التوهم في وصف أحوال الآخرة

الحارث المحاسبي

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد القهار، العظيم الجبار، الكبير المتعال، الذي جعلنا للبلوى (¬1) والاختبار، وأعد لنا الجنة والنار، فعظم لذلك الخطر، وطال لذلك الحزن لمن عقل وادَّكر، حتى يعلم أين المصير، وأين المستقر، لأنه قد عصى الرب وخالف المولى، وأصبح وأمسى بين الغضب والرضا، لا يدري أيهما قد حل ووقع له، فعظم لذلك غمّه، وطال لذلك حزنه، واشتد كربه، حتى يعلم كيف عند الله حاله. فإلى الله فارغب في التوفيق، وإياه فسل العفو عن الذنوب، وبه فاستعن في كل الأمور. فعجبتُ كيف تقرُّ عينك، أو كيف يزايل الوجل والإشفاق قلبك، وقد عصيتَ ربك واستوجبتَ بعصيانك غضبه وعقابه، والموت لا محالة نازلٌ بك، بكربه وغصصه ونزعه وسكراته، فكأنك قد نزل بك وشيكاً سريعاً. فتوهم نفسك وقد صُرعتَ للموت صرعةً لا تقوم منها إلا إلى ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [للبلوا] .

الحشر إلى ربك، فتوهَّم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه وسكراته وغمه وقلقه، وقد بدأ الملَك يجذب روحك من قدمك، فوجدتَ ألم جَذْبه من أسفل قدميك، ثم تدارك الجذب واستحثَّ النزع، وجُذبت الروح من جميع بدنك، فنشطتْ من أسفلك متصاعدةً إلى أعلاك، حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وعمت آلام (¬1) الموت جميع جسمك، وقلبك وجلٌ محزون مرتقب منتظر للبشرى (¬2) من الله عز وجل بالغضب أو الرضا، وقد علمتَ أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشريين من الملَك الموكَّل بقبض روحك (¬3) . فبينا أنت في كربك وغمومك وألم الموت بسكراته وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين من ربك، إذ نظرتَ إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن الصورة أو بأقبحها، ونظرتَ إليه مادًّا يده إلى فيك ليخرج روحك من بدنك، فذلتْ نفسك لمَّا عاينتَ ذلك وعاينتَ وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بماذا يفجأك من البشرى منه (¬4) ، إذا سمعت صوته بنغمته: أبشر يا ولي الله برضا الله وثوابه، أو أبشر يا عدو الله بغضبه وعقابه، فتستيقن حينئذ بنجاتك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى (¬5) الله نفسك، أو تستيقن بعطبك وهلاكك، ¬

(¬1) كذا أثبتها (أ) من الهامش. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [للبشرا] . (¬3) أخرج الإمام أحمد في مسنده (4/287) : ثنا أبو معاوية قال ثنا الأعمش عن منهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه فقال: " استعيذوا بالله من عذاب القبر ". مرتين أو ثلاثاً ثم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: ((أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان)) ..قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: ((اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى)) . قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ((من ربك)) ؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ((ما دينك)) ؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ((ما هذا الرجل الذي بعث فيكم)) ؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فيقولان له: ((وما علمك)) ؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء: ((أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد؟ فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: " وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: ((يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} ، فيقول الله عز وجل: ((اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى)) . فتطرح روحه طرحاً ثم قرأ {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: ((من ربك)) ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ((ما دينك)) ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ((ما هذا الرجل الذي بعث فيكم)) ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادى مناد من السماء أن كذب فافرشوا له من النار وافتحوا له باباً إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة. والحديث صحيح، فله طرق فقد أخرجه أبو داود (4/239، 240) ح4753، 4754، وأحمد (4/287، 288، 295) ، والحاكم في مستدركه (1/93) ح107، (1/95) ح109، 110، (1/97) ح113، 114، (1/208) ح414، وأبو داود الطيالسي ص102 ح753، والطبراني في الأحاديث الطوال ص238 ح25، كما أخرجه مختصراً أبو داود ح3212، والنسائي في المجتبى (4/78) ، وفي الكبرى ح2128، وابن ماجة ح1549، وأحمد (4/297) ، وانظر تحقيقنا لكتاب ((الثبات عند الممات)) لابن الجوزي طبعة ((دار الجيل)) ص 143. (¬4) وأخرج الإمام أحمد في مسنده (2/364) حدثنا [حسين] بن محمد حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: ((اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان)) . قال: " فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقولون: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى يخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر. وإسناده صحيح، فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة. ولفظ [حسين] تحرف في المسند إلى [حسن] ، والصواب حسين وهو حسين بن محمد بن بهرام. والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجة ح4262، والنسائي في الكبرى ح11442. (¬5) قال (أ) : ناقص من الأصل.

ويحل الإياس قلبك، وينقطع من الله عز وجل رجاؤك وأملك، فيلزم حينئذ غاية الهمِّ والحزن أو الفرح والسرور قلبَك، حين انقضتْ من الدنيا مدتك، وانقطع منها أثرُك، وحُملتَ إلى دار من سلف من الأمم قبلك. فتوهم نفسك حين استطار قلبك فرحاً وسروراً، أو مُلئ حزناً وعَبرة، بفترة القبر وهول مطلعه، وروعة الملكين وسؤالهما فيه عن إيمانك بربك، فمثبت من الله جل ثناؤه بالقول الثابت أو متحيِّر شاكٌّ مخذول. فتوهم أصواتهما حين يناديانك لتجلس لسؤالهما إياك ليوقفاك على مسائلتهما، فتوهم جلستك في ضيق لحدك، وقد سقطت أكفانك على حقويك (¬1) ، والقطنة من عينيك عند قدميك (¬2) . فتوهم ذلك ثم شخوصك ببصرك إلى صورتهما وعظم أجسامهما، فإن رأيتَهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة، وإن رأيتَهما بقبح الصورة أيقن قلبك بالهلاك والعطب. فتوهم أصواتهما وكلامهما بنغماتهما وسؤالهما، ثم هو تثبيت الله إياك إن ثبَّتك، أو تحييره (¬3) إن خذلك. ¬

(¬1) الحَقو وهو موضع شد الإزَار. (¬2) {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} . سورة إبراهيم / 27. (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [تحيره] .

فتوهم جوابك باليقين أو بالتحيُّر أو بالتلديد (¬1) والشك، وتوهم إقبالهما عليك إن ثبتك الله عز وجل بالسرور وضربهما بأرجلهما جوانب قبرك بانفراج القبر عن النار بضعفك. ثم توهم النار وهي تتأجج (¬2) بحريقها، وإقبالها عليك بالقول، وأنت تنظر إلى ما صرف الله عنك فيزداد لذلك قلبك سروراً وفرحاً، وتوقن بسلامتك من النار بضعفك. ثم توهم ضربهما بأرجلهما جوانب قبرك (¬3) ، وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك: يا عبد الله، انظر إلى ما أعدَّ الله لك، فهذا منزلك وهذا مصيرك (¬4) . فتوهم سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها، وعلمك أنك صائر إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها. وإن تكن الأخرى فتوهم خلاف ذلك كله من الانتهار لك، ومن معاينتك الجنة وقولهما لك (¬5) : انظر إلى ما حرمك الله عز وجل، ومعاينتك النار وقولهما لك: انظر إلى ما أعدَّ الله لك، فهذا منزلك ومصيرك (¬6) . فأعظم بهذا خطراً، وأعظم به عليك في الدنيا غمًّا وحزناً، حتى تعلم أي الحالتين في القبر حالك، ثم الفناء والبلاء بعد ذلك، حتى تنقطع الأوصال، فتفنى عظامك، ويبلى (¬7) بدنك، ولا يبلى الحزن أو الفرح من ¬

(¬1) قال في النهاية: التَّلدّد التلفُّت يميناً وشمالاً تحيُّراً مأخوذ من لَديدَي العنق وهما صفحتاه. (¬2) أَجَّتِ النار تَئِجُّ وتَؤُجُّ أَجِيجاً إِذا سمعتَ صوت لهبها، فالأَجِيجُ صوت النار. اللسان بتصرف. (¬3) قال (أ) : كذا في الهامش، وفي الأصل: القبر. (¬4) أخرج مسلم (4/2200) ح2870 من حديث أنس قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال: " يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. قال فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة ". قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فيراهما جميعاً ". قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون. والحديث أخرجه البخاري ح 1338، 1374، وأبو داود ح4751، والنسائي في المجتبى (4/97) ، وفي الكبرى (1/659) ح2178، وأحمد (3/126، 233) ، وابن حبان (7/390) ح3120، والبيهقي (4/80) ح7009، وعبد بن حميد ص356 ح1180. (¬5) أثبته (أ) من الهامش. (¬6) أخرج ابن ماجة (2/1426) ح4268 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الميت يصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله. فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله. ثم يفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك. ويقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله. ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشعوفاً فيقال له: فيم كنت. فيقول: لا أدري. فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته. فيفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له: هذا مقعدك على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى. إسناده صحيح فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة، غير أبي بكر فلم يرو عنه الترمذي، وهو من شيوخ البخاري ومسلم. وغير أن شبابة وهو ابن سوار قد نعته ابن حجر في التقريب بقوله: ثقة حافظ كان رمي بالإرجاء. وقال ابن معين: ثقة. وفي موضع آخر قال: صدوق. وقد تركه للإرجاء أحمد، وقال أبو حاتم: ((لا يحتج به)) . وقد تكلموا في بعض أحاديث له عن شعبة فقال ابن المديني: كان شيخاً صدوقاً إلا أنه كان يقول بالإرجاء، ولا ينكر لرجل سمع من رجل ألفاً أو ألفين أن يجيء بحديث غريب. هذا وقد تابعه يزيد بن هارون عند أحمد (6/139) . فقد أخرجه أحمد (6/139) فقال: ثنا يزيد بن هارون قال أنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ذكوان عن عائشة قالت: جاءت يهودية فاستطعمت على بابي فقالت: أطعموني أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت: فلم أزل أحبسها حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله ما تقول هذه اليهودية؟ قال: وما تقول؟ قلت: تقول: أعاذكم الله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر. قالت عائشة: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يديه مداً يستعيذ بالله من فتنة الدجال ومن فتنة عذاب القبر، ثم قال: " أما فتنة الدجال فإنه لم يكن نبي إلا قد حذر أمته وسأحذركموه تحذيراً لم يحذره نبي أمته، إنه أعور والله عز وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن، فأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح اجلس في قبر غير فزع ولا مشعوف ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام. فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات من عند الله عز وجل فصدقناه. فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله عز وجل. ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك منها. ويقال: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله. وإذا كان الرجل السوء اجلس في قبره فزعاً مشعوفاً فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري. فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلت كما قالوا. فتفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عز وجل عنك ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً ويقال له: هذا مقعدك منها كنت على الشك وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله. ثم يعذب. قال محمد بن عمرو: فحدثني سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، واخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح له فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري. ويقال بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. فإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي منه ذميمة وأبشري بحميم وغساق {وآخر من شكله أزواج} . فما يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أرجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح فيقال له ويرد مثل ما في حديث عائشة سواء. وإسناد كلا الحديثين صحيح؛ فرجالهما كلهم ثقات رجال الكتب الستة. ولفظ: مشعوف من الشَّعَف وهو هنا بمعنى شدَّة الفَزَع حتى يذهَب بالقلب. (¬7) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [ويبلا] .

روحك، متطلعاً للقيام عند النشور إلى غضب الله عز وجل وعقابه، أو إلى رضا الله عز وجل وثوابه، وأنت مع توقع ذلك معروضة روحك على منزلك من الجنة أو مأواك من النار، فيا حسرات روحك وغمومها، ويا غبطتها وسرورها. حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حسَّ يُسمع، ولا شخص يُرى (¬1) ، وقد بقي الجبار الأعلى (¬2) كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم (¬3) . فتوهم كيف وقع الصوت في مسامعك وعقلك، وتفهَّم بعقلك بأنك تُدعى (¬4) إلى العرض على الملك الأعلى (¬5) ، فطار فؤادك وشاب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة بالعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء. فبينا أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة وهم مغبرون (¬6) من غبار الأرض التي طال ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [يرا] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [الأعلا] . (¬3) قال تعالى {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} طه /108. وقوله: {وخشعت الأصوات للرحمن} قال ابن عباس: سكنت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني وطء الأقدام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فلا تسمع إلا همساً} الصوت الخفي وهو رواية عن عكرمة والضحاك وقال سعيد بن جبير {فلا تسمع إلا همساً} الحديث وسره، ووطء الأقدام. فقد جمع سعيد كلا القولين. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [تدعا] . (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [الأعلا] . (¬6) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [مغبرين] .

فيها بلاؤهم (¬1) . فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم. فتوهم نفسك بعُريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة حفاة، وهم صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ (¬2) بالخشوع والذلة. حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع المُلك من مملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبُّرهم على عباد الله عز وجل في أرضه (¬3) . ثم أقبلت الوحوش من البراري (¬4) وذُرى (¬5) الجبال منكسة رؤوسها (¬6) لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق، ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطية أصابتها. فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور. وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها، منكسة رؤوسها (¬7) ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار. وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه، فسبحان ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [بلاهم] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ساعى] . (¬3) {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} غافر /40. (¬4) قال في المختار: البَرِيَّة الصحراء، والجمع البَرَارِي. (¬5) والذُّرَى جمع ذِرْوَة، وهي أعلى سنام البعير، وذِرْوة كل شيء أعلاه. (¬6) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسها] . (¬7) كسابقه.

الذي جمعهم بعد طول البلاء، واختلاف خلقهم وطبائعهم، وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور. حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعاً في موقف العرض والحساب، تناثرت (¬1) نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها. فبينا أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم (¬2) وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة، والملائكة قيام على أرجائها وهى حافات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة، كما قال الجليل الكبير: {فكانت وردةً كالدهان} (¬3) و {يوم تكون السماء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن} (¬4) . (قال المفسرون: إن المهل هي الفضة المذابة يخالطها صفرة، وإن العهن هو الصوف المنفوش. وقوله: {وردة كالدهان} كلون الفرس الورد) . فبينا ملائكة السماء الدنيا على ¬

(¬1) قال ابن كثير في تفسيره (4/476) : وقوله تعالى {وإذا النجوم انكدرت} أي انتثرت كما قال تعالى {وإذا الكواكب انتثرت} وأصل الانكدار الانصباب. وفي القرطبي (19/244) طبعة الشعب: {وإذا الكواكب انتثرت} أي تساقطت. نثرت الشيء أنثره نثراً فانتثر، والاسم النثار. والنثار بالضم: ما تناثر من الشيء. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] . (¬3) الرحمن / 37. (¬4) المعارج 8، 9.

حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه. فتوهم تحدرهم (¬1) من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم، منكسين لذل العرض على الله عز وجل. 1- حدثني يحيى بن غيلان الأسلمي قال: حدثنا رشدين بن سعد [عن] (¬2) أبي السمح عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لله مَلَك ما بين مواقي (¬3) عينيه إلى آخر (¬4) شفره (¬5) مسيرة مائة عام " (¬6) . 2- حدثني يحيى بن غيلان قال: حدثنا رشدين بن سعد [عن ابن عباس ابن ميمون اللخمي] (¬7) عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لله عز وجل ملك ما بين شفري عينيه مائة عام " (¬8) . فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أُمروا بهم، ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا ليس هو بينا ولكنه آت من بعد، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم (¬9) لذل يومهم. فتوهمهم، وقد تسربلوا بأجنحتهم ونكسوا رؤوسهم (¬10) في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم، ثم كل شيء على ذلك، وكذلك إلى السماء السابعة، كل أهل سماء ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يحذرهم] . (¬2) يبدو أن في هذا الإسناد سقط، فإن رشدين لا يروي مباشرة عن أبي السمح فبينهما عمرو بن الحارث مثلاً. (¬3) مؤق العين وموقها ومؤقيها ومأقيها: مؤخرها، وقيل مقدمها. وقال أبو الهيثم: حرف العين الذي يلي الأنف. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [أحر] . (¬5) الشُّفْر بالضم وقد يفتح حرف جَفْن العين الذي ينبُت عليه الشعر. (¬6) إسناده ضعيف جداً، وذلك لشأن رشدين بن سعد، فقد ضعفه البخاري وأبو زرعة وأبو داود والدارقطني وابن سعد والفلاس وابن حجر في التقريب، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال أيضاً: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ضعيف الحديث، لا يكتب حديثه. وقال الذهبي في الكاشف: كان صالحاً عابداً محدثاً سيئ الحفظ. وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يسأل، ويقرأ كلما دفع إليه سواء كان من حديثه أم من غير حديثه فغلبت المناكير في أخباره. وقال الميموني سمعت أبا عبد الله يقول: رشدين بن سعد ليس يبالي عن من روى، لكنه رجل صالح. قال: فوثقه الهيثم بن خارجة وكان في المجلس فتبسم أبو عبد الله ثم قال: ليس به بأس في أحاديث الرقاق. وقال حرب: سألت أحمد عنه فضعفه وقدم ابن لهيعة عليه. وقال البغوي: سئل أحمد عنه فقال: أرجو أنه صالح الحديث. وأبو السمح وهو دراج قال فيه أبو حاتم: ضعيف. وقال النسائي: منكر الحديث. وفي قول آخر قال: ليس بالقوي. وقال أحمد: أحاديثه مناكير، ولينه. وقد وثقه ابن معين واعترض على ذلك فضلك، وقال أبو داود وغيره حديثه مستقيم إلا ما كان عن أبي الهيثم. وقال في التقريب: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. ثم إن أبا قبيل وهو حيي بن هانئ قال فيه في التقريب: صدوق يهم. هذا وقد ورد الحديث بلفظ: ((إن لله ملكاً ما بين شفري عينيه مسيرة خمسمائة عام)) في الأحاديث التي لا أصل لها في الإحياء ص386، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص67 ط الرشد، وتذكرة الموضوعات ص13، واللؤلؤ المرصوع ص111، والإخبار بما فات من أحاديث الاعتبار ص36، والأسرار المرفوعة ص94. (¬7) هكذا في النسخة التي بين يدي ويبدو أن في هذا اللفظ شيء. (¬8) انظر الحديث السابق. (¬9) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] . (¬10) كسابقه.

مضعفين بالعدد، وعظم الأجسام، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً. حتى إذا وافى (¬1) الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين، وأدنيت من رؤوس (¬2) الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وقلقه من (¬3) وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعتْ، فدفع بعضُها بعضاً، وتضايقت فاختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء، حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حِقْويْه (¬4) ، وبعضهم إلى شحمة أذنيه، ومنهم من قد (¬5) كاد أن يغيب في عرقه، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه. 3- عن [سعيد بن عمير] (¬6) قال: جلست إلى ابن عمر وأبي سعيد الخدري، وذلك يوم الجمعة، فقال أحدهما لصاحبه: [إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أين يبلغ] (¬7) العرق من ابن آدم يوم القيامة؟ فقال أحدهم: شحمة ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [وافا] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [روس] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [فوق] . (¬4) الأصل في الحَقْو مَعْقِد الإزار وجمعه أحْقٍ وأحْقاء، ثم سُمّي به الإزار للمجاورة. (¬5) قال (أ) : في الهامش. (¬6) كذا في التراجم، أما في المطبوع من (التوهم) قال [عمير بن سعيد] وهو خطأ. هذا. وسعيد بن عمير اختلف في ترجمته، فمنهم من جعله واحداً، ومنهم من جعله غير ذلك، وإليك بعض البيان: ابن حبان ذكر في ثقاته أربع تراجم لمن اسمه سعيد بن عمير: ترجمة رقم (2939) قال: سعيد بن عمير الحارثي الأنصاري، من أهل المدينة يروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، روى عنه جعفر بن عبد الله ـ وهو والد عبد الحميد ـ.... . وذكر في ترجمته حديثنا هذا. ترجمة (2940) سعيد بن عمير بن عبيد الأنصاري يروى عن أبى برزة الأسلمي روى عنه وائل بن داود الثوري أحسبه الأول. ترجمة (2942) سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار يروى عن عمه أبى بردة بن نيار روى عنه سعيد بن سعيد الثعلبي. ترجمة (8138) سعيد بن عمير يروى عن نافع عن ابن عمر في عرق يوم القيامة روى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عنه. وهذه الترجمة الأخيرة تجاهلها أصحاب الكتب فلم يذكروها، بل لم يذكروا هذه الثلاث تراجم بل دمج البخاري هذه الثلاث إلى ترجمتين، فجعل الأولى مستقلة، وهي ترجمة الذي يروي عن ابن عمر وأبي سعيد، ويروي عنه عمرو بن عبيد الله. وقال في الثانية: سعيد بن عمير الأنصاري روى عنه وائل بن داود. قال أبو أسامة عن سعيد بن سعيد سمع سعيد بن عمير بن عقبة بن نيار الأنصاري عن عمه أبي بردة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من عبد من أمتي صلى عليَّ صادقاً من نفسه إلا صلى الله عليه وسلم الله عليه عشراً ". روى عنه وائل بن داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطيب الكسب عمل الرجل بيده. وأسنده بعضهم وهو خطأ. وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وقال الفسوي سعيد بن عمير الذي روى عنه وائل بن داود هو ابن أخي البراء بن عازب فكأنهما عنده واحد ـ يعني بين الذي يروي عنه وائل، وبين الذي يروي عنه سعيد بن سعيد ـ. ثم قال ابن حجر: وهو الأشبه. والله أعلم. ومعنى ذلك أن ابن حجر رجح ما جعله البخاري واحداًً. وقد جعل الثلاثة ترجمة واحدة المزي في تهذيب الكمال. وكذلك رجح الأستاذ حسين سليم أسد في مسند أبي يعلى (10/73) ، وأرجح ذلك بكون الذي يروي عنه وائل بن داود من حلفاء بني حارثة، وكذا نسبه ابن حجر في اللسان. غير أن الذي يروي عن ابن عمر ذكروا أنه من أهل المدينة، وقال الفسوي في سعيد بن عمير: وهو ابن أخي البراء بن عازب لا بأس به كوفي. كما نقل ذلك عنه الأستاذ / حسين أسد عن كتاب الفسوي المسمى بـ المعرفة والتاريخ. (¬7) كذا في المطبوع من التوهم، أما في مسند أحمد (3/90) فقال: [إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر أنه يبلغ] ، وأما في المستدرك ح8797 فقال: [إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر مبلغ] ، وأما في مسند أبي يعلى (10/73) فقال: [سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يبلغ] ، وفي الثقات لابن حبان قال: [كيف سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر أين يبلغ] وعلى رواية ابن حبان يكون تصحيح ما في التوهم إلى [أنَى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أين] فيكون أحدهما يسأل الآخر. هذا وفي باقي الروايات اختلاف يسير عن هذه الرواية في بقية الحديث.

أذنيه، وقال الآخر: يلجمه (¬1) ، فقال ابن عمر: هكذا، وخط من فيه إلى شحمة أذنيه، فقال: ما أرى ذلك إلا سواء (¬2) (¬3) . 4*- عن خيثمة عن عبد الله قال: (الأرض كلها نار يوم القيامة، والجنة من ورائها يرون كواعبها وأكوابها، والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليفيض عرقاً حتى يسيح في الأرض قامته، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسَّه الحساب) . قال: فقالوا: ممَّ ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: مما يرى الناس يلقون (¬4) . 5- عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل (وقال عليٌّ مرة: إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رَشَحه (¬5) إلى أنصاف أذنيه من طول القيام " (¬6) . 6- عن عبد الله رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الكافر يُلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم ". (وقال علي: من طول القيام. قالا جميعاً:) " حتى يقول: ربِّ أرحني ولو إلى النار " (¬7) . وأنت لا محالة أحدهم. فتوهم نفسك لكربك، وقد علاك العرق وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون (¬8) لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء. حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون (¬9) في أمورهم، فما ظنك بوقوفهم ¬

(¬1) قال في النهاية: أي يصل إلى أفواههم فيصير له بمنزلة اللِّجام يمنعهم عن الكلام يعني في المحشر يوم القيامة. (¬2) وذلك لا يكون إلا بأن ترفع الذقن لأعلى ما يكون إعلاؤها، وتخفض مؤخرة الرأس من الخلف بأن تلصق بأسفل العنق بين المنكبين، وهي حالة الذي يحاول الإنجاء بنفسه من الغرق. نسأل الله السلامة. (¬3) إسناده فيه سعيد بن عمير وثقة ابن حبان والهيثمي وأظنه تبعه في ذلك، وقال ابن حجر: مقبول، وقد تقدم الكلام فيه، وفيه عبد الحميد بن جعفر وهو صدوق ربما وهم، وهو من رجال مسلم والأربعة، وقد أخرج له البخاري تعليقاً. والحديث أخرجه أحمد (3/90) ، والحاكم في المستدرك (4/615) ح8705، (4/650) ح8797، وأبو يعلى (10/73) ح5711، وابن حبان في الثقات (4/287) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (10/335) . ويشهد له الحديث الذي سيأتي بعده برواية من حديث ابن عمر. (¬4) أخرج هذا القول ابن كثير في تفسيره (2/545) ، والطبري في التفسير (13/251) ، والطبراني في الكبير (9/154) رواية 8771، وهناد في الزهد (1/200، 204) . (¬5) بفتحتين أي عرقه، قاله ابن حجر في الفتح. (¬6) أخرجه البخاري بلفظ قريب ح 6531 فقال بإسنادٍ له: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - {يوم يقوم الناس لرب العالمين} قال: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه ". وبلفظ البخاري أخرجه مسلم ح2862 فهو متفق عليه. كما أخرجه بنحوه البخاري ح 4938، وقد أخرجه أيضاً الترمذي ح2422، 3335، 3336، وابن ماجة ح4278، وأحمد (2/13، 19، 64، 125، 126) ، والنسائي في السنن الكبرى ح11656، 11657، وابن حبان ح7332، وعبد بن حميد ح763، والطبري في التفسير (30/92، 93) . (¬7) أخرجه أبو يعلى (8/398) ح4983، ومن روايته أخرجه ابن حبان (16/330) ح7335، والهيثمي في موارد الظمأن ص639 ح2582 من طريق بشر بن الوليد قال حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: أرحني ولو إلى النار ". ومن طريق بشر بن الوليد وأبي بكر بن أبي شيبة أخرجه الطبراني في الكبير (10/99) ح10083، غير أنه قال: ((رب أرحني)) بدلاً من ((أرحني)) . وإسناده ضعيف، وذلك لشأن أبي إسحاق، وهو السبيعي، فهو ثقة غير أنه يدلس وقد عنعن، وعلة أخرى فيه وهي الاختلاط فقد اختلط بآخرة. والراوي عنه وهو شريك روى عنه قديماً قبل اختلاطه، غير أن شريكاً هو الآخر قد اختلط، ورواية أبي بكر بن أبي شيبة كانت بعد اختلاط شريك، وذلك لأن شريك اختلط بعد أن ولي القضاء أو قضاء الكوفة بالأخص، وكان ذلك سنة (158) أو قبلها، وسماع ابن أبي شيبة كان سنة (173) ، أما سماع بشر بن الوليد من شريك فقد قال الذهبي في شأن بشر: ولد في حدود الخمسين ومائة. وذكر الخطيب وفاة بشر سنة (238) وقال: وبلغ سبعاً وتسعين سنة. وعليه فتكون ولادته نحو سنة (141) . فعلى القول الأول فيكون له نحو ثمانية أعوام عند اختلاط شريك، وعلى القول الثاني يكون له نحو سبعة عشر سنة على الأكثر عند اختلاط شريك. وشريك، قال عنه في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة. وقال في طبقات المدلسين: كان من الأثبات ولما ولي القضاء تغير حفظه. وقد ذكره في المرتبة الثانية وهو: من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جانب ما روى. وكان قديم السماع من أبى إسحاق. وقال ابن حبان في الثقات: ولي القضاء بواسط سنة 150 ثم ولي الكوفة بعد، ومات بها. وقال: وكان في آخر أمره يخطئ فيما روى تغير عليه حفظه فسماع المتقدمين منه ليس فيه تخليط وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة. وقال الذهبي في التذكرة: وحديثه من أقسام الحسن. وقد جاءت متابعة لأبي إسحاق أخرجها الطبراني في الكبير (10/107) ح10112 فقد تابعه إبراهيم بن المهاجر غير أن هذا الطريق للمتابع ضعيف لشأن محمد بن إسحاق، وهو صدوق يدلس. وقد عنعن. وإبراهيم بن مهاجر بن جابر البجلي أخرج له مسلم والأربعة، ولعل إخراج مسلم له في المتابعات. قال الثوري وأحمد: لا بأس به. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال ابن سعد: ثقة. وقال الساجي: صدوق اختلفوا فيه. وقال أبو داود: صالح الحديث. وقال يحيى القطان: لم يكن بقوي. قال يحيى بن معين: ضعيف. وقال ابن عدي: حديثه يكتب في الضعفاء. وقال ابن حبان في الضعفاء: هو كثير الخطأ تستحب مجانبة ما انفرد من الروايات ولا يعجبني الاحتجاج بما وافق الأثبات لكثرة ما يأتي من المقلوبات. وقال النسائي في الكنى والتمييز: ليس بالقوي. وقال في موضع آخر: ليس به بأس. وقال الحاكم: قلت للدارقطني: فإبراهيم بن مهاجر؟ قال: ضعفوه تكلم فيه يحيى بن سعيد وغيره. قلت: بحجة قال: بلى حدث بأحاديث لا يتابع عليها. وقد غمزه شعبة أيضاً. وقال غيره عن الدارقطني: يعتبر به. وقال يعقوب بن سفيان: له شرف وفي حديثه لين. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي هو وحصين وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض ومحلهم عندنا محل الصدق يكتب حديثهم ولا يحتج به. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي: ما معنى لا يحتج بحديثهم؟ قال: كانوا قوماً لا يحفظون فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون ترى في أحاديثهم اضطراباً ما شئت. هذا. وقد جاءت هذه الرواية موقوفة عند الطبراني في الكبير (9/155) ح8779 بإسناد فيه إبراهيم الهجري، وهو ابن مسلم. قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حجر في التقريب: لين الحديث، رفع موقوفات. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث. وضعفه أبو زرعة والترمذي والنسائي وابن سعد، وقال ابن عدي في: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد الله وعامتها مستقيمة. هذا وقد أورده الألباني في ضعيف الجامع (3/4295) . (¬8) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [منتظر] . (¬9) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ينظروا] .

ثلاثمائة عام لا يأكلون فيه أكلة ولا يشربون فيه شربة، ولا يلفح وجوههم روح ولا طيب نسيم، ولا يستريحون من تعب قيامهم ونصب وقوفهم، حتى بلغ الجهد منهم ما لا طاقة لهم به. 7**- عن قتادة أو كعب، قال: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} (¬1) قال: (يقومون مقدار ثلاثمائة عام) . 8**- قال: سمعت الحسن يقول: (ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربةً، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أجوافهم من الجوع، انصرف بهم إلى النار، فسُقوا من عين آنية قد آن (¬2) حرُّها واشتد نفحها (¬3) ، فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به كلم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى (¬4) النار من وقوفهم، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها) . وكذلك ¬

(¬1) المطففين /6. (¬2) الإنا بكسر الهمزة والقصر النُّضْج، ومنه {غير ناظرين إناه} ، وفي الطبري عن قتادة قوله {تسقى من عين آنية} يقول: قد أنى طبخها منذ خلق الله السموات والأرض. وفيه عن الحسن قال: أنى طبخها منذ يوم خلق الله الدنيا. (¬3) قال في النهاية: نفح الريح هبوبها، ونفح الطيب إذا فاح. قلت: فكيف بنفح نار وقودها النار والحجارة، نسأل الله الكريم لنا ولكم السلامة. (¬4) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

يقول الله عز وجل: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (¬1) . فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه ينادي: (نفسي نفسي) ، فلا تسمع إلا قول: (نفسي نفسي) . فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم (¬2) ، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله عز وجل وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل، كل ينادي: (نفسي نفسي) ، شفقاً من شدة غضب ربه، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك بحزنك وبخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا (¬3) من اشتغالهم بأنفسهم، أتوا النبي محمداً (¬4) - صلى الله عليه وسلم - فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه، فأذن له ثم خر لربه عز وجل ساجداً، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه عز وجل إلى ¬

(¬1) النحل /111. (¬2) {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} . آل عمران /33 (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [روا] . (¬4) كذا أثبت (أ) من الهامش.

تعجيل عرضهم، والنظر في أمورهم. فبينما أنت مع الخلائق في هول القيامة وشدة كربها منتظراً متوقعاً لفصل القضاء والحلول في دار النعيم أو الحزن، إذ سطع نور العرش، وأشرقت الأرض بنور ربها، وأيقن قلبك بالجبار، وقد أتى لعرضك عليه حتى كأنه لا يعرض عليه أحد سواك، ولا ينظر إلا في أمرك. 9**- عن حميد بن هلال قال: ذُكر لنا أن الرجل يُدعى (¬1) يوم القيامة إلى الحساب فيُقال: يا فلان ابن فلان هلمَّ إلى الحساب، حتى يقول: ما يراد أحد غيري مما يحضر به من الحساب. ثم نادى: يا جبريل ائتني بالنار (¬2) . فتوهمها وقد أتى (¬3) جبريل فقال لها: يا جهنم أجيبي. فتوهم اضطرابها وارتعادها بفرقها أن يكون الله عز وجل خلق خلقاً يعذبها به، فتوهمها حين اضطربت وفارت وثارت، ونظرت إلى الخلائق من بعد مكانها، فشهقت إليهم وزفرت نحوهم، وجذبت خزانها متوثِّبةً على الخلائق غضباً لغضب ربها على مَنْ خالف أمره وعصاه. فتوهم صوت زفيرها وشهيقها، وترادف قصبتها، وقد امتلأ منه سمعك، وارتفع له فؤادك وطار فزعاً ورعباً، ففر الخلائق هرباً ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [يدعا] . (¬2) يا حسرة على العباد إذا كان ذلك. (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [أتا] .

من زفيرها على وجوههم، وذلك يوم التنادي، لما سمعوا بدويِّ زفيرها ولَّوْا مدبرين، وتساقطوا على ركبهم جثاة حول جهنم فأرسلوا الدموع من أعينهم. فتوهم اجتماع أصوات بكاء الخلائق عند زفيرها وشهيقها، وينادي الظالمون بالويل والثبور، وينادي كل مصطفى وصدِّيق ومنتخب وشهيد ومختار وجميع العوام: (نفسي نفسي) . فتوهم أصوات الخلائق من الأنبياء فمن دون، كل عبد منهم ينادي: (نفسي نفسي) ، وأنت قائلها، فبينا أنت مع الخلائق في شدة الأهوال ووجل القلوب إذ زفرت الثانية فيزداد رعبك ورعبهم وخوفك وخوفهم، ثم زفزت الثالثة فتساقط الخلائق لوجوههم (¬1) وتشخص بأبصارهم ينظرون من طرف خاشع خفي خوفاً أن تلفهم فتأخذهم بحريقها، وانتصفتْ عند ذلك قلوب الظالمين فبلغت لدى (¬2) الحناجر كاظمين، فكظموا عليها وقد غصت في حلوقهم، وطارت الألباب، وذهلت العقول من السعداء والأشقياء أجمعين، فلا يبقى رسول ولا عبد صالح مختار إلا ذهل لذلك عقله. فأقبل الله عز وجل عند ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [لوجوهم] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

ذلك على رسله وهم أكرم الخلائق عليه وأقربهم إليه، لأنهم الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ والحجة على عباده، وهم وأقرب الخلائق إلى الله عز وجل في الموقف وأكرمهم عليه، فيسألهم عمَّا أرسلهم به إلى عباده وماذا ردّوا عليهم من الجواب فقال لهم: {ماذا أجبتم} (¬1) فردوا عليه الجواب عن عقول ذاهلة غير ذاكرة فقالوا: {لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} (¬2) فأعظم به من هول تبالغ من رسل الله عز وجل في قربهم منه وكرامتهم، حتى أذهل عقولهم، فلم يعلموا بماذا أجابتهم أممهم. 10*- عن أبي الحسن الدمشقي قال: قلت لأبي قرة الأسدي: كيف صبر قلوبهم على أهوال يوم القيامة؟ قال: إنهم إذا بُعثوا خُلقوا خلقةً يقوون عليها. قال أبو الحسن: قلت لإسحاق بن خلف: قول الله عز وجل للرسل: {ماذا أُجِبْتُم قالوا لا علم لنا} ، أليس قد علموا ما رُدّ عليهم في الدنيا؟ قال: من عِظَم هول السؤال حين يُسألون (¬3) طاشت عقولهم، فلم يدروا أي شيء أجيبوا في الدنيا، فهم صادقون حتى تجلَّى (¬4) عنهم بعد، فعرفوا ما أُجيبوا. قال: فحدثت به أبا سليمان فقال: صدق إسحاق، هم في ساعتهم تلك صادقون، حتى تجلَّى (¬5) عنهم فعرفوا ما أُجيبوا، فقال ¬

(¬1) المائدة /109. (¬2) المائدة /109. (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يسألوا] . (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [تجلا] . (¬5) كسابقه.

أبو سليمان: إذا سمعتَ الرجل يقول لصاحبه: بيني وبينك الصراط فاعلم أنه لا يعرف الصراط، ولو عرفه ما اشتهى (¬1) أن يتعلق بأحد، فلا يتعلق أحد. 11**- عن مجاهد في قوله {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} (¬2) قال: فيفزعون فيقولون: {لا علم لنا} (¬3) . عن مجاهد في قول الله عز وجل {وترى كل أمة جاثية} (¬4) أي مستوفزين على الركب. 12- قال: سمعت عبد الله يقول: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " (¬5) . 13- قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كورت} (¬6) " (¬7) . 14** - وعن عمر بن ذر قال: من غدا يلتمس الخير وجد الخير، أعليَّ تحملون جمود أعينكم وقسوة قلوبكم؟ احملوا العيَّ عليَّ إن لم أسمعكم اليوم واعظاً من كتاب الله عز وجل، ثم قرأ: {إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت} (¬8) حتى إذا بلغ: {علمت نفس ما أحضرت} (¬9) (أو قال: حتى ختمها) ، قال: ثم قال: اسمعوا إليَّ يا عرض الدنيا، فأين أنت منهم في ذلك الموقف؟ هل تطمع أن يبلغ بك الهول ما بلغ منهم، بل أعظم مما بلغ منهم ما لا يطيقه قلبك فلا يقوم به بدنك، فهذه عقولهم ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [اشتها] . (¬2) المائدة /109. (¬3) المائدة /109. (¬4) الجاثية /28. (¬5) أخرجه بهذا اللفظ ابن المبارك في الزهد ص105 فقال: أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال سمعت عبد الله بن باباه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم ". والحديث مرسل، فرجاله كلهم ثقات رجال الكتب الستة، غير عبد الله بن باباه فهو من رجال مسلم والأربعة، وهو ثقة من الطبقة الثالثة، كما في التقريب وهي الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين. هذا وقد أخرجه من هذا الطريق ابن أبي حاتم كما ذكره ابن كثير في التفسير (4/153) ، وأبو نعيم في الحلية (7/299) ، وكذا ذكره ابن حجر في الفتح فقال: وقد أخرج البيهقي في البعث من مرسل عبد الله بن باباه بسند رجاله ثقات رفعه: " كأني أراكم بالكوم جثى من دون جهنم. (¬6) التكوير /1. (¬7) والحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد (2/37) فقال: ثنا إبراهيم بن خالد ثنا عبد الله بن بحير عن عبد الرحمن بن يزيد ـ وكان من أهل صنعاء، وكان أعلم بالحلال والحرام من وهب يعني ابن منبه ـ قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كورت} . ومن طريق أحمد أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (2/45) . وقد تابع إبراهيم بن خالد هشامُ بن يوسف عند الحاكم في المستدرك (2/560) ح3900. وجاء من طريق عبد الرزاق بن همام عن عبد الله بن بحير عن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ {إذا الشمس كورت} و {إذا السماء انفطرت} و {إذا السماء انشقت} ". وهذا لفظ الترمذي (5/433) ح3333 وقال: حسن غريب، والحاكم (4/620) ح8719، وزاد أحمد: وأحسبه أنه قال: وسورة هود. أخرجه أحمد (2/36) ، وبنحوه أخرجه أحمد (2/27، 100 ولم يذكر فيه {إذا السماء انشقت} ) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/247) ، وأبو نعيم في الحلية (9/231) ، وابن حجر في الفتح (8/564) وقال: حديث جيد. وقد صحح الحديث الألباني في صحيح الترمذي. فكل هذه الطرق تأتي من طريق عبد الله بن بحير عن عبد الرحمن بن يزيد. وإسناده جيد، ففيه عبد الرحمن بن يزيد اليماني أبو محمد وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق. وقال الذهبي في الكاشف: وثق. وقد نعته الراوي عنه بقوله: وكان من أهل صنعاء وكان أعلم بالحلال والحرام من وهب يعني ابن منبه. وعبد الله بن بحير وثقه ابن معين، واضطرب فيه كلام ابن حبان، كما قال ابن حجر، فقد جعل ابن حبان ((عبد الله بن بحير بن ريسان)) ، غير ((عبد الله بن بحير أبو وائل القاص الصنعاني)) ووثق الأول، واتهم الثاني فقال: يروي العجائب التي كأنها معمولة لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن حجر في التهذيب: ((قال الذهبي في التذهيب ـ وقرأته بخطه ـ: لم يفرق بينهما أحد قبل ابن حبان وهما واحد)) . وقال ابن المديني: سمعت هشام بن يوسف ـ وسئل عن عبد الله بن بحير القاص ـ فقال: كان يتقن ما سمع. وقال الذهبي في الكاشف: وثق، وليس بذاك. قلتُ: فلم أجد دليلاً على التفريق بينهما. هذا. وقد أخرج الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/464) فقال: حدثنا محمد بن عون حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كورت} . وإسناده ضعيف، وذلك لشأن محمد بن عون وهو السيرافي، قال عنه الإسماعيلي: وكان ينسب إلى التفسير ولم يكن في الحديث بذاك. وكذا ذكر في لسان الميزان. (¬8) التكوير /1: 3. (¬9) التكوير /14.

ذاهلة في ذلك الموقف، فكيف بعقلك وما حلَّ بك، وأنت الخاطئ العاصي المتمادي فيما يكره ربك عز وجل؟ فتوهم نفسك لذلك الخوف والفزع والرعب والغربة والتحير إذا تبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب والعشائر، وفررت أنت (¬1) منهم أجمعين، فكيف خذلتهم وخذلوك، ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والحفاظ أن تفرَّ من أمك وأبيك وصاحبتك وبنيك وأخيك، ولكن عظم الخطر، واشتد الهول فلا تلام على فرارك منهم، ولا يلامون (¬2) ، ولم تخصهم بالفرار دون الأقرباء لبغضك إياهم، وكيف تبغضهم (¬3) أو يبغضونك، وكيف خصصتهم بالفرار منهم، أتبغضهم (¬4) وإنهم لهم الذين كانوا في الدنيا مؤانسيك وقرة عينك وراحة قلبك، ولكن خشيتَ أن يكون لأحد عندك منهم تَبِعةٌ فيتعلق بك حتى يخاصمك عند ربك عزَّ وجلَّ، ثم لعله أن يحكم له عليك فيأخذ منك ما ترجو (¬5) أن تنجو (¬6) به من حسناتك فيفرقك منها فتصير بذلك إلى النار. فبينما أنت في ذلك إذا ارتفعت عنق من النار فنطقت بلسان فصيح بمن وُكِّلتْ ¬

(¬1) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يلاموا] . (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) كسابقه. (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ترجوا] . (¬6) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تنجوا] .

بأخذهم من الخلائق بغير حساب، ثم أقبل ذلك العنق فيلتقطهم لقط الطير الحب، ثم انطوت عليهم فألقتهم في النار فابتلعتهم، ثم خنست بهم في جهنم فيُفعل ذلك بهم، ثم ينادي مناد: سيعلم أهل الجمع مَنْ أولى بالكرم، ليقم الحمَّادون لله على كل حال، فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم يفعل ذلك بأهل قيام الليل، ثم بمن لم يشغله تجارة الدنيا ولا بيعها عن ذكر مولاه حتى إذا دخلت هذه الفرق من أهل الجنة (¬1) والنار، تطايرت الكتب في الأيمان والشمائل ونصبت الموازين. فتوهم الميزان بعظمه منصوباً، وتوهم الكتب المتطايرة وقلبك واجف متوقِّع أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك. 15- عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رأسه في حجر عائشة فنعس، فتذكرتْ الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: " ما يبكيك يا عائشة؟ فقالت: يا رسول الله تذكرتُ الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال: " والذي نفسي بيده في ثلاث مواطن فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ¬

(¬1) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط " (¬1) . 16*- وعن أنس بن مالك قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين كفَّتي الميزان ويوكَّل به مَلكٌ، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوته يُسمع الخلائق: سعد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى (¬2) بعدها أبداً، وإن خفَّ ميزانه نادى (¬3) الملك بصوته يُسمع الخلائق: شقى فلان ابن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً) . فبينا أنت واقف مع الخلائق إذ نظرت إلى الملك وقد أُمِرَ أن يحضر بالزبانية، فأقبلوا بأيديهم مقامع من حديد، عليهم ثياب من نار، فلما رأيتَهم فهبتَهم طار قلبك فزعاً ورعباً، فبينا أنت كذلك إذ نودي باسمك فنوديت على رؤوس (¬4) الخلائق الأولين والآخرين: أين فلان ابن فلان؟ هلمَّ إل (¬5) ى العرض على الله عزَّ وجلَّ، وقد وُكِّلَ الملائكة بأخذك حتى يقرِّبوك (¬6) إلى ربك، فلم يمنعها اشتباه الأسماء باسمك أن تعرفك لما ترى بك (¬7) أنك المراد بالدعاء المطلوب ـ. قال: حدثنا طلحة بن عمرو قال: قال لي عطاء بن أبي رباح: (يا طلحة، ما أكثر الأسماء على اسمك، وما أكثر الأسماء على اسمي، فإذا كان يوم القيامة قيل: يا فلان، فقام الذي يُعنى لا يقوم غيره لما لزم ¬

(¬1) إسناده ضعيف. وذلك لأن رواية الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة، فقد ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر. هذا وقد جاء الحديث مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي داود (4/240) ح4755، وأحمد (6/101) ، ومسند إسحاق بن راهويه (3/740) ح1349. وجاء من رواية الحسن عن أم المؤمنين عائشة مرفوعاً عند الحاكم (4/622) ح8722. وفي شأن رواية الحسن عن عائشة. قال الحاكم عقب هذا الحديث: حديث صحيح، إسناده على شرط الشيخين لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة رضي الله تعالى عنها وأم سلمة. وقال المزي في تهذيب الكمال: رأى علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وعائشة ولم يصح له سماع من أحد منهم. وفي تهذيب التهذيب: وقال ابن المديني: مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها. وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) وجدت له أصلاً ثابتاًَ ما خلا أربعة أحاديث. وقال ابن سعد: وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فهو حجة، وما أرسل فليس بحجة. وقال ابن حبان في (الثقات) : احتلم سنة 37، وأدرك بعض صفين ورأى مائة وعشرين صحابياً وكان يدلس. وقال سبط ابن العجمي: من المشهورين بالتدليس. وفي التقريب قال: ثقة فقيه فاضل مشهور، وكان يرسل كثيراً ويدلس. مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين. وفي طبقات المدلسين لابن حجر قال: ويرسل كثيراً عن كل أحد، وصفه بتدليس الإسناد النسائي وغيره. وقال الذهبي في التذكرة (1/71) : وهو مدلس فلا يحتج بقوله ((عن)) في من لم يدركه، وقد يدلس عمن لقيه ويسقط من بينه وبينه والله أعلم. ولكنه حافظ علامة من بحور العلم فقيه النفس كبير الشأن عديم النظير مليح التذكير بليغ الموعظة رأس في أنواع الخير. وفي لسان الميزان قال: الإمام الحجة مدلس. هذا وقد جاء عن عائشة من غير طريق الحسن كما أخرجه أحمد (6/110) ، فقد أخرجه من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران. وإسناده ضعيف، لشأن ابن لهيعة، فقد ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة وابن معين وابن سعد، وتركه ابن مهدي ويحيى بن سعيد ووكيع. وقال الذهبي في الكاشف: ((العمل على تضعيف حديثه)) . وفي التقريب قال: ((صدوق من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شيء مقرون)) . وقد ذكره بالتدليس: ابن حبان وسبط ابن العجمي، وابن حجر في طبقات المدلسين. وهنا قد عنعن الحديث. ورماه بالاختلاط كل من: أبو جعفر الطبري، وابن سعد، وابن حبان، والذهبي في التذكرة، وابن حجر في التقريب، وفي طبقات المدلسين فقال: اختلط في آخر عمره وكثر عنه المناكير في روايته. وقال أحمد: ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب لأعتبر به ويقوي بعضه بعضاً. وقال الذهبي: ((يروى حديثه في المتابعات ولا يحتج به)) . وجاء الحديث من غير طريق عائشة رضي الله عنها، فقد جاء من حديث أبي أمامة كما أخرجه الطبراني في الكبير (8/225) ح7890 من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة. وإسناده ضعيف، فعثمان بن أبي العاتكة قال عنه في التقريب: صدوق، ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد. وعلي بن يزيد قال عنه في التقريب: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث أحاديثه منكرة. قال يحيى بن معين: علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة ضعاف كلها. وقال أبو حاتم عنها: ليست بالقوية هي ضعاف. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يشقا] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [نادا] . (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روس] . (¬5) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬6) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يقربونك] . (¬7) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يرابك] .

قلبك من العلم) ـ فوثبتَ على (¬1) قدميك، ترتعد فرائصك وتضطرب جوارحك، متغيراً لونك فزعاً مرعوباً مرتكضاً قلبك في صدرك بالخفقان، فلمَّا عاينتك الملائكة الموكَّلون بأخذك قد حلَّ بك الاضطراب بالارتعاد (¬2) والمخافة علمت أنك أنت (¬3) المراد من العباد، فأهوت إليك بأيديها فقبضت عليك بعنفها ثم جذبتك إلى ربك عز وجل كما تجذب الدواب المنقادة، تتخطى (¬4) بك الصفوف محثوثاً إلى العرض على الله عزَّ وجلَّ والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت مجذوب إلى ربك عزَّ وجلَّ فيما بينهم. فتوهم حين وقفت بالاضطراب والارتعاد يرعد قلبك، وتوهم مباشرة أيديهم على عضديك، وغلظ أكفِّهم حين أخذوك، فتوهم نفسك محثوثة في أيديهم، وتوهم تخطيك الصفوف، طائراً فؤادك مختلعاً قلبك، فتوهم نفسك في أيديهم كذلك حتى انتهوا بك إلى عرش الرحمن، فقذفوا بك من أيديهم، وناداك الله عزَّ وجلَّ بعظيم كلامه: ادن مني يا ابن آدم فغيَّبك في نوره، فوقفت بين يدي رب عظيم جليل كبير كريم بقلب خافق محزون، وجل ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فوق] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [بالاردعاد] . (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تتخطا] .

مرعوب، وطرف خائف، خاشع ذليل، ولون متغير، وجوارح مرتعدة مضطربة، كالحمل الصغير حين تلده أمه، ترتعد بيدك صحيفة محبَّرة لا تغادر بليَّة كسبتَها ولا مخبأة أسررتها، فقرأت ما فيها بلسان كليل وحجة داحضة وقلب منكسر، فكم لك من حض وخجل وجبن من المولى الذي لم يزل إليك محسناً، وعليك ساتراً (¬1) فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك، وبأي قدم تقف غداً بين يديه، وبأي نظر تنظر إليه، وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل ومساءلته وتوبيخه؟ فتوهم نفسك بصغر جسمك، وارتعاد جوارحك، وخفقان قلبك، وقد سمعت كلامه بتذكير ذنوبك، وإظهار مساوئك، وتوقيفك وتقريرك بمخبَّآتك. فتوهم نفسك بهذه الهيئة، والأهوال بك محدقة من خلفك، فكم من بلية قد (¬2) نسيتَها قد ذكَّركها؟ وكم من سريرة قد كنتَ كتمتها قد أظهرها وأبداها؟ وكم من عمل قد ظننتَ أنه قد خلص لك وسلم بالغفلة منك إلى ميل الهوى عما يفسده قد رده في ذلك الموقف عليك وأحبطه بعد ما كان تأملك فيه عظيماً؟ فيا حسرات قلبك وتأسفك على ما فرطتَ في ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ساتر] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فوق] .

طاعة ربك. حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر كل بلية ونشر كل مخباة، فأجهدك الكرب، وبلغ منك الحياء منتهاه، لأنه الملك الأعلى (¬1) فلا حياء يكون من أحد أعظم من الحياء منه، لأنه القديم الأول الباقي الذي ليس له مثل، المحسن المتعطف المتحنن الكريم الجواد المنعم المتطول. فما ظنك بسؤال من هو هكذا، وقد أبان عن مخالفتك إياه، وقلة هيبتك له، وحيائك منه، ومبارزتك له، فما ظنك بتذكيره إياك مخالفته وقلة اكتراثك في الدنيا بالطاعة له، ونظرك إليه إذ يقول: يا عبدي، أما أجللتني، أما استحييت مني، استخففت بنظري إليك، ألم أحسن إليك، ألم أنعم عليك، ما غرك مني، شبابك فيم أبليته، وعمرك فيم أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته، وعملك ماذا عملت فيه؟ . 17- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحد إلا سيسأله رب العالمين، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان " (¬2) . 18- وقال: سمعت عدي بن حاتم قال: شهدتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث له: " ليقفنَّ أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبه، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه، فيقول: ألم أنعم عليك، ألم آتك مالاً؟ فيقول: بلى، فيقول: ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [الأعلا] . (¬2) أخرجه بهذا اللفظ الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في بغية الحارث (2/1003) ح1123 بلفظ: حدثنا عبد العزيز بن أبان القرشي ثنا بشير بن المهاجر ثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحد الا سيسأله رب العالمين ليس بينه ـ يعني ـ وبينه حجاب ولا ترجمان ". وأخرجه أيضاً الهيثمي في المجمع (10/346) . وإسناده فيه عبد العزيز بن أبان وقد كذبه ابن معين ومحمد بن عبد الله بن نمير. فقد قال عنه يحيى بن معين: كذاب خبيث يضع الحديث. وقال مرة: ليس حديثه بشيء كان يكذب. وقال أحمد: تركته. وقال أبو حاتم: متروك الحديث لا يشتغل به تركوه لا يكتب حديثه. وقال البخاري: تركوه. قال في التقريب: متروك، وكذا قال الهيثمي في المجمع، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: ليس بذاك وليس هو في شيء من كتبي. وقال يعقوب بن شيبة: وعبد العزيز بن أبان عند أصحابنا جميعاً متروك كثير الخطأ كثير الغلط، وقد ذكروه بأكثر من هذا. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه فقال: ضعيف. قلت: يكتب حديثه. قال: ما يعجبني إلا على الاعتبار. قال: وترك أبو زرعة حديثه وامتنع من قراءته علينا وضربنا عليه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال محمد بن سعد: وكان كثير الرواية عن سفيان ثم خلط بعد ذلك فأمسكوا عن حديثه. وفي إسناده أيضاً بشير بن المهاجر الغنوي الكوفي وهو من رجال مسلم والأربعة. قال فيه أحمد: منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هو يجيء بالعجب. وقال الساجي: منكر الحديث. وقال العقيلي: مرجئ متهم متكلم فيه. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه وهو ممن يكتب حديثه وإن كان فيه بعض الضعف. وقال ابن حبان في الثقات: دلس عن أنس ولم يره، وكان يخطئ كثيراً. وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال ابن معين والعجلي: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال في الكاشف: ثقة فيه شيء. وقال في التقريب: صدوق لين الحديث. قلت: ويراجع هل الذي رواه عنه مسلم رواه في الشواهد، أم في الأصول لأن الذي وجدته له في مسلم إنما هو في الشواهد. غير أن هذا الحديث بغير هذا الإسناد أخرجه بقريب من هذا اللفظ البخاري ح 7443، وانظر الحديث التالي.

ألم أرسل إليك رسولاً؟ فيقول: بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة " (¬1) . 19*- وقال: سمعت عبد الله بن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث، فقال: (ما منكم من أحد إلا سيخلو (¬2) الله عز وجل به، كما يخلو (¬3) أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا ابن آدم ما غرك بي، يا ابن آدم ما عملت فيما علمت، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟) (¬4) . 20*- وعن ابن مسعود أنه بدأ باليمين، فقال: (والله ما منكم من أحد إلا سيخلو (¬5) به الله عز وجل كما يخلو (¬6) أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا ابن آدم ما غرك بي، يا ابن آدم ما عملت لي، يا ابن آدم ما استحييت مني، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين، يا ابن آدم ألم أكن رقيباً على عينيك (¬7) وأنت تنظر بهما إلى ما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيباً على أذنيك وأنت تستمع بهما إلى ما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيباً على لسانك وأنت تنطق بما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيباً على يديك وأنت تبطش بهما إلى ما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيباً على رجليك وأنت تمشى بهما إلى ما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيباً على قلبك وأنت تهم بما لا يحل لك؟ أم أنكرت قربي منك وقدرتي عليك؟) (¬8) . وأنت يا ابن آدم بين خطرين عظيمين: إما أن يتلاقاك برحمته ويتطول عليك بجوده، ¬

(¬1) أخرجه البخاري ح 1413 بإسناد له عن عدي بن حاتم يقول: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلان أحدهما يشكو العيلة والآخر يشكو قطع السبيل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما قطع السبيل فإنه لا يأتي عليك إلا قليل حتى تخرج العير إلى مكة بغير خفير، وأما العيلة فإن الساعة لا تقوم حتى يطوف أحدكم بصدقته لا يجد من يقبلها منه، ثم، ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى. ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة ". والحديث أخرجه البخاري ح 3595، 6539، 7511، ومسلم ح1016، والترمذي ح2415، وابن ماجة ح185، 1843، وأحمد (4/256، 377) وابن حبان (16/373، 374) ح7373، 7374، والبيهقي في الكبرى (4/176) ح7533، (5/225) ح9910، 9911، والطبراني في الكبير (17/82، 83) ح184: 188، (17/94) ح224، 225، وفي الصغير (2/136) ح917، والطيالسي في مسنده ص139 ح1308، والبخاري في خلق أفعال العباد ص 42. وأخرجه مختصراً البخاري ح 7443، والطبراني في الكبير (17/94) ح223. وجزء اتقاء النار ولو بشق تمرة له تخاريج كثيرة. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [سيخلوا] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يخلوا] . (¬4) أخرجه الطبراني في الكبير (9/182) ح8899 بلفظ: حدثنا بشر بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ثنا أبو عوانة عن هلال الوزان عن عبد الله بن عكيم قال: سمعت عبد الله بن مسعود في هذا المسجد يبدأ باليمين قبل الكلام فقال: ((ما منكم من أحد إلا أن ربه سيخلو به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم ما غرك بي! ابن آدم ما غرك بي! ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ ابن آدم ماذا عمِلت فيما عَلِمت؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا عملت فيما عملت. وإسناده صحيح موقوفاً على ابن مسعود، ومثل هذه الروايات تأخذ رجاحة الرفع من حيث المعنى، لأنها لا يتحدث بها من قبيل الرأي، ورجال إسناده رجال مسلم، وبعضهم من رجال الستة، غير بشر بن موسى فهو متأخر، وقال عنه الذهبي في التذكرة: الإمام المحدث الثبت. ونعته في السير بقوله: الحافظ الثقة. وقال الخطيب والدارقطني: ثقة. وإن كان أبو عوانة وهو الوضاح وهو من رجال الستة وهو ثقة ثبت، اعتمده الأئمة كلهم، كما ابن حجر في التقريب والفتح. غير أن أبا حاتم قال: كتبه صحيحه وإذا حدث من حفظه غلط كثيراً، وهو صدوق ثقة وهو أحب إلي من أبي الأحوص ومن جرير وهو أحفظ من حماد بن سلمة. قال الذهبي: استقر الحال على أن أبا عوانة ثقة، وما قلنا إنه كحماد بن زيد بل هو أحب إليهم من إسرائيل وحماد بن سلمة وهو أوثق من فليح ابن سليمان وله أوهام تجانب إخراجها الشيخان. قلت: ويشهد له الرواية التالي. وأخرج ابن سعد في طبقاته في ترجمة عبد الله بن عكيم الجهني (6/113) فقال: أخبرنا الفضل بن دكين قال حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم قال: سمعت عبد الله بن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث قال: ((والله إن منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة)) . وفي الحديث طول ... . وإسناد الجزء الموافق لما قبله صحيح لغيره موقوف على ابن مسعود، راجح الرفع، وذلك لإن شريك بن عبد الله الذي فيه كلام ـ كما تقدم ـ قد توبع كما في الرواية السابقة. هذا وقد أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير (9/182) ح8900 بلفظ: حدثنا أبو يزيد القراطيسي ثنا أسد بن موسى ثنا شريك عن هلال الوزان عن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث قال: ((والله إن منكم أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، يقول: ما غرك بي ابن آدم، ما غرك بي ابن آدم، ما غرك بي ابن آدم، ماذا عملت فيما علمت ابن آدم، ماذا أجبت المرسلين)) . وإسناده كسابقه، وأسد بن موسى، قال عنه البخاري: مشهور الحديث. وقال في التقريب: صدوق يغرب. وقال النسائي وابن قانع والعجلي والبزار وابن يونس: ثقة. وقال ابن يونس: حدث بأحاديث منكرة وأحسب الآفة من غيره. قلت: وقد تابعه الفضل بن دكين عند ابن سعد في الرواية السابقة. (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [سيخلو] . (¬6) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [يخلو] . (¬7) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [عينك] . (¬8) لم أقف عليه بهذا الطول، ولعله هو رواية ابن سعد التي أشار إليها ولم يذكرها، فإن تكنها، ففي إسنادها شريك، وقد تقدم الكلام فيه، والراوي عنه وهو اغضل بن دكين كوفي ... ، والجزء المشترك في هذه الرواية مع سابقتها إسنادها كسابقتها.

وإما أن يناقشك الحساب، فيأمر بك إلى الهاوية وبئس المصير. 21**- عن مجاهد قال: (لا يزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله عز وجل حتى يسأله عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن عمله ما عمل فيه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) . فما ظنك بنفسك وضعف قلبك، والله عز وجل يكرر عليك ذكر إحسانه إليك، ومخالفتك له، وقلة حيائك (¬1) منه، فأعظم به موقفاً، وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية، وأعظم بما يداخلك من الحزن والغمَّ والتأسف على ما فرطت في طاعته وركوبك معصيته. فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء بدا لك (¬2) منه أحد الأمرين: الغضب أو الرضا عنك والحب لك. فإما أن يقول: يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك، وتقبلت منك يسير إحسانك، فيستطير بالسرور والفرح قلبك فيشرق لذلك وجهك. فتوهم نفسك حين قالها لك، فابتدأ إشراق السرور ونوره في وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال، والحسرة من ذكر مساوئ فعلك، فاستبدلت ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [حياك] . (¬2) كذا أثبتها (أ) من الهامش فقال: كذا في الهامش، وفي الأصل: [بدلك] .

بالكآبة والحزن سروراً في قلبك، فأسفر وجهك وابيضَّ لونك. فتوهم رضاه عنك حين سمعته منه، فثار في قلبك فامتلأ سروراً وكدت أن تموت فرحاً وتطير سروراً، ويحق لك، فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل؟ ! فو الله تعالى لو أنك مت فرحاً في الدنيا حين توهمت رضاه في الآخرة لكنت بذلك حرياً، وإن كنت لم تستيقن برضاه في الآخرة، ولكن آملاً لذلك، فكيف بك مستيقناً له في الآخرة، ولو توهمت نفسك، وقد بدا لك منه الرحمة والمغفرة كنت حقيقاً أن تطير روحك من بدنك فرحاً، فكيف أن لو قد سمعتَ من الله عز وجل الرضا عنك والمغفرة لك، فأمن خوفك، وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد، ولأيقنت بفوزك ونعيمك أبداً [لا يفنى] (¬1) ولا يبيد بغير تنقيص ولا تكذيب. فتوهم نفسك بين يدي الله عز وجل وقد بدا لك منه الرضا، وطار قلبك فرحاً، وابيضَّ وجهك وأشرق وأنار وأحال عن خلقته، فصار كأنه القمر ليلة البدر. ثم خرجتَ على الخلائق مسروراً بوجهٍ محبور قد حل به أكمل الجمال والحسن، يسطع نوراً مشرقاً بتلألئه، ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ألا يفنا] .

تتخطَّاهم بالجمال والحسن والنور والضياء، كتابك بيمينك، أخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس (¬1) الخلائق: هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى (¬2) بعدها أبداً. لقد شهرك ربك عز وجل بالرضا عنك عند خلقه، ولقد حقق حسن ظن الظانين، وأبطل تهم المتهمين لك، وإن في هذه المنزلة غداً على رؤوس الخلائق لعوضاً من المنزلة عند العباد بطاعته والتصنع لهم زهداً في المنزلة عندهم، والتعظيم عندهم بطاعة ربه عز وجل بصدق معاملته وحده لا شريك له، عوضك المنزلة الكبرى على رؤوس الخلائق، فشهرك برضاه عنك وموالاته إياك. فتوهم نفسك وأنت تتخطى (¬3) الخلائق، وكتابك في يمينك بجمال وجهك ونوره، وفرح قلبك وسروره، وقد شخصت أبصارهم إليك غبطة لك وتأسفاً على أن ينالوا من الله عز وجل ما نلت، فليعظم من الله عز وجل في طلب ذلك أملك ورجاؤك، فإنه عز وجل إن تفضل عليك نلت ذلك. فهذا أحد الأمرين الذي أنت بينهما على خطر. 22- عن صفوان بن محرز قال: كنتُ آخذاً بيد عبد الله بن عمر، فأتاه رجل فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روس] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يشقا] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تتخطا] .

فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله عز وجل يُدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس، فيقول: يا عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب، ثم يقول: يا عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: إني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم. ثم يُعطى (¬1) كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} (¬2) " (¬3) . 23- قال: بينا عبد الله بن عمر يطوف بالبيت إذ عارضه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ فذكر مثله (¬4) . 24**- وقال سعيد: قال قتادة: (لم يحزن يومئذ أحد فخفي حزنه على أحد من الخلائق) (¬5) . 25*- وعن ابن مسعود أنه قال: (ينشر الله عز وجل كنفه يوم القيامة على عبده المؤمن، ويبسط كفه لظهرها، فيقول: يا ابن آدم هذه حسنة قد عملتَها في يوم كذا وكذا قد (¬6) قبلتها، وهذه خطيئة قد عملتَها في يوم كذا وكذا قد غفرتها لك، فيسجد، فيقول الناس: طوبى (¬7) لهذا العبد الصالح الذي لم يجد في صحيفته إلا حسنة ـ أو قال: في ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يعطا] . (¬2) هود /18. (¬3) أخرجه البخاري ح 2441 بلفظ: عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما آخذ بيده إذ عرض رجل فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك. قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} . والحديث متفق عليه، فقد أخرجه البخاري ح 4685، ومسلم مع تغير طفيف في بعض اللفظ (4/2120) ح2768 وقال فيه: " يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل "، وابن ماجة (1/65) ح183، وأحمد (2/74، 105) ، وابن حبان (16/353، 355) ح7355، 7356، والنسائي في الكبرى (6/364) ح11242، وأبو يعلى (10/122) ح5751، وعبد بن حميد ص266 ح846، والبخاري في خلق أفعال العباد ص78. وأخرجه مختصراً البخاري ح 6070، 7514. (¬4) أخرجه أحمد (2/105) غير أنه قال: عرضه. وانظر الحديث السابق. (¬5) وذكر في أحمد (2/105) قول قتادة بلفظ: فلم يخز يومئذ أحد فخفى خزيه على أحد من الخلائق. (¬6) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬7) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [طوبا] .

كتابه) . 26*- وعن عبد الله بن حنظلة قال: (إن الله عز وجل يقف عبده يوم القيامة فيبدي (¬1) حسناته في ظهر صحيفته فيقول له: أنت عملت هذا؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول: إني لن أفضحك به اليوم وإني قد غفرت لك اليوم فيقول عندها: {هآؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيهْ} (¬2) حين نجا من فضيحة يوم القيامة) . وأما الأمر الآخر: فإما أن يقول لك: عبدي أنا غضبان عليك فعليك لعنتي، فلن أغفر لك عظيم ما آتيت، ولن أتقبل منك ما عملت، فيقول لك ذلك عند بعض ذنوبك العظيمة: أتعرفها؟ فتقول: نعم وعزتك، فيغضب عليك فيقول (¬3) : وعزتي لا تذهب بها مني، فينادي الزبانية فيقول: خذوه. فما ظنك بالله عز وجل يقولها بعظيم كلامه وهيبته وجلاله. فتوهم إن لم يعف عنك، وقد سمعتَها من الله عز وجل بالغضب، وأسند إليك الزبانية بفظاظتها وغلظ أكفها، مستضفرة بأزمة من النيران غضاباً لغضب (¬4) الله عز وجل بالعنف عليك والغلظ والتشديد، فلم تشعر حين قالها إلا ومجسة غلظ أكفهم في فقاك وعنقك. فتوهم غلظ أكفهم حين قبضوا على عنقك بالعنف، يتقربون إلى الله عز وجل بعذابك ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فيبدا] . (¬2) الحاقة /20. (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [بالغضب] .

وهوانك. فتوهم نفسك مستجذباً ذليلاً موقناً بالهلاك وأنت في أيديهم وهم ذاهبون بك إلى النار، مسوداً وجهك، تتخطى الخلائق بسواد وجهك، وكتابك في شمالك تنادي بالويل والثبور، والملك آخذ بضبعيك ينادي: هذا فلان ابن فلان شقى شقاء لا يسعد بعده أبداً. لقد شهرك بالغضب والسخط عليك، ولقد تمت فضيحتك عند خلقه، فأخلف حسن ظن الظانين بك، وحقق تهم المتهمين لك، ولعله إن فعل ذلك بك فعله بتصنعك لطاعته عند عباده بطلب المنزلة عندهم بسقوط المنزلة والجاه عنده، ففضحك عند من آثرته عليه في المعاملة، ورضيت بحمده على طاعة ربك عز وجل عوضاً من حمده إياك تبارك وتعالى. فتوهم ذلك، ثم توهمه، واذكر هذا الخطر، وكن مفكراً حذراً أي الأمرين يرتفع بك وأي الأمرين قد أعد لك. 27**- عن كعب قال: إن الرجل ليؤمر به إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك. قال أبو عبد الله: وقد بلغني أنه إذا وقف العبد بين يديّ الله عز وجل فطال وقوفه، تقول الملائكة: ما لك من عبد

عليك لعنة الله، أبكل هذا بارزت الله عز وجل وقد كنت تظهر في الدنيا علانية حسنة. قال: أبو عبد الله: ولقد بلغني أيضاً أنه إذا حوسب فوُبَّخ بكثرة أعماله الخبيثة، تقول الملائكة: ما لك من آدمي عليك لعنة الله، أبكل هذا بارزت الله عز وجل، وقد كنت تظهر الحسن في الدنيا؟ قال: من تحبَّب إلى الناس بما لا يحب الله عز وجل، وبارز الله عز وجل بما يكره، لقي الله عز وجل وهو عليه ساخط وله ماقت. ثم قال أبو عبد الله وهو يحدث: (والله عز وجل ما أمسيت آسفاً عليَّ وعليكم ـ ومع ذلك الجسر بدقته وزلله وهوله وعظيم خطره قدَّامك) . فتوهم ما حلَّ من الوجل بفؤادك حين رفعت طرفك فنظرت إليه مضروباً على جهنم بدقته ودحوضه، وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له من منظر ما أفظعه وأهوله، وقد علمت أنك راكب فوقه، وأنت تنظر إلى سواد جهنم من تحته، وتسمع قصيف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها، والملائكة تنادي (¬1) : ربنا من تريد أن تجيزه على هذا؟ وتنادي (¬2) : ربنا ربنا سلم سلم. ¬

(¬1) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬2) كسابقه.

فبينا أنت تنظر إليه بفظاعة منظره إذ نودي مروُّا الساهرة، فلم تشعر إلا وقد رُفعت الأرض من تحتك وتحت الخلائق لأن تبدَّل، ثم بُدِّلت بأرض من فضة، فإذا الخلائق منثورون على أرض من فضة بيضاء (¬1) ، ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر بفظاظته وقيل للخلق معك: اركبوا الجسر. فتوهم خفقان فؤادك وفزعه، وقد قيل لك: اركب الجسر، فطار عقلك رعباً وفزعاً، ثم رفعت إحدى قدميك لتركبه فوجدت بباطن قدميك حدته ودقته، فطار قلبك فزعاً، ثم ثنيت الأخرى فاستويت عليه راكباً وقد أثقلتك أوزارك وأنت حاملها على ظهرك، ثم صعدت عليه بطيران قلبك حتى بلغت ذروته، والخلائق من بين يديك ومن ورائك (¬2) عرف واحد يضطرب بهم خفقان جهنم تحته، فتهافت الناس من بين يديك ومن ورائك. فتوهم صعودك بضعفك عليه، وقد نظرت إلى الزالِّين والزالاَّت من بين يديك ومن خلفك، وقد تنكست هاماتهم، وارتفعت على الصراط أرجلهم، وأخذت الملائكة بلحى (¬3) الرجال وذوائب النساء من ¬

(¬1) كسابقه. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ولايك] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [بلحا] .

الموحدين، إذ الأغلال في أعناقهم، وثارت النار بطلبتها وفارت وشهقت على هاماتهم، ورمتهم الملائكة بالكلابيب فجذبتهم، وثارت إليهم النار بطلبتها وحريقها، وزفرت وشهقت على هاماتهم، وبادرت شرر النار إلى هاماتهم فتناولتها ثم جذبت هاماتهم إلى جوفها، وهم ينادون ويصرخون وقد أيسوا من أنفسهم، وهم لاجتذاب النار لهاماتهم فيها ينحدرون، وهم بالويل ينادون، وأنت تنظر إليهم مرعوباً خائفاً أن تتبعهم، فتزل قدمك فتهوى (¬1) من الجسر وتنكسر قامتك وترتفع على الصراط رجلاك. فتوهم ذلك في الدنيا بعقل فارغ وشفقة على ضعف بدنك، مخفف في الدنيا للمرور عليه، فإن أهوال يوم القيامة إنما تخفف على أولياء الله عز وجل الذين توهموها (¬2) في الدنيا (¬3) بعقولهم، فعظم خطر النجاة عندهم، فتحملوا من ثقل همومها في الدنيا على قلوبهم وشدة خوفها على نفوسهم، فخففها في القيامة بذلك عليهم مولاهم، فالزم قلبك توهمها والخوف منها والغم بها، لأنه يخفِّفها عليك بذلك ويهونها، لأنه آلى على نفسه ألا يجمع على أوليائه الخوف في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فنهوا] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬3) كسابقه.

فتوهم ممرك على الجسر بشدة الخوف وضعف البدن، وإن يكن مغضوباً عليك غير معفي (¬1) عنك، ولم تشعر إلا وقد زلَّت (¬2) قدمك عن الصراط. فتوهم (¬3) نفسك ـ إن لم يعف عنك ـ أن زلت رجلك عن الصراط، فقلت في نفسك مع ذلك: ذهبتُ أبداً، هذا الذي كنت أحاذر وأخاف، وطار عقلك. ثم زلت الأخرى فتنكست هامتك، وارتفعت عن الصراط رجلاك فلم تشعر إلا والكلُّوب قد دخل في جلدك ولحمك، فجذبتَ به، وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها، فهي تجذبك وأنت تهوى من الجسر وتنادي حين وجدت مسَّ نفحها: ويلي ويلي، وقد غلب على قلبك الندم والتأسف، ألا كنتَ أرضيت الله عز وجل فرضي عنك، وأقلعت عماَّ يكره قبل أن تموت فغفر لك، حتى إذا صرتَ في جوفها التحمت عليك بحريقها، وقلبك قد بلغ غاية حرقته ومضيضه، فتورمتَ في أول ما ألقيت فيها، ونادى (¬4) الله عز وجل النار وأنت مكبوب على وجهك تنادي بالويل والثبور، فناداها {هَلِ امْتَلأتِ} (¬5) ؟ فسمعتَ نداءه وسمعتَ إجابتها له: {هَلْ مِنْ مَزِيد} ؟ يقول: هل من سعة؟ وأنت ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [معفا] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬3) كسابقه. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ونادا] . (¬5) ق /30.

في قعرها، وهي تتلهَّب في بدنك، لها قصيف في جسدك، ثم لم يلبث أن تقطر بدنك وتساقط لحمك، وبقيت عظامك، ثم أطلقت النار على ما في جوفك فأكلت ما فيه. فتوهم كبدك والنار تداخل فيها، وأنت تنادي فلا تُرحم، وتبكي وتعطي الندم إن رُدِدْتَ ألاَّ تعود، فلا تقبل توبتك، ولا يُجاب نداؤك (¬1) . فتوهم نفسك وقد طال فيها مكثك وألح العذاب، فبلغت غاية الكرب، واشتد بك العطش، فذكرت الشراب في الدنيا، ففزعت إلى الجحيم، فتناولتَ الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك، فلما أخذته نشبت كفك فيه، وتفسخت لحرارته ووهيج حريقه، ثم قربته إلى فيك فشوى وجهك، ثم تجرعته فسلخ حلقك، ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك، فناديتَ بالويل والثبور، وذكرتَ شراب الدنيا وبرده ولذته. ثم أقلعت (¬2) عن الحريق، فبادرت إلى حياض الحميم لتبرد بها كما تعود في الدنيا الاغتسال والانغماس في الماء إذا اشتد عليك الحر، فلما انغمستَ في الحميم تسلخ من قرنك إلى قدمك، فبادرت إلى ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [نداك] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [أقلقت] .

النار رجاء أن تكون هي أهون عليك، ثم اشتد عليك حريق النار فرجعت إلى الحميم وأنت تتطوف بينها وبين حميم آن، وهو الذي قد انتهى حره، وتطلب الروح فلا روح بين الحميم وبين النار، تطلب الروح فلا روح أبداً. فلما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك المجهود ذكرتَ الجنان فهاجت غصة من فؤادك إلى حلقك أسفاً على جوار الله عز وجل، وحزناً على نعيم الجنة، ثم ذكرتَ شرابها وبرد مائها وطيب عيشها، فتقطع قلبك حسرة لحرمان ذلك، ثم ذكرتَ أن فيها (¬1) بعض القرابة من أب أو أم أو أخ، وغيرهم من القرابة، فناديتهم بصوت مخزون من قلب محترق قلق: يا أماه أو يأبتاه أو يا أخاه أو يا خالاه أو يا عماه أو يا أختي شربة من ماء، فأجابوك بالخيبة فتقطع قلبك حسرة (¬2) بما خيبوا من أملك، وبما رأيت من غضبهم عليك لغضب ربك عز وجل، ففزعت إلى الله بالنداء بالمرجع والعتبى أن يردك إلى الدنيا، فمكث عنك دهراً طويلاً لا يجيبك هواناً بك وأن صوتك عنده ممقوت، وجاهك عنده ساقط، ثم ناداك بالخيبة منه أن {اخْسئَوا فِيهَا ولا تُكلِّمُونِ} (¬3) . فلما سمعتَ كلامه بنداء جلاله ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فيهم] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [حسرات] . (¬3) المؤمنون /108.

بالتخسئة لك ابتداء، فمثلك لا يجاب، ومناخرك وفيك ملجومة (¬1) بلجام، فبقى نفسك متردداً في جوفك لا مخرج له، فضاقت نفسك في صدرك وبقيت قلقاً تزفر لا تطيق الكلام ولا يخرج منك (¬2) نفس. ثم أراد أن يزيدك إياساً وحسرة، فأطبق أبواب النار عليك وعلى أعدائه فيها. فما ظنك إن لم يعف عنك، وقد سمعتَ رجوف بابها قد أغلق؟ فيا إياسك ويا إياس سكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم فعلموا عند ذلك أن الله عز وجل إنما أطبقها لئلا يخرج منها أحد أبداً، فتقطعتْ قلوبهم إياساً وانقطع الرجاء منهم ألا فرج أبداً ولا مخرج منها ولا محيص لهم من عذاب الله عز وجل أبداً، خلود فلا موت، وعذاب لا زوال له عن أبدانهم، ودوام حرق قلوبهم ومضيضها، فلا روح ولا راحة تعلق بهم أبداً، أحزان لا تنقضي، وغموم لا تنفد، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تحل، وأغلال لا تفك أبداً، وعطش لا يرون بعده أبداً، وكرب لا يهدأ أبداً، وجوع لا يشبعون بعده أبداً إلا بالزقوم ينشب في حلوقهم فيستغيثون بالشراب ليسوغوا به غصصهم فيقطع أمعاءهم، وحسرة فوت رضوان ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ملجومين] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

الله عز وجل في قلوبهم، وكمد حرمان جوار الله عز وجل يتردد (¬1) في صدورهم. لا يرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم، ولا يغاثون (¬2) عند تضرعهم، ولا تقبل توبتهم ولا تقال عثرتهم. غضب الله عز وجل عليهم فلا يرضى عنهم أبداً إذ أبغضهم ومقتهم، وسقطوا من عينه (¬3) ، وهانوا عليه فأعرض عنهم. فلو رأيتهم وقد عطشوا وجاعوا فنادوا من أهل الجنة الأقرباء فقالوا جميعاً: يا أهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والإخوة والأخوات، خرجنا من قبورنا عطاشاً، وأوقعنا بين يدي الله عز وجل عطاشاً، وأمر بنا إلى النار عطاشاً، أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله. فأجابوهم بالتخسئة، فتراجع في قلوبهم الحسرة والندامة فهم فيها يتقلقون لا ينفح وجوههم (¬4) روح أبداً، ولا يذوقون منها برداً أبداً، ولا يطبقون جفونهم على غمض نوم أبداً، فهم في عذاب دائم وهوان لا ينقطع. فمثل نفسك بهذا الوصف إن لم يعف عنك. فلو رأيت المعذبين في خلقهم، وقد أكلت النار لحومهم، ومحت محاسن وجوههم، واندرس تخطيطهم، فبقيت العظام مواصلة محترقة مسودة، وقد قلقوا واضطربوا في قيودهم وأغلالهم، وهم ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يترد] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يغاثوا] . (¬3) هذا اللفظ لم يرد عن الله، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي ذكره في الكلام عن الله. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وجوهم] .

ينادون بالويل والثبور، ويصرخون بالبكاء والعويل، إذن لذاب قلبك فزعاً من سوء خلقهم، وتضعفت من رائحة نتنهم، ولما بقى روحك في بدنك من شدة وهج أبدانهم وحرارة أنفاسهم. فكيف بك إن نظرت إلى نفسك فيها وأنت أحدهم، وقد زال من قلبك الأمل والرجاء، ولزمه القنوط والإياس، وعطفت على بدنك فتقحمت النار في الحدقتين، فسمعت تفضيضهما انتقاماً، وبدلاً من نظرك إلى ما لا يحب ولا ويرضى، ودخلت النار في مسامعك فتسمع لها قصيفاً وجلبة، والتحفت عليك فنفضت منك العظام ودوَّبت اللحام، واطَّلعت إلى الجوف فأكلت الكبد والأحشاء، فغلبت على قلبك الحسرة (¬1) والندامة والتأسف. فتوهم ذلك بعقل فارغ، رحمة لضعفك، وارجع عما يكره مولاك (¬2) ، وترضى ربك عسى أن يرضى عنك، وأعذ به بعقلك واستقله يقلك عثراتك، وابك من خشيته عسى أن يرحمك ويقيل عثراتك فإن الخطر عظيم، وإن البدن ضعيف، والموت منك قريب، والله جل جلاله مع ذلك مطلع يراك وناظر ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [الحسرات] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

لا يخفى (¬1) عليه منك سرُّ ولا علانية، فاحذر نظره (¬2) بالمقت والبغضة والغضب والقلاء، وأنت لا تشعر فرحاً أو قرير العين. فاحذر الله عز وجل وخفه واستح منه وأجلّه، ولا تستخف بنظره، ولا تتهاون باطلاعه، وأجل مقامه عليك، وعلمه بك، وافرقه واخشه قبل أن يأخذك بغتة، ولير أثر مصيبة مخالفتك له ليعلم ما قد بلغ منك خلافه، فيعظم حزنك ويشتد غمك بمخالفته، وليعلم أنه قد بلغ إليك خلافه، فإن علم ذلك منك صفح عنك وعفا عنك، فلا تتعرض لله عز وجل، فإنه لا طاقة لك بغضبه ولا قوة لعذابه، ولا صبر لك على عقابه، ولا صبر عندك عن جواره، فتدارك نفسك قبل لقائه، فكأنك بالموت قد نزل بك بغتة. فتوهم ما وصفتُ لك، فإنما وصفت بعض الجمل، فتوهم ذلك بعقل فارغ موقن عارف بما قد جنيتَ على نفسك وما استوجبت بجنايتك، وفكر في مصيبتك في دينك، ولير الله عز وجل عليك أثر المصيبة لعله أن يرحمك فيتجاوز عنك لمغفرته وعفوه، إن كنت من أهل العفو والتجاوز. فتوهم إن تفضل الله عز وجل عليك بالعفو ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يخفا] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

والتجاوز ممرك على الصراط، ونورك معك يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابك بيمينك، مبيض وجهك، وقد فصلت من بين يدي الله عز وجل، وأيقنت برضاه عنك، وأنت على الصراط مع زمر العابدين، ووفود المتقين، والملائكة تنادي: سلم سلم، والوجل مع ذلك لا يفارق قلبك ولا قلوب المؤمنين، تنادي وينادون: {ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} (¬1) فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نورهم، وهاج الوجل في قلوبهم، فدعوا بتمام النور والمغفرة. فتوهم نفسك وأنت تمر خفيفاً مع الوجل، فتوهم ممرك على قدر خفة أوزارك وثقلها، فتوهم نفسك وقد انتهيت إلى آخره، فغلب على قلبك النجاة وعلا عليك الشفق، وقد عاينت نعيم الجنان، وأنت على الصراط، فتطلع قلبك إلى جوار الله عز وجل، واشتاق إلى رضا الله، حتى إذا صرت إلى آخره خطوت بإحدى رجليك إلى العرصة (¬2) التي بين آخر الجسر وبين باب الجنة فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدم الأخرى على ¬

(¬1) التحريم /8. (¬2) قال في المختار: العَرْصَة بوزن الضربة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، والجمع العِرَاصُ والعَرَصَاتُ.

الصراط، والخوف والرجاء قد اعتليا في قلبك وغلبا عليك، ثم ثنيت بالأخرى فجزت الصراط كله واستقرت قدماك على تلك العرصة، وزلت عن الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك، وجهنم تضطرب من تحت من يمر عليها، وتثب على من زل عنه مغتاظة تزفر عليه وتشهق إليه. ثم التفت إلى الجسر فنظرت إليه باضطراب، ونظرت إلى الخلائق من فوقه وإلى جهنم من تحته تثب وتزفر على الذين زلزلوا عن الصراط لها في رؤوسهم (¬1) وأنحائهم قصيف، فطار قلبك فرحاً إذ رأيت عظيم ما نجاك الله منه، فحمدتَ الله وازددتَ له شكراً، إذ نجوتَ بضعفك من النار. وخلفتَ النار وجسرها من وراء ظهرك متوجهاً إلى جوار ربك. ثم خطوتَ آمنا إلى باب الجنة قد امتلأ قلبك (¬2) سروراً وفرحاً، فلا تزل في ممرك بالفرح والسرور حتى توافي أبوابها (¬3) فإذا وافيتَ بابها (¬4) استقبلك بحسنه، فنظرتَ إلى حسنه ونوره وحسن صورة الجنة وجدرانها، وقلبك مستطير فرح مسرور متعلق بدخول الجنة حين وافيتَ بابها أنت وأولياء الرحمن. فتوهم نفسك في ذلك الموكب، وهم أهل كرامة الله ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] . (¬2) قال (أ) : ناقص في الأصل. (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) كسابقه.

ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورون فرحون مستبشرون، وقد وافيت باب الجنة بغبار قبرك، وحر المقام، ووهج تعب (¬1) ما مر بك، فنظرت إلى العين التي (¬2) أعدها الله لأوليائه وإلى حسن مائها، فانغمست فيها مسروراً لما وجدتَ من برد مائها وطيبه، فوجدتَ له برداً وطيباً فذهب عنك بحزن المقام، وطهرك من كل دنس وغبار، وأنت مسرور لما وجدتَ من طيب مائها لمَّا باشرته، وقد أفلت من وهج الصراط وحره، لأنه قد يوافي بابها من أحرقت النار بعض جسده بلفحها، وقد بلغت منه، فما ظنك وقد انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهج حر الصراط، فوافيت باب الجنة بذلك، فلما نظرت إلى العين قذفت بنفسك فيها. فتوهم فرحة فؤادك لمَّا باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط ووهج القيامة، وأنت فرح لمعرفتك أنك إنما تغتسل لتتطهر لدخول الجنة والخلود فيها، فأنت تغتسل منها دائباً ولونك متغير حسناً، وجسدك يزداد نضرة وبهجة ونعيماً، ثم تخرج منها في أحسن الصور وأتم النور. فتوهم فرح قلبك حين خرجت منها، فنظرت ¬

(¬1) كسابقه. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [التي] .

إلى كمال جمالك ونضارة وجهك وحسنه، وأنت عالم موقن بأنك تتنظف للدخول إلى جوار ربك. ثم تقصد إلى العين الأخرى فتتناول من بعض آنيتها، فتوهم نظرك إلى حسن الإناء وإلى حسن الشراب، وأنت مسرور بمعرفتك أنك إنما تشرب هذا الشراب لتطهر جوفك من كل غل، وجسدك ناعم أبداً حتى إذا وضعت الإناء على فيك ثم شربته وجدتَ طعم شراب لم تذق مثله ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إلى جوفك، فطار قلبك سروراً لما وجدت من لذته، ثم نقى جوفك من كل آفة فوجدت لذة طهارة صدرك من كل طبع كان فيه ينازعه إلى الغموم والهموم والحرص والشدة والغضب والغل. فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذلك على فؤادك. حتى إذا استكملتَ طهارة القلب والبدن، واستكمل أحباء الله ذلك معك، والله مطلع يراك ويراهم، أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الجنة من الملائكة الذين لم يزالوا مطيعين خائفين منه مشفقين وجلين من عقابه إعظاماً له وإجلالاً وهيبة له وحذراً من نقمه، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه، فانحدروا من دارها وبادروا من ساحاتها وأتوا باب الجنة فمدوا

أيديهم ليفتحوا أبوابها، وأيقنتَ بذلك فطار قلبك سروراً وامتلأتَ فرحاً، وسمعت حسن صرير أبوابها، فعلاك السرور وغلب على فؤادك، فيا سرور قلوب المفتوح لهم باب جنة رب العالمين. فلما فتح لهم بابها هاج نسيم طيب الجنان وطيب جري مائها، فنفح وجهك وجمع بدنك، وثارت أراييح الجنة العبقة الطيبة، وهاج ريح الأذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وأرياح طيب ثمارها وأشجارها وما فيها من نسيمها فتداخلت تلك الأراييح في مشامك حتى وصلت إلى دماغك، وصار طيبها في قلبك وفاض من جميع جوارحك، ونظرت بعينك إلى حسن قصورها وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر (¬1) من الزمرد والياقوت الأحمر والدر الأبيض قد سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه، فقد أكمله الله في الصفاء والنور ومازجه نور ما في الجنان، ونظرت إلى حجب الله وفرح فؤادك لمعرفتك أنك إذا دخلتها فإن لك فيها الزيادات والنظر إلى وجه ربك، فاجتمع طيب (¬2) أراييح الجنة وحسن بهجة منظرها وطيب ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [الأحمر] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [منظر طيب] .

نسيمها وبرد جوها، وذلك أول روح وطيب نفح وجهك. فتوهم نفسك مسروراً بالدخول لعلمك أنها يفتح بابها لك والذين معك أولياء الله، وفرحك بما تنظر إليه من حسن بهجتها، وما وصل إلى فؤادك من طيب رائحتها، وما باشر وجهك وبدنك من طيب جوها وبرد نسيمها. فتوهم نفسك أن تفضل الله عليك بهذه الهيئة، فلو مت فرحاً لكان ذلك يحق لك إذا فتحوا بابها أقبلوا عليك ضاحكين في وجهك ووجوه أولياء الله معك، ثم رفعوا أصواتهم يحلفون بعزه ما ضحكنا قط منذ خلقنا إلا إليكم، ونادوكم {سلام عليكم} (¬1) فتوهم حسن نغماتهم وطيب كلامهم وحسن تسليمهم في كمال صورهم وشدة نورهم، ثم أتبعوا السلام بقولهم: {طبتم فادخلوها خالدين} (¬2) فأثنوا عليهم بالطيب والتهذيب من كل دنس ودرن وغل وغش وكل آفة في دين أو دنيا، ثم أذنوا لهم على الله بالدخول في جواره، ثم أخبروهم أنهم باقون فيها أبداً، فقالوا {طبتم فادخلوها خالدين} . فلما ¬

(¬1) الزمر /73. (¬2) الزمر /73.

سمعت الأذن، وأولياء الله معك، بادرتم الباب بالدخول فكظت الأبواب من الزحام ـ كما قال عتبة بن غزوان (¬1) . 28- قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لانقضاضهم على باب الجنة أهم إليَّ من شفاعتي " (¬2) . فكظ من الزحام - فما ظنك بأبواب مسيرة أربعين عاماً كظيظة من زحام أولياء الرحمن، فأكرم بهم من مزدحمين مبادرين إلى ما قد عاينوا من حسن القصور من الياقوت والدر. فتوهم نفسك أن عفا (¬3) الله عنك في تلك الزحمة، مبادراً مع مبادرين، مسروراً مع مسرورين، بأبدان قد طهرت، ووجوه قد أشرقت وأنارت فهى كالبدر قد سطع من أعراضهم كشعاع الشمس. فلما جاوزتَ بابها وضعتَ قدميك على تربتها وهى مسك أذفر ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها، فذلك أول خطوة خطوتها في أرض البقاء بالأمن من (¬4) العذاب والموت. فأنت تتخطى في ترب المسك ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر من حسن أشجارها وزينة تصويرها. فبينا أنت تتخطى في عرصات الجنان، في رياض الزعفران وكثبان المسك، إذ نودي في أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك ¬

(¬1) فقد أخرج مسلم (4/2278) فقال: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها. فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوى فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً. ووالله لتملأن أفعجبتم!! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام..ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكاً فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا. (¬2) هكذا ساقه هنا في التوهم المطبوع، وذكره بلفظ ((انقضاضهم)) في الأصل لصحيح ابن حبان والتقاسيم 3/لوحة 462، وموارد الظمآن 2594 كما ذكر الأستاذ / شعيب في تحقيق صحيح ابن حبان، غير أنه أثبت في الأصل ((انقصافهم)) كما في المصادر التي خرج الحديث منها. والحديث أخرجه أحمد (2/307) بلفظ: ثنا هاشم والخزاعي يعني أبا سلمة قالا حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن مغيث الهذلي عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا رد إليك ربك في الشفاعة؟ فقال: " والذي نفس محمد بيده لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم، والذي نفس محمد بيده ما يهمني من انقصافهم على أبواب الجنة أهم عندي من تمام شفاعتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه ". وبلفظ ((انقصافهم)) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/141) ح233، وإسحاق بن راهويه (1/343) ح337، والحارث بن أبي أسامة كما في بغية الباحث (2/1012) ح1136. وأثبته الأستاذ شعيب في صحيح ابن حبان (14/384) ح6466، وأشار إلى أنه في الأصل: انقضاضهم. والقَصْف: الكسر والدفع الشديد لفرط الزحام. قال في النهاية: يعني استسعادهم بدخول الجنة وأن يتم لهم ذلك أهم عندي من أن أبلغ أنا منزلة الشافعين المشفعين؛ لأن قبول شفاعته كرامة له فوصولهم إلى مُبتغاهم آثر عنده من نيل هذه الكرامة لفرط شفقته على أمته. هذا وقد جاء الحديث من طريقين عن يزيد بن أبي حبيب: الأول: طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن معتب، وبعضهم قال: ابن مغيث. وقد أخرجه أحمد (2/307) ، وإسحاق بن راهويه ح337، والحارث كما في البغية ح1136، وأخرجه مختصراً البخاري في التاريخ الكبير (4/111) . وفيه سالم بن أبي سالم وقد وثقه ابن حبان، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة. وأخرج له مسلم وأبو داود والنسائي، وقال في التقريب: مقبول. وفيه معاوية بن معتب ويقال ابن مغيث، وقد وثقه العجلي وابن حبان، وذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحاً أو تعديلاً. والطريق الثاني: عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن معتب أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/384) ح6466. قلت: وهنا أُدخل أبو الخير بين يزيد بن أبي حبيب وسالم بن أبي سالم، وعمرو بن الحارث ثقة فقيه حافظ، كما في التقريب، ونعته الذهبي في الكاشف بقوله: حجة له غرائب. قال أبو داود سمعت أحمد يقول: ليس لهم ـ يعني أهل مصر ـ أصح حديثاً من الليث، وعمرو بن الحارث يقاربه. وقال الأثرم عن أحمد: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث لا عمرو بن الحارث ولا غيره، وقد كان عمرو عندي ثقة ثم رأيت له مناكير. وقال أحمد بن صالح: الليث إمام ولم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله. وهنا لا نستطيع أن نجزم بأن الأمر فيه مخالفة عمرو لليث، أو أن الأمر زيادة ثقة. فإن يزيد بن أبي حبيب ثقة فقيه من رجال الستة غير أنه يرسل. وجاء من طريق ثالث عن يزيد بن أبي حبيب مختصراً: وهو طريق عبد الحميد بن بهرام عن يزيد بن أبي حبيب عن معاوية بن مغيث أو معتب، وقد أخرجه أحمد (2/518) . وفيه عبد الحميد بن جعفر، وهو صدوق ربما وهم، كما في التقريب، وهنا لم يَذكرْ بين يزيد ومعاوية سالمَ بن أبي سالم. فلا أدري أهو من وهم عبد الحميد، أو من إرسال يزيد بن أبي حبيب فهو ثقة فقيه من رجال الستة غير أنه يرسل كما في التقريب. هذا ولجزء من الحديث شاهد بمعناه أخرجه البخاري ح99 فقال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه ". وهذا الحديث أخرجه البخاري ح 6570، وأحمد (2/373) ، والنسائي في الكبرى ح5842. (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [عفا] . (¬4) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.

وقهارمتك: إن فلان قد أقبل، فأجابوا واستبشروا لقدومك كما يبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه ـ كما قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه. فبينما أنت تنظر إلى قصورك إذ سمعت جلبتهم وتبشيشهم فاستطرت لذلك فرحاً، فبينما أنت [فرح مسرور] (¬1) بغبطتهم لقدومك لما سمعت أجلابهم فرحاً بك، إذ ابتدرتْ القهارمة إليك، وقامت الولدان صفوفاً لقدومك، فبينما أتت القهارمة مقبلة (¬2) إليك، إذ استخف أزواجك للعجلة فبعثت كل واحدة منهن بعض خدمها لينظر إليك مقبلاً ويسرع بالرجوع إليها بقدومك لتطمئن إليه فرحاً، وتسكن إلى ذلك سروراً، فنظر إليك الخدم قبل أن تلقاك قهارمتك، ثم بادر رسول كل واحدة منهن إليها، فلما أخبرها بقدومك قالت كل واحدة منهن لرسولها: أنت رأيته؟ من شدة فرحها بذلك، ثم أرسلت كل واحدة منهن رسولاً آخر، فلما جاءت البشارات بقدومك إليهن لم يتمالكن أنفسهن فرحاً، فأردن الخروج إليك مبادرات إلى لقائك لولا أن الله كتب القصر لهن في الخيام إلى قدومك، كما قال مليكك {حور مقصورات في الخيام} (¬3) ، فوضعن أيديهن على عضائد أبوابهن ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمتين (أ) ، وكانت في الأصل عنده [فرحاً مسروراً] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [مقلة] . (¬3) الرحمن /72.

وأذرعهن برؤوسهن (¬1) ينظرن متى تبدو (¬2) لهن صفحة وجهك فيسكن طول حنينهن وشدة شوقهن إليك وينظرن إلى قرير أعينهن ومعدن راحتهن وأنسهن إلى ولي ربهن وحبيب مولاهن. فبينا أنت ترفل في كثبان المسك ورياض الزعفران وقد رميت ببصرك إلى حسن بهجة قصورك، إذ استقبلك قهارمتك بنورهم وبهائهم، فاستقبلك أول قهرمان لك فأعظمت شأنه وظننت أنه من ملائكة ربك، فقال لك: يا ولي الله، إنما أنا قهرمانك وكلت بأمرك ولك سبعون ألف قهرمان سواي، ثم تتابعه القهارمة ببهائهم ونورهم كل يعظمك ويسلم عليك بالتعظيم لك. فتوهم قلبك في الجنان وقد قامت بين يديك قهارمتك معظمين لك، ثم الوصفاء والخدام فاستقبلوك كأنهم اللؤلو المكنون، فسلموا عليك، ثم أقبلوا بين يديك. فتوهم تبخترك في موكب من قهارمتك وخدامك يزفونك زفاً إلى قصورك وما أعد لك مولاك ومليكك. فلما أتيتَ باب قصرك فتحت الحجاب أبوابك، ورفعت لك الستور، وهم قيام على أقدامهم لك معظمين، فتوهم ما عاينت حين فتحت ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [بروسهن] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تبدوا] .

أبواب قصورك ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، وتلألؤ صحنه، ونور ساحاته. فبينا أنت تنظر إلى ذلك إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك: هذا فلان ابن فلان قد دخل باب قصره، فلما سمعن نداء البشراء بقدومك ودخولك توثبن من الفرش على الأسرة في الحجال، وعينك ناظرة إليهن في جوف الخيام والقباب، فنظرت إلى وثوبهن مستعجلات قد استخفهن الفرح والشوق إلى رؤيتك. فتوهم تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة (¬1) الخريدة الناعمة يتوثبن بالتهادي والتبختر. فتوهم كل واحدة منهن حين وثبت في حسن حللها وحليتها، بصباحة وجهها، وتثني بدنها بنعمته. فتوهم انحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عن سريرها إلى صحن قبتها وقرار خيمتها، فوثبن حتى أتين أبواب خيامهن وقبابهن، ثم أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر الذي ضرب عليهن إلى قدومك، فقمن آخذات بعضائد أبوابهن، ثم خرجن [برؤوسهن ووجوههن] (¬2) ينحدرن من أبواب قبابهن، متطلعات ينظرن إليك، مقبلات قد ملئن منك فرحاً وسروراً. ¬

(¬1) رَعَبَ الحوض يَرْعَبُه رَعْباً: ملأَه، ورعب السيل الوادي يَرْعَبُه: ملأَه. وسَنامٌ رَعِيبٌ: أَي ممتلئ سَمِينٌ. والرَّعِيب ُ: الذي يقْطُر دَسَماً. وجارية رُعْبوبة ورُعْبُوبٌ ورِعْبيب: قيل هي البيضاء الحسنة الرطبة الحلوة، وقيل: هي البيضاء فقط، وقال اللحياني: هي البيضاءُ الناعمة. وقال ابن الأَعرابي: الرُّعْبُوبة: الطويلة. وقيل ناقة رُعْبوبة ورُعْبوب: خفيفة. (¬2) هكذا صوب الكلمتين (أ) ، وكانت في الأصل عنده [بروسهن ووجوهن] .

فتوهم نفسك بسرور قلبك وفرحه، وقد رمقتهن ببصرك، ووقع ناظرك على حسن وجوههن وغنج أعينهن، فلما قابلت وجوههن حار طرفك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوت الذاهل من عظيم ما هاج في قلبك من سرور ما رأت عيناك، وسكنت إليه نفسك. فبينما أنت ترفل إليهن إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مبادرات قد استخفهن العشق، مسرعات يتثنين من نعيم الأبدان ويتهادين من كمال الأجسام، ثم نادتك كل واحدة منهن: يا حبيبي ما أبطاك علينا؟ فأجبتها بأن قلت: يا حبيبة ما زال الله عز وجل يوقفني على ذنب كذا وكذا حتى خشيت أن لا أصل إليكن، فمشين نحوك في السندس والحرير، يثرن المسك ويحركن نبت الزعفران بأذيال حللهن وخلاخيلهن استعجالاً إليك وشوقاً وعشقاً لك، فأول من [تقدمت منهن] (¬1) إليك مدت إليك بنانها ومعصمها وخاتمها، كما قال النبي عليه السلام (¬2) . فتوهم حسن بنان أنشئ من الزعفران والكافور، ونُعِمَ في الجنان الألف من الدهور، فتوهمه حين مدته إليك يتلألأ نوراً ويضئ إشراقاً، فلما وضعت بنانها في بنانك، وجدتَ مجسة ¬

(¬1) كذا صوب (أ) ، وكانت في الأصل عنده [تقدمتهن] . (¬2) لم أقف عليه، وانظر ما سيأتي من حديث أنس في ص68.

لينة بنعيمه، وكاد أن ينسل من يديك للينه، [وكاد] (¬1) عقلك أن يزول فرحاً بما وصل إلى قلبك من طيب مسيس بنانها، ثم مددتَ يدك إلى جسمها الرخيم الناعم، فضمتك إلى نحرها، فانثنيت عليها بكفك وساعدك حتى وضعته على قلائدها من حلقها، ثم ضممتها إليك. فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها، وكاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه. فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها ولذة معانقتها، ثم شممت طيب عوارضها فذهب قلبك من كل شيء سواها حتى غرق في السرور وامتلأ فرحاً لما وصل إلى روحك من طيب مسيسها ولذة روائح عوارضها. فبينا أنت كذلك، إذ تمايعن عليك فانكببن عليك يلثمنك ويعانقنك، فملأن وجهك بأفواههن ملتثمات، وملأن صدرك بنهودهن، فأحدقن بك بحسن وجوههن، وغطين بدنك وجللنه بذوائبهن، واستجمعت في مشامك أراييح طيب عوارضهن. فتوهم نفسك وهن عليك منكبات، بفيك ملتثمات متشممات، عليك متثنيات بنعيم أبدانهن، لهن استراحة عند ضمك إليهن لشدة العشق وطول الشوق إليك، متشبثات بجسمك، ومتنعمات بنسيم ¬

(¬1) كذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [كاد] .

أراييح عوارضك. فلما استمكنت خفة السرور من قلبك، وعمت لذة الفرح جميع بدنك، وموعد الله عز وجل في سرورك، فناديت بالحمد لله الذي صدقك الوعد وأنجز لك الموعد. ثم ذكرت طلبك إلى ربك إياهن بالدؤوب (¬1) والتشمير. فأين أنت في عاقبة ذلك العمل الذي استقبلته وأنت تلثمهن وتشم عوارضهن {لمثل هذا فليعملِ العاملون} (¬2) ، ثم أثنين عليك وأثنيت عليهن، ثم رفعن أصواتهن ليؤمنك بذلك من المعرفة لهن بحوادث الأزمان، وتنغيص عيشك بأخلاقهن، فنادين جميعاً بأصواتهن: نحن الراضيات فلا نسخط أبداً، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ونحن الخالدات فلا نبيد أبداً، ونحن الناعمات فلا نبؤس أبداً طوباك أنت لنا ونحن لك. ثم مضيت معهن، فيا حسن منظرك وأنت في موكبك من حورك وولدانك وخدامك، حتى انتهيت إلى بعض خيامك، فنظرت إلى خيمة من درة مجوفة مفصصة بالياقوت والزمرد، فنظرت إلى حسن أبوابها وبجهة ستورها، ثم رميت ببصرك إلى داخلها فنظرت إلى فرشها ونجدها وزرابيها وحسن تأسيس بنيانها (¬3) ، قد بنيت (¬4) طرائق على جنادل ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [بالدوب] . (¬2) الصافات /61. (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) كسابقه.

الدرَّ والياقوت، ثم نظرت إلى سريرك في ارتفاعه وعليه فرشه من الحرير والإستبراق بطائنهن قد علا ظواهرهن من النور المتكثف، وعلى أطرافهن من فوق الحرير والديباج، وحسن الرفرف الأخضر، وهي فصول المجالس. فلما تأملت تلك الفرش بحسنها وفوقها المرافق قد ثنتها، حار طرفك فيها. ثم نظرت إلى حجلتها من فوق سريرها قد أحدقت بالعرش من فوقها. فتوهم حسن الأبواب، وحسن الستور، وحسن (¬1) عرصة القبة بحسن فرشها، وحسن السرير وحسن قوائمه وارتفاعه، وحسن الفرش فوقه والمرافق فوق فرشه، والحجلة المضروبة من فوق ذلك كله، فتأملت (¬2) ذلك كله ببصرك، فلما دنوت من فرشك تطأمنت (¬3) سريرك فارتفعت الحوراء وارتقت عليه. فتوهم صعودها عليه بعظيم بدنها ونعيمه حتى استوت عليه جالسة، ثم ارتقيتَ على السرير فاستويت عليه معها فقابلتك وأنت مقابلها، فيا حسن منظرك إليها جالسة في حللها وحليها، بصباحة وجهها ونعيم جسمها. الأساور في معاصمها، والخواتم في أكفها، والخلاخيل ¬

(¬1) كسابقه. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فتمالت] . (¬3) يقال: اطمأن الشيء إذا سكن، وطأمنته وطمأنته إذا سكَّنته. والطمأنينة السكون.

في أسواقها، والحقاب (¬1) في حقوها (¬2) ، والوشاح قد تنظر نهديها وجال بخصرها، والقلائد في عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذلك على رأسها، والذوائب من تحت التاج قد حل من مناكبها وبلغ أردافها وأنعالها، ترى (¬3) وجهك في نحرها وهي تنظر إلى وجهها في نحرك، وقد أحدق الولدان بقبتك، وقد قام الرهط بين يديك ويديها، وقد تدلت (¬4) الأشجار بثمارها من جوانب حجلتك، واطردت الأنهار حول قصرك، واستعلى (¬5) الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل. وقد كمل حسنك وحسنها، وأنت لابس الحرير والسندس، وأساور الذهب واللؤلؤ على كل مفصل من مفاصلك، وتاج الدر والياقوت منتصب فوق رأسك، وأكاليل الدر مفصصة بالنور على جبينك. وقد أضاءت الجنة وجميع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك وأنت تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وخدمك وجميع أبنية مقاصيرك. وقد تدلت عليك ثمار أشجارك، واطردت أنهارك من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسل من فوقك، وأنت جالس ¬

(¬1) الحقاب: الحزام الذي يلي حقو البعير، والحقاب: شيء تعلق به المرأة الحلي وتشده على وسطها. (¬2) الحَقو وهو موضع شد الإزَار. (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [ترا] . (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تدللت] . (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [واستعلا] .

مع زوجاتك على أريكتك، وقد فتحت مصاريع أبوابك وأرخيت عليك حجال خيمك، وحفت الخدام والولدان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك، وقد اطلعوا على ضمير قلبك فسارعوا إلى كل ما حدثت به نفسك من أنواع كرامتك وسرورك وأمانيك، فأتوك بكل أمنيتك. وأنت وزوجك بأكمل الهيئة وأتم النعمة، وقد حار فيها طرفك تنظر إليها متعجباً من جمالها وكمالها، طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهى منادمة لك على أريكتك تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم في كأسات الدر وأكاويب قوارير الفضة. فتوهم الكأس من الياقوت والدر في بنانها، وقد قربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، فسطع نور بنانها في الشراب مع نور وجهها ونحرها ونور الجنان ونور وجهك وأنت مقابلها، واجتمع في الكأس الذي في بنانها نور الكأس ونور الشراب ونور وجهها ونور نحرها ونور ثغرها، فما ظنك بذوائب شاب أمرد، كامل الخلق، أنور الوجه، أبيض الجسم، أنضر الثياب، أصفر الحلي من ذهب الجنان يشوبه حمرة الياقوت وبياض الدر وحسن العقيان (¬1) . فيا لك من عروس ويا تلك عروس طفلة أنيسة عربوبة (¬2) كامل خلقها، ويا جمال وجهها، ويا بياض نهودها وتثني جسمها، يكسوها التأنيث، ويلينها ¬

(¬1) قال في المختار: العقيان الذهب الخالص قيل هو ما ينبت نباتاً وليس مما يحصل من الحجارة. (¬2) هكذا في النسخة المطبوعة من (التوهم) ، ولم أقف على المعنى وانظر معنى (رعبوبة) ص60.

النعيم، تنظر إليك بغنج الحور، وتكلمك بملاحة المنطق، وتداعبك بالدلائل، وتلاعبك بالعشق والطرب، بيدها كأس در لا ظل له، أو ياقوت لا شبه له من صفائه ورقة جسمه، قد جملته بحسن كفها وزمردها ونور خواتمها فيه. فتوهم حسن الكأس مع بياضه مع بياض الشراب مع بياض كفيها وحسنه. فتوهم كأس الدر والياقوت أو الفضة في صفاء ذلك في بنانها الكامل، وقد اقتربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، وسطع نور بنانها في الشراب مع نور وجهها ونحرها، وأنت مقابلها فضحكت أيضاً إليها، فاجتمع في الكأس الذي في بنانها نورك مع نورها مع نور الكأس ونور الشراب ونور وجهها ونور نحرها ونور ثغرها ونور الجنان. فتوهمه بهذه الأنوار في ضيائه، يلمع بصفائه في كفها، وقد مدت به إليك يدها بخواتمها، وأساورها في معاصمها، فناولتك الكأس بكفها، فيا حسن مناولتها ويا حسنها من يد، ثم تعاطتك كأسات الخمر في دار الأمن واللذات والسرور، فتناولته منها ثم وضعته على فيك ثم سلسلته في فيك، فسار سروره في قلبك وعمت لذته جوارحك، فوجدت منه طعماً أطيب طعماً وألذه فشربته، والولدان

قيام بين يديك. فتوهم ذلك وقد شربت الكأس من يدها، ثم ناولتها من يدك، فتناولته بحسن كفها وهى ضاحكة، فيا حسن مضحكها، فشربته من يدك، حتى إذا تعاطيتما الكأس ودار فيما بينكما، وشاع نور الشراب في وجنتيها، ورفعتما أصواتكما بالتحميد والتقديس لمولاكما وسيدكما، ورفعت الولدان والخدام أصواتهم تسبيحاً وتهليلاً مجاوبة لكما، فيا حسن تلك الأصوات بتلك النغمات في تلك القصور وتلك الخيمات. فبينما أنتما في لذاتكما وسروركما، وقد مضت الأحقاب من الدهور وما تشعران من اشتغال قلوبكما بنعيمكما، إذ هجمت الملائكة بالسلام عليك، وأتتك بالتحف والألطاف من عند ربك، حتى إذا انتهت رسل ربك إلي الحجبة الذين دونك والقهارمة الموكلين بك، فطلبوا إليهم الإذن عليك ليوصلوا ما أتوا به من عند مولاك إليك، فقالت عند ذلك حجبتك لملائكة ربك: إن ولي الله مشغول مع أزواجه وإنا لنكره الإذن عليه إعظاماً وإجلالاً له، وكذلك يقول الله ربك تبارك وتعالى {في شغل فاكهون} (¬1) وبذلك جاء التفسير. فأعظم به من شغل، وأعظم بك من ملِك تستأذن عليك رسل ربك. وكذلك ¬

(¬1) يس /55.

يقول الرافع قدر أوليائه في جواره تبارك وتعالى {وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} (¬1) فقيل في التفسير: إن ذلك استئذان الملائكة عليهم، فقيل له: رسل الله بالباب يا ولي الله لا تدخل عليك (¬2) إلا بإذن يا ولي الله، فقد نلت من الله الرضا وبلغت غاية الملك والمنى (¬3) . فتوهم الملائكة وهى قائلة حين أبت حجابك أن تستأذن لهم عليك: إنا رسل الله إليه بهدايا وتحف من عند ربه، فوثبتْ عند ذلك حجابك تستأذن لهم عليك. فتوهم أيدي الحجاب وقد مدوا بها إلى حلق الياقوت المفصص بالدر على صفائح الذهب الأحمر، فقرعوا حلق أبواب قصرك، فلما اصطك حلق الياقوت بأبواب قصرك من الدر والزمرد طنت الحلق على الأبواب بأحسن طنين تلذ به الأسماع وتسر (¬4) به قلوب المستمعين، فلما سمعتْ الأشجار طنينها تمايلت ثمارها على بعضها بعضاً فهبت بذلك أراييح طيبها ونسيمها، ثم (¬5) أشرقتَ من قبتك بجمال وجهك وإشراق نورك، فبادرتْ الحجبة إليك بالقول مسرعة وهى مع ذلك ¬

(¬1) الإنسان /20. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [عليه] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [والمنا] . (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وتشر] . (¬5) زاده (أ) وقال: ناقص من الأصل.

غاضة أبصارها تعظيماً لك، ولما رمق أبصارهم من إشراق نور وجهك: يا ولي الله، رسل الله إليك بالباب ومعهم التحف من عند ربك، فرجعت إليهم بالجواب: أن ائذنوا لرسل مولاي، ففتحت الحجبة عند إذنك لهم أبواب قصرك وأنت متكئ، فدخلوا على أريكتك والولدان قد صفوا بين يديك، فأقبلت الملائكة بحسن صورهم والهدايا تلمع وتسطع نوراً في أيديهم، فدخلوا عليك من أبواب متفرقة لينجز لك ربك ما وعدك من كل باب، سلام عليك، فبادروا بالسلام عليكم بحسن نغماتهم من كل أبوابك، ثم أتبعوا تسليمهم: يا ولي الله إن ربك يقول: عليك السلام، وقد أرسل إليك بهذه الهدايا والتحف. فتوهم سرور قلبك بتحف ربك ولطفه (¬1) إياك حتى إذا خرجوا من عندك أقبلت على نعمتك مع زوجتك قد حار فيها طرفك، واشتد بها سرورك. فبينا أنت معها في غاية السرور والحبور إذا أتى (¬2) النداء بأحسن نغمة وأحلى (¬3) كلام من بعض ما أعد الله من أزواجك: يا ولي الله أما لنا منك دولة؟ أما آن لك أن ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ولفطه] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [أتا] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وأحلا] .

تنظر إلينا؟ فلما امتلأت (¬1) مسامعك من حسن كلامها طار قلبك عشقاً لحسن نغمتها فأجببتها (¬2) : ومن أنت بارك الله فيك؟ فردت الجواب إليك: أنا من اللواتي قال الله عز وجل {فلا تعلم نفْس ما أخْفِيَ لَهم مِنْ قرةِ أعْين} (¬3) . فتوهم وثوبك من سريرك إلى صحن قبتك، ثم مشيت مع ولدانك وخدمك، ووفد (¬4) ولدانها وخدامها يستقبلونك، واستقبلوك ومشوا بين يديك حتى أتيت قبة من ياقوتة حمراء في قصر من در وياقوت، فلما دنوت من باب قصرها قامت قهارمتك وخدامك رافعي ستور قصرك، فدخلته ممتلئاً سروراً. فتوهم باب القصر وحسن الستر وحسن الحجاب والقهارمة والخدام، ثم دخلت قصرك الذي نادتك منه زوجتك، فلما دخلت من بابه وقع بصرك على حسن جدرانه من الزمرد الأخضر، وحسن رياضه، وبهجة بنائه، وإشراق عرصاته، ونظرت إلى قبتك التي فيها زوجتك يتلألأ نور القبة نوراً وضوءاً وإشراقاً بنور وجهك ونور وجه زوجتك، فلما نظرتْ إليك، نظرتْ من فرش الحرير والإستبرق والأرجوان، فنزلت عن سريرها مبادرة، قد استخفها شدة ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [امتلت] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فأجبتها] . (¬3) السجدة /17. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وقرن] .

الشوق إليك، وأزعجها العشق، فاستقبلتك بالترحيب والتبجيل، ثم عطفت عليك لمعانقتك. 29*- وكذلك روى أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الحوراء تستقبل ولي الله فتصافحه " (¬1) . فتوهم مجسة لين كفها بحسنها وخواتمها في كفك، وقد شخصتَ كالمبهوت تعجباً من حسن وجهها ونعيم جسمها وتلألؤ (¬2) النور من عوارضها، ثم وضعت كفها في كفك حتى أتيتما سريرك مضروبة عليه أريكتك، فارتقيتما جميعاً على أريكتك، وأسدلت عليك جلال حجلتك، وعانقت على فرشها زوجتك، فمضت بك الأزمنة الطويلة. ثم أقبلت الولدان (¬3) بالكاسات والأكواب، فاصطفت قبالتكما، ثم أدرتما الكأس فيما بينكما. فبينا أنتما قد ملئتما فرحاً وسروراً إذ نادتك أخرى من قصر من قصورك: يا ولي الله أما لنا منك دولة؟ أما آن لك أن تشتاق إلينا؟ فأجبتها: ومن أنت بارك الله فيك؟ فرجعت إليك القول: أنا من اللواتي قال الله جل عز {ولدينا مزيد} (¬4) ، فتحولت إليها، وأنت تنتقل فيما بين أزواجك في قصورك وخدامك وولدانك، في غاية النعيم وكمال السرور، وقد زحزحت عنك كل آفة، وأزيل عنك كل نقص، وطهرت من ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (8/362) ح8877 بلفظ: حدثنا مقدام ثنا أسد ثنا سعيد بن زربي حدثني ثابت بن البناني حدثني أنس بن مالك حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حدثني جبريل عليه السلام قال: يدخل الرجل على الحوراء فتستقبله بالمعانقة والمصافحة ". قال ثابت: قال أنس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فبأي بنان تعاطيه لو أن بعض بنانها بدا لغلب ضوؤه الشمس والقمر ولو أن طاقة من شعرها بدت لملأت ما بين المشرق والمغرب من طيب ريحها فبينا هو متكئ معها على أريكته إذ أشرف عليه نور من فوقه فيظن أن الله عز وجل قد أشرف على خلقه فإذا حوراء تناديه يا ولي الله أما لنا فيك من دولة فيقول: ومن أنت يا هذه؟ فتقول: أنا من اللواتي قال الله تبارك وتعالى {ولدينا مزيد} فيتحول إليها فإذا عندها من الجمال والكمال ما ليس مع الأولى فبينا هو متكئ معها على أريكته إذ أشرف عليه نور من فوقه وإذا حوراء أخرى تناديه: يا ولي الله أما لنا فيك من دولة فيقول. ومن أنت يا هذه؟ فتقول: أنا من اللواتي قال الله عز وجل {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} فلا يزال يتحول من زوجة إلى زوجة. وإسناده ضعيف جداً، ففيه مقدام، وهو مقدام بن داود الرعيني قال عنه النسائي: ليس بثقة. وقال ابن يونس وأبو حاتم: تكلموا فيه. وقال الذهبي في حديثٍ: والآفة منه. وسعيد بن زربي قال عنه يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث عنده عجائب من المناكير. وقال في التقريب: منكر الحديث. وضعفه أبو داود، وقال النسائي: ليس بثقة. هذا. وأسد وهو أسد بن موسى الملقب أسد السنة نعته في التقريب بقوله: صدوق يغرب. وقد أخرجه عن الطبراني في الأوسط الهيثمي في المجمع (10/418) ، والمنذري في الترغيب (4/297) . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وتلالى] . (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) ق / 35.

كل دنس، وأمنت فيها الفراق، لأن الله تعالى قد قصد قلبك فقال للهموم: زولي عنه فلا تخطري له أبداً، وقال للسرور: تمكن فيه فلا تزول منه أبداً، وقال للأسقام: زولي عن جسمه فلا تعرضي (¬1) له أبداً، وقال للصحة: أقيمي في بدنه فلا تبرحي أبداً، وذبح الموت وأنت تنظر إليه، فأمنت الموت فلا تخافه أبداً، ولا زوال ترتقبه، ولا سقم يعتريك أبداً، ولا موت يعرض لك أبداً، قد منحت جوار ربك، ترفل في أذيالك، لا تخاف سخطه أبداً بعد رضاه (¬2) عنك، فلا تخاف نقمه فيما تتقلب فيه من نعيمه، وأنت عالم بأن الله عز وجل محب لك مسرور بك وبما تتقلب فيه من سرورك، فأعظم بدار الله داراً، وأعظم بجوار الله جواراً (¬3) ، فالعرش قد أظلك بظله، والملائكة تختلف إليك بالألطاف من عند ربك في حياة لا يزيلها موت، ونعيم لا تخاف له فوتاً، آمناً من عذاب ربك، قد أيقنت برضاه (¬4) عنك، ووجدت برد عفوه في قلبك، مقيماً دائماً في الخلود مع الأمان (¬5) لنوائب الدهر وحوادث الأزمان لك (¬6) ولجميع أوليائه، متحدثاً بجمعهم تحت ظل طوبى (¬7) . فبينا أولياؤه وأنت فيهم تحت ظل طوبى يتحدثون، إذ أمر الله منادياً من ملائكته فنادى (¬8) أولياءه لينجز لأوليائه ما وعدهم من غاية ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تعرض] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [رضايه] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [جوار] . (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [برضايه] . (¬5) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬6) كسابقه.. (¬7) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [طوبا] . (¬8) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [فنادا] .

كرامته وعظيم مسرته، بأن يقربهم منه ويناجيهم بترحيبه ويريهم وجهه الكريم، ليبلغوا بذلك أشرف المنازل وغاية السرور ومنتهى الرغبة، فلم تشعر ألا ونداء الملك: أن يا أهل الجنة إن لكم عند الله لموعداً لم تروه، فيرجعون إليه القول استعظاماً لما أعطوا، فإنه لا عطية فوق ما أعطوا بعد ذلك، أدخلوا في جواره وأمنوا من عذابه، وأنت قائلها معهم: ألم ينضر وجوهنا؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم يزحزحنا عن النار؟ فناداهم أن الله يستزيركم فزوروه. فبينا هم كذلك وقد كادت قلوبهم أن تطير بأرواحهم في أبدانهم فرحاً وسروراً، إذا أقبلت الملائكة يقودون نجائب بخت خلقت من الياقوت، ثم نفخ فيها الروح، مزمومة بسلاسل من ذهب كأن وجوههم المصابيح نضارة وحسناً، لا تروث ولا تبول، ذوات أجنحة قد علاها خز من خز الجنة أحمر، ومرعز (¬1) من مرعزها أبيض مشرق في بياضه على ظهرها خطان حمرة في بياض على هيئة وتر النجائب في الدنيا، لم ينظر الخلائق إلى مثله وحسن لونه. فتوهم حسن تلك النجائب وحسن صورها، نجائب من ¬

(¬1) قال في المختار: المِرْعِزَّي بكسر الميم والعين وتشديد الزاء مقصور: الزغب الذي تحت شعر العنز، وكذا المِرْعِزَاءُ بكسر الميم والعين مخفف ممدود ويجوز فتح الميم، وقد تحذف الألف فيقال: مرعز.

ياقوت الجنة في حمرته وصفائه، وإشراق نوره وتلألؤه، حين يمشي في تحركه. فتوهمها بحسنها وحسن وجوه الملائكة وحسن أزمتها بسلاسل من ذهب الجنان، وهى تقودها وتقبل بها إلى أولياء الله وأنت فيهم، معتدلة في خببها بحسن سيرها، لأنها نجب خلقت على حسن السير من غير تعليم من العباد، فهى نجب من غير رياضة، ذلل بسلاسلها، منقادة من غير مهنة. فتوهم إقبال الملائكة بها إليهم، حتى إذا دنوا من أوليائه أناخوها، فتوهم بروكها في حسنها وهيئة خلقها، وقلبك عارف أنك ستركب بعضها إلى ربك منطلقاً في الزائرين (¬1) له. فلما أناخوها فبركت على كثبان المسك من رياض الزعفران تحت طوبى ومستراح العابدين، أقبلت الملائكة على أولياء الله فقالوا بحسن نغماتهم: يا أولياء الرحمن، إن الله ربكم يقرئكم السلام ويستزيركم فزوروه، لينظر إليكم وتنظروا إليه ويكلمكم وتكلموه، ويحييكم وتحيوه، ويزيدكم من فضله ورحمته، إنه ذو رحمة واسعة وفضل عظيم. فلما سمعها أولياء الله، وسمعتها معهم وثبوا مسارعين إلى ركوبها، حباً وشوقاً إلى ربهم. فتوهم سرعة توثبهم، وأنت معهم، بحسن ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [الزارين] .

وجوههم ونورها وإشراقها، سروراً بقرب ربهم ورؤية حبيبهم. فتوهم هيبتهم حين رفعوا أيمان أرجلهم إلى ركب الياقوت والزمرد والدر. فتوهم حسن أقدامهم ونعيمها، إنها (¬1) أقدام غيرت عن خلقها فأكسيت في الحسن بخلاف ما كانت عليه في دار الدنيا، ثم أكنها الله في جنته من كل آفة فغير خلقتها متخضبة، لها أحقاب الدهور في كثبان المسك ورياض الزعفران. فتوهم حسن نورها وقد رفعها أولياء الله ركب الياقوت والدر، فتوهمها بحسنها في أحسن ركب نجائب الجنان، ثم ثنوا من غير عنف ولا مشقة حتى استووا على رحائل من الدر والياقوت مفضضة بالعبقري والأرجوان، فيا حسن بياض الدر في حمرة الأرجوان. فلما استووا عليها، واستويت على نجيبك معهم، أثاروا نجائبهم فثارت، فثار عجاج المسك لوثوبها علا (¬2) ذلك ثيابهم وجمامهم، ثم استوت النجائب صفاً واحداً معتدلاً فصاروا موكباً معتدلاً لا عوج فيه، ولا يتقدم بعضها بعضاً، فأعظم به من موكب، وأعظم به من ركبان. فتوهم امتداد صفهم في اعتداله واصطفاف وجوههم معتدلة في اصطفافها، وعلى جباههم ¬

(¬1) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [على] .

الأكاليل، من فوق رؤوسهم (¬1) تيجان من الدر والياقوت. فما ظنك باجتماع وجوه أهل الجنان كلها، عليهم الأكاليل والتيجان مصطفة متحاذية؟ فما ظنك بأكثر من ألف ألف ألف، وما تقدر القلوب على إحصاء عدده من تيحان الدر والياقوت مطنطنة على وجوههم نضرة ضاحكة فرحة مستبشرة. فلو توهمت هذا الموكب بنجائبه واعتدال ركبانه واصطفاف تيجانه على وجوه أولياء الله المشرقة الناعمة من تحته، ثم رهقت نفسك اشتياقاً لكنت لذلك حقيقاً، ولكنت به حرياً إن عقلت ذلك شوقاً من قلبك إيقاناً بإنجاز ما وعد به ربك أولياءه. فلما اعتدل الصف واصطفت التيجان تبادروا بينهم: سيروا إلى ربنا. فتوهم النجائب حين أخذت في السير بأخفاف من الياقوت سيراً واحداً بخط (¬2) واحد لا يتقدم بعضها بعضاً، تهتز أجسام أولياء الله عليها من نعيمها، وأكتافهم متحاذية في سيرهم، وأخفاف رواحلهم وركبها متحاذية في خببها، فانطلقوا كذلك تثير رواحلهم المسك بأخفافها، وتهتز رياض الزعفران بأرجلها، فلما دنوا من أشجار ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [بخطا] .

الجنة رمت الأشجار إليهم من ثمارها فصارت الثمار، وهم يسيرون، في أيديهم، فيا حسن تلك الثمار في أكفهم، وتزحزحت وتنحت الأشجار عن طريقهم لما ألهمها مولاها أن لا يتثلم صفهم فيتعرج بعد استوائه، ويختلف بعد اعتداله، ويفرق بين ولي الله ورفيقه، لأنهم رفقاء في الجنان لتحابهم في الدنيا في ربهم، فالرفقاء مشهورون، كل رفيقين قد شهرا بالمرافقة، وجعل زيهما ولباسهما لوناً واحداً، ولون رواحلهما (¬1) لوناً واحداً. فتوهم نفسك إذ منَّ عليك ربك، وأنت لاصق برفيقك، منكبك بمنكبه، وقد دنوتما من أشجار الجنة فنفضت ثمرها فوقعت الثمار في أيديكما (¬2) وأيدي أولياء الرحمن، ثم تنحت بأصولها عن طريقهم، فهم يسيرون فرحين، وقد شخصت قلوبهم بالتعلق إلى نظر حبيبهم، فهم يسيرون بالسرور ويلتفت بعضهم إلى بعض يتحادثون، ويضحك بعضهم إلى بعض، يتداعبون في سيرهم، يحمدون ربهم على ما صدقهم، وعلى ما أباح لهم من جواره. فبينا هم في سيرهم إذ دنوا من عرش ربهم، وعاينوا أحسن حجبه ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [رواحلهم] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [أيديكم] .

ونوره، واستحثوا السير شوقاً وحباً وفرحاً به. فتوهم نجائبهم تطير في سيرها باعتدال موكبهم وإشراق وجوههم، والملائكة قد أحدقت بالنجائب تزفهم زفاً إلى ربهم، حتى انتهوا إلى صفحة عرش مولاهم، فتوهم سعة تلك الصفحة وحسن نورها ببهجتها وزهرتها، وقد وضعت الزرابي والنمارق على كثبان المسك، وعرف كل فتى (¬1) منهم ما أُعد له، والكراسي لأهل صفوته من عباده، وأحبائه من خلقه، لما دنوا إلى ما أعد لهم من المنابر والكراسي والزرابي والنمارق، فثنى رجله الحسنة من الركاب إلى منبر أو كرسي أو [زربية] (¬2) . فتوهم تثنيهم أرجلهم إلى كراسيهم، حتى استووا عليها، فتوهم نعيم تلك الأفخاذ والأوراك المرتفعة على الكراسي بالدر والياقوت، فأعظم به من مقعد وأعظم بولي الله متربعاً. فلما أخذ القوم مجالسهم، واطمأنوا في مقعدهم، والحجب تسطع نورها، فيا لذه أعينهم وقد أصغوا بمسامعهم منتظرين لاستماع الكلام من حبيبهم. فتوهم في مقعدهم الصدق الذي وعدهم مولاهم ومليكهم في القرب منه على قدر (¬3) منازلهم، فهم في القرب منه على قدر (¬4) مراتبهم، فالمحبون له أقربهم إليه قرباً ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [فتا] . (¬2) هكذا الصواب، فالزّربيَّة الطِّنفسة وقيل البساط ذو الخمل وتُكسر زايها وتفتح وتضم وجمعها زرابي، أما في النسخة المطبوعة من (التوهم) فقال: الزريبة. وأظنه خطأ مطبعياً. (¬3) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬4) كسابقه.

إذ كانوا له في الدنيا أشد حباً، وأقرب إلى عرشه منهم القائمون بحجته عند خلقه، ثم الأنبياء عليهم السلام، ثم الصديقون على قدر ذلك في القرب من العزيز الرحيم، فأعظم به من مزور، وجلَّ وتكبَّر من مزور. فتوهم مجلسهم بحسن كرامتهم وجمال وجوههم (¬1) وإشراقها، لما رهقها نور عرشه عز وجل وإشراق حجبه (¬2) فلو صح لك عقلك ثم توهمت مجلسهم وإشراق كراسيهم ومنابرهم وما ينتظرون من رؤية ربهم، ثم طار روحك شوقاً إليه، لكنت بذلك حقيقاً. فما أعظم ذلك عند عاقل عن الله، مشتاق إلى ربه ورؤيته. فتوهم ذلك بعقل فارغ لعل نفسك أن تسخى (¬3) بقطع كل قاطع يقطعك عنه، وترك كل سبب يشغلك عن التقرب فيه إلى ربك. فلما استوى بهم المجلس واطمأن بهم المقعد، وضعت لهم الموائد ليكرم الله عز وجل زواره بالإطعام والتفكيه لهم، ووضعت الموائد لزوار الله عز وجل وأحبائه من خلقه، قامت الملائكة [على] (¬4) رؤوسهم (¬5) معظمين لزوار الرحمن، فوضعت الصحاف من الذهب فيها الأطعمة وطرائف ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وجوهم] . (¬2) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [تسخا] . (¬4) في المطبوع: [عل] . (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] .

الفاكهة مما لم يحسنوا أن يتمنوا، فقدموا أيديهم مسرورين بإكرام ربهم لهم، لأن حقاً على كل مزور أن يكرم زائره، فكيف بالمزور الكريم الواحد الجواد الماجد العظيم؟ . فتوهم وهم يأكلون فرحين مستبشرين بإكرام مولاهم لهم، حتى إذا فرغوا من أكلهم قال الجليل لملائكته: اسقوهم. فأتتهم الملائكة، لا الخدام والولدان، بأكواب الدر وكؤوس (¬1) الياقوت، فيها الخمر والعسل والماء والألبان. فتوهم تلك الكأسات وتلك الأكواب بأيدي ملائكة الرحمن، فناولوها أولياء الله فشربوها، فبان أثر حسن الشراب في وجوه الزوار. فلما سقتهم الملائكة ما أمرهم الله به من الأشربة، قال الجليل: اكسوا أوليائي. فتوهم الملائكة، وقد جاءت بالحلل التي لم يلبسوا في الجنة مثلها، ثم قاموا على رؤوسهم (¬2) فألبسوها أهل كرامة الله ورضوانه. فتوهم وقد صيروها (¬3) من فوق رؤوسهم حتى صارت على أقدامهم، فأشرقت بحسنها وجوههم. ثم أمر الجليل تبارك وتعالى أن طيبوهم، فارتفعت السحاب بحسنها وشدة ضيائها ونورها لحمل ألوان الطيب من المسك وجميع طيب الجنان، ما لم يجدوا مثل رائحته. فتوهمها ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وكوس] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [سيرها] .

تمطر عليهم، والطيب يتساقط عليهم مطراً حتى علا جباههم وثيابهم. فلما أكلوا وشربوا، وخلعت الملائكة الخلع [وطيب] (¬1) مطر السحاب، شخصت أبصارهم وتعلقت قلوبهم، ثم رفع الحجب. فبينا هم في ذلك إذ رفعت الحجب، فبدا لهم ربهم بكماله، فلما نظروا إليه وإلى ما لم يحسنوا أن يتوهموه ولا يحسنون ذلك أبداً لأنه القديم الذي لا يشبهه شيء من خلقه، فلما نظروا إليه ناداهم حبيبهم بالترحيب منهم وقال لهم: مرحباً بعبادي، فلما سمعوا كلام الله بجلاله وحسنه غلب على قلوبهم من الفرح والسرور ما لم يجدوا مثله في الدنيا ولا في الجنة، لأنهم يسمعون (¬2) كلام من لا يشبه شيئاً من الأشياء. فتوهمهم وقد أطرقوا وأصغوا بمسامعهم لاستماع كلامه، وقد علا وجوههم نور السرور لكلام حبيبهم وقرير أعينهم. فلو توهمت نفسك وقد سمعت قول الله لأوليائه مرحباً بهم، ثم طار روحك فرحاً به وحباً له لكان ذلك منه حقيراً وصغيراً عندما توهمته من نفسك عند استماع كلامه. فحياهم بالسلام فردوا عليه: أنت السلام ومنك السلام ولك حق الجلال والإكرام. فمرحباً بعبادي وزواري وخيرتي من خلقي، الذين ¬

(¬1) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [طيب] . (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يسمعوا] .

رعوا عهدي، وحفظوا وصيتي، وخافوني في الغيب، وقاموا مني على كل حال مشفقين، وقد رأيت الجهد منهم في أبدانهم (¬1) أثرة لرضاي عنهم قد رأيت ما صنع بكم أهل زمانكم، فلم يمنعكم جفاء الناس عن حقي، تمنوا عليَّ ما شئتم. فلو رأيتهم وقد سمعوا ذلك من حبيبهم يذكرهم ما كانوا عليه في دنياهم من رعاية عهده وحفظه ودوام خوفهم منه، وقد استطاروا فرحاً لما شكر لهم رعايتهم حقه، وحفظ منهم خوفهم، ورحب بهم محبة لهم، إذ كانوا بذلك إياه في الدنيا يعبدونه، استطارت قلوبهم فرحاً وسروراً إذ لم يفرطوا في طاعته، ولم يقصروا في مخافته، فاغتبطوا لما كانوا به لله في الدنيا يدينون من شدة خوفهم ورعاية حقه وحفظه، فردوا إليه (¬2) الجواب مع سرور قلوبهم بالقسم لعظمته وجلاله، أنهم قد قصروا عما كان يحق له عليهم إعظماماً له واستكثاراً، إذ أثابهم جنته وأكرمهم بزيارته وقربه واستماع كلامه، فقالوا عند ذلك: وعزتك وجلالك (¬3) وعظمتك وارتفاع مكانك ما قدرناك حق قدرك، ولا أدَّينا إليك كل حقك، فائذن لنا بالسجود، فقال لهم ربهم: إني قد وضعت عنكم مؤونة العبادة وأرحت لكم أبدانكم، ¬

(¬1) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬2) كسابقه. (¬3) كسابقه.

فطالما أتعبتم الأبدان وأخضعتم لي الوجوه، فالآن أفضتم إلى كرامتي ورحمتي، فتمنوا عليَّ ما شئتم. وفي بعض الحديث أنهم إذا نظروا إليه خروا (¬1) ، فيناديهم بكلامه تبارك (¬2) وتعالى: ارفعوا رؤوسكم (¬3) ، ليس هذا حين عمل، هذا حين سرور ونظر. فتوهم بعقلك نور وجوههم وما يداخلهم من السرور والفرح، حين عاينوا مليكهم، وسمعوا كلام حبيبهم، وأنيس قلوبهم، وقرة أعينهم، ورضا أفئدتهم، وسكن أنفسهم، فرفعوا رؤوسهم (¬4) من سجودهم، فنظروا إلى من لا يشبهه شيء بأبصارهم، فبلغوا بذلك غاية الكرامة ومنتهى (¬5) الرضا والرفعة. فما ظنك بنظرهم إلى العزيز الجليل، الذي لا يقع عليه الأوهام، ولا يحيط به الأذهان، ولا تكفيه الفكر، ولا تحده الفطن، الذي لا تأويه الأرحام، ولم تنقله الأصلاب، ولا يبدو (¬6) فيكون مطبوعاً منتقلاً، الأزلي القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، فكلت الألسنة عن تمثيله بصفاته، فهو المنفرد بذاته عن شبه الذوات، المتعالي بجلاله على مساواة المخلوقين، فسبحانه لا شيء يعادله، ولا شريك يشاركه، ولا شيء يريده فيستصعب عليه أو يعجزه إنشاؤه، استسلم ¬

(¬1) أخرجه العقيلي (1/292) من طريق حمزة بن واصل المنقري عن قتادة عن أنس، وفيه: فينادى رب العزة رضوان وهو خازن الجنة فيقول يا رضوان ارفع الحجب بيني وبين عبادي فإذا رفع الحجب بيني وبينهم فرأوا بهاءه ونوره هبوا سجودا فيناديهم بصوته أن ارفعوا رؤوسكم فإنما كانت العبادة لي في الدنيا وأنتم اليوم في دار الجزاء والخلود سلونى ما شئتم فأنا ربكم الذي صدقتكم وعدى وأتممت عليكم نعمتى فهذا محل كرامتى فسلونى.... . في حديث طويل وحمزة بن واصل مجهول في الرواية وحديثه غير محفوظ، قاله العقيلي في الضعفاء. وقال ابن حجر في لسان الميزان: لا يعرف ولا هو بعمدة. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [تباك] . (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسكم] . (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [روسهم] . (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [ومنتها] . (¬6) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [يبدوا] .

لعظمته الجبارون، وذل لقضائه الأولون والآخرون، نفذ في الأشياء علمه بما كان وبما لا يكون، (وبما لو كان كيف كان يكون (¬1) ، فأحاط بالأشياء علماً، وسمع أصواتها سمعاً، وأدرك أشخاصها [.......] (¬2) ونفذ فيها إرادته، وأمضى (¬3) فيها مشيئته، فهي مدبرة [.....] (¬4) . وقربها اختراعاً فكانت عن إرادته، لم يتقدم منها شيء قبل وقته الذي أراد فيه كونه، [ولَمْ] (¬5) يتأخر فيه عن نهيه، وكيف يستصعب عليه من لم يكن شيئاً مذكوراً حتى كونه سبحانه الواحد القهار. فلما سَرَّ أولياء الله برؤيته وأكرمهم بقربه، ونعَّم قلوبهم بمناجاته واستماع كلامه، أذن لهم بالانصراف إلى ما أعد لهم من كرامته ونعيمهم ولذاتهم، فانصرفوا على خيل الدر والياقوت، على الأسرة فوقها الحجال، ترف وتطير في رياض الجنان. فما ظنك بوجوه نظرت إلى الله عز وجل وسمعت كلامه كيف ضاعف حسنها وجمالها؟ وزاد ذلك في أشراقها ونورها، فلم تزل في مسيرها حتى أشرفت على قصورها. فلما بدت لخدامها وقهارمتها وولدانها بادر كل واحد منهم خدامه وقهارمته وولدانه ¬

(¬1) هذا التعبير فيه خطأ على الله، فقائله يقصد به علو عظمة الله وقدرته، غير أن الصواب، أنه أبدع ما كان على أعظم مثال، فليس أعظم مما أبدع حتى يكون ((وبما لو كان كيف كان يكون)) ، والله أعلم. وضبط أي شيءٍ يتعلق بصفات الله أو أسمائه أو أي كلام عن الله لابد أن يكون بنص حتى لا تكون فتنة، فقائل يقول والآخر يعترض. والبادئ هو المطالب بالدليل. والله تعالى أعلم. (¬2) قال (أ) : بياض في الأصل. ولعلها (إدراكاً) اتساقاً مع العبارة قبلها. (أ. هـ) (¬3) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وامضا] . (¬4) قال (أ) : بياض في الأصل. ولعلها (تدبيراً) اتساقاً مع العبارة قبلها. (أ. هـ) (¬5) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [لم] .

مستقبلة من أبواب قصوره حتى أحدقوا به يزفونه إلى قصوره وخيامه، فلما دنا من باب قصره (¬1) وخيامه قامت الحجاب رافعي ستور أبواب قصره معظمين مجلين له، وبادرت إليه أزواجه، فلما نظرت زوجته إلى جمال وجهه قد ضوعف في حسنه وإشراقه ونوره، ازدادت له حباً وعشقاً، وأشرقت قصوره وقبابه وخيامه وأزواجه من نور وجهه وجماله، وازدادت أزواجه حسناً وجمالاً ووجاهة وحشمة، ثم نزلوا عن خيولهم إلى صحون قصورهم، ثم اطمأنوا على فرشهم وعادوا إلى نعيمهم. واشتاقوا إلى منادمة إخوانهم، فركبوا النجائب والخيل عليها يتزاورون، حتى التقوا على أنهار الجنة (¬2) ففرشت لهم نمارق الجنان (¬3) وزاربيها على كثبان المسك والكافور، وتقابل الإخوان على السرور والشراب، فقامت الولدان بالكأسات والأباريق والأكواب يغترفون من أنهار الجنة، أنهارهم الخمر والسلسبيل والتسنيم. فلما أخذت الولدان الكأسات واغترفوا ليسقوا أولياء الرحمن، لم يشعروا إلا بنداء الله عز وجل: يا أوليائي طالما رأيتكم في الدنيا وقد ذبلت شفاهكم، ويبست حلوقكم من العطش، فتعاطوا اليوم الكأس فيما ¬

(¬1) قال (أ) : في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش. (¬2) كسابقه. (¬3) كسابقه.

تم كتاب (التوهم) بحمد الله

بينكم، وعودوا في نعيمكم، فكلوا واشربوا هنيئاً مريئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية. فلا يقدر الخلائق أن (¬1) يصفوا سرور قلوبهم حين سمعوا كلام مولاهم يذكر أعمالهم شكراً منه لهم، وغبطة منه لهم، لما ناداهم إلى (¬2) معاطاة الكأس للمنادمة بينهم بعد معرفتهم في الدنيا [.....] (¬3) منادمة أهل الدنيا على خمورهم. فلو رأيت وجوههم (¬4) وقد أشرقت بسرور كلام مولاهم واغتباطه لما ذكرهم أعمالهم الصالحة من صيامهم، وتركهم منادمة أهل الدنيا لمرضاته، وما عوضهم من المنادمة في جواره، وما أيقنوا به من سرورهم بمنادمتهم على الخمر والعسل والألبان، فأعظم به من مجلس، وأعظم به من جمع، وأعظم به من منادمين في جوار الرحمن الرحيم. فكن إلى ربك مشتاقاً وإليه متحبباً، ولما حال بينك وبينه قاطعاً وعنه معرضاً، وابتهل في الطلب إلى الله بفضله وإحسانه أن لا يقطع بك عنهم. وبالله التوفيق وإليه المصير، والجنة مثوى المؤمنين، وثواب المتقين، وسرور المحزونين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تم كتاب (التوهم) بحمد الله. وصلى الله على محمد النبي وعلى آله أجمعين اللهم وفق لمن كتبه و........ (¬5) ¬

(¬1) زاده (أ) وقال: ناقص في الأصل. (¬2) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في الأصل عنده [من] . (¬3) قال (أ) : بياض في الأصل. (¬4) هكذا صوب الكلمة (أ) ، وكانت في أصله [وجوهم] . (¬5) هكذا في النسخة المطبوعة من (التوهم) . تم التحقيق والحمد لله رب العالمين.

§1/1