال لها العدوى ابنة ينبع وكانت جارية مقعدة وكانت كثيرة العداوة لصالح، فأطلق الله رجليها بعدما أخذ قومها العذاب، فخرجت حتى أتت إلى قرح فأخبرتهم بما رأته من العذاب وبما أصيب به قومها ثمود. ثم هلكت الجارية حين أخبرتهم. فقال: وقد سمعت ابن عمك عبد الله بن عباس يقول: إن الله تبارك وتعالى بعث جبريل حتى وقف على الفج الذي عقرت فيه الناقة، فصاح فيهم فخرجت أرواحهم من أبدانهم فهلكوا جميعاً إلا هذه الجارية المقعدة قد حدثتك حديثها. إلا إنه ذكر أن أسمها الذريعة - وهي كلبة بنت سلق - قال: ونفرت الوحوش والبهائم، فكانت لا تطوف إلا حولها. قال عبيد: وسمعت ابن عمك يقول: إن الله تبارك وتعالى لما أهلك ثموداً عجل لأهل الحجر العذاب فأخذتهم الصيحة يوم ثالث عقر الناقة وأهلك أهل قرح من ثمود بعد ذلك لإحدى وعشرين ليلة لإيوائهم صالحاً - صلى الله عليه وسلم - يوم أراد قومه قتله، فذلك قول الله عز وجل {فتلك

بيوتهم خاوية بما ظلموا} - يعني ساقطة خربة - قال معاوية: لله درك يا عبيد قد حدثت بعجب، فهل قيل في ذلك شعر وذكرهم أحد من العرب في شعره؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين قد قالوا في ذلك أشعاراً. قال بعض شعراء العرب فيهم أيضاً. قال معاوية: فهات فأنشدني ما تروي من ذلك؟ قال عبيد: قد قال مبدع بن هرم في شأنه الناقة وأمر عنيزة بنت غنم صدوف هذا الشعر الذي يقول فيه: أبى الله إلا أن يحل بأرضنا ... من أجل صدوف والعجوز وخرابها دعت أم غنم شر حلف علمته ... بأرض ثمود كلها فأجابها ازيرق من فرخ دعته وربما ... دعت أم غنم للقبيح شبابها فنادت نداء لم تجد لشقائه ... سوى ابن جديع إذ رأته ربابها وقالت أطع تعط لرباب وأختها ... فدونك أم السقب فاهتك حجابها فصمم غاو عند ذاك لعقرها ... ونادت صدوف عند ذاك جنابها فقال جناب إنني غير مائل ... إليك فنادت مصدعاً فأجابها وقال مبدع بن هرم يذكر قداراً وأم غنم في شعره فقال: دعته عجوز من عبيد غوية ... لتنكحه بنتاً لها إذ ترفعا وقالت له أنت ابن سالف أن تنل ... عقيلة غنم تدرك المجد أجمعا إذا ما عقرت الناقة اليوم وابنها ... فبنى لك الوسطى وإن شئت سروعا أختيها الصغرى أحسن من مشى ... وأكرمها ان نلتها الدهر موضعا من آل ثمود لم تر الدهر مثلها ... ولو طفت حتى تقطع البر اكتعا أجاب قد أرام غنم وبنتها ... ونادت صدوف عند ذلك مصدعا

فقام إلى سيف حديث صقاله ... فبت به العرقوب ما أن تورعا لقد لبثت فينا ومعها فصيلها ... بوادي الجنان يرتعان به معا قريرة عين ما تخاف فراقه ... وما أن أشاروا نحوها قط إصبعا وكان قدار أخبث الناس كلهم ... إذا ما دعوا يوماً إلى الشر أسرعا إذا ما دعوه يوم ضر أجابهم ... فلما دعوه للعجوز تسرعا فقيل له لا تتبعن ابن سالف ... فانا نراه بابن غنم قد أزمعا لعقر التي نادى بها المرء صالح ... غداة رأيت الناس بالواد ركعا ينادون عبراً لا يجيب دعاءهم ... وإذ صالح يدعو الإله تضرعا إلى الله رغباً أخرج اليوم ناقة ... تكون لنا عذر فأعطه ما دعا فأخرجها من صخرة لا بن مبلغ ... تؤم وجوه الناس عجلاً متبعا جعلنا له عهداً بان لا نضرها ... بشيء أشهدنا على ذاك جندعا قد كان يدعو جندع ثم ربه ... بصوت حزين ينزع الدعي من دعا ينادي إلهي أنزل اليوم رحمة ... علينا لا تشمت بنا الحي متلعا فانا نخاف اليوم من ظلم قومنا ... من جهلهم بالله أن نتمزعا وقال رجل من أصحاب صالح وكان مسلماً يذكر أم غنم وقولها لرجال بني عدي وهم رهطها الذي هي منهم، حين رأت ما بوجوههم وعرفت صدق ما وعدهم صالح وأيقنت بالعذاب، فقال هذا الرجل من أصحاب صالح يصف ذلك وأنشأ يقول: فقالت يوم مؤنس أم غنم ... لضبع والعبيد وآل عرس

أراكم يا رجال بني عبيد ... كأن وجوهكم خضبت بورس لما قالت رجال بني هلال ... وما قال النبي لهم بالأمس بأنكم لناقته حسدتم ... تغيرت الوجوه أبي ونفسي فداء للمعاشر من عبيد ... وأبناء الدميل بني العمرس ويوم عروبة احمرت وجوه ... مصفرة ونادوا يال مرس ويوم شيار اسودت وجوه ... من الحيين قبل طلوع الشمس فلما كان أول في ضحاء ... أتتهم صيحة عقبت بنحس وقال مبدع بن هرم كان مسلماً يذكر الغرحى عمرو وقد جعل يهزأ به، فقال مبدع في ذلك شعراً، حيث يقول: يقول ابن غنم لي وقد رمت نصحه ... يعود إلى دين النبيين مبهجا برئت من الدين الذي تزعمونه ... تكون له يوم القيامة محرجا تضاحك بي عمرو بن غنم وقال لي ... يسرك أن آتيك بالذئب مسرجا فتركبه عدواً فتأتي نبيكم ... فتخبره أني تركتك محرجا بأرض بني كنعان ما بك قوة ... فترجو نجاة أو تجد لك مولجا وقد أكلوا لحم الفصيل وأمه ... طبخاً ومنه ما أضاعوا ملهوجا فلما رأيت القوم لا خير فيهم ... ركبت قلوصي ثم يممت مدلجا إلى صالح حتى أنخت بصالح ... على واضح من دينه ليس أعوجا وقال مبدع أيضاً يذكر بلادهم وما أصابها من العقوبة: أقمنا بدار الكوش عشراً كواملا ... وخمس سنين بعد عشر وأربعا

فنادى مناد الحقوا ببلادكم ... فقدما أبان الخصب منها وأمرها وإن بلاد الحجر أضحت وما ترى ... بها جالساً إلا أهاجيل وقعا على كل قصر قد تخرب جوفه ... يجاوبن بالأسحار يوماً واصوعا فلما هبطنا أرض حجر وقرحها ... وجدنا بها ماء كثيراً ومرتعا وقال مبدع أيضاً يذكر ثمود ما أصابها: لعل عدوكم نزل البطاحا ... غدوا كان ذلك أم رواحا فكانت غارة منهم إليكم ... قبيل الصبح فاعتسفوا اللقاحا فإن تكن اللقاح ذهبن منكم ... وصار الشيخ يغتبق القداحا فكانت غارة قدرت عليهم ... أتتهم في ديارهم صباحا فقلت بلى غدواً حلى صبحا ... مع الإشراق خلناه رياحا فكانت صيحة لم تبق شيئاً ... بوادي الحجر وانشقت رماحا فخر لصوتها أجيال حجر ... وخرمت الأسافر والصفاحا وأدركت الوحوش فقبعتها ... ولم تترك لطائرها جناحا ونجى صالحاً في مؤمنسه ... وطحطح كل جبار فطاحا وقال مبدع أيضاً وهو يذكر الذريعة وكانت مقعدة، وهي كلبه ابنه سلق حين خرجت من الحجر لما عينت حتى أتت أهل قرح فأخبرتهم بهلاك ثمود، ثم أصابها ما أصابهم فقال: نشدتك يا ذريع لتخبريني ... بأي الأرض أدركك المقيل أبا لوادي فكيف نجوت منه ... وقد هلك الأرامل والكهول فقالت إن قومي خلفوني ... بحيث أضر بالعلم السبيل وقالوا إن حسست ذريع شيئاً ... فحرزك ذلك الجبل الطويل فإن غداً يكون هلاك حجر ... ولا يبقى بواديهم رجيل

فلما إن حسست الصبح أني ... نهضت كأنني هيق جفيل فقمت خلال أبيات المحيا ... إلى جبل تطوف به الوعول إلا يا ليت نفسي في أناس ... غداة آتاهم الأمر الجليل نصبت لهم كمثلي في حياتي ... ولم أفعل كما فعل الجهول إلا فابكي الأكارم من هلال ... فهم عوني الذين بهم أصول وهلال، الذي ذكر أخو الذريعة - وبنو هلال بطنها الذين كانت منهم - ومما قال قدار عدو الله بعد عقر الناقة هذا الشعر: هل لبطاح الأرض من نازح ... أم هل لفلق الطود من ناطح أم هل لسقب عقرت أمه ... من آخذ يأخذ من جارح لا فارقت ساعدها راحة ... لم ترتعش من صيحة الصائح ما هاله ما هال من قبله ... من باكر منها ومن رائح لم يخش أن ينظرها صالح ... فاخلف المظنون من صالح قدار لا تسأل ولا تنتزع ... ولا تزل في العمل الرابح فأجابه رجل من المسلمين من أصحاب صالح صلى الله عليه فأنشأ وهو يقول: يا فعلة أردت قداراً وكم ... راح لها من هاتف صائح جاء قدار وأبوه معاً ... على ثمود بالردى الجائح لا ناقة الله رعوا حقها ... فيهم ولا موعظة الناصح سما رجال حاولوا عقرها ... من باكر منهم ومن رائح جاءوا بعوجاء لها عائد ... صارت عليهم شفرة الذابح يومهم يوم المحيا بما ... لاقوا من اليابس والناصح قد كان فيهم لكم عبرة ... لو قصدوا المنهج الواضح فأبصروا اليوم بما قبله ... قد يعرف القابل بالبارح

من يتق الله يكن رابحاً ... لا يبرح الدهر مع الرابح أضحوا بما قد فعلوا ضحضحا ... فيه العساقيل بلا فادح حتى يسير الراكب المغتدى ... فيه على البازل والقارح ويترك الأجيال مأمونة ... جمامة الماء بلا ناصح ما الله عن ناقته غافل ... يوماً ولا عن عبده صالح ويل قدار بالذي قدمت ... له عجوز الحجر من جارح وقال حسان بن ثابت يذكر ثموداً وعبد الله: يكوى إذا رام الهجاء لقومه ... ولاح شهاب من سنا البرق واقد كأشقى ثمود إذ تناول سيفه ... يريد هلاك الصقب والصقب وارد فقيل لهم فاستمتعوا في دياركم ... جاءكم ذكر لكم ومواعد ثلاثة أيام من الدهر لم يكن ... لهم صاريف الذي قال زائد ذكر محمد بن إسحاق من غير عبيد شرية عن الرواة: أن صالحاً - صلى الله عليه وسلم - لما آتاه خبر الناقة اجتمع إليه المؤمنون فقال لهم: توقعوا عذاب الله لقومكم، قالوا: يا صالح ادع ربك إلا ينزل بهم العذاب لعلهم يؤمنون، فقال صالح: أدركوا الصقب، فلعل إن أدركتموه إلا يعذبوا. فانطلقوا ومعهم صالح في طلب الصقب، فإذا الصقب قد طلع جبلا منيعاً أتى صخرة في رأس الجبل، فطلعها فرغا عليها رغاء شديداً واسم الجبل فيما يزعمون ظلم فأتاهم صالح فلما رأى الناقة قد عقرت بكى. ثم قال: انتهكتم حرمة الله تحل بكم نقمته، فلما رأى الصقب - وهو على رأس الجبل - قال صالح: يا أمتاه، فدعا صالح ربه بهلاكهم، فاستجيب له. قال صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ويأتيكم العذاب يوم رابع، فانطلقوا يطلبون الصقب، فلما علا الجبل لم يقدروا

عليه، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالعذاب. فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ويأتيكم العذاب ذلك وعد غير مكذوب. ثم رجع الحديث إلى عبيد بن شرية. قال عبيد: يا أمير المؤمنين ومن أشعارهم قول رجل من المسلمين من أصحاب صالح - صلى الله عليه وسلم - يذكر فيه عنيزة والصدوف وقداراً ومصدعاً والرهط وعقر الناقة وأنشأ وهو يقول: خسرت ثمود فعجلت بعذابها ... من شؤمها وعتوها وتبابها كانت ثمود عزيزة في أرضها ... من سادة شبت وجل شبابها غوت الغواة وأمعنوا في غيرهم ... كفرت ثمود بربها غلابها فأباح ساحتها وعجل خزيها ... رب عظيم فلها بعقابها عقرت ثمود ناقة محبوبة ... عند الاله فصبها بعذابها فغفوت عنيزة والصدوف ومصدع ... وقدراها الغاوي لب لبابها هلكوا جميعاً فالسباع عليهم ... عصب وآمن من نباح كلابها كان المبارك صالح يدعوهم ... بطرائق يهديهم لصوابها فعصوا وقالوا عصبة كذابة ... كذبت ثمود وذاك من كذابها لو أنهم كانوا أطاعوا صالحاً ... فازوا بطاعة صالح وثوابها بل كذبوا بالحق لما جاءهم ... وصفت رؤوسهم إلى أذنابها قد كان هود قبلهم في قومه ... يدعو إلى سبل الهدى وطلابها فعصته عاد بعد كل بصيرة ... سنن الهدى تسن في أثوابها فأصبن عاداً إذ عصته عواصف ... من شمال قطعت قوى أربابها فعلا ثمود حين لم يتفكروا ... بعذاب عاد قبلها وعذابها

عصت الإله إلا وقد أودى بها ... غضب الإله وهدها بحرابها ومن شواهد أخبارهم يا أمير المؤمنين قول أمية بن أبي الصلت يذكر ثموداً والناقة وما أصابهم وأنه لم ينج إلا الذريعة كلبة بنت سلق حين ذهبت إلى قرح وموتها حين سقيت عند فراغها من الخبر لما رأت من العذاب الذي نزل بهم، فقال في ذلك أمية بن أبي الصلت: وثمود الفتاك في الدين وفي ... ناقة ربي إذ غادروها عقيرا ناقة للإله ترتع في الأرض ... وببنيان ثم حوض مديرا فآتاها أحيمر كأخ السمع ... بغضب فقال كوني عقيرا فأصاب العرقوب والساق منها ... ومشت في دمائها مكسورا فرأى الصقب أمه فارقته ... بعد ألف خلية وظؤرا فأتى صخرة فقام عليها ... صعبة في السماء تعلو الصخورا فرغا رغوة وكانت عليهم ... دعوة الصقب صيحها تدميرا فأصيبوا غير الذريعة فاتت ... من جوار لهم وكانت جزورا سبعة أرسلت لتخبر عنهم ... أهل قرح أتتهم تغويرا فسقوها بعد الحديث فماتت ... فانتهى ريها فوافت حفيرا ثم قال عبيد: يا أمير المؤمنين، هذا ما انتهى إلينا من حديث ثمود وأخبارهم وأشعارهم وما قيل فيهم، والله أعلم بالصواب. وكذلك حدثنا الأول فالأول. قال معاوية: خليق يا عبيد أن يكون هكذا، فزادك الله علماً وفهماً، وزادنا بك رغبة وعليك حرصاً فانا لا نحصي أياديك، فزادك الله فضلاً إلى فضل وهدي إلى هدي، فقد أضاءت نارنا ونار قومك، ثم أطفئوها، فزادك الله خيراً. ثم خبر ثمود والناقة

حديث جرهم وخروجهم من اليمن إلى الحرم

وصالح - صلى الله عليه وسلم - وبالله التوفيق. حديث جرهم وخروجهم من اليمن إلى الحرم قال معاوية: يا عبيد أخبرني عن شخوص جرهم من اليمن إلى الحر وكيف كان ولم فارقوا قومهم؟ قال عبيد: كان من أمر جرهم يا أمير المؤمنين أن الله تبارك وتعالى لما أهلك عاداً وثموداً وانتشر بنو قحطان في البلاد وكثر ولده. قال معاوية: وما كان لقحطان من الولد؟ قال عبيد: كان له يعرب - وهو أول من حيي بتحية الملوك أبيت اللعن - وجبار ابن قحطان وانمار بن قحطان والمعمر بن قحطان والعاص بن قحطان ولاوي بن قحطان وماعز بن قحطان وغاصب بن قحطان ومسعر بن قحطان وجرهم بن قحطان والملتمس بن قحطان والقطامي بن قحطان وظالم بن قحطان والغشيم بن قحطان والمكعفر بن قحطان ونافر بن قحطان. وأمهم امرأة من عاد، وكلهم قد ملك غير ظالم فلم يملك، وقد كان يسير بالجيوش. فولد يعرب بن قحطان يشجب، فولد يشجب سبأ وهو عبد شمس وأدد بن يشجب - وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبي السبايا من ولد قحطان - فولد سبأ بن يشجب حمير بن سبأ بن يشجب بن قحطان - وكان يقال له العرنجج - وهم أهل المدن فيهم وكانت الملوك، وكهلان بن سبأ فملك بعد أخيه حمير حتى ألح به الهرم فرجع الملك إلى ولد حمير، غير أن المشورة كانت في ولد كهلان. فولد حمير بن سبأ الهميسع ومالكاً

وزيداً وعربياً ووائلاً ومعدي كرب فولد الهمسيع أيمن وغوثاً وزهيراً وتوفين. فولد الغوث بن الهمسيع جرهم بن الغوث وثعلبان وحوس فولد خليجاً والهائف وسادما والغوث وجرهمة والديال وحبال ورسال، أمهم قتادة بنت طارف بن جهبذ بن زريق بن مرارة بن منقذ العادية. وولد كهلان زيداً، فولد زيد مالكاً، وولد مالك نبتاً وعربياً والخيار. فولد نبت بن مالك كهلان بن الغوث. وولد الغوث الأزد والقدر. وولد عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. فولد عريب يشجب. وولد يشجب زيداً. فولد زيد ادداً، فولد أدد مالكاً - وهو مذحج ومرة والأشعر -. فولد مرة الحارث. وولد الحارث عدياً ولخماً وجذاماً وعاملة وعميراً - وهو أبو كندة - فهؤلاء ولد عدي بن الخارث بن مرة بن ادد. وولد الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان رئيساً ومالكاً ابني الجبار. فولد رئيس ربيعة. فولد ربيعة أوشلة. وولد أوشلة همدان والهان - فهؤلاء ولد الخيار - ومن ولد الخيار الحارث بن مرة بن ادد بن مالك. فولد ماللك المعافر وعمرو بن مالك لكل وهم خولان بن عمرو بن مالك بن مرة ابن ادد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم أن جرهم بن قحطان ولد هزان وذيالاً والعاد ومصياراً، وكثروا فوقعت بينهم وبين بعض بني حمير حرب، ولم يبق من ولد حمير فرقة إلا أعانتهم على جرهم حسداً لفضلهم وعقولهم إلا حياً واحداً من بني حمير - يقال لهم بنو قبطون بن كركر بن حيدان بن

قطن بن زهير بن عريب بن أيمن بن الهميسع بن حمير - وكانت حمير أكثر عدداً وعدة، فنفوا جرهماً وبني قيطون من البلاد. فلما رأت ذلك جرهم ومن كان معها وما دخل عليهم وأنه لا طاقة لهم بحمير ساروا عن البلد وملكت بنو جرهم عليهم مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هي بن نبت بن جرهم بن قحطان. وملكوا بنو قبطون عليهم السيمدع بن هوثر بن مازم بن لاوي بن قبطون بن كركر بن حيدان. فساروا حتى حلوا أرض الحرم وأهلها يومئذ العماليق، وهم نزول حوله - وكان موضع الحرم كثير الشجر ممتنعاً أن ينزل فيه لكثرة شجره. فأمروا بالشجر فقطع، ونزلت جرهم أعلى مكة، ونزلت بنو قبطون أسفلها في موضع قعقيعان واجياد. قال معاوية: وهل كانوا يعلمون إنه الحرم؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين قال: يا عبيد فكيف قطعوا شجره؟ قال عبيد: لم يروا بذلك بأساً لما أرادوا من سكناه وعمارته، وقد قال في ذلك مضاض هذا الشعر الذي يقول فيه: هذا سبيل كسبيل يعرب ... البادي بالقول المبين المعرب وعاد عوص ذو القوام الأعجب ... وعمي الخير ثموداً لا سكب إني إليهم صاح في التقرب ... وهم إلى الدهر في التنسب مضوا على مهل لأمر معجب ... جرهم جدي وابن عمرو الأهدب أجلب المأمون ذو التنقب ... يعرب ذو مجد وعز أغلب بمكر مات وسنا مرتب ... يا قوم سيروا غير فعل الأجنب قد قال في ذلك خير منجب ... ونوح قد قال بقول أصوب

أنتم بنو يعرب أهل معرب ... وأهل عز باذخ مهذب وجرهم في الدهر ذي التشعب ... قوام بيت مكرم مطنب وزانه الله العلي الأغلب وقال السميدع بن هوثر القطري: سيروا بني كركر في البلاد ... إني أرى الدهر إلى فساد قد سار من قحطان ذو الرشاد ... جرهم لما هدها الأعادي من حمير الحساد للعباد ... فلم يضرني دون أهل الوادي لكم بني عمرو على المبادي ... بالمقتضيات الصقل الحداد سيروا بنا الأرض بلا ارتباد ... سيروا وعزنا بلاد الهادي خليل رب بادي السداد ... دعوا بني كركر كل عادي إذ صرحوا المنكر بائتيادي ... وآثروا العبيد بالوداد على أولي الأرحام والأيادي ... فإن في الأرض لكل عاد قوام عيش زئاد من زاد قال معاوية: من أول من ملك من ولد قحطان؟ قال عبيد: كان أول من ملك منهم سبأ بن يشجب بن يعرب واسمه عبد شمس - فهو أول من سبى السبايا - ثم ملك من بعده حمير، وذلك قبل عاد بزمان. قال معاوية: وأني ذلك وحمير أحدث بدهر طويل؟ قال عبيد: كلا يا أمير المؤمنين. أن عاداً قد ذكرت حمير في أشعارها. قال معاوية: وكيف قالوا؟ قال عبيد: إن عاداً لما بعثت وفدها إلى الحرم وأبطأ الوفد عليها كالذي حدثتك يا أمير المؤمنين، فرأى جنادة بن الأصم رؤيا - وكان مسلماً مع هود النبي

صلى الله عليه وسلم - أن الوفد قد هلكوا. فقال رجل من المشركين يقال له الخلجان بن الوهم في قوله هذا الشعر الذي يقول فيه: أفي كل عام بدعة تحدثونها ... ورأي على غير الطريقة تعبروا فإن لعاد سنة في حفاظها ... سنحيي عليها ما حيينا ونقبر وللموت خير من طريق تسبنا ... به جرهم والعاد منها وحمير قال معاوية: صدقت يا عبيد وأتيت بالبرهان، فخذ في حديثك الأول قال: فلم تزل حمير كذلك لا يعدون اليمن حتى صار الملك إلى الحارث بن ذي شدد ابن عمرو بال الملطاط بن عمرو بن قطن بن زهير بن عريب بن أيمن بن الهمسيع بن حمير بن سبأ - فكان الحارث أول من غزا وأصاب الأموال وأدخل اليمن الغنائم، ثم خيرها فسمي بعد ذلك الرائش - قال عبيد: يا أمير المؤمنين هو الذي قال فيه لقمان الأكبر لقمان صاحب النسور - ما قال - وقد حدثتك حديثه في قوله (انهض لبد أنت الأبد نهض الملك المجرد الحارث بن ذي شدد). قال معاوية: صدقت يا عبيد وجئت بالبرهان، فخذ في حديثك عن ملوك حمير. قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه لما كان يؤتى للحارث وهو الرائش في بلاده من قبل السند والهند في السفينة من المسك والعنبر وغير ذلك من الأعاجيب من ياقوتها وغيره فتطلعت نفسه إلى غزوها فعبى الجنود وأظهر إنه يريد أرض المغرب بحراً، وأعد السفن حتى إذا رأى إنه قد استمكن قدم رجلاً من أهل بيته - يقال له يعفر بن عمرو بن شرحبيل بن عمرو ابن شرحبيل بن عمرو وباثني عشر ألفاً، وسار على أثره حتى دخلوا أرض

الهند، فقتل المقاتلة وسبى الذرية وغنم الأموال، ثم رحل قافلاً إلى اليمن وخلف يعفر في اثني عشر ألفاً وأمره ببناء مدينة هناك، ففعل وأقام سنة. قال معاوية: وأي مدينة هي؟ قال عبيد: لا أدري ما اسمها إلا أن ملوكهم بها اليوم واسمها على اسم الرائش. قال معاوية: كيف ذلك؟ قال عبيد: قال في ذلك رجل من حمير يقال له يونس بن سعد بن عمرو بن زيد ابن علاف بن ذي أنس بن يقدم بن الصوار شعراً يقول في ذلك: من ذا من الناس له ما لنا ... من عرب الناس ومن أعجم سار بنا الرائش في جحفل ... مثل مفيض السيل كالأنجم يؤم أرض الهند غازلها ... يحوي بها الانجوج كالضغيم ونستبي كل فتاة بها ... ريانة الخدين والمعصم إن ولي الملك من بعده ... سليل ذا الملك إذا ينتمي أعني به يعفر إذ جاءها ... يا حبذا ذلك من مقدم في بحرها السجود يطوى له ... يوم يسير الملك المعلم فصبح الهند بها وقعة ... هدت ملوك الهند بالصليم وأقبل الرائش في ملكه ... وآب بالخيرات والأنعم قال معاوية: فما صنع بعد ذلك؟ قال: أقام يا أمير المؤمنين دهراً أعلى ذلك حتى أتته هدية من قبل أرض بابل. قال معاوية: وممن كانت الهدية لله درك يا عبيد؟ قال: من ملكها. قال: ولم ذلك وهم في عز ومنعة بأرض بابل؟ قال عبيد: إن الملوك يهادي بعضهم بعضاً. قال: مخافة أن يغزوه؟ قال: أظن ذلك، والذي كان

منه في أرض الهند. قال معاوية: ومن أهل بابل يومئذ؟ قال: بقية من ولد حمير بن يعرب. قال معاوية: خذ في حديثك وأعلمني ما كانت الهدية؟ قال: بزات بيضاء وسروجاً كرمانية وديباجاً فاخراً وآنية من متاع الملوك من عمل أهل تلك البلاد. فلما رآها الرائش قال للرسول: أكل ما أرى في بلادكم؟ قال: بعضه أيها الملك وبعضه من بلاد الترك، وهم من أمرائنا من حالهم كيت. فحلف ليغزون تلك البلاد التي خرج منها ما رأى فاستخلف يعفر بن عمرو، وسار هو بنفسه في مائة ألف وبعث الرجال في ابتغاء الطريق، فلم يجد طريقاً خيراً له فيما يذكر من طريق واحدة على جبل طئ حتى خرج ما بين العراق والجزيرة، وقد سألت يا أمير المؤمنين عن ذلك فبلغني إنه خرج على الانبار من أرض العراق. قال معاوية: أو قد كانت أحدثت مدينتها يومئذ؟ فقال عبيد: بل ذلك بدهر طويل، ثم سار حتى نزل الجبل من ارض الموصل، وبعث شمر بن القطاف بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن عملاق بن عمرو بن ذي أنس في مائة ألف حتى دخل عليهم أذربيجان فقتل المقاتلة وسبى الذرية، ثم اقبل فكتب في حجرين أمر مسيرخ، فهما اليوم على جدار أذربيجان. قال معاوية: وما بال أذربيجان لله أنت؟ قال: له أنها كانت من ارض الترك واجتمعوا له. قال: فأين كان ملك بابل عنه؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين أنها كانت لأهل اليمن عدة ولحمير بسطة وقوة والله إني لأستحيي من ذكرها وكانت تنزع الأولاد إلى اليمن والأوطان، وكانوا يلجون في السير في البلاد وإن أهدى لبعضهم ملك من الملوك قبل وطاف إلى غيره. قال معاوية: صدقت فهل بلغك ما في الحجرين بأرض أذربيجان؟ قال: ذكر مسيره في شعره قال معاوية: فما قال. قال قوله:

بني قحطان فانتجعوا وسيروا ... وخطوا البيت في البلد الحرام قال عبيد: يا أمير المؤمنين ذلك من قول الحارث الرائش. قال معاوية: وكيف قال؟ قال: إنه لما سار إلى الترك - وهو الحارث بن ذي شدد - قال هذا الشعر الذي يقول فيه: أنا الملك المقدم حين أمضي ... جلبت الخيل من يمن الحمام. لا غزوا عبداً جهلوا مكاني ... بأرض الشرق من ديم الغمام فاحكم في بلادهم بحكم ... سواء لا يجاور في غلام بنو قحطان فانتجعوا وسيروا ... وخطوا البيت في البلد الحرام بإذن الله خط وهو كثيب ... تواثه الهمام عن الهمام دعوا أحرامه لبني أبيكم ... وكونوا مثل يقطان وسام وكونوا مثل ملطاط بن عمرو ... وذي الأنس الأضافد ذي السنام فتلك ملوك أخيار تولوا ... ويخف بعدهم شبل الكرام فشرف منزلي وعلا مكاني ... وملكي فوق أملاك الأنام فإن اهلك ولم ارجع إليكم ... فقد هلك الملوك من آل لام ويملك بعدنا منا ملوك ... أولوا عز كعالية الغمام ويخلف بعدهم منا ملوك ... يرومون العناد لكل رام فينتشر الاساود ثم عشرا ... عقاب الله في القوم الآثام ويملك بعدهم رجل عظيم ... بني لا يرخص في الحرام يسمى أحمداً يا ليت إني ... أؤخر بعد مبعثه بعام ويملك بعدهم منا ملوك ... ضعيف أمرهم نكل المرام

ويملك بعده خلف نزور ... ويملك بعدهم أولاد حام تظهر راية المنصور فيهم ... على رأي ورأي بعد لام فينشر منطوى ملك طوته ... ثلاث بعد واحدة تمام فتنبعث الحقوق كما أميتت ... كما يجلى القتام عن الغمام ويملك بعده رجل ضعيف ... على آبائه أزكى السلام وهو الذي يقول يا أمير المؤمنين: إن المكارم والعلياء خص بها ... خير البرية ملطاط بن حيدان أعني به وائلا والغوث والده ... وعبد شمس آتانا خير إنسان واذكر به سيد الأملاك ذا أنس ... وابن القماقم عمرو الاصيد الثاني واذكر عريار تاج الأرض إن نسخت ... معاقل الناس من أولاد قحطان وخص مني زهيراً وابنه قطنا ... عند الحروب إذا كر الفريقان وأيمن النازح المشهور رأيته ... بنى لنا المجد من ذا مثله باني ابن الهميسع في عز ومأثرة ... إني لذكراه ذو بث وأحزان ذاكم بأني سألت الناس كلهم ... من مثلنا في دهور الأنس والجان لو كان ذا الدهر يبقى آل مكرمة ... لخص منا به ذاك الكريمان وحمير وسبأ فاذكر فعالهما ... لكن ذا الدهر يفنى والجديدان وجرهم هو جدي في أرومته ... وعم خالي نبت وابن هزان تلك المكارم إن عدت مكارمنا ... هذا لعمرك مجد ليس بالفاني فسائلوا الناس هل مثل يشاكلهم ... أو كان مثلي بهذا أمر لقمان قال معاوية: يا عبيد هل أحد من العرب ذكر الرائش في شعره؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال فيه امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي:

تقول بنية الكندي لما ... عرفت بها الهوى واللهو نالا أرى الملك الذي قد كان فينا ... يفيد رغائباً ويفيد مالا ويعطي القينة الحسنا ويروى ... نداماه ويصطنع الثقالا ويصبح في البطالة مستطيرا ... تحال به إذا وافى هلالا يبدل بعد جدته شحوبا ... وأصبح شاؤه خلقاً مدالا فقلت لها وقول الحق مما ... يميل لو عدلت به الجبالا إلا اعتبري فإن الدهر غول ... خؤون العهد يلتهم الرجالا أزال من الصانع ذا رياش ... وقد ملك السهولة والقلالا وذو القرنين قد ملك المعالي ... وللرياش قد نصب الحبالا وانشب في المخالب ذا مقار ... فارداه وسقاه الخبالا وافرد ذا مقار وكان قدما ... يبالي في سرادقه الشمالا وفجع كندة الأخيار طرا ... بعمرو واصطفى حجراً فزالا فبينا المرء في الأحياء حي ... رماه الدهر عن جنب فمالا وأزد شنوءة الأبطال أرخو لنا ... في العيش أهون اختيالا فإن يك دار أهل الازد زالت ... فكل الناس ينتظر الزوالا فإن تهلك شنوءة في كسيري ... فإن هناك في غسان خالا بعزهم عززت وإن يذلوا ... فذلهم أبا لك قد أنالا جزى الله السموأل يوم تيما ... ومن شهد الوثيقة والمقالا وأصحاب العهود بني غنى ... وعمرو الخير من يجري النوالا قال معاوية: يا عبيد، ما كنا نظن هذا الشعر إلا لذي نواس! قال: يا أمير المؤمنين قرب هذا وبعد الآخر، وكان اسم هذا أهون على الرواة. فأما القول: فوالذي بعث محمداً، لقد رويت هذا الشعر وإن ذا نواس لغلام

وإن الملك على حمير باليمن لخنيعة ذو شناتر قبل ذي نواس بدهر طويل فقتله ذو نواس. قال معاوية: صدقت، فكم ملك رائش؟ قال: ملك مائتي سنة وخمساً وعشرين. فقال: فمن ملك بعده؟ قال: ابنه أبرهة بن الرائش - وكان يدعى ذا المنار - وكان من أجمل أهل زمانه - فيما يذكر - فعشقته امرأة من الجن - يقال لها العيوف - ويروى أنها الهيوف بنت الرابع فتزوجها، فولدت له العبد بن أبرهة، فسار أبرهة غازياً نحو المغرب ومعه ابنه العبد فسيره على مقدمته واستخلف على اليمن ابنه أفريقيس ابن أبرهة. فسار أبرهة حتى أوغل في أرض السودان براً وبحراً وأمعن فيها. ثم بدا له المقام فأقام وسرح أبنه العبد بن أبرهة في غربي الأرض في عسكر، انتهى إلى بلاد قوم وجوههم في صدورهم. إذا كان النهار وحرت الشمس استخفوا في الماء، فوضع فيهم السيف حتى أفناهم ورجع إلى أبيه يسبي كثير وأصاب من الأموال شيئاً عجيباً وأخذ منهم قوماً فلما قدم بهم إلى أبيه ذعر الناس منهم فسمي ذا الاذعار قال: وإنما سمي العبد بن أبرهة ذا الاذعار لذلك. قال: نعم. قال معاوية: فاخبرني لم سمي أبرهة ذا المنار؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين، إنه لما رجع أبرهة من غزوته تلك أمر بمنارة فبنيت وشبت فيها النيران ليهتدي بها جيوشه، وكان ذلك المنار يا أمير المؤمنين أول منار وضعته الملوك - فسمي لذلك ذا المنار - قال: ثم رجع إلى اليمن فلم يغز حتى مات. قال معاوية: فهل قيل في ذلك وفي ذي المنار شعر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قد قال فيه رجل من حمير من أهل بيته ومن خاصته - يقال له المحموم بن مالك بن يزيد بن غالب بن المنتاب بن

بن عمرو بن يزيد بن عملاق بن عمرو بن ذي نواس بن يقدم بن الصوار هذا الشعر الذي يقول فيه: ولقد بلغت من البلاد مبالغا ... يا ذا المنار فما يرام لحاقكا قدت الجنود فأمعنت في برها ... وحملت منها في السفين كذالكا حتى وطى الجمعان حيث تبؤات ... أولاد حام ثم جئت بلادكا أوغلت عبداً فاستقر به النوى ... حيث العجيب بغير خلق جالكا فأتاك بالنسناس خلق وجوههم ... في الصدر منهم قابض لقناتكا أنت القهور فما ترام إلى البلا ... نعم الخليفة في مدى أفعالكا من ذا سيأتي من فعالك خطة ... هيهات ذلك جانح لسنائكا خضع الملوك لما رأوا من كيده ... كرماً لحمير أن علت بعلائكا قال معاوية: كم ملك ذو المنار؟ قال: ملك مائة سنة وثمانين سنة. قال معاوية: استقر الأول، فالأول حتى سألك عما أريد؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين. قال معاوية: فمن ملك بعد ذي المنار؟ قال: ملك بعده أفريقيس بن أبرهة فغزا نحو المغرب عن يمين مسير أبيه في أرض البربر حتى انتهى إلى طليحة الملك فرأى بلاداً كثيرة الخير قليلة الأهل، فنقل البربر من بلادهم فلسطين إلى مصر إلى الساحل. قال معاوية: فإنه يقال أنهم قوم من قيس بن عيلان فهل علمت ذلك؟ قال عبيد: أما هذا فلا علم لي به ولكني أخبرك أن البربر قوم من ولد كنعان بن حام بن نوح وهم بقية من قتل يوشع بن نون قال معاوية: ولم قتلهم يوشع بن نون لله أنت؟ قال: إن يوشع بن نون كان عبداً صالحاً مؤمناً مأموراً، فسار إليهم داعياً إلى الله، فتركوا الحق وكرهوا الإسلام وأحبوا المقام على الكفر فقاتلهم فظفر بهم فقتلهم إلا بقايا منهم كانوا على السواحل ومن هرب

منهم فرجعوا بعد ذلك فقتلهم افريقيس في غزوة إلى أرض البربر فهم بها إلى اليوم. قال معاوية: فكيف تقول قيس أنهم من ولد بربر إلا من قبل شعر قاله افريقيس، وما ذلك؟ قال: قال افريقيس يا أمير المؤمنين هذا الشعر حيث يقول: بربرت كنعان لما سقتها ... من بلاد الملك للعيش العجب قد رأت كنعان فيها وهنة ... من بني يعقوب يوسف ذي النهب ورأت قيس لعمري دارها ... ترتقي عيشاً لنا لا يترب ثم أمسى غير ممسي من مضى ... بين ميت وطريد ذي تعب فاشكري ضبعان شكراً صادقاً ... واحذري مني انتقاماً ذا حرب قال معاوية: خذ فغي حديثك الأول. قال: فلما بلغ افريقيس حيث بلغ، أمر ببناء مدينة بتلك الأرض من افريقية، فبنيت مدينتها - وإنما سميت باسم افريقيس - وكذلك تسميها بربر اليوم، فأما العرب فتقول افريقية أن هذا لشبيه. قال معاوية: فهل قيل في ذلك شعر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال السميدع بن عمرو بن عملاق بن مالك بن عمرو بن عملاق بن هزان بن المنتاب بن عمرو بن غالب بن المنتاب شعراً. قال معاوية: وما هو يا عبيد؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا الشعر وهو: سرنا إلى المغرب في جحفل ... فيه لعمري كل شاب همام بأمر افريقيس لا ينثني ... بكل صهال وعضب حسام حتى أتينا أرض بطحائها ... من دون بحر غير سهل المرام نخوض بالفرسان في ما قط ... يكثر فيه ضرب أيد وهام

بأمر ماض الهم ذي حنكة ... نقهر من شئنا بجيش لهام نقتل منهم شيخ أملاكهم ... أروع قرم غير وغد كهام يسكن البربر في قصفص ... كتائب سارت كمثل الغمام ثم ابتنى البنيان في جوفها ... بغير ما كره لدهر الدوام قال معاوية: فكم ملك لله أبوك يا عبيد؟ قال: ملك افريقيس مائة سنة وأربعاً وستين سنة. قال معاوية: فمن ملك بعده يا عبيد؟ قال: ملك أخوه العبد بن ابرهة ذو الاذعار، فسقط شقه من الفالج، فلم يغز بنفسه وكان يوجه في الغزو سنة ويمكث ثلاث سنين - وكان مهيباً قال: لله درك يا عبيد، ما سمعت برجل من أهل اليمن هم له أكثر ذكراً وبمسيره وإثخانه في الأرض أكثر تعجباً منهم له؟ قال عبيد: ذلك من لا علم له أمير المؤمنين وما كان ذكرهم لذي الاذعار، إلا لما كان أصاب من السبايا معابيه وهدية بلغ بها إلى أبيه فيما بلغنا والله اعلم. قال: فهل قيل في ذي الاذعار شعر سمي فيه ذي الاذعار؟ قال عبيد: نعم، إنه لما مات رثاه رجل مناهل بيته - يقال له المعترف بن وائل بن يعفر بن عمرو - قال عبيد: قال المعترف بن وائل يرثى ذا الاذعار حيث قال: عجبت للدهر وبلوائه ... وصرف أيام له فانيه بينا يردينا لباس الهوى ... إذ مال لا يبقى على باقية لو كان هذا الدهر اذهرنا ... له ود من الأرباب والحاشية عمرو وذو الاذعار في ملكه ... لكنما الدنيا هي الفانية

وملك جبارهم أصله ... لم يكن الباقي لدى الداهية فأكثري التعويل يا حمير ... على مليك كان بالعاليه من مجد آباء له ما لهم ... قد قهروا ملك ذوي العاتية قال معاوية: يا عبيد كم ملك ومن ملك بعده؟ قال: ملك خمساً وعشرين سنة. ثم ملك بعده عامر ذو براش. قال معاوية: ما سمعت بذي براش؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين كان ملكاً من ملوك حمير، وقد قال فيه الأفطس بن عفيف - وهو رجل من اليمن - شعراً. قال معاوية: وكيف؟ قال عبيد: قال هذا الشعر يا أمير المؤمنين حيث يقول: قد علا الناس بالفضائل والمجد ... أخو الملك عامر ذو براش قاد خيلاً يريد ارض قباذ ... غار فيها بمصلتين غير حاشي للمنايا إذا تضرمت الحرب ... بنيرانها الفضاع الغواشي فهو ليث لها يقود ليوثاً ... ليس يثنون عن لقاء الكباش وهو ليث الحروب في كل حرب ... ذو براش فنعم ليث الهراش ملك يبرم الأمور بحزم ... غير زميلة ولأمر عاش فل ساسان عنوة وزبرجا ... غزاهم بجحفل الجياش بجيوش كأن لمع سناها ... شهب الليل في الدواجي الغطاش من سيوف مهندات صقال ... مرهفات يردن في الامشاش جاء بالفيء من سر نديب والاي ... لة حتى أتى بأرض حفاش من لبيض الخدود في الغرف الش ... م وفي حسن لذة ومعاش ذاك قيل مملك حميري ... ثار في الملك في اكتهال وناش غير رعديدة إذا حمى الحر ... ب ولا بيهمومة ولا طياش

قال معاوية: لله أبوك يا عبيد ما كنت أظن هذا هكذا وما كنت أظنه إلا ذا نواس! قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال معاوية: فكم ملك ومن ملك بعده؟ قال عبيد: ملك تسعاً وستين سنة، ثم ملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل - وهو ذو يشرح - فكان قد تزوج امرأة من الجن - يقال لها رواحة بنت السكن - فولدت له بلقيس - وكانت أعقل امرأة سمع بها في ذلك الزمان وأفضل رأياً وعقلاً وتدبيراً وعلماً، وكانت ذات مشورة على أبيها، حتى عرف ذلك جميع حمير وغيرها منها - فلما حضرته الوفاة بعث إلى رؤساء قومه وأهل الرأي والنبل منهم وأمراء خيارهم، فذكر لهم إنه استخلف عليهم بلقيس. فقال رجل منهم: أبيت اللعن أيها الملك تدع أهل بيتك وأفاضل قومك وتستخلف علينا امرأة - وإن كانت في المكان الذي هي منك ومنا - قال: يا معاشر حمير قد رأيت الرجال وعرفت أهل الفضل وخبرت ذوي الرأي من المعاشر وشهدت ملوكها الماضين ومن أدركت منها فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس قط علماً ورأياً وحكماً، مع أن أنها من الجن وأنا أرجو أن تظهر لكم من أمور الجن ما تنتفعون به بإعانتكم ما كانت الدنيا - لأن أمها من الجن - فاقبلوا نصيحتي فيها فاني مع اختياري إياها مؤدية إلى غيرها من أهل بيتها، واني قد كنت سميت الملك لابن خالي هذا الغلام - وهو غلام له عقل ورأي وهو أولى بالأمر، فإذا بلغ ولي الأمر إما في حياتها وأما بعد موتها - قال: ومن هو؟ قال: ناشر بن عمرو بن يعفر بن عمرو. قالوا: سمعنا وأطعنا وأنت أيها الملك أنظر لنا وأبصر لنا. فوليت بلقيس أمورهم بعد أبيها الهدهاد بن شرحبيل ملك حمير.

قال معاوية: فاخبرني كم ملك الهدهاد بن شرحبيل؟ قال: ملك مائة سنة. قال معاوية: يا عبيد هل كانت بلقيس تريد الرجال؟ قال عبيد: ما تزوجت قط، ولا نكحها سليمان عليه السلام، إلا وهي بكر. قال: فمن كان خدمها؟ قال عبيد: الرجال. قال: فمن كان يخدمها؟ قال: النساء. قال معاوية: إماء هن أم حرائر؟ قال: بل بنات أشراف حمير. قال: وكان معها فيما بلغني ثلاثمائة وستون جارية، وكانت تحبس الجارية، حتى إذا بلغت حدثتها حديث الرجال، فإن تغير لونها ونكست رأسها وبدا لها أنها قد أبصرت أمر الرجال، سرحتها إلى أهلها فزوجوها بعض أشراف قومها، وإذا رأتها مستمعة لقولها معظمة لأمرها غير متغيرة اللون ولا مستحية من الحديث عرفت أنها لا تريد فراقها وإن الرجال ليسوا ببالها. قال معاوية: إن النساء في ذلك أطوار تكون على الوصف الأول وإنها لبعيدة عن الرجال وتكون على الصفة وهي تحتال على ذلك بالخداع والمكر قال عبيد: يا أمير المؤمنين إنه كان عندها بالأمور علم وكان هذا منها رأياً. قال معاوية: يا عبيد انك لتحدثني عن امرأة أظنها نواراً من النساء! قال عبيد: يا أمير المؤمنين، ومن أين يكون ذلك؟ وقد قالت لنبي الله سليمان بن داود ما قالت رغبة فيه وحرصاً على أن تكون زوجة له - ولو كانت نواراً لم تقل ذلك - ولكنها كانت من النساء مكرمة لنفسها ضابطة لرأيها وأمرها غير نزوع إلى المساوئ ولا غافلة عن المكارم. قال معاوية: فما كان قولها لسليمان بن داود؟ قال عبيد: يأتي عليك الحديث يا أمير المؤمنين. قال: افعل. فوالله انك لتحدث لعجباً؟ فكم ملكت حتى جاءها سليمان بن داود.

قال بلغني يا أمير المؤمنين أنها ملكت تسعين سنة، فلما أراد الله أكرامها بسليمان، خرج مخرجاً لا يدري إليها قصد أم إلى غيرها أم مر على بلادها وهو يريد غيرها، وكان إذا ركب من منزله مرعاً أتته فقال: نصف النهار بأصطخر من أرض فارس، ثم يتروح فيبيت بكابل فغدوه ورواحه مثل ذلك المسير إلى كل وجه يأخذ إليه. وقول الله أصدق القائلين (غدوها شهر ورواحها شهر). قال معاوية: صدقت، فهل قرأت القرآن؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما حفظته إلا في شهر واحد. قال معاوية: لله أنت يا اخا جرهم، فحدثني عن سليمان وبلقيس. قال: لما أراد الخروج على الريح، فوضع سريره عليها وكرسيه وكراسي جلسائه، ثم جلس عليه وأجلس الأنس عن يمينه وشماله ومجالسهم من كرامتهم وأجلس الجن من ورائهم على مثل ذلك منهم قائم ومنهم جالس، ثم قال للريح: أقلينا، وللطير أظلينا، فأقلتهم الريح وأظلتهم الطير من الشمس والخيل موقوفة والطباخون في توابيتهم جلوس في أعمالهم، فلما استقروا عليها أمرها سليمان بالمسير، فسارت لا تزيل أحداً منهم عن مجلسه ولا تفسد عليه عملاً في يده ولا صانعاً بصناعته ولا طابخاً ولا خبازاً ولا دابة من مربطها ولا أحداً ممن حملته عليها حتى يأذن لها في وضعهم على الأرض فإذا أذن لها بذلك فعلت ذلك في الحال من سكونهم بقدرة الله عز وجل. ثم أن سليمان سار في أرض العرب، فمر بموضع المدينة، فأمر الرياح فوقفت ثم أعلم أصحابه إن هذا المكان مهاجر نبي يخرج في آخر الزمان من العرب اسمه أحمد وهو خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم ثم سار إلى

مكة فأمر الرياح فوقفت ثم قال: هذا بيت الله الذي ابتناه أبي إبراهيم صلوات الله عليه وهو أول بيت وضع في الأرض أمر الله به أبي آدم عليه السلام فبناه، ثم نزل سليمان فصلى فيه، ثم سار. قال معاوية: لله أبوك يا عبيد فمتن كان أهل الحرم يومئذ؟ قال عبيد: نحن يا أمير المؤمنين وسلفنا على الحق يومئذ. قال معاوية: فمن كان يلي البيت مر به سليمان بن داود؟ قال: البشر بن عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو. قال معاوية: خذ في حديثك. قال عبيد: ثم سار سليمان إلى أرض اليمن، حتى إذا كان على مسيرة ثلاثة أيام من مدينة ملك اليمن أراد سليمان النزول - وكان لا ينزل إلا على ماء - وكان الهدهد الذي يدله على الماء فافتقد سليمان الهدهد حين دخلت عليه الشمس من موضعه - وكان مثل البطة - وذلك قول الله تبارك وتعالى {وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} إلى آخر الآية. قال: وما يعني بالعذاب يا عبيد؟ وإنما هو طائر. قال عبيد: يا أمير المؤمنين سمعت ابن عمك عبد الله بن عباس يقول: إنه النتف حتى لا يطير مع الطير. قال معاوية: فهل تعرف يا عبيد قوله {أو ليأتيني بسلطان مبين} ما هو؟ قال: العذر المبين. قال: فمن أين علمت ذلك؟ قال: من قبل ابن عباس. قال معاوية: فما صنع الهدهد؟ قال عبيد: كان الهدهد قد تقدم فلقي هدهد أرض سبأ، فقال لهدهد سليمان: أخبرني ما هذا الذي أرى ما رأيت ملكاً أعجب من هذا راكباً على الريح معه الجنود ما لم أره أو أسمع بمثله! قال له هدهد

سليمان: هذا سليمان - نبي الله - فمن أين أنت؟ قال: من أرض سبأ. قال: فمن ملككم؟ قال: ملكنا امرأة لم ير الناس مثلها في فضلها وملكها وحسن رأيها وتدبيرها وكثرة جنودها مع الخير الذي قد أعطيت في بلادها وأمها من الجن مع هذا وهي امرأة من ولد حمير. قال هدهد سليمان: انطلق بي حتى أنظر إليها، فانطلق به حتى رآها وجنودها وما أعطيت في بلادها. ثم رجع إلى سليمان صلى الله عليه وسلم بعد أن مكث غير بعيد كما قال الله عز وجل، قال الهدهد: يا نبي الله أني {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، أني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء لها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. قال سليمان: سننظر أصدقن أم كنت من الكاذبين، اذهب بكتابي هذا فالقه إليهم، ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون}. قال معاوية: لم نقرأ القرآن لهذا الحديث، إلا تأتي بالحديث الذي بلغك؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين القرآن أصدق من الحديث، ولو لم يكن هذا في كتاب الله لكان الحديث عندي ثقة. قال معاوية: صدقت. قال عبيد: فكتب سليمان كتاباً ودفعه إلى الهدهد فأخذه بمنقاره - فيما بلغنا - فانطلق به حتى آتاها وصار بحذاء رأسها وهي على سرير مملكتها تنظر إلى طائر من فوقها فألقى الكتاب في حجرها، فنظرت إليه ونظر الناس إلى طائر رمى إليها بكتاب، فخاضوا الناس في ذلك وقالوا: رمى إليها الكتاب من السماء تعظيماً لقدرها، فبلغها ذلك فبعثت إلى مقاول حمير - وكانت أول من وضع المقاول تستشيرهم وتأخذ من رأيهم - فقالت لهم: ما ذكر الله في كتابه {يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم إلا تعلوا علي وآتوني مسلمين}. قال معاوية: يا عبيد فاخبرني عن الكتاب الذي أمر به ما كان

فيه فيما بلغك؟ قال عبيد: قد قلت لك يا أمير المؤمنين أني لا انطق بشيء ليس بيانه في القرآن، وقول الله أصدق فكان من جوابهم لها أن قالوا: {نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك، فانظري ماذا تأمرين؟ قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون}. ثم قالت: {وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون} قال عبيد: فبعثت يا أمير المؤمنين وفداً أربعين رجلاً من رجالها وبعثت معهم بمائة وصيف ومائة وصيفة ولدوا في شهر واحد لهم ذوائب وقصاص والزى واحد وختمت على سراويلهم وبعثت بمائة فرس نتجت في يوم واحد ألوانها واحدة، وبعثت بحق رصاص فيه من الجواهر والزمرد والياقوت الأحمر والأصفر والأبيض والأسود، ملحم لا يوصل إليه إلا أن ينكسر وبعثت بخرزة غير مثقوبة، وكتبت إليه أن اثقب هذه الخرزة بغير حديد ولا علاج أنس ولا جان، وبعثت إليه بخرزة مثقوبة ثقباً ملوياً وسألته أن يدخل فيه خيطاً وقالت للوفد: إن قبل الهدية فهو ملك من الملوك فهو أهون علينا محاربته، وإن ردها ولم يقبلها فالرجل نبي. وقد كتبت إليه كتاباً، فادفعوه إليه واسألوه عما في الحق، وإن يفصل بين الذكر والأنثى من الوصائف والوصفاء وإن يميز الخيل وأيها نتج قبل صاحبه وعن الولاء وعن قرابة ما بين ذلك. فلما قدم الوفد إلى سليمان قرأ كتابها وما سألت عنه من علم وخبر. فدعا الجن والأنس، ودعا بالوفد فقرأ الكتاب وقال لعلمائه: من يميز الغلمان من الجواري لا ينزع ثيابهم؟ فأعلموه إنه لا علم لهم به واشتد إعجابه بما جاءه من قبلها وشق عليه بعض ما سألته عنه، فمكث أياماً يقلب الأمر ظهراً لبطن حتى علمه الله إياه وأطلعه عليه من حكمته. فدعا بالغلمان والجواري فأمر بطشت فملئ ماء ودعاهم واحداً بعد واحد وقال: اغسلوا أيديكم! فكان الغلمان إذا غسلوا أيديهم حدروا الماء حدراً،

والجواري يصبن الماء صباً فميزهم على ذلك. ودعا بالخيل، فقال: نتجن في يوم واحد، وقال: هذا خال هذا وهذا عم هذا، وهذا ابن عم هذا وهذا ابن أخ هذا، حتى فرغ منهن والوفد ينظرون إليه في كتابهم والنقش بعلامتهن. ثم دعا بالخرزة التي لم تثقب فوضعها بين يديه ثم قال لمن حضر: من يثقبها؟ فتكلمت دودة بين يديه فقالت: يا نبي الله أنا أثقبها على أن تجعل رزقي في الخشب. قال: نعم. فلزمت الخرزة الدودة تثقبها حتى خرجت من الجانب الآخر في ثلاثة أيام. ثم انطلقت لرزقها. ثم دعا بالحق فحركه، ثم قال: فيه جوهر عدة الجوهر كذا وكذا والزمرد كذا وكذا والياقوت الأحمر كذا وكذا والياقوت الأصفر كذا وكذا والأبيض كذا وكذا، حتى فرغ من جميع ذلك والوفد ينظرون. ثم دعا بالخرزة الملوي ثقبها، وقال لمن بحضرته: أيكم يأخذ هذه الخرزة الملوي ثقبها فيدخل فيها خيطاً؟ فأجابته دودة تكون في القصقصة وقالت: أنا أدخله فيها على أن تجعل رزقي في الخشب. قال سليمان: ذلك لك. فأخذت خيطاً فأتقنته في رأسها ودخلت في الخرزة من ثقبها حتى خرجت من الجانب الآخر، ثم انطلقت إلى رزقها وهو في الخشب. ثم أن سليمان رد جميع ما أمرت به إليه وقال - وقد ذكر الله ذلك في كتابه {أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} - ثم قال سليمان حين ولي الوفد إليها: {أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} يقول: قبل أن تحرم علي أموالهم {قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك هذا واني عليه لقوي أمين}. قال: وكان سليمان إذا أصبح جلس بجلسائه مجلساً يقضي فيه بين الناس ويأمرهم بأمره، فلا يزال فيه

حتى يؤذيه حر الشمس فعنى ذلك المقام. قال سليمان: أريد أعجل من هذا، قال رجل من الأنس - يقال له آصف بن برخيا فيما يذكر قد تعلم اسم الله الأكبر - قال معاوية: هبلتك الهبول يا عبيد أو كان آصف يعلم ما تقول والسحر يوم نسبته إلى علمه - وهو الذي كان وضعه؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين كان آصف فيما بلغنا كاتب سليمان بن داود وكان من أعلم الناس وأكابرهم عنده وأشدهم إيماناً به، وكان سليمان لا يحجبه عنه إذا كان عند نسائه. فلما فتن سليمان أنكر آصف أعمال ذلك الشيطان الذي فتن سليمان - وهو الذي دخل على نسائه يسألهن عن سليمان، فأخبرنه أن سليمان كان لم يأتهن ولم يقربهن عند المحيض فإذا قلن له: إنا لا نصلي رجع عنهن بعد حرص منه عليهن، فإذا طهران لم يأتهن ولم يقربهن ولم يرنه - وقال آصف - وقد انطرت من قضائه لما أبصرت من عدله وأظهره من جوره فيذكر يا أمير المؤمنين أن ذلك الشيطان أمر بسحب فكتب، ثم دفن تحت كرسي سليمان بن داود واسنده إلى آصف بن برخيا، ثم أخرجه للناس. فلما رجع سليمان إلى ملكه ورد الله نعمته وكرامته، لم يلبث إلا قليلاً حتى قبضه الله غليه ولج المجرمون باستعمال ذلك الكتاب وتصديقه. قال معاوية: فكيف لم يعلم آصف بن برخيا أن ذلك الشيطان صنع السحر ودفنه تحت الكرسي وألجأه إليه؟ قال عبيد: دخلت الفتنة يا أمير المؤمنين من ذهاب علمه كما ابتلى به سليمان وهو فتنته لما رأى من سيرته. قال معاوية: صدقت فخذ في حديثك الأول. قال: فانطلق آصف وتوضأ ثم صلى ركعتين، ثم دعا بالاسم الأعظم، فذكر يا أمير المؤمنين أن السرير بما عليه مثل بين يدي سليمان بن داود وكان في جوف بيت في جوفه سبعة أبيات، على كل بيت باب، ولكل باب قفل حديد، والمفاتيح عندها - فلما رأى سليمان السرير من ذهب ولؤلؤ وجوهر {قال

نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}. قال معاوية: وما تلك النكرة يا عبيد؟ قال: زيدوا فيه وانقصوا منه ننظر أتهتدي يقول: تعرف العرش إذا جاءت أم لا تعرفه؟ قال معاوية: وما يدريك إن هذا كذلك؟ قال: سمعت ابن عباس يا أمير المؤمنين يذكر ذلك. قال: وسألته عن القرآن أيضاً فما يفسر من الظاهر شيئاً إلا وأنا أعرفه وأعلمه. قال معاوية: أوله باطن. قال: كذلك سمعت ابن عباس يذكر. قال معاوية: ما تركت شيئاً يا أخا جرهم إلا وقد دخلت فيه وطلبت علمه! قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين القرآن أحق ما دخلت فيه وطلبت علمه. قال معاوية: صدقت، فخذ في حديثك. قال: فلما دخل الوفد عليها أمرت بالجهاز وسارت في اثني عشر ألف قيل من رؤوس قومها وخيارهم، وأخذ كل واحد من وجوه أصحابه وجنده وأفاضل أهل بيته وقادة خيوله مائة رجل. فقدمت على سليمان بن داود في اثني عشر ألف قيل ومائة وعشرين ألف فارس غير الرجل. فلما دخلت على سليمان بن داود تركها ثلاثة أيام، فقال لها قومها: ما تقولين في أمر هذا الرجل؟ أتدخلين في طاعته أن تحاربينه؟ أم هل تيقنت إنه نبي؟ قالت: سأعلمكم منه ما تعرفون - أهو نبي أم ملك من هذه الملوك - أنظروا إليه، إذا أنا دخلت عليه، فإن أمرني بالجلوس فهو ملك فإن الملوك لا تجلس عندهم إلا بإذنهم - فما أقل من يجلس عند الملك إلا خاصته - وإنه إن لم ينهني ولم يأمرني فإنه نبي مع إني سأسأله عن ثلاثة أشياء لا أشك فيها. فإن أخبرني بها فإنه نبي وأنا داخلة ولا طاقة لكم به، وإن لم يخبرني فليس بنبي. فلما أراد سليمان دخولها إليه ووصولها إلى ما بين يديه أمر الجن فجعلوا عن يمينه وعن شماله حائطين مموهين بالذهب الأحمر، وبنوا من وراء ذلك مجلساً له وداراً، وجعلوا الدار لبناً مموهاً بالذهب غير موضع لبنة،

ثم أذن لها بالدخول، فدخلت الدار فلما مرت بالحائطين نظرت إليهما، ثم دخلت فرأت أرضاً وحيطانها من ذهب فتصعر عندها ملكها ورأت شيئاً لا يشبه ملكها الذي كانت فيه وسليمان قاعد في مجلسه في أقصى الدار ومعها لبنة من ذهب تريد إن أمرت بالجلوس أن تجلس عليها فضربت ببصرها فإذا على باب مجلس سليمان موضع لبنة من فرش الدار ليس فيه لبنة فكرهت حين رأت ذلك أن تمضي بما في يديها فيتهمونها باللبنة، فرمت بلبنتها في ذلك الموضع وسليمان ينظر إليها. فلما دخلت عليه سلمت عليه وحيته بتحية الملوك، ثم قامت بين يديه ساعة لا يأمرها بالجلوس ولا ينهاها عن القيام، حتى إذا طال ذلك عليها رفع سليمان رأسه إليها فقال: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فمن شاء فليجلس ومن شاء فليقم؟ قالت: الآن علمت أنك نبي. قال لها: ومن أين تعلمت ذلك؟ قالت: علمت إنه لا يجلس عند الملوك إلا بإذنهم، وأما القيام فعندهم يقام وما أقل من يجلس عندهم إلا من كان من خاصتهم، ولكنك قلت قول أهل العلم بالله، وقد أتيتك وسألتك عن ثلاثة أشياء فإن أخبرتني بهن دخلت في طاعتك، وإن لم تفعل رأيت رأيي فيما بني وبينك قال سليمان: فاسألي ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قالت: أخبرني عن ماء روى ليس من ارض ولا سماء، وشبه الولد إذا أشبه أباه وأمه من أين آتاه ذلك؟ وعن لون الرب تبارك وتعالى. فسألته عن ذلك وهي مقابلة له على الكرسي، والأنس والجن عن يمينه وشماله. فقال سليمان للأنس: هل عندكم في هذا شيء؟ قالوا: نعم يا نبي الله مر لنا بخيل نركبها ونجربها حتى تعرق، ثم نحللها فإنه ينصب عرقها فنحن نأتيها من ذلك بماء روي ليس من أرش ولا سماء. قال سليمان: فأيتوني بذلك فجاءوا به قالت:

هذا قد جئت به فالخصلتين اللتين سألتك عنهما قال: أما شبه الولد فإن النطفة إذا سبقت من الرجل كان الشبه له وإن سبقت من المرأة كان الشبه لها. قال: صدقت. فالخصلة الثالثة: قال: ليس لي علم بالغيب ولكني أرغب إلى الله ربي، فرغب سليمان في مجلسه ذلك إلى به فأوحى الله إليه إني قد أنسيتها ما سألتك، فاسألها عنه. فسألها فقالت: ما أدري ما سألتك عنه يا نبي الله. فعرض عليها الإسلام فقالت: انظر في ذلك يومي هذا. قال: فقالت الجن فيما بينها قد كنا في نصب من هذا الرجل القليل الغفلة فلا نقدر أن نفعل ما يريد، فكيف إذا اجتمعت هذه في رأيها وعلمها وعون الجن ونبوة سليمان الآن حجب عنا كب خير ونزل بنا كل شر فتعالوا نزهده فيها فإنه قد طمع فيها إن أسلمت أن يتزوجها؟ فقال لهم عفريت من الجن - يقال له زوبعة -: أنا أكفيكم سليمان. فآتاه فقال له: يا نبي الله بلغني أنك تريد تزوج هذه المرأة وأمها من الجن ولم تلد جنية من الأنس قط ابناً إلا كانت رجلاه مثل حافر الحمار. قال سليمان: وكيف لي أن أنظر إلى ذلك من غير أن تعلم ما نريد بها؟ قال: أنا أكفيك ذلك. قال: فصنع زوبعة لسليمان مجلساً وجعل أرض المجلس لجة فيها ماء وسمك يعني حيتاناً. ثم جعل من فوق ذلك صرحاً ممرداً من قوارير رقيق، ثم قال له: أرسل إليها تدخل، فإنك ترى الذي تريد منها. فبعث إليها وهو على كرسيه ليس في البيت مجلس غيره. فلما رأت ذلك الماء والسمك تجول فيه ضربت ببصرها إلى مكان تجلس فيه، فلم تجده فحسبته لجة، وكشفت عن ساقيها لتخوض في الماء إلى سليمان. فلما رآها ونظر إلى ساقيها - إذ عليهما شعر أسود في بياض الساقين - فقال لها سليمان: لا تكشفي غن شيء من ساقيك، فإنه صرح ممرد من قوارير. فنظرت فإذا ملكها ليس بشيء مع

ملك سليمان وإذا بها قد أيقنت إنه نبي. فعند ذلك قالت {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. فلما أسلمت وحسن إسلامها تزوجها سليمان، ودخل بها ثم أظهر لها الكراهة لما رأى من كثرة شعر ساقيها فقالت: يا نبي الله إن الرمانة لا يدرى ما طعمها حتى تذاق. قال سليمان: إنه لا يحلو في الفم ما لا يحلو في العين ثم انصرف. فقال بعض الجن - وكان يحب ما وافق سليمان: يا نبي الله فهل كرهت منها غير الشعر؟ قال: لا. قال: فاني أعمل شيئاً فتطلبه فيتركها لك مثل الفضة البيضاء من غير عيب. فقال: افعل فصنع الجني النورة والزرنيخ، ثم بعث بها إليها وأحدث سليمان لها الحمام، فكانت أول نورة علمها مخلوق وأول حمام عمل لأحد، واتخذ ذلك الشيطان لها مطاحن الماء وضروب الصناعات وأعجب بها سليمان عجبا شديداً، وولدت له داو بن سليمان وملك سليمان أربعين عاماً وسرحها سليمان إلى مملكتها، وكان سليمان يأيتها في كل وقت فيقيم عندها سبعة أيام، ثم يسير في الأرض، وأعانها بالشياطين يعملون لها - فعامة صناعات اليمن من قبل الشياطين - ثم هلك سليمان - صلوات الله عليه - وولي بعده رحبعم بن سليمان، فأقام بعد سليمان، ثم مات واختلفت بعده ينو إسرائيل وماتت بلقيس بعد سليمان بشهر - رحمهما الله تعالى - وبلغنا في حديث آخر أن بلقيس ملكت سبعين سنة. والله أعلم أي ذلك كان. قال معاوية: فهل قيل في ذلك شعر: قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين قال معاوية: كيف الشعر لله أبوك؟ قال: قال رجل من حمير يقال له

- الأعصم بن عمرو بن سلمة بن زيد بن خيار بن المنتاب بن زيد بن عملاق - هذا الشعر الذي يقول فيه: إن يكن الدهر أتى عامداً ... لخير أملاك الدهور الخوالي معتمداً قهراً نبي الهدى ... وخير خلق الله في كل حال أعني ابن داود سليمان إذ ... علا على الناس بحسن الفعال ومد في الملك شياعاً لنا ... بيوم يمن ليس يوم الشمال فإن فينا من بني حمير ... فوراس الهيجاء يوم النزال كنا شر الخير وأعراقه ... ومرغم الملك جزيل النوال قال معاوية: يا عبيد الله أبوك أخبرني عن بلقيس كيف آتاها الهدهد بالكتاب؟ قال عبيد: قول الله أصدق وقد أعلمتك لست بمحدث بشيء ليس في القرآن ولست بواصف خبراً بلغني بعدما قال الله تبارك وتعالى، ولكن قد قال في ذلك رجل من أهل اليمن من أهل بيت الملك شعراً - يقال له النعمان بن الأسود بن المعروف بن عمرو بن يعفر - قال معاوية: وما قال عبيد: اسمعني ذلك حتى أعلم، قال عبيد هذا الشعر الذي يقول فيه: زال دهري وقد أراني سروراً ... دهر من كان بالحمام نذيرا حمير الخير قد رأيتك قدماً ... قبل دهر به سكنتم قبورا حمير الخير قد نزلت عصارا ... من زمان الدهور ملكاً هريرا

نعماً يا لها أناخت بشرق الأرض ... وغرب البلاد بالخير زورا وغزوت البلاد عوداً وبدأ ... وعلى ملكنا السحاب المطيرا صاح إن كان ملك حمير أودى ... بعد أن كان قبل صنعاً حرورا فهم اليوم جبأة وزمام ... وأرى من بقي إليهم مجيرا قرة العين من ذوي أهل عز ... وديار الزمان كفوا إليهم مجيرا وسما الملك للنبي سليمان ... مع البر واصطفاه قديرا جاءنا بالكتاب منه رسول ... بعجب لم يأت فيه غرورا نظرت نعمة من الله حقا ... ببيان الهدى آتاه بشيرا نظرت في الكتاب بلقيس عجباً ... فرأت منظراً مهيباً نضيرا أرسلت في مقاول الملك إني ... ناظر في الغداة أمراً منيرا فأشيروا بمشورة بصواب ... إن منكم لنا صحا ومشيرا أن يزوروا بلادكم يفسدوها ... وأتوا في البلاد أمراً نكيرا قال أهل النهاء والقول أنا ... أول الناس نستذل الفجورا فأليك الأمر منا فامضي ... ما أردت الغداة منا سرورا قالت اهدي وذلك عندي من الرأي ... وفينا بنو الكرام ظهروا وبنا في القلوب من كل سوء ... يسيروا من عديد ذاك نظيرا أرسلت بين عاتق وغلام ... كي يميز من النساء الذكورا وعناقاً من الخيول جياداً ... ملبسات من الملاء حريرا وزمرد في قعر حق عجيب ... ملحم ما يرون فيه فطورا مع وفد أعزة ذي بهاء ... قصد خير الأنام حتماً وخيرا قال معاوية: يا عبيد دع عنك هذا وأخبرني عن الملك كيف عاد إلى حمير

ناشر النعم بن عمرو بن يعفر بن عمرو

بعد نبي الله سليمان بن داود وبعد ابنه بعد أن خرج من أيديهم وفارقهم من أول من قام منهم؟ قال عبيد: أول من قام منهم يا أمير المؤمنين. ناشر النعم بن عمرو بن يعفر بن عمرو ابن شرحبيل بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث ابن حيدان بن قطن اجتمعت عليه اليمن وبعث الجيوش إلى كل من ناوأه ووطئ البلاد التي كان آباؤه يطئونها قبله واشتد سلطانه فسماه قومه ناشر النعم. قال معاوية: ولم سماه قومه بهذا الاسم؟ قال عبيد: يا معاوية أنعم عليهم فيما ارتجع من ملكهم وجمع الأمر لهم. قال: ثم سار بنفسه غازياً نحو المغرب فدوخها ووطئها حتى بلغ وادي الرمل لم يبلغ ذلك الوادي ولا تلك الأرض من أهل بيته غيره. فلما أتى إلى الوادي الذي يسيل رملاً لم يجد مخرجاً ولا مجازاً حتى جاء يوم السبت فلا يجري فلم يجده يسير، وأمر رجلاً من أهل بيته يعبر الوادي وكان يقال له عمرو بن زيد بأصحابه، فلم يرجع منهم أحد. فلما رأى ذلك ناشر النعم كف عن العبور، وأمر عند ذلك بصنم من نحاس فنصب على صخرة، ثم كتب على صدر ذلك الصنم بكتاب المسند - وهو كتاب الحميري - أبياتاً من شعر كتاباً ابتدعته حمير، لأن لا يكتبه غيرهم، يذكر فيه صفته وما بلغوا. قال معاوية: وما الكتاب الذي كتبوا والشعر؟ قال عبيد: كتب فيه (صنع هذا الصنم الملك الحميري ناشر النعم اليعفري ليس وراء هذا مذهب فلا يتكلف أحد المضي فيعطب) فأما الشعر فأبيات كتبها في الصنم يقول فيها:

أنا الصنم الذي هيئا مكاني ... نبوءة المقاول والهبول نصبت فلم أزل صنماً مقيماً ... لحمير للشباب وللكهول فما أحد يجاوزني فيحيا ... إلى الجبل المطل على السهول ليعلم من آتاني من أمامي ... فليس له ورائي من سبيل قال معاوية: إنك لتخبرنا عجباً! قال: يا أمير المؤمنين إن أمر حمير كان أعجب من ذلك في مسيرها البلاد واستخدامها العباد. قال معاوية: وما ذلك يا عبيد لله أبوك؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين كانوا في رفاهية من العيش ونعم من ملك دنيا زينوها فكانوا ينزعون إلى دار ملكهم ويدعون ما قد احتووا عليه. فقال معاوية: فهل قيل في ناشر النعم شعر وفي الصنم والوادي الذي انتهى إليه؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين. قال علقمة بن زيد بن يعفر بن عمرو شعراً. قال معاوية: ما قال؟ يا عبيد: قال - قال هذا الشعر: أيا ناشر الأملاك قد نلت خطة ... علت فوق أملاك الملوك القماقم سلكت غروب الأرض غاز بجحفل ... للاد الأعادي غير أرض الأشاتم تفض جموعاً كالجبال لتنتهي ... إلى مبلغ في البعد غير التهائم أتيت بنا واد حثيث مسيره ... برمل تراه كالجبال الرواسم يسير أنهاراً والليالي دائبا ... بأمر إله ليس أمر الأوادم وأوردته منا أولى الفضل والنهي ... لنعلم من أسبابه كل قادم فهد جناحي المسقر فجعة ... فذاك ابن عمي وابن عز خضارم فودعني عمرو عليه تحيني ... وافردني عمرو لهم مراغم فلا مبلغ في البعد يأتيه معشر ... فيمضي إليه بعد شخص مرائم بتسطير خط من كتاب ابن حمير ... بأن ليس بعدي من مضي لحازم

ولا مذهب من خلف ما قد أتيته ... بني حمير خير الأنام الأكارم قال عبيد: وقد قال يا أمير المؤمنين ابن عمه النعمان بن الأسود بن المعترف فيما كان من مسيره وما ذكر من رد الملك إلى حمير وأنعامه عليهم في ذلك شعراً - يقول فيه: فأنت أبيت اللعن في كل شارق ... وفزت بملك ذي بقاء إلى الحشر لعمري لقد جللت حمير نعمة ... وأفضيت من أكتافها الحي من بكر فأرجعتها الملك الذي كان قد وهى ... فأنت أبيت اللعن ذو النعم الزهر ولولا سليمان الذي كان أمره ... من الله تنزيلاً ووخى على قدر لما كان أنس يبتغي أن يرومها ... ولا الجن إذ نحن إلا قاصم للظهر ولكن قضاء كان تحويل ملكنا ... إلى ابن نبي الله داود ذي النصر فذاك سليمان الذي كان أمره ... من الله تنزيلاً عليه وعن أمر فنحن ملوك الناس قبل نبيه ... وقبل أبيه الحبر عصراً من الدهر ونحن ملوك الناس والمقتدى بنا ... إلى أن يصير الملك حيناً إلى قهر يكون نبي أمره غير واهن ... رحيم بذي القربى لطيف بذي الوتر يكون له منا وأحمد اسمه ... غطاريف صدق في التعاون والنصر وسوف بطا السودان أرض ابن حمير ... فتعمر عشراً أو قريباً من العشر فيبتزها الملك الذي كان قد وهى ... شديد مقام الشخص منشرح الصدر فيسلبها الملك الذي كان قد وهى ... نبي كريم النفس منشرح الصدر أحمير سيري في البلاد لعزكم ... فإن المعالي لا تنال بلا قهر قال عبيد: ثم انصرف من غزوته يا أمير المؤمنين، فلم يلبث حتى

شمر يرعش بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش

هلك. قال معاوية: لله أبوك، فكم ملك، ومن ملك بعده؟ قال عبيد: ملك ناشر النعم مائة سنة وإحدى وثمانين سنة - ثم ملك من بعده. شمر يرعش بن افريقيس بن أبرهة بن الرائش قال معاوية: ولم سمي يرعش؟ قال: لأنه كان به ارتعاش، وأنه سار بعدما ملك سنين نحو المشرق وسواحل البحر دخل أرض العراق في جمع لا يسمع برجل منهم سار في مثله من الخيل والرجال وكثرة العدد والعدة والقوة، ثم توجه إلى أرض الصين يريدها فكانت طريقه على أرض فارس وسجستان حتى دخل خراسان. فكان يأمر أهل مملكته أن لا يتنحوا عنه ويبعثوا إليه بالهدايا خوفاً ويطلبون منه الأمان فيؤمنهم ويبعثون بالأدلاء معه حتى انتهى إلى نهر بلخ فبينما هو يسير كذلك، إذ أقبل إليه ما لا يعلمه إلا الله من تلك الأمم من الأعاجم، وكان قد بلغه مسيره فاجتمعت تلك القبائل من أحياء الأعاجم ليصطلموا ذلك الجند من العرب. فقاتلهم أياماً ثم ظفر بهم فمزقهم كل ممزق وتبعهم مسيرة أيام - وكان للقوم مكان فيه سفنهم التي عليها يعبرون - فانتهوا إليها، والعرب في أثرهم حتى قاتلوهم على سفنهم التي عليها يعبرون فأخذوها وعبر من سلم منهم إلى بلادهم. وركب شمر وأصحابه السفن التي أخذوها منهم فعبروا على أثرهم وهم على مهل فاتبعوا القوم إلى بلادهم، فرأوا بلاداً كثيرة الخير واسعة المنشر، فحضروا المدائن وافتتحوا الحصون وحووا الأموال حتى أتوا على جمع لهم عظيم بالسغد فقاتلوهم أياماً، ثم أن شمر وأصحابه ظفروا بهم فدخلوا مدينة السغد فقتلوا وسبوا وهدموا المدينة - واسمها يومئذ اسم أعجمي، ثم

سماها الأعاجم بشمر فيقال لها شمر كند - قال معاوية: وما يعنون بشمر كند؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين لأن شمر هدمها فسميت به. قال معاوية: فما بالها اليوم تسمى سمرقند؟ قال عبيد: أن لغة العجم غير لغة العرب. قال معاوية: صدقت، فماذا صنع شمر؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين بلغنا إنه سار إلى مدينة السغد فنزل بها وأمر بصخرة فكتب فيها بكتاب حميري وهذا الذي يقال له المسند وهو هذا القول: هذا ملك عرب وعجم شمر يرعش الملك الأشم من بلغ هذا المكان فهو مثلي ومن جاوزه فهو أفضل مني لا أعلم إلا ذلك، فأما الحديث فقد أصبته وهو على ذلك وأنا أرجو أن يظهر الله أمير المؤمنين بذلك الموضع من الأرض فيعلم إني قد أديت إليه من حديثي علماً. قال معاوية: أللهم أرنا تصديق قول بن شؤية، فإنه يذكر عجباً وإن شاء ربي فعل ذلك! فبلغني عن الشعبي إنه ذكر عن رجل من حيوان همدان - يقال له عبد الله - قال: بينما نحن بالسغد مع قتيبة بن مسلم الباهلي وافتتح سمرقند إذ نظر إلى حجر ملصق على الباب فيه خطوط كأنها بالعربية وليست بها، قال: والله إني لأظن هذا الكتاب لبعض ملوك حمير اطلبوا إلي منهم رجلاً حديث العهد باليمن يعرف كتابة حمير فقيل له: هذا عثمان بن أبي سعيد الحيواني قال: فجاء الرسول وأنا وإياه في خيمة فانطلق به إليه فقرأه على مثل ما ذكره عبيد لمعاوية ورواه عنه من رواه على ذلك. قال معاوية: فما قال قتيبة؟ قال: قال شراً، ثم قال: لو تقدمت سرادقي شيئاً؟ قال له الحيواني: ليس القليل بالذي عنى ولكن من ملك أرضاً غيرها يتقدم إليها. فاسكت قتيبة وقدم سرادقه وراء ذلك،

فلم يزل هنالك مقيماً حتى انصرف من وجهه ذلك. ثم قال معاوية: هل سمعت في ذلك شعراً يا عبيد؟ قال: نعم، قال الباني بن المننتاب شعراً. قال معاوية: فكيف قال يا عبيد؟ قال: يا أمير المؤمنين قال هذا الشعر: تقول عرسي حين جد النوى ... حتى متى أنت تريد الثوى أليس في عيشي قد أوتيتم ... مقام ذي الدهر قصى أو دنا فقلت إذ قالت فما ضرنا ... إذ نحن لم نسمو لسفك الدما تأمرني أن أكون جليساً لها ... وأترك الإقدام يوم الوغا وحمير تسمو بأفعالها ... فيها رئيس القوم يوم اللقا وشمر الراعش قد قادها ... يريد بالشرق اغتنام النسا فقد وطئنا الأرض عليانها ... شرقاً وغرباً كالليوث الضرا فشمر الراعش إذ قادنا ... بجحفل أرعن يغشى السها فكان يوماً معظماً شأنه ... أورد بالعليا وذاك الشفا فسائلي عنا لكي تخبري ... في مشرق الأرض إذا الدهر فا يخبرك العالم عن حمير ... وجمعها بالسغد يوم الردى أنا أبحنا أرضها كلها ... بقوم حرب كعديد الدبا حتى أبدناهم بها عنوة ... ثم علوناهم بذبح وحى وجاءت الفرسان من سيبها ... بكل بيضاء كعفر الضبا وغودر الحصن بها عنوة ... ومثل الخط بصخر الصفا يكون للعابر إن رامه ... أمراً عجيباً من ملوك الثرى ويقال: إن سبب خروج شمر من اليمن إلى المشرق أم ملكاً من ملوك بابل - يقال له كيفاؤش بن كتيكة تجبر وبنى صرحاً للرقي فيه إلى السماء

كما فعل فرعون وهامان - فمضى غليه شمر بجنوده فحاربه فظفر به شمر وقفل راجعاً به إلى اليمن أسيراً فحبسه في بئر مأرب. ثم أن سعدى بنت شمر سمعت كيفاؤش يجار في تلك البئر فرحمته، فلم تزل تشفع إلى أبيها حتى أطلعته من السجن، وولاه على بلاده ورده إليها على خراج يؤديه في كل سنة. وقيل في رواية أخرى أن شمر لما افتتح سمرقند هدمها، ثم أمر ببنائها، ثم توجه إلى الصين فخافه ملك الصين خوفاً عظيماً وعلم إنه لا طاقة له به. فجمع ملك الصين وزراءه فاستشارهم وقال: قد أقبل هذا العربي ولا طاقة له به. فجمع ملك الصين وزراءه فاستشارهم وقال: قد اقبل هذا العربي لا طاقة لنا به فماذا ترون فأتى كل واحد منهم برأي وبقي منهم واحد لم يتكلم. فقال له: ما تقول؟ فقال: أرى أن تظهر الغضب علي وتجدع أنفي وتأخذ دوري وضياعي وأموالي ودوابي وعبيدي حتى يعلم الناس بذلك، فكره ذلك ملك الصين لعظم ذلك الوزير عنده، فلم يعذره ذلك الوزير حتى ساعده وفعل به ما أشار عليه به. فخرج ذلك الوزير من الصين حتى انتهى إلى شمر فأراه جدع أنفه وشكا عليه ما فعل به ملك الصين وأظهر لشمر يرعش النصيحة فجعله شمر يرعش من خاصته، ثم احتاج شمر إلى دليل يدله على الطريق إلى الصين في المفازة العظيمة التي دونه. فقال وزير ملك الصين لشمر: أنا الدليل ولا تجد أيها الملك من يعرف هذه المفازة ويعرف الطريق فيها مثلي. فنهض شمر يرعش بجنوده - وقيل إنه ترك التفقل الذي له ولجنوده في سمرقند - وسلك خلف الوزير، فسار بهم على غير طريق حتى بعدوا بعداً عظيماً وأشرفوا على الهلاك وأيقنوا به ونفذ ما معهم من الماء. فقال شمر: أين الماء؟ فقال: لا ماء ها هنا إلا الموت، أردت أن تهلكنا وتهلك ملكنا وتقتل رجالنا وتسبي ذرارينا، فوهبت نفسي لأهل بلادي فوقيتهم من الهلاك بنفسي وأنت ومن معك أحق بالهلاك من ملكنا

تبع الاقرن وهو ذو القرنين

وأهل بلاده. فأمر به شمر فضربت عنقه، وأيقن شمر بالهلاك وقال لجنده: توجهوا أينما أحببتم، وفرش له درع من حديد فظلل عليه بدرقة من حديد فذكر عند ذلك قول قوم من المنجمين حكموا في ميلاده إنه يموت في بيت شقفه من حديد وفراشه من حديد. وذهب جنده كل منهم لوجهه فهلك أكثرهم في تلك المفازة، وتناشر من جنده ثلاثين ألفاً فوقعوا في أرض فيها الشجر والماء والنخيل - وهي بلاد التبت - فملكوها وتوطنوها، وبعدت عنهم أرض اليمن فسكنوا بها إلى اليوم، فزيهم زي العرب وأخلاقهم أخلاق العرب، ولهم ملك منهم قائم بنفسه، وهم معترفون بأنهم من عرب اليمن، وهم يحبون العرب حباً شديداً - وسمعت يا معاوية في رواية أخرى أن شمر قفل إلى اليمن غانماً سالماً حتى دخل اليمن وقرب من رثام، ثم هلك بينما الحديد من فوقه الحديد ومن تحته الحديد من حر النهار على ما ذكروا لما أصابه من المرض ثم هلك. والله أعلم أي ذلك كان! قال معاوية: فكم ملك شمر يرعش؟ قال عبيد: ملك مائة سنة وستين سنة. ثم ملك بعده ابنه. تبع الاقرن وهو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم وسمي الأقرن وذا القرنين لشيب كان فيه وهو على قرنيه - وكان ملكاً عظيماً عالماً حكيماً قد اطلع على علم الكتاب وسمع حكومات من ينظر في القرآنات - ويقال إنه القائل: أنا الملك المتوج ذو العطايا ... جلبت الخيل من أوطان سام ويقال: إن أباه شمر الذي قالها. ويقال: بل الحارث الرائش قائلها، والله اعلم. وغزا تبع الاقرن جميع أطراف الأرض، فعاد إلى بلاد الروم

وأوغل فيها حتى قطعها، ووصف له أن بتلك الناحية وادياً فيه الياقوت وإن بالقرب منه عيناً يسمى ماؤها ماء الحياة الذي ظفر به الخضر دون ذي القرنين فلما بلغ إلى هذه الناحية أدرك الشتاء هناك، فمات فدفن هنالك، وكر أصحابه راجعين خوف الهلاك في ذلك الموضع - وهو موضع الظلمات - ولا يكون مظلماً إلا إذا بعدت الشمس عنه في الشتاء إذا انتهت في الجهة اليمانية، وهو عند دخول الشمس رأس الجدي تصير تلك الأيام ليلاً لا نهار فيها، فهلك من قبل أن يدخل في ذلك الوادي. فأرادت حمير أن تحمله إلى اليمن، ثم بدا لهم فقبروه هناك. قال معاوية: فكم كان ملكه يا عبيد؟ وهل قيل في ذلك شعر؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين ملك مائة سنة وثلاثاً وخمسين سنة. فقال فيه التامر بن عمرو بن الغوث بن ذي الادغار - وهو بن عمه - هذا الشعر. قال معاوية: فهات، فأنشأ عبيد يقول: أن تمس باللحد أبا مالك ... يسفى عليك المور بالحاصب بدار بعد من وطا مغرب ... بذي ظلام حندس حارب بين تراب الأرض في مهمة ... قرب مجازو إلى الكارب فقد رزئنا وسطنا خيرنا ... الاقرن الميمون كالغاصب يعطي جزيل المال لا ينثني ... فلا لعمري لهف من غائب ويحمل الفرسان يوم الوغى ... إلى نجاح الموت كالثاقب عليه أبكي ما اضا كوكب ... في مطلع الآفاق والغارب ومطلع الشمس إذا أشرقت ... تصح في خلق لها سارب فحمير الأخيار لا تسامي ... بفارس الأملاك والغالب

قال معاوية: لله أبوك يا عبيد لتأتي بالعجب من حمير! ولقد جئت من ذلك بشفاء واضح ودليل ناصح من أشعارهم! فإن الشعر ديوان العرب والحكم بينها! قال معاوية: فمن ملك بعد الأقرن؟ قال: ملك ابنه تبع - وقد قال ابنه تبع بعد انصرافه شعراً يتندم فيه على أن لا يكون حمل أباه حين مات إلى اليمن. قال معاوية: وما ذلك الشعر يا عبيد؟ قال: قال تبع في ذلك هذا الشعر الذي يقول فيه: قد كان في رأيي وعزم أرومتي ... حمل الهمام إلى محل يماني أعني ابن شمر حين ودع حميرا ... وابن الملوك وقاتل الفرسان ذاك الغريب بدار بعد ليتني ... كنت المواسي حيث كان دهاني ذهب الزمان به وخلف بعده ... أحياء حمير في ردى وهوان لو كان عدم يوم حمل عاديا ... يلقى عليه الكتب غير هواني يا لهف نفسي حين ولت حمير ... يوم الرحيل بترك خبر زماني هلا أقمت لديه يوم أحشه ... تحت التراب فكان ذاك مكاني قال معاوية: يا عبيد هذا التندم منه؟ قال عبيد: سمعت قبل الإسلام رجلاً من حمير يقول: إنهم حملوه حتى دفنوه في اليمن، ولو كان ذلك كذلك لم يقل فيه ابنه ما قال. قال: لله أبوك يا عبيد، هذا التبع الذي كان - يقال له أبو كرب - قال: لا يا أمير المؤمنين هذا جد ذلك. قال معاوية: وهل كان فيهم تبع غير تبع واحد؟ قال: نعم. كانوا سبعة. ولكن تبع اسعد ملك، فاشتد سلطانه وطال ملكه، فذهب باسم من كان قبله، ونسب إليه من كان منهم بعدهم. وسيأتيك علم ذلك يا أمير المؤمنين في الحديث - إن شاء الله تعالى.

قال معاوية: فخذ في حديثك يا عبيد. قال: فمكث تبع الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش وهو تبع الأكبر - غزوه - وكان يقال له الرائد ثم أقام عشرين سنة لا يغزو فانقضت عليه الترك والخزر. فلما بلغه ذلك أرسل إليهم فامتنعوا منه وحبسوا الهدايا وقتلوا الرسل. فسار إليهم في الوجه الذي كان الرائش يسلك إليهم فيه على جبل طئ حتى خرج على الأنبار، ثم مضى إليهم قدماً فلقيهم على الحد من أذربيجان والموصل وقد اجتمعوا ونظروا إلى رايته. فاصطفوا للقتال، فاقتتلوا أياماً، ثم إنه هزم الترك فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وأقام يخرب بلادهم، ثم رجع إلى بلاده بعد أن وطئهم وأذلهم. قال معاوية: وما الترك وأذربيجان؟ قال عبيد: هما بلادهم يا أمير المؤمنين. فنحوا مما يليهم ومما يتوجه عدوهم إليهم - وهي وجه المحاربة لهم - قال معاوية: من أين علمت ذلك يا عبيد؟ وإنهم اقتتلوا هنالك؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين أهمني ذلك فسألت عنه من وقع إلينا من هذه الأعاجم وغزوت أيضاً إلى ذلك الثغر، فسألت وفي السؤال شفاء من العي وبيان من العمى، وإذا تقادم الشيء فلم في ذكره ذهب أصله وبطلت حقيقة أمره وماتت شواهده. قال معاوية: فهل قيل في ذلك شعر؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين. وقد قال في ذلك تبع الاقرن في مسيره: منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسى وطلوعها بيضاء صافية ... وغروبها صفراء كالورس تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت بالنفس لم أدر ما يقضيه حكم غد ... ومضى بفصل قضائه أمس وعلمت أني إن ظفرت بهمتي ... إلا لا غزو مطلع الشمس

حرب تواعدني حلفت لأن ... عمرت أو بقيت لها نفسي لأوجهن عمراً لمهلكهم ... ذا الحزم لا بالخامل النكس حتى يبقر من بطون نسائهم ... ويذيقهم ما ذاق ذو الرمس إني إذا هاج الملوك لحربنا ... هيجت أبطالاً لذي دعس قال: فلما رجع إلى اليمن أقام بها دهراً طويلاً، وهابته الملوك من الأعاجم وغيرها لما كان من وقعته بالترك، وأتته هدايا من قبل الهند من كتان وحرير ومتاع الصين ومسك وما يكون في بلاد الصين. فقال للرسول الذي بلغ من بلاد الهند: ويحك أكل ما أرى في بلادكم؟ فقال: أبيت اللعن أيها الملك نعم. قال: ورغب الملك في غزو الصين. حتى إلى على غزو الصين قال: فتجهز لغزوها وسار بجيوشه وقومه من أهل اليمن. فسار ساحلاً حتى خرج على طريق جده الرائش - الذي كان أخذه نحو المشرق - فلما انتهى إلى خراسان سار عن يمين مسير جده حتى أتى الركائك وأصحاب القلانس السود ودخل الصين فغنمها وأكثر القتل والسبي فيها، فكان مسيره ومقامه ورجوعه من غزوته تلك سبع سنين وعشرة أشهر، ثم رجع وخلف بأرض الصين رجلاً من خيار أصحابه - يقال له بأرض بن النبت - في اثني عشر تالف فارس من خيار أصحابه وفرسانه رابطة مقيمين معه في البلد، ثم إلى تبع أن لا يدع أرضاً مما كانت آباؤه قد حوته من أرض الأعاجم وغيرهم إلا ودع فيها رابطة وعسكراً من رجاله، وذلك حين رجع من أرض الصين. قال معاوية: لله أبوك يا عبيد فهل يعرف من خلف بأرض الصين؟

قال عبيد: يا أمير المؤمنين هم البينون ترك وأرم، إذا سئلوا أخبروا أنهم من العرب أصلهم، وإن لهم بيتاً يعبدون فيه ربهم ويطوفون حوله سبع مرات ويذبحون - وذلك في شهر من السنة - قال: فلما كثرت الأعداء بين بنيان ذلك البيت - فكنا إذا فعلنا ذلك خرجنا إليه تعظيماً له اعتزلنا دون - فلما رأى ذلك أولونا جعلوا في بلادهم وموضعهم الذي يسكنونه بيتاً مثل ذلك البيت، فنحن اليوم نعظمه ونطوف حوله سبع مرات ونذبح له في شهر من السنة ويعظمه ثلاثة أيام من جاء من الناس. قال معاوية: يا عبيد وما علمك بذلك؟ قال: غزوت يا أمير المؤمنين أرض الترك من هذه الناحية. قال: من أي؟ قال: من نحو الخرز - فإذا ناس منهم علماء يدينون - فسألتهم عن أنفسهم ومن يليهم، فكان هذا ما ذكروا لي. قال معاوية: لقد أخبرت بهذا الخبر عن ترك تبع ولا أدري أي التبابعة هو ترك الصين قوماً من اليمن؟ قال: هذا من تفسير ذلك الحديث. قال معاوية: فهل قيل في ذلك شعر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال في ذلك تبع الأكبر: أنا تبع الأملاك من نسل حمير ... ملكنا عباد الله في الزمن الخالي ملكناهم قهر أو سارت خيولنا ... لعمري غير نكس وأعزال فجالت لدى شرق البلاد وغربها ... لهتك ستور نكثة ذات هوال وعطل منها كل حصن ممنع ... ونقل عنها ما حوت ثم من مال وتلك شروق الأرض فيها وطئتها ... إلى الصين والأتراك حالا على حال فابنا جميعاً بالسبايا وكلنا ... على كل محبوك من الخيل صهال بكل فتاة لم تر الشمس وجهها ... أسيلة مجرى الدمع بيضاء مكسال

ملكي كرب بن أسعد بن تبع الأكبر

صموت البرى غوثى الوشاح كأنها ... من الحسن بد زل عن غيم هطال أتينا بها فوق الجمال حواسرا ... بلاد ملج باق عليها وخلخال تركناهم عزلاً تطيح نفوسهم ... بلا ساكن فيهم مقيم ولا وال فما الناس إلا نحن لا ناس غيرنا ... وما الناس إن وعد القوي بأمثال قال معاوية: فكم ملك يا عبيد؟ قال: مائة سنة وثلاث وستين سنة. قال معاوية: فمن ملك بعده؟ قال: ملك بعده. ملكي كرب بن أسعد بن تبع الأكبر بعد أبيه - وكان رجلاً ضعيفاً لم يكن يغزو أحداً حتى مات ولم يبعث جيشاً - فأما أهل اليمن فيزعمون إنه كان يتحرج من الدماء. وأما أهل الرأي والمعرفة والبصر بالأمور فإنهم يقولون: لم يكن ذلك منه إلا عن قلة الترجبة وقلة الأنفة وصغر الهمة لأنه لم يحدث دعوة في ملكه، ولم يعبر عن دين ولا طريقة أحد ممن قبله. قال معاوية: وما تغير حال الملك؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين لم يكن يغير من شيء يفعله آباؤه ولا أزال شيئاً من جبروت الملك ولا أحدث تواضعاً ولا قرباً من الناس ولا زال عن تجبره وعتوه وأشد أمره باليمن لا يجاوز أرض اليمن إلى غيرها بلد عرب أو عجم. قال معاوية: فكيف ملكهم يا عبيد وكيف استقام لهم أمرهم على تلك الحال؟ قال عبيد: لأنهم أحبوا الدعة والسكون وكانوا قد ملوا الغزو والحروب وكثرة المسير في البلدان. قال معاوية: فكم ملكهم على هذه الحال يا عبيد؟ قال: ملكهم خمساً وثمانين سنة. قال معاوية: فمن ملك بعده؟ قال عبيد: ملك ابنه تبع أسعد بن ملك يكرب وهو. أسعد أبو كرب الأوسط ويزعمون يا أمير المؤمنين إنه لما ملك أكثر الغزو في كل ناحية - وكان رجلاً مجرباً منجماً يعرف السعود من النحوس، ولا يخرج بقومه مخرجاً

حتى ينظر طوالعها، فيخرج بسعودها - وكان يغزو سنة ويقيم سنة. إذا قرب المسير عليهم غزا وبعث، وإذا طال المسير في الغزو غزا بهم ثلاث سنين وقام سنتين، وكان يكثر التوجيه لقواده، فإذا سار بنفسه لم يسر إلا في كل عشر سنين. وإذا خرج لم يترك طريقاً إلا سلكه ولا منهلاً إلا ورده ولا بلداً إلى وطئه وما وطئ أحد من آبائه وأجداده من البلدان إلا دخله وقصده ووطئه بنفسه أو بعث إليه عسكره. قال معاوية: فهل قال تبع شعراً فيما ظهر منه يا عبيد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين - قال تبع هذا الشعر الذي يقول فيه: سيذكر قومي بعد موتي وقائعي ... وما فعلت قومي بقيس أفاعلا وما دوخت أرض اليمامة بالقنا ... وما صبحت فيها تيمياً ووائلا فكم من ملوك قد قتلنا رجالهم ... وكم من نساء قد تركنا ثواكلا وكم من أسير ظل في القيد ساقه ... يبيت يراعي غله والسلاسلا سيذكر قومي نجدتي ومكارمي ... ويدخل باب العز من كان جاهلا بنيت لهم مجداً مع النجم سمكه ... وصيرته للعالمين معاقلا فحمير سادات الملوك وخيرها ... وهم من قديم الدهر سادوا القبائلا فأسكنت أرض الشام منهم قبائلا ... وابتعت غسان الملوك الأفاضلا وغسان حازوا بلدة الروم كلها ... وفي الصين صيرنا الملوك الاقاولا ويوم لقينا العجم في أرض فارس ... لقت ضيغماً من نسل قحطان باسلا فدوخت أرض الفرس حتى تركتها ... يباباً مجوباً علوها والأسافلا ودوخت أملاك العراق ولم أزل ... أحل بهم في كل عام زلازلا يصبحهم في أول العام جيشنا ... فيمكث فيهم قابلاً ثم قابلا حشوت صخام الملك خيلي ورجلها ... وأجريت من بعد البحار المناهلا ونلت بلاد السند والهند كلها ... وفي الصين صيرنا نقيباً وعاملا ونلت بلاد المشرقين كليهما ... ونلت بلاد المغربين وبابلا

ونحن أثرنا في سمرقند ضحوة ... جحيماً لظاها يلفح الدور شاعلا وجادت لنا في أصبهان سحابة ... بودق يزيغ المذهلات الحواملا بكل قضيب حادث العهد صقله ... وسهم منير يفتق الدرع داخلا وتسعين ألفاً تحمل البيض والقنا ... دخلنا بهم قصراً درنحا وكابلا سيوف حداد يضج الناس وقعها ... وتحكم في عدنان حقاً وباطلا ومروا كتبنا المسندين ببابها ... ليعرف عنا القيل من كان غافلا ومثلي يلدن المحصنات مسودا ... مغيراً إلى الهيجاء للقوم قاتلا وممسك عرف الخيل في حومة الوغى ... ترى البيض فيه والرماح الذوابلا وبحراً عريضاً للحراب ومعقلا ... وغيثاً غزيراً ينبت الزرع عاجلا ثلاثين بحراً قد غشينا بجيشنا ... فما رام سيفي ساعدي والأناملا فلما قضيت الغل من كل بلدة ... توجهت أرضي أعمد الدار قافلا فأمسيت في غمدان في خير محتد ... منيعاً وصنعا من حذاها المآجلا وريدان قصري في ظفار ومولدي ... بها أس جدي دورنا والمناهلا على الجنة الخضراء من سهر يحصب ... ثمانون نهراً تدفق الماء سائلا مآثرنا في الأرض تصديق قولنا ... إذا ما طلبنا شاهداً ودلائلا وعلمي بملكي سوف يبلى جديده ... ويرجع ملكاً كاسف للون ماحلا وملك جميع الناس يبلى وملكنا ... على الناس باق ذكره ليس زائلا قال عبيد: فلما فرغ تبع يا أمير المؤمنين عن أرض فارس وما يليها توجه إلى الشام وذكر ما صنع بأرض معد وغيرها من البلاد، فقال في ذلك وأنشأ يقول:

رب هم مؤرق بعد نوم ... غير ما باطل ولكن بجد يا بني مازن فوارس معد ... سرني ما فعلتم في معد إذ أثرتم مع العجاج عجاجاً ... وانتضيتم لهم صفائح هند أسروا ثلثهم وثلثا أبادوا ... ومضى ثلثهم بأتعس جد منهم راعي المخاض ومنهم ... مالئ للحياض في كل ورد وبعثنا إلى اليمامة خيلاً ... فأتيناهم بحزم وجد وصرفنا إلى كنانة جنداً ... فتوافت إلى كنانة جندي وتركنا تثقيف تنضح للجن ... د بقهر على هوان وكد وجعلنا الخرج منزل قيس ... قد أقروا بالخرج من غير عهد وجعلنا بني نزار هداة ... يرشدون الطريق في كل قصد وجعلنا نصراً وأحلاف نصر ... خولا بين خادم ومؤدي وطحنا قرى اليمامة بالخي ... ل زماناً نعيد فيهم ونبدي وقسمنا بني خزيمة بالحند ... كل عبد لنا وابن عبد ثم أحدثت بالمشقر أرضاً ... وجناناً تحلها الناس بعدي ثم أنزلت في عمان رجالاً ... يستعدون من فوارس أزد ثم سرنا إلى العراق بجمع ... ملأ الأرض بين غور ونجد فترى الناس وسطها وعليها ... أسد غابات من كهول ومرد يتردون باليمانية البيض ... تراها تجر في كل غمد وبأيديهم مخاصر موف ... وعليهم مسرودة أي سرد فثووا بالعراق حيناً من الدهر ... يدوسونها على غير عهد ثم دوخت أرض فارس طرا ... وقباذاً وأرض هند وسند ثم أنزلت حميراً جبل الصين ... فذاق الذليل عز الأشد

وركضنا الجياد في عرض الرو ... م كفعل الكاشح المتعدي فإذا الحرب أوقدت أسعروها ... بمساعير بما سناه أشد ثم أنزلت حيث أنزلت لحماً ... وجذاماً وهم جناحي ورفدي ثم أقبلت أقرب الشام قصداً ... برجال على ضوامر جرد ثم وجهت نحو يثرب خيلاً ... لنبيط بها يحلون بعدي فصدمنا آطام يثرب بالخي ... ل العناجيج بالمقاول تردى وتركنا بها من الأوس والخز ... رج حسباً من آل بأس ومجد ثم أقفلت من بها من خيول ... نحو أرضي ونحو قومي وولدي وإذا سرت رافقتني جبال ... ورجال هم جناحي وجدي فجبالي إذا أحقت حديد ... ورجالي إذا تأخرت عندي تقهر الناس والشعاع بخيل ... تحصد الناس في الوغى أي حمد من سعى مثل سعي حمير سعياً ... من قبيل فقد آتانا بادي قال معاوية: لله درك يا عبيد زد أنشدني غير هذا فقد أعطى من العز والقوة والملك ما لم يعط أحد غيره. قال: نعم يا أمير المؤمنين قال تبع هذا الشعر الذي يقول فيه: إن قحطان قد بنى لي بيتاً ... لا بطين بني ولا بعمود ليس مثل الذي بنى الناس بالطين ... وكلس آخر مسرود أريناه عند السماك نجاداً ... رأسه مصعداً برأس السعود ورسى أسه فلم يستطعه ... أحد رام نقبه بحديد وكساه الجمال والعز والبهجة ... منه وحفه بالجنود حفه الخيل والرجال عليها ... كل درع مسرد مسرود

جعلتها قحطان حصناً ... ورثوا صنعهن من داؤد جعلوه فوائداً لبناهم ... يعذبون الهياج للمستفيد إن قومي هم الملوك بحق ... شهد الله وهو خير شهيد إنني قد ملكت شرقاً وغرباً ... من قراها وحرب آل عمود وأخذت العراق من آل مرو ... بسمرقند ثم قرى الاكرود وجلبت الخيول للصين حتى ... غادرتها كمثل آل ثمود وأقمنا بها ثلاثين عاماً ... وهم بين مقعص وطريد وأمير مصفد في وثاق ... قد برى ساقه بعض الحديد وقعت خيلنا بأرض قباذ ... وقعة تستبين في الجلمود وتركنا ما دون ذاك إلينا ... لم يعد والد على مولود ومضى حكمنا على كل حي ... ليس حكمي في الناس بالمردود ومن أسرنا منهم فخير أسير ... أو قتلنا منهم فخير فقيد لو رأى جمعنا فذاك الناس جرا ... من أسير يسير سير البريد وطوت خيلنا الأعادي طيا ... ببلاد أعيت بها بعد بيد قد براها طول الاناخة والرك ... ض وحر الظهيرة الصيخود تبع أفضل الملوك حسان ... ليس يوم الهياج بالرعيد ملك يبرم الأمور معيد ... لم يل الناس رائس كمعيد أخذ الحرب حين شب لظاها ... يوم هاجت نيرانها للوقود لم يزل نورها على الزند حتى ... أمكنت من ذرائها المحسود أيمن الناس طائر أو لقاء ... حين تلقى بالجحفل المشهود ليس بالطائش الخفيف ولا ال ... واهن عند اللقا ولا المحدود

حمير قومنا أقاموا بعزم ... حيث حلوا في المجد غير الزهيد لو جرى الناس للمكارم يوماً ... فضلوا كل سائد ومسود يترعون الجفان شحماً ولحماً ... وهم مفزع كمثل الأسود لو يعد الأحياء الأيام قومي ... لم يطيقوا الأيام بالتعديد هل أقرت لنا البلاد بخرج ... خبرونا فليس حين جحود أن تقولون لا فزيدوا نردكم ... فلنعم المزيد للمستزيد ولدينا من الملوك ملوك ... كل ملك مملك صنديد ولدتني مملكات كبلقيس ... وشمس ومن ليس جدودي ملكتهم بلقيس سبعين عاماً ... آل عز وآل بأس شديد وبها جنتان أنشأهما الل ... هـ ورزق من سدها المسدود ما يبالي إلا يرى سيل غيث ... جاءها الماء من مكان بعيد عرشها شرجع ثمانون باعاً ... كللته بلؤلؤ وفريد وبدر قد قيدوه مع اليا ... قوت والجزع أيما تقييد فلو أن الخلود كان إلينا ... باحتيال وقوة وعديد أو بملك لما ملكنا لكنا ... من جميع الآنام أهل الخلود وقال تبع أيضاً حين نزل غمدان يذكر آباءه الذين ملكوا قبله وحصونهم التي كانوا ينزلون فيها باليمن. قال معاوية: أنشدني قوله. قال أنشأ يقول: إلا أن قومي هم حمير ... هم الأصل والمفخر هم شرفوا حتى انتهى ... فما نال بنيانهم معشر هم إن هم فخروا برزوا ... لهم شامخ الفخر لا ينكر أبي ملكي كرب الحميري ... وحمير قومي فما حمير

لقد كنت فيما مضى لاهياً ... وديني من لهوي المنظر أزور الغواني ويزورني ... واجتلب الكاعب المعصر أدير بكفي رحى العالمين ... ويوم الهياج أنا المسعر نمائي ذو ماور ذو الندى ... وخيل فهو جانبي الأيسر وناشر جدي الذي قد بنى ... مكارمه وابنه شمر ويعسب خالي الذي قد بنى ... وعلهان نهفان قد أذكر فكان بها مر من بعدهم ... له الحسب الضخم والمعشر وشمر ما زال خير الملوك ... إذا هو كوبر لا يكبر وكان إذا السرح اليحصبي ... إذا استحضروه فقد يحضر وكان معافر عند اللقاء ... يطول لعمري ولا يقصر وكان صدوقاً ولا ينثني ... إذا جنه الدرع والمغفر وكان به بعد ذو نائل ... لمن طلب العرف لا يدبر وقد كان يلهب نار الوقود ... للضيف والحرب قد يسعر وشمر يرعش رأس الملوك ... إليه انتهى مجد من يفخر وبار أن يهبر لما يكن ... جبان لدى الحرب بل يهبر وذو المر على فلا تنسه ... وآباؤه فهم المنشر وفرعان من بيت ذي أصبح ... وبلقيس كان لها منبر بنو الأنس والجن دانوا لها ... ودان لها البر والأبحر يذل الأنام لدى ملكنا ... وللجن والأنس قد يقهر ومن ذي الملاحي لنا مفخر ... وشرف ذاك لنا يعفر

ومن ذي سحيم وذي فائش ... لنا العدد الأول الأكبر ومن ذي كلاع ومن ذي رعين ... لي الصلب والرأس والأبهر ومن ذي رداع فقد كان لي ... لعمرك أصل به أظهر ومن ذي معاهر بيت العلا ... بآباء صدق إذا عمروا وقد كان كالسيف في النائبات ... إذا هو ضل فلا يقهر وقد كان ذا الأمر لا يستقيم ... دعاء به الورد والمصدر ظفرنا بمنزلنا من ظفار ... وما زال ساكنها يظفر فكر إلى النقع يدعى له ... فهو بأبوابه أبصر وما هكر من ديار الملوك ... بدار هوان ولا الاهجر وبينون مبهمة بالحديد ... وأبوابها الساج والعرعر وشهران قصر بناه الذي ... بناه ببينون قد يشهر ومأرب قد نطقت بالرخام ... وفي يدها الذهب الأحمر وغمدان حصن لنا مشرف ... مآجله حوله تنهر وكان معسكرنا في أزال ... لنا عسكر دونه عسكر وغيمان محفوفة بالكروم ... لها بهجة ولها منظر بها كان يقبر آباؤنا ... وأجدادنا وبها نقبر إذا ما مقابرنا كشفت ... فحشو مقابرنا العنبر فإن يفن قومي مناياهم ... وماتوا جميعاً فلا أخسر فكل يموت كذاك العباد ... ولا بد من قدر يقدر فلا الناس لو عمروا يخلدون ... ولا الموت من ربنا ينكر قال معاوية: لله أبوك، لقد حدثتني عجباً! فاخبرني ما صنع تبع

ما رجع من طول غزوته هذه ورجعته من ظلم الأرض ودوسه البلاد؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين. إن تبعاً لما رجح من غزوته تلك مر بالمدينة فخلف فيها ابنه خالداً وترك في كل أرض رابطة من الأجناد، ثم أن أهل المدينة قتلوا ابنه خالداً. فلما بلغ ذلك تبعاً قال في ذلك شعراً. قال معاوية: وما قال يا عبيد؟ قال: قال هذا الشعر الذي يقول فيه: يا ذا المعاهر ما أراك ترود ... أقذى بعينك عارضاً أم عود منع الرقاد فما أغمض ساعة ... نبط بيثرب آمنون قعود نبط أشاب الرأس مني فعلهم ... لابد أن طريقهم مقصود لا تسقني بيديك إن لم نلقها ... جرحاً كان أساسها مجرود بسيوف حمير والأقاول وسطها ... والخيل تبدو تارة وتعود يا ذا الكلاع كأنني مورود ... عن أمر حمير والدوي عنيد ما بال يثرب غلقت أبوابها ... عني ومثلي للعداة صيود ما بال يثرب لا يجبني ربها ... وسراة حمير بالسيوف ركود فلا وقعن بآل يثرب وقعة ... حتى تلاقي حمير ويهود النازلين حريم خزرج عنوة ... فلهم لدي سلاسل وقيود أعددتها لهم فكلهم بها ... لو نزلت فحماهم مقصود ولأهلكتهم كما قد أهلكت ... عاد بريح صرصر وثمود قهراً كما دانت لنا آباؤهم ... ما صاح في طبق الصياح غريد ولا تركن بلادهم وحماهم ... ولهم بذلك في البروز شهود ولقد وليت على هوازن أشهراً ... أيضاً فيسبى الوالد المولود ولقد حطمت حصون فارس حطمة ... يوماً أشاب لحربها الصنديد أبناء فارس قد تركت عليهم ... حيم السباع صوادر وورود

وتركت سابور الجنود كأنه ... غير الفلاة مشرد مطرود ولقد ثغرت لقندهار ثعرة ... فهوى لذلك حصنها المعمود وتركت أرض السغد ليس لجمعها ... ملك يهاب ولا قنا معدود وتركت بلخاً والحصون وكابلاً ... تنعى عليهم طيرهم وترود ولا خضبن سبالهم بدمائهم ... وليصلين معاطس وخدود والهند والسند اصطليت بنارها ... وبحرها من بعد ذاك جمود والصين لما إن أنخت بركبها ... تجبى لشمر ذي الندى وتعود والروم قد شربت بكأس مرة ... مني وفرق جمعها المعدود ولقد حويت الأرض من أطرافها ... حتى انتهيت وربنا محمود نحن الملوك بنو الكرام وعندنا ... تسعون ألفاً للطراد شهود وأسير في عرض البلاد معمماً ... بالملك والشرف القديم أقود حشو الحرير لباسنا في أهلنا ... ولباسنا يوم الهياج حديد من نسج داؤد النبي ونسجنا ... نسج يشد قتيرها المسرود نصلي الحروب بكل أبيض صارم ... ما فيهم عند اللقاء خمود والضاربون الكبش في يوم الوغى ... ورماحنا يوم للقاء بنود وسيوفنا يقطعن كل خصية ... من صنع يرعش صنعهن حديد نهب القيان مع الجياد سجية ... كرماً وليس لفعلنا موعود محقوفة أعنابنا بنخيلنا ... للضيف أما يأمنا موجود لو كان يرعش خالداً في ملكه ... خلدوا وأسعد ذو الندى وسعيد أو كان حيا خالد في ملكه ... وجذيمة الوضاح والمسعود من ذا الذي ورث البلاد ولم يمت ... أم هل لحي في الحياة خلود إني لأعلم في الموطن أنني ... يوماً سأهلك والحياة تبيد

ولقد علمت لئن هلكت وأوحشت ... مني البلاد لأهلكن فقيد ولتبكين علي كل قرينة ... كانت تضن بدمعها فتجود يا عمرو لا تعجل علي منيتي ... للملك تأخذه وأنت جؤود فإذا ملكنا الملك فاعلم إنه ... حرب فكيف إذا اصطليت تذود إني وعمرا يوم أطلب نفسه ... غزوا لأحد ملكة تحميد فاعلم بأنك ميت ومحاسب ... يوماً فينجو متق وسعيد اسمح لقومك بالكرامة أنهم ... أهل لذلك والكريم يسود قحطان جدي لن يلاقي مثله ... ما عاش ذو روح وأورق عود قال: ثم أن تبعاً سار إلى المدينة ثائراً في ابنه، فلما قرب المدينة نزل على بضر - فسميت بئر الملك - حين نزل عليها فالتقاه مالك بت العجلان الخزرجي فقال له: أيها الملك إن اليهود قد استولوا علينا وبيننا وبينهم حرب فانصرنا عليهم فإنما نحن منك ولك. قال: وكيف أنصركم عليهم وأنتم قتلتم ابني خالد؟ قال: أفسدت أمه بينه وبين امرأته، ثم احتالت له فقتلته. قال تبع: ولعبت الحبة بالكبة أو لعبت الكبة بالطبة فذهبت مثلاً - ثم انصرف مالك بن العجلان إلى أهله فقال لأمه: إن أبا كرب قد وعدني بالنصرة. فقالت أمه: ليت حظنا من أبي كرب أن يسد خيره خبله - فذهبت مثلاً - ثم أن تبعاً بعث إلى ثلاثمائة من اليهود وثلاثين رجلاً فضرب أعناقهم وهم بخراب المدينة فقام إليه رجل من اليهود - يقال له كعب بن

عمرو - وقد أتى عليه من عمره مائتان وستون سنة فقال له: أيها الملك لا تقبل على الغضب وأمرك أعظم أن يطير بك النزق أو يمسك في قلبك إلحاح وتنزع إلى ما لا يجعل بك، وانك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية. قال: ولم ذلك؟ قال: لأنها مهاجر نبي من هذه البنية - يعني مكة - وهو من ولد إسماعيل بن إبراهيم - خليل الله - قال تبع: ومتى يكون ذلك؟ قال: بعد زمانك بدهر طويل. فلما سمع كلامه سكن وكف عن خرابها. قال معاوية: لقد بلغني يا عبيد أن اليهود كانوا بها ما كان للخزرج معهم فيها أمر، حتى أن الرجل يتزوج المرأة، فلما يصلها حتى يبدأ بها رجل من اليهود، وكانوا غلبوهم على أمرهم. قال: معاذ الله يا أمير المؤمنين لقد بلغك ما لم يكن، ولقد كانت اليهود بها أذلاء، فكانت الأوس والخزرج أمنع من ذلك وأشد، ولقد أخرجتهم الأوس والخزرج من المدينة حتى سكنوا خيبر، وما كانت امرأة من الخزرج يقدر عليها رجل من اليهود أبداً! قال معاوية: فهل قيل في ذلك شعر؟ قال عبيد: نعم يا أمير المؤمنين قد قال فيه السموآل بن عاديا الغساني - قال أن رجلاً من اليهود عاب اليهود في صنعتهم - فأنشأ وهو يقول في ذلك: عبت اليهود ودينها لك نافع ... أيضاً يفوز به الحساب المؤنق دين ابن عمران ويوشع بعده ... موسى وهارون النبي الموثق قال معاوية: دع هذا وخذ في حديثك الأول. قال: نعم يا أمير المؤمنين. لما قضى تبع لبانته من يثرب، توجه إلى مكة يريد خرابها فآتاه رجلان من أحبار اليهود لهما علم وعندهما معرفة، فأخبراه بأشياء وعلامات فعجب لهما وأدناهما وقربهما إليه، وقد كان آتاه رجلان من هذيل في نفر

من قومهما، فقالوا له: أيها الملك أن هذا البيت الذي تعظمه الناس وتزوره العرب فيه أموال كثيرة وكنوز من الذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر والدر والياقوت ما لا يحصيه أحد ولا يعده، وكانت جرهم تجمعه، وأنت أيها الملك أحق بها مع أن نرى هدمه ونقل حجارته إلى اليمن، فيكون في دار الملك وحيث الريف والخصب فتعظمكم لذلك العرب إلى آخر الدهر يكون مكرمة لك ولآبائك ولقومك ويكون لولدك الطول عليهم بوضعك إياه هنالك. فلما سمع تبع مشورتهم وكلامهم هم بذلك فأخذته الحمى - وكان لا يعرفها، فكانت لا تقره على الأرض - فلما أحس تبع ذلك دعا الحبرين فقال لهما: ما هذا الذي بي؟ قال: هذا شيء سلطه عليك رب هذا البيت. قال: ففزع من ذلك، ثم مضى حتى نزل لرؤيته. ثم عاد فأصبح في الوضع الذي ارتحل منه وأصبح فيه وجع أشد ما أصاب مخلوق. فلما أحس ذلك دعا الحبرين فقال لهما: ما الذي تريان أن أصنع؟ قالا له: أيها الملك إنا قد سمعنا هذين الهذليين وما أشارا عليك به في هذا البيتين وإن الذي تجد في جسدك من الألم حين هممت بقولهم وأجبتهم إلى ما أشار عليك به، فإن أحببت العافية فكف عن هدم البيت وانو له خيراً، فإنك لا تطيق مبارزة رب العالمين وحدث نفسك بإكرامه وإعظامه. قال: ثم سار حتى قرب إلى الحرم فأصابتهم ريح كادت أن تهلكهم جميعاً، ثم دعا بالحبرين فقال: ما هذا؟ فقالا: له سرت إلى حرم الله تهم بهدم بيت الله لتهلكن نفسك. ثم لا يرجع ممن ترى معك عين تطرف وما أراد الهذليون إلا هلاكك وهلاك من معك. قال: فأمر تبع بالهذليين فضرب أعناقهما فقال تبع للحبرين: إني أريد أن أدخل البيت وما أصنع إذا دخلته؟ قالا له: إن أردت أن تدخله فاسلم لربه واحرم وأنحر له فإنه يؤذن لك في دخوله، فسار تبع حتى دخل

مكة فأسلم وأحرم وطاف بالبيت وحلق ووقف المواقف كلها ونحر البدن وأطعم الناس وكسا البيت الملاء المعصب والخبرات، وأقام بمكة سبعة أيام. فلما أراد الانصراف إلى اليمن أراد أن يحمل الحجر الأسود إلى اليمن فنهاه الحبران عن ذلك، فتركه وانصرف إلى اليمن. قال معاوية: يا عبيد فهل قيل في ذلك شعر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال فيه رجل من قريش. قال معاوية: وما قال من الشعر؟ قال عبيد: قال هذه الأبيات: لعمري لنعم المرء حل لديكم ... له المجد والأنعام والعز تبع آتانا كريم ما جد ذو حفيظة ... أغر كريم الوالدين سميدع فلم تخش منه إذ أتى البيت زائراً ... ولكنه سمح الخليقة أروع طلبنا إليه أن يقيم بأرضنا ... لنا الركن إنا حين يؤخذ نجزع فقال نعم نعمي وأنتم ولاته ... وليس له عن حرها الدهر منزع مضى رأيه في قومه غير واهن ... فمنه جدود مجدها ليس يدفع قال معاوية: فأنشدني يا عبيد الشعر الذي قال تبع في قتل ابنه خالد قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال هذا الشعر: ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت اماقيها بسم الأسود أرقاً لما فعل اليهود بيثرب ... فلبثت في غمدان كالمتلبد وحلفت عهداً تبلغن نخيلهم ... زبر الحديد عشية أو من غد فجعلت عرصة منزلي في روضة ... بين العقيق إلى بقيع الغرقد وهنا يثرب روحنا وصدورنا ... تغلي جلائلها بحرب محصد ولقد ندبت إليهم فأجابني ... من في الحصون إلى مدينة أحمد

غر كرام لم يدنس عرضهم ... نسب النبيط ولا العلوج الاعبد ولقد تركنا لابها وسباخها ... كقراقر نبتت بقاع أصلد ثم انصرفت أريد مكة عامداً ... لخرابها لا كالذي لم أعمد لما آتاني من هذيل أعبد ... يتنصحون فرمت أمراً لأعبد قالوا بمكة كنز قوم دائر ... وجواهر من لؤلؤ وزبرجد بيتاً يطاف به وينحر حوله ... بدن لدى حجر وركن أسود فأردت أمراً حال ربي دونه ... والله يدفع عن خراب المسجد فرددت ما أملت فيه عليهم ... وتركتهم مثلاً لأهل المشهد ما كنت أحسب أن بيتاً طيباً ... لله في بطحاء مكة يعبد حتى آتاني من قريظة عالم ... حبر له اليهود وتقتدي قالوا ازدجر عن قرية محجوبة ... لنبي مكة من قريش مهتدي فعفوت عنهم عفو غير مثرب ... وتركتها لعقاب يوم سرمد أعفيتهم لله أرجو عفوه ... ولحفظ ما بيني وبين محمد فكسوته الريط اليماني رغبة ... وطراز عصب المحكم المتجرد وجعلت اقليداً لجانب بابه ... وجعلت بابيه صفيح العسجد أرجو بذلك عند ربي زلفة ... وحذار حر من جحيم موقد وتركت من قومي بمكة أسرة ... وبيثرب منهم كرام المحتد قوم يكون النصر في أعقابهم ... وبقية ممن ينبت ويهتدي فتركتهم أقيالها وملوكها ... وعطفت نحو المستراد ومولدي من بعد ما دخلت البلاد وجبتها ... وعركتها عرك الاهاب الاجرد ولقد طحنت الأرض ثم وطئتها ... يجدون قصة أمرنا في المسند قد كان ذو القرنين خالي مسلماً ... طاف البلاد من المكان الابعد

بلغ المشارق والمغارب بيتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغار الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد وبنى على ياجوج حين آتاهم ... رد ما بناه بالحديد المحفد رد ما بناه إذ بناه مخلدا ... أنشأه دهر للزمان السرمد ولقد بنت لي عمتي في مأرب ... عرشاً على كرسي ملك متلد فثوت به تسعين عاماً قد حوت ... أرض الحجاز إلى مفازه صيهد يغدو عليها ألف ألف كلهم ... خدم لها يتعاقبون من الغد عمرت به أزمانها في ملكها ... مقبوضة إذ حان أمر الهدهد فرأت سبيل الرشد حين تبصرت ... نبأ آتاها قبل يوم الموعد نزلت عن الملك العظيم لربها ... قبل المذلة أن يقال لها ردى نحن الملوك فما يرام لهضمنا ... تسمو مقاولنا بنصر مؤيد قال معاوية: لله أبوك يا عبيد فهل قال تبع في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعراً حين ذكر له الحبران أمره؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قال: - وهو يذكر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الشعر، الذي يقول فيه: شهدت على أحمد إنه ... رسول من الله باري النسم له أمة سميت في الزبور ... فأمة أحمد خير الأمم فلو مد دهري إلى دهره ... لكنت وزيراً له وابن عم وكنت ظهيراً على المشركين ... أسقيهم كاس حرب وهم إذا ما صناديدهم كذبوا ... أغشيهم كل صفر هضم واجعل نفسي له جنة ... وأفرج عن صدره كل غم ومن نسل قومي له ناصر ... فيؤوونه ثم لا يهتضم

فويح قريش إذا جاءهم ... وجاش بهم بحرهم ثم طم نبيهم خير أسلافهم ... يوالي ذوي الدين دون الرحم نبيهم خاتم الأنبياء ... ولم يعط زرعاً وحمر النعم نبي وجدناه في كتبنا ... به يهتدي وبه يعتصم يسود الأنام ببرهانه ... وبالرغم يسي ذراري العجم ومنا قبائل يؤوونه ... إذا حل في الحل بعد الحرم ويمنعه حد أسيافنا ... ووقع الرماح كوقع الرهم رجال يقومون من دونه ... ويوفون بالعهد له والذمم ملكنا الأنام فدانوا لنا ... أذل من النعل تحت القدم ودانت لنا السند في أرضها ... ودانت لنا الهند بعد الوهم سموا وسمونا لهم إذ سموا ... وفاضوا وفضنا عليهم بجم بأبناء قحطان من حمير ... بهاليل أسد طوال اللمم أبحنا البلاد بأسيافنا ... وبالسمهرية تلظى بسم وكل جواد من الصافنات ... على ظهره بطسل مستلم فكم من قبيل سلبناهم ... فأمست بهائمهم تقتسم من العسجدي وكنز اللجين ... وبز الحرير وبيض الحرم وسوف إذا غشيتنا البلاد ... يلي الملك بعدي رجال قدم قال معاوية: يا عبيد فهل قال تبع في الهذليين، حيث كان منهما ما كان حين عاقبهم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال فيهم هذا الشعر الذي يقول فيه:

قد أتتني عصابة من هذيل ... آل لؤم ومن قبيل لئام زعموا أن بيت مكة بيت ... قد بنوه على كنوز عظام فهممنا بقلعه فأبى الله ... إذ هممنا بقلع بيت حرام يأمن الناس إن سألت وفيه ... تأمن الطير في وكور الحمام قال لي الحبر لا ترومن هذا ... ذاك مما يروم أولاد حام ثم يأتيهم من الله طير ... فترض الرؤوس رض العظام فرددت الذي أردت على القو ... م بقطع الأكف والأقدام ثم صلبتهم بصعر نكالا ... مثبت قد زبرت في الأحكام يحمد الله تبع إذ وقاه ... في ممر الشهور والأعوام وأراه في كل وجه ... إذ عراه ورده بسلام ثم أصفناه إنه البس البيت ... الذي أسسه الخليل المحامي ذاك بيت مطهر لقريش ... أوثروا بالنبي خير الأنام بنبي يجئ بعد زمان ... يمنع الناس خدمة الأصنام قال ذاك الأحبار أن قريشاً ... سوف تأتي بأفضل الإسلام تجدون اسم أحمد في كتا ... ب الله حقاً محرماً للحرام ومحلا لما طيب الله ... تروكا للآصر والآثام لو قضى الله ربنا إن أراه ... كنت منه بمنزل الإبهام ولظاهرته على كل من رام ... سفاهاً له يكل مرام ولذاك النبي منا حماة ... من يرامي عن دينه ويحامي معشراً وتروا بأحمد قدما ... ببلاد النخيل والآطام ينصبون الحروب للناس نصباً ... برماح وكل عضب حسام كلهم ناصر ومن نصر الح ... ق أضاءت له فجاج الظلام

قال معاوية: لله أبوك يا عبيد حدثني عجباً! فأنشدني الشعر الذي قاله تبع في كسوة البيت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال هذا الشعر، وأنشأ يقول: جددي الحيل لا تربى الوليدا ... وصليني ولا تخوني العهودا أن تجدي وصلنا أم عمرو ... ويكفي المتيم المعمودا فصليني تواصلي أريحيا ... أكرم الناس حين أنسب عودا لست بالفاحش القطيع وليست ... شيمتي أن أكون باغ حسودا الصق الخدن ذا الصفاء بودي ... وأرمي العدو حتى يقيدا وسلي عن مسيرنا إذ غزونا ... كيقباذ والترك والاكرودا يوم لا تعرف التجارة فينا ... ولنا الملك أن نقود الجنودا ورث الملك تبع وبنوه ... ورثه عن الحدود جدودا وسلى عن مسيرنا من ظفار ... بجموع نؤم غوراً بعيدا بجياد جنبتها بسمرقند ... عراياً قبَّ الأياطل قودا وعلينا سوابغ محكمات ... قد ورثنا أمامها داودا كل فضفاضة دلاص تثني ... أيهم القين قدرها المرودا وسيوف قواطع قد جلاها ... صانع كان قبل ذاك مجيدا وارتدينا بكل عضب حسام ... أحكم القين صنعه تجريدا ومعي للقاء تسعون ألفاً ... قوم حرب مسر بلون الحديدا وجعلنا للخيل خيلاً وللرج ... ل رجالاً وللقرود قرودا وجعلنا على المجنبة اليس ... رى صبوراً على اللقاء شديدا حسن الدين والتحرف والجي ... لة لا طائشاً ولا رعديدا

قد غشينا بخيلنا أرض مرو ... وقتلنا اليهود قتلاً عنيدا وزبرجا وقندهارا وميا ... ركدت فيهم السيوف ركودا وهزمنا جموع روم وترك ... ومن السند عفرنا الحدودا وإلى الصين سرت حولاً جديداً ... أقتل الكهل ثم أسبي الوليدا واستبحنا جميع ملك قباذ ... وجبيناه صاغراً مصفودا وتركنا جبال كرمان مما ... دعستها الجياد سهلاً صعيدا وقتلنا رجال فارس طرا ... ثم كنا عند اللقاء أسودا ثم بهران والهرمزان قتلنا ... قم ولى النصيب منا طريدا ثم من حمير أثرت وتيم ... ثم من يثرب قتلنا اليهودا فسبينا نساءه وبنيه ... والذي قد حوى فأمسى وحيدا ثم أخربت بالمشقر أرضا ... وآتاني بها النبيط وفودا واستبحنا البلاد من كل فج ... وملكنا العباد ملكاً حميدا جبيت نحونا البلاد يصغر ... لم يكن غزونا البلاد وحيدا وأمرنا الملوك حتى استذلوا ... فترى حولنا الملوك همودا ثم دسنا بالخيل أرض معد ... وجعلنا لها معداً عتيدا وتميم عليهم وهس الرم ... ل وتهدي إلى جيوشي القيودا وبني تغلب جعلت وبكراً ... لبناء المنار طيناً وشيدا وهذيل جعلت للبري والري ... ش وكانوا أقل حي عديدا وثقيفاً لدبغ أسقية الجي ... ش وصنع الحبال فتلا قعودا ثم ابنا نؤم قصداً سهيلا ... ورقمنا لواءنا المعقودا وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء مصعباً وبرودا ثم طفنا لديه عشراً وعشراً ... وخررنا عند المقام سجودا

وأقمنا به من الشهر سبعاً ... وجعلنا لبابه اقليدا وأمرنا بأسرة الجرهم ... ين ونواخرهم بحافتيه شهودا وأمرنا إلى بريق مساوكنا حين ... لونا ولا دماً مفصودا ونحرنا بالشعب تسعين ألفاً ... فترى الطير نحوهن ورودا وصفا ملكنا لنا غير أني ... لست أرجو مع الفناء خلودا كل ملك يفنى سوى ملك ربي ... فله ملكنا حميداً مجيدا خلق الخلق فاجراً وتقياً ... وشقياً بسعيه وسعيدا قاهراً قادراً يميت ويحيي ... خلق الخلق مبدياً ومعيدا حمير أكرم الأنام وقدماً ... سادة الماس حقنا أن نسود قال معاوية: يا عبيد أنشد شعراً غيره. قال: نعم يا أمير المؤمنين أنشأ تبع يمدح قومه ويقول: أيها الناس لست أعرف قوماً ... مثل قومي في سالف الأزمان نحن كنا إلى المآثر والمج ... د ورثنا العلاء من قحطان لم تزل حمير لها الفضل في النا ... س عطاء من واهب منان فهم سادة الملوك وكل النا ... س عبد لنا بسوق هوان لم نزل نملك البلاد بقهر ... وندوس البلاد بالفرسان يوم قدنا الخيول نحو معد ... من ظفار فجانبي غيمان وأثرنا الجيوش لنا بحقل أزال ... كشيبه الجراد أو دخان مائتا ألف فارس كل ألف ... في لواء مشهر الألوان

معهم مثلهم رجال مصا ... ليت ليوث يمشون في البلدان ثم قدمتهم سوى الألف ألفا ... كلهم ماهر بعطف عنان يسمع السامعون للأرض منهم ... هدة لا تزال في رجفان يتركون الفضاء ضيقاً بما فيه ... وما دونه من الغيطان ساقهم من بلادهم لبلاد ... غيرها أسعد أبو حسان ملك يبرم الأمور بحزم ... غير زميلة ولا متواني لم يزل يقدم الجيوش بخيل ... وعليها عديدهم للطعان كل قيل مملك حميري ... ليس بالمنثنى ولا بالجبان يشرع الرمح في نحور الأعادي ... ويروي القناة بعد السنان ويشق الصفوف في حومة المو ... ت إلى الموت والرماح دواني فوطئنا ما بين يثرب والشا ... م بكلب والجمع من غسان وسددنا ثغر الحجاز بازد ... الصقوا بالحجاز كل هوان وورثنا عمان قدما بازد ... غير هذا فتلك أزد عمان ثم وجهت ذارعين بجيش ... من قرى دامغ وأرض الهان ثم سرحت ذا الكلاع بخيل ... ورجال كالليل من همدان ثم قدمت ذا معاهر في الآس ... رة من مذحج ومن خولان ثم أردفتهم بيحصب طرا ... أو بذي فائش وذي بلجان ثم تبعتهم وسار لوائي ... لست أبغي سوى بني عدنان فرموهم بجحفل ذي زهاء ... طحنوهم بكلكل وجران تركوهم مع الضباع يلوذو ... ن من الخيل ثم بالكثبان فقضيت الأوطار ممن يلينا ... من تميم والحي من عيلان وأقمنا على ربيعة يوماً ... تذهل المرضعات عن ولدان ثم سرنا إلى اليمامة قد ضا ... ق بنا كل غائط ومكان

فقتلنا بها جديساً وطمساً ... وقصدنا بالمنبت الخيزران فأبرنا أهل المشقر قسراً ... ثم رمنا زريحاً مع ساسان وعركنا العراق عركاً شديداً ... فمحل الأولى من كرمان ودخلنا بخيلنا جبل البل ... خ إلى نحو شاطئ الخورجان فقتلنا ملوكهم واضطمينا ... بعد ذا بالحديد في الهرمزان ثم أخربت بعد ذاك سمرقند ... ثم من بعدها قرى أصبهان ثم حدثت أن بالصين ملكاً ... وكنوزاً من خالص العقيام وجبالاً من اللجين عتيقاً ... ثم دراً وعسجد المرجان فتوخيتها بعمروة أخي الي ... أس صبور اللقاء غير جبان فدعست البلاد بالخيل حيناً ... ثم وجهتها إلى خيزران فالتقينا العبيد بالخرج والما ... ل فأبعدتها بحي يماني وشفينا الصدور ثم قفلنا ... بعد أثرنا البلاد بعد زمان فطحنا يهود خبير حتى ... أصبحوا مثل دارس العلوان ثم سرنا نؤم مكة بالخي ... ل لنختار عالي البنيان فأبى الله فعل ذاك فطفنا ... بسبوع العتيق ذي الأركان وكسوناه خير ما كان يكسى ... وحمينا له من الأوثان وحبونا سكانه بعطاء ... وكتبنا لهم كتاب أمان وقضينا الذي أردنا وابنا ... وقصدنا نؤم نحو دلان وحمدنا الله الذي أحيانا ... ووقانا فوادح الحدثان لم تطب مهجتي ولم أراني ... نمت حتى اتكأت في غمدان

وفراشي على الأرائك خز ... ودمقس يعل بالأرجوان وشربت الرحيق صرفاً بمسك ... صافي اللون مترعاً في الدنان قال معاوية: لله أبوك يا عبيد، لقد حدثني عن حمير بالعجب ولقد كانوا في رفاهة عيش من دنياهم وأموال قد اوتوها! فاخبرني ما صنع تبع بعد هذا؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين: كان تبع إذا أراد أن يخرج في الغزو أو في سفر دعا أهل النجوم وأصحاب العلم والمعرفة فسألهم عن علمهم فيأخذ برأيهم فإذا أمروه أن يسير سار. فكان هو أيضاً يعرف النجوم. قال معاوية: يا عبيد فأنشدني ما قال في النجوم. قال: يا أمير المؤمنين قال هذه القصيدة: اضمحل الطلول من دار نحفا ... فرسوم الديار مثل السطور أقفرت بعد عامر وأنيس ... من مهاة ومن غزال غرير ناضر العيش في عمارة ملك ... ونعيم وبهجة وسرور طال ليلي لما تذكرت نحفا ... ودعاني الهوى نحو المسير فتململت في الفراش وأجمع ... ت مسيراً المصلتين صقور برجال إذا هم ركبوا الخي ... ل وساروا في الجحفل الجمهور تتهادى كأسد غاب عليها ... كل درع مسرد مشهور قلت لليلة التي طال فيها ... أرقي في قرى ظفار أنيري فكمشت الجموع كمشاً رحيباً ... وارتحلنا بصمة الاحمور ثم سرنا مسير صدق نؤم الج ... دي في سيرنا بيمن المسير ثم بالدبر إن دارت رحانا ... بالصناديد كالرحا المستدير ثم بالهقعة التقينا فكانت ... ليلة كرها لكل مغير ثم الهنعة ارتحلنا جميعاً ... وقتلنا الوزير بعد الأمير ثم سرنا وبالذراع نزلنا ... وظللنا بنعمة وحبور

ثم بالنثر شط مني نوى البع ... د فأغنيت كل بائس وفقير ثم بالطرف احتملنا وكنا ... آل ملك وثروة ونفير ثم بالنطح لم نزل ننطح النا ... س بقرن مذلق مطرور ثم بالدبران خربت أرضا ... من وعيدي وزجرتي ونقيري ثم بالصرفة ارتفعنا فكنا ... جبهة الرأس فوق عين النظير ثم بالعواء للأعادي نزلنا ... بقضاء الواحد الكبير القدير ثم سرنا مع السماك علينا ... كل فضفاضة كماء الغدير ثم بالغفر سرت بالخيل قدما ... بكماة وكل قرم جسور ثم بالكوكب الزباني معد ... أزمعت بالعواء بعد الهرير ثم صبحنا بالإكليل كل عدو ... واجتلينا مخيبات الخدور ثم بالقلب قلبت هام قوم ... بسيوف مذلقات ذكور صم سرنا وبالنعام نزلنا ... يوم رهج وصولة وهدير ثم بالبلدة اعترضت الأعادي ... بجموع وكان ذاك سروري وبسعد ذبحت أبناء سعد ... ووضعت المدى بها في النحور وبسعد السعود أسعد جدي ... فاستوى الملك واستقام سريري وبسعد اصطلمت كل عدو ... ووأدت الأحياء أهل القبور وبسعد الاخباء أخبيت أرضا ... بعد نهب وقتل قوم كثير ثم بالفرع مقدم الدلو حولي ... كل قرم متوج محبور ثم بالفرغ آخر الدلو صرنا ... بعد إيغالنا بخير المصير ثم بالحوت قد حويت الأعادي ... بالعناجيج والسيوف الذكور ثم بالسرطان صاحت معد ... من جموعي إلى العلي الكبير ووطئنا بالبطن أرض معد ... بالعناجيج نعتلي بالزعور ورجعنا إلى الثريا فسرنا ... يوم نقع وظلمة ديجور

اجعل الفرقدين والجدي يمنى ... حيث دارت بنا نعش ندور لا أبالي النسرين حيث استقلا ... وسهيلا إذا أجد مسيري ثم أممت زهرة الردف قصداً ... لمقامي ونعمتي وحبوري إنما طيرة النجوم لغيري ... ولنا يمنها بلا تطيير وفعلنا فعالنا إذ فعلنا ... واستبنا الأمور بعد الأمور ثم نادوا أن اركبوا فركبنا ... كل شقراء زينة في الهجير فإذا البأس راح عنا فانا ... آل ملك ونعمة وحبور وقيان يرفلن في مخمل الخز ... وطوراً مظهرات الحرير فانظري في فعالنا أم عمرو ... ليس هذا والأعمى مثل البصير هل ثنيت البلاد من بعد طي ... وطويت البلاد صي الحرير وانظري في البلاد هل مثل ملكي ... وسلي الناس عن نعالي وسيري خبري عن فعالنا أم عمرو ... تجدي علم ذاك عند الخبير تعلمي أننا عصارة ملك ... حبذا طيب عودنا المعصور نفرغ اللحم للضيوف وشحما ... في جفان سرية وقدور ليس مثل الذي تعلل بالحنظل ... من جوعه واكل الفطير اصيحيني وعلليني براح ... أم عمرو فلست بالمجبور يفزع الخلق ثم يرعد مني ... وأنا الغيث في البلاد المطير قد كتبنا مسانداً في ظفار ... وكتبنا أيامنا في الزبور وذكرت الذي يكون لحيني ... أن ملكي للباقي المنصور قال معاوية: فهل قال تبع الأوسط في شعره شيئاً يذكر فيه ما وطئ من البلدان؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: تبع ملكي كرب يذكر

مسيره وما وطئه من البلدان، وأنشأ يقول: أم عمرو فعجلي لي بزاد ... قد بدا لي من الحوادث بادي أيها الناس رأينا رأي حق ... ومن الرأي سيرنا في البلاد بالعوالي وبالعناجيج نمشي ... بالبطاريق مشية القواد وبجيش عرمرم حميري ... جحفل يستجيب صوت المنادي شهر البلق جانبيه ويزهو ... من ذراها إلينا مثل السوادي ألف الف كمثل ذاك وخلفي ... موكب فاعلمي شديد المقاد وإذا سرت سارت الشمس خلفي ... ومعي في الجبال في كل واد ومعي حمير وحمير قومي ... آل مجد ونجدة وجلاد لا يرون العدو إلا فسادا ... وكراماً ليسوا بأهل فساد فطويت البلاد طية برد ... وثنيت القفار ثني الوساد وملكنا ما بين أبين والرس ... وزادت به الجيوش مزاد ليس للناس في المكارم حظ ... غيرنا إننا بنو الانجاد ما تركنا للناس في الأرض مالا ... لم نصبه من طرف وتلاد أو رئيس يرى يقود إلينا ... خيله لم يبت لنا في صفاد أو رأينا ناراً تشب علينا ... لم تعد نارها إلى إخماد أو حشدنا خيلا لا هلاك قوم ... لم ندعها شداً بلا ايعاد أو آتانا من البلاد وعيد ... لم نزل فوق ذاك في الميعاد أو رمانا العدو إلا رمينا ... هـ بمشحوذة صلاب شداد أو سما للعلاء إلا سمونا ... نحو بيت لنا طويل العماد أو أراد الكبار إلا كبرنا ... من أراد الكبار يوم الحساد

أو دعا للنهاب إلا دعونا ... آل خطب يأتون كالرواد قد شككنا الخيول ما بين نجرا ... ن إلى يحصب فارض مراد علم الله قد صدقت واني ... لمصيب في كثرة التعداد ولقد سرت بالمساعدة الغر ... ببيض مأثورة وصعاد ورجال من المقاول تردى ... فوق جرد من الخيول جياد جمع قحطان في السنور يعدو ... ومعداً جعلتها لو ساد حمير معشري وحيدان قومي ... وهم سلوتي وجمع مرداد كندة الخير عن يمين مسيري ... بالسكون السكاسك الأنجاد والبهاليل مذحج مسترادي ... أحلس الخيل في عراص البلاد ومعي من بجلة الغر قوم ... يحسنون الطعان يوم الجلاد وأسود من خثعم غير ميل ... لا ولا عزل ولا أنكاد فهم اسرتي وعز رجالي ... وهم مفخري وذكر مقادي وتوافت إلى همدان تمشي ... مستعدين مثل رجل الجراد وتناهت إلي طي مع الاز ... د وعبس والحي حي إياد وبنو الحارث الأسود إذا ما ... ركبوا الخيل كان يوم جلاد وزبيد والأشعرون وخولا ... ن وعنز توافي جماعة الحساد وأتت مذحج من الحزن والسه ... ل أبحنا بمذحج كل وادي فتهاب الليوث حين تراهم ... خلقوا في الكمال خلقة عاد وإذا ما رأيت حمير خلفي ... وأمامي فذاك يوم الحصاد ثم أيقن بأن قومي كرام ... آل بأس وهم سمام الأعادي وجدد يرون بالرياسة والم ... لك وقتل العداة يوم التعادي

ثم خل الطريق عنك وأيقن ... إنه ليس ذاك يوم شهاد فهم ينزلون للطعن والضر ... ب إذا كان ذاك حين الوراد قد بدا لي الغداة أنعت خيلا ... تتعادى بالصيد أي تعادي فأبيد اللثام آل معد ... أي وأشفى غليل آل إياد وعنيد في الدهر قدماً معد ... ولنا العز في جميع البلاد وكذا كان من مضى من معد ... من أبينا وسالف الأجداد ثم سيري أريك منا جلاداً ... ترعد الناس وقعة في الأعادي واريك الليوث يا أم عمرو ... المصاليت كل وارى الزناد واريك الفياقي الغير فيها ... من سيول الدما كصب المزاد وأريك النواعم البيض تمشي ... بين قومي كمشي غير تهادي أم عمرو فلو شهدت انتقالي ... كل حي من حاضرين وبادي أم عمرو فلو شهدت جلادي ... واحتزاز الأعناق في كل وادي لعرفت الكرام يا أم عمرو ... ونسيت اللثام آل الفساد وجعلنا النبيط لحماً عيطا ... وطحنا الأعداء طحن الحراد سأئلي الترك والصقالب والزنج ... وأهل القريض كيف اجتنادي وسلي عن ثمود في أرض حجر ... تستبيني أمراً لكل العباد وسلي آل حام السود عنا ... ثم أولاد يافث والرفاد وسلي ععن أخي التجارب والبأ ... س رؤوساً فسائليها تنادي سلي النبط والقرايات عنا ... قد حكمنا في أهلها بالسداد قومنا حمير المقاديم في الحر ... ب فزوع الأيام يوم التنادي قال معاوية: ما فيهم أبغى ولا أظلم من هذا في قوله؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين كذلك كان في عنف بغيه وجبروته في زمانه وزاد ما وطئ من

البلاد من آثار آبائه وأجداده وما انتهى من مسيرهم قوة في نفسه وجبروته. قال معاوية: لله أبوك أنشدني شعراً من شعره. قال: نعم يا أمير المؤمنين - وأنشأ هو يقول: انعم صباحاً أسعد الكامل ... يا ناقاً بالثأر والتابل أثنى على الله بآلائه ... الواحد المقتدر الفاضل في كل ما أولاك من نعمة ... وكل ما أعطاك من آجل في العام أعطاك الذي تبتغي ... ثم يزيد الضعف في قابل سرنا إلى الأعداء في أرضنا ... لم نك نرجو قفل القافل في جحفل كالليل من حمير ... قد حضروا بالاسل الذابل ومثلهم أعددت لي موكباً ... مستوسقا مثل الدبا السائل ومثلهم يقدمنا في الوغى ... إذا دعا النازل بالنازل كم فيهم من بطل معلم ... من كل ذي ترس وذي نابل وقد ضاقت الأرض بسرعانها ... من فارس نهد ومن راجل ما يفقد الغائب من جيشنا ... وعندنا الغائب كالآهل يا أيها السائل عن خيلنا ... عيت عن المخبر والسائل تسعون ألفاً عدداً بلقها ... ودهمها كالعارض الوابل والكمت والجرد تعادي بنا ... بكل قرم بطل صائل الطاعن الطعنة يوم الوغى ... يقصم فيها مفصل الكاهل فحميري قومي وهم معشري ... أهل الندى والحسب الفاضل هم معشري حقاً وهم أسرتي ... أهل القرى المستحشد العاجل ما فيهم عند اشتباك القنا ... في الروع من نكس ولا خاذل بل قد يرومون لأعدائهم ... حتفهم في الموكب الهائل سائل معداً عندها علمنا ... فليس من يعلم كالجاهل

ألم نكن يوم لقيناهم ... نقتلهم بالحق والباطل حتى رفعنا السيف عن قتلهم ... وهم كنبت البلد الماحل لم ندع في الأرض من أقطارها ... من شائع الذكر ولا خامل إلا أذقناه بها حتفه ... حتف ثمود كان في العاجل تراهم صرعى بمبسوطة ... من بين منكب ومن زائل لم يجدوا من جتفهم مهرباً ... إذ يتقي المقتول بالقاتل وكانوا عناديد فمن هارب ... ومن قتيل مقعس مائل ومن صريع بين أرماحنا ... مجندل ذي فرس جائل ومن أسير مصمت قلبه ... ومن جريح ذي جوى داخل مكت بأعلى خندف تركها ... وأفرغت ذلا على وائل واستنزلت قيساً وأحلافها ... حتى التقى العالي على السافل ما برحت قيس لنا طعمة ... نأكلهم بالناب والراول حتى استجالت خيلنا ... والتوت=تطلب ذحلا في بني باسل في جبل الديلم ثم انثنت ... بالجد والحزم على كابل ومن سجستان فما دونها ... فساحة القفر إلى بابل ومن قرى الشام فما حولها ... في أرض مصر فإلى الساحل والروم قد أدت لنا خرجها ... من قبل أن يأتيهم عامل والهند قد صبحهم جيشنا ... بكل نهد ساخط صاهل وكانت السغد لنا موعداً ... والخيل تعدى في قرى كابل بجمع قحطان وأتباعهم ... ما فيهم من عاجز خاذل كم نكحوا كم ذات بعل بلا ... مهر ومن بكر ومن حامل

تزويج فهو غير ذي طاعة ... قول صدوق قائل فاعل ومن نكاح رشدة نلبنا ... للغازي المجتاز والقافل والذهب الأحمر يجي لنا ... إلى ظفار الملك والماجل والمسك والانجوج يهدي لنا ... والدر في أصدافه الذابل فكل أهل الأرض عبد لنا ... لا شك من حاف ومن ناعل إن الذي نالته أرماحنا ... زاد على وصفك للقائل ما تبع إن قلت ما تبع ... إن نصح المسئول للسائل هو الذي ينكى أعداءه ... فكلهم في نصب شاغل ومن يقول الناس أن أمحلوا ... عليكم بالملك الفاضل النافع الضائر والمرتجى ... للخير والمنعم للواصل نال الذي نال بإيمانه ... فليس بالنكس ولا الجاهل قال معاوية: لله أنت يا عبيد! فأين قول تبع الذي قال على الباء: أرقت وما ذاك بي من طرب ... ولكن تذكر ما قد ذهب قال عبيد: يا أمير المؤمنين إنك لتكلفني أقوال أقوام قد ذهبوا، كانوا ملوكاً فإذا قالوا صغروا غيرهم لقدرتهم وعظمتهم. قال معاوية: يا عبيد قد غاب ذلك عنا فقل فما جرانا لذلك أن تكن حمير ملكت كما ذكرت فقد أورثنا الله ذلك من ملكهم فهو لنا اليوم وقد انتزعه الله بنبيه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو منا فنحن أسرته وخير الناس بعده، ولولاه لم نكن شيئاً وجعل حميراً لنا، والحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وأورثنا أرض

أعدائه الجبابرة العتاة فقل غير متق شيئاً ولا سائب أحداً فأنت في ذمتي وجواري والله لك علي بذلك شاهد. قال عبيد: يا أمير المؤمنين، ثم أقبل تبع بن ملكي كرب في جموع حمير من اليمن ومعهم عيالهم وأولادهم حتى وقفوا بأرض العراق للذي بلغه من رفاهية عيشها وكثرة خيرها يريد الأعاجم وملكها قباذ. وإن تبعاً سار حتى نزل موضع الحيرة اليوم، فعسكر بجموعه بالحيرة إلى الكوفة مما يلي شط الفرات قبل أن تكون الحيرة والكوفة. قال معاوية: الحيرة قبل الكوفة؟ قال عبيد: وقبل البصرة بزمان، والكوفة قبل البصرة بزمان طويل. قال معاوية: خذ في حديثك عن تبع. قال عبيد: بلغ الأعاجم جمع تبع فاجتمعوا إلى ملكهم قباذ ببابل - ولم يكن تبع يدرك تلك القبائل - فاجمعوا على الحرب، فبعث تبع ابن أخيه شمر ذا الجناح على مقدمة الجيوش وجرد معه الخيول وأمره أن يجد في الطلب حتى يلقى قباذ وأصحابه وجموعه. ورحل تبع في الأثر مجداً في الطلب فتحير في صحراء الحيرة ثم نظر تبع فإذا هو غير بعيد من مكانه الذي رحل منه قال تبع: إن لهذا المكان نبأ عظيم فخلف العيال وذوي الزمانة والضعفاء والأثقال وخلف معهم عشرة آلاف فارس تحفظهم وسماها تبع (الحيرة) للذي كان من تحيره فيها ومضى تبع حتى واقع قباذ وجموعه ببابل فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم قباذ وجنوده حتى أتى الري فاتبعه شمر ذا الجناح بالري، وقد جمع بها من عسكره جموعاً كثيرة ليقاتلهم بها - فواقعه شمر ذو الجناح فقتل قباذ بالري وفض جموعه بها وأقبل تبع حتى نزل الحيرة بعد هزمه قباذ

ببابل فخلف بها من أحب أن يخلف مما جرى عليه من الأعاجم، وسار على وجهه ذلك إلى خراسان، وفي ذلك يقول الشعر الذي قال على الباء. قال معاوية: فاسمعني قوله؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فأنشد عبيد عند ذلك: أرقت وما ذاك بي من طرب ... ولكن تذكر ما قد ذهب تذكر ما أفت مما مضى ... وهل يطرب الثائر المغتصب وأمر هممت بإمضائه ... إذا الهم خالطني والنصب وأوتيت ملكاً من الله هاج ... فطم على خلقه والتهب حباني به الله من عنده ... ولم به صدعنا والشعب نعم البلاد ونغشى النجاد ... عزيزي المعادة والمنقلب نهد الحصون ونعلو الحزون ... ونبكي العيون بكاء الحرب فدان به الناس طر لنا ... وقد خاب من جاءني بالكذب توارث ذلك آباؤنا ... قديم الزمان أبا بعد أب لقد رمت أمراً فأمضيته ... ومثلي إذا رام أمراً صلب أعالج أمراً لإمضائه ... وذو العز همي وذاكم أرب وخبرت بالصين لي بغية ... ثياب الحرير وكنز الذهب فسرت إليهم بجيش لهام ... شديد الزهاء كثير اللجب بأبناء قحطان من حمير ... بهاليل اسد صميم الحسب بأبطال قومي شم الأنوف ... كرام الجدود السراة النجب غزوت الأعاجم في أرضها ... فأعطوا القياد وخلوا السلب ولما هبطنا بلاد السواد ... وفر قباذ سريع الهرب فاتبعته شمراً ذا الجناح ... فسار حثيثاً سريع الطلب

فكان ببابل يوم لهم ... طويل العناء شديد الكلب فلما انتهوا عند غيبوبة ... من الشمس كفوا وقل الصخب فيسقون سماً ويسقونه ... بأسياف صدق كمثل الشهب قفر قباذ وأشياعه ... وكان العزيز بها من غلب وأضحوا كأن لم يكونوا بها ... كذاك الزمان إذا ما انقلب وطاروا ومروا أقاضي البلاد ... فزالت همومي وولت كرب سبقنا البرية في غزونا ... بحمل المزاد ونوط القرب ولبس الدروع وقود الجياد ... إذا ما قضينا قضاء وجب فدانت معد لنا عنوة ... وكلهم ما لهم من حسب فمنهم رعاء لأموالنا ... عليهم خراج لنا مغتصب نميراً جعلت لحوك البرود ... وحل النعال ووضع اليلب خزيمة كان عليها الدباغ ... وقد السيور وفتل السلب تميماً جعلت لبري القداح ... وشحذ النصال ورصف القصب وقيساً وضعت بأرض الحجاز ... لنسج العباء وخرز القرب هذيلاً جعلت لنحت البرام ... وكانت كنانة فيها القتب جعلت الرباب لحفر البئار ... وميح الدلاء عليها الكرب سليماً جعلت لسقي الحجيج ... كذاك اليماني إذا ما غضب جعلت ربيعة تهدي الطريق ... مناراً على القصد حيث الشعب وازداً تركت بأرض عمان ... ليوث المغازي كرام الحسب إرادة أن يسكنون بها ... وإن يقتلون بها من نصب ومنهم جعلت بأرض الحجاز ... لمن شذ من أهلها أو هرب قضاعة منا إذا ينسبون ... وفي غيرنا الدار والمغترب وحيدان منا وهم معشري ... إذا ما غضبنا أجدوا الغضب

وخولان سحمانها والذراع ... يشبون إيقادها باللهب لعمرو أبيهم عقيد اللواء ... إذا رام داهية لم يهب يشدون بنيان من قد بنى ... على شرف وهو فيهم ذنب لهم صولة لا يرى مثلها ... إذا ما نأت وإذا تقترب فمنا السكاسك ثم ثم السكون ... وهمدان منال وطئ العصب ومنا بجيلة والأشعرون ... ومنا المعافر أهل النجب وجمع العشيرة في صفنا ... ومذحج طرأ عليها اليلب وفي صفنا الأزد أخواننا ... كرام الجدود طيال القضب ومنا الخياصم ما يتثنون ... جذام ولحم وفينا الخطب كرام المغافر والدارعين ... ففيها العديد وفيها الندب نعد من الأزد أخواننا ... كراماً ليوثاً كمثل الشهب وفي صفنا حمير كلها ... عليهم جواشنهم والزعب وحمير أرباب أهل البلاد ... وسائل بذلك تنبأ العجب ومنا المقاول من حضرموت ... كرام نعد بهم من خلب ففي رأس قحطان من ما مضى ... وفي فرع حيدان لي منتخب أولئك قوم سموا للعلى ... وحمل السلاح وفضل الحسب وما منهم كان إلا فتى ... إذا رام داهية لم يهب نعد بطوناً بأسمائها ... وننسى قبائل كانت ذنب لها كاهل مشرف رأسه ... علي المرام رفيع الرتب فمن ذا من الناس لم نكبه ... وأخطأه بالقتل يلقى الحرب قتلنا القبائل في أرضها ... قتلنا فزارة شر العرب وفارس والروم تجبي لنا ... وفي الصين جيش لنا ذو سلب

وديلم والترك تجبي لنا ... وكلهم ذاعن مغتصب وبربر والزج والاحبشون ... فكلهم عندنا في تعب لنا الهند والسند والاريسون ... وأهل الشروق وأهل الغرب وخاقان ألجمته كالحمار ... واقتبته صاغراً بالقتب فأذعن إذ ذاك تحت الوكاف ... وسمح في ذله بالجنب فألبسته خشنات المسو ... ح بعد الحرير وخز القصب وملحان كالبغل أسرجته ... وغيبته عانياً باللبب ونفير أوثقته بالحديد ... وأدخلته صاغراً بالشرب ورستم وسابور والهرمزان ... بشر نكال وأقوى نصب نعذب أرواحهم بالحريق ... ونطليهم بدواء الجرب وأضحوا جميعاً بضر لدي ... وكانوا مجوساً ورغلا سرب جبوت المجوس وأجناسها ... لخدمة قومي وأهل النصب وقد كان للروم يوم عصيب ... طويل العناء شديد التعب وعذبت قنطورة بالسياط ... وأسعته السم فيه النصب وآزرته بازار الصغار ... وكلفته ثم حمل الحطب وذاق النجاشي من وقعها ... عذاب ثمود كذاك العقب صنيع أبي كرب الحميري ... يقول بحق وما إن كذب فدع ذا ولكن لما يذكروا ... ن من صنع جالوت في المنتخب فزلت بجالوت ثم النعال ... وخلى بلاد ولاة الكتب فدانوا ودنا لما يذكرون ... قرأنا الكتاب وزدنا النسب لطول الحصار غرستا النخيل ... وحتى أكلنا جناه الرطب وأهل المواشي من بعدهم ... سيعطون ملكاً طويل الغلب ويأتي على الناس من بعدهم ... زمان عصيب كثير الشغب

يكونون في غمرات العمى ... فيأتيهم رجل منتخب فيهديهم لسبيل الهدى ... ويكسر أصنامهم والصلب فو مد دهري إلى دهره ... لكنت نسيباً له في النسب ويأتي على الناس من بعده ... ولاة يضيمون من لم يرب وهم يملكون جميع البلاد ... لسفك دمائهم والحرب وقد قيل أملكهم راهب ... فاني لأعجب كل العجب لأمر يجيء على معشري ... يرى في جمادين أو في رجب ويملك من بعدهم ذو التقى ... وأهل القضاء وأهل الحسب هم الراشدون وأهل الهدى ... أبوهم أخو صالح المنتخب ويأتي على الناس من بعدهم ... زمان كما قال أهل الكتب تمنى العجوز لأولادها ... فراق الحياة وترك النصب وبالشط أجبه من قومنا ... ويستغضب الملك منهم حقب هو القرم في الأرض مستفتحاً ... يكون له الملك بعد الاربعاء هو الخلف من بعدي المرتجي ... لفض الجموع وجمع العصب علينا اليلامق والسابغات ... سلبنا الملوك وما نستلب لنا ملكنا اليوم نقضي به ... ونحكم في ما لنا ما نحب نجيز الأمور بسلطاننا ... لنبلغ ملكاً به مغتصب قال معاوية: ويحك يا عبيد من يعني بهذا البيت الذي يغتصب الملك؟ قال: يعني رجلاً من ولد قحطان يسمى القحطاني اسمه على ثلاثة أحرف تجمع له الأرض يدعو إلى الله وذلك عند انقضاء ملك قريش. قال معاوية: قال ملكها ليغرب قبل انقضاء الساعة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا اختلفت قريش بينها لم يكن شيء حتى يخرج بعدها عيسى بن مريم يطهر

الحرمين، فعند ذلك يخرج الرجل من ولد قحطان. قال معاوية: خذ في حديثك الأول عن تبع الأوسط أبي كرب وهو اسعد الكامل، واسمعني من بعض أشعاره ما حضرك. قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال تبع هذا الشعر الذي يقول فيه: جلبنا الكتائب من منكث ... فجنبني أزال إلى الواعره كتائب كالليل من حمير ... بأيديهم القضب الباترة سرابيلهم كل فضاضة ... دلاص مساميرها ظاهره آتاني بأن معداً تقول ... حمير شرذمة غادره وأسعد يثأر في عصبة ... عوائر ليست لها ثائره فلما آتاني كلام العبيد ... أثرت لهم عصبة ثائره نصبت الحروب فقاسيتها ... ولم أور للخطة الخاسره فسرت بجيش له أزمل ... يخط به البدو والحاضره بأبناء قحطان من حمير ... على كل سلهبة ضامره ففرت ميم وأشياعها ... ومن باليمامة من غاضره وفرت نمير ومن نمرت ... وكانت قشير هي القاشره وفارت يسعد قدور لنا ... بأمثالهم لم تزل فاثره وعاجلت عجلاً لدى دارها ... بصاعقة فيهم بائره صبحنا حنيفة ملمومة ... فأمست جدودهم عاثره وكرت هذيل إلى أرضها ... وكانت لهم كرة خاسره وفرت ثقيف وأحلافها ... فرقت ثقيف بنا الفاقره وجاءت كنانة تبغي الأمان ... هنالك عانية صاغره تركت ديار بني كاهل ... يبابا معطلة دامره

وقائع من مضر تسعة ... وفي غيرهم كانت العاشره فلما عطفتني لهم رحمة ... ولا أصرتني لهم آصره فكيف رأوا حمير أهل حمت ... لما قالت الفئة الفاخره حمت عز قحطان من أن يضام ... وكانت لمن رامها قاهره بخيل تكردس بالدارعين ... وشبه الوعول على الظامره قال معاوية: أحسنت يا عبيد. فهات أنشدني الشعر الذي قال في الزهد. قال: نعم يا أمير المؤمنين قد كان تبع حين نظر إلى البيت الحرام وعرف فضله ما ذكر له الحبران أن لله تعالى وتبارك نبياً من قريش وقع ذلك في قلبه وترك عبادة الأصنام فكان فيما قال هذا الشعر الذي يقول فيه زهداً: أنيبوا للذي وضع الكتابا ... وسوى دونه سبعاً صلابا فسواهن سبعاً مشرفات ... عظاماً حين تنظرها رعابا وزين هذه الدنيا نجوماً ... تناثر عند مغربها انصيابا مصابيحاً يضئن بكل أفق ... هدى للناس تنسرب انسرابا علوت فليس فوقك رب شيء ... وما شيء يدانيك اقترابا علمت الغيب والأسرار منا ... وتعلم من أساء ومن أنابا نصبت بقدرة حرساً علينا ... ليحصو ما نجيء به كتابا يرون بما نجئ ولا نراهم ... ولا ذكراً نحس ولا خطابا نموت ونترك الدنيا لقوم ... ونصبح بعد جدتنا ترابا فيبعثنا وقد كنا رميماً ... فيخلقنا وقد نخرت صلابا وينشرها فيكسوها لحوماً ... ويبعثنا كما كنا شبابا أعد الله للكفار ناراً ... أحاط بهم سرادقها عذابا

إذا القوا مع القرناء عجوا ... وقد ذاقوا المذلة والتبابا واعرض دونها حرس شداد ... بعيد رحمهم خلقوا غضايا بأيديهم مقامع من حديد ... بحر النار تضطرب اضطرابا إذا قرنوا الشقي وصار فيها ... علوه بالمقامع ثم غابا وصبوا فوق رؤوسهم جميعاً ... وأسقوهم وكان لهم شرابا ألم تعلم بأن الله ينشي ... سحاباً ثم يردفه سحابا قال معاوية: لله درك يا عبيد انك لتحدثني عجباً ما شفاني عنهم وعن أخبارهم وما كان منهم أحد غيرك. فاخبرني عن قتل أسعد الكامل؟ كيف كان ولم قتله قومه؟ قال عبيد: يا أمير المؤمنين إن قوم تبع لما هموا بقتله - وكان سبب ذلك أن حبرين من اليهود من اليمن دخلا عليه فأحب أمرهما وما هما عليه ورأى أن الذي هما عليه أفضل فآمن بالله وصدق بنبيه موسى بن عمران - عليه السلام - وما انزل الله من التوراة. فأمر الحبرين أن يدعوا إلى دينهما في لطف ورفق ففعلا ما أمرهما. فلما رأت ذلك حمير خرجوا إلى نبع فقالوا: لأهلكتنا بالغزو فصبرنا لذلك فأما على ديننا وما كان عليه آباؤنا فلا نصبر لك، فقد فرقتنا في البلدان فأتعبتنا فاقتل عنا هذين الحبرين. قال: معاذ الله أن أقتلهما وهما مني في ذمة فعليكم بهما فكلموهما وحاكموهما إلى من شئتم. فأجمع رأيهم أن يحاكموهما إلى النار في اليمن - يقال أنها كانت بصنعاء - فانطلقوا حتى أتوا النار فنحروا عليها الجزر وقربوا القربان، ثم تقرب الحبران فلم يزالا يقرآن كتاب الله من التوراة حتى خرجت لهما فمضيا فيها حتى جاوزا ودعا تبع سادة أهل اليمن فاجتمعوا وأرسلت النار نحوهم فأحرقتهم ونجا الحبران وأمرا النار أن تطفأ فطفأت. قال: فثارت عليه حمير وأرادوا قتله فقال: لا تعجلوا علي حتى أوصيكم وأوصي ابني حسان. فقال طائفة منهم اقتلوه، وقالت طائفة

منهم: مهلاً مهلا فإن في هلكه هلاككم، ولكن اسمعوا منه يتم لكم عزكم فإن عنده علماً. قال تبع: أما إذا كنتم قد اجتمعتم على قتلي فادفنوني قائماً ليتم لكم عزكم ولا يخرج منكم ملككم، ثم دعا ابنه حسان فأوصاه أن يأتي جبلاً باليمن إذا هو ملك، ثم ينظر من يأتيه من ذلك الجبل فيأكل ما أطعم ويشرب ما سقى ويفعل ما أمر. ثم وثبوا على تبع فقتلوه فأرادوا أن يدفنوه قائماً فلم يستقر لهم ومكثوا يعالجون ذلك منه حتى ملوا وضجروا وقالوا: أشقيتنا حياً وميتاً وندموا على قتله، فدفنوه مضطجعاً، ثم ولوا أمرهم حسان بن تبع - وكان ملك تبع ثلاثمائة سنة وعشرين سنة - فلما أراد حسان الخروج إلى الجبل الذي أمره أبوه تبع استخلف آخاه معد يكرب وانطلق حتى أتى الجبل والموضع فلقيته امرأة فرحبت به وقالت: اقعد، فلما أراد القعود إذ هو بدود كثير على فراشه ووساده فأبى أن يقعد، ثم قدمت إليه رؤوس الناس وقالت: كل من هذا فأبى أن يأكل وقال: أقعدتيني وأطعمتيني رؤوس الناس لا حاجة لي في هذا. قالت له: ويحك ما أبعد حظك من حظ أبيك وما أقل ما تملك قومك؟ إذا ما عصيتني فاشرب ما في هذا الإناء فإذا فيه دم فقال: لا حاجة لي في هذا قالت: هذا الذي أوصاك به أبوك وإن الأمر الذي كان يعمل به أبوك من عندنا أصابه، فأما إذا لم يكن لك نصيب مثل نصيب أبيك فاقتل من أمرك بقتل أبيك وبقاؤك في قومك قليل، ثم رجع فسألته أمه لما ذهب له فقال لها: صنع لي هكذا وقيل لي هكذا! فقالت: لو أنك جلست على الدود لاستوطأت الملك ومد لك في العمر ولو أكلت الرؤوس دانت لك حمير وذلت لك العرب وأهرقت دماء أهل الأرض. قال معاوية: لله أبوك يا عبيد، ثم صنع حسان ماذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، أقام حسان بحمير زماناً لا يغزو بهم، حتى طمع في ملكهم ناس

من أهل اليمن وجرهم - وكان باليمامة حيان يقال لهما طسم وجديس وهما ابنا لاوذ بن ارم بن سام بن نوح، وهما من العرب العادية، وكان منزلهما باليمامة، وكان اسمها يومئذ جو القرية بنفسها - قال: وكان طسم ظلوماً غشوماً لا ينهاه شيء عن هواه مع أضراره بجديس وتعديه عليهم وقهره إياهم وإذلاله لهم، فثبت في ذلك عصراً من دهره وقد غير عليهم النعمة وانتهك الحرمة - وكانت بلادهم أفضل البلاد وأهناها وأكثرها خيراً وأقربها مسيراً - ولهم أصناف الثمار من النخيل والأعناب في دار أنيقة وقصور مصطفة، فلم يزل ملكهم على ذلك حتى أتته امرأة من جديس وزوج لها قد كان فارقها فأراد قبض ولده منها فأبت عليه حتى دار بينهما كلام، فارتفعا إلى الملك عمليق - وكان اسم المرأة هزيلة واسم زوجها قاشراً - فلما وقفا بين يدي الملك سألهما عن حججهما فقالت له هزيلة: أيها الملك إني امرأة حملته تسعاً وأرضعته سبعاً، ولم أر منه نفعاً حتى إذا تمت أوصاله واستوى وصله أراد أن يأخذ كرهاً ويتركني ورهاء. قال زوجها: أخذت المهر كاملاً ولم أصب منها طائلاً إلا وليداً جاهلاً فافعل ما كنت فاعلاً. قال: فأمر الملك بالغلام أن يقبض منها وإن يجعل في غلمانه وقال لهزيلة: أبغيه ولداً ولا تنكحي أحداً؟ قال هزيلة: أما النكاح فبالمهر وأما السفاح بالقهر وما لي فيها من أمر! فأمر عمليق عند ذلك أن تباع هزيلة وزوجها ويرد على زوجها خمس ثمنها ويسترق ويرد على هزيلة عشر ثمن زوجها ويسترق. فقالت هزيلة في ذلك هذا الشعر وهي تقول: أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فابرم حكماً في هزيلة ظالما لعمري لقد حكمت لا متورعاً ... ولا كنت فيما يبرم الحكم عالما ندمت ولم أندم واني لغرة ... وأصبح بعلي في الحكومة نادما

فلما بلغ قيلها عمليقاً أمر أن لا تتزوج بكر من جديس حتى يبدأ بها فيفترعها قبل أن يتصل بها زوجها. قال: فأصاب القوم من ذلك ذل ذليل فلم يزل ذلك الملك يفعل بهم حتى تزوجت امرأة منهم - يقال لها عفيرة ابنة عفار الجديسية أخت الأسود بن عفار - فلما كانت الليلة التي يهدي بها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق ليبدأ بها قبل زوجها ومعها القيان يغنين وهن يقلن: أبدي بعملاق وقومي فاركبي ... وبادري الصبح لأمر معجب فسوف تلقين الذي لم تطلبي ... وما لبكر عنده من مهرب قال: فدخلت العفيرة على عملاق فافترعها وخلى سبيلها وخرجت إلى قومها شاقة ثيابها ودرعها عن دبرها وهي تقول في ذلك: لا معشر أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس لكل قرن أشوس عبوس ... عدمتكم يا سقط النفوس ثم قالت لقومها ويحكم أيرضى بهذا الحر من رجالكم وقد أعطى هذا المهر كاملاً والله ليأخذه أهون عليه من أن يفعل هكذا بعرسه وأنشأت العفيرة ابنة عفار تحرض قومها وتذكر ما فعل بهم العملاق وهي تحثهم على الحرب. أتصبح تمشي في الدماء فتأتيكم ... صبيحة زفت في النساء إلى البعل فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغبوا من الكحل وهادونكم طيب العروس فأنتم ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل فلو أننا كنا رجالاً وأنتم ... نساء لما كنا نقر على الذل فسعداً وسحقاً للذي ليس ناكفاً ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل

فموتوا كراماً أو أميتوا عدوكم ... بضرب تلظى كالظرام من الجزل وإلا فخلوا بطنها وتحملوا ... إلى بلد قفز وهزل من الهزل ولا تجزعوا يا قوم للحرب إنما ... يقوم رجال للمعالي على رجل فيهلك فيها كل وغد موكل ... ويسلم فيها ذو النجادة والفضل قال: فلما سمعت جديس قولها استحقموا غضباً وتلضوا كلباً فقام الأسود ابن العفار - وكان فيهم سيداً مطاعاً - فقال: يا معشر جديس أطيعوني فيما أمرتكم وأدعوكم إليه فانه عزكم الدهر وذهاب الذل عنكم. قالوا وما ذاك؟ قال: والله لتطيعوني أو لأتكين على سيفي هذا حتى يخرج من صلبي. قالوا: لك الطاعة علينا فما ذلك؟ قال: إني صانع للملك وقومه طعاماً، ثم أدعوه إليه فإذا هم أقبلوا يرفلون في حللهم نهضنا إليهم بأسيافنا، ثم أخذ كل رجل منكم جليسه فضربه بسيفه. قالت العفيرة: لا تعذرون يا أخي وباد القوم في ديارهم تظفروا وتقدروا، فأبوا أن يطيعوها. فقالت العفيرة في ذلك شعراً تريد أن تسمع قومها - فأنشأت تقول: لعمرك ما في الغدر إذ تركبونه ... وفاء ولا عذر وما فيه من حصن رأيت لواء الغدر في كل مجمع ... من الناس نصباً للمذلة واللعن ولا خير في الأقوام حتى يكاثروا ... بناهضة الأبطال قرناً إلى قرن فإن مرام الغدر يا قوم فاعلموا ... صغار بتقصير من الغدر في الأمن وقالت العفيرة في ذلك أيضاً: لا تغدرون فإن الغدر منقصة ... وكل أمر له غب وإن ظفرا إن أخاف عليكم مثل تلك غدا ... وفي الأمور بنا عذر لمن نظرا كروا عليهم كراراً في مضارخة ... فكلكم باسل نرجو له الظفرا

وباشروا القوم ضرباً في ديارهم ... ضرباً حتى تهدموا القصرا فأجابها أخوها الأسود وهو يقول: أنا لعمرك ما نبدي مناهزة ... نخاف منها صروف الحين إن ظهرا ففي التحيل للأقوام مدركة ... وكل أمر بها نرجو له الظفر كفى لديك فلا تبغي لعاقبة ... عن الذي قد رآه الرأي أو خطرا فليس يمنع رأياً أن ندبره ... زحر الزواجر حتى نركب الخطرا إني زعيم لطسم حين تحضرنا ... عند الطعام وذاك الرأي إن قدرا فإن تلاقوا على بغي ومظلمة ... ضرباً يبين أكف القوم والقصرا قال: ثم صنع الأسود طعاماً، ثم دعا الملك وقومه من طسم فأقبلوا يرفلون في حللهم، ثم دفنت جديس أسيافهم في الرمل حيث وضعوا الطعام. فلما أتتهم طسم وثبوا إلى أسيافهم وشدوا على عملاق وأصحابه فقتلوهم حتى أفنوهم جميعا، وأنشأ الأسود يرتجز وهو يقول: لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس جاءت تمشي في دم حميس ... كالريح في مسهومة اليبيس يا طسم ما لاقيت من جديس ... من البلا والعيب والنحوس وقال الأسود أيضاً: ذوقي مجللة الحرب نافعة ... فقد أتيت لعمري أعجب العجب إنا انتقمنا فلم ننفك نقتلهم ... والبغي هيج منا سورة الغضب فلم يعودوا لبغي بعدها أبداً ... ولم يكونوا لذي أنف ولا ذنب فلو رعيتم لنا قربى مؤكدة ... كما الأقارب قد أرعى لذي النسب

(تمام الحديث عن تاريخ الكامل لابن الأثير)

وقال خزيمة بن المسنتجم الجديسي في ذلك شعراً: لقد نهيت أخا طسم وقلت له ... لا تذهبن بك الأهواء والمرح وأخش العقاب فإن الظلم منقصه ... وكل فرحة ظلم بعدها الترح فقد أطاع لنا أمراً فنعذره ... وذو النصيحة عند الأمر ينتصح فلم يزل ذاك ينمي من فعالهم ... حتى استفاد والأمر الغي فافتضحوا فباد أولهم من بعد آخرهم ... ولم يكن عندهم رشد ولا فلحوا فنحن بعدهم للحق نملكه ... نسقي الغبوق كما يسقي ونصطبح فتلك طسم على ما كان إذ فسدوا ... كانوا بما فيه من بعدها صلحوا إذا لكنا لهم بحراً وممنعة ... أنا إذا وزنت أحلامنا رجحوا وقالت امرأة من طسم - ترثي قومها وتنوحهم - وهي تقول: (1) ها هنا انقضت النسخ كلها وقد تم الكتاب، والحمد لله تعالى وصلى الله على محمد نبي الرحمة وعلى آله الطاهرين وسلم. (تمام الحديث عن تاريخ الكامل لابن الأثير) ثُمَّ إِنَّ بَقِيَّةَ طَسْمٍ قَصَدُوا حَسَّانَ بْنَ تُبَّعٍ مَلِكَ الْيَمَنِ فَاسْتَنْصَرُوهُ، فَسَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِي أُخْتًا مُتَزَوِّجَةً مِنْ جَدِيسٍ يُقَالُ لَهَا الْيَمَامَةُ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُنْذِرَ الْقَوْمَ بِكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَقْطَعْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ شَجَرَةً فَلْيَجْعَلْهَا أَمَامَهُ. فَأَمَرَهُمْ حَسَّانُ بِذَلِكَ، فَنَظَرَتِ الْيَمَامَةُ فَأَبْصَرَتْهُمْ فَقَالَتْ لِجَدِيسٍ: لَقَدْ سَارَتْ إِلَيْكُمْ حِمْيَرُ. قَالُوا: وَمَا تَرَيْنِ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلًا فِي شَجَرَةٍ مَعَهُ كَتِفٌ يَتَعَرَّقُهَا أَوْ نَعْلٌ يَخْصِفُهَا، وَكَانَ كَذَلِكَ، فَكَذَّبُوهَا، فَصَبَّحَهُمْ حَسَّانُ فَأَبَادَهُمْ، وَأُتِيَ حَسَّانُ بِالْيَمَامَةِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا، فَإِذَا فِيهَا عُرُوقٌ سُودٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: حَجَرٌ أَسْوَدُ كُنْتُ أَكْتَحِلُ بِهِ يُقَالُ لَهُ الْإِثْمِدُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنِ اكْتَحَلَ بِهِ. وَبِهَذِهِ الْيَمَامَةِ سُمِّيَتِ الْيَمَامَةُ، وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَهَا فِي أَشْعَارِهِمْ. وَلَمَّا هَلَكَتْ جَدِيسٌ هَرَبَ الْأَسْوَدُ قَاتِلُ عِمْلِيقْ إِلَى جَبَلَيْ طَيِّءٍ فَأَقَامَ بِهِمَا، ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَهُمَا طَيِّءٌ، وَكَانَتْ طَيِّءٌ تَنْزِلُ الْجُرْفَ مِنَ الْيَمَنِ، وَهُوَ الْآنَ لِمُرَادٍ وَهَمْدَانَ. وَكَانَ يَأْتِي إِلَى طَيِّءٍ بَعِيرٌ أَزْمَانَ الْخَرِيفِ عَظِيمُ السِّمَنِ وَيَعُودُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مِنْ أَيْنَ يَأْتِي، ثُمَّ إِنَّهُمُ اتَّبَعُوهُ يَسِيرُونَ بِسَيْرِهِ حَتَّى هَبَطَ بِهِمْ عَلَى أَجَأَ وَسُلْمَى جَبَلَيْ طَيِّءٍ، وَهُمَا بِقُرْبِ فَيْدٍ، فَرَأَوْا فِيهِمَا النَّخْلَ وَالْمَرَاعِيَ الْكَثِيرَةَ وَرَأَوُا الْأَسْوَدَ بْنَ عِفَارٍ، فَقَتَلُوهُ، وَأَقَامَتْ طَيِّءٌ بِالْجَبَلَيْنِ بَعْدَهُ، فَهُمْ هُنَاكَ إِلَى الْآنَ، وَهَذَا أَوَّلُ مَخْرَجِهِمْ إِلَيْهِمَا.

_ (1) بياض بالأصل بقدر سبعة أسطر - ح

§1/1